في الطوفان
١
كانت اللجنة العلمية الدائمة للترقية قد قامت بتوزيع إنتاج نصر أبو زيد، يوم الثامن والعشرين من مايو، وشُكِّلت لجنة من ثلاثة لقراءة الأعمال وتقييمها بعضوية د. «شوقي ضيف»، ود. «محمود علي مكي»، ود. «عوني عبد الرءوف». ومفروضٌ أن تُقدِّم تقريرها خلال شهرَين، لكن لم يُقدِّم د. «شوقي ضيف» تقريره، واجتمعت اللجنة للمرة الثانية في الرابع من سبتمبر ولم تُقدِّم التقارير. زار د. «محمود علي مكي» د. «جابر عصفور» في بيته القريب من بيت د. «شوقي ضيف» رئيس اللجنة، وقال له: يا جابر أنا موفد إليك من د. شوقي ضيف. وهو كتب تقريرًا سلبيًّا، ويرفض الترقية. ولأنك رئيس قسم اللغة العربية، أرسلني آخذ رأيك ورد فِعلك على التقرير سرًّا؛ لمعرفته بصداقتنا وأنت عارف مكانته، وهو عايز يحافظ على صورته في القسم. وأنا اختلفت معاه، وحاولت إقناعه بأحقية نصر.
قرأ جابر التقرير.
ضرب مصرَ زلزالٌ في الثاني عشر من أكتوبر اثنين وتسعين، خمسة وتسعة من عشرة بمِقياس ريختر، تُوفي على أثره مئات الأشخاص والجرحى في القاهرة فانهارت عقارات. وتمَّت عملية قتل سائح بريطاني في ديروط على يد الجماعة الإسلامية في الحادي والعشرين من أكتوبر، بعدها بأيام في الثاني والعشرين من أكتوبر، تنحَّى د. «شوقي ضيف» من لجنة التقييم، وطلب إعفاءه لأن الإنتاج غزير ومُتشعِّب، لا تُسعِفه عليه ظروفه الصحية، ووضع مكانه د. «عبد الصبور شاهين» في لجنة قراءة وتقييم أعمال «نصر أبو زيد».
•••
أمام مبنى البنك الأهلي في جامعة القاهرة، الْتقيتُ وجهًا لوجه ﺑ د. «عبد الصبور شاهين»، فحيَّيتُه، وأظهر أنه لا يعرفني، فقدَّمتُ له نفسي، ودخلنا إلى البنك، وفي طريق خروجه نادى عليَّ: «يا دكتور نصر، أنا عايزك لو سمحت في موضوع.» تركت مكاني في الصف وذهبت إليه وهو خارج من البنك في اتجاه سيارته، وبين الحين والآخر يتقدم أحد المُريدين مُقبِّلًا يده، وهو يستغفر الله مُبتسِمًا، فقال: يا دكتور نصر، إذا أردنا أن نُرقِّيَك إلى أستاذ، فعلى أي تخصُّص تكون ترقيتك؟
– هذا يتوقف على هل هو المعيار القديم لتصنيف التخصصات، أم المعيار الحديث الذي لا يضع فواصل عازلة ويفتح المجال للتخصصات البينية.
– وضح أكثر لو سمحت.
– بالمعيار الكلاسيكي، فتَخصُّصي هو الدراسات الإسلامية.
– تقصد الفلسفة الإسلامية؟
– بل كل ما يُحيط بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية من تراثٍ تفسيري يدخل تحت مفهوم الدراسات الإسلامية بالمعنى المتعارف عليه، في التصنيف الكلاسيكي المأخوذ به في الجامعات العربية.
– وما هو التصنيف الحديث؟
– تَخصُّصي يكون علم تحليل الخطاب.
– أنا شاكر لك.
•••
اجتمعت اللجنة الدائمة اجتماعها الرابع يوم الخميس، الثالث من ديسمبر، بعد سبعة أشهُر من تَقدُّم «نصر أبو زيد» لها، مما يُخالف القانون. وقد رقَّت اللجنة كثيرين تقدَّموا معه وبعده؛ فقدَّم د. «محمود علي مكي» تقريره عن الأعمال، وختمه: «نرى أن إنتاجه كافٍ، يُؤهِّله للترقية إلى درجة أستاذ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة.» وتقرير د. «عوني عبد الرءوف» عن أعمال «نصر أبو زيد» ختمه ﺑ: «تَرْقى به للحصول على درجة أستاذ، والله المُوفِّق وبه نستعين.» ثم تقرير د. «عبد الصبور شاهين» الذي ختمه: «الإنتاج المُقدَّم لا يَرقى إلى درجة أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. والله ولي التوفيق.» وقبِلَت اللجنة تقرير د. شاهين بفارق صوت واحد، في الغالب صوت د. «شوقي ضيف». واعترض د. «سيد النساج» بشدة على رفض تقريرَين لعالِمَين جليلين يُوصون بالترقية، وقَبول رأي تقرير واحد، وانسحب من اللجنة. وكان التقليد أن يُوقِّع كل الحضور على التقرير الذي اختارته الأغلبية، فوقَّع الجميع بشرط شطب كل العبارات التي تتعرَّض لعقيدة الباحث أو مهاجمة أفكاره، وأن يُعاد كتابة التقرير.
اجتمع مجلس قسم اللغة العربية بآداب القاهرة في اجتماعٍ طارئ، بعد أربعة أيام من تصويت اللجنة العلمية الدائمة، يوم الإثنين السابع من ديسمبر، لمناقشة التقرير على مستوى الأساتذة بعددٍ مُماثل لأعضاء اللجنة الدائمة، فحضر الدكاترة «يوسف عبد القادر خليف»، و«محمود علي مكي»، و«نبيلة هانم إبراهيم»، و«سيد حنفي حسنين»، و«محمود فهمي حجازي»، و«أحمد علي مرسي»، و«جابر عصفور»، و«طه وادي»، و«شوقي رياض»، و«عبد الله التطاوي»، و«أحمد شمس الدين الحجاجي»، و«سليمان العطار». ومنهم أربعة أعضاء في اللجنة العلمية الدائمة للترقيات. ولم يحضر الدكتور «شوقي ضيف» الاجتماع. رفض مجلس أساتذة قسم اللغة العربية بإجماع الحاضرين تقرير اللجنة لمخالفته التقاليد العلمية، وأعدُّوا تقريرًا للرد اشترك في إعداده د. «محمود مكي»، ود. «جابر عصفور» ود. «نصر أبو زيد». وسجَّل المجلس التقدير للإنجاز العلمي الذي ينطوي عليه الإنتاج المُقدَّم من الدكتور «نصر حامد أبو زيد»، وبإجماع الحاضرين، إنتاجًا جديرًا بأن يرقى بصاحبه كمًّا وكيفًا إلى درجة أستاذ في القسم، وأرسل رئيس القسم قرار مجلس أساتذة القسم وتقريره العلمي إلى مجلس الكلية، يوم الأربعاء التاسع من ديسمبر. اجتمع مجلس كلية آداب القاهرة في التاسع عشر من ديسمبر، وقرَّر تشكيل لجنة من «أ.د. مصطفى سويف، أ.د. عبد العزيز حمودة، أ.د. حسن حنفي، أ.د. جابر عصفور». وكتبت اللجنة تقريرها حول الموضوع، فنقدت تقرير د. «عبد الصبور شاهين»، ورفعت الأمر لمجلس الكلية في اجتماعه يوم التاسع عشر من فبراير، ووافق مجلس الكلية بالإجماع على التقرير؛ لينتقل الأمر إلى مجلس الجامعة.
٢
كتبتُ تقديمًا للطبعة العربية لكتاب الكاتب الفرنسي فرانسوا بورجا، الذي صدر بالفرنسية سنة تسع وثمانين، ونُشِر بالعربي بعنوان «الإسلام السياسي صوت الجنوب»، ونُشِر تقديمي في مجلة العربي الكويتية كمقال في شهر أكتوبر اثنين وتسعين. عددتُ مُميزات الكتاب من حيادية كمُراقِبٍ غربي إلى حدٍّ كبير، وتركيزه على الظاهرة في المغرب العربي مما يُبين خصوصية الظاهرة في بُلدان المغرب؛ فلم يكن بحثًا في الأيديولوجيا والمفاهيم النظرية، بل الفاعلية السياسية والاجتماعية. واعتماده على شهادات زعماء الحركات؛ مما جعل مادَّته خصبةً لمزيد من البحث. ورده أسباب العنف إلى غياب الديمقراطية الحقيقية في الوطن العربي، وللركود الاقتصادي والاجتماعي. والقارئ للكتاب ينتهي إلى نتيجةٍ مُهمَّة وجوهرية مُدرَجة في ثناياه؛ أن الإسلام في النصوص المقدسة ليس وحده المُولِّد لظاهرة الإسلام السياسي، كما يحلو لزعماء الاتجاهات الإسلامية أن يقولوا، بل الظاهرة مُتولدة عن واقعٍ مُركَّب. لكن الكتاب مكتوب للقارئ الفرنسي، ويدخل في حالة سِجال للمؤلف مع الصورة السائدة في الإعلام الفرنسي من هجوم، فأخذ موقفًا دفاعيًّا مما جعله يتبنَّى كثيرًا من أطروحات الإسلام السياسي، دون فحصٍ دقيق لمدى مطابقة هذه الأطروحات للواقع، مثل علمانية المشروع القومي، وقضية المرأة وعلاقتها بالإسلام السياسي، وأكَّدت أن المرأة التي لا يُعاديها الإسلام السياسي هي المرأة المُنخرِطة في نشاطه والمُندرِجة بزِيِّها وهيئتها ومفاهيمها في أيديولوجيته، لكن ماذا عن المرأة المُتبرِّجة؟
بعد اجتماع طارئ لمجلس قسم اللغة العربية بآداب القاهرة للرد على تقرير «عبد الصبور شاهين» بيوم، كتب الأستاذ «فهمي هويدي» في مقاله الأسبوعي يوم الثلاثاء الثامن من ديسمبر اثنين وتسعين عرضًا لكتاب فرانسوا بورجا، وفي آخر جزء من المقال وجَّه النقد لي دون ذِكر اسمي، يتَّهمني بالحساسية الشديدة إزاء الإسلام ذاته والعداء للظاهرة الإسلامية، وأني رافض لأي فهم وتفاهم، وأعتبر الإسلام تاريخًا أقرب إلى الفولكلور الذي انتهى زمانه، فكتبت ردًّا على إشاراته نشرَته الأهرام بعد شهر ونصف، يوم الأحد الرابع والعشرين من يناير سنة ثلاث وتسعين، بعنوان «خطاب الإسلام السياسي والعنف المستتر»، حلَّلتُ فيه مقال «هويدي»؛ فالتطرف هو أخذ طرف في مواجهة طرف آخر، فكيف أكون ضد الكتاب وأنا من أشرفت على مراجعة ترجمته، وكتبت له تقديم، لكن ليس معنى هذا ألا أُحلِّله نقديًّا. ولم يَذكُر «هويدي» مِيزةً للكتاب لم أذكُرها، لكن خطاب «هويدي» أنه لا يقبل أقلَّ من الاتفاق التام ومن التسليم المُذعِن لأطروحاته دون نقاش؛ فالعنف ظاهر في مقاله، فيَصفني بالحساسية تجاه الإسلام والعداء الشديد للظاهرة الإسلامية، فهو لم يُناقش أيًّا من الأفكار التي اختلفت فيها مع فرانسوا بورجا، مُكتفيًا بالأوصاف المُوهِمة بالانحراف الفكري والزندقة والكفر والإلحاد. وتصوَّرت ذلك لخلفيَّته الأزهرية.
يوم الثلاثاء السادس والعشرين، وفي مقاله الأسبوعي ضمَّن «هويدي» «صندوق مباشر» بعنوان «قضيةٌ مُنعدمة ومصارحةٌ واجبة»، يردُّ على ما كتبتُ واصفًا مقالي بمثابة بلاغ ضدَّه، وذكر تاريخ نشر مقالي خطأً، وقال إنه خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة. وقال عني: «حساسيته إزاء الإسلام ذاته هي التي تحتاج إلى وقفة؛ فالرجل مشغول منذ سنوات بمسألة تأويل النص القرآني التي هي في جوهرها عبثٌ بالنصوص وتعطيل لها، وهو القائل في كتاباتٍ عديدة بتاريخية النص القرآني، وهي فكرةٌ تتعارض في منطقها مع مُقتضى الإيمان الديني. لما قرأت هذا الكلام رثَيتُ للرجل وفهِمتُ لماذا رفضت اللجنة العلمية ترقيته من أستاذ مُساعد إلى أستاذ.»
كتبتُ ردًّا عليه ولم تنشره «الأهرام»، ونُشِر بعد ذلك بثلاثة أشهُر في مجلة «القاهرة» عدد أبريل ثلاثة وتسعين، أشرتُ فيه إلى أن العنف المُستتر الذي حلَّلتُه في خطاب «فهمي هويدي» في مقالي السابق، ها هو يُمارِس إرهابه في العلن، فيَثبُت صِدق تحليلي، لكن لا أقبل منه التلميح المُعرِّض بشأنٍ جامعي لم يَصدُر به قرار ولم يتحول بعدُ إلى أن يكون شأنًا عامًّا، وهو تلميحٌ أخطر ما فيه السعيُ إلى التأثير في القرار بسلطة الإعلام المُخوَّلة له وبالصفحة الأسبوعية التي يستخدمها هنا استخدامًا شخصيًّا، ويعلم «هويدي» جيدًا — كما تعلم المصادر التي زوَّدَته بالمعلومة — أن القرار النهائي كان وما زال هو قرار الجامعة، و«ما هكذا يا سعدُ تُورَد الإبل».
•••
تناولت جانبًا آخر في الخطاب الديني المعاصر، وهو بُعدُ المرأة. وكتبتُ دراسةً نُشِرت في مجلة «القاهرة»، فبراير ثلاثة وتسعين، تحت عنوان «المرأة؛ البُعد المفقود في الخطاب الديني المعاصر»؛ فالخطاب العربي انتقل من خطاب نهضة إلى خطاب أزمة، والحلول المطروحة للخروج من هذه الأزمة تتركز كلها حول التراث الذي ارتبط بجوهر الإسلام، فيذهب السلفيون إلى أن الإسلام هو الحل، ويذهب الإبستمولوجيون إلى أن القطيعة مع التراث هي الحل، والتجديديون يذهبون إلى أن تجديد التراث هو الحل. والحديث عن قضايا المرأة في مَعزل عن سياق الواقع العام يؤدي للحديث عن الأنثى بما يستدعي المقارنة بينها وبين الذكر، وتدخل المناقشة كلها في إطار المفاهيم البيولوجية وما يترتب عليها من فروقٍ عقلية وذهنية وعصبية، وهو الإطار العام الذي يتحرك فيه الخطاب الديني. ولأنه خطاب أزمة فإنه يلجأ إلى أضعف الحلقات الاجتماعية سعيًا لنفي الإنسان، ويتعامل مع المرأة تعامله مع الأقليات الدينية بحبسهم في سجن مفهوم أهل الذمة، وولاية المسلم على الذمي، المُساوي لمفهوم ولاية الرجل أو قوامة الرجل على المرأة. وعملية الحضور الظاهري للمرأة في الخطاب الديني هي حضور يُؤكِّد الفقد؛ لأنه حضورٌ مُرتهَن بالنفي.
٣
إن موقف مجلس قسم اللغة العربية بأساتذته وتقريرهم أعتبره قد منحني درجة الأستاذية بجدارة، وما قرار مجلس الجامعة إلا قرارٌ إداري لا يتجاوز رفع راتبي بما قيمته وجبةٌ واحدة لأسرة، لكن القضية هي حلم الجامعة الذي كافحتُ من أجله، فهل تُوافق جامعة القاهرة بتراثها وتقاليدها وتاريخها على تقريرِ تكفير لا صلة له بتقييمٍ علمي ولا تحليلٍ أكاديمي. ولو كان أستاذي د. «عبد المحسن طه بدر» — رحمه الله — موجودًا ما حدث هذا.
دعاني د. «مأمون سلامة»، رئيس الجامعة المشهور بورعه ومجاورته الدائمة لمقام السيدة نفيسة، يوم الإثنين الأول من شهر رمضان، الثاني والعشرين من فبراير ثلاثة وتسعين. وبدأت عملية المُواءَمة؛ فكل تفكيره مُنحصِر في الترقية والتقدم مرةً أخرى. وفي حموة الحديث تساءل رئيس الجامعة: «إيه علاقة قسم اللغة العربية ﺑ «الإمام الشافعي»؟ عملكم هو دراسة اللغة والأدب فقط، فلماذا تكتب كتابًا عن «الإمام الشافعي»؟!» دارَ في فكري كيف لأستاذٍ دكتور رئيس جامعة أن يتصور أن «الإمام الشافعي» مجرد فقيه لا يدرسه إلا مُتخصِّصو الشريعة، لكن صديقي د. «أحمد مرسي» حاوَل أن يشرح لرئيس الجامعة قائلًا: «شُغلُ قسم اللغة العربية الأساسي هو تحليل الكلام، وما كتبه «الإمام الشافعي» كلامٌ يهمُّنا تحليله، وهذا التحليل يندرج تحت مفهوم علم تحليل الخطاب، وهذا لا يتعارض مع دراسات من زوايا أخرى لنفس الكلام.»
ونائبه لشئون الدراسات العليا د. «محمد الجوهري»، بمرحه ومزاحه الدائم، يرى أن الخطر عليَّ كامنٌ في موافقة الجامعة على الترقية. «وما الفائدة إذا تمَّت ترقيتك ثم اغتالك واحد من إياهم؟ هتنتهي المسألة بجنازة شعبية ومسيرات تُندِّد بالإرهاب وتصبح بطلًا شهيدًا لفترة من الفترات وتُخلِّدك الأغاني والشعارات … إلخ.» وخرجَت منه قهقته العالية، لكن ما لم يُدرِكه رئيس الجامعة ونائبه أن موافقة الجامعة على تقرير التكفير سيُعطي للقتَلة فرصةً ذهبية للذبح الشرعي.
بدأت وزارة الثقافة في إصدار كُتيِّبات صغيرة رخيصة الثمن باسم «المواجهة»، تنشر فيها تراث مُفكري التنوير، فنشرَت «الإسلام وأصول الحُكم» ﻟ «علي عبد الرازق»، وكتبًا ﻟ «طه حسين ومحمد عبده وسلامة موسى»؛ مما أعطى لكثير من الكُتاب المُنتمين للتيَّارات الإسلامية مُبرِّرًا للهجوم على هذه الكتب. وانتُدب «جابر عصفور» ليرأس المجلس الأعلى للثقافة. وحدث انفجارٌ أمام مقهى «وادي النيل» في ميدان التحرير بقلب القاهرة، وتفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك في نفس اليوم. كانت أنباء قد تسرَّبَت عن وساطة الشيخ «محمد متولي الشعراوي» بين وزارة الداخلية وأعضاء جماعات العنف الدينية المُسلَّحة، وأنه قد الْتَقى «عبُّود الزُّمر»، المُقدِّم بالمخابرات الحربية والمسجون في عملية اغتيال «السادات»، في ديسمبر الماضي، في مصلحة السجون بشارع الجلاء بوسط القاهرة. وهو اللقاء الذي يُتابعه اللواء عبد الحليم موسى، وزير الداخلية، المشهور بشيخ العرب، ومن مُريدي مقام السيدة نفيسة أيضًا.
كتبت مقالًا لجريدة «الأهرام» نشرَته يوم الإثنين الثامن من مارس، بعنوان «الجامعة بين الحِفاظ على الثوابت وتحقيق الإبداع»، أُوضِّح فيه أنه لا سبيل أمامنا جميعًا لتجاوز أزمتنا الراهنة إلا بنظامٍ تعليمي قادر على تنمية قدرات الفرد الذهنية والعقلية بل والخيالية أيضًا، وتنمية حواسه التذوقية للآداب والفنون، وإشاعة مناخ الحرية في الثقافة والمجتمع، وليست الحرية السياسية فقط كحرية التصويت وإنشاء الأحزاب وإصدار الصحف، بل حرية التفكير والنقاش والبحث والحوار دون شروط مُسبَّقة، ودون أهداف بعينها يسعى الباحث أو المفكر للوصول إليها. والجامعة هي نقطة البدء والختام، يشيع ذلك في جنَباتها وداخل قاعاتها، فتعكسه في مرآة المجتمع. وفي نفس يوم نشر المقال، كان أول اجتماع لقسم اللغة العربية برئاسة الصديق العزيز «أحمد مرسي»، بعد رئاسة «جابر» للمجلس الأعلى للثقافة. خرجت من الاجتماع لطلب الدكتور «حسن حنفي» لي في شيءٍ مهم، وكان صارم الوجه، وقال: كانت هناك اجتماعات ومشاورات، ليس مهمًّا أن تعرف تفاصيلها، المهم هو ما أفضَت إليه من نتائج.
– كُلِّي آذانٌ مُصغِية.
– أمامك ثلاثة اختيارات؛ الأول تكتب شكوى إلى رئيس الجامعة في الاتهامات التي يتضمنها التقرير، ويقوم هو بدوره بتحويل المسألة للتحقيق.
– سبق ورفضتُ اقتراح الدكتور «مأمون سلامة» دا في لقائي به من أسبوعين. هو إيه موضوع التحقيق إلا أني أحاول أن أثبت أو أنفي الاتهامات، وكأننا في محاكم تفتيش، وأنا أرفض ذلك داخل الجامعة.
– الحل الثاني، نظرًا لموقف كلية «دار العلوم» المُتشدِّد، وتهديد رجالها بتحريض الطلاب، نرى من الأفضل أن يكون القرار بعدم الترقية مع وعدٍ أكيد من رئيس الجامعة ومن رجال دار العلوم أن تُرقَّى المرة القادمة.
– وما الضامن ألا يحدث مِثل ما حدث الآن؟
– كلمة شرف.
– كلمة شرف؟! أنا لا أثق في أيٍّ منهم.
– يُوقِّع رئيس الجامعة على قرار ترقية بتاريخٍ قادم، يكون ضمانه أن أضعه في جيبي.
– وما الاختيار الثالث؟
ازدادت علامات الصرامة مشفوعةً بالأسى والإحساس بالخطر على وجه الدكتور «حسن حنفي»، وقال: الرفض والمقاومة وترك الموضوع للرأي العام يكتب ما يشاء، لكن عليك أن تكون مُدرِكًا للعواقب الوخيمة التي يمكن أن تَحدُث.
•••
تم حجزُ الموضوع في الأدراج حتى اجتماع طارئ لمجلس الجامعة يوم الخميس الثامن عشر من مارس ثلاثة وتسعين، بسبب استيلاء الحكومة السودانية على فرع جامعة القاهرة بالخرطوم بمُعَدَّاته، وطرد الأساتذة والعاملين، ووضع موضوع ترقية «نصر أبو زيد» تحت بندِ ما يستجدُّ من أعمال، وتم عرض موضوعات مُشابهة من حيث الشكل، وتم التنبيه على أن مسألة مخالفة قرارات اللجان العلمية أصبحت ظاهرةً في قرارات الجامعة، ويجب عدم إهدار تقارير اللجان العلمية. وعُرِض موضوع «أبو زيد» وأعضاء المجلس مُنهَكون، وقد غادَر الكثير منهم الاجتماع لانتهاء الموضوع الأساسي، فينتبه أحد العُمداء ويقول: إن هذا الموضوع ليس كالموضوعات السابقة، وعلينا أن نتريَّث للاطلاع على الأوراق، لكن الإدارة تُذكِّر بالقاعدة التي وضعتُها منذ دقائق، وتتم الموافقة على تقرير «عبد الصبور شاهين» بعدم الترقية، فقرَّر د. «نصر» رفع قضية على الجامعة أمام القضاء الإداري في نفس اليوم.
•••
يوم الإثنين الثاني والعشرين من مارس، الْتَقاني عميد كلية الآداب د. «حسنين ربيع»، ووكيلاه «د. حمدي إبراهيم، ود. محمود فهمي حجازي»، لإقناعي ببساطة الأمر، وأنه يجب أن أُجهِّز أوراقي للتقدم للترقية مرةً ثانيةً خلال أشهُر قليلة، فلا أحتاج للانتظار عامًا، لتأخُّر اللجنة ستة أشهُر في تقديم تقريرها، وأخبرني بأسفٍ رئيسُ الجامعة حِرصه على أن يُتابع بنفسه مسألة حصولي على الترقية في الدورة الثانية، حتى أستاذي د. «شوقي ضيف» مُقرِّر اللجنة، حينما تقابلنا قال: لماذا لا تتقدم للترقية مرةً أخرى يا دكتور «نصر»؟ ابتسمت وقلت: «إن شاء الله.»
٤
منذ أن أشار «فهمي هويدي» إلى تقرير اللجنة على صفحات جريدة «الأهرام» — قبل قرار الجامعة بشهر ونصف — فإنه جذب الأنظار إلى الموضوع؛ فما إن صدر قرار مجلس الجامعة في اجتماعه الطارئ إلا وقد كتب «هويدي»، يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من مارس، يتصدَّى لدعوةٍ أطلقها البعض بتشكيل جبهة وطنية تحت تأثير العمليات الإرهابية، واعتبرها تحالفًا علمانيًّا في مواجهة المد الإسلامي الراهن؛ مما سيُكرِّس الحرب الأهلية الدائرة بين العلمانيين والإسلاميين. واقترح خلق مناطق فكرية آمنة لا يتناولها البحث والنقاش. كتبَت مجلة «روز اليوسف» خبرَ حَجبِ الترقية يوم الإثنين التاسع والعشرين من مارس، تبعَته جريدة «الأخبار» بتقريرٍ صحفي كتبَته «عبلة الرويني» بعنوان «أزمة في جامعة القاهرة» يوم الأربعاء، وكتب «جمال الغيطاني» عموده «مسألة د. نصر»، و«فريدة النقاش» في جريدة الأهالي «الإرهاب يُكفِّر أستاذًا»، و«غالي شكري» في مقاله الأسبوعي بالأهرام «قضية نصر أبو زيد». ويوم الجمعة الثاني من أبريل، صدرت مجلة «المصور» بتحقيق ﻟ «حلمي النمنم» «معركة في جامعة القاهرة حول ترقية أبو زيد». وفي خطبته الأسبوعية بجامع «عمرو بن العاص» — أول مساجد أفريقيا — تطرَّق الشيخ د. «عبد الصبور شاهين» والأستاذ ﺑ «دار العلوم»، وعضو اللجنة الدائمة للترقيات، وصاحب التقرير، وعضو اللجنة الدينية بالحزب الوطني الديمقراطي، والاستشاري السابق لمجموعة «الريان» لتوظيف الأموال؛ إلى القضية. وفي المساء بأتيليه القاهرة نُوقِش كتاب «نصر أبو زيد» «نقد الخطاب الديني»، ناقَشه «د. فؤاد زكريا، ود. جابر عصفور».
يوم الأحد الرابع من أبريل الثانية ظهرًا، اجتمعت لجنة الوساطة بين وزارة الداخلية وأعضاء الجماعات الإسلامية المُتطرِّفة، والْتقَت وزير الداخلية اللواء عبد الحليم موسى، الذي وافَق على الوساطة بشرط ألا تتم بشكلٍ مباشر، وتم تكليف مُدير مباحث أمن الدولة بالمتابعة، وتكوَّن مجلسٌ تنفيذي كان من أعضائه د. «عبد الصبور شاهين»، والكاتب «فهمي هويدي»، ووعد الوزير في النظر في طلب اللجنة بالإفراج عن المُعتقَلين الذين لم تصدر بشأنهم أحكامٌ قضائية. وذكر «إبراهيم عيسى» فيما بعدُ أن «شاهين» قال: «إنه لا يخشى من إرهاب الشباب المُتديِّن بقدرِ ما يخشى من إرهاب نصر حامد أبو زيد وروجيه جارودي.» مما ضايَق بعض أعضاء اللجنة، فتصدَّى له «فهمي هويدي» مُعلِّقًا: «ليس هذا موضوعنا يا دكتور، خلينا في موضوعنا الأهم.»
يوم الإثنين نشرت مجلة روز اليوسف تقريرًا لوائل قنديل، ذكر فيه د. شاهين «أن تلك القضية لو تحوَّلت إلى النائب العام، فربما يصبح مستقبل نصر أبو زيد مُهدَّدًا بالضياع». وأشار التقرير إلى الحكم القضائي في حق د. رمضان عبد التواب عضو اللجنة العلمية للترقيات، والتي أقرَّت بسرقاته العلمية، وأشارت إلى د. «مصطفى هدَّارة» عضو نفس اللجنة، والذي أرسل رسالةً شهيرة لرئيس الجمهورية بمثابة بلاغ ضد المُثقَّفين الذين تولَّوا رئاسة تحرير المجلات الثقافية العام الماضي. وفي نفس العدد نشر د. فاروق عبد القادر مقالًا طويلًا بعنوان «تكفير الأساتذة في جامعة القاهرة».
يوم الثلاثاء السادس من أبريل، صدرت جريدة «الشعب»، المُتحدِّثة بِاسم حزب العمل الإسلامي، بمقال ﻟ «ليلى عنان» تُدافِع فيه عن التقرير، ومجلة «عقيدتي» الجديدة التي تَصدُر عن دار التحرير تُدافِع عن التقرير، و«جمال بدوي» رئيس تحرير جريدة «الوفد» المعارضة، يُشكِّك في عملية التضخيم للموضوع، ونشر «حازم هاشم» تقريره بعنوان «المغضوب عليهم في الجامعة»، وفي جريدة المساء كتبت «عزة شلبي» «لجان الترقيات تحوَّلت إلى محاكم تفتيش»، وفي نفس الجريدة كتب د. «فتحي عبد الفتاح»: إنه بالرغم من حصولهم في الجريدة على كل التقارير إلا أنهم آثروا الانتظار حتى تُصدِر الجامعة قرارها.
يوم الأربعاء، نشرَ «حنفي المحلاوي» حوارًا له مع «عبد الصبور شاهين» بجريدة «الأخبار»، ذكر فيها أن هناك مؤامرةً على الجامعة من إثارة هذا الموضوع، وأشار إلى تأييد د. «شوقي ضيف» لتقريره، وأن صوته بصوتَين، وأن الذين يتحدَّثون في الموضوع ليس لهم علاقة بالإسلام، وأن سبب الضجَّة هو علاقة د. «نصر» بالإعلام. وردَّ عليه «جمال الغيطاني» في عموده بعنوان «على هامش الحوار». وفي جريدة الأهرام كتبَ «أحمد عبد المعطي حجازي» مقاله الأسبوعي بعنوان «لكن جهلتَ فقلتَ إن جميع من يهوى خلافَ هواك ليس بعالم». وكتب «لطفي الخولي» مقالًا صفحةً كاملةً «كُتاب سيدنا أو جامعة القاهرة»، عرض للقضية وقرَّر فتح صفحة الحوار القومي الأسبوعية التي يُشرِف على تحريرها بالجريدة لتناول القضية، وسيبدأ بنشر التقارير الثلاثة للجنة القراءة وتقرير مجلس القسم وتقرير مجلس الكلية، وبعدها يفتح الباب للتعليقات. وفي جريدة «الأهالي» كُتِب تقريرٌ صحفي بعنوان «الإرهاب يُهدِّد أكبر قِلاع الفكر في مصر». وكتب د. «إسماعيل صبري عبد الله» في جريدة «الأهالي» مقال «الإرهاب الفكري». ويوم الخميس خرج مجموعة من المُثقَّفين في تظاهرةٍ ضد الإرهاب أثناء إعادة افتتاح مقهى وادي النيل بميدان التحرير الذي فُجِّر بعملٍ إرهابي.
يوم الجمعة في حديثٍ صحفي بمجلة «المصور»، كشف وزير الداخلية «عبد الحليم موسى» عن اسم «عبد الصبور شاهين» كأحد من اشتركوا في الوساطة. ويوم السبت كتب د. «مصطفى محمود» بجريدة «الأهرام» تحت عنوان «مع عبد الصبور شاهين»، يُؤيِّده ضد هياج الصحافة، وضد قبيلة الشيوعيين القدامى الذين انتهت دولتهم، ولم تبقَ لهم إلا راية العلمانية يتجمَّعون تحتها وخيمة الإلحاد يتظلَّلونها، هاجوا وماجوا وملَئوا الصحف ضجيجًا وعجيجًا، وكعادتهم خلطوا الأوراق واتَّهموا اللجنة واتَّهموا «عبد الصبور شاهين» بالإرهاب. وهاجَم «مصطفى محمود» شباب الجماعات الإسلامية الذين أسماهم «المُجرِمون الذين يُلقون القنابل بالفعل ويُخرِّبون البلاد ويقتلون العباد ويردُّون على الكلمة بالقنبلة.» ورفض دعاوى الحوار معهم. وما يفعلونه هو «الحرابة» وعقوبتها الإعدام. وكأنه يضع «أبو زيد» وشباب الجماعات الإسلامية معًا.
يوم الأحد الحادي عشر من أبريل، كتبَت جريدة الصحافة التونسية تقريرًا عن الموضوع، «هل كان الدين مُعاديًا للعقل؟» يوم الإثنين كتب «مصطفى أمين» في مُفكرته عن الموضوع، و«ثروت أباظة» في مقاله الأسبوعي بالأهرام ينتقد «أبو زيد». يوم الثلاثاء كتب «محمود الورداني» بجريدة الحياة الصادرة من لندن «في قضية حامد أبو زيد». ونشرت جريدة الشعب كاريكاتير لشخصٍ مكتوب عليه «نصر أبو زيد» يُمسِك بخنجرٍ يغرزه في المصحف فتسيل منه الدماء، وعلى اليسار امرأةٌ مُحجَّبة ذات ملامح هادئة، وفي الوسط شخصٌ مُزدوِج الوجه؛ وجهٌ ينظر إلى اليمين قائلًا حرية الرأي، ووجهٌ آخر ينظر إلى اليسار عابثٌ ينظر إلى المرأة المُحجَّبة ويقول تَطرُّف. وهذا الشخص مزدوج الوجه مكتوبٌ عليه العلمانيون. وبالصفحة الثانية التقريرُ الذي كتبه د. «محمد بلتاجي» أستاذ الفقه وأصوله عن كتابي «الإمام الشافعي»، فقط بدعوى أن هذا تَخصُّصه، مُعتقدًا أن كتابي كتاب في الفقه وأصوله.
يوم الأربعاء نشرت جريدة «الأهالي» تقريرًا صحفيًّا بعنوان «الجامعة تتحول من منارة للعلم إلى إدارة موظفين»، ومقال «فريدة النقاش» «الارتزاق بالدين» تنتقد ركاكة لغة «عبد الصبور شاهين»، ومقالًا طويلًا للدكتور «محمد أحمد خلف الله» الذي تعرَّض هو نفسه لنفس موقف «أبو زيد» في الأربعينيات بعنوان «جامعة القاهرة والتقارير العلمية الوهمية»، يُحلِّل بالتفصيل ويردُّ على تقرير «عبد الصبور شاهين». ونشرت جريدة «الأخبار» حوار «عبلة الرويني» مع د. «محمود علي مكي»، صاحب أحد التقريرَين المؤيدين لأحقية «نصر أبو زيد» في الترقية، نُشِر الحوار بعنوان «لهذا وافقت ولهذا تراجعت»، ذكر أنه جرَت العادة أن يُوقِّع كل أعضاء اللجنة على التقرير الذي ينال الأغلبية؛ ولذلك وضع توقيعه على التقرير، مع الاشتراط بحذف عبارات كثيرة في التقرير، وأنه يسحب توقيعه. وكتب «جمال الغيطاني» عموده بعنوان في صميم المسألة. وبدأت صفحة الحوار القومي بجريدة «الأهرام» في نشر التقارير العلمية أسبوعيًّا.
الخميس الخامس عشر من أبريل، نشرت مجلة «صباح الخير»، جامعة الطرابيش، ﻟ «محمد الرفاعي»، ومجلة «القاهرة» في عدد شهر أبريل مِلفَّ «تقرير جامعي يُخفي وجه نصر أبو زيد وراء قناع سلمان رشدي»، تضمَّن تقرير د. «محمود علي مكي» وتقرير د. «عوني عبد الرءوف»، وتقرير د. «عبد الصبور شاهين»، وتقرير مجلس قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وتقرير مجلس كلية الآداب، ونص تصريحات «شاهين» في جامع «عمرو بن العاص» يوم الجمعة إثنين أبريل. يوم الجمعة نشرت جريدة «الشعب» تقرير د. محمد بلتاجي عميد «دار العلوم»، الذي قدَّمه لرئيس الجامعة عن كتاب «الإمام الشافعي» ﻟ «نصر أبو زيد» وانتقاده للكتاب، اعتمادًا على ما ذكره د. «عبد الصبور شاهين» في تقريره عن كتاب «الإمام الشافعي» فقط؛ لأن تَخصُّصه هو الفقه. وأضاف إلى ذلك جهل «أبو زيد» بأبسط الأمور؛ لأنه لا يعرف أن «الشافعي» وُلِد بعد زوال حكم بني أمية؛ لأن النسخة التي اعتمد عليها لم يكن بها تصويب الأخطاء الذي قدَّمه «أبو زيد» للجنة الترقيات. إن «أبو زيد» يدعو للتحرر من سلطة النصوص التي تعني الكفر بما فيها من أحكام، والعداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة، والجهالات المُتراكبة بموضوع الكتاب الفقهي.
يوم الأحد تم إقالة شيخ العرب اللواء «عبد الحليم موسى» وزير الداخلية من منصبه بسبب الوساطة التي حاوَلها بين الدولة والجماعات الإسلامية المُتطرِّفة، وتم تعيين اللواء «حسن الألفي» وزيرًا للداخلية؛ مما يُشير إلى رفض الدولة سياسة الوساطة والمهادنة مع التطرف والعنف المُسلَّح، ففشلت وساطة الوزير مع الجماعات، كما فشلت وساطة رئيس الجامعة مع «أبو زيد» من قبل. يوم الثلاثاء بجريدة «الأهرام»، كتب «فهمي هويدي» «حَذارِ من النار»، انتقد خروج موضوع ترقية «نصر أبو زيد» خارج إطار الجامعة، «وخارج اللجان العلمية، والمداولات أو التقارير التي يُفترض أن تُحاط بقدر من السِّرية». و«في مسلكٍ غير مسبوق في الأوساط العلمية المصرية أُقحمَ الرأي العام»، وقال: «نُقرِّر بوضوحٍ أن العبث بالنصوص الشرعية المُتمثِّلة في القرآن والسنة على وجه التحديد ينبغي أن يظلَّ بمنأًى عن الذين يتذرَّعون بحرية التعبير أو البحث، ويُروِّجون لدعاوى تستهدف تعطيل النصوص وإجهاضها بِاسم تاريخية النص أو نِسبية الأحكام الشرعية أو غير ذلك من مداخل العُدوان على عقيدة المجتمع وضميره.» وصدَّرَت «مجلة أدب ونقد» في عدد مايو مِلفَّ عنوانِ «تكفير عالِم، قضية د. نصر أبو زيد والإرهاب الفكري في الجامعة»، مُتضمِّنًا حوارًا لي أجراه محمد حسين، نُشِر بعنوان «فهم النص بالحياة لا فهم الحياة بالنص». وكتب «الشيخ الغزالي» مُعتمدًا على ما كتب «مصطفى محمود»، مُنتقدًا «أبو زيد»، وأسماه الكُوَيفِر في جريدة «الشعب» في الرابع من مايو.
