أين أصبحت لادياس؟
كانت لادياس كلما أصبح الصباح طلعت على آفاق ساموس بالجلال والجمال والشمس، كلتاهما في رونق ضحاها، وعند سرير مجدها وعلاها، لكن للادياس من الشمس مصبحها وليس للشمس منها ممساها.
كانت تصبح كل يوم، وإذا الملك لله ثم لها في بلاد أبيها، والأمر في القصر أمرها، وأهل القصر والملك الوالد في أولهم على قدم يخدمون إشارتها في كل مقترح.
كانت عيناها الزرقاوان لا تنفتحان إلا على نعيم الملك وعز السلطان، وما بينهما من صنوف السعادات وأنواع الملاهي واللذات.
فإذا لبست للإمارة حلتها، وأخذت تجاه المرآة زينتها، وافى الشعراء حضرتها، وإذا على لسان كل واحد منهم مرآة تنظر فيها الأميرة إلى محاسنها كيف كملت، وإلى آدابها كيف جملت، وإلى نسبها كيف شرف وارتفع، وإلى ملