نزهة على شاطئ البحر
كانت «لادياس» بنت الملك «بوليقراط» صاحب «ساموس» إحدى ممالك اليونان في غابر الزمان، تتمشى في طريق نزهتها على البحر تحت الأزين الأنضر، من ألفاف الشجر الأخضر، وعند رمل أزهر، كأنه دينار واحد أصفر، والبحر فيما يلي، ينجلي ما ينجلي، وللريح نقر في صفحات الماء، كنقر الغزال في الحصباء، وقد قابل الأصيل مرآتَي البحر والفضاء، فسالتا بنضاره الموهوم وسالت العوالم والأشياء.
وكانت لادياس فتنة الناس، بالبدر الطالع في الغصن المياس، لا من طينة البشر، ولا من أديم الشمس والقمر، ولكنْ صورة آية في الصور، فوق مبلغ الخواطر ومنال الفِكَر، وكانت لابسة حلة بيضاء، هي فيها حرير تحت حرير وضياء في ضياء، وعليها من عاطر الورق وبديع الزهر، في الرأس وفوق النحر، ومكان المنطقة من الخصر، ما يتجمع منه باقة زاهرة، لادياس فيها الزهرة النادرة، وقد اتحدت بهذه الحلة الباهرة، حتى تشابه المجموع وتشاكل الأمر، فكأنما زهر ولا لادياس، وكأنما لادياس ولا زهر.
وكان يساير الأميرة في نزهتها القصيرة، أتراب لها كريمات عليها، وقرينات من أحب الناس إليها، رُبِّينَ معها في الصغر، ودُمْنَ على لزامها في الكبر، فكانت تحادثهن لاهية ناعمة، وهي تقول: ماذا تقلن يا صاحبات لادياس في شروط القِران؟
فسألتها إحداهن بسرعة: قران مَن يا مولاتي؟
فأجابت الأميرة مازحة: قراني لا قرانك يا فاجرة.
– وأي شروط يا مولاتي إلا أن يخطبك حبيبك، ويحبك خطيبك.
– صدقتِ، لكن هذا يجوز على بعض بنات الناس، ولا يجوز على بنت الملك، إني أراكِ تجهلين الأمر، ولا تدرين ما يجري من الأحوال في القصر، فاعلمي أنه لا يكون من زواجي إلا ما أرضى أنا ويأذن الملك وتصادق المملكة بعد ذلك عليه، فأنا أقترح أن يكون المتعرض لخطبتي، الراغب في صحبتي، فتًى بين العشرين إلى الثلاثين، فائق النظراء والأمثال في الشجاعة والحكمة والجمال، والملك يشترط أن يكون صهرُه ملكًا، سواءٌ نالَ المُلك بكدِّه وجدِّه، أو توارثه عن أبيه بعد جده، والمملكة تريد أن يرفع بعلي لآلهة اليونان أربعين هيكلًا مشيدة البنيان، في البلاد التي له فيها المُلك والسلطان.
فلعب هذا الجواب برأس الفتاة، وساء موقعًا عند سائر البنات، فصِحْنَ جمعاء قائلات: حقًا، إن هذه لهي الثلاثة المستحيلات، فإن صح ما تقول الأميرة فلا هي متزوجة ولا نحن متزوجات.
فقالت لادياس وقد أضحكها غضب أترابها: وهل تكرهن أن تأخذن من حالاتي بنصيب، فإن تزوجتُ تزوجتن، وإلا عشتن أبكارًا ما عشتن.
فسألتها فتاة: وكيف الطريقة يا مولاتي في معرفة من يفوق النظراء والأمثال، في الشجاعة والحكمة والجمال، أترجعون في ذلك إلى امتحان، أم عندكم أن الشهرة تغني الإنسان؟
– بل إلى الامتحان؛ حيث يكرم المرء أو يهان، فأما الشجاعة والحكمة فينظر الملك فيهما، ويختار لي من يستوفيهما، وأما الجمال فيعرض على عيني وقلبي، فلا يختاران منه إلا ما يصبي.
قالت: سبحان المنعم وجلَّت أيادي السماء! فلو لم تكن مولاتي أسعد النساء وأنعم بنات حواء، لما أتيح لها أن تتزوج من الرجال من تشاء، بل عندي أن جميع ما سبق من إحسان السعادة إليك في كفة من ميزان، وهذه المنة بمفردها في الكفة ذات الرجحان، ولكن هل اقتصرتم يا مولاتي على شبان أبناء الديار، أو بلغتم ذلك إلى غيرهم من بني الممالك والأمصار؟
قالت: بل إن الملك بعث منشورًا بذلك إلى أمراء الجوار، وإلى فرعون وكسرى وصاحب الهند، ملوك الوقت الثلاثة الكبار، وعما قريب تتوافد المراكب، حاملة الملوك والأمراء من الأجانب، مقلَّة الشجعان متقاطرين من كل جانب، وحينئذٍ ينظر فيمن يليق، ولا يفوز بي إلا الجدير الخليق.
قالت فتاة: إن جماعة القصر يا مولاتي يتساءلون عن نبأ عظيم، وأمر يقع الآن جسيم، إلا أنهم يذهبون في التكتم على خط مستقيم، كأنما يتجاهلون أو كأنْ ليس منهم رجل عليم.
قالت: وعم يتساءلون؟
– عن أمر أولئك القوم، الذين يقبض عليهم في كل يوم، ويزجون في السجن؛ سجن القصر، حتى كأن هناك عصيانًا يتلافى الملك وقوعه، أو حزبًا خفيًّا هو يحل نظامه ويفكك مجموعه.
قالت: لا عصيان ولا حزب مع ملك حكيم عادل مثل أبي، ولكن ربما كان للملك في ذلك مراد، لم يُطْلع عليه أحدًا من العباد.
– حسبت يا مولاتي أن للأمر علاقة بالأمير ابن عمك.
فأجابتها لادياس مغضبة محتدة: لا تقولي الأمير، وقولي الشقي النذل الحقير، وماذا بقي من أمر هذا الخائن الغدار، مما يشغل بال الملك من جهته أو يهمه إلى هذا المقدار، فهو قد كفاني شره حتى لأنا أتمثله من مكاني هذا سوقة ضائعًا في مدينة من مدن اليونان، يمد يد السؤال إلى كل إنسان.
وما زال حديث الزواج يسرق البنات، خطواتهن والأوقات، حتى نبههن هجومُ المساء، واشتمال الوجود بحلته السوداء، حدادًا على الشمس الغريقة في الماء، وعندئذٍ ارتجلت الأميرة حركة إلى الوراء كالراغبة في الانثناء، فعارضتها الفتاة قائلة: إن وقت الرواح لم يجئ بعد يا مولاتي ونحن قد صرنا من حدبة البحر؛ بحيث تراها أعيننا وهي الغابة العجيبة الشأن، التي لم نرها إلى الآن، فماذا علينا لو مددنا لأرجلنا الخطى، فجئناها فتمتعنا منها بنظرة، ثم نعطي الرجوع من السرعة ما تأخذ منا زيارتها من الوقت؟
فصادفت هذه الدعوة أسرع ملبٍّ من طيش البنات، فما زلن بالأميرة يؤيدْنَ عندها هذا الاقتراح، ويذهبن كل مذهب من الإلحاح، حتى أذعنت فسار هذا الملأ الكريم من الملاح، وما هي إلا ساعة مسير بحساب تلك الخطى الخفيفة، وهاتيك الأقدام الناعمة اللطيفة، حتى انفتحت حدبة البحر للبنات، فدخلنها بسلام آمنات، وهي غابة كثيفة متسعة، محدبة كاسْمها مرتفعة، وليس فيها ما يبعث العجب، سوى شكلها المائل إلى الحدب، وكانت من أماكن الأمان والاطمئنان، التي لا يخاف من وجودها على إنسان، فلبث الفتيات فيها برهة من الزمان، في لهو ولعب واغتباط وامتنان، فلندَعْهن وما هن فيه الآن، ولنخُض في شانٍ غير هذا الشان.