٥
استكمالًا لمناقشة قضية المرأة كبُعدٍ مفقود في الخطاب الديني، نشرتُ في شهر مايو بمجلة «أدب ونقد» دراسةً بعنوان «المرأة في المجتمع، جِراح اللغة وجِراح الهُويَّة»، حاولت العودة فيها إلى بنية اللغة العربية ذاتها في التعامل مع المرأة؛ فهي تُفرِّق بين الاسم العربي والاسم غير العربي الأعجمي بعلامة النون الصوتية التي تلحق نهاية الأسماء العربية عند النطق، وهذا لا يَحدُث مع الأسماء الأعجمية. وكلمة العجم ذاتها تُعطي العرب ولغتهم مكانة التفوق وما سواها بمثابة العجماوات التي لا تُفصح ولا تنطق. هناك تحيزٌ آخر ينبع منه التفرقة بين الاسم المُذكَّر والمُؤنَّث، فتُساوي اللغة بين الاسم المؤنث والاسم الأعجمي؛ فبالإضافة إلى تمييزه عن الاسم المذكر بتاء التأنيث يمنع التنوين عن الاسم العلم المؤنث؛ فاللغة في بِنْيتها تُمارِس نوعًا من التفرقة الطائفية، ليس ضد غير العرب فقط بل ضد الأنثى كذلك. وهذه النظرة لها امتدادها من اللغة إلى الخطاب المعاصر السائد؛ فتُعامَل المرأة معاملة الأقليات من خلال الإصرار على حاجتها للدخول تحت حماية ونُفوذ الرجل. فالمذكر هو الأصل الفاعل، والمؤنث فرع ولا فاعلية له؛ فإذا كان ضِمن جمع من النساء رجلٌ واحد يُشار إلى الجمع بصيغة المذكر دون المؤنث. واللغة العربية من اللغات التي ليس بها أسماء مُحايِدة، ليست مذكرًا ولا مؤنثًا، كما الشأن في بعض اللغات.
وقد جاءت لغة شعراء الصعاليك ولغة القرآن تخرج عن هذه التقاليد اللغوية، فخاطَب القرآن النساء مباشرةً كما خاطَب الرجال. ولنفهم القرآن يجب أن ننظر لما كان قبله لمعرفة مدى التغيير الذي أدخله على استعمال بنية اللغة، فجرح الهوية الذي تعرَّضت له الذات العربية الرجولية من الهزائم والتراجعات، وإحساسها بالعار والخجل، فلم تجد دواءها حتى الآن إلا باللجوء إلى الماضي، إلى الهوية الأصلية، إلى الرجولة. وحدث التشرذم بعيدًا عن الوحدة، واستيقظت الطائفية بديلًا عن القومية، وحل الانتماء للدين محل الانتماء للوطن؛ فأفرخ الثلاثة الإرهاب والعنف على جميع المستويات، المسلم ضد المسيحي والمسيحي ضد المسلم، والسني ضد الشيعي والعكس، والرجل ضد المرأة لتُقمَع في دارها، تخدم الزوج وتكنس البيت وتُربِّي الأولاد منعًا لوجع الدماغ.
تقدَّم المُحامي «محمد صميدة عبد الصمد»، وهو مستشارٌ سابق بمجلس الدولة، ومجموعةٌ من المُحامين «عبد الفتاح عبد السلام الشاهد، وأحمد عبد الفتاح أحمد، وهشام مصطفى حمزة، وأسامة السيد بيومي، وعبد المطلب محمد أحمد، والمرسي المرسي الحميدي»، من مكتب «محمد صميدة عبد الصمد»، ثلاثة وثلاثين بشارع جامعة الدول العربية بالمهندسين بالجيزة مقرًّا لهم، برفع دعوى حسبة للتفريق بين د. نصر أبو زيد وزوجته د. ابتهال يونس، بدعوى أنه خارج عن الإسلام ولا يجوز زواجه من مسلمة أو غير مسلمة، إلى محكمة الجيزة الابتدائية، دائرة الأحوال الشخصية، يوم الإثنين السابع عشر من مايو ثلاثة وتسعين.
كتبتُ دراسةً نُشِرت ضِمن كتاب عن المرأة بعنوان «هاجر»، نشرَته دار «سينا» للنشر سنة ثلاث وتسعين عن «المرأة والأحوال الشخصية نموذج الخطاب التشريعي التونسي»، تناولت فيه النقاط الخلافية التي يُناقشها التيَّار الديني المعاصر ضد بنود قانون الأحوال الشخصية الخاصة بالمرأة في القانون التونسي؛ إلى أي مدًى بَعُد القانون عن اجتهادات فقهاء المسلمين في مجال الشريعة؟ فعند تناول النواحي النصية والفقهية والمنطقية، بصرف النظر عن نوايا المُشرِّع التونسي وعن مقاصده، هل كانت علمانية أو إسلامية؛ فمثلًا مسألة منع تعدد الزوجات، النصُّ القرآني فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. فالخطاب الديني يُركِّز على القسم الأول من الآية، ويتغاضى عن نكاح ملكة اليمين؛ لأن هذا الجزء الثاني كاشف عن هجرة الواقع والمجتمع لنظام الإماء؛ مما يُشير إلى ارتباط النص بنظامٍ كان قائمًا وانتهى، وأن العدد أربعة كان نوعًا من التضييق لفوضى امتلاك المرأة في المجتمع العربي قبل الإسلام. وبوضع هذا النص خلال نصوص القرآن الأخرى التي تناولت الموضوع، نجد أن القرآن كان يُقيِّد ممارساتٍ كانت مُتاحة، ويتجه للحد منها وتقييدها بقوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً. ودعوته للعدل، وتصريحه بعدم قدرة الإنسان على العدل ولو حرص، في قوله وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ. وتوصيف مسألة تعدد الزوجات بأنها من المباحات، حسب التقسيم الفقهي القديم لأصناف أحكام الشريعة من واجب يُقابله محظور، ومندوب يُقابله مكروه، وبينهم المباح، يجعلنا نحتاج إلى إعادة النظر في هذه التقسيمات التقليدية؛ فالتغيير الذي يتَّجه إليه القرآن من تقييد للممارسة لا يجعلها في نطاق المباحات. وناقشتُ مسألة الطلاق وحق المرأة في أن تُطلِّق نفسها، وحضانة الأطفال والتبنِّي والميراث، والمغالطة في وسم نظام «بورقيبة» أنه علماني، بالربط بين تصرفاته الشخصية الصِّبيانية وبعض آرائه، والربط الميكانيكي بين العلمانية والإلحاد.
كتبتُ مقالًا نُشِر في مجلة «العربي» الكويتية بمايو ثلاثة وتسعين عن «ابن رشد» (٥٢٠ﻫ/١۱۲٦م–٥٩٥ﻫ/١١٩٨م)، «التأويل والتعددية»، قرأت فيها كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»؛ فابن رشد هو عقلنا المُهاجِر من الثقافة العربية الإسلامية، ونحن في حاجة إلى أن نستقبله بروحٍ جديدة ووعي مُغايِر لذلك الوعي الذي تسبَّب في تهميشه ثم طرده من ثقافتنا؛ فالباحثون الذين اهتمُّوا بابن رشد اهتمُّوا في الغالب بثمار فِكره دون أن يهتمُّوا بالشجر الذي أنتجها؛ فلم يهتمُّوا بآليات تفكيره. وابن رشد يذهب إلى أن حاجتنا إلى الشريعة لا تقلُّ عن احتياجنا للحكمة ولا تزيد؛ لأنهما نهجان مُتمايزان في المعرفة تحتاج إليهما البشرية لتَعدُّد طبائع الناس في اكتساب المعرفة؛ فمن الناس من يكتسب المعرفة بالأقاويل البرهانية اليقينية، وأقاويل الفلسفة، والتفكير النظري التجريدي؛ ومن الناس من يكتفي بالأقاويل الجدلية التي يكتسب بها المعرفة، وهي معرفةٌ ظنية؛ وفريقٌ ثالث لا يَقبَل أقاويل البرهان ولا أقاويل الجدل، ولا يتَّسع طبعه إلا للأقاويل الخطابية، وهي معرفةٌ تمثيلية؛ ولذلك راعت الشرائع السماوية اختلاف طبائع البشر.
هذه التعددية تجعل خطاب الله إلى البشر مُنفتِحًا لآفاق التأويل. وابن رشد يعتمد البرهان أساسًا للتأويل ومعياره ومرجعية للمعنى؛ لأن معرفته يقينية. والتأويل لا بد أن يُوافِق قوانين اللغة العربية في استخدام المجاز ولا يُعارِضها. ومن الباحثين من ركَّز على الشرع عند ابن رشد وأهمل الحكمة، ومن ركَّز على الحكمة وأهمل الشرع، لكن كتابه عن العلاقة بين البرهان — وهو أساس التأويل — والشرع يُشير إلى ثلاثة احتمالات؛ أولها: أن يصل البرهان إلى أمورٍ سكت عنها الشرع. والثاني: أن يكون هناك اتفاق بين الحقيقة البرهانية وظاهر الشرع، فلا حاجة إلى التأويل. الاحتمال الثالث: أن يقع اختلاف وتناقض بين الحقيقتَين، والحل يكون بالتأويل بإخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، دون الإخلال بعادة لسان العرب في استخدام المجاز.
في عدد شهر يونيو، نشرتُ عرضًا نقديًّا لكتاب المفكر «محمد جابر الأنصاري» «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، وهو كتابٌ يتَّصف بالجرأة في طرح الأسئلة في هذا الزمن الذي نحتاج فيه إلى الجرأة؛ فللكتاب سؤالان مُهمَّين؛ أولهما: عن سبب التناقض الحادِّ بين مأساة محاولتنا للنهوض وضعف استجابتنا لهذه الأزمة. وثانيهما: لماذا لم تحسم الأمة مصيرها وتُكمِل نهضتها وتُحقِّق أهدافها كما فعلت أُممٌ شرقية كثيرة غيرها؟ فعلينا أن نضع معادلة النهضة في سياقها الحقيقي؛ بفهم الذات في تاريخيتها وخصوصيتها، وفهم الآخر في تاريخيته وخصوصيته. ونقد الذات من أهم إنجازات الكتاب، لكن نقد الآخر خارج إطار فهمه تاريخيًّا أدَّى إلى تبرئة الذات من بابٍ خلفي. كنت في تونس، عندما علِمتُ أن بعض المُحامين رفعوا قضيةً ضِدي بالمحكمة.
٦
كتبتُ مقالًا نُشِر في مجلة «القاهرة» عدد مايو ثلاثة وتسعين، كقراءةٍ نقدية في فِكر «جابر عصفور»، من خلال كتابه «قراءة التراث النقدي»، وهو من أهم الكتب التي تتناول إشكالية القراءة مُطبَّقةً على تراثنا النقدي تحديدًا من منظورٍ كُلِّي شامل، تتفاعل فيه الممارسة التطبيقية مع التنظير للقراءة في تفاعلٍ جدلي قلَّما نجد مثيلًا له في الأطروحات التي تمتلئ بها الساحة حول القراءة وإشكالياتها. وبسبب هذا التفاعل الجدلي بين الممارسة والتنظير اقترَب الكتاب إلى حدٍّ كبير من تُخوم حل إشكالية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، أو بين الموروث والوافد، أو بين القديم والحديث … إلخ من ثنائيات في الفكر العربي الحديث. حاوَل أن يُقدِّم الحل التوفيقيَّ الحقيقيَّ القائم على إدراك عناصر التمايز والخصوصية في كلٍّ من القديم والحديث من جهة، وإدراك علاقات الاشتراك والتشابه من جهةٍ أخرى، حيث تصهرُ عدسة الناقد الحداثي القطبَين في كلٍّ موحد، يُمثِّل إضافةً حقيقيةً للمعاصرة ذاتها بقدر إدراك القديم موضوعيًّا مُتجاوِزًا إياه.
المقدمات المنهجية التي يبدأ بها الكتاب أعتبرُها استنباطات واكتشافاتٍ منهجيةً في علاقة تفاعل مع التطبيقات الواردة في الجزء الثاني من الكتاب؛ ﻓ «جابر» منذ رسالته للماجستير سنة ثمانٍ وستين عن الصورة الفنية عند شعراء مدرسة الإحياء، والتي تولَّدت منها أسئلة أدَّت إلى العودة إلى دراسة الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي في رسالته للدكتوراه عام ثلاثة وسبعين، حيث استفاد من جهود «لطفي عبد البديع»، و«شكري عيَّاد» (۱٩۲۱–۱٩٩٩م)، و«مصطفى ناصف» (۱٩۲۲–٢٠٠٨م)، بالإضافة إلى قراءته الخاصة في التراث النقدي الأوروبي الرومانسي ومدرسة النقد الجديد؛ فهو ينظر إلى التراث في إطارٍ أوسع، لا يُفرِّق بين مجالاته المختلفة، ومن خلال رؤية حديثة عصرية؛ فقراءاته الحداثية كناقدٍ مُركَّبةٌ من عدسة أسئلة الإحياء، وعدسة القراءات السابقة للتراث النقدي الغربي، وعدسة قراءات التراث المُلتهِبة بأسئلة النهضة، وسقوط معادلتها بعد هزيمة سبعة وستين؛ فعلى المستوى النظري يتحرك من الجزئي إلى الكلي، وعلى مستوى المادة المقروءة يتحرك حركةً بندوليةً بين القديم والحديث. ومن مفهوم الصورة الفنية في رسالتَي الماجستير والدكتوراه، إلى مفهوم الشعر، ثم نظرية الفن أو نظرية النقد؛ ليعود على مستوى المقروء إلى نقد الإحياء ويقترب من طرح مفهوم رؤية العالم عند مناقشته لمفهوم الخيال عندهم. وفي كتابه «المرايا المُتجاورة» عن النقد عند «طه حسين»، ودراسته عن تعارضات الحداثة، نقطةُ تحولٍ حاسمة من النقد الماركسي التقليدي المُشبَع ببقايا الرومانسية إلى آفاق الحداثة. وظهر وعيُه كناقد بأهمية المتوسطات القرائية بين القارئ والمقروء.
وجاءت شهادة الشيخ «محمد الغزالي» في قضية اغتيال المفكر «فرج فودة» في حِمية المواجهة بين الشُّرطة وجماعات العنف الديني المُسلَّح، حين أُلقيَت قنبلة على أتوبيس سياحي بمنطقة الأهرامات، في الثامن من يونيو ثلاثة وتسعين. وجاءت جلسة المحكمة الأولى لنظر قضية التفرقة بين «نصر أبو زيد» وزوجته، يوم العاشر من يونيو ثلاثة وتسعين، وحضر الجلسةَ المُحامون: «محمد صميدة عبد الصمد، وأحمد عبد الفتاح، وعبد المطلب محمد»، وقدَّموا خمس حوافظ؛ عدد مجلة «القاهرة» أبريل ثلاثة وتسعين، وتقرير «محمد البلتاجي» عن كتاب «الإمام الشافعي»، وكتاب «مفهوم النص»، وتقرير ﻟ «إسماعيل سالم» الأستاذ المساعد بدار العلوم، وخطيب مسجد نور الإسلام بالهرم، بعنوان «نقد مطاعن نصر أبو زيد في القرآن والسنة والصحابة وأئمة المسلمين»، وكتاب «نقد الخطاب الديني»، وبعض مقالات الصحف ﻟ «فهمي هويدي، ومصطفى محمود، وثروت أباظة». وطلبوا إدخال الأزهر في القضية. أُجِّلت المحاكمة لجلسة الرابع من نوفمبر القادم. ونشرَت جريدة «الأخبار» ثلاث مقالات للدكتور «البدراوي عبد الوهاب زهران»، وكان ثالثها يوم الحادي عشر من يونيو ثلاثة وتسعين. وبدأت صفحة الحوار القومي بجريدة «الأهرام» في نشر تعليقات المُثقَّفين على تقارير اللجنة العلمية وتقرير مجلس القسم ومجلس الكلية، يوم السادس عشر من يونيو.
كتبتُ ردًّا على مقالات «البدراوي زهران» في «الأخبار» نُشِر يوم الخامس والعشرين من يونيو: حاوَل «البدراوي» في المقالة الأولى عرض ملاحظات في مجال المصطلحات لا قيمة علمية لها، وفي المقالة الثانية انتقل إلى السعي الحثيث لإثبات أنني لا أدافع فقط عن سلمان رشدي بل أدافع عن روايته «آيات شيطانية»، وأتى ببعض أقوالي في كتاب نقد الخطاب الديني، وتساءل «لماذا لم أناقش الرواية؟» في حين أن ما قلتُه في هذا السياق عن سلمان رشدي أو أولاد حارتنا كان مجرد أمثلة على اندفاع البعض إلى التكفير دون تَثبُّت. وفي مقاله الأخير قفز قفزته نحو التكفير، ويدعي بالباطل أنني أنفي عن القرآن الكريم نِسبته إلى الله.
في ختام تناول صفحة الحوار القومي بجريدة «الأهرام» لموضوع طالب الأستاذ «لطفي الخولي» الأطراف في القضية بكلمةٍ ختامية، فأرسلت مقالًا نُشِر في الرابع من أغسطس بعنوان «الإسلام بين الفهم العلمي والاستخدام النفعي». هناك نهجان في التفكير؛ نهج الثبات والتقليد، يُحاول أن يُقاوِم التطور والتغير، فيُقدِّم قراءةً وتأويلات للتراث الإسلامي تجعله ينطق بهذه القيم، فيقومون باستخدام التراث الإسلامي بل والإسلام استخدامًا نفعيًّا ذا طابعٍ سياسي. وأصبح لهذا النمط قاعدته الاقتصادية وجناحه السياسي والعسكري، فتحوَّل الإسلام في تفكيرهم إلى مجرد وقود يحترق من أجل العراك السياسي ضد خصومهم. وهنا يَسهُل أن يتولَّى القيادةَ الدينية — خصوصًا بين الشباب — أقلُّهم علمًا ووعيًا وأكثرهم حركيةً سياسية؛ فلم تَعُد العِبرة بفهم الدين بل باستخدامه. ونمط ونهج ثانٍ للتفكير يُركِّز على الفهم واستنباط الجوهري؛ فَهمِ التراث والدين معًا نقديًّا؛ فليس للتراث قداسة بما هو فكرٌ بشري حول الدين، فهم بعيد عن الاستخدام النفعي للدين.
هذان النمطان من التفكير عاشا فترةً طويلة في حالة سكينة زائفة، تتخللها بين الحين والآخر بعض المعارك الساخنة التي ما تلبث أن تهدأ دون أثر على الوعي العام بجوهر الخلاف ومغزاه. ولقد حاولت بكل جهدي العمل على ثلاثة مَحاور؛ أولًا: دراسة التراث دراسةً نقدية. وثانيًا: نقد خطاب الإسلام السياسي بسبب تحويله الدين إلى وقود في المعارك السياسية. وأخيرًا: محاولة تأصيل وعي علمي بدلالة النصوص الدينية. وأصحاب نهج الثبات يخوضون معركتهم ضد خطاب «أبو زيد» من أجل إسكاته إلى الأبد، إن لم يكن بالحِرمان من الترقية فبإعلانه كافرًا مُرتدًّا بما يترتب على ذلك من نتائج تعرفونها. يوم الأربعاء الثامن عشر من أغسطس ثلاثة وتسعين، وقعت محاولة لاغتيال وزير الداخلية الجديد في إطار المواجهة شِبه العسكرية بين الجماعات والدولة.
٧
دخلت وزارة الثقافة الصراع بطبع سلسلة كتب المواجهة لنشر كتب مفكري النهضة، فدخل الأزهر المعركة أيضًا؛ فبعد نقضه لفكر الجماعات في كتاب المُلحَق الشهري لمجلة «الأزهر» بنشر كتاب «نقض الفريضة الغائبة»، وبه فتوى ومناقشة لشيخ الأزهر «جاد الحق علي جاد الحق»، ورئيس لجنة الفتوى الشيخ «عطية صقر». وفي شهر يوليو نشرَت وزارة الثقافة كتاب الشيخ «علي عبد الرازق» «الإسلام وأصول الحُكم»، فنشرَت مجلة «الأزهر» في مُلحَقها نقضًا لكتاب «علي عبد الرازق»، ونشرَت في سبتمبر رد هيئة كبار العلماء على الكتاب، ونشرت كتاب «العلمانية والإسلام» ﻟ «محمد البهي» في الشهر التالي، وسلسلة «قضايا إسلامية» الصادرة عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وأصدرت «فقه الخلافة وتطورها»، ونشرت مجلة «الأزهر» في مُلحَقها كتاب «الحِسبة»، ودور الفرد فيها في ظل التطبيقات القانونية المعاصرة. وكأن الدولة في صراعٍ داخلها في كيفية مواجهة خطر الجماعات وفِكرها.
داخل جامعة القاهرة، ومع بداية العام الدراسي، وُزِّع مجانًا طبعةٌ ثانية من كتاب «نقد مطاعن نصر أبو زيد في القرآن والسنة والصحابة وأئمة المسلمين»، كتبه «إسماعيل سالم عبد العال» الأستاذ المُساعد بكلية دار العلوم، نشرَته دار «المختار الإسلامي»، يُشير فيه إلى: «أُثبتُ هنا ما قاله لي أستاذنا د. «أحمد هيكل» وزير الثقافة السابق، وكذلك د. «محمد بلتاجي» عميد كلية دار العلوم، حين عَلِما برفع الدعوى للتفريق بين «أبو زيد» وزوجه، بأن أحرص على ألا يكون هناك أحد من أبناء دار العلوم حتى لا تبدوَ عداوة بين قسم اللغة العربية بكلية الآداب وكلية دار العلوم.»
أعادت مجلة «أدب ونقد» نشر مقال للأستاذ «أحمد أمين» «في الثناء على الاجتهاد»، وهو جزء من كتابه «يوم الإسلام»، فكتبت له مقدمةً قصيرة عن مشروع الإصلاح الديني؛ ثوابته ومُتغيِّراته، عرضت فيه لجوانب المصالحة ورفع التناقض، واللذين قام بهما تيَّار الإصلاح من «الأفغاني ومحمد عبده وأحمد أمين» بين العلم والدين، مُعتمِدين على تراث العقلانية الإسلامي، وعلى الاجتهاد في إطار الكليات التي لخَّصها الشوكاني (۱۱٧٣ﻫ/۱٧٩٥م–۱٢٥٥ﻫ/۱٨٣٤م) في الحفاظ على النفس والعقل والعِرض والمال والدين، واستخدام هذه الكليات كمعيار لتصحيح الاجتهاد؛ إيمانًا بالسيرورة والتغير والدعوة إلى الاجتهاد المطلق، والفصل بين العلم والدين. لكني أضفتُ أنه «يجب على مشروع الإصلاح الديني تأسيس عقلانية مُتجاوزة للعقلانية التراثية من جهة، وتأسيس مقاصد للشريعة على أساس قراءة اجتهادية معاصرة للنصوص الدينية.»
٨
-
العداوة الشديدة للقرآن والسنة.
-
الجهالات المُتراكبة بموضوع الشافعي الفقهي والأصولي.
-
دعوته «للتحرر ليس من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سُلطة تَعُوق مسيرة الإنسان»، ولا معنى للتحرر من سلطة نصوص القرآن والسنة إلا بالكفر.
-
عداء «أبو زيد» ﻟ «الشافعي» حين يقول: «الشافعي حين يُؤسِّس لمبدأ تَضمُّن النص حلولَ كل المشكلات تأسيسًا عقلانيًّا، يبدو وكأنه يُؤسِّس بالعقل إلغاء العقل.» وكأنه يعني أن إبقاء العقل لا بد معه من رفض النص.
-
يقول إن الإسلام دينٌ عربي وليس دين للناس كافةً.
-
القرآن مُنتَجٌ ثقافي.
والرِّدَّة هي «جحد شيء من القرآن، أو القول بأن محمدًا بُعِث إلى العرب خاصة، أو إنكار كونه مبعوثًا إلى العالمين، أو القول بأن الشريعة لا تصلح للتطبيق في هذا العصر، أو أن تطبيقها كان سبب تأخُّر المسلمين، أو أنه لا يُصلِح المسلمين إلا التخلصُ من أحكام الشريعة.» لا يُحتجُّ عليَّ بأن الدستور يَكفُل حرية العقيدة؛ لأن إعمال آثار الردة حسبما تقرَّرَت في فقه الشريعة الإسلامية ليس فيه ما يُخالِف أحكام الدستور … هناك فَرقٌ بين حرية العقيدة وبين الآثار التي تترتب على هذا الاعتقاد من الناحية القانونية؛ فكلُّ فرد حرٌّ في اعتناق الدين الذي يشاء في حدود النظام العام، أما النتائج التي تترتب على هذا الاعتقاد فقد نظَّمَتها القوانين ووضعت أحكامها. خلاصة القول: هذه من دعاوى «الحسبة»، تُدافع عن حق من حقوق الله تعالى، وهي الحقوق التي يعود نفعها على الناس كافةً لا على أشخاص بأعيُنهم.
وقدَّم عشر حوافظ بنُسَخ من بعض كتابات «أبو زيد» وتقارير «البلتاجي وعبد العال» وصحف ومقالات، وطلبوا إدخال الأزهر في الدعوة. فأجَّلَت المحكمة الجلسة للرابع من نوفمبر ثلاثة وتسعين، التي حضر فيها المدَّعون ومُمثِّل للأزهر، و«نصر أبو زيد» وزوجته وهيئة دفاع عنهما. وطلب المدَّعون إحالة الدعوى للتحقيق لإثبات خروج «أبو زيد» عن أحكام الإسلام. وطلب الدفاع فرصةً للاطلاع، وكذلك مندوب الأزهر. فأُجِّلت المحاكمة إلى جلسة الخامس والعشرين من نوفمبر. اقترب «حلمي النمنم» الصحفي بمجلة المصور من المستشار «محمد صميدة عبد الصمد» — وهو نائبٌ سابق لرئيس مجلس الدولة — رافع الدعوة؛ ليُجْري معه حديثًا للمجلة نشره بعدد التاسع عشر من نوفمبر، «كان عبد الصمد مترددًا»، ثم قال له: «بصراحة لا أتحدث مع إنسان لا أعرف هويته هل هو مسلم أو شيوعي أو علماني.»
– لكنك تحدَّثتَ لأحد المُراسِلين الأمريكيين؛ فالأولى أن تتحدث مع مصري.
– الأمريكان أزفت من الشيوعيين والعلمانيين. المسألة في منتهى البساطة أننا نرى في كتابات د. نصر خروجًا عن الإسلام … وأنا لا أعرفه شخصيًّا، ربما أكون قد حضرت ندوة له في مايو الماضي، ولكني عرفت عنه من كتابات الشيوعيين، لقد فوجئت ﺑ «لطفي الخولي» و«أحمد عبد المعطي حجازي» و«غالي شكري» يكتبون عنه، وهويتهم جميعًا معروفة ويُعادون الإسلام، وبسرعةٍ اطلعتُ على كتبه «نقد الخطاب الديني»، و«الإمام الشافعي»، و«مفهوم النص»، ووجدتها جميعًا خروجًا على الدين، وأصابني الذهول حين علِمتُ أنه يُدرِّس هذه الكتب لشبابنا في الجامعة، فلجأنا إلى القانون. تقدَّمتُ بشكوى إلى رئيس جامعة القاهرة مُطالِبًا إياه بمنع د. نصر من التدريس، ثم تقدَّمتُ ببلاغ إلى النائب العام، ووفقًا للقانون ۱٦۱ من قانون العقوبات، والذي يُجرِّم إهانة الأديان في مصر، ثم تقدَّمتُ ببلاغ إلى المدَّعي الاشتراكي ليتدخل طبقًا لقانون حماية القيم من العيب، وأخيرًا لجأت في ۱٠ يونيو إلى القضاء … لقد لجأت إلى القانون وأبديتُ رأيي، ولا شأن بكل ما يقوله الشيوعيون والعلمانيون على أرض مصر، وأنا شخصيًّا لا أعرف زوجة د. نصر ولا أريد لها الإيذاء ولا الضرر، ولكن لم يكن أمامي غير ذلك من وسيلة لكي أُثبت قانونًا وبحكمٍ قضائي ارتداد د. نصر لكي نمنعه من التدريس في الجامعة، وأنا قد رفعت قضية حِسبة عن المجتمع كله دفاعًا عن الإسلام.
في جلسة الخامس والعشرين من نوفمبر حضر المدَّعي «محمد صميدة عبد الصمد»، وحضر المُحامي «خليل عبد الكريم» دفاعًا عن «أبو زيد» وزوجته، وقدَّم مذكرةَ دفاعٍ دفع فيها أولًا: بعدم انعقاد الخصومة لعدم الإعلان في المدة القانونية. ثانيًا: لكي تقضيَ المحكمة بالتفريق يتعين عليها أن تحكم برِدَّة الزوج، ولا يوجد نص في القانون المصري ولا في لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ما يُجيز لأي محكمة أن تقضيَ بصحة إسلام مُواطِن أو كفره أو رِدَّته. وأحكام التفريق التي صدرت دوائر الأحوال الشخصية كانت فيها ردة الزوج ثابتةً بطريقة لا تدع مجالًا للشك، مثل اعتناق مذهب البهائية، أو في حالة مسيحي أسلم ثم رجع إلى المسيحية. الدفع الثالث: بعدم جواز طلب إدخال الأزهر؛ لأنه ليس طرفًا في الخصومة كما يعرفها قانون الإجراءات المصري، ولا يوجد في قانون الأزهر نصٌّ يُجيز حضوره في القضايا ليُبديَ رأيه. الدفع الرابع: الاحتفاظ للمدَّعى عليهما بالرد في الموضوع بعد ذلك.
وحضر مُحامٍ مُتضامنًا مع «أبو زيد» وكذلك د. «ليلى سويف» ود. «أحمد حسين الأهواني» بكلية علوم القاهرة، والمُحامي «عبد الله خليل» عن نفسه وعن المنظمة الدولية لحقوق الإنسان. فطلب المدَّعي «صميدة عبد الصمد» مدةً للرد على مذكرة الدفاع، فأُجِّلت الجلسة إلى السادس عشر من ديسمبر سنة ثلاث وتسعين.
عُدتُ من مؤتمرٍ علمي ببرلين بألمانيا حول مشكلات تفسير القرآن الكريم وتأويله في يوم نظر القضية، ولكن لم نحضر جلستها، لكني تألَّمتُ كثيرًا من أن زميلي في كُتاب قريتنا «مصطفى عمران» الذي حفِظنا القرآن معًا يقف في خطبته بجامع قحافة، ويُكرِّر ما أُشيعَ عني، حتى إن أخي «محمد» ثار عليه قائلًا: لقد حفِظتُما القرآن معًا. أصبحت القضية قضية رأي عام تُواجهني في أي مكان أذهب إليه، توقَّفتُ أنا و«ابتهال» لشراء بعض الاحتياجات من سوبر ماركت للبيت خلال إجازة نهاية الأسبوع، وبينما أتجوَّل بين الرفوف إذا برجلٍ عجوز يُشبِه الآباء المصريين يُراقبني ويدور حولي لمدة دقائق، واقترب مني وقال: «هو انت …؟» أجبته: نعم، أنا فلان. انفجر الرجل غاضبًا حتى تجمَّع الناس حولي أنا و«ابتهال» في المحل، صاح: «مش مكسوف من نفسك؟ إخص عليك، مولود من أب مسلم وأم مسلمة، وتسمي نفسك مسلم، وأنت جلبت الخزي والعار لهما بالطعن في القرآن وفي حضرة النبي، لعنة الله عليك، لازم أنت مجنون.» أخذ يُكرِّر هذه الأسئلة مع تغيير ترتيبها.
نظرت إليه وقلت: «خلصت؟» فهزَّ رأسه بالموافقة، فطلبت منه أن يسمعني وقلت له: «أنت لك مدة تُلاحظني بعينَيك، لو لم تكن تعرفني من الجرائد، فهل تحكم من تصرفاتي أني مختل عقليًّا؟» أجاب بالنفي، فقلت: «لو أحد زيك أو زي ابنك يعمل بجامعة في بلد أغلبيتها مسلمين زي مصر، وعايز يترقى ليزيد دخله لمواجهة غلاء الأسعار في السوبر ماركت دا، هل إنسان عاقل يقدم نفسه على أنه ملحد للجامعة، أم ينتظر حتى يترقى وبعدها يفعل ما يشاء. أنا مثلك في احتياج لمرتبي لمواجهة مصاعب الحياة، وهذه زوجتي.» وقدَّمت له «ابتهال». بدأ الرجل تهدأ ثورته، وقال: «طيب إيه المشكلة؟ لأن الناس التي اتهمتك ناس مش مغفلين، دول ناس أفاضل ومن أهل الله …»
قلت: «أتفق معك أنهم من أهل الله. تريد معرفة سر المشكلة؟» هز رأسه بالموافقة. قلت: «أنا نقدت هؤلاء الرجال الأنقياء أهل الله لدعمهم شركات توظيف الأموال التي سرقت أموال المودعين باسم الدين.» بدأ الرجل بانفعال يصبُّ لعناته على هذه الشركات، وذكر أن ابنه الذي شقي وتعب بالعمل في الكويت لعشر سنوات وضع أمواله في هذه الشركات، وضاعت كل نقوده. قلت له: «هذا هو السبب وراء ضجَّتهم، وهذا الرجل الذي قاد الحملة ضدي كان يعمل مستشارًا لإحدى هذه الشركات، أنا مجرد مصري زيك لم يكن عندي مدخَرات أستثمرها عندهم، لكني كنت أدافع عن المصريين مثلك ومثل ابنك وأحفادك، من ناس سرقوا الأموال تحت اسم الدين.» أقبل الرجل نحوي وقال: «يا بُنيَّ لا تؤاخذني.» واحتضنني في وسط السوبر ماركت. شعرت بالارتياح. وفي السيارة مع «ابتهال» في رحلة الأربعين كيلومترًا، عائدين إلى شقتنا بضاحية ستة أكتوبر، قلت لها: «أنا أحتاج أن أجلس مع كل مصري ومصرية حتى أشرح لهم الموضوع.»
٩
تُوفِّي الدكتور «زكي نجيب محمود»، فكتبت مقالةً نقدية لمجلة «المصور»، نشرتُها في الرابع والعشرين من سبتمبر بعنوان «غربة الروح عن أهلها»، حيث إن معادلة النهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر وصلت صيغتها عند «زكي نجيب محمود» إلى: إما أن نختار حياةً فكرية حقيقية معاصرة، وإما نلوذ بأصالة الآباء فيما خلَّفوه من إرثٍ عظيم. ووضع الإشكال بهذه الصورة يجعلها أزمة مُثقَّف بين العاطفة مُمثَّلةً في التراث والفكر مُمثِّلًا للعصر، وليست أزمة مجتمع. الجانب الثاني هو تصور التعارض بين ثقافة الغرب وثقافة التراث؛ مما جعل من الضروري أن يخضع أحد الطرَفَين للآخر، فحاوَل أن يأخذ ما هو نافع من التراث لوقتنا الحاضر؛ ففرَّق بين الشكل والمضمون، بحيث نأخذ الشكل القديم والقيمة وطريقة النظر، ونترك المضمون القديم؛ أي محاولة التوفيق بين الطرفَين التي أدَّت إلى التلفيق بينهما. ولم ينجح في إنتاج مُركَّب جديد يستوعب الطرفَين ويُلغيهما في نفس الوقت، فكانت العودة للتراث بعد هزيمة سبعة وستين عودةَ ملاذ، عودةً عاطفية. وانتقل المشروع عند تلاميذه على يد «حسن حنفي» من استخدام قناع التراث إلى تجديد التراث، لكن هذا ليس كافيًا، بل لا بد من الانتقال من تجديد التراث عند «حسن حنفي» إلى القراءة العلمية للتراث عند جيلنا.
إلا أن د. «محمد عمارة» كتب مقالًا بجريدة «الشعب» في الرابع عشر من سبتمبر، حاوَل فيها أن يُدافِع عن «زكي نجيب محمود» بإبراز الجانب «الإسلامي» في كتاباته، فاتَّبع «عمارة» طريقته في إمساك العصا من المنتصف لينتهيَ إلى أن صورة الإسلام لدى «زكي نجيب محمود» قد تعدَّلَت كثيرًا لكنه لم يبلغ مرتبةَ من يلتزم بالمنهج الإسلامي التزامًا كاملًا.
فكتبت مقالًا نشرَته مجلة «أدب ونقد» في عدد يناير سنة أربع وتسعين، بعنوان «مات الرجل وبدأت محاكمته»؛ فبدلًا من أن يدخلوا في نقاشٍ حقيقي لأفكار وأطروحات «زكي نجيب محمود»، يقومون بتناول الأفكار والأطروحات والإبداعات من منظورهم الخاص وتفسير بعينه للإسلام، ويضعونه على أنه الإسلام الصحيح، وما سواه زيف وإلحاد، ويعتبرون أنفُسهم المُتحدِّثين الوحيدين بِاسم الإسلام، ومن يختلف معهم خارج عن الملة، في حين أنهم جماعةٌ سياسية تستخدم الإسلام كأداة للحشد السياسي. وهذا الخلط يُحوِّل السياسة إلى دين، ويجعل الأحكام السياسية أحكامًا دينيةً تُفضي إلى التكفير والردة في النهاية، فيأخذون عليه استخدامه البراجماتي للتراث، وأنا أتَّفق معهم في ذلك، لكنهم يفعلون نفس الشيء. وهناك فَرقٌ بين النقد والاختلاف وبين الإدانة ونزع صفة الإسلام عن المُفكِّر، بدليل المناقشة الهزيلة التي قدَّمها المقال عن «الوضعية المنطقية». إننا نحتاج إلى فتح الحوار ليخرج من إطار النخبة إلى الناس، لكن هل تتحمل أجهزة إعلامنا هذا النوع من الحوار؟ هذا هو السؤال.
في السادس والعشرين من سبتمبر جرَت محاولة اغتيال رئيس الوزراء ووزير الإعلام، واغتيلت فيها الطفلة شيماء أمام مدرستها، وهجوم إرهابي على فندق «سميراميس» بعدها بشهر في وسط القاهرة. كتبت مقالًا نشرَته جريدة «الحياة» في لندن بعدد السابع عشر من أكتوبر، عن «المثقف العربي والسلطة»، وكتبت مقالات عن المعقول واللامعقول في حياتنا، نُشِرت بجريدة «الأهالي» في أكتوبر ونوفمبر وأول ديسمبر، عن كيف تحوَّلَت الأشياء اللامعقولة إلى أشياء معقولة في حياتنا؛ ليس لأن المجتمع تحاوَر حولها لإزالة غرابتها، بل أصبحت من تَكْرارها والتعود عليها معقولة، لكنه معقولٌ يُخرِّب الوعي ويسدُّ طريقنا للتقدم. وأخذت من حالة اللانظام وفوضى المرور في شوارع القاهرة نموذجًا؛ فالنظام ليس مسألةً شكلية، بل عملية إعادة تركيب للذهن في المجتمع. والحكومة أصبحت إشارة مرور مُضيئةً؛ أحمر وأخضر وأصفر في نفس الوقت في كل الاتجاهات. وكتبت عن اللامعقول في الحياة السياسية المصرية، وكيف أن العمليات الإرهابية ما هي إلا أعراض للمرض الرئيسي وهو غياب الحريات، ولن تُجديَ عملية «مقاومة الإرهاب» التي تسعى إلى إسكاته دون الوصول إلى جَذرِ الإشكال، وهو لامعقولُ التعارض بين الأقوال والسلوك الذهني عندنا، وأخذت من عملية نقل الآراء والأقوال التي تمَّت في قضية «أبو زيد» دون تفكير أو تثبت، حتى أصبح الحق يُعرَف بالرجال وليس الرجال هم من يُعرَفون بالحق.
لم يَعُد العمال الذين كانوا يعملون بالشقة المُجاوِرة لنا منذ يومَين، ربما قد أُصيبَ أحدهم أو أهاليهم في حادث انهيار صخرة المقطم، فسألت جارتنا عنهم، فعلِمتُ أن شقةً من الشقق قد سُرِقت، فقبضَت الشُّرطة على العمال «الشغيلة» واحتجزتهم. ذهبت إلى قسم الشرطة وسألت الضابط عنهم، فأخبرني باحتجازهم حتى يتم الوصول إلى الجاني، ولهم في الحجز عشرة أيام دون أن يعلم عنهم أهلهم وذووهم خبرًا؛ فمن خِبرتي السابقة في العمل بقسم شرطة، وكسل الضباط أن يقوموا بعملهم بحثًا عن الجناة، فيُحتجز العمال دون مراعاة لقلق أهاليهم عليهم، وجدت الضابط يقول لي: «يا دكتور أنت عايز إيه؟ لو فيه أحد منهم يهمك نخرجه لك.»
