الفصل الثالث
ترجمة أحمد بن طولون
(١) مولِد أحمد بن طولون١ سنة ٢٢٠ هجرية/٨٣٥ ميلادية
وُلد أحمد بن طولون بسامَرَّا من بلاد العراق في الثالث والعشرين
من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، في وقت بدأتْ فيه العواصف
السياسية تثور، وسلطة الخلفاء العباسيين تتدلَّى بتغلُّب الأتراك
من أتباعهم.
ونشأ أحمد في حِضْن والدَيْه حتى العشرين من سِنِّه، وكانتْ
مخايل النَّجابة ظاهرةً عليه من صِغَره، فأخَذَ بحظٍّ عظيمٍ من
العلم، وحَفِظ القرآن الكريم، وصار مِن أحفَظِ الناس له، ولازَمَ
مجالس المحدِّثين، وترفَّع عن مُجالَسة السُّوقة
ومُخالَطتهم.
(٢) وفاة طولون وزواج أحمد وخروجه إلى
طَرَسُوس سنة ٢٤٠ هجرية/٨٥٤
ميلادية
وبعد موت أبيه
٢ كَفَلَه رُفَقاؤه، فانصرفَ لخِدْمة السلطان، وحَسُن
ذِكْره وعُرِف بعُلُوِّ الهِمَّة وحُسْن الأدب فزوَّجَه يارجوخ
٣ التركي من أكابر رجال الدولة العباسية ابنَتَه، وولدت
له العبَّاس وفاطمة.
وخرج إلى طَرَسُوس
٤ وفي عَوْدَته منها سَطَا الأعراب على قافِلتِه فرَمَى
بنفسِه عليهم ووَضَع السيفَ فيهم حتَّى انهزمَ الأعرابُ واستَنْقَذ
منهم جميعَ ما أخذوه، وكان فيه بغلٌ محمَّلٌ بمتاعٍ خاصٍّ بالخليفة
المستعين، فلمَّا اتصل به خبرُ ذلك عَظُم أحمدُ في عَيْنَيْه،
وتوالتْ عليه جوائِزُه حتى حسُنَتْ حالُه، وكان فيما وصَلَه به
جاريةٌ اسمها مياس استَوْلَدَها أبا الجيش خُمارَوَيْه.
(٣) انتداب أحمد بن طولون لمُرافَقة المستعين بعد
خلْعِه سنة ٢٥٢-٢٥٣ﻫ /٨٦٦
ميلادية
ولمَّا بُويِعَ المعتزُّ ونُفِيَ المستعين إلى واسط اختار
الأتراك أحمد بن طولون ليكون معَه، فمضى به إلى واسط فأحسَنَ
عشرتَه وشكَرَ حُسْنَ بلائِه عندَه، وأطلَقَ له التنَزُّه والصيد
وعامَلَه بالإكرام، وخاف غِلْمان المتوكِّل من المستعين فطُلِب من
أحمد بن طولون قَتْله فامْتَنَع وكتب إلى الأتراك أنَّه لا يقتل
خليفةً له في رقبته بيعةٌ، فأَنْفَذوا سعيدًا الحاجب فتسلَّم
المستعينَ منه بحضور القاضي والشهود وقَتَلَه وأخذَ رأسَه، فوَارَى
ابن طولون جُثَّتَه وعاد إلى سامَرَّا
٥ وكان يقول: لقد وَعَدَني الأتراك إنْ قَتَلْتُ
المستعينَ أنْ يُوَلُّوني واسطًا، فخِفْتُ اللهَ ولم أفعلْ
فعوَّضَنِي ولايةَ مصر والشام وسَعةَ الأحوال.
(٤) ولاية أحمد بن طولون على مصر سنة ٢٥٤ هجرية/٨٦٨ ميلادية
ولمَّا تقلَّد باكباك
٦ مصر، وكان مِن عادة مَن يتولَّى من الأتراك على
الأطراف أنْ يُقِيم في الحضرة ويستخلف عنه غيره، ذُكر له أحمد بن
طولون فاستَخْلَفَه على مصر وضمَّ إليه جيشًا فدَخَلَها ومعه أحمد
بن محمد الواسطي في يوم الأربعاء لتسع
٧ ليالٍ بَقِينَ من شهر رمضان سنة أربعٍ وخمسين ومائتين
متقلِّدًا للقصبة وأسيوط وأسوان، ونزل بدار الإمارة من
العسكر.
حالُه عندَ دُخُول مصر: وكان في أضْيَق حالٍ، يحتَقِره كلُّ مَن
يراه. قيل كان بمصرَ رجلٌ من الأعيان يُقال له علي بن معبد
البغدادي، وكان في سَعةٍ من المال، فلمَّا بلَغَه حضور الأمير أحمد
خرج إلى تلَقِّيه، فلمَّا رآه في ضِيق حال أرسلَ إليه عشرةَ آلاف
دينار فقَبِلَها ورأى بها موقعًا، وحَظِي ذلك الرجل عندَه فكان لا
يتصرَّف في شيءٍ من الأمور إلَّا برَأْي ذلك الرجل، وتضاعَفَتْ
عندَه منزلتُه إلى الغاية.
٨
(٥) حكايته مع ابن المُدَبَّر
وكان على الخراج أحمد بن محمد بن المُدَبَّر، وهو من دُهاة الناس
وشياطين الكُتَّاب، وكان جبَّارًا قاسيًا في معاملة المسيحيين
مبغوضًا منهم ومن المسلمين.
