توفر الشروط
لم يمض يومان على مجيء كبيرِ الحرس إلى منفيس لتعهُّد حاميتها، حتى نشأت حركةٌ بين الجند في جميع معسكرات المدينة، قَلِقَ لها القوادُ كثيرًا، وأخر حماس من أجلها عودته إلى العاصمة، وبسبب ذلك أنه شاع في منفيس أن الجُنُود الاستعمارية في برقة (غربي الديار المصرية) شَقَّتْ عصا الطاعة، وأنها غادرتْ مراكزَها في المستعمرة، زاحفةً على الوطن لعزل الملك وقلب هيئة الحكم.
وفي الواقع ما سرت هذه الإشاعة حتى وردت على حماس، أوامر الملك بتهيئة جيش منفيس للخروج إلى مُلَاقاة الثائرين وكبح جماحهم، وتبديد شملهم، قبل توغُّلهم في البلاد، وأنه هو؛ أي الملك، سيفد على منفيس بجنوده اليونانية ليمده بهم إن مست الحاجة، وليحفظ له خط الرجوع فيها إن دارت على جيشه الدوائرُ، فشرع حماس من فوره في تنفيذ الأوامر السلطانية بهمة هو بها جدير.
إلا أن السبب في عصيان جيش تونس لم يكن مجهولًا لدى سائر العساكر الوطنية في مصر، وهو احتقارُ الملك للعنصر الوطني في الجيش، وسوء معاملته وتفضيله اليونان المستأجَرين عليه، وإذ كان الجُند كلهم سواء في هذا الشعور، لم تكن حركةُ الخواطر بينهم في منفيس، إلا ناشئة عن مشاركة إخوانهم الثائرين فيما يُضمرونه مِن بغض الملك وما يظهرون.
فلم تمضِ ثلاثة أيام حتى أخذت جنود حماس أهبتها واستعدت، فخرج القائد بها إلى ملاقاة العصاة بين استياء الأهالي وكدر الجند أنفسهم، حتى إذا اجتاز بهم أبواب المدينة أقبل عليه كلكاس فعرفه القائد من لثامه، وأنكر عليه في نفسه هذه الجرأة، فركض جواده ليلاقيه حتى إذا اقترب منه سأله قائلًا: هذا وقت الكلام يا كلكاس؟
قال كلكاس: نعم، ووقت العمل يا مولاي؛ فأنت الآن بين طريقين: طريق السلامة لك ولقومك وللأميرة عروسك، وطريق الندامة لك ولجميع مَنْ ذكرت، فأما طريقُ السلامة فالذي أنت تاركُهُ، وأما طريق الندامة فالذي أنت الآن مالكه، فارجع من حيث جئت ولا تترك منفيس؛ فإنها حصنٌ حصين، وركن أمين.
فأطرق حماس برأسه هنيهة، ثم التفت إلى مَنْ خلفه من القواد فخاطبهم على مسمع من الجيش قائلًا، أتدرون أيها الصحبُ ما يقول هذا المفاجئ الروحاني؟ قالوا: بلى، قال: يزعم أننا إذا قاتلنا إخواننا المصريين أمطرتْنا السماء حجارة لا طاقة لنا بها، ويزعم أيضًا أن ثورة الجيش في برقة مكيدة دبرها الملك وأصحابه اليونان ليفنونا عن آخرنا، وما يفنوننا ولكن نفني بعضنا بعضًا.
فحين سمع القواد المصريون هذه العبارة، فاضت قلوبهم من الحقد على أبرياس، ونقلوها برمتها إلى الصفوف، حتى إذا لم يبق جندي إلا سمعها انقلب الجيش للحين عاصيًا ثائرًا، وصاح بلسان واحد يقول: حماس يحمينا … حماس ينتقم لنا، إلى ساييس … إلى ساييس … فلم يسع حماس عندئذٍ إلا الرجوع بالجنود والمسير بهم إلى ساييس لمقاتلة الملك وجنوده.
وكان الجيش اليوناني قد دنا من منفيس فاشتبك القتال بين الفريقين، واستمر من الضحى إلى الأصيل حتى قتل من الجانبين خلق كثير، وكادت النصرة أن تتم لأبرياس وجيشه الجرار، إذ تراءى على ساحة القتال رجل يحمل عرشًا من أنفس ما رقا الملوك، وهو يصيح قائلًا: هذا عرشُ السلام، سخره الآلهة للملك حماس أمازيس، فما كاد الرجل يستتم حتى ألقى اليونان أسلحتهم خاذلين الملك، مُنْفَضِّين من حوله، وأجلس القواد زعيمهم على العرش ثم حملوه على الأعناق، وجعلوا يطوفون على الصفوف من أهالي وعسكر، وقبض على أبرياس، ثم تحرك الجيش معتزًّا بالملك الجديد، وهو يسير به إلى العاصمة حتى دخلها ليلًا، فإذا هي مفتحةُ الأبواب تستقبل الملك القائم بأكمل ترحاب، وعندئذٍ أمر حماس بالملك الأسير فسِيق إلى القصر مُرَاعًى مكرمًا حتى ينظر في أمره.
إلا أن الشعب تجمع حول القصر يلح في طلب أبرياس، والملك المعزول يسمع تهديده ووعيده حتى يئس من الحياة، فأرسل إلى حماس في الفجر يطلب منه الأمان لبنته الواحدة ولم يكن له من الأهل سواها، فأجابه حماس إلى طلبه، وأنه يحافظ على حياتها ويضمن لها المعيشة اللائقة بها من بعده، فحين ورد هذا الجواب على أبرياس أخرج من جيبه ورقة مختومة وناولها الأميرة وقال لها: احفظي وديعتي لدى الآلهة هذه الورقة، فإنها صك منهم بالانتقام لأبيك من الغادرين، ثم قبلها وموج الدمع يحول بينهما، وخرج بعد ذلك إلى الشعب فلقي منيته للحين، وما اطمأن السرير بأمازيس حتى أرسل كلكاس إلى ساموس في وفد من وجوه المملكة وسراتها يستقدمون لادياس، حتى إذا قدم موكبها الفاخر زُفَّت إلى الملك زفافًا مشهورًا، ألقى في يومه أساس أربعين هيكلًا في الأوطان لمعبودات اليونان، فكملت بذلك الشروط الثلاثة للقران.
تليها رواية دل وتيمان أو آخر الفراعنة، وهي متممة لها ويعرف القارئ منها كيف زال ملك الفراعنة.