كانت هناك هذه الليلةَ ندوةٌ في المُنظَّمة المصرية لحقوق الإنسان عن حرية الرأي بسبب قضيتي، فكِدتُ أعتذر عن الذَّهاب، لكني ذهبت. وقلت إن الحديث عن حرياتٍ أكاديمية وفكرية هو نوع من الرفاهية، في وقتٍ أبسط حقوق الإنسان فيه مُهدَرة، الحقوق التي يشترك فيها مع الحيوان. هل يمكن، في مجتمعٍ مثل هذا، الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، بينما حرية المُواطن الأولية مُهدَرة؟ ومُهمٌّ جدًّا العمل على تأصيل حقوق الإنسان ثقافيًّا في المجتمع، وليس فقط تبريرها ثقافيًّا؛ فالمُثقَّف عندنا هو المُؤلِّف والمُخرِج والبطل ورافع الستارة، فلا نريده أيضًا أن يكون هو الجمهور. وذكرتُ قصةَ ما حدث مع العمال.
وحين أتى الحديث عن دعوى الحسبة المرفوعة ضِدي، انتفض المُحامي المحسوب على التيَّار الديني الأستاذ «عادل عيد» غاضبًا، وقال إن هذه الدعوى نوع من التهريج الرخيص، لا يصحُّ أن نسكت عليه، إنه تهريجٌ يُسيء للإسلام والمسلمين أولًا وأخيرًا. وأشار إلى أنه كان ضِمن هيئة دفاع من المصريين، والتي تطوَّعت بالدفاع عن المفكر السوداني «محمود طه» في السودان في سابقةٍ مِثل تلك. غاب الأستاذ «عادل» عن جلسة المحكمة لانشغاله، فاتصلتُ به أُعلِمه بموعد الجلسة التالية، وأُذكِّره بأهمية حضوره، وأرسلتُ إليه ردِّي على النِّقاط المُثارة في عريضة الدعوى. وبعد أن تعبَت «ابتهال» في جمع النقاط التي طلبها من الكتابات لم يحضر الجلسة.
وصلت إليَّ خطابات تهديد بالقتل، فعيَّنَت لي الدولة حراسة، وأصبحت أدخل محاضراتي في مدرج ثلاثة عشر في حماية حامل سلاح، فلم تَعُد محاضرة. وكرهتُ الحال والتدريس في ظل قيد، على الرغم من هذا الجو وتلك الحالة التي تمرُّ بها البلاد؛ من مواجهةٍ مُسلَّحة بين الدولة والجماعات المُسلَّحة، ومحاولة إسكات صوتي بأي وسيلة؛ بدايةً بمصادرة الأستاذية إلى التكفير، وما يتبعه من تصفيةٍ معنوية تعقبُها تصفيةٌ جسدية، إلى الفصل من الجامعة والاستتابة والتعزير، إلى التحويل للنائب العام، واستعداء الأزهر، ودعوى حسبة للتفريق بيني وبين زوجتي؛ على الرغم من كل ذلك فلهذه الأزمة جوانبها المُبهِجة عند باحثٍ تَكشِف الكتابات خلال الأشهُر الماضية صِدقَ وقوة النتائج التي توصَّل إليها في نقد الخطاب الديني. على أنَّ الفارق بين المُعتدِلين والمُتطرِّفين في التيَّار الديني هو فارق في الدرجة وليس فارقًا في النوع، بل أستطيع أن أُضيف أن التعاون بينهما وتوزيع الأدوار واضحٌ على مستوى الخطاب، وأيضًا الظهور الواضح لآلية النقل دون تَثبُّت؛ هذا النقل الذي يُفضي إلى الاتباع، وكلاهما يُناقِض النقد والإبداع ويُعاديهما؛ فخطابي النقدي يُمثِّل خطرًا عليهم. مصدر سعادتي الآخر هو تَوفُّر هذه المادة الجديدة وإخضاعها للبحث والتحليل، للوصول إلى مزيد من الدراسة العلمية للخطاب الديني. ويكون سعيهم لتشويه خطابي وإسكاتي مادةً للتحليل والاستنباط.
-
العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة، والدعوى إلى رفضها وتجاهل ما أتت به.
-
الهجوم الشديد على الصحابة وأئمة المسلمين.
-
الهجوم على القرآن وإنكار مصدره الإلهي، والحديث عن أسطورة الوجود الأزلي القديم في اللوح المحفوظ.
-
إنكار مبدأ أن الله، سبحانه وتعالى، هو الخالق لكل شيء، وأنه هو العلة الأولى، وإنكار الغيب.
-
الدفاع عن الماركسية والعلمانية؛ الفكر الغارب، ونفي صفة الإلحاد عنهما.
-
الدفاع عن «سلمان رشدي» وروايته «آيات شيطانية».
وبيَّنتُ كيف يُخرِج «شاهين» الفقرات عن سياقها ليُعطيَها معانيَ أخرى من أجل التشويه، وأنه لا بد من التفرقة بين الدين والفكر الديني؛ فالدين هو المُرسَل من الله، لكن كل محاولة لفهمه أو دراسته واستنباط أحكام منه هي خطابٌ بشريٌّ ليس له قداسة الدين. هناك فارق بين نصوص القرآن وكلِّ سعي إلى تأويل أو تفسير وفهم تلك النصوص، بل أتيت بما كتب «شاهين» نفسه عام ستة وستين في رسالته للدكتوراه الصادرة عن دار القلم «تاريخ القرآن»، عن مسألة الأحرُف السبعة في قراءة القرآن، وبين ما يقوله الآن. ونقدتُ كل انتقاداتهم، ولن أكُفَّ أبدًا عن النقد حتى تنجليَ الظُّلمة عن العقل وتنفتح نوافذه للنور.
١٠
كان للتغطية الإعلامية الواسعة، ورد فِعل كثير من الكُتاب المصريين الذين تداعَوا للمشاركة كردِّ فِعل على تناول الإعلام الغربي للقضية، ومنهم الكاتب «جلال كشك» من أمريكا، فكتب عِدَّة مقالات في مجلة «أكتوبر» في الأعداد الرابع عشر والواحد والعشرين من نوفمبر، ظل يدور ويجول على خطأ مطبعي عن علاقة «الإمام الشافعي» بالأمويين. وفي الخامس من ديسمبر يتَّهمني بدور لي في رفع القضية. ولم يتناول جهاز الإعلام الحكومي من إذاعة وتليفزيونٍ القضية، وأعرض عنها، إلا أن إذاعة صوت أمريكا أجْرَت اتصالًا تليفونيًّا بي لمناقشة الموضوع في وجود «جلال كشك» الذي ظل يدور ويجول على خطأ مطبعي عن علاقة «الإمام الشافعي» بالأمويين، وخلال الجدل اعتذر المُذيع؛ لأن الأستاذ «جلال» توفَّاه الله في أمريكا، حيث كان يُقيم، أثناء النقاش.
أجْرَت معي الكاتبة الصحفية «عبلة الرويني» حوارًا طويلًا نشرَته مجلة «القاهرة» في عدد شهر نوفمبر، عن مشواري في الحياة وجهودي البحثية، وحاولَت إيضاح مسألة قدسية النص وتاريخيَّته، وأن مصدره الإلهي لا يتنافى مع كونه رسالةً من الله للبشر باللغة العربية. ونشرتُ مقالًا شهريًّا بمجلة «أدب ونقد» تحت عنوان «خطاب الحرية»، بدأته بمقال في عدد شهر ديسمبر «ضد الكتابة المُذعِنة»، أُناقش فيها التكفير الذي ينضح به كتاب تلميذ عبد الصبور شاهين والبلتاجي «إسماعيل سالم»، في كتابه الذي يُوزَّع مجانًا بالجامعة، «نقد مطاعن نصر أبو زيد في القرآن والسنة والصحابة وأئمة المسلمين»، وكيف يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، بل ويتحدث بِاسم الذات الإلهية، وخلطه بين مناداتي بالتحرر من سلطة النصوص؛ السلطة التي يفرضونها في غير ما أنزل الله، وبين «التحرر من النصوص» التي لم أقل بها أبدًا، لكنه السعي إلى التشويه من أجل الإقصاء والاستبعاد وإسكات صوتي. شاغلُهم الأساسي هو الضجَّة الإعلامية التي قامت حول حرية البحث العلمي، والتي تختلف عن نمط تفكيره الذي تعوَّد عليه من الإذعان والتسليم بسلطة الأكبر سنًّا والأعلى درجةً ووظيفة؛ سعيًا منه إلى الأستاذية.
قبل جلسة المحكمة، وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من ديسمبر، في مقاله الأسبوعي بجريدة «الأهرام»، كتب «فهمي هويدي» مرةً أخرى مقالًا بعنوان «عبرة أبو زيد الأول»، يَعرِض فيه قضية الأستاذ «محمد أبو زيد» الذي رُفِعت ضده قضية حسبة للتفريق بينه وبين زوجته، أمام محكمة دمنهور الجزئية، وذلك عن آرائه في آدم، عليه السلام، وحكَمَت المحكمة بالتفريق، ولكن محكمة الاستئناف ألغت الحكم، وكتب القاضي: «أخجلتمونا أمام الناس أعظم خجل؛ فالإفرنج مشغولون بما يُفيدهم وأنتم مشغولون بما لا يُفيد.» وكأن «هويدي» يعتب على من رفعوا القضية، وأشار إلى عدم نقل الخلافات الفكرية إلى ساحة القضاء، والابتعاد بالقضاء عن وضعه في وضع الانخراط في تحيزاتٍ فكرية أو سياسية. فتعجَّبتُ من موقفه الآن.
جلسة المحكمة الخميس السادس عشر من ديسمبر، كانت جلسة المرافعة الأخيرة، نظر القاضي ثلاثةً وأربعين قضية، وكانت قضية «أبو زيد» هي الأخيرة، واستمرَّ النظر فيها أضعاف الوقت المُستغرَق في القضايا الأخرى؛ فهي القضية الوحيدة في الأحوال الشخصية التي يرفعها رجلٌ ضد آخر. وقدَّم رافع الدعوى «صميدة عبد الصمد» مذكرةً بدفوعه عن الجلسة السابقة، وطالَب بأن يُقدِّم الأزهر مُستنَدات لديه؛ لأن شيخ الأزهر مَنُوط به المحافظة على الدعوة الإسلامية. وقدَّم المُحامي «رشاد سلام»، الحاضر عن «أبو زيد»، مذكرةَ دفاع، ودافَع ببُطلان حضور المدَّعين للجلسات لانتهاء دورهم برفع الدعوى؛ فهم ليسوا خصومًا، لكن النيابة العامة هي الخصم في دعوى الحسبة؛ وعلى ذلك يكون طلبهم — بإدخال الأزهر طرفًا — باطلًا؛ لأنهم لا يملكون هذا الحق، وطالَب بردِّ كل طلباتهم؛ لأنهم لا صفة لهم في الدعوى، وطالَب بردِّ الدعوى، وشارَكه بقيَّة هيئة الدفاع في ذلك. وقدَّمَت المُحامية «أميرة بهي الدين» الحاضرة عن زوجتي مذكرةً تُطالِب بردِّ الدعوى، وكذلك الأستاذة «تهاني الجبالي»، والأستاذ «أحمد سيف الإسلام حمد». وقدَّم الدفاع خطاب مجلس قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة إلى رئيس الجامعة برفضه قرار اللجنة وتقرير القسم وتقرير مجلس كلية الآداب. وحُجِزت القضية للنطق بالحكم.
في جلسة الخميس السابع والعشرين من يناير، انعقدت المحكمة برئاسة القاضي «محمد عوض الله»، وعضوية القاضيَين «محمد جنيدي ومحمود صالح»، ووكيل النائب العام «وائل عبد الله»، وسكرتير الجلسة. واستند الحكم على أن حكم محكمة النقض، الصادر سنة ست وستين، والذي جعل من لائحة المحاكم الشرعية وأرجح الأقوال من مذهب الإمام «أبي حنيفة»، ما لم يرد قواعد خاصة واجبة التطبيق نصَّ عليها قانون المحاكم الشرعية، دون تفرقة بين قواعد موضوعية أو إجرائية؛ فإن هذا المنطوق للحكم يتصادم مع أحكام قانون ٤٦٢ لسنة خمس وخمسين بإلغاء المحاكم الشرعية، وكذلك يُغايِر قانون المرافعات لسنة ثمانٍ وستين، وكذلك بعد صدور دستور سنة إحدى وسبعين.
قانون ٤٦٢ لسنة خمس وخمسين، الذي ألغى المحاكمَ الشرعية، وضَعَ الأساس للتفرقة بين القواعد الموضوعية والقواعد الإجرائية التي تحكم مسائل الأحوال الشخصية، والتي أصبحت تخضع لقانون الإجراءات ما لم يَرِد حُكمٌ خاص بها في لائحة المحاكم الشرعية، أو في أي قانون آخر. وبعد صدور دستور واحد وسبعين، فإن تطبيق قاعدة أرجح الأقوال من مذهب «أبي حنيفة»، فهذا إعمال لأحد المذاهب قضائيًّا دون أن يَصدُر بها قانون. ونص المادة الثانية من الدستور بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، هو خطابٌ للمُشرِّع، وليس للقاضي أن يُعمِله مباشرةً بدون صدور تشريع. وبصدور قانون الإجراءات لسنة ثمانٍ وستين، والذي نص في مادته الثالثة على «ألا يُقبَل أي طلب أو دفع لا يكون لصاحبه مصلحةٌ قائمة يُقرُّها القانون، والمصلحة التي يُقرُّها القانون في هذا الصدد هي مصلحةُ حماية حق مَن أبدى الطلب أو الدفع أو حماية مركزه القانوني الموضوعي، ويجب أن تكون هذه المصلحة مباشرة.» وهذه الدعوى رُفِعت بحسبانها دعوى حسبة، لم يدَّعِ رافعوها أي مصلحة مباشرة وقائمة يُقرُّها القانون، ولم تكن أحكام لائحة المحاكم الشرعية أو قانون آخر قد أوردت أحكامًا تُنظِّم شروط قبولها، وقانون المرافعات لم ينظم أوضاع هذه الدعوى في أحكامه. «حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى بالتفريق بين «نصر أبو زيد» وزوجته، وإلزام رافعيها بالمصاريف ومَبلغ عشرة جنيهات مُقابل أتعاب المحاماة.»
١١
بدأت الأنشطة الثقافية لمَعرِض القاهرة للكتاب في اليوم التالي لصدور الحكم، وفي يوم السبت الخامس من فبراير سنة أربع وتسعين، في الحادية عشرة، وفي أكبر قاعة للأنشطة، وبحضور جمع غفير، تمَّت مناقشة كتاب «قضايا فكرية» السنوي الذي يُشرِف على إخراجه المُفكِّر «محمود أمين العالم»، عن «الأصوليات الإسلامية في عصرنا الراهن»، وشاركتُ فيه بدراستي «أبو زيد والخطاب الديني»، وكانت ظلال القضية والحكم فيها مُخيِّمَين على الندوة، إلا أن السيد «محمد صميدة عبد الصمد» قدَّم استئنافًا للحكم يوم العاشر من فبراير. ونشر د. «حسن حنفي» دراسة في مجلة الاجتهاد اللبنانية عن كتاباتي بعنوان «علوم التأويل بين الخاصة والعامة»، في عدد ربيع سنة أربع وتسعين. في تلافيف الدراسة يُبعِد نفسه عن اجتهاداتي، فيقول: «ليس المطلوب فرقعات الهواء وبالونات الاختبار، وإلقاء النفس في فم التمساح، ومد اليد للدغ العقرب، وإلقاء النفس إلى التهلكة، ودوس على ألغام الحقل فيضيع المؤلف ويقتل نفسه بيده؛ لنقص في الخبرة وربما رغبةً في الشهادة.» وأشار إلى أن نقد الخطاب الديني لم يَعُد من اليسار الإسلامي بل اليسار العلماني، واصفًا دراستي الأخيرة من كتابي نقد الخطاب الديني. وقال عن اليسار العلماني: «إنه خصيم للفكر الديني وليس أحد تيَّاراته.» لكنه يُعبِّر عن خوفه «أن يتمَّ استبعاد نقد الخطاب الديني وحصار مؤلفه»، ويختتمها بقوله: إن دراسته لكتاباتي أكبر تحية لي.
أخذت في كتابة ردود على ردود الفعل لكتاباتي خلال العام الماضي، ونشرتُ في مجلة «أدب ونقد» حلقات شهرية، فبراير ومارس وأبريل ومايو ويوليو وسبتمبر. نشرت بعد ذلك في كتابي «التفكير في زمن التكفير»، عن دار سينا للنشر، استكمالًا للنقاط التي لم أتناولها في دراستي «أبو زيد والخطاب الديني»، ركَّزتُ فيها على «الإمام الشافعي» بين البشرية والقداسة. وكانت ردود الفعل شديدة لمجرد تناول تراث الإمام الكبير نقديًّا. والإشكال ليس في «الشافعي» ولا التراث، ولكن في طريقة تعاملنا مع التراث، والخطاب الديني التقليدي يرجع للتراث من أجل الفخر والتعظيم، في مواجهة الضعف والتراجع في واقعنا المعاصر، فيكون التراث عباءةً للاحتماء، وليس مجالًا للدراسة والفهم والتحليل والبناء على إنجازات أجدادنا والإضافة إليها. ولن يَحدُث هذا بدون نقد ووقوف على مَواطن الضعف لنتجاوزها، وبواطن القوة لنأخذها أُسسًا للبناء عليها. فكتابي عن «الإمام الشافعي» لم يكن دراسةً في الفقه وأصوله، كما تصوَّر من انتقدوه، بل هو دراسة في نظرية المعرفة كما يطرحها «الإمام الشافعي» من خلال علم أصول الفقه؛ لذلك ففِقهُ «الشافعي» ليس موضوعي، بل الأصول النظرية وطريقة التفكير التي استخدمها من خلال إجراءاته المنهجية وطرق الاستدلال التي طبَّقها في بنائه. وكلمة الأيديولوجيا أستخدمها بمعنى: «المنظور الذي يُحدِّد للإنسان الصوابَ والخطأ والثواب والعقاب، ما المسموح والممنوع.» وفصَّلتُ مقصودي بكلمة «نص» على أنه: «كل نسق من العلامات اللغوية وغير اللغوية يؤدي إلى معنًى كُلِّي.» وكلمة النص الأصلي، وهو في حالة التراث الإسلامي، هو القرآن. وكلمة النصوص الثانوية هي كل ما يترتب على النص الأصلي، مثل السنة واجتهادات العلماء والفقهاء في الفهم والتفسير؛ لذلك فكلمة النصوص الدينية السياقُ هو الذي يُحدِّد معناها.
وتعبير «صياغة الذاكرة» الذي اعترض عليه الكثير يدور حول الخلاف في فترة انتقال الثقافة الإسلامية من الشفهية إلى التدوين في العصر العباسي الأول. فكان السؤال: إذا تَعارَض العقل مع المنقول عن السلف، فلأيِّهما تكون الولاية على الآخر؟ فأنصار ولاية العقل على النقل استخدموا التأويل من أجل رفع التناقض، وأنصار أن تكون الولاية للنقل تمسَّكوا بالدلالة الحرفية للنصوص، وحاوَلوا توسيع مجال النصوص، وحرَصوا على شُموليَّتها لكل جوانب الحياة من جهةٍ أخرى؛ أي ترسيخ سلطة النصوص أو هيمنتها وشموليتها، وهي سُلطة تُضيفها الجماعة إلى النصوص، فكان المسلمون الأوائل يُفرِّقون بين ما هو مجال للوحي وما هو مجال للخبرة البشرية؛ لذلك حينما ذكرتُ تعبير «التخلص من سلطة النصوص»، وليس من النصوص، بل من السلطة التي يفرضها البعض على النصوص من أجل فرض تأويلاتهم وتفسيراتهم وقراءاتهم هم للنصوص، ومن يختلف معهم يصبح مُهرِطقًا ومُلحِدًا بل وكافرًا.
لذلك فالآيات التي ذكرها الدكتور «محمد البلتاجي» ليُدلِّل على شمولية النصوص بالإضافة إلى آيات الحاكمية الثلاث التي ناقشتُها في دراسة إهدار السياق، أورد هو الآيات التالية: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (سورة الأحزاب: ٢٦)، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (النور: ٥۱)، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء: ٦٥)، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل: ٨٩). الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: ٣). وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ (الشورى: ۱٠).
في الآيات الثلاث الأولى تُشير إلى الوجود الفعلي الشخصي للرسول عليه الصلاة والسلام، يحكم بعد استماعه لكل الأطراف بوصفه قاضيًا وحاكمًا. وهو ما ليس حاصلًا الآن، وما بين يدَي المسلم نصوصٌ تحتاج للفهم بإعمال العقل والاجتهاد. والانصياع والخضوع الذي يتكلم عنه د. «بلتاجي» في تفسيره يرتبط بوجود الرسول حاكمًا وقاضيًا في شئون العقيدة والدين، وقد خالَفه الصحابة في شئون الدنيا في أكثر من مناسبة. والآيات التالية حينما تُشير إلى تبيان كل شيء ليست بالمعنى الحرفي، بل هي إشارة إلى كل شيء يخصُّ العقيدة الإسلامية، ولا تمتدُّ إلى ما وراء ذلك من معارف طبيعية واجتماعية حصَّلَتها خبرة البشر في تسيير شئون حياتهم، وهي نفس الدلالة في الآية رقم خمسة. والآية السادسة وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ لا يكشف السياق إلا عن دلالة الاختلاف بين المسلمين وغيرهم؛ أن هذا الاختلاف مردود إلى حكم الله تعالى يوم القيامة؛ وذلك بالنظر إلى الآيتَين السابقتين لها في السورة.
مفهوم سلطة النصوص بشموليتها لكل الوقائع هو تأويلٌ بشري للآيات، يؤدي إلى إلغاء تلك المناطق الدنيوية التي تركها الإسلام للخبرة والتجربة والعقل الإنساني، ومفهوم الشمولية هذا يُفضي إلى القول بالحاكمية، وتحكيم الفهم الحرفي للنصوص في كل مجالات حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ويعتمد على تأويله لآيات الحُكم الثلاث، في سورة المائدة، بانتزاعها من سياقها، ويُضفي عليها دلالات لا تقولها؛ وذلك من أجل إخفاء سلطتهم التي يسعَون لفرضها من وراء تأويلاتهم للنصوص. وهي السلطة التي أُناقشها وأدعو للتحرر منها، وليس التحرر من النصوص، كما يُحاوِل أن يُصوِّر المُغرِضون. وكيف تُفهَم النصوص بدون العقل واجتهاده في الفهم والقراءة؟ وهذا ما يُحارِبه دعاة السلطة والسيطرة والهيمنة باسم الدين والعقيدة. «إنهم يُقدِّسون الماضيَ تقديسًا أعمى، وينفرون من أية محاولة لإعادة اكتشاف هذا الماضي.»
١٢
الكثير من الناس يتصور أنَّ ما في أذهاننا يتطابق مع الواقع العيني، وكلما كان ما في الذهن قديمًا اكتسب لقِدمه قداسة. والكارثة أن المُثقَّفين والمُتخصِّصين يُفكِّرون بنفس الطريقة. وهذا ناتج عن تصور لطبيعة اللغة قد عفا عليه الزمن؛ تَصوُّر أن «العلاقة بين اللفظ والمعنى الذي يدل عليه علاقةُ تطابق». فنقول «المرض الخبيث» تحاشيًا لذِكر اسم المرض ذاته؛ اتقاءً لشره حتى بعدم استحضار اسمه. وقد صاغ الكثير من المفكرين المسلمين القدماء مفهومًا عن اللغة بوصفها نظامًا من العلامات، فيُشير شيخ البلاغيين العرب والمسلمين «عبد القاهر الجرجاني» أنه ليس هناك علاقةٌ ضرورية بين اللفظ «ضرب» وحادث الضرب ذاته، بل اللفظ مجرد علامة على الفعل، وكان يمكن أن تدل علامةٌ لفظيةٌ أخرى لو توافق عليها الناس؛ أي إنها علاقةُ اصطلاح مباشرة بين اللفظ والمعنى، أو الاسم والمسمَّى.
إلى أن أضاف عالم اللغة السويسري «ألفريد دي سوسير» (۱۲٧۲ﻫ/۱٨٥٧م–۱٣٣٠ﻫ/۱٩۱٣م) فقال: إن اللفظ سواءً كان مكتوبًا أو منطوقًا، دالٌّ على صورةٍ سمعية. بدليل أننا نتحدث إلى أنفُسنا بدون إصدار أصوات أو قراءة كلمات. والمدلول أو المعنى لا يُشير إلى شيء في الواقع الخارجي، بل يُشير إلى تصورٍ ذهني؛ فمدلول العنقاء لا يُشير إلى شيء في الواقع الخارجي، إنما هو مجرد تصور ذهني. ويصل «دي سوسير» إلى أن «العلامة اللغوية عبارة عن وحدةٍ نفسية مزدوجة يترابط فيها العنصران (الصورة السمعية والمفهوم) ارتباطًا وثيقًا، بحيث يتطلب وجود أحدهما وجود الثاني.» هذا التصور أنهى إلى الأبد التصورَ الكلاسيكي عن علاقة اللغة بالعالم كتعبيرٍ مباشر عن هذا العالم؛ فاللغة لا تُعبِّر عن العالم الموضوعي، بل يُعاد إنتاج هذا العالم من خلال التصورات والمفاهيم الذهنية القارَّة في وعي الجماعة ولاوَعيِها؛ فحين نقول «مات الخليفة الأول أبو بكر الصِّديق» هي جملة تُشير إلى واقعة في العالم خارج اللغة، لكن قوانين اللغة تكشف عدم التماثل؛ فالجملة تقول إن الفعل «مات» والفاعل هو «أبو بكر الصديق»، وهذا ليس صحيحًا في الواقع؛ فأبو بكر، رحمه الله، لم يفعل فعل موته، ونحويًّا الفاعل هو كلمة «الخليفة»، وهي وفي الواقع الخارجي وصفٌ للشخص، وكلمة «أبو بكر» هي بدل من كلمة الخليفة.
المسألة الثانية: العلاقة بين القدرة الإلهية والفعل الإلهي، وعلاقتهما بالعالم؛ فذاتُ الله الأزلية القديمة لها صفاتٌ أزلية، منها قدرة الله المُطلَقة؛ لأنها صفة من صفات الذات. القدرة بمعنى الإمكانات غير المُتناهية للأفعال، وقدرة الله غير مُتناهية، لكن العالم الذي نعيش فيه مُتناهٍ؛ حيث بدأ الزمن بخلق العالم، وهو فِعل افتتاح التاريخ؛ فهو واقعةٌ تاريخية؛ أي إن العالم مُحدَث، حتى من قالوا بقِدم العالم في تاريخ الفكر الإسلامي كانوا يتحدثون عن المادة التي صيغ منها العالم؛ مما لا يتنافى مع تاريخية إيجاد العالم، سواءً كان خلقًا من عدم أم كان صُنعًا من مادةٍ قديمة. التاريخية هنا تعني الحدوث في الزمن، إنها لحظة الفصل والتمييز بين الوجود المُطلَق المُتعالي، الوجود الإلهي، والوجود المشروط الزماني. وإذا كان إيجاد العالم هو فعل افتتاح الزمان، فإن كل الأفعال التي تلته تظلُّ أفعالًا تاريخية بحُكمِ أنها تحقَّقَت في الزمن والتاريخ، وكل ما هو ناتج عن هذه الأفعال الإلهية مُحدَثٌ حدث في لحظة من لحظات التاريخ. من هنا فقُدرةُ الله أزلية بما هي صفة للذات، غير مُتناهية، ومن حيث هي إمكانات للأفعال، بينما الأفعال مُتناهيةٌ تاريخية لتَعلُّقها بعالمٍ مُتناهٍ؛ فليس كل ممكن مُتحقِّقًا.
«من هنا فكلام الله يُعَد فعلًا. والالتباس يأتي من عدم التمييز بين صفة العلم وصفة الكلام؛ فعِلمُ الله مِثل قدرته، هما مُطلَقان وأزليَّان، ولكن حينما يتجلى هذا العلم في كلام يَحدُث في الزمن فهُنا تمَّ الدمج؛ بما أن القرآن كلام الله، والكلام صفة من صفات الذات، وليس فعلًا كما ذهب المعتزلة، فكان من السهل استنتاجُ أن القرآن قديم وليس مخلوقًا؛ بناءً على اختلاف القدماء في هل كلام الله صفة من صفات الذات الإلهية الأزلية، أم فِعل من أفعالها. وتم الاستناد إلى التعبير القرآني «اللوح المحفوظ»، الذي دُوِّن فيه القرآن كدليل على قِدم القرآن، لكن السؤال هو: هل اللوح المحفوظ مخلوق أم قديم؟ وأكيدٌ أنه مخلوق، وإلا قلنا بتعدد القدماء، وهو التصور الذي رفضه كل المفكرين في التراث الديني الإسلامي، فكيف يكون القرآن القديم مُدوَّنًا في لوحٍ مخلوقٍ مُحدَث؟! وحتى الاستناد إلى أن الله ابتدأ الخلق بالأمر الكينوني «كن»، فلا بد أن يُفهَم الأمر الإلهي الكينوني «كن» فهمًا مجازيًّا. وهذا لا ينفي كون الكلام الإلهي يدخل في دائرة الأفعال، وليس الصفات الأزلية القديمة المحايثة للذات. ولا يمنع إطلاقًا من وصف الله سبحانه بأنه متكلم وسميع وبصير، صفات مُحايثة للذات لا تظهر إلا في الأفعال، وظهورها في الفعل هو التحقق التاريخي. والفعل الإلهي له شِقَّان في علاقته بالتاريخ؛ شِق أفعال سابقة على الوعي الإنساني — وقعت خارج التاريخ — مِثل فعل الخلق والتكوين. الشق الثاني هو الفعل الإلهي في التاريخ، ويتم دون تجاوز قوانين التاريخ.»
والإنسان كائنٌ تاريخي؛ أي يقع فعله في التاريخ ويتشكل به، لا بمعنى تتابع الوقائع في الزمن، بل بمعنى السياق السوسيولوجي العام للوجود الإنساني. و«النصوص الإلهية» هي «رسائل من الله، سبحانه وتعالى، إلى الإنسان، مَهمَّتها هي تعديل مسار الإنسان؛ لذلك يختار الله لغة الإنسان، واللغة ظاهرةٌ اجتماعية تاريخية ثقافية. وهذا التواصل بين الله والإنسان يتكوَّن من مُرسِل هو الله، سبحانه وتعالى، ومُستقبِل هو الرسول ﷺ، ورسالة هي النصوص الدينية، ويتمُّ هذا التواصل عبر شفرة، وهي لغة القوم الذين نزلت إليهم الرسالة. ولأن الرسالة تهدف إلى سعادة الإنسان، فيكون الإنسان هو المُخاطَب بها، ويكون الإفهام هو غايتها.» من هنا فكرة تاريخية النص القرآني؛ أي ليست كما يشيع من يسعَون لقتل خطابي — بزعمٍ كاذب — بأن القرآن يتحول إلى فولكلور، ويوضع في متحف التاريخ؛ فإذا كانت النصوص البشرية تتجاوز زمنها لتدلَّ في زماننا، فما بالك بنصٍّ مُقدَّس. والنص القرآني يستمدُّ مرجعيَّته من اللغة ومن الثقافة، ومن هنا فهو مُنتَجٌ ثقافي على الرغم من مصدره الإلهي. والنص القرآني مُنتَجٌ ثقافي أنتَجَ الثقافة الإسلامية.
نُشِر حوار مع عالِم دين كبير بمجلة «المصور» في عدد الحادي عشر من فبراير أربعة وتسعين، يُناقِش «ادِّعاء الغرب بأن العقل الإسلامي لا يفهم مبدأ السببية المباشرة للظواهر الطبيعية، وأنه ينسب العلة الحقيقية للظواهر كلها إلى المشيئة الإلهية»، فكتبتُ مقالًا هو «انتصار الجهل بملكوت الله»، نُشِر بجريدة «الأهالي» في عدد الثامن من يونيو أربعة وتسعين، أَعرِض فيه الصراع بين التيَّار الديني العلمي العقلاني مُمثَّلًا في المعتزلة وابن رشد أساسًا، والتيَّار الديني ذي النزعة الروحية الخالصة المُتمثِّل في الأشعرية كما جسَّدتها كتابات «أبي حامد الغزالي»، وكيف أن أفكار البشر نُحوِّلها إلى عقائد، ولطول سيادتها تصبح أصلًا من الدين ولم تَعُد مجرد أفكار وتصورات.
١٣
كتبتُ مقالًا نشرَته مجلة «الطريق» البيروتية، في مايو سنة أربع وتسعين، عن حالة «الاستقطاب الفكري بين الإسلام العصري وأسلمة العصر في مصر»؛ فالصراع يدور في جوهره على أرض الإسلام بين من يريدون إسلامًا عصريًّا ومن يريدون أسلمة العصر، وعرضتُ بعض الأمثلة من الكتابات في الصحف المصرية التي تناولت هذه القضية، وهي في جذورها خلافٌ حول فهم الإسلام، وحول علاقة الدين بالدولة؛ فمُمثِّلو الخطاب الديني يُوصِّفون الاستقطاب بأنه بين الإسلاميين والعلمانيين، وخصومهم يتحدثون عن أنه صراع بين ثقافةٍ تقليدية مُحافِظة وثقافةٍ ليبرالية — أو ثقافة التنوير — وفريقٍ ثالث يُحاول أن يُمثِّل الوسط المُعتدِل. وكتبتُ عِدَّة مقالات لمجلة «الناقد» التي تَصدُر في لندن، وقد نُشِرت من أول شهر يوليو، فكتبت عن «عصيان الدين أم عصيان الدولة؟» وعن «أرثوذوكسية مُعمَّمة»، ومقالًا آخر في عددها الرابع والسبعين عن «اللغة الدينية والبحث عن ألسنية جديدة، قراءة في فكر محمد أركون» (۱٣٤٥ﻫ/۱٩٢٨م–۱٤٣٠ﻫ/۲٠۱٠م) وهو يُحاوِل البحث عن خصوصية اللغة الدينية، ومنهجه في بحثه يختلف عن منهج الوضعية الاستشراقية الذي يكتفي بالوصف المُحايِد المُغلَّف بادِّعاء الموضوعية والمُعتمِد على المنهج الفيلولوجي؛ فأركون يسعى من داخل منظومة الفكر الديني عامةً والإسلامي خاصة، ولكنه ليس من مُنطلَق الخطاب الإسلامي الشائع المُنتشِر والمُسيطِر؛ فهو يسعى لتجاوز عمليات الاستخدام الأيديولوجي للدين من خلال مستويات نقد الخطاب الإسلامي وخطاب الاستشراق معًا، مُعتمِدًا على العقلانية الأوروبية، وأيضًا بنقد الماضي والتراث، ثم ثالثًا يُحاوِل أن يقرأ الوحي/القرآن قراءةً تزامنيةً مُضادَّة للقراءة التي تُسقِط معانيَها على النصوص، أو القراءة التجزيئية التي تُفتِّت النصوص لتجعلها تنطق بما تريد هي. وهو يُحاوِل الخروج مما هو سائد بوعيٍ جديد لا يتصادم كليًّا من أجل التعايش بين الأديان الثلاثة من جهة، وبين خطابه العلمي والخطاب الإسلامي السائد من جهةٍ أخرى، مما جعله يقدم بعض الترضيات حتى لا يَحدُث الصدام.
حاولت في مقالٍ نشرَته مجلة «العربي» الكويتية، في عدد مايو سنة أربع وتسعين، بعنوان «المقاصد الكلية للشريعة، قراءةٌ جديدة»، أن أُعمِّق منهج أسلافنا علماء الأصول في محاولتهم استخلاص مقاصد الشريعة، عبر «القراءة التفصيلية المُتأنِّية والعميقة للنصوص الدينية ذات الطابع التشريعي، من خلال علاقاتها التركيبية ببعضها بعضًا من ناحية، وعلاقاتها بنصوص العقيدة والأخلاق» من ناحيةٍ أخرى، باستنباط الكليات من الجزئيات تصاعدًا، وإعادة قراءة الجزئيات من خلال هذه الكليات من خلال تفاعل بين الكُلِّي والجزئي. وهذا المنهج قابل للإضافة إليه بتطور أساليب المعرفة في عصرنا؛ فالنص الإسلامي جزَّأته العلوم الدينية في التراث، فانشغل علماء الأصول بالأحكام والتشريعات، واهتمَّ علم الكلام بالعقيدة، واهتمَّ التصوف بالأخلاق، وعلم اللغة والبلاغة التقليديَّين، لكن علوم اللغة الحديثة تهتمُّ بمستويات الدلالة الكلية التي لا تفصل بين التشريعي والعقَدي، وبين الدلالة المُستنبَطة من القصص القرآني والدلالة الكلية للنص الإسلامي في سياق تفاعله مع الواقع الاجتماعي والتاريخي. والقراءة الكلية للنص الإسلامي، في تعامله مع الواقع، أخذت موقفًا واضحًا ضد الجاهلية، وكانت تعني في هذا السياق الثقافي العصبيةَ والتعصب، فجاء الإسلام بالحِلم؛ أي العقلانية في مواجهة الجاهلية، وبالحرية نقيضًا للعبودية، وهو مُتصل ومبني على المبدأ الأول.
المبدأ الثالث: العدل الإلهي. وهذه المبادئ — العقل والحرية والعدل — منظومةٌ مُتماسِكة ومُترابِطة، وتستوعب المقاصد الخمسة التي وضعها القدماء، في حفظ النفس والعقل والدين والعِرض والمال، بالإضافة إلى تَضمُّن هذه المبادئ الثلاثة القواعدَ الاجتهادية للقدماء مِثل الاستحسان والمصالح المُرسَلة واستصحاب الأصل وإباحة الضرورات للمحظورات وغيرها. إنها جهودٌ تحتاج إلى مؤسَّساتٍ بحثية جديدة على صلة بمنهجيات العلوم الإنسانية المُتطوِّرة، وما يتصل منها بدراسة النصوص وفهمها وتأويلها.
كتب د. «محمد عمارة»، الأستاذ بدار العلوم، مقالًا بالمجلة ذاتها، نُشِر في يوليو بعنوان «ألف باء الحوار»، يردُّ على مقالي، فكتبتُ مقالًا نُشِر في عدد شهر أغسطس بعنوان «نحو حوار عقلاني مُتكافئ: نعم لتحرير مضامين المصطلحات». ود. عمارة انطلق من أن هناك تيَّار أهل الموروث وتيَّار أهل الوافد. من هنا يتولد التوجس وتَوقع سوء القصد حينما يتصدى باحث ليس محسوبًا على أصحاب الحل الإسلامي للكتابة عن الإسلام والتراث. وهو يتساءل ماذا أعني بالعقلانية، وبالحرية وبالعدل، وهل هي عقلانية التنوير الغربية أم العقلانية المؤمنة. وعلى الرغم من أني شرحت في مقالي ماذا أعني، فإنني حدَّدتُ العقل «بالفعالية الذهنية التي تُحوِّل الأدلة — حسيةً أم نقليةً أم تَجارِب وجدانية — إلى معرفة تُعمِّق بِدَورها هذه الفعالية بمزيد من الصَّقل والصفاء والحِدَّة»، وكذلك فعلت مع المفاهيم الأخرى، لكن «عمارة» وضع مجموعةً من المُماحَكات اللغوية، حينما ذكرتُ تعبير «سنن التاريخ» على أنه يَفضُل تعبير «سنن الله»، ولا يسعني إلا تذكيره بمفهوم الدهر في التراث الذي لا يجوز للمسلم أن يسبَّه لأنه هو الله؛ فالقول بوجود سنن تاريخية لا تعني إنكار الوجود الإلهي، معاذ الله. وكذلك فعل مع تعبير اللحاق برَكبِ الحضارة، ومع مفهوم الحرية. «إن أغلب حواراتنا ضحايا بائسة للفوضى الشائعة في مضامين المصطلحات وللتوجس المتبادل والبدء من افتراض سوء القصد.»
عقَدَت محكمة استئناف القاهرة أُولى جلساتها للنظر في طعن «صميدة عبد الصمد» ضد حكم المحكمة الابتدائية؛ سعيًا منه ومن تابعيه للتفريق بيني وبين «ابتهال»، في السادس والعشرين من يوليو أربعة وتسعين. ونشر د. «عبد الصبور شاهين» كتاب «قصة أبو زيد وانحسار العلمانية بجامعة القاهرة»، ولم يكن فيه شيء يُذكَر سوى مقالات مُجمَّعة من الصحف كتبها بعض المُناصِرين لموقفه. وطلبَت مني مجلة «العربي» أن أُجريَ حوارًا مع الأستاذ «محمود أمين العالم» بمناسبة بلوغه السبعين؛ ليُنشَر في عدد شهر سبتمبر سنة أربع وتسعين، فرحَّبتُ جدًّا؛ فالأستاذ «العالم» بنشاطه الضخم الذي يحسده عليه الشباب، وخطابه المفتوح الذي جعله يحظى باحترام خصومه قبل مُريديه، وهو خطابٌ نقيض للخطاب المُغلَق المُتعصِّب؛ فخطابه يتجدد من داخله بحكم قدرته على نقد ذاته والاستماع إلى نقد الآخرين، في حين أن الخطاب النقيض يتآكل بفعل الصدأ الناتج عن عدم قدرته على التجدد والنمو. وهذا ما حصَّنه ضد المُهاجِرة من اليسار إلى أقصى اليمين كما فعل أقران له.
حاولتُ أن أخرج من أزمة القضية التي عِشتُ فيها خلال العام الماضي ونِصفه بالعودة لدراساتي، فكتبت دراسةً نُشِرت بمجلة «فصول» تحت رئاسة «جابر عصفور»، في عدد خريف أربعة وتسعين، في المجلد الثالث عشر، بعنوان «الرؤيا في السرد العربي حافزٌ سردي أم وحدةٌ دلالية؟» فمنذ ملاحظتي لدور الرؤيا في السيرة النبوية حين درست السيرة كسيرةٍ شعبية وأنا أريد دراسة الرؤيا في السيرة وفي القرآن. «وللرؤيا وتأويلها دورٌ كبير في السرد العربي، وللدالِّ اللغوي أرى عِدة دلالات؛ فقد تكون إدراكيةً بالبصر، مِثل قول القرآن الكريم في الآية السادسة والسبعين من سورة «الأنعام»: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا. وقد تكون الحلمية بالرؤيا في المنام، مثل الآية الرابعة من سورة «يوسف»: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ. وقد تكون العلمية بمعنى نعلم/نعتقد، مِثل الآية الثامنة والسبعين من السورة ذاتها: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.» ونجد أن هناك تفرقةً بين رؤيةِ ما هو حسن أو خير، وبين الحُلم الذي غلب عليه رؤية الشر والقبيح؛ مما جعل الرؤيا أداةً معرفية؛ فالرؤية الصادقة جزء من النبوة، في حين يكون الحلم مَصدره الشيطان.
حلَّلتُ الرؤيا في القرآن الكريم بوصفها نصًّا سرديًّا داخل النص السردي الذي تَرِد فيه، والتفرقة بين توظيف الرؤيا كحافز أو مُفتتَح للسرد، وبين كون الرؤيا وحدةً دلالية في سلسلة الأحداث، مِثل رؤيا «يوسف» ورؤيا السجينَين ورؤيا الملك. وتحليل دلالة القميص في دلالته الكاذبة على أكل الذئب ﻟ «يوسف»، ودلالة القميص في براءة «يوسف» من الاعتداء على امرأة العزيز، ودلالته الثالثة في عودة بصر والد «يوسف» بقميص البشارة الذي أُلقيَ على وجهه. ودرَستُ الرؤيا في الجزء الأول من كتاب السيرة النبوية برواية «ابن هشام» عن «محمد بن إسحاق»، والتي تُمثِّل وحدةً سردية. ورؤيا جد النبي «عبد المطلب»، وكذلك عرَضتُ للرؤيا في الفكر العربي الإسلامي، وكيف انتقلت النبوءة في السرد إلى النبوءة في نظرية المعرفة في جانبَيها الإشراقي والصوفي، ومنها إلى الخطابات كأداةٍ أيديولوجية تسعى بها إلى تحقيق مشروعيتها المعرفية في الثقافة، مثل رؤيا «المأمون لأرسطو»، ورؤيا «أبي الحسن الأشعري» للرسول عليه السلام ليُعلِّمه كيف يردُّ على المعتزلة. ورُؤى «الشافعي» وتأكيد الصوفي الكبير «ابن عربي» في كتابَيه «الفتوحات المكية» و«فُصوص الحِكم» ما هي إلا بشاراتٌ نبوية أُمليَت عليه. وفي العصر الحديث لو نظرتَ إلى نص «نجيب محفوظ» من كتابه «كفاح طيبة» إلى آخر نصوصه ودور الرؤيا عنده. حاولت تقديم دراسة مُتواضعة دعوةً لمزيد من الدراسات في هذا المجال.
جمَعتُ الدراسات التي كتبتُها ردًّا على ادعاءات التكفير ضد إنتاجي في كتابٍ صدر عن دار «سينا» للنشر، بعنوان «التفكير في زمن التكفير»، ومقالات عن المرأة في كتابٍ صغير سوف يظهر في شهر نوفمبر عن دار نشر «نصوص» لمجموعةٍ شابَّة؛ لتكون إهداءً إلى «ابتهال» في عيد ميلادها؛ «فبدونها ما كان مُمكنًا أن تمرَّ عليَّ محنة الأشهُر الماضية كما مرَّت في وجودها»، بعنوان «المرأة في فكر الأزمة». وجاء — مساءَ الجمعة الرابع عشر من أكتوبر — خبرُ طعن الأستاذ «نجيب محفوظ» في رقبته وهو في طريقه من بيته إلى حلقته الأسبوعية، ويُطلُّ الإرهاب بوجهه القبيح ويُحاول نهش كاتب آخر في هذه الحرب التي تمرح في المدينة، فيا تُرى على من الدور؟
١٤
داخلي طاقةٌ كبيرة ودعم «ابتهال» يزيدونني رغبةً في مواصلة البحث والدراسة، فكتبتُ دراسةً نشرَتها مجلة «ألف» للبلاغة المقارنة بالجامعة الأمريكية في عدد سنة خمس وتسعين، بعنوان «العالم بوصفه علامة»، حاولتُ أن أستكمل الدراسة السابقة التي كتبتُها في الثمانينيات — من القرن العشرين — عن «علم العلامات في التراث، دراسةٌ استكشافية»، فقمتُ بدراسة العلامات في القرآن الكريم؛ كيف يُحوِّل النص القرآني العالَمَ الخارجيَّ كله إلى مجموعة من العلامات — بالمعنى السيميوطيقي – أو الوحدة الدلالية، ودور النص القرآني في صياغة المفاهيم النظرية والفلسفية اللاحقة عن اللغة والدلالة، وأيضًا طبيعة اللغة الدينية وآليات تَشكُّلها من بيئة اللغة الأم، وكيف أعاد تشكيل بيئة اللغة ذاتها فيما بعد. وبدأت بسورة «العلق»، والتي تُمثِّل النص الافتتاحيَّ للنص القرآني الأكبر، وكيف حوَّلَت آيات القرآن فيها العالم الخارجيَّ والتاريخ الإنسانيَّ وقصص السابقين إلى علامةٍ تُجسِّد الصراع الأزليَّ بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر؛ ثم سورة «الرحمن» التي حدث فيها انفتاح للدلالة الضِّمنية في سورة «العلق» بتحويل النِّعم ذاتها إلى علاماتٍ تُشير إلى المُنعِم؛ وسورة «القمر» التي حوَّلَت الأحداث التاريخية للسابقين إلى علاماتٍ دالَّة كذلك؛ وسورة «النحل» حوَّل فيها النص القرآني العالَم إلى نظام من العلامات الدالة على مُطلِقٍ كُلِّي واحد، سواءٌ العلامات الكونية أو التاريخ البشري؛ وبهذه السورة ترتفع نبرة التهديد عن السور السابقة، وبها تركيز على علامات خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان، وإلقاء الرواسي في الأرض، وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، وإنزال الماء من السماء. وحلَّلتُ خلق السموات والأرض والجبال وخلق الإنسان، ثم خلق الليل والنهار. القرآن يُحوِّل كل ما يُدركه الوعي الإنساني بحِسِّه إلى «علامات/كلمات»؛ فالجبال مثلًا رواسٍ تمنع الأرض أن تَمِيد، دلالةً على القدرة الإلهية وعلى نِعَم الله، وهي تحمي الإنسان فيَتَّخذ منها بيوتًا، وفي سياق التهديد تتصدَّع الجبال من خشية الله، والجبال قوةٌ عاقلة؛ فقد أشفقَت من حمل الأمانة وحملَها الإنسان. الجبال يمكن أن تكون علاماتٍ دالةً على قرب الساعة، فتصير كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، كالآية «٥» من سورة «القارعة».
بالقرآن بُذورٌ تطوَّرَت في الفكر الإسلامي بعد ذلك عن وجود نصَّين؛ نص مسطور بين دفَّتَي المصحف، ونص كلمات الله المنشورة في صفحة الوجود. رصدتُ تلك الجوانب المختلفة عند المتصوفة والمعتزلة وابن رشد، وتوصَّلتُ إلى أن اللغة الدينية تُحِيل العالَم إلى علامة، وتُحوِّل اللغة الأصل إلى علامات — بالمعنى السيميوطيقي — في محاولة لامتلاك وعي المُتلقِّي. والنص القرآني يبدأ من الدالِّ آية/علامة في اللغة حتى ينفتح الدال آيةً ليستوعب الأحكام والتشريعات والنصوص، ثم تصبح هذه الدلالة المُضافة هي المَركز، ويتمُّ إقصاء الدلالة اللغوية السابقة على القرآن إلى الهامش؛ فاللغة العربية ككلٍّ يُحوِّلها القرآن إلى نسقٍ فرعي في بنائه الدلالي. ونحتاج إلى دراساتٍ كثيرة ومُركَّزة لكشف جوانب طبيعة اللغة الدينية، وما هذه الدراسة إلا إشارة.
في ظل حالة الاستقطاب التي تعيشها ثقافتنا كان لإعادة نشر كتاب الشيخ «علي عبد الرازق» «الإسلام وأصول الحُكم» ضجَّة، فأردتُ إعادة طبع كتاب قد صدر بالتركية عام أربعة وعشرين، ونقلَه إلى العربية «عبد الغني سني بك»، لتُعِيد نشرَه «دارُ النهر للنشر والتوزيع» بالقاهرة، وكتبتُ مقدمةً طويلةً تضع الكتاب وإشكالية الخلافة وسُلطة الأمة في السياق الراهن للقضية، وفي سياق صدور الكتاب في بدايات القرن العشرين، وسياق الخلافة ذاتها ومحتوى الكتاب في العشرة القرون الأخيرة من تاريخ المسلمين. تعرَّضتُ بالتفصيل لموقف د. «محمد عمارة» من قضية الخلافة في بداية السبعينيات — من القرن العشرين — وهو الذي أعاد نشرَ وجمعَ تراث التنوير والنهضة، بل ونشرَ كتابِ «علي عبد الرازق» في مجلة «الطليعة» القاهرية اليسارية عام واحد وسبعين، وأعاد نشره في دراسة للظروف والوثائق الأساسية عام اثنين وسبعين في مؤسسة الدراسات العربية بلبنان. وهناك فارق بين «عمارة» السبعينيات — من القرن العشرين — و«عمارة» التسعينيات، والذي نشر سبع مقالات في جريدة «الحياة» اللندنية أعاد نشْرَها بجريدة «الشعب» في الحادي عشر من يناير سنة أربع وسبعين؛ لتلويث «علي عبد الرازق» وكتابه، فتحوَّل الكتاب عند «عمارة» السبعينيات — من القرن العشرين — من محاولة لمناهضة تَحالُف الإنجليز والملك «فؤاد» لملء الفراغ الناتج عن إلغاء الخلافة في «تركيا» سعيًا لتنصيب الملك «فؤاد» خليفةً تحت سيطرة الإنجليز بالكامل؛ ليصبح عند «عمارة» التسعينيات جزءًا من المُخطَّط الاستعماري الغربي. يُحاوِل إثبات أن الشيخ «علي عبد الرازق» تراجع عن أفكاره معتمدًا على اجتزاء فقرات من محاضرة للشيخ، ألقاها في الجامعة الأمريكية في مارس سنة اثنتَين وثلاثين بعنوان «الدين وأثره في حضارة مصر الحديثة»، نشرتُها كجزء من الكتاب كشفًا لتزييف «عمارة» التسعينيات. وظهر من تحليل خطاب «عمارة» أن السياسة هي التي تُوجِّه الفكر عنده، أو سيطرة الأيديولوجيا على المعرفة.
فبعد الحرب العالمية الأولى، وما حدث للدولة العثمانية — رجل أوروبا المريض — ونجاح أتباع «تركيا الفتاة»، قرَّر المجلس الوطني الكبير في «أنقرة»، في نوفمبر سنة اثنتَين وعشرين، إعلان تركيا جمهوريةً وإلغاء السلطنة بعد فصلها عن الخلافة. وكان قرار الفصل بين منصب السلطان ومنصب الخليفة يعني الاعتراف بالاستقلال السياسي عن الأتراك، فخرج هذا الكتاب الذي أُعيدَ نشره كدراسةٍ فقهية اعتمد عليها الكماليون للفصل بين الخلافة والسلطنة، وكتبَ آخرون يرفضون هذا الإجراء مِثل الشيخ «محمد رشيد رضا» في المنار، وكتاب ﻟ «مصطفى صبري» أحد المُعارِضين لحزب «تركيا الفتاة»، حتى أُلغيَ منصب الخلافة ذاته في مارس سنة ۱٣٤۱ﻫ/۱٩۲٤م، فسعت أطرافٌ عديدة للسعي للخلافة. وكان المؤتمر الإسلامي في القاهرة جزءًا من هذه الجهود، فكتب الشيخ «علي عبد الرازق» كتابه «الإسلام وأصول الحُكم»، ليقول به إن الخلافة ليست أصلًا من أصول الدين بل هي اجتهادٌ بشري للمسلمين، واستعرض تاريخ الخلافة والفصل الفعليَّ بين الخلافة والسلطنة منذ العصر العباسي حتى القرن العشرين. وهناك دائمًا فجوة بين النموذج النظري في كتب العقائد والتحقق الفعلي في التاريخ الاجتماعي للمسلمين، وتلك هي الإشكالية التي يتعرَّض لها الكتاب؛ فمشكلة الخلافة ما زال البعض يُناقشها من زاوية الدين لا من زاوية الدنيا، ومن باب العقيدة لا من باب السياسة.
تقدَّمتُ في شهر فبراير للترقية إلى أستاذ مرةً ثانيةً بعد تغيير اللجان العلمية، وكنتُ حريصًا على ضم الدراسات التي هاجَمها «عبد الصبور شاهين» كجزء من إنتاجي، وأضفتُ إليها ما أنتجتُه من دراساتٍ خلال الفترة السابقة، ومن ضِمنها كتاب «التفكير في زمن التكفير»، وبه مناقشة لكل ما أُثيرَ حول إنتاجي وأفكاري.
١٥
بعضُ من يَتصدَّون للحديث عن الإسلام يَحصرون كل مجالات الحياة الإنسانية بين دائرتَي الحلال والحرام فقط، وتوسَّعوا بطريقةٍ غير مسبوقة في المُحرَّمات؛ فكتبتُ مجموعة مقالات لجريدة «أدب ونقد» كان أولها «كلام ليس جديدًا تمامًا عن الإسلام والشعر»، نُشِر في شهر يناير سنة خمس وتسعين، عرضتُ أقسام الأحكام الخمسة التي وضعها المُفكِّر الأصولي القديم؛ الواجب والمندوب، والمباح وهو أوسع الدوائر، وهو ما يمكن أن نَصِفه بالحلال، ثم المكروه والمُحرَّم. والفكر الذي يُوسِّع دائرة الحرام مشكلته تَكمُن في خلطه بين ما هو مُحرَّم دينيًّا وفقهيًّا وبين المُحرَّم اجتماعيًّا، فهل الشعر يدخل في دائرة الحرام بالمعنى الديني، أم يدخل دائرة المكروه، أم إنه في الحقيقة يقع في دائرة المُباح؟ تناولتُ تعامل نصوص القرآن مع مسألة الشعر، وفي المقالة الثانية في فبراير بعنوان «الدفاع عن الشعر من أجل تأسيس علم البيان، قراءة في مقدمات عبد القاهر الجرجاني»؛ فآيات القرآن لا تتحدث عن الشعر بل عن الشعراء، و«عبد القاهر» في كتابه «دلائل الإعجاز» وضع علم البيان على رأس العلوم؛ لأنه العلم الذي يدرس الكلام الذي بواسطته تُوصَّل المعرفة وتُنقَل، ومفهومه للبيان لا يقف عند حدود دراسة الكلام في مستوى التواصل فقط، بل يدرسه في مستواه الفني الرفيع شعرًا ونثرًا. وعلم البيان يعتمد على دراسة النحو؛ فهو قانون اللغة، ومن جهةٍ أخرى دراسة الشعر حيث تتجلَّى مستويات البراعة والفصاحة والبيان. والمقالة الثالثة في شهر مايو بعنوان «الدفاع عن الشعر، الحيثيات»، عرضتُ لحيثيات «عبد القاهر» شيخ البلاغيين العرب عن أهمية دراسة الشعر كضرورةٍ إنسانية دنيوية، «حيث إن الفضائل أساسها العلم، والعلم أساسه اللغة والبيان». وهناك ضرورةٌ أُخروية؛ «حيث إن عِلمَي اللغة والبيان هما أداة الكشف عن حجة الله المُتمثِّلة في إعجاز كلامه سبحانه وتعالى. و«عبد القاهر» يُناقش هؤلاء الذين يستندون إلى النصوص الدينية في كراهة الشعر، وهو ما سأتعرَّض له في المقالة التالية.»
منذ أن حصلتُ على كتاب «وليام جراهام» بعنوان «ما وراء الكلمة المكتوبة، الجوانب الشفاهية للنصوص الدينية في تاريخ الأديان»، في طبعته الورقية الصادرة في مارس سنة ثلاث وتسعين عن منشورات كامبريدج بنيويورك بالولايات المتحدة، وأنا أريد الكتابة عنه، فكتبتُ عرضًا له نشرَته مجلة «العربي» الكويتية في عدد مارس سنة خمس وتسعين تحت عنوان «البُعد المفقود من الدراسات الدينية»، يبدأ المؤلف بطرح سؤال: ما النص الديني؟ بهدف إعادة النظر في التعريف الشائع في سياق التراث الأوروبي الذي يُشير إلى النصوص التي دُوِّنت أو طُبِعت دون ما هو شفاهي/سمعي مُتداوَل. والمؤلف يطرح مفهومًا للنصوص الدينية لا يتجاهل طبيعة الوظائف الشفاهية/السمعية، ويُسمِّيه المفهوم العلائقي؛ الذي يعتمد على العلاقة بين النص أو النصوص المعنية، وبين الجماعة أو الجماعات التي تؤمن بها. ويُفرِّق بين نمطَين من دراسة النصوص الدينية؛ أولهما دراسته بوصفه نصًّا مُقدَّسًا، فيُركِّز على المعنى العلائقي السياقي الناتج عن تفاعل الجماعة مع ذلك النص، فيدرس ماذا يعني النص بالنسبة للجماعة التي تؤمن به؛ كيف تُفسِّره وتُوظِّفه في كل جوانب حياتها. ونمطٌ ثانٍ يدرس النص بوصفه وثيقةً، فنُركِّز على الخلفيات التاريخية مثل نشأة النص وتطور مراحله المختلفة. ويدرس النصوص المُقدَّسة في التراث الإنساني مُركِّزًا على التراث الغربي والهندي والإسلامي. وهذا المفهوم يطرح تحديًا علينا — نحن دارسي الظاهرة الدينية — بعدم التركيز فقط على النصوص المكتوبة في ممارسات الجماعات الدينية بالتركيز على الكتابي وإهمال الشفاهي تمامًا. واكتشفتُ خطورة التقصير من جانبنا بإسقاطنا من مجال اهتمامنا ودرسنا البُعدَ الشفاهي ونحن ندرس النصوص الدينية، بل وأسقَطْنا كل ما يتعلق بالحياة الدينية في تركيزنا على النص المُدوَّن المكتوب، وهو ما يجب فورًا تَدارُكه بالعودة إلى المفهوم العلائقي الذي وُجِد أولًا، وما زال موجودًا في التراث الإسلامي وفي الحياة الدينية الإسلامية.
