نظرة تاريخية
كان الحاكمَ على الأقاليم المصرية في الزمان الذي نحن بصدد الكلام عنه، ملكٌ من ملوك العائلة الإحدى عشرية، يقال له فرعون أبرياس.
وكان قليل المهابة ساقط الشأن في الداخل، ميت الذكر في الخارج، لا من الفراعنة المحاربين، ولا من عُشَّاق السلم الممدنين، لكن من فريق يمرون بالعرش مرًّا، وما أجلسهم عليه إلا الميلاد، ولا نالوه إلا بفضل الآباء والأجداد.
وكانت مخايلُ السعادة حين ذاك لأمةِ الفرس، فبينما إفريقية نائمةٌ بنوم مصر ساكنةٌ بسكونها، كنت ترى آسيا تموج وتتحرك، وهي من العناية على وعد، والجواري يجرين لها بالسعد، وقد شرع الدهرُ يمثل على مسرحها الهائل روايةً مما يخرج للناس بين العصر والآخر، علا فيها فوق علياء الفراعنة ودك بغيهم ببغي من مثله، والله للباغين بالمرصاد.
وما بطلُ رواية الدهر في هذه المرة إلا الملك الأشهر كيروش ملك ملوك فارس وميديا، وكان أول إقباله وبداية فتوحاته مشتغلًا بإخضاع البلاد المجاورة التي هي طُرُق جيوشه الجرارة، وشعاب عارضها الهطل إلى شاسعات الممالك وبعيدات الأمصار.
إلا أن فارس مع ما هي عليه من سعود الطالع ويمن الأمر، والثقة من الدهر، كانت لا تزال تهاب مصر في ماضيها بقدر ما كان ملكها الأشهر كيروش جميل الظن في الحضارة المصرية، شديد الإعجاب بها، مؤملًا منها المنفعة لمملكته الناشئة، والخير لأمته الحديثة العهد بالفخار والمجد، وكل مَن قرأ تاريخ هذا الملك الحكيم، وتأمل معاملته لفرعون مدة حكمه الطويل؛ عرف — لأول وهلة — أنه إنما كان يُريد أن تبقى مصرُ ولو إلى حين، بمثابة مدرسةٍ كبرى للفُرس يحذون في المجد مثالها، ويسيرون فيه على نهجها الفاخر الجليل.
إلا أن مثل هذه الحكمة من ملك فاتح مغوار مثل كيروش، لم تكن لتبقى سليمةَ الخلال، مأمونة الاتصال، إلا إذا قوبلت بأعظم منها من لدن ملوك مصر، وإذ كان فرعون إيرياس دون هذه المهمة رأيًا وذكاء، وحذقًا في السياسة ودهاء، فقد ظلت مصر في أول أيامه على خطر الوقوع يومًا ما في قبضة الفرس.
على أن الدهر وهو قد عود مصر أن يعطيها من حيث يحرم، وأن يؤمنها من حيث يخيف، كان قد أحتاط لملكها فهيأ له مَنْ هو أصلح له ومَنْ يقيه السقوط في الهوة، التي كان أبرياس يدحرجُهُ إليها، أصلح له ومن يقيه السقوط في الهوة، التي كان أبرياس يدحرجه إليها، فإن الجند في مصر ما لبثوا أن سخطوا على الملك وسياسته المبنية على هجر المعالي، معالي الفتح والانتصار، والانكماش في مثل سلوك البهائم حتى أوشك الشرف العسكريُّ المصريُّ أن يؤذى من دوام هذه الحال.
ولم تكن حركة الخواطر في الجيش ضد الملك بأقل منها في سائر جهات الحكومة، وعلى الأخص في دوائر الصناعة التي مات يومئذٍ بموتها خلقٌ كثير.
إلا أَنَّ الفتنةَ ما زالت نائمةً لا يجسر أحد على إيقاظها، حتى اشتدت القلاقل الداخلية فظهر فيها جبن الملك في غاياته، وبدا للناس منه الحمق عند نهاياته، فطمع فيه من طمع، وتجرأ عليه من تجرأ، وأصبح الأمر فوضى، واستعد الجيش والشعب في مصر لظهور جندي سعيد يأخذ التاج غصبًا، وهذا الجندي هو البطل حماس — كما سترى بعد.