كيف انتبهت لادياس
بينما كان حماس يخبط في أحلامه، ويأخذ ليقظته من منامه، وقد حل سلطان النوم عقدة من أقدامه، فانطلق مستعجل الخطو، حثيث الهدو، يكفر عن ذلك السهو، كان فارسٌ آخرُ لا يقل عنه حسنًا وجمالًا ولا تكاد العين تفرق بينهما شكلًا واعتدالًا، يُطلق لفرسه في الطريق العنان، ويتقدمُ بسرعةٍ نحو ذلك المكان، حتى إذا صار على مقربة من مرقد الأميرة جفل فرسه وكاد يكبو به لولا شدة احتراسه، فكان ذلك للفارس بمثابة الإنذار، فأخذ لنفسه من الموقف الحذار، ثم أرسل النظرات تباعًا فوقعن على إنسان قد توسد الأرض، فتوهمه لأول وهلة قتيلًا، فترجل من فوره ودنا منه ثم حققه في سنا الفجر، فخيل له بادئ بدء أن المكان للآلهة وهم عليه رقودٌ، وأن الفجر إنما يستمد لآلئه من ذلك العمود الممدود، فوصل التأمل فإذا هو بفتاة ما خُلق الجمال إلا لها، وعليها من الحلل والحلي ما يمثل الملك وشعاره، وتبين عن عز الإمارة، فلم يقم بنفسه شك أنها لادياس، تأخذ لعينيها بقسطيهما من النعاس، ففرح أعظم الفرح بقربها، وتقدم فاضطجع بجنبها، ثم أقام يراقب حركاتها، وينتظر انتباهها من طويل سباتها.
وفي هذه الأثناء لَمَحَ الفارس عند قدمي الأميرة سيفًا ملقًى، فتحرك فأخذه وتأمله ثم تقلده، ووجد مكان السيف أثر رقاد فعلم أن السلاح سلاح حماس، ولكن لم يعلم أين ذهب منقذ لادياس.
وكانت الأميرة قد هبت من نومها، فالتفتت إلى صاحبها وقالت: أين نحن الآن يا سيدي حماس؟ قال: في الدرب الأصفر يا مولاتي، وبيننا الآن وبين المدينة مسيرة يوم كامل، فحين سمعت لادياس هذا الصوت أنكرتْه مسامعها، كما أنكرت عيناها هيئة الفارس من أول نظرة، فنفرت عنه كالمنبغتة، ثم قالت: من أنت أيها الفارس، ومن جعلك مكان البطل حماس؟ قال: أنا هو ذا يا مولاتي أنا حماس بعينه، وما مسخت ولا جعل أحد مكاني ولكن شبه لك، فتأملتْه الفتاة مليًّا وكانت فيه مشابه من بطل الصخرة الملساء، فما ازدادت الأميرةُ إلا انبغاتًا وهَمَّتْ أن تتهم الظلام، وأن ترى في ثياب الفارس منقذها الهمام، فلما آنس الفتى منها ذلك أقبل عليها ملاطفًا، يقول: وحماس أيضًا اسمٌ وضعته لي أوهامك، ولا أحسبك إلا قد استفقت مما كنت فيه من الذهول، فكادت هذه العبارة تخرج عقل الفتاة من رأسها، وألفاها الفتى غاديةً على خطر الجنون، فأردف في الحال بأن قال: ما بالك يا مولاتي باهتة باغتة كأنك تشكِّين في أمري، ألست مبيدًا لعصابة الأشقياء؟ ألست بطل الصخرة الملساء؟ ألم يكن لي ولأعدائك الشأن العجيب؟ ألم أدخل عليك الصخرة وكلكاس فيها، فحين رآني لم يملك ليديه حراكًا، ولا لقدميه انفكاكًا، ألم أجدك أسيرة ففككت، ومهددة فأمنت، ألم نفتقد كلكاس بعد ذلك فما وجدناه؟ فما بالك وهذه دلائلي وأماراتي لا تزالين لي بالجحود، ولا تعودين لأنسك المعهود، فراجعي يا مولاتي عقلك واعلمي أنك ما كنت إلا في خيال، وما اختبلك إلا رؤية تلك الأهوال، والآن أنت بحمد الآلهة ناحية سالمة، وعن قريب على أبيك الملك قادمة، فلا تجعلي جزائي عما قاسيت بالأمس، أن يُقال ردها وبها مس.
وكان الفتى يتكلم ولادياس تسمع، ولا تكاد تعي من شدة الدهش، إلا أن ما أشار إليه الفارس من حوادث الأمس قد أنزل عليها بعض السكينة، كما أن مشابهته لحماس كانت تدعوها للطمأنينة، فما لبثت أن اتهمت ظنونها وأوهامها فرجعت إلى الفتى آمنةً مطمئنةً تسأله: ومن أين لنا هذا الجواد يا سيدي حماس؟ قال: لقد آن أن يمحى هذا الاسم من لوح خاطرك الشريف؛ إذ ليس له في الحقيقة وجود إلا في وهمك، قالت: فكيف أسميك إذن؟ قال: الأمير بهرام شقيق ملك ملوك ميديا وفارس، فاهتزتْ لادياس لهذا الاسم وهذا اللقب، وانحنتْ فحيت الأمير، ثم قالت: من أين هذا الجواد يا سيدي حماس؟ قال: لا حول لنا الآن في هذا الذهول ولا حيلة، فتأملي الجواد أيتها الأميرة لا تجديه إلا جوادك، فدنت لادياس من الفرس فوجدته — حقيقة — جوادها المهدى إليها من مصر، فقالت: ومن أعطاك إياه.؟ قال: أخذته من مرابط الملك لهذه الغاية، والآن لم يبق يا مولاتي إلا الركوب لعلنا نختصر من الزمن، فلو علمت حال الملك من الوجْد عليك، لاخترت أن تطيري إليه مع الريح، قال هذا وأخذ بيد الفتاة فأركبها ووثب بعد ذلك فصار خلفها، ثم أطلق للجواد العنان وهو يهنئ النفس على هذه الغنيمة الباردة.