الاستعداد في مصر لاستقبال حماس
كانت شهرةُ حماس وأنباء شجاعته الفائقة قد سبقتْه إلى وطنه، فكان لها أحسن تمهيد من ماضي الفتى في خدمة الجيش، والصفات العالية التي طالما امتاز بها من بين أقرانه.
وإذ كانت أخبار الشجعان في كل أين وآن، يغالي فيها ويبالغ حتى تبلغ إلى الخرافات، فقد صارت أحاديث حماس في مصر موضعَ اشتغال الأطفال، فما بال الرجال، وأصبحت هي الحكايات والأمثال، فنشأ عن ذلك تمكن حب الفتى من قلوب الشعب وسريان المهابة له في الأنفُس، قبل أن تطأ قدمه تربة الوطن آيبًا من جزيرة ساموس.
ولم يكن لحماس حاسد على هذه الشهرة الفائقة سوى الملك أبرياس، إلا أن الغباوة دفعت به إلى تدبير حيلة يبرأ الصبيان منها، وذلك أنه يعيد حماس بمجرد وصوله إلى وظيفته في البلاط، وكان الفتى قد استقال منها قبل سفره إلى جزر اليونان، بلا باعث سوى كونه ضابطًا ذكيًّا حرًّا يقول الحق ولا يحيد في حال من الأحوال عن الصدق، وللأسباب التي تقدم ذكرها فأراد الملك هذه المرة أن يطفئ نور حماس، باستخدامه في القصر؛ حيث الأيدي مغلولة عن الأعمال، وحيث مظهر الملك والسلطان فوق كل مظهر وشأن.
فلما وصلت السفينة اليونانية المقلة لخطيب لادياس، كانت على الشاطئ حوالي نقراطيس «فوه الآن» خلائق لا يحصى لهم عدد قد أتوا من أقاصي البلاد، لتحية بطل مصر الشاب حال وصوله وعرفانه بالذات، مثل ما عرفوه بالصفات.
وكان الجمع من كثرة العدد وشدة الزحام؛ بحيث لم يكن عسيرًا على حماس أن يقوم بعمل عدائي تكون نتيجته وبالًا على البيت المالك، وتستحيل شرارته في أقرب وقت إلى جمرة لا طاقة لأبرياس بإطفائها، إلا أن نشوة الشهرة لم تغلب الفتى على حزمه وقوة عقله، فوقف بالآمال عند حده، مكتفيًا بهذه الخطوة الأُولى العظمى في سبيل المجد والفخار.
حتى إذا ألقت السفينة مراسيها، ونزل حماس عنها تحوطه السفينتان الأخريان، كأنهما لعقاب فلكه جناحان، ضجت الألوف من الناس بالهتاف الشديد الموصول، وكان أول من تقدم فحياه مصافحة رسول الملك أبرياس، وكانت له أيام على الشاطئ ينتظره مع المنتظرين، ويفتش عنه السفين بعد السفين، فحين وقعت عليه عينه خف لاستقباله وبالغ له في الخطاب، ثم أخبره أن أنباء الشجاعة الفائقة كانت ترد على الملك أولًا بأول وفي حينها، وأن جلالته كان يسر بها ولا يستكثرها على صفاته العالية المعلومة لديه، وأنه من أجل ذلك كله وتذكارًا لخدماته السابقة الجليلة في الجيش قد قلده رتبة القائد، ورقاه لوظيفة حارس أول لذاته الفخيمة.
فتلقى حماس خبر هذا الإنعام بالقبول الحسن والشكر الوافر، وهو في نفسه حذر من الملك مرتاب، ثم قدم له الرسول جوادًا كان قد أَعَدَّهُ لركوبه، فركب الرجلان وسارًا من فورهما قاصدين مدينة ساييس (صان الحجر الآن) لمقابلة الملك في قصره بها.