رجال الزورق
كان في ساموس جانب من الجزيرة مهجور، بعيد عما حوله من المعمور، وكانت فيه كتلة من الصخر هائلة، منحنية على البحر مائلة، وهذه الكتلة فيها غار، سحيق القرار، وكان الأهالي يسيئون به الظنون، ويخلقون في أمره ما يخلقون، ففريقٌ يزعم أنه مكامن الأشقياء، أشقياء الماء، وفريق يحسبه مبيتًا لسبع جهنمي من سباع السماء، وعلى كل حال فقد طال ما تهيبوه، وحرمتهم الأوهام أن يقربوه.
ففي ذات يوم أقبل زورق فجرًا من طراز زوارق الإمارة، أو هو واحد منها وعليه كما عليها الشارة؛ فرسا هنالك متواريًا في الحجارة، ثم صدرت منه بالبوق إشارة.
فأشرف إنسان من الغار ينظر، فخاطبه رجل من الزورق قائلًا: خذ ثوبك يا بيروس فالبسه كما لبسنا نحن ثيابنا، ثم إنه شد الثوب بحبل أرسل من الغار فرفعه بيروس إليه، ولم يكن إلا كلمح البصر، حتى ترك بيته وانحدر بكل سرعة وحذر، كما تنزل القردة من أعالي الشجر، فتلقاه أصحابه وفسحوا له فركب فجلس ثم حول الجميع المجاذيف إلى الطريق التي رسموا للزورق أن يسير فيها؛ فاندفع بهم ينساب، في بحر راقد العباب، مأمون المركب على الركاب، وكانوا سبعة رجالًا، عراضًا طوالًا، بهما أبطالًا كلهم قد غير شعاره، ولبس للحالة حليتها المستعارة، حتى صار رئيسهم يقول هذا من زوارق الملك وهؤلاء من البحارة.
فلما جد بهم المضي مع الماء، واحتجب بهم الزورق إلا عن العين التي في السماء. قال أحدُهُم: ألا تعلمون يا إخوان، ما يجري الآن، في مياه اليونان؟
قالوا: بلى، فخبرنا أنت بالخبر، ولا تطل كعادتك، فليس ذا وقت الهذي والهذر، ولا مقام الحكايات والسير التي تصيرها مملوءة بكثرة الأمثال والعبر.
قال: علمت يا إخوان، واللبيب يعلم، ومن لا يستفهم لا يفهم، أن بوليقراط ذاك الطاغية، السياسي الداهية، يعمل الآن عملًا يحتذي فيه مثال كثيرين من ملوك اليونان الغابرين، الذين خالفوا الشرف والإباء، وحالفوا لصوص الماء، فاستراحوا وأراحوا الرعية من أذى هؤلاء الأشقياء، وإنها وأيم الحق لمقدرة من بوليقراط القادر، وآية من آيات دهائه النادر، بل ما بال سائر الملوك، لا يسلكون مثل هذا السلوك، فيحتالون ليتخذوا لُصُوص البحر قوةً، مأمولة النفع بعد الضر مرجوة.
قال البحارة: ما لنا يا كلكاس ولتواريخ الأولين والآخرين، وانتقاد أفعال الملوك الحاضرين منهم والغابرين، ألم ندعك لتوجز وتبين؟
قال: إذن، فخذوا الخبر، واسمعوا القول المختصر، إن بوليقراط يعمل الآن، عملًا من الحكمة بمكان، سوف يكون له شأن، ويبقى ذكرُهُ على ممر الأزمان.
قالوا: وماذا تراه يعمل؟ فهذا الذي نريد أن نعرفه ولا نريد أن نعرف غيره.
قال كلكاس وقد أغضبه مقاطعة أصحابه: إن كان ولا بد من الاختصار، المذهب لطلاوة الأخبار، فإني أنقل إليكم الخبر على علاته، وأدع لعقولكم السخيفة على مفصلاته، سمعت من صاحبٍ أثقُ به، ولا شك في عقله وأدبه، أن مياه اليونان، يجري فيها أُمُور الآن، لا يعلم بها إلا الملك وزعيم الأشقياء أورستان.
قال البحارة: أهذا كل الخبر يا كلكاس؟
– نعم، وإنه لو تعلمون لعظيم، ولكني عهدتكم منذ صحبتكم تحتقرون الأمر الجليل، وتسخرون من كل قال وقيل، وهذا لعمري منتهى السفه.
– وأية فلسفة تريد أيها المهووس أن نستنبط من روايتك التي لا تقبل الزيادة، ولا تشير إلى وقوع حادثة فوق العادة.
قال وما يدريكم يا أغبى الناس، أن يكون لفعل الملك هذا مساس، بنا أو بعروس اليونان لادياس.
فقال بيروس: أما بنا فلا؛ لأنني أعلم علم اليقين، أن الملك أمسك عن مطاردتي من نحو ثلاث سنين، أي بعد أن اضطرني إلى الاحتفاء، وصيرني في زعم ميت الأحياء، العاجز عن كل عداء، وأما كون الحادثة قد تكون واقعة من أجل لادياس، فهذا يكذبه كتاب عنها، حديث العهد بخط أقرب الناس إليها.
وبينما القوم في هذا الذي نَصِفُهُم عليه يسخرون من كلكاس، وكلكاس يسخر منهم إذا بفلك أربعة، خفاقة الأشرعة، قد ملكت جهات الزورق، حتى كاد من شدة ضغطها يغرق، ثم وقفت وأطل من أحدها رجل فصاح يقول: ومَن القوم، ومن أين وإلى أين؟
فوقع البحارة من أمرهم في معيص، ولم يجدوا لأنفسهم من الغرق من محيص إلا كلكاس، فإنه لم يمهل الرجل ريثما يستتم، بل وثب من مكانه وقال: نحن بحارة الملك أيها الرجل، ولولا أنك تغالط عقلك لكان الزي وحده ذلك، والآن فمن أنت حتى تسيء الأدب على هذه الشارة، وتهاجم الزورق وتستبيح حصاره، كأنك لا ترجو وقارًا، لزوارق الإمارة، وحتى تقف لبحارة الملك في الطريق، وهم في الخدمة الشريفة التي لا يليق أن يعتريهم فيها تعويق؛ أليس هذا انتهاكًا لحرمة الملك وعقوقًا، وخروجًا من واجب الطاعة ومروقًا، ألا تقضي القوانين بالقتل، على مرتكب مثل هذا الفعل، فيا قوم ما أسماؤكم، وإلى من انتماؤكم، حتى نرفع ضدكم الشكوى، ونقيم عليكم — حال وصولنا — الدعوى؟
وكان أصحاب كلكاس حوله لسانًا واحدًا يدعوه ليختصر في قوله وهو لا يريد الإجابة، ولا يزيد إلا إهذارًا في الخطابة، حتى قام في اعتقاد المهاجمين، أن رجال الزورق حقيقة من البحارة التابعين فحولوا عنهم المراكب للحين، ومضوا لسبيلهم تاركين كلكاس يهذي وحده كالخاطب في الناس ولا ناس، حتى أسكته أصحابُهُ فسكت ثم التفت فقال: إن مع العي لغبنا، وإن من السكوت لجبنا، أعلمتم بعد مكاني، أرأيتم كيف نفعتكم فلسفتي وأغنى عنكم بياني!
قالوا: وهل جهلنا مقدرتك وإمكانك، حتى تعرفنا يا كلكاس مكانك؟ إنك لَأعظمنا إقدامًا وبسالة، وأفصحنا منطقًا ومقالة، وأصلحنا لبوسًا لكل حالة، أليس هذا الزي نفع من مواليد رأيك المتبع، وتدبير فكرك الذي يسع من الحيل ما يسع؟
ثم إن الزورق استمر سائرًا دائبًا على بغيته، رائدًا حتى ذهب معظم النهار، وتحفزت الشمس لتحتجب عن الأبصار، فالتفت بيروس عندئذٍ إلى أصحابه، وقال: لم يبق يا إخوان إلا أن ننحدر جهة الشاطئ فنسير بحيث نحاذيه.
قالوا: أَوَتدري أننا دنونا بعد؟
قال: نعم؟
قالوا: إذن، فإنا فاعلون!
ثم وجهوا السواعد بالمجاذيف جهة البر وظلوا يتقدمون، وبيروس يرشدهم أين يتوجهون، وقد غلب الغرام الفتى على أمره، وحل الإلمام عقدة صبره، فأجرى من الدمع ما لم يزد أصحابه علمًا بسره، واندفع ينشد من أعماق صدره:
حتى إذا تكامل للشمس الغروب وآن للنهار أن ينتحي والليل أن ينوب، دخل الزورق في ظل أشجار، متكاثفة هنالك مرتفعة كبار، فتقصَّى بيروس النظر، فوجد البقعة صالحةً للمستقر، فأعلم أصحابه أنهم قد وصلوا، وأشار لهم أن يلقوا المراسي ففعلوا.
ثم نزلوا فتوارى الكل واستتر، بين الحجر والشجر، يتربصون للموعد المنتظر، فلندعهم وشأنهم الآن يتربصون على ذلك المكان، إلى أن نعود فنذكر من أمرهم ما كان.