بوليقراط والدهر
قد بلغ من شقاء بوليقراط على أثر اختفاء فتاته أنه زهد في الدنيا ولذاتها، وتسلى عن الإمارة وطيباتها، وأصبحت نفسُهُ على نعيمها الموفور تحسد سائر الأنفُس على كافة حالاتها، بالجملة فقد حقت كلمة الدهر على طاغية ساموس وعلت الحوادث فوق عليائه، فدهمته بضراء أنسته ما كان من سرائه.
إلا أن البحث عن الأميرة في كل ناحية من نواحي المملكة كان كل يوم في ازدياد، خصوصًا أورستان فقد كادت سفنه تقلب الأمواج، عن تلك الدرة الساقطة من التاج.
وكانت نتيجة البحث تُعرض على الملك ومجلسه في كل يوم بل في كل ساعة، فلا يزداد إلا بأسًا على بأس من لقاء فتاته العزيزة، بل حياته الغالية.
وللوالد العذر؛ فإنه لم يقبض في خلال ذلك الشهر النحيس إلا على رجلين قليلي الشأن، لا يمكن أن يبني على وجهيهما أدنى أمل بكشف الحقيقة، أما أحدهما فأخذ في البحر وفتش زورقه فوجد بأسفله ثقبًا صناعيًّا ينفتح لدى الحاجة وينسدُّ لدى الحاجة كذلك، فكان ذلك مجلبة للريبة في أمره فقبض عليه وسِيق إلى السجن، وأما الآخر فوقع في قبضة الشرطة حديثًا، وهو وافد على البلد من طريق مهجورة مريبة وبهيئة منكرة مشككة، فلما سئل تظاهر بالبله والعته فلم يزد النفس إلا جناية عليها، وكان نصيبُهُ من البلاء نصيب صاحبه الصياد، وقد تعبت الحكومة وتعب رجالها في بلادة الرجلين وبلاهتهما وتصميمها على الجحود والإنكار، فاكتفتْ بتركهما في السجن، وكان منها عليهما نسيانٌ طويل.
فبينما الملك ذات يوم كالعادة يشاور أهل مجلسه ويشاورونه في خطبه الجلل، وقد ظهر الضعف عليه وبال وأخذ يهرم قبل الأوان، لم يدر الجميع إلا بالقيامة قد قامت في المدينة وكان الوقت الضحى والحركة في الطرق والأسواق عظيمة، فساعد ذلك على نمو تلك الضجة الهائلة حتى بلغ صداها عنان السماء.
فأشرف الملك من نافذته ينظر ماذا طرأ، وأشرف من معه من سائر النوافذ؛ فإذا هم برجال كالرياح أو أسرع جريًا ووجهتهم القصر، فاستبشر بوليقراط برؤيتهم ووجد يعقوب ريح يوسف من أول وهلة، ثم ما هي إلا هنيهة حتى اقترب الرجال من القصر كل الاقتراب، ثم سبقهم إلى الجدار المشرف منه الملك رجل كأنه سارية، فوقف ثم صاح بصوت كادت تميد له جوانبُ القصر يترنم بما معناه:
فحين سرت هذه البشرى في حزوق المسامع السلطانية، لم يكن على الملك ساعتئذٍ إلا خاتم في إصبعه من أَنْفَس ما حمل الملوك والسلاطين، فرمى به إلى البشير فتَلَقَّفَهُ وانقلب شاكرًا داعيًا.
ثم تلت وفد البشرى وفودٌ من الشعب تترى، مهنئة الملك بأناشيد المديح، من كل وزن ومعنًى مليح.
مولاي الملك الموقر
قد توفقت بفضل الآلهة ويمن تضرعاتك الأبوية المستجابة لوجدان الأميرة العزيزة، وأنقذتها من يد الشقي بيروس ورجاله بعد شدائدَ جسيمة، وأهوال عظيمة، والآن نحن عند الباب الثاني للمدينة ننتظر من حكومة جلالتك أن تهيئ لنا موكب الوصول إلى القصر، وهناك أرد إلى الملك فتاته الكريمة كما أخذتها من يد العناية، محفوظة بأكمل السلامة وأتم الرعاية.
فلم يكتفِ الملك بقراءة الرسالة في نفسه، بل تلاها على الملأ بلسان تُثقلُهُ نشوةُ الطرب، فاشتغل المجلس للحين بتهيئة الموكب المطلوب، وحملت إلى الأميرة وإلى منقذها الأمير ملابس الزينة اللائقة بمقامهما الخطير، هذا بعض ما اتخذت الحكومةُ من التدابير، وما أَعَدَّتْ من الاحتفال لاستقبال الأميرة والأمير، فما بال الشعب وقد عرف القارئ مكان لادياس عنده، وكيف كان يحبها جهده، ولا يريد أن يولي سواها عهده، فلا تسل عن مجالي أفراحه، ومظاهر سروره وانشراحه، وحَدِّثْ بما شئتَ عن معالم الأُنس في المدينة، وما أضفى عليها توًّا من حلل الزينة.
فلم يكن الأصيلُ إلا والبلد قد أزين، والموكب قد سار بين إعظام الخلائق والإكبار.
وكان الملك في انتظار وُفُود الأميرة بالقصر، فحين أقبل موكبها استقبلها هو وسائر أهل مجلسه، كما يستقبل الشحيحُ كنزه المفقود، أو العليل الفاني عائد الوجود، وهَنَّأَها الجميعُ على نجاتها مِنْ شر الأشقياء، ثم أقبلوا على الأمير بهرام وكان متوجًا بأكاليل الغار، علامة على الفوز والانتصار، وعنوانًا على كسب المجد والفخار، فهنئوه كذلك بخروجه سالمًا غانمًا من تلك المعارك، وشكروا له مِنَّتَه العظيمة على الملك والملكة بإنقاذ الأميرة الفخيمة، ثم خاطبه بوليقراط فقال: «أيها البطل المجامل وغدًا أقول أيها الصهر الكريم، لقد أعدت للوالد مهجته، ورددت على التاج درته، ومثلك يرجى لهذا ولمثله، وهذا الكنز على عظم قيمته، سوف يقدم لك برمته، فقد أصبحت آمل أن الحكومة والشعب يوافقانني على الاكتفاء بما كان لتقرير القران، وإن نكن قد حصلنا على شرط واحد وبقي شرطان اثنان.»
فقام الأمير على إثر ذلك فقال: «أعد من سعودي أن مولاي الملك قد اختارني للشرف السامي، شرف مصاهرته العلية، وأني بما نلت من جليل ثقته لأسعد، إلا أنه برغمي أن يعلم الملك أن ما مر على الأميرة من الحادثات واختلف عليها من الأهوال لا يزال له أثرٌ خفيفٌ في قُواها العقلية، فلقد عهدتها تفقد الصواب في بعض الأحيان فتهذي بوساوس أعجز عن فهمها، وتذكر من الأسماء ما لا وجود له إلا في وهمها، ولكني أبشر الملك بأن هذه الحال، وشيكة الزوال، وأنه لا يمضي على الأميرة أيام، حتى تحصل على الشفاء التام، فقد ذهب عنها الآن معظم ما كانت فيه من الذهول المتاخم للجنون وأصبحت تتماثل، وتنبعث قُواها وتتكامل، فكيف اليوم وهي موفورةُ الراحة والهناء مردودٌ أمرها إلى عناية الأطباء، فما استتم الأميرُ حتى عاد الكدر فاستولى على الملك بوليقراط، واشتغل سائرُ أهل المجلس بهذه الحادثة الجديدة، وأخذ الكل يسألون الأميرة عن أُمُور حدثتْ لها في صباها، فأجابت أحسن جواب ولم تخرج قط عن دائرة الصواب، حتى جاء ذكر الحادثة التي نحن بصددها فأحسنت الوصف، ووفَّت الشرح، وما زالت تفصلها للمجلس تفصيلًا من ساعة أن وقعت في أسر الأشقياء إلى ساعة أَنْ دخل عليها حماس، فلما نطقت الأميرة بهذا الاسم كاد الملك يجن لذكره، وكاد جنون أورستان يكون أشد وأعظم، فصاحا معًا: وهل خرج حماس من بطن الحوت؟ ثم أردف أورستان بأن قال: أما الأمير فلا يخلو من مشابه من حماس، وأما أن يكون حماس حيًّا يُرزق فهذا ما لا أصدق ولو لقيته وجهًا لوجه وكلمته فمًا لفم؛ وحينئذٍ فلا أحسب الأميرة إلا ذاكرةً ما كنت أقولُهُ للملك عن حماس وهي حاضرة، فعلقت اسم ذلك البطل، وهي الآن تهذي به في جملة خطراتها.
ثم انتهت الكلمة الأخيرة من بعد ذلك إلى الطبيب الخاص وكان في المجلس، فلم ير في أحوال الأميرة ما يدعو إلى القلق والفزع؛ بل أبدى أن بضعة أيام تكفي لذهاب الروع عنها، فلا تلبث أن تعود إلى ما كانتْ عليه من تمام صحةِ العقلِ والجسم، وعلى ذلك انفضَّ المجلسُ بعد أن أمر الملك للأمير الفارس بالمقر اللائق بمقامه، ووكل بخدمته مَنْ يعتنون بأمره ويُبالغون في إكرامه.