فلمَّا وصلَ أحمد بن طولون أهدى إليه ابن المُدَبَّر هدايا
قيمتها عشرة آلاف دينار بعدما خرج إلى لقائه هو وشقير الخادم غلام
قبيحة أم المعتز وهو يتقلَّد البريد، فرأى ابن طولون بين يدي ابن
المُدَبَّر مائة غلام من الغور قد انتَخَبَهم وصيَّرَهم عُدَّةً
وجَمالًا، وكان لهم خَلْقٌ حسنٌ وطولُ أجسامٍ وبأسٌ شديدٌ، وعليهم
أَقْبِية ومناطِق ثقالٌ عِراضٌ، وبأيديهم مقارعُ غِلاظٌ، على طرف
كل مقرعة مقمعة من فضة، وكانوا يَقِفون بين يدَيْه في حافَتَيْ
مجلِسِه إذا جلس، فإذا ركب ركبوا بين يديه فيصير له بهم هيبةٌ
عظيمةٌ في صدور الناس، فلمَّا بعث ابن المُدَبَّر بهديَّتِه إلى
ابن طولون ردَّها عليه، فقال ابن المُدَبَّر: إنَّ هذه لهِمَّة
عظيمة، مَن كانتْ هذه هِمَّته لا يُؤمَن على طرف من الأطراف،
فخافَه وكَرِه مقامَه بمصر معه، وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد،
واتَّفقا على مُكاتَبة الخليفة بإزالة ابن طولون، فلم يكن غير أيام
حتى بعث ابن طولون إلى ابن المُدَبَّر يقول له: قد كنتَ — أعزَّك
الله — أهديتَ لنا هديةً وقَعَ الغِنَى عنها فردَدْتُها توفيرًا
عليك، ونُحِبُّ أنْ تَجعَل العِوَضَ منها الغِلْمان الذين رأيتُهم
بين يدَيْك، فأنا إليهم أحوج منك، فقال ابن المُدَبَّر لمَّا
بلغَتْه الرسالة: هذه أخرى أعظم ممَّا تقدَّم قد ظهرتْ من هذا
الرجل، ولم يَجِدْ بُدًّا مِن أنْ يَبْعَثَهم إليه فتحوَّلَتْ
هَيْبة ابن المُدَبَّر إلى ابن طولون، ونقَصَتْ مهابة ابن
المُدَبَّر («خطط المقريزي» أول، ص٣١٤).
ولم يلبثْ أحمد بن طولون أنْ عظُم أمرُه وأصبحتْ سلطته تُعادِل
سلطة الحاكم مع أنَّه لم يكن — إلى ذلك الوقت — إلَّا نائبَه، فصار
الكلُّ يخشَوْنه، وخضَعَ لسطْوَتِه مَن كان يظن أنَّه يقْوَى على
معارضته من حُكَّام الأقاليم.
(٦) خروج بغا الأصغر سنة ٢٥٥ هجرية/٨٦٨ ميلادية
ولمَّا كان جُمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين خرج بغا الأصغر
أو الأصفر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا فيما بين
الإسكندرية وبُرْقة بموضِعٍ يُقال له: الكنائس، وسار في جمعٍ معه
إلى الصعيد فلَقِيه بهم بن الحسين فحارَبَه فقَتَل بغا وأتَى
برأسِه إلى الفسطاط.
(٧) انهزام ابن الصوفي والقبض عليه سنة ٢٥٦–٢٥٩
هجرية/٨٦٩–٨٧٣ ميلادية
وكان ابن الصوفي العَلَوي خارجًا بصعيد مصر من سنة ثلاثٍ وخمسين
ومائتين، ودخل إسنا، فبعث إليه أحمد بن طولون ببهم وقد عَقَد له
على جيش فهَزَمه، وبعد وقائع أخرى اضطرب أمرُ ابن الصوفي فمضى إلى
عيذاب فمكة، ثم أُرسِل منها بعد ذلك إلى ابن طولون فسَجَنَه ثم
أطْلَقَه فخرج إلى المدينة فمات.
(٨) خروج أحمد إلى ابن الشيخ سنة ٢٥٦ هجرية/٨٦٩ ميلادية
وكان عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني واليًا على فلسطين
والأردن، ثم تغلَّب على دمشق، وامْتَنَع من حَمْل المال إلى
العراق، واستَوْلى على إرسالية من خراج مصر كانتْ موجَّهة إلى
العراق. فكتب الخليفة إلى ابن طولون يأمُرُه بأن يَخرُج إليه
ويتسلَّم أعمالَه، ففرض أحمد بن طولون فروضًا واتخذ السودان فأكثر،
٩ وقبْل الخروج إليه كاتَبَه فجاوَبَه بما لم يُوَافِقه
فسار إليه واستخلف أخاه موسى بن طولون على مصر، ثم رجع من الطريق
بكِتابٍ وَرَدَ إليه من العراق، فدخل الفسطاط لأيامٍ خَلَتْ من
شعبان سنة ست وخمسين ومائتين.
وبعث ماجور من العراق إلى عيسى بن الشيخ فحارَبَه فانْهَزَم
أصحاب عيسى وقُتِل ابنُه وتسلَّم ماجور أعمال الشام.
١٠
ثم بُويِع المعتمد بن المتوكِّل بالخلافة، فأقرَّ أحمدَ بن طولون
على مصر.
