أين اللوح؟
كان وصول حماس ورفيقه إلى ساييس ليلًا؛ أي بعد أن نام الملك وهدأت المدينة، فلم يبق بها مِن ساكن يخشى تحركه، وكأن هذه أيضًا حيلة من أبرياس دبرها في نفسه، ثم أوعز إلى رسوله المرافق لحماس بإنفاذها، فأنفذها على ما يرام.
وفي الواقع كان باب المدينة الذي دخل منه الرجلان لا يزالُ مفتوحًا، مع أن الأُصُول المتَّبَعة يومئذٍ لم تكن تسمح ببقاء أبواب المدينة مفتَّحة إلى مثل الساعة التي وصل فيها حماس من الليل.
ثم إن الفتى لَمَّا وصل إلى القصر؛ ليقضيَ بقية الليل في غرفةٍ منه — كما هو من واجبات وظيفته الجديدة — وجد أبوابه مفتحة كذلك، كأنها تنتظره ريثما يصل ثم تغلق، ولم يكن من الأُصُول أيضًا أن تبقى أبوابُ القصر مفتحةً بعد انصراف الناس منه، ودخول الملك إلى مقاصير الحرم.
فاستنتج حماس من هاتين الحادثتين أن الملك اتفق هو ومندوبه أن يكون وصولُهُ مع حماس في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل؛ لكيلا يشعر أحدٌ بقدومه، فتتولد في المدينة حركة لا تُحمد عقباها، إلا أن الفتى لم يعر هذا العمل الصغير كبير اهتمام، بل استمر في محادثة رفيقه وملاطفته، حتى صار على باب الغرفة الخاصة بالحارس الأول في القصر، وهنالك شكر للضابط حسن قيامه بتلك المأمورية التي يعدها من الملك تشريفًا له لم يكن يستوجبه، ثم تركه ودخل مقصورةَ نومه لينام، وما كادت المضاجعُ تطمئنُّ بجنبه حتى أخذه الكرى، فرأى في منامه نفس الرؤيا التي رآها وهو على الدرب الأصفر؛ إذ هو بجانب لادياس، وإذ هما يتوسدان الحصى والرمال، فهَبَّ من نومه بحالة المجنون وهو يصيح: أين اللوح؟ أين اللوح؟
وعندئذٍ لم يدر الفتى إلا برجلٍ يتقدم نحوه في الظلام وهو يقول بصوتٍ منخفض: لا تخف يا سيدي حماس، لا تخف يا سيدي حماس، إنني مِن أصدق محبيك وأكبر أنصارك، ولولا ذلك ما استهدفت بحضوري في مثل هذه الساعة ودخولي غرفتك على هذه الصورة، فانزلْ عن سرير نومك وأنا أُريك أين اللوح.
فما استتم الرجل حتى كاد حماس أن يطير لُبُّه دهشًا واستغرابًا، فقال للرجل بلسانٍ معقودٍ بالحيرة: ومن ذا الذي أتى باللوح من ميدان الهيكل، وأنا على يقينٍ أنني تركتُهُ نسيًا هنالك عندما كنت أُبارز بهرام.
قال الرجل: لا، بل هو هنا يا سيدي هنا … أمامك … تحت قدميك فانزل وأنا أريك إياه.
قال حماس: لعلك مجنونٌ أيها الرجل أو أنت آتٍ لتفتك بي غدرًا، فإن كان لك في الحياة أرب، فاخرجْ من فورك، وإلا قتلتك شر قتلة.
قال الرجل: بل أنت المجنون يا حماس؛ إذ ليس اللوح على ميدان الهيكل، بل هو أمامك كما قلت لك … تحت قدميك وليس عليك إلا أن تنزل عن سرير نومك، ثم تخطو خطوةً واحدةً لتراه، فانزل هات يدك، إنني ما أتيت لأفتك بك كما زعمت ظلمًا، بل أنا أُريد أن أُنقذ حياتك.
ثم إن الرجل أخرج من جيبه فتيلًا فأشعله، فلما تأمل حماس صورةً مفاجئةً في الضوء اطمأنَّ واستأنس ونزل عن مضجعه قائلًا: وأين ذاك اللوح أيها الرجل؟
قال الرجل: ها هو بين عينيك، تأمل!
فتأمل حماس أرضيةَ الغرفة، وإذا بالتحقيق فيها لوح لا تكاد العين تعرف حدودَه منها، إلا إذا وجدت من يهديها له، وهو عظيمٌ يكاد يشغل نصف مساحة الغرفة، وقد دار بسرير النوم من جهاته الأربع، فحين حققه حماس رفع عينيه ثم سأل الرجل قائلًا: أوتعني باللوح هذا؟
قال الرجل: وأي لوح يهمك أنت أكثر من هذا، وهو قبرك الذي حفر لك، فبينا أنت عليه في سبات عميق، إذ أنت تحت الثرى في قرار سحيق.
قال حماس: لقد حسبتك تتكلم عن اللوح الإلهي، إذ هو وحده يهمني ولا يهمني سواه، فانطلق الآن لشأنك ودعني ونفسي والأحلام، فقد كفى ما قطعت عليَّ المنام.
قال الرجل: إن الذي أعطاك الإقدام والبسالة، سَلَبَ منك عقلَك لا محالة، ولو لم أكن أضل منك عقلًا لَمَا سعيت في إنقاذك، ولا خاطرتُ بحياتي من أجلك، والآن فاستعدَّ للقاء حينك، وإني أستودعك النار، وبئس القرار.
ثم إن الرجل عالج الباب بلُطف؛ فانفتح فخرج ينسلُّ انسلالًا، تاركًا حماس وحده في الغرفة، وكأنه لم تجر بينهما تلك المحادثة الطويلة، ولا علم حماس من محدثه؛ لأنه إنما يضطجع في فراش المنية، ويقرب نفسه للهلاك كما تقرب الضحية، بل انثنى إلى المضاجع فانغمس في خزها وكتانها، وقد ذكر باللوح لادياس، وأيامًا تقضت له في البؤس بسببها، ثم في النعيم بقربها، فتهيج ساكن أشجانه، وتأجج كامن نيرانه، وأخذ يعض بنان النادم الآسف على ما أفات نفسه من نعمة الحصول عليها، ونعيم المقام لديها، على حين قد تهيأت له المنى، وكان له عن كل ذلك الطمع غنًى.
وبينما هو في هذه الأحلام، بين اليقظة والمنام، لم يدر إلا باللوح كان وطاء، فصار غطاء، ثم بالسرير يهوى به في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى استوى على مثل اللحد الضيق من الأرض، فاستقر به الهبوط هنالك فنهض حماس واقفًا؛ حيث ما في الموت شك لواقف.
ثم التفت فرأى الجُند من كل الجهات وقد سددوا نحوه السهام، لا ينتظرون إلا الإشارة ليذيقوه كأس الحمام، فصاح عندئذٍ قائلًا: (أخيانة يا قوم؟) فلم يجبه إلا الكهنة من خلف الجند بنشيد الموت المحزن الرائع، فلم يبق في نفس الفتى شك ساعتئذٍ أن الملك قد اغتاله، وأن منيته قد دنت لا محالة، إلا أنه تَجَلَّد للشماتة، ولبس للموقف لبوسه من الاستجماع والوقار، فقال يخاطب الجلادين (إذن فاعملوا عملكم؛ فإني مستعد للقاء الدار الأبدية) فلم يجبه في هذه المرة أيضًا إلا الكهنة من خلف الجُند بنشيدِ الموت المحزن الرائع.
وكانت هذه الهنيهة بين النشيدين كافيةً لرَدِّ العاشق إلى ادكار معشوقه، والخاطب إلى الفكر في خطيبته، وما وعدها من مستقبل بالحب سعيد، وعيش في الهناء مديد؛ بحيث أصبح دَيْنًا عليه أن يحيا لتحيا منها الآمال، وأن يعيش من أجلها على كل حال.
وعلى إثر هذه الخطرات جبن البطل وخذلتْه نفسُهُ الأَبِيَّةُ لأول مرة، فسكبت عيناهُ الدموع وهو يرفعُهما نحو سماء الحب ويقول: (أيها الآلهةُ العِظَام ثبتوا برحمتكم أقدامي، وأعينوني على رؤية هؤلاء الجلادين) فجاءه هذه المرة أيضًا من الكهنة خلف الجند يشيرون بنشيد الموت المحزن الرائع.
وعندئذٍ أيقن حماس أن الإشارة صادرةٌ للجُند لا محالة، فأمسك عن الكلام، وسدد صدره نحو السهام، كمن يستحثُّ الحمام، وفي هذه الأثناء تَنَحَّى الجنديُّ الذي أمام حماس، وقال بصوت جهوري رهيب «الملك».
فحين سمع سائر الجُند هذه الكلمة، أمالوا الأسلحة وانحنَوا بهيئة تعظيم يستعدون لتحية الملك، حتى إذا تراءى شخصه كان حماس أول مُؤَدٍّ للتحية، فأشار أبرياس للجُند أن يبتعدوا ففعلوا، ثم قال يخاطب حماس: أعرفت أين أنت الآن يا حماس، أرأيت كيف أمسيت؟
قال حماس: أسيرُ احتيالك يا مولاي، ورهين اغتيالك، فعجل؛ لَعَلِّي أستريح من رؤية هؤلاء الجلادين.
قال الملك: ولكني إلى العفو أميل يا حماس.
قال حماس: وهو منك أحرى يا مولاي.
قال الملك: لكن العفو معلق بشروط ثلاثة، فإن تحققت حصل، وإلا فلا سبيل إليه.
قال حماس: وما هي هذه الشروط يا مولاي؟
قال الملك: أن تعترف أولًا أنك استوجبت عقوبة الإعدام، بما صرحت به في ساموس من تعلُّق آمالك بالملك، وسعيك في اغتصاب تاجي وعرشي، وثانيًا أنْ تكتب إلى بوليقراط بأنك لم تَعُدْ تطمع في ملك سيدك ومولاك، بل تكتفي بما بلغت إليه في حكمه من رفيع الرتب وعظيم المناصب، وثالثًا أن تقسم بالآلهة وبالشرف العسكري أنك لا تخونني ولا تتصدى لإيذاء عرشي، بل تكون له طول حياتك الخادم الأمين، والناصر في الملمات والمعين، وهذا كله بالكتابة وفي هذه الورقة، قال هذا، وقدم للفتى طرسًا وقلمًا ودواة، فتردد حماس بادئ بدء بين قبول هذه الشروط ورفضها، إلا أَنَّ البطل لم يلبث أن انخذل، وناب العاشق فامتثل.
فمد حماس يده وأخذ من الملك أدوات الكتابة، ثم كتب جميع ما أملى عليه ووضع اسمه بعد ذلك في أسفل الورقة، ثم دفعها إلى أبرياس، فتناولها فَرِحًا مسرورًا، وقرأها فألفاها كل ما طلب وأزيد، فطواها وجعلها في بعض جيوبه، ثم التفت إلى حماس فقال: الآن عفوت أيها القائد، وأعلم أنه لا تمضي أيام قلائل حتى أكون قد نقلت كبير حرسي إلى وظيفةٍ تليق به في الجيش ثم أجعلك مكانه، فتكون قد رقيت في شهر واحد لرتبتين مِنْ أسمى الرُّتَب في المملكة، ووليت منصبين من أرفع المناصب فيها.
قال: وأنا عاجز عن الشكر يا مولاي تلقاء هذا الكرم الباهر، وليس عندي ما أقدمه سوى الدعاء بدوام وجودك، قال: إذن فاطرح نفسك على السرير كما كنت، وهو يخف بك صاعدًا حتى يبلغك غرفتك، قال: سمعًا وطاعة واضطجع في السرير كالنائم، فتقدم الجند عندئذٍ وحركوا الآلات فتحرك السرير معها، فلم يكن كلمح البصر حتى صار حماس فوق الأرض بعد أن كان تحتها، فقضى بقية تلك الليلة في هواجس وأوهام، ويقظة ملآنة من الأحلام.