لصوص الماء
لم يكن يمضي يوم على الملك بوليقراط بدون أن يفد عليه أورستان زعيم أشقياء اليونان، أو مَن ينيبه عنه من أعوانه الشجعان، فيلبث في حضرته برهة من الزمان، ثم يأمر الملك من يذهب معه إلى حيث يريد، فلا يأتي الليل إلا ويعود الرسول، ومعه أسير مكبل بالحديد، فتصدر الإشارة بإضافته إلى ما في السجن من عديد.
وظل الأمر كذلك تسعة وثلاثين يومًا، بغير انقطاع وقع فيها مخالب أولئك السباع، تسعة وثلاثون أسيرًا من بني الأمصار والأصقاع، ليس فيهم إلا ملك مطاع، أو أمير له الأمراء أتباع، أو بطل شجاع، شاع ذكرُهُ وذاع، وملأ الأسماع، ثم مرت سبعةُ أيام بدون أن يقبض على أحد أو يزاد السجن على ذلك العدد، وفي اليوم الثامن حضر أورستان يضرب الأرض برجليه كأنه شيطان وعيناه جمرتان، من الغضب مُتَّقِدَتان، فدخل على الملك فحياه، ثم قال: لقد كدت أيها البطل الشجاع، الذي لا من البشر ولا من السباع، لولا أن نفسه العالية الأبية، فضلت ورود المنية، فآثر الثواء بقرار البحر، على الوقوع في هوان الأسر. قال: ومن ذاك يا أورستان وما حديثه؟
قال: يا مولاي، فتًى مِن مصر رفيع الرتبة في الضباط، تدلُّ زخارف حلته على أنه من حرس البلاط، وكان على ذات شراع، ومعه ثلاثة من الأتباع، فدعوناه كعادتنا للاستسلام، فأبت نفس عصام، فزدناه حصارًا، فزاد تأبيًا واستكبارًا، حتى بلغ من حيرتي ويأسي، أن مارسته بنفسي، فظهرت بسالة الفتى على قوتي وبأسي، حتى لو لم ينجدني رجالي لصير البحر رمسي، إلى أن خانه على مراسنا الجلد.
وكان أن أذعنت البسالة للعدد، فصرخ الفتى صرخةً تذيب الأسد، قام لها البحر وقعد، وسمعته يقول: مكانك يا حماس، إن الجندي المصري لا يعرف التسليم للملوك، فكيف يسلم للص صعلوك، ثم لم أبصر يا مولاي إلا بالسفينة تحترق، ثم إذا بها قد غرقت وإذا بالفتى قد غرق، فشق على أن يموت وأن يفوت ساحة الوغى من عناقه ما يفوت، لكونه إنما خلق لها لا لبطن الحوت، فقفيته برجالي يغوصون عليه القرار، وينشدونه بين العبب والتيار، وما زلنا نفعل حتى مغيب النهار، فلما لم يجد الالتماس، ونفضنا أيدي اليأس، رجعنا نبكي فقده، ونبكي الإقدام والثبات بعده.
فقال الملك واغرورقت عيناه بالدمع: إن كانت ذاكرتي صادقةً يا أورستان، فهذا اسم شاب مصري كان لنا وله فيما مضى شان.
قال أورستان: وما ذلك يا مولاي؟
كنت عرضت على فلاسفة اليونان، وحكماء سائر البلدان هذا السؤال، وهو: «لقد بلغت الزيادة قصاراها حتى أصبحت أتوقع النقصان، وطال أُنسي بهذا الحال مع الزمان، حتى خفت تحوُّل الحال ونفار الزمان، فهل مَنْ يصف لي ما يخرجني من هذا الوجل، وآمن به الدهر أن يأتي على عجل؟» فانهال عليَّ من الأجوبة، ما ظهر فساد جميعه بالتجربة، حتى كتب إليَّ فتًى من مصر بهذا الاسم يقول: «إن الحوادثَ أيها الملك لا يعرفن ليلًا ولا نهارًا، بل إنهن قد يطرقن أسحارًا، وإني لا أرى الملك ما يدرج به النفس على احتمالهن قبل ارتجالهن، إلا أن يعمد لأعز ما يجب ويكرم من الأشياء فيبيده إبادة بقول الإرادة، ويحرم منه النفس وهي صاغرة منقادة، وهكذا تفعل بين الحين والآخر حتى يصير الصبر لك عادة.»
فكان هذا جواب الحكمة والصواب بإجماع أهل الخبرة، من أعظم الحكماء شهرة، وأبعد الفلاسفة صيتًا وذكرى؛ وإذ كانت الجائزة المجعولة لمن يفيد، ويجيب الجواب السديد، أن يشتهي على ما يشاء إلا الملك، فقد كتبت إلى ذلك الشاب بالتمني، ولكنه لم يجب حتى الآن، فإن كان ذاك حماس هو الذي تبالغ في وصف بسالته وإقدامه، فنعم الصهر كنا نعتز به لو عاش يا أورستان، وهل لمحته عيناك وقت الاشتباك، قال: نعم يا مولاي أبصرته فأبصرت البدر عند التمام، وألفيته جميلًا بقدر ما هو باسلٌ مقدام.
قال: كذلك مصر ما زالتْ مرزوقة على ممر السنين، ميمونةً مباركًا لأهلها في البنين، وإن لأهلها لعذرًا إذا ألهو بعض الناس منهم، فقد يجتمع للمصري مِن عظيم الخصال، ويتم على يده من جلائل الأعمال، ما يضيق عنه الطوق البشري وتنوء به عزائم الرجال.
قال: والآن ما رأي الملك بشأن الأسرى، هل يظل ممسكهم أو في النية فكهم؟
– بل سأفكهم وأردهم إلى بلادهم خائبين؛ لأنني لم أجد بينهم ضالتي المنشودة.
– ذلك ما أرى أنا أيضًا يا مولاي، ولكن أذكر أن بين الأسرى، أحد أشقاء الملك كسرى، فماذا ترى فيه وما عندك من الترضية لأخيه؟
– ليس لكسرى أن يحتج، ولا علينا أن نَتَرَضَّاهُ؛ إذ الأمر شخصي محض، ولا دخل للرسميات في خصوص المعاملات، وما علينا إلا أن نكتب إلى الملك بتفصيل ما جرى، ونخبره أن الامتحان أسفر عن خيبة أخيه خيبةً فاضحةً، فلم يعد ممكنًا أن أركن إلى مصاهرته بعد أن ارتبطت بوعودي وعهودي أمام العصر والممالك والناس.
قال: نِعْم الرأي يا مولاي.
ثم إنه استأذن الملك في الانصراف، فأذن له فانصرف على أن يعود في الغد مغاديًا.
وكان الليل قد أقبل يواشك، فالتمس الملك فتاته ليبلغها ما ظهر وبان من نتائج الامتحان؛ فقيل له إنها متغيبةٌ لم تعد بعدُ مِنْ نزهتها اليومية على شاطئ البحر، فأراب الملك الأمر وشغله هذا الإبطاء، فجلس إلى نافذةٍ مطلةٍ على طريق رُجُوع الأميرة وأشرف ينظر؛ وإذا الطريق تنكشف لمدى البصر خلوًا من الأقدام، لا دارج عليها إلا الظلام، فجَدَّ بالملك الارتياب، واضطرب فؤادُ الوالد أي اضطراب؛ لا سيما إذ لم يكن من عادة لادياس أن تلبث خارج القصر بعد العشاء، فدعا الملك ثلاثة من غلمانه الأمناء، وقال لهم: اذهبوا فاستعجلوا الأميرة وهي عائدة، وقولوا لها: الملك بانتظارك على المائدة، فقالوا: سمعًا وطاعة، وانطلقوا للحين، خفافًا مسرعين، فما زالوا بالطريق يُحيطون به طولًا وعرضًا، وتأخذُهُ عيونهم سماءً وأرضًا، فلم يأت البحثُ بفائدة، ولا رأوا الأميرة لا ذاهبة ولا عائدة؛ وحينئذٍ ارتأى الغلمان، أن يبقى منهم على الطريق اثنان، وأن يتقدم الثالث إلى حدبة البحر، وهي الغابة التي سلف لها في الفصل الأول ذكر، لعل التلهي في المشي قد ساق الأميرة إليها، فلوت هي وأترابها عليها؛ فاندفع الغلام يجهد في السير الأقدام، إلى أن أتى مدخل الغابة فدخل يوغل فيها، ويضرب في جوانبها، ونواحيها، ولا وجلًا ولا هيابًا، ولا حاسبًا للظلام حسابًا، حتى بدهت أذناه بصوت أنين، له في جوف الغابة خفيف رنين، فالتفت وتفزع، ثم استجمع وأنصت يسمع.
فأوجس الغلام أيما إيجاس، وخشي أن تكون صاحبة الأنين هي لادياس، فاندفع حثيث السير، يهب هبوب الطير، لعله يوافيها قبل تناهي الشدة؛ فينجدها في كربها قبل فوات النجدة، وهو ينفذ على الصوت المدى، لعل أن يجد عليه هدى، حتى بلغ موضعه، كما يبلغ الصدى مرجعه، وإذا مصدر التأوهات، ومنبعث الأنات، ثلاث من الفتيات حققهن الحارس في ضوء النبراس، فعلم أنهن ممن كن مع لادياس، وأن أبدانهن الناعمات، في الحبال موثقات، وبشدة الرابط موهنات، فحل على الفور ذاك الوثاق، ومزق تلك القيود والأطواق، ثم أنهضهن فما استطعن القيام، وخاطبهن فعجزن كذلك عن الكلام، فتركهن على هذه الحال، وابتعد قليلًا؛ بحيث لا يفوته حفظهن ثم أخرج صفارة، وبادل رفيقيه الإشارة، فجاوباه فاستمر يصفر وهما يتوجهان، وجهة الصفير حتى أقبلا من أقصى الغاب يهرولان، فحين رآهما حدثهما حديث البنات، ثم دعاهما ليعيناه على حملهن حملًا، والرجوع بهن إلى القصر، لأنهم من شدة الضعف؛ بحيث لا يمكنهن الحراك ولا الكلام، فضلًا عن المشي على الأقدام، فوافق الصاحبان على ذلك، وتكفل كل واحد من الفتيان الثلاثة بواحدة من الفتيات الثلاث، ثم ساروا على هذه الصورة آيبين إلى القصر، فما قطعوا ثلث المسافة حتى التقوا في طريقهم بثلاثة آخرين من الحراس، أرسلهم الملك للبحث عن الأميرة، ومساعدين لمن سبقهم في هذه المهمة، فحين نظر رجال الوفد الثاني إلى أصحابهم وما يحملون، هالهم الأمر وسألوا عن السبب فأعلموهم بالحداثة، وأنهم اضطروا إلى العودة بالبنات إلى القصر؛ يشرحن واقعة الحال للملك، فينظر في ذلك نظر حكمة، أو يدبر لنفسه أمرًا؛ فاستصوبوا عمل رفاقهم هذا، ثم اتفق الفريقان على أن يستمر الوفد في ذهابه إلى القصر، ليرفع الخبر إلى مسامع الملك، وأنه يجد الثاني في السير لعله يقف للأميرة على أثر، أو يجيء عن أمرها بخبر، على ذلك انطلق الأول آيبًا، واندفع الثاني ذاهبًا.