وابتدأ أحمد بن طولون في بنيان الميدان في شعبان سنة ستٍّ وخمسين
ومائتين، فأمر بحرث قبور اليهود والنصارى وبنى موضِعَها.
(٩) إحالة الأعمال الخارجة من مصر على أحمد بن
طولون سنة ٢٥٧ هجرية/٨٧١ ميلادية١١
ثم وَرَدَ له الأمر من يارجوخ بأنْ يتسلَّم الأعمال الخارجة عن
يدَيْه من أرض مصر فتسلَّم الإسكندرية من إسحاق بن دينار، وخرج
إليها يوم الإثنين لثمانٍ خلَوْنَ من شهر رمضان سنة سبع وخمسين
ومائتين، وعاد يوم الخميس لأربع عشرة بَقِيَتْ من شوَّال وقد سخط
على أخيه موسى بن طولون وأمره بلباس البياض.
١٢
(١٠) بناء مسجد التَّنُّور على الجبل سنة ٢٥٩ هجرية/٨٧٢
ميلادية
وكان على الجبل مكانٌ مشهور يزعمون أنَّه موضعُ تَنُّور فرعون،
فأُخبِر بأنَّ يهودًا كان يُقِيم فيه فأمر بأن يُبنَى فيه مسجدٌ
عليه منارة في صفر سنة تسع وخمسين وجعل فيه صهريجًا فيه الماء،
١٣ وقد تقدَّم لنا ذكره في الكلام على حديث الكنز.
(١١) خروجه إلى الإسكندرية وترميم المنار سنة ٢٥٩ هجرية/٨٧٣
ميلادية
وفي يوم السبت لثمانٍ بَقِينَ من شعبان سنة تسع وخمسين ومائتين
عاد إلى الإسكندرية مرة ثانية وأمر بحفر خليجها.
١٤
وفي خلال هذه الزيارة أو الأولى رَمَّ شيئًا من المنار، وجعل في
أعلاه قُبَّةً من الخشب يُصعَد إليها من داخلها، وكانت «مبسوطة
مؤربة بغير درج».
١٥
ورجع إلى الفسطاط يوم الخميس لثمانٍ خلَوْنَ من شوَّال سنة تسع
وخمسين بعد أنِ استخلَفَ عليها ابنَه العباس بن أحمد.
(١٢) إنشاء المارستان سنة ٢٥٩ هجرية/٨٧٣ ميلادية
وفي هذه السنة أمَرَ أحمد ببنيان المارستان للمَرْضَى في أرض العسكر
١٦ ولم يكن قبل ذلك بمصر مارستان، ولمَّا فرغ منه حَبَسَ
عليه جملة من الأعيان من الدُّور والأسواق، وكان يُنفق من هذا
الوقف أيضًا على مسجد التَّنُّور وعينٍ وسقايةٍ أنشأهما بالمعافر،
وشَرَط في المارستان ألَّا يُعالَج فيه جنديٌّ ولا مملوكٌ، وعَمِل
حمَّامَيْن للمارستان؛ أحدهما للرِّجال والآخَر للنساء، وحبسهما
على ما ذُكر، وشَرَط أنَّه إذا جِيء بالعَلِيل تُنزَع ثيابُه
ونفقتُه وتُحفَظ عند أمين المارستان، ثم يُلبَس ثيابًا ويُفرَش له
ويُراح عليه بالأدوية والأغذية والأطِبَّاء حتى يَبْرَأ، فإذا أكل
فَرُّوجًا ورَغيفًا أُمِر بالانصراف وأُعْطِيَ مالَه وثيابَه، وكان
يَركَب بنفسِه في كل يوم جمعة ويتفقَّد خزائن المارستان وما فيها،
والأطباء وينظر إلى المرضى.
قناطر ابن طولون وبئره: قال القضاعي: كان السبب في بناء هذه
القناطر أنَّ أحمد بن طولون ركب فمرَّ بمسجد الأقدام وحدَه وتقدَّم
عسكره وقد كدَّه العطش، وكان في المسجد خيَّاط فقال: يا خيَّاط،
أعندَك ماءٌ؟ فقال: نعم، فأخرَجَ له كوزًا فيه ماءٌ، وقال: اشرب
ولا تمدَّ، يعني لا تشرب كثيرًا، فتبسَّم أحمد بن طولون وشرب فمدَّ
فيه حتى شَرِبَ أكثَرَه، ثم ناوَلَه إيَّاه وقال: يا فتى سقَيْتَنا
وقلتَ: لا تمدَّ، فقال: نعم، أعزَّك الله، موضعُنا ها هنا منقطِعٌ،
وإنما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية، فقال له: والماء عندكم ها
هنا معوز؟ فقال: نعم، فمَضَى أحمد بن طولون فلمَّا حصل في داره
قال: جيئوني بخيَّاط في مسجد الأقدام، فما كان بأسرع من أنْ جاءوا
به فلمَّا رآه قال: سِرْ مع المهندِسين حتى يَخُطُّوا عندك موضعَ
سقاية ويُجروا الماء، وهذه ألفُ دينارٍ خُذْها، وابتدأ في الإنفاق،
وأجرى على الخيَّاط في كل شهر عشرة دنانير، وقال له: بشِّرنِي ساعة
يجري الماءُ فيها، فجدُّوا في العمل، فلمَّا جرى الماءُ أتاه
مبشِّرًا فخَلَع عليه وحمله، واشترى له دارًا يَسكُنُها، وأجرى
عليه الرزق السنيَّ الدارَّ …
وبنى ابن طولون عليها القناطر، وأجرى الماء إلى الفسقية التي
بقُرْب درب سالم
١٧ («المقريزي» الجزء الثاني، ص٤٥٧).