فشِلَت الدعوة للحوار الذي دعَت إليه السلطة كحوارٍ من أعلى يعتمد على الإقصاء، فجاءت العشر الأواخر من رمضان بدعوة للحوار بين «عادل حسين» الاقتصادي وعضو حزب العمل مُمثِّلًا لتيَّار الحل الإسلامي، وبين «رفعت السعيد» عضو حزب التجمع ومُمثِّل اليسار المصري. وقد نشرَت جريدة «الأهالي» الصادرة عن حزب التجمع نصَّ الحوار في الأول من مارس سنة خمس وتسعين، فكتبتُ دراسةً تحليليةً نُشِرت ضِمن كتاب من كتب سلسلة «الأهالي» عدد اثنين وخمسين عن «المواجهة بين «رفعت السعيد» و«عادل حسين» حول الاعتدال والتطرف»، وكانت مداخلتي بعنوان «مقاربةٌ منهجية، عادل حسين ورفعت السعيد خطابان أم خطابٌ واحد؟» فحالة الانقسام التي يمرُّ بها المجتمع تجعل من التكاتف من أجل صياغة مشروع للإنقاذ الوطني، أساسه الاتفاق على الحد الأدنى من الأهداف المشتركة، ونتَّفق على الآليات لتحقيقها؛ فشرحتُ مجموعة ضوابط منهجية ومُنطلَقات لعلم تحليل الخطاب، ومستوى المنطوق، ومستوى قراءة الفَحوى أو المفهوم، ومستوى الدلالات المُضمَرة، ثم مرحلة تحليل بنية الخطاب من خلال ما يكون في بؤرة الخطاب وما في هامشه من عناصر. في هذا الحوار نحن إزاء خطابَين يُعطي كلٌّ منهما ظهره للآخر تمامًا، فافتقد الحوار تحديد الموضوع وتحديد نقاط الاختلاف، واستخدم كلٌّ منهم آلية توظيف النصوص لإقصاء الآخر. ولم تختلف لغة الوعظ الديني في خطاب «عادل حسين» عن لغة «رفعت السعيد» الماركسي الداعية، رغم اختلاف المفردات. وخيَّم على الحوار الطبيعةُ السياسية لا الفكرية؛ فلم يتحقق حوار بقدرِ ما هي مواجهة. وسبب ذلك هو غياب الأبعاد المعرفية في كلا الخطابَين لحساب الأبعاد السياسية المباشرة، فكان الناتج مجرد مساجلة.
١٦
كان غبار قضية محاولة منع عرض فيلم المهاجر ﻟ «يوسف شاهين» في المحكمة على أشُدِّه، فكتبتُ مقالةً لجريدة «الحياة» بلندن بعنوان «تجديد الفكر الإسلامي أسئلة واقتراحات».
وكتبت دراسةً أكثر تفصيلًا نُشِرت بمجلة «القاهرة» في عدد شهر مايو عام خمسة وتسعين، بعنوان «التنوير الإسلامي جذوره وآفاقه»، أدرُس فيها إنجاز «ابن رشد» في الفكر الإسلامي، وفي سياق عقلانية المعتزلة، والتي مهَّدت له، وكيف كان لهذا الجهد حضورٌ في الفكر الإسلامي الحديث المُتأثِّر بالاحتكاك بعصر الأنوار الأوروبي من خلال نموذج خطاب «الإمام محمد عبده»؛ فالمعتزلة قالوا إن للكلام الإلهي قصديةً تُستنبَط، ليس من داخل الكلام بل نابعة من الفهم العقلي للوجود خارج اللغة، وخارج الكلام الإلهي ذاته. وهناك دلالاتٌ عقلية وجوبية لا تختلف من مجتمع إلى آخر أو ثقافة إلى ثقافة؛ فهي دلالاتٌ يتَّفق عليها العُقلاء بصرف النظر عن المكان والزمان، مثل دلالة الفعل على الفاعل، وبها علاقةُ تلازمٍ عقلية.
المعرفة الفلسفية عند «ابن رشد» تقوم على التأمل في آيات العالم باعتبارها دالةً على الصانع، مُستخدِمًا البرهان الفلسفي والمعرفة الدينية بفهم الآيات اللغوية في القرآن. ولأن خطاب الشرع مُوجَّه إلى الناس كافةً على اختلاف قدراتهم الذهنية، فمنهم من يُصدق بالبرهان، ومن يُصدق بالجدل، ومنهم من يُصدق بالخطابة. والبرهان أساسي وضروري لمعرفة الدين والشرع، وما ظاهره في الشرع مُخالِف للبرهان العقلي لا بد أن يَقبَل التأويل. والتأويل يكون «بإخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير إخلال بعادة لسان العرب في التجوز»؛ فالمعتزلة و«ابن رشد» جعلوا من معرفة العالم بالاستدلال العقلي، أو في عصرنا بمناهج العلم المعاصر وتقنياته، مدخلًا أساسيًّا لفهم كلام الله، ومرجعية اللغة كنظامٍ رمزي يُشير إلى العالم من ناحية، وكشفرة للرسالة الإلهية الكلامية من جهةٍ أخرى.
واستجابةً لتحدِّي أوروبا حاوَل «محمد عبده» التجديد من خلال تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلافات؛ فأخذ مفهوم التوحيد عند «الأشاعرة»، ومفهوم العدل عند المعتزلة، لكنه تخلَّى عن الانتقائية بين المعتزلة والأشاعرة، ورتَّب أصول الإسلام حسب ترتيبها عند المعتزلة، وجعل النظر العقلي هو الأصل الأول للإسلام، ووسيلة الإيمان الصحيح، والأصل الثاني هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والثالث البُعد عن التكفير، والرابع الاعتبار بسنن الله في الخلق بمحاولة كشف القوانين الطبيعية والإنسانية في الكون والواقع، والخامس قلبُ السُّلطة الدينية. من هنا فمعرفة العالم بقوانينه الطبيعية والإنسانية والاجتماعية أساسيةٌ لفهم وتأويل الكلام الإلهي.
•••
أصدرتُ بيانًا إلى الأمة نشرَته مجلة «روز اليوسف»، في عددها الصادر في السادس عشر من مايو، بعنوان «الحقيقة أو الشهادة»، قلت فيه: لأنني باحثٌ مسلم وهبَ حياته للدفاع عن الإسلام، وكرَّس طاقته الذهنية والعملية للكشف عن غايته النبيلة ومعانيه الإنسانية السامية في مناخٍ يُسيء للإسلام، ويُعرِّضه لهجوم الأعداء بسبب بعض الذين يَستغلُّون معانيَه الإنسانية النبيلة لتحقيق غايات نفعية دنيوية رخيصة على حساب مصلحة الأمة ومصالح المُواطِنين مسلمين وغير مسلمين؛ لذلك أدهشني بقدرِ ما أثار غضبي سعيُ هؤلاء سعيًا حثيثًا لقتلي بدلًا من مناقشة أفكاري … والجدال معي بأساليب البرهان العقلي الرشيد … لقد سمحوا لأنفسهم باتهامي بالرِّدَّة … والزيغ عن الإسلام، وطالبوا بالتفريق بيني وبين زوجتي.
ولأن الإسلام الناصع الصفاء لا يسمح لهم بذلك … فقد حاوَلوا التخفِّيَ وراء عباءة القانون مُتجاهِلين أن دعوى تكفير المسلم بلا برهان ترتدُّ — عند الله سبحانه وتعالى — على المدَّعي؛ فالله وحده هو الذي يعلم خائنة الأعيُن وما تخفي الصدور … ولأنني أعتزُّ بإيماني بالله وبرسوله، وإيماني بنُبلِ الإسلام وإنسانية مقاصده، فإنني أعتزُّ كذلك بقيمة اجتهاداتي الفكرية والعلمية … لذلك لن تنال مني فتاواكم المُغرِضة، ولا محاولاتكم المُستميتة لقتلي، سأظلُّ أُناضل عن الإسلام مُسلَّحًا بالوعي العلمي والمنهجية الصارمة ولو كان دمي هو الثمن، ولا سبيل إلا الحقيقة أو الشهادة، أو معانقة النور يُضيء عقول المسلمين، ويفتح أمامهم سبيل التقدم، وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
غضبتُ من تصرف «جابر» بإضافته الشهادتَين لنص البيان تحت إلحاح وزير التعليم، ونشره بجريدة «الأخبار»، وكأنني أعترف أني قد خرجتُ من الإسلام لأعود إليه، وشعرت بمرارة منه رغم تأكيده أن الأمر خرج عن يده في نشر هذا البيان في جريدة الأخبار؛ ليُفسِّره البعض تفسيرًا خاطئًا كما فعلوا مع نائبة البرلمان الأردنية.
تلقَّيتُ دعوةً من معهد الدراسات المُتقدِّمة في برلين للعمل لمدة عام، من أكتوبر سنة ست وتسعين. ومنذ عامَين كنت انضممت إلى مجلس تحرير الموسوعة القرآنية التي تقوم جامعة «لايدن» الهولندية خلال الأعوام القادمة، جامعة الدراسات الإسلامية العريقة التي أصدرت الموسوعة الإسلامية. وتعرَّفتُ على بعض الباحثين الهولنديين، منهم رئيس المعهد العالي للدراسات الآسيوية، والسفير الهولندي بالقاهرة ذاته مُتخصِّص في الدراسات الإسلامية، وله كتاب عن سوريا. وكان رئيس المعهد الهولندي بالقاهرة «فريد ليمهاوس» مُتخصِّصًا في الدراسات الإسلامية، وهو مُترجِم القرآن إلى اللغة الهولندية، ودراساته كلها عن التفسير، فألقى محاضرةً عن أبحاثي ودراساتي. وكنا قد تبادلنا الرأي خلال العام الماضي عبر الهاتف.
جاء قرار مجلس جامعة القاهرة بالموافقة على قرار لجنة الترقيات الجديدة بترقيتي إلى أستاذ، في نهاية شهر مايو، ردًّا للاعتبار تأخَّر عامَين. وكنتُ قد جمعتُ ما كُتِب في الصحف السيَّارة عن القضية بمساعدة «ابتهال»، وكتبت مقدمةً طويلةً لها بعنوان «القول المُفيد في قضية أبو زيد»، شرحت فيه خبايا القضية ومواقف الأطراف قبل وأثناء الأزمة. وقامت جريدة الأهالي بنشره في عددٍ خاص بشهر يونيو، بعنوان «القول المُفيد في قضية أبو زيد»، بقلم عقل مصر وضميرها، جمع وتقديم د. «نصر حامد أبو زيد».
١٧
منذ أن قدَّم الأستاذ «محمد صميدة عبد الصمد» استئناف رقم ٢٨٧ لسنة ۱۱۱ قضائية، في العاشر من فبراير سنة أربع وتسعين، ذكر في استئنافه لحكم محكمة الدرجة الأولى التي حكمت لصالح «نصر أبو زيد»، وزوجته «ابتهال يونس»، أن حكم الدرجة الأولى خالَف حكم محكمة النقض المذكور. ثانيًا: معنى حكم النقض هو العودة إلى مذهب «أبي حنيفة» عند عدم وجود قوانين بقواعد خاصة، ولائحة ترتيب المحاكم الشرعية؛ هما القانون في الأحوال الشخصية. ثالثًا: هذه الدعوى المرفوعة تنبع من ولايةٍ أضافها الشارع سبحانه على كل من أوجبها عليه. رابعًا: إشارة حكم محكمة النقض ضمنيًّا إلى النيابة العامة كدور المُحتسب. خامسًا: حكم محكمة القضاء الإداري في مسألة خروج الآثار المصرية. سادسًا: عرض مجموعة من الأقوال عن الحِسبة.
عُقِدت الجلسة الأولى في السادس والعشرين من يوليو سنة أربع وتسعين، فقدَّم الأستاذ «خليل عبد الكريم» مُحامي «نصر أبو زيد» مذكرةَ دفاع تمسَّك فيها بكافة الدفوع التي طرحها في محكمة أول درجة، وردَّ على أسباب الخصوم في الاستئناف، فقال: إن حكم محكمة النقض ۳٠ مارس سنة ست وستين، والذي يستندون إليه، أصبح بعد صدور دستور سنة إحدى وسبعين غير مُواكب للبيئة التشريعية الجديدة. ثانيًا: إن ما ورد في قوانين الأحوال الشخصية من أحكام هو الواجب التطبيق حتى لو كان يُخالف أرجح الأقوال في مذهب «أبي حنيفة». ثالثًا: الخصوم يخلطون بين مفهوم الولاية في دعوى الحسبة؛ فهي غير مفهوم المصلحة بالمعنى الحديث. رابعًا: حكم محكمة النقض أشار إلى النيابة في مسألة إثبات النَّسب للمولود، ولم تَذكُر وجود نيابة مُفترَضة في الحسبة. خامسًا: حكم المحكمة الإدارية الذي يستندون إليه ما دخلُه في قانون الأحوال الشخصية؟ سادسًا: لا يوجد مُحتسب أو ديوان مظالم كما ورد في الاستشهادات التي كانت حول رفض العلاقة من البداية، وهو ليس في حالة زواج، كما بين د. «نصر» ود. «ابتهال».
فتحَت المحكمة الباب لتقديم مُذكِّرات، فقدَّمَت نيابة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية مذكرةً في ۱٩ يناير سنة خمس وتسعين. وقدَّم الأستاذ «سيف الإسلام عبد الفتاح حمد» مذكرة دفاع ركَّزَت على الجوانب الإجرائية. وقدَّمَت النيابة في ۱٢ فبراير مذكرةً ثانيةً قالت فيها: إنه لا يمكن القول بارتداد المُستأنَف ضده الأول بحيث يجب التفريق بينه وبين زوجته. وأما بالنسبة لتعريض المُستأنَف ضده بالدين الإسلامي ومُقدَّساته في كتاباته، فإنه يجوز مساءلته قضائيًّا. عقدَت المحكمة جلسةً في ۱٨ مايو ردَّ فيها الأستاذ «خليل عبد الكريم» على مذكرة النيابة الأولى، وعقدَت المحكمة جلسةً في ٢٩ مايو تعذَّر فيها المداولة، فأجَّلَت المحكمة إلى يوم الأربعاء ۱٤ من يونيو النطقَ بالحكم.
دخل رئيس المحكمة المستشار «فاروق عبد العليم مرسي»، العائد منذ مدة قصيرة من السعودية، بلحيته الكثَّة، يرتدي زيًّا يُشبِه أزياء أهل الباكستان، وعضوية السيدَين «نور الدين يوسف ومحمد عزت الشاذلي»، وبحضور السيد رئيس النيابة «محسن عبد الرحمن»، وأمين السر «أحمد عبد الحميد عبد الجواد». وحضر الجلسةَ الأستاذ «محمد صميدة عبد الصمد»، والأستاذ أيمن البدري عن المُحامية «أميرة بهي الدين» عن د. «ابتهال يونس». استند الحكم إلى أن حكم المحكمة الابتدائية بعدم قبول الدعوى هو حكمٌ في مسألةٍ موضوعية تتعلق بأصل الحق في الدعوى؛ مما يجعل محكمة الدرجة الأولى قد استنفدت ولايتها بالفصل في النزاع؛ ومن ثَم تتصدَّى محكمة الاستئناف في الفصل في الموضوع. وقال في الحيثيات: إن المحكمة الابتدائية تختصُّ بدعاوى الفُرقة بين الزوجَين بجميع أسبابها؛ ومن ثَم فإن دعوى التفريق بين الزوجَين بسبب ردة أحدهما تختصُّ بها المحكمة، ويكون البحث في حصول الردة من عدمه مسألةً أوليةً تختصُّ بها المحكمة، والمحكمة تُفرِّق بين الاعتقاد الذي يكون داخل الإنسان وبين الردة التي لها كِيانها الخارجي، ولا بد أن تظهر هذه الأفعال بما لا لَبْس فيه. النيابة العامة في مذكرتها للمحكمة كان عليها أن تقول إن كتابات المُستأنَف ضده لا تُشكِّل في نظرها رِدَّة، أو تقول إنها تُشكِّل ردةً مُوضِّحةً أسباب الرأي الذي تقول به أو تطلب طرق إثبات، غير أنها لم تفعل.
«حكَمَت المحكمة حضوريًّا بقبول الاستئناف شكلًا وبإلغاء الحكم المُستأنَف ضده، ورفض الدفوع المبدأة من المُستأنف ضدهما بعدم الاختصاص الولائي، وبعدم انعقاد الخصومة، وبعدم قبول الدعوى لرفعها من غير ذي صفة، وباختصاص المحكمة ولائيًّا بقبول الدعوى. وفي الموضوع بالتفريق بين المستأنف ضده الأول والمستأنف ضدها الثانية، وإلزامهما بالمصاريف عن الدرجتَين وعشرين جنيهًا مُقابل أتعاب المُحاماة.»
عدتُ من الجامعة، وكان آخر يوم في الامتحانات. اتَّصل بي الصديق «عادل حمودة» يسألني عما سأفعل. لم أكُن أعرف ماذا يقصد، وكأنه شعر بذلك مني، وفي نبرة صوت بها بعض الاندهاش سألني إن كنت لم أعرف أن المحكمة قد حكمت اليوم بالتفريق بيني وبين «ابتهال». شعرت أنا و«ابتهال» بنوع من الغضب. أنهيت المكالمة معه واتصلت بالأستاذ الشيخ «خليل عبد الكريم» المُحامي لأعرف منه ما حدث، فأكَّد لي الخبر، وقال بنبرة بها أسًى: «أرجو ألا تعتبرنا قصَّرْنا.» عاتبتُه بشدة؛ فأنا أعرف مدى تعبه وجهده في البحث والتنقيب في المراجع وفي كتب التراث، ما يُساوي مجهود رسالة دكتوراه. لم نتوقع هذه المفاجأة، ولا أعرف كيف يُنفَّذ حكمٌ كهذا؛ هل أترك الشقة أم تتركها دكتورة «ابتهال»؟ وهل يُنفَّذ بانتزاعنا من بعضنا بعضًا بالقوة؟ حاولنا التغلب على شعور الغضب وهول المفاجأة. على الساعة السابعة كان الخبر قد انتشر، ولم يتوقف التليفون عن الصريخ. المفكر السوري «عزيز العظمة»، ووزير التعليم د. «حسين كامل بهاء الدين»، والذي قال لي: «هذه ليست قضيتك وحدك، هي قضيتنا جميعًا، ولن نَقِف مكتوفي الأيدي، وسوف نتولَّى أمر إجراءات النقض، ونحن لا نُدافِع عنك إنما نُدافِع عن المجتمع.» «ابتهال» تقوم بالرد على التليفونات التي لم تتوقف، لا أعرف كيف مرَّت هذه الليلة. صباح اليوم التالي الخميس غمرَ الشقةَ الصغيرة الأهلُ والأصدقاء؛ الروائي «عبده جبير»، وصديقي الشاعر «محمد صالح» الذي لم يتوقف عن المزاح كعادته. وحضر «جمال الغيطاني» رئيس تحرير «أخبار الأدب» ومعه الصحفي «محمود الورداني»، و«عزت القمحاوي»، والمُصور «يوسف ناروز». واتصل الدكتور «أسامة الباز» الذي عاد للتَّوِّ من الخارج يُعرِب عن مساندته. أصبحَت الشقة كدوار عُمدة، بها ضيوفٌ طوال الوقت. وكان عندي مناقشة لرسالة ماجستير في جامعة طنطا يوم الثلاثاء العشرين من يونيو، فُوجئت بدواعٍ أمنية، وخوف أحد الأساتذة من أن تتعرَّض المناقشة لهجومٍ إرهابي، وكان وضعًا مُخجِلًا. وماذا سيَحدُث في أربع رسائل أخرى مفروضٌ أن أُناقشها هذا الصيف. كانت الدولة قد رفعت الحراسة عني بعد صدور الحكم السابق. ومع حكم الاستئناف والتهديدات بالقتل التي بدأت تَتْرى، عيَّنَت الشُّرطة حراسةً دائمةً تُقيم معي، وتذهب معي في كل مكان. بدأت أشعر بالاختناق، فاتصلت بعميد الكلية أطلب منه أن يختار أحد الأساتذة ليُصحِّح أوراق الامتحان للوضع الذي أنا فيه، لكنه أصرَّ على أن أقوم بتصحيحها، وحتى لا يتصور الطلبة أن الكلية جزءٌ مما يَحدُث لك.