قرية الوحش الهائل
لما بلغ حماس الصخرة الصماء وكانت الشمس في رونق الضحى، افتقد اللوح فوجده حيث تركه، ووجد عنده ذاك الزاد وذا الماء، فتأبط من فوره اللوح وحمل ما يكفيه هو والأميرة من الطعام والشراب، وحينئذٍ ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة، وأدرك الفتى أنه أساء إلى لادياس إساءةً قد تتناول حياتها بتركه إياها وحيدةً فوق طريق اللصوص والوحوش، فندم أعظم الندم ورجع على الفور القهقرى وهو يعدو عدو الظلوم، فلم يكن الظهر حتى وصل المكان المعلوم، وهنالك فتش عن مضجع لادياس فلم يجدها فكاد الموقف يطير بلبه، ودخل في أشبه الحالات بالجنون فذهب بالبحث في غير كنهه، ومضى من بين الصخور يهيم على وجهه، وكان العقل أنه يسلك الطريق الأقصد الأقصر، طريق الدرب الأصفر.
فبينما هو في هيامه يوغل في الصخور إيغالًا، ويذهب فيها يمينًا وشمالًا، سمع زئيرًا مادت له الصخرة الصماء، واهتزت له جوانب الفضاء، فما فزع ولا انذعر، بل وقف يتقصَّى النظر، فإذا هو بأسدٍ هائل كتلة الجسم وقد قصد نحوه يتخطى له الصخر، وهو يهدر كالفحل، فثبت حماس في مكانه، يتراءى للوحش بكل عيانه، ثم اندفع يهتز ويتثنى، ويترنم بهذا الكلام ويتغنى:
فكانت هذه الصيحات، وما تقدمها من شدة الثبات، وخفة الحركات، كنذيرٍ للوحش أن القرن ممن يقام له وزن، ولا يستخف له شأن، فتباطأ في مشيته، وتخلى عن كثير من عِزَّتِهِ، حتى صار من بطل الصخرة الصماء وجهًا لوجه ولم يبق بينهما إلا دائرة النزال، والبعد اللازم للتناوُش والقتال.
فبدر حماس إلى الأسد وكان الوحش نادرًا في نوعه من؛ حيث الجسامة والضخامة، وطول السواعد وعظم الهامة، حتى كنت تراه بالثيران الوحشية أشبه بالأسود، وكانت له لبد وافية ضافية يحتجب فيها رأسه وتبرز أنيابه من خلالها كأنها المنايا الزرق، وله عينان حمراوان تذيبان الحديد فما بال الإنسان؟ فحين رأى حماس وقد برز له أناف على ساعديه وزأر زأرةً رجعتْ صداها الآفاق، ثم حمل على الفتى حملةً منكرةً، فتخلى عنها وراغ كالثعلب منه ومنها، فعاد الوحش فثنى وهو يكاد يخرق الأرض ويبلغ عنان السماء طولًا من هول دبدبته، وخفته في وثبته، فمرق حماس هذه المرة من تحت بطن الأسد، وهكذا طفق الحيوان يثب تارة ويحوم أخرى، ويجري يمنةً ويصول يسرة، ويقوم ويقعد، ويرغى ويزبد، وحماس يغريه ويجننه، ويطمعه ولا يمكِّنه، حتى خانته قواه، وخذله ساعداه، فوقف وقد فغر فاه، ولم يبق منه حيًّا إلا عيناه.
وعند ذلك دنا حماس منه فألقمه اللوح فعضه بأنيابه، فنشبت فيه من شدة الغيظ، وإذ أيقن الفتى أن الأسد عجز تعجيزًا، وأنه صار كالعير أو أسهل قيادًا؛ أقبل عليه يلاعبه ويداعبه، ويتلطف له ويطايبه، كالظافر المعتذر، أو المجامل وهو منتصر، وكأنما أثر كل هذا التعطف في وجدان الليث فأطرق برأسه وجعل يدور حول قاهره ويحتك به ويحتمي فيه، فخطر حينئذٍ على بال حماس أن يحفظ هذه الهدية الفاخرة ليهديها إلى الملك حال وصوله إلى العاصمة، إلا أنه استنكف عن أن يسحب الأسد، ورأى أن ركوبه إياه أسمى له وأجلب للراحة، فترك اللوح في فمه كما هو، ورفع رجله فصار فوق ظهر الوحش، وإذا هو لا يتأبى ولا ينفر، ومن عادة الليث أن يتشامخ ويستكبر.
ثم حركه فتحرك يمشي به مستعجل الخطو ناشط الأقدام، ولم يكن حماس يعلم أين يؤم بدابته فملكها الزمام، وسامحها في اللجام، وأرسلها تروم به كل مرام، فما زالت تطوي الصخر نحو الصخر، وتخرج من قفر وتدخل في قفر، حتى مر به الليث على غابته، وهنالك بدت من بعد أنثاه، وإلى جانبها شبلاه، وهي كأنها الفرس الكريم في حُسن المنظر وتناسب الأعضاء، وكأن صغيريها ليثان كبيران، وما اكتملا حولًا من الزمان، فأشفق حماس من هذا العدد، وظنها خدعة من الأسد فاستل خنجره واستعد للقتال راكبًا وهو لا يشم أنها مسبعة، وأن فيها أكثر من هذه الأربعة، ثم أقبلت الأم وولداها يتبعانها وهي تواصل الزئير، تتأهب لتغير، حتى اقتربت من الأسد فلم يكن منه إلا أن أدار نحوها الوجه، ونظر إليها نظرة الزاجر الرادع، ففهمت الإشارة ومشت أمامه ذلولًا صاغرة، وشبلاها في جانبيها يسيران حيث تسير.
وما هي إلا ساعة سير على هذه الصورة، حتى بدت لحماس من بعد معالم مدينة تتراءى بين المزارع والجبال.
ثم إذا به قد دخل في المعمور، فحين رآه الأهالي ولَّوْا منه فرارًا، ضاجين صائحين متفرقين ذات اليمين وذات الشمال، وهو يدعوهم لتطمئن قلوبهم فلا يزيدهم نداؤُهُ إلا هلعًا وفزعًا، حتى ارتبك في أمره، وخشي أن يعود الحيوان فيثور تلقاء جبن الإنسان، فلم يكن منه إلا أنه ترجل ثم ساق البهائم أمامه، وهو يفتش الطرق والأماكن عن محل يودعها فيه إلى حين.
فمر ببعض الملاعب على الطريق مما كان الأهالي يتخذون للمصارعة، وكان متين البنيان على الجدران فعالج بابه فانفتح، وحينئذٍ تحيل إليَّ أن أدخل فيه الوحش وجماعته، وأغلق الباب بعد ذلك كما كان.
وكان الناس ينظرون إلى فِعْله هذا مِن بعيد، فلما أيقنوا أن الوحوش أصبحت في الأسر؛ بحيث لا يخشى أذاها، انهالوا عليه مِن كل جانب وهم بين الارتياب فيه والاستغراب، وآنس حماس ذلك منهم فوقف فيهم خطيبًا، فشرح لهم الأمر كما جرى، وأخبرهم كيف تمكن من قهر الوحش ولم يجرِّد لذلك سلاحًا، وكيف بلغ من هيبة الأسد له أنه حمل أُنثاه وولديه على طاعته، وكيف كان له مطيةً ودليلًا حتى بلغ به المعمور بعد أن يئس من بلوغه.
فعند ذلك علا تهليلُ الشعب حتى بلغ عنان السماء، ولم يدر حماس إلا بأكاليل الغار، تجعل على رأسه وبالأزاهر تنثر في طريقه وتحت أقدامه، فاستغرب الأمر واستعلم ممن حوله عن السبب، فأخبروه أن الحيوان الذي جاء به وبصغاره أسرى ليس بالأسد كما زعم، وإنما هو الوحش الهائل، وأن تلك القرية قريته المسماة باسمه، لكثرة ما فتك فيها، وأغار على أهاليها، وأن الملك قد أقطعها من يدمر الوحش ونسله تدميرًا، فما بال من يأتي به أسيرًا؟ وأن عددًا كثيرًا من أبطال اليونان، وجند ساموس الشجعان، ذهبوا فريسة هذا الحيوان.
ثم إن الصناع في قرية الوحش الهائل اجتمعوا فقرروا فيما بينهم، أن يصنع قفص من الحديد يسع الحيوانات الأربعة لتجعل فيه، ثم يحمل إلى الملك بوليقراط، وبينما هم يباشرون هذا العمل بما في الوسع إتيانه من السرعة، كان حماس يشتغل بتعهد الوحوش وإطعامها وسقايتها، وهي لا تزاد إلا تعلقًا به وألفة له واحتماء فيه.
فلم يجئ اليوم التالي إلا والقفص قد خرج من أيدي الصناع، ولم يبق إلا نقل السباع إليه، فأخذ حماس هذه المهمة على نفسه، فادخل فيه الوحش وأنثاه وصغيريه، وجعل فيه زادها وماءها، ثم اجتمع نحو ألف من أهل القرية فحملوا القفص وساروا به قاصدين نحو العاصمة، وكانت المسافة نحوها يومًا كاملًا بالسير الحثيث.