(١٣) تقليده خَراج مصر سنة ٢٥٩ هجرية
ثم وَرَدَ كتابٌ من المعتمد إلى أحمد بن طولون يستحثُّه في حَمْل
الأموال، فأجابَه: لستُ أُطِيقُ ذلك والخراجُ بيَدِ غيري، وكان
بلَغَه أنَّ ابن المُدَبَّر وشقير الخادم — وكان على البريد —
يكيدان له، وقد كتبا إلى الحضرة يقولان: إنَّ أحمد بن طولون عزم
على التغلُّب على مصر والعصيان بها، وكان ابن المُدَبَّر ابتدَعَ
بمصر بِدَعًا كثيرةً، فأحاط بالنطرون وحَجَر عليه بعدما كان مباحًا
لجميع الناس، وقرَّر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالًا سمَّاه
المراعي، وقرَّر على ما يُطعِم اللهُ من البحر مالًا وسمَّاه
المصايد، إلى غير ذلك، فانْقَسَم حينئذٍ مال مصر إلى خراجي وهلالي،
وكان الهلالي يُعرَف في زمنه وما بعدَه بالمرافِق والمعادِن، وقد
عُرف فيما بعدُ على عهد الدولة الفاطمية بالمكوس.
فلمَّا وصَلَ جوابُ ابن طولون إلى المعتمد أنفَذَ المعتَمِدُ
إليه بتقليدِه الخَراجَ على مصر وبوِلايتِه على الثُّغُور الشامية،
فرَغِبَ أحمدُ بنفسِه عن المعادِن والمرافِق، فأمَرَ بتَرْكِها،
وكتب بإسقاطِها في سائر الأعمال، وكانتْ تبلُغُ بمصر خاصةً مائة
ألفِ دينار في كل سنة. قال المقريزي: «وقد أظْفَرَه الله عُقَيْب
ذلك بكنزٍ فيه ألفُ ألفِ دينار.» ولهذا الكنز أيضًا خبرٌ أَوْرده
المقريزي (في الجزء الثاني، ص٢٦٧)، ونكتفي بالإشارة إليه.
(١٤) الخلاف بينه وبين الموفَّق
ذَكَر جامع سيرة ابن طولون أنَّ صاحب الزِّنج لمَّا قَدِمَ
البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين واستفحل أمرُه أنفَذَ أميرُ
المؤمنين المعتمد على الله تعالى رسولًا في حَمْل أخيه الموفَّق
بالله أبي أحمد طلحة من مكة إليه، وكان الخليفة المُهتَدِي بالله
محمد بن الواثق نفاه إليها، فلمَّا وَصَل إليه جعل العهد بالخلافة
من بعده لابنه المفوِّض، وبعد المفوِّض تكون الخلافة للموفَّق
طلحة، وجعل غرب الممالك الإسلامية للمفوِّض وشرقها للموفَّق، وكتب
بينهما بذلك كتابًا ارتَهَن فيه أَيْمانَهما بالوفاء بما قد وقعتْ
عليه الشروط، وكان الموفَّق يحسُد أخاه المعتمد على الخلافة ولا
يراه أهلًا لها، فلمَّا جعل المعتمد الخلافةَ من بعدِه لابنِه ثم
للموفَّق بعدَه شقَّ ذلك عليه وزاد في حِقْدِه، وكان المعتمد
متشاغِلًا بملاذِّ نفسِه من الصَّيْد واللَّعِب والتفرُّد
بجوارِيه، فضَاعَتِ الأمور وفسَدَ تدبير الأحوال، وفاز كلُّ مَن
كان متقلِّدًا عملًا بما تقلَّدَه، وكان في الشروط التي كتبها
المعتمد بين المفوِّض والموفَّق أنَّه ما حدث في عمل كلِّ واحدٍ
منهما مِن حدثٍ كانتِ النفقة عليه من مالِ خراجِ قسمِه، واستخلف
على قسم ابنه المفوِّض موسى بن بغا، فاستكتب موسى ابن بغا عُبَيْد
الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفَّق بقسمه من ممالك الشرق،
وتقدَّم إلى كلٍّ منهما ألَّا ينظر في عمل الآخَر، وخلَّد كتاب
الشروط بالكعبة، وأفْرَد الموفَّق لمحاربة صاحب الزِّنج وأخرجَه
إليه وضمَّ معَه الجيوش، فلما كَبِرَ أمرُه وطالتْ محاربتُه إيَّاه
وانقطعتْ موارد خراج المشرق عن الموفَّق وتقاعَد الناس عن حَمْل
المال الذي كان يُحمَل في كل عام واحتجُّوا بأشياء، دعتِ الضرورةُ
الموفَّقَ إلى أنْ كتب إلى أحمد بن طولون في حَمْل ما يستعين به في
حروب صاحب الزِّنج، وكانتْ مصر في قسم المفوِّض لأنَّها من الممالك
الغربية، إلَّا أنَّ الموفَّق شكا في كتابه إلى ابن طولون شدةَ
حاجتِه إلى المال بسبب ما هو بسبيله، وأنفَذَ مع الكتاب تحريرًا
خادم المتوكِّل ليَقْبِض منه المال، فما هو إلَّا أنْ وردَ تحريرٌ
على ابن طولون بمصر وإذا بكتاب المعتمد قد وردَ عليه يأمُره فيه
بحَمْل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحَمْله مع المال في
كل سنة من الطراز والرقيق والخيل والشمع وغير ذلك، وكتب أيضًا إلى
أحمد بن طولون كتابًا في السِّرِّ: إنَّ الموفَّق إنَّما أنفَذَ
تحريرًا إليك عَيْنًا ومستقصيًا على أخبارك، وإنَّه قد كاتَبَ بعضَ
أصحابك، فاحترس منه، واحمل المال إلينا، وعجِّل إنفاذَه، وكان
تحريرٌ لمَّا قَدِم إلى مصر أنزَلَه أحمد بن طولون معَه في داره
بالميدان، ومَنَعَه من الركوب، ولم يمكِّنه من الخروج من الدار
التي أنزلَه بها حتى سار من مصر، وتلطَّف في الكتب التي أجاب بها
الموفَّق، ولم يَزَلْ بتحريرٍ حتى أخَذَ جميعَ ما كان معَه من
الكُتُب التي وردتْ من العراق إلى مصر، وبعثَ معه إلى الموفَّق
ألفَ ألفِ دينارٍ ومائتَيْ ألفِ دينارٍ، وما جرى الرسم بحمله من
مصر، وأخرج معَه العُدول، وسار بنفسِه صحبتَه حتى بلَغَ به
العَريشَ، وأرسل إلى ماجور متولِّي الشام فقَدِم عليه بالعريش
وسلَّمه إليه هو والمال، وأشهَدَ عليه بتسليم ذلك، ورجع إلى مصر
ونظر في الكتب التي أخذَها من تحريرٍ، فإذا هي إلى جماعةٍ من
قُوَّاده باستمالتهم إلى الموفَّق، فقبض على أربابها وعاقَبَهم حتى
هلكوا في عقوبته، فلمَّا وصل جواب ابن طولون إلى الموفَّق ومعَه
المال كتب إليه كتابًا ثانيًا يستقِلُّ فيه المال ويقول: إنَّ
الحساب يُوجِب أضعافَ ما حملتَ، وبسَطَ لسانَه بالقَوْل والْتَمَس
فيمَن معه مَن يخرج إلى مصر ويتقلَّدها عِوَضًا عن ابن طولون فلم
يَجِد أحدًا عِوَضَه؛ لِمَا كان من كَيْس أحمد بن طولون وملاطفته
وجوه الدَّوْلة، فلمَّا وردَ كتابُ الموفَّق على ابن طولون قال:
وأيُّ حسابٍ بيني وبينه؟! أوْ حالٌ تَوجِب مكاتبتي بهذا أو غيره؟!
وكتب إليه جوابًا شديدَ اللهجة أَوْرده جامع السيرة ونقَلَه
المقريزي في الجزء الثاني ص١٧٩، فلمَّا وصل إلى الموفَّق أقْلَقَه
وبلغ منه مبلغًا عظيمًا، وأغاظَه غيظًا شديدًا، وأحضر موسى بن بغا،
وكان عون الدولة وأشدَّها بأسًا وإقدامًا، فتقدَّم إليه في صَرْف
أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماجور، فامْتَثَل لذلك، وكتب إلى
ماجور كتابَ التقليد وأنفَذَه إليه، فلمَّا وصلَ إليه الكتابُ
توقَّف عن إرسالِه إلى أحمد بن طولون لعَجْزِه عن مناهضته.
١٨
بعد ذلك خرج موسى بن بغا فنزل الرَّقَّة، وبلغ ابن طولون أنَّه
سائرٌ إليه فعَمِل في الحذر منه، واستعدَّ لحَرْبه ومَنْعه من دخول
أعمالِه، وبنَى حصنًا بجزيرة الروضة في سنة ثلاث وستين ومائتين
ليَحفَظ به حرمه وماله، فلمَّا بلغ موسى بن بغا إلى الرَّقَّة
تثاقَل عن المسير لعِظَم شأنِ ابن طولون وقوَّته، ثم عرضتْ لموسى
عِلَّةٌ طالتْ به، وكان بها موتُه، وكفى ابن طولون أمره، فقال محمد
بن دواد في ابن طولون:
لمَّا ثَوَى ابنُ بغا بالرقَّتين مَلَا
ساقَيْهِ ذَرْقًا إلى الكعبَيْن
والعَقِبِ
بَنَى الجزيرةَ حصنًا يستجِنُّ به
بالعَسْفِ والضَّرْبِ والصُّنَّاع في
تَعَبِ
له مراكبُ فوقَ النيل راكدةً
فما سوى القار للنُّظَّار والخشبِ
يُرَى عليها لباسُ الذُّلِّ مُذْ
بُنِيَتْ
بالشَّطِّ ممنوعة من عِزَّة الطَّلَبِ
فما بناها لغزْو الرُّوم محتسِبًا
لكنْ بناها غداةَ الرَّوْع للهَرَبِ
١٩
ولم يزلْ هذا الحصن على الجزيرة حتى أخذَه النيل شيئًا فشيئًا،
واجتهد أحمد بن طولون في بنيان المراكب الحربية وإطافتها بالجزيرة،
وقد ألْزَمَ قُوَّادَه وثقاته أمرَ الحصن وفرَّقَه عليهم قِطَعًا
فقام كلُّ واحدٍ بما لَزِمَه من ذلك، وكَدَّ نفسَه فيه، وكان
يتعاهدهم بنفسِه في كل يوم، ومِن كثرةِ ما بذَلَ في هذا العمل
قُدِّرَ أنَّ كل طوبة منه وقعتْ عليه بدرهم، وبلغ مصروف الحصن
ثمانين ألف دينار ذهبًا، وكان يُعرَف بحصن الجزيرة.
٢٠
(١٥) خروج أحمد بن طولون إلى الشام سنة ٢٦٤ هجرية/٨٧٨
ميلادية
ثم تُوُفِّي ماجور بدمشق، واستخلف ابنه عليًّا، فحرَّك ذلك ابن
طولون على المسير، فكتب إلى عليٍّ يُخبِره بأنَّه سائرٌ إليه،
وأمَرَه بإقامةِ الأنزال والميرة لعساكِره، فردَّ عليه
عليُّ بن ماجور بأحسن جواب، وخرج أحمد في جيوشه لثمانٍ بَقِينَ من
شعبان سنة أربع وستين، واستخلفَ ابنَه العبَّاس على مصر، وضمَّ
إليه أحمد بن محمد الواسطي مدبِّرًا ووزيرًا، فبلغ أحمدُ إلى
الرملة فتلقَّاه محمد بن رافع خليفة ماجور عليها وأقامَ له الدعوة
بها فأقرَّه عليها، ومضى إلى دمشق فتلقَّاه عليُّ بن ماجور وأقام
له بها الدعوة، فأقام أحمد بها حتى استوثَقَ له أمرُها، ثم استخلف
عليها أحمد بن دوغياش، ومضى إلى حمص فلقِيَه عيسى الكرخي خليفة
ماجور فسلَّمَها إليه، ثم بعث إلى سيما الطويل بأنطاكية يأمُرُه
بالدعاء له فلم يُجِبْه فسارَ إليه أحمد في جيش عظيم، وبعد حصار
شديدٍ استولى عليها، وقتل سيما في صفر سنة خمس وستين
ومائتين.
ومضى أحمد بن طولون إلى طَرَسُوس بأصحابِه فغلا السعر
٢١ بها واضطرب أهلُها ونابَذوه فقاتَلَهم.
(١٦) عصيان العبَّاس على أبيه أحمد بن
طولون سنة ٢٦٥ هجرية/٨٧٩
ميلادية
وكان عازِمًا على أنْ
يُقِيم بالثغور، ولكنْ أتاه الخبرُ من مصر أنَّ ابنَه العبَّاس قد
خالَفَ عليه، وكان السبب في مخالفته لأبيه أنَّه استخصَّ قُوَّادًا
من قُوَّاده كانوا على خوفٍ شديد من أحمد بن طولون فحسَّنوا
للعبَّاس التغلُّب على مصر والقبضَ على أحمد بن محمد الواسطي،
وبلَغَ الواسطيَّ ما عزَموا عليه فكتب إلى أحمد بن طولون يُخبِره،
وعلِمَ العبَّاس ذلك فازدَادَ وحشةً من أبيه، وعمد إلى أحمد بن
محمد الواسطي فقيَّدَه، ثم خرج إلى الجيزة وعسْكَر بها، واستخلَفَ
أخاه ربيعةَ على الفسطاط، وأظهَرَ أنَّه سائرٌ إلى الإسكندرية حتى
وصل إليها، ومنها توجَّه إلى بُرْقَة، وقدِمَ أحمد من الشام إلى
الفسطاط يوم الخميس لأربعٍ خلَوْنَ من شهر رمضان سنة خمس وستين
ومائتين، فأنفَذَ إلى العبَّاس يدعوه إلى الرجوع، وكتب إليه كتابًا
أَلَانَ له فيه جانبَه ووعَدَه ألَّا يَسُوءَه،
٢٢ وهمَّ العبَّاس بالشُّخوص إليه ففَزِعَتِ الطائفة التي
حسَّنتْ له الخروج من أبيه وعلِمُوا أنَّه موقعٌ بهم فحضُّوه على
المقام، فرجع إلى قولِهم، وعزم على المسير إلى إفْرِيقيَّة، ورأى
أنَّها أمْنَع له من بُرْقة، فكتب إلى إبراهيم بن أحمد بن محمد بن
الأغلب أنَّ كتاب المعتمد وردَ عليه بتقليده إفريقيَّة، ويأمُرُه
بالدُّعاء له بها، ويُخبِره أنَّه سائرٌ إليه، ثم سار فنزل لبدة
فخرج إليه عامِلُها وأهلُها فتلقَّوْه وأكرموه، ولكنَّه أمرَ
بنَهْبها، فنُهِبتْ وأهلُها على غِرَّة، فقُتِلَتْ رجالُهُم
وفُضِحَتْ نساؤهم، وبلغ الخبر إلياس بن منصور النَّفُوسي، وهو
يومئذٍ رأسُ الإباضية، وبعث إبراهيم بن أحمد بجيشٍ آخَر فأطْبَقَ
الجيشان على العبَّاس فباشَرَ يومئذٍ الحربَ بنفسِه وحسُنَ بلاؤه
وأثَّر فيه، ولكنْ لم يلبثْ أنْ قُتل يومئذٍ صناديدُ عسكرِه ووُجوه
أصحابِه وحُماته، ونُهبتْ أموالُه وسلاحُه، ورجع هاربًا إلى بُرْقة
في ضرٍّ وإخلال.
٢٣
(١٧) إخماد عصيان العبَّاس سنة ٢٦٨ هجرية/٨٨١ ميلادية
وخرج أحمد بن طولون في عسكر عظيم، قيل إنَّه بلغ مائة ألفٍ
لاثنتَيْ عشرة خلَتْ من ربيع الأوَّل سنة ثمانٍ وستين ومائتين، وقد
أجمع على النُّهوض بنفسِه إلى بُرْقة، ووصل إلى الإسكندرية فأقام
بها، وهرب أحمد بن محمد الواسطي من بين يدَيِ العبَّاس، ولقِيَ
أحمد بن طولون فصغَّر أمرَ العبَّاس عندَه، فعقد على جيشٍ سيَّرَه
إلى بُرْقة، فالْتَقَى بأصحاب العبَّاس فانْهَزموا وقُتِل منهم
كثير، وهربَ العبَّاس فأدْرَكوه يوم الأحد لأربعٍ خلَوْنَ من رجب
سنة ثمانٍ وستين ومائتين، ورجع أحمد بن طولون إلى الفسطاط يوم
الثلاثاء لثلاثَ عشرةَ خلَتْ من رجب، وأُتِيَ بالأَسْرى وقد
بُنِيَتْ لهم دكةٌ عظيمةٌ رفيعة السمك، وأُحْضِر جعفر بن جدار من
خاصة العبَّاس وممَّن أغْرَوْه فضُرب ثلاثمائة سوط وقُطِعَتْ يداه
ورجلاه وأُلْقِي من الدكة.
(١٨) خروج المعتمد من العراق للِّحاق بمصر
ومنعه سنة ٢٦٩ هجرية/٨٨٢
ميلادية
وخرج أحمد إلى الشام ومعه العبَّاس مُقَيَّدًا، ومنها سار يريد
المسير لمحاربة أهل طَرَسُوس، وفيها يازمان الخادم فتلقَّاه كتاب
المعتمد يُعلِمه أنَّه قادمٌ عليه ليَلْتَجِئَ إليه لتحكُّم أخيه
الموفَّق فيه والتضييق عليه، وهو وليُّ العهد، حتى إنَّه لم يَبْقَ
للمعتمد وهو الخليفة إلَّا الاسم، فتوقَّف أحمد عن المسير، وكتب
إلى المعتمد يُواعِده أنَّه يحضر إليه ويحمله إلى مصر ويجعلها دار
الخلافة ويذبُّ عنه مَن يُخالِفه في ذلك، فتهيَّأ المعتمد وخرج من
العراق يريد اللحاق بمصر، وأقام يتصيَّد بالكحيل، وقدِم صاعد بن
مخلد من عند أبي أحمد الموفَّق، ثم شخص إلى سامَرَّا في جماعة من
القوَّاد في جُمادى الآخِرة، وقدِم قائدان لابن طولون يُقال
لأحدِهما: أحمد بن جبغويه، وللآخَر: محمد بن عبَّاس الكلابي
الرَّقَّةَ، فلمَّا صار المعتمد إلى عَمَل إسحاق بن كُنداج، وكان
العاملَ على الموصل وعامة الجزيرة، وكان مَن مع المعتمد مِن
القُوَّاد حذَّروه المرور به وخوَّفوه منه فأبَى إلَّا المرورَ به،
وقال لهم: إنَّما هو مولاي وغلامي وأريد أن أتصيَّد فإنَّ في
الطريق إليه صيدًا كثيرًا، فلمَّا صاروا في عمل إسحاق، وقد نفَذَتْ
إليه الكتب من قِبَل صاعِدٍ بالقبض عليهم، لقِيَهم وسارَ معهم
وانتظر حتى ارتحل التُّبَّاع والغلمان الذين كانوا مع المعتمد وخلا
بالقُوَّاد فقال لهم: إنَّكم قد قربتم من عمل ابن طولون والمُقِيم
بالرَّقَّة من قُوَّاده وأنتم إذا صرتم إليه فالأمر أمره وأنتم من
تحت يده ومن جنده، أفترضَوْن بذلك وقد علمتم أنَّه إنَّما هو
كواحدٍ منكم؟! وجرتْ بينَه وبينَهم مُناظرةٌ، ولمَّا طالتْ بمجلس
المعتمد قال لهم: قوموا بنا حتى نتناظَر في هذا في غير هذا الموضع
وأكرموا مجلس أمير المؤمنين من ارتفاع الصوت فيه، فأخذ بأيديهم
وأخرجهم من مضرب المعتمد فأدْخَلَهم مضرب نفسِه وعند ذلك دخل
جِلَّة غلمانه وأصحابه وأُحضِرَتِ القيود وشَدَّ غلمانُه على كل
مَن كان شَخَصَ مع المعتمد من سامَرَّا من القُوَّاد فقَيَّدوهم،
فلمَّا قُيِّدوا وفُرِغ من أمرهم مضى إلى المعتمد فعَذَله في شخوصه
عن دار مُلْكِه ومُلْك آبائه وفِراقِه أخاه وهو مشتغل بالحروب، ثم
حَمَله والذين كانوا معه في قيودهم حتى وافَى بهم سامَرَّا.
٢٤
(١٩) غضب ابن طولون على بكار بن قتيبة
وعقد الموفَّق لابن كُنداج
على مصر، ونصب لأحمد الحربَ وصرَّح بعزلِه ولعنِه، وعلِم ابن طولون
بما وقع فرجع إلى دمشق وأمر بإحضار القضاة والفقهاء والأشراف وأمَر
أن يكتبوا بخَلْع الموفَّق من ولاية العَهْد فأجابَ القضاة كلُّهم
إلى خَلْعه وسمَّاه بكار بن قتيبة الناكِثَ وأشْهَدَ على نفسِه هو
وسائر قضاة الشام والثغور، فطلب منهم أحمد أن يَلْعَنوا الموفَّق
فامتنع بكار، فألَحَّ عليه فأصَرَّ على الامتناع حتى أغْضَبَه،
وكان قبْلَ ذلك مكرمًا معظَّمًا عارفًا بحقِّه، وكان يُجِيزه في كل
سنة بألف دينار فيتركها بختمها ولا يتصرَّف فيها، فلمَّا غضِبَ
عليه أرسل إليه: أين جوائزي؟ وكان ابن طولون يظن أنَّه أنفَقَها
وأنَّه يعجز عن القيام بها فلهذا طالَبَه، فقال بكار: على حالِها.
فأحْضَرَها من منزله بخواتيمها ستة عشر كيسًا فقبضها أحمد، وكان
قبل ذلك أرسَلَه إلى ابنه العبَّاس لمَّا خالَفَ عليه ببُرْقة
فأجابه العبَّاس إلى الرجوع إلى أبيه، ثم خلا ببكار فقال له:
المستشار مؤتمن، أتخاف عليَّ من أبي؟ قال: قد أمَّنَك وحلَف لك،
ولا أدري أيَفِي أم لا. وامتنع العبَّاس من الرجوع معهم.
ولمَّا اعتُقِل بكار أمرَه ابن طولون أن يُسلِّم القضاء إلى محمد
بن شاذان الجوهري ففعل وجعَلَه كالخليفة له، وبقِيَ مسجونًا مدة
سنتين، وكان يُحدِّث في السجن من طاقٍ فيه؛ لأنَّ أصحاب الحديث
شكَوْا إلى ابن طولون انقطاع سماع الحديث من بكار وسألوه أنْ
يأذَنَ له في الحديث ففعل.
وبلغ الموفَّقَ ما فعَلَه أحمدُ بن طولون فكتب إلى عُمِّاله
يأمرُهم بلعْنِه على المنابر فلُعِنَ عليها بما صيغته: اللهم
الْعَنْه لعنًا يَفُلُّ حدَّه ويُتْعِس جَدَّه، واجعَلْه مثالًا
للغابرين، إنَّك لا تُصلِح عمل المفسدين
٢٥ («الكندي»، ص٢٢٩).
(٢٠) خروج أحمد بن طولون إلى طَرَسُوس
ثم مضى أحمد بن طولون إلى طَرَسُوس من دمشق فوَجَدَ يازمان قد
شَخَصَ بها ونصَبَ المجانيق على سُورها، فنزل أحمد بن طولون بجيوشه
عليها في شدةٍ من البرد وكثرةٍ من الأمطار والثلوج، فأرسل يازمان
الماء على عسكر أحمد بن طولون من نهر البردان فغَرِقَ عسكرُه، ولم
يكن لابن طولون مقام، فرحل عنها ليلًا ورجع أَذَنة فأقام بها.
٢٦
(٢١) مرض أحمد بن طولون ووفاته سنة ٢٧٠ هجرية/٨٨٣ ميلادية
ثم ارتحل منها إلى المصيصة فأقام بها أيامًا، وعرَضَتْ له
عِلَّته التي مات فيها، فأغَذَّ السيرَ إلى مصر والعلةُ تَزِيد
عليه، حتى بلغ الفرما، فركب في الليل إلى الفسطاط فدخلها يوم
الخميس لعشر بَقِينَ من جُمادى الآخِرة سنة سبعين ومائتين،
وتزايَدَتْ عِلَّتُه فأمرَ الناسَ بالدعاء له فغدا الناس بالدعاء
له إلى مسجد محمود بسفح المقطم، وحضر معهم القُصَّاص فدَعَوْا له،
ثم غدَوْا أيضًا بالدعاء له، وحضرت اليهود والنصارى معتزلين عن
المسلمين، وحضروا أيضًا اليوم الثالث مع النساء والصبيان، وأقاموا
على ذلك أيامًا، ثم تُوُفِّي أحمد بن طولون ليلة الأحد لعشر خَلَوْنَ
٢٧ من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين وسِنُّه في بعض
الروايات خمسون سنةً، ولمَّا بلغتْ وفاتُه المعتمدَ اشتَدَّ وجدُه
وجزعُه عليه وقال يرثيه:
إلى الله أشكو أسًى
عَرَاني كوَقْعِ الأَسَلْ
على رجلٍ أروعٍ
يُرَى فيه فضْلُ الرجلْ
شهابٌ خَبَا وَقْدُهُ
وعارضُ غيثٍ أفَلْ
شكتْ دولتِي فقدَهُ
وقد كان زَيْنَ الدُّوَلْ
٢٨