رحلة العودة
أصدر حاكم الكوفة أمره إلى عُمَّاله أن يُلزموا أصحاب المحال التجارية بدفع خمسة دنانير في الشهر مقابل من يحمي لهم متاجرهم من اللصوص والغاصبين، كما أمر أن يدفع الزُّرَّاع عُشر محصولهم مقابل أن يحمي لهم التسعة أعشار الباقية، وأصاب الناس اضطراب شديد، وراح الأفراد يتجمعون ويتهامسون ولكن سرعان ما يتفرقون، ويصبح الهمس هواء مع الهواء. وقد يفيد الهواء ولكن هيهات لهمسهم أن يفيد.
وكان أحد شوارع الكوفة مزدحمًا بالتجار فكان الهمس في هذا الشارع يعلو بعض الشيء عن الشوارع الأخرى، ولكن مهما يكن الهمس عاليًا فإنه ينداح آخر الأمر مع الهواء فلا يفيد.
وكان أحد الورَّاقين جالسًا إلى كتبه ينظر إلى رجل عنده مهيب يقرأ في كتاب من كتب المكتبة بنهم واستغراق.
– قل لي أيها الشيخ.
– هل أنت مصمم على أن أقول لك؟
– مجرد سؤال.
– يا ليت.
– مجرد سؤال.
– لا يمكن.
– فانتظر حتى ترى.
– إن كل حديث يبدأ بكلمة قل لي هذه السخيفة، وقد يتبعها مجرد سؤال ثم تتوالى الأسئلة فلا تنتهي وأنا أريد أن أقرأ.
– حسنًا لماذا تقرأ؟
– لأتعلم.
– ولماذا تتعلم؟
– لأعرف كيف يصاغ الكلام.
– ثم بعد.
– أرأيت لم يكن مجرد سؤال إذن إنها مؤامرة كاملة.
– لو كنت أجبتني إجابة شافية لما احتجت أنا إلى كل هذه الأسئلة.
– بماذا أتريدني أن أجيبك؟
– لماذا تقرأ؟
– لقد قلت لك.
– لم تقل شيئًا.
– إنني أقرأ لأنني أريد أن أقول.
– فالقول إذن صناعتك؟
– إنه صناعتي.
– صناعتك أن تقول.
– نعم.
– فلماذا لا تقول؟
– وماذا تريدني أن أقول؟
– أن تقول للظالم أنت ظالم.
– أين هو الظالم؟
– أتستطيع أن تقول للظالم أنت ظالم.
– إنها صناعتي.
– ألم تسمع بالأحكام الأخيرة التي أصدرها الحاكم؟
– هذا عمله.
– أن يفرض علينا الإتاوات.
– إذا لم تدفعوا هذه الإتاوات كما تسميها فمن أين تنفق الدولة؟
– لو أنها أخذت من أجل الدولة ما تكلمنا.
– ومن أين تعرف السبب الذي من أجله أخذت؟
– اسمع أيها الشيخ. إنني وإخواني لا نعارض في دفع ما تزيده الدولة، فقط لنا مطلب.
– لكم أن تقولوا مطالبكم.
حين يمتنع الحاكم عن إقامة الولائم كل يوم مرتين مرة في الغداء ومرة في العشاء، وحين يمتنع الحاكم عن اقتناء الجواري باذلًا في سبيل ذلك الألوف المؤلفة من الدنانير، وحين يمتنع الحاكم عن أن ينفق في سعة ليرتدي الملابس موشَّاة بالذهب والماس، وحين يمتنع الحاكم عن أن يعطي من خزانة بيت المال لأهله وذويه والمقرَّبين إليه بغير حساب، وحين يمتنع الحاكم عن أن يقذف بالمال تحت أقدام الشعراء الذين يمدحون في خسة، والمغنِّين الذين ينافقون في صغار. حين يمتنع الحاكم عن هذا جميعه ويحتاج بعد ذلك إلى أموال لبيت المال فإننا نرحب أن نقدم كل ما يطلبه منا.
– إذن فأنت تريد في بساطة أن يبدأ الحاكم بنفسه.
– بوركت لقد ظللت أتكلم وأتكلم فقلت أنت ما أريد في كلمة واحدة.
– الكلام صناعتي.
– أترى لصناعتك هذه فائدة إن لم تقل بها كلمة حق.
– إنك على حق، ولقد اقتنعت بقضيتك.
– أتذهب إذن إلى الحاكم فتجعله يقتنع بما اقتنعت أنت به.
– أما أنا فلا مانع لدي ولكن؟
– أتخاف؟
– ليس لدي ما أخاف عليه.
– حياتك.
– أخاف عليها ولكن ما أظن أن الحاكم سيستولي عليها لمجرد أنني نقلت إليه رأيًا.
– فما لكن هذه؟
– ولكن ذهابي وحدي لن يفيد شيئًا.
– إن الكلام صناعتك.
– لست وحدي من اتخذ الكلام صناعة في الكوفة.
– إذن فأنت تريد جماعة من الناس حتى تكون مطمئنًّا بوجودهم.
– أولًا: لا عيب في ذلك؛ فمن خصال الإنسان أن يخاف، وثانيًا: ذهاب الجماعة خير من ذهاب الفرد، فإن الحاكم حين يرى جمعًا منا يعرف أننا نعبر عن رأي قوم كثيرين. أما إن رأى فردًا فقد يستخف به ويرميه بالتدخل في غير شأنه.
– أليس شأنك أن تقول.
– في هذه الحالة لن يعترف الحاكم أن من شأني أن أقول.
– لا بأس فمن تريد معك.
إنك ورَّاق وتعرف كل من يتخذون الكلام صناعة.
– فمتى تحب أن تذهب؟
– متى تستطيع أنت أن تجمع الذاهبين؟
– في أقرب وقت.
– وأنا مستعد.
وتجمَّع صُناع الكلام وقصدوا إلى قصر الحاكم. فاستقبلهم الحاجب.
– من أنتم؟
فقال كبيرهم: نحن أهل الكلمة.
– ومَن أهل الكلمة؟
– أولئك الذين وهبهم الله موهبة الكلام.
– وماذا تريدون؟
– نريد أن نلقى الحاكم.
– ولماذا؟
– عندنا كلمة نريد أن نقولها له.
– ألا يمكن أن تقال لي؟
– إنها لا تقال إلا للحاكم.
– أهي بُشرى طيِّبة؟
– إنها ليست بُشرى.
– فهي إذن نبوءة سيئة.
– يا أخا العرب نحن لسنا من علماء الفلك.
– فماذا تريدون إذن؟
– أن نلقى الحاكم.
– لن تلقوا الحاكم إلا إذا عرفت أنا ما تريدون.
– لقد جئنا نكلمه في شأن التجار والزراع.
– آه.
– أعرفت؟
– أهذه هي الكلمة؟
– تلك يا أخي البداية.
– أهناك شيء آخر؟
– إنك لم تعرف إلا رأس الموضوع فقط أما الكلام الذي نريد أن نقوله للحاكم فأنت لا تعرفه، ونحن نحب أن نقوله له.
– ولماذا لا تقولونه لي؟
– أنت حاجب الخليفة ألست كذلك؟
– إني هو.
– فأبلغه أمرنا وانظر بماذا يجيبك.
ودخل الحاجب فما هي إلَّا أن عاد.
– تعالوا معي.
– إلى الحاكم.
– ستلقون الحاكم.
– الآن أليس كذلك؟
– الآن نعم، اتبعوني.
– يا أخا العرب، إنك دخلت إلى الحاكم من هذا الباب فما لك تقصد بنا إلى باب آخر؟
– إنه سيلقاكم في حجرة أخرى، اتبعوني.
وتبعوه.
– ولكننا يا أخي لم نقل شيئًا بعد حتى تقودنا إلى السجن.
– وهل رأيتموني أدخلكم السجون وأقفل دونكم الأبواب.
– فما مجيئنا إلى السجن؟
– إنه الطريق إلى الغرفة التي ينتظركم فيها الحاكم.
– آه، وما هذا؟
– لا شيء.
– رجل معلق من قدميه في الهواء ورأسه موضوعة في الماء ثم لا شيء.
– عملية تنشيط للذاكرة.
– أي ذاكرة؟
– الذاكرة التي تنسى أحيانًا أن الحاكم لا بد أن يُطاع.
– فإن كسلت الذاكرة يموت؟
– إنه لن يموت.
– الموت أهون، وهذا؟
– مثله.
– ولكنه لا يعامل مثله.
– وسيلة أخرى لتنشيط الذاكرة.
– ولكن النار في قدميه.
– إن الدماء إذا سخنت في الأقدام وصلت إلى الرأس حارة فتنشط الذاكرة.
– وهذا؟
– مثله.
– وهذا؟
– مثله.
– مثله؟
– مثله.
– أيطول بنا الطواف هنا؟
– إننا في الطريق إلى الحاكم، اتبعوني.
وتبعوه.
– ما هذا أيها الحاجب لماذا تقيد أيدينا وراء ظهورنا؟
– لا تخافوا حين نخرج من هذه الغرفة سنفك أيديكم.
– ولكن لماذا؟
– ستعرفون، حالًا ستعرفون.
ودخلوا إلى حجرة كلها رفوف من الأرض إلى السقف، وكل الرفوف مليئة بالماس والياقوت والزبرجد والزمرد، أما الذهب فكان أكوامًا، وصاح كبير القوم: ألهذا قيدتم أيدينا؟
– إنها أوامر صادرة إلى حُراس الغرفة.
– إننا نحتج، أنحن لصوص؟ سنبلغ الحاكم هذه الإهانة التي ألحقتموها بنا.
– إنها أوامر الحراس.
– ولكنها إهانة فما نحن لصوص.
– على كل حال لا تغضب فإنكم ستعودون من هذه الغرفة فإن كان الحاكم راضيًا عنكم فإنكم ستمرون بهذه الحجرة وأيديكم مطلقة.
– أهكذا؟
– على شرط.
– ما الشرط؟
– ألَّا تسرفوا في أخذ الجواهر حتى تتبعج جيوبكم ويراكم الحراس.
– شرط معقول.
خرجوا من الغرفة إلى بهوٍ فأُطلقت أيديهم وقال لهم الحاجب: انتظروني هنا أستأذن لكم على الحاجب.
وحين تركهم نظر أحدهم إلى كبيرهم.
– ماذا أنت قائل؟
– ما تريدون أن أقول؟
– أتعرف ما نريد أن نقول؟
– كل المعرفة.
وحين دخلوا إلى الحاكم بدأ كبيرهم؟
– يا مولاي الحاكم لقد أرسلنا التجار والزراع لنشكر لك هذا القرار الحكيم العادل الذي تفضلت فأصدرته؛ فقد جعلتهم يشعرون أنهم يشاركون حقًّا في بناء بلدهم، ولو لم تُصدر هذا القرار لأرسلونا إليكم لنرجوكم أن تصدروا هذا القرار. ولكن نفاذ بصيرتكم ونبل معدنكم وأصيل فطنتكم ورفيع فكركم ورائع تدبيركم كل هذا كان أسبق منا، وأنتم دائمًا بالفضل أسبق وبالخير أوثق وبالمجد أخلق.
وفي العودة مر أصحاب الكلمة في غرفة الجواهر والذهب وكانت أيديهم مطلقة. والمفاجأة التي كانت تنتظرهم أن هناك طريقًا يُفضي إلى خارج القصر دون أن يمر بالسجن، وقد دهشوا لذلك أي دهشة.