كلكاس في مصر
كانت حامية منفيس وهي يومئذٍ الحامية الثانية للبلاد مؤلفةً من الجنود الوطنيين الذين لم يكونوا مع الملك في جانب، وإن هم ظهروا في طاعته، واستمرُّوا على الصدق والأمانة في خدمته.
وكانوا يحبون حماس ملء القلوب، ويستعين به قوادُهُم على قضاء حاجاتهم لدى فرعون وحكومته، وكانت له المراقبة عليهم بمقتضى وظيفته العُليا في القصر السلطاني، فكان يذهب إلى منفيس بين الوقت والآخر لإجراء التفتيش العسكري، والنظر في شئون الحامية وانتقاد أحوالها.
فبينما هو ذات مرة في منفيس يباشر عمله هذا، تقدم إليه رجلٌ متلثمٌ، وقال له بصوت لا يجاوزهما سماعه.
– أنا يا مولاي عبدك تاجر الآثار بساييس.
قال حماس: وفيم حضورك الساعة وماذا تريد؟
قال الرجل: أُريد يا مولاي أن أَقُصَّ عليك ما أصابني، بسبب العرش الذي صنعته لك من خشب اللوح المعهود.
قال حماس: وماذا أصابك؟
قال الرجل: أعلم يا مولاي، أن النار شبت في الغرفة التي هو مخبوء فيها مرتين، فالتهمت جميع ما فيها من متاع وأثاث، ولم يبق مما تأكل النار في المرتين سوى العرش مع كونه خشبًا في خشب، فهو بذلك أول معرض للعطب، وقد لاحظت أنا وزوجتي أن الحريقين حصلا في يومي سرار البدر من الشهرين الماضيين، وكان حصولُهُما في ساعة واحدة وعلى صورة واحدة، وقد رأت زوجتي منذ ليلتين رؤيا هالتها، وأقلقني أنا أيضًا سماعها منها، فعجلت إليك لترى في الأمر رأيك، ولتريحني من وديعتك التي تتهدد بيتي من الأساس إلى السقف، فقد رأت امرأتي أن البيت احترق مرة ثالثة، فغادرته النار تلًّا من رماد؛ وإذ كنت أعهدها صادقة الأحلام تبعتك إلى هذا البلد، فانظر الآن ماذا تأمر.
فأطرق حماس برأسه، ثم رفع عينيه ليكلم الرجل، وإذا هو بكلكاس قد كشف اللثام، فحين رآه عرفه أول وهلة، فأشفق من رؤيته وصاح يقول: كلكاس … كلكاس هنا.
قال كلكاس: نعم يا مولاي، وإنه رسول الأميرة إليك ليذكرك وعودك وعهودك، وليقول لك عن لسانها إن السعادات بنات الهمم.
وإن الفرص إذا لم تغتنم، يندم تاركها حين لا ينفع الندم.
قال حماس: وما علاقتك بتاجر الآثار في سييس؟
قال كلكاس: هو أيضًا سفير الأميرة في شئون الغرام، ورسولها من قبلي لتحقيق ذاك المرام.
فحين سمع حماس هذه العبارة ازداد دهشًا على دهش، وكاد فؤادُهُ أن تلفظه الضلوع من شدة الحنق، لذكر اسم الحبيبة أولًا، ولغرابة هذه المفاجأة ثانيًا، فقال: أعلم يا كلكاس أنك لا تبرح هذه الديار حتى يكون الأمرُ قد تم، وتكون أنت أول من يحمل البُشرى إلى الأميرة باستقدامها، ولكني أحذرك من الهذي والهذر — كما هو طبعك — وأوصيك بالكتمان الذي لا كتمان بعده، والآن أرى أن تبقى في منفيس تراني ولا أراك، فإذا علمت أني أغادرها آيبًا إلى العاصمة، فاحتلْ على مقابلتي لأطلعك على نتيجة مسعاي.
قال: سمعًا وطاعة يا مولاي، وانصرفَ تاركًا حماس في تفكيرٍ وتدبيرٍ، واحتيال على المراد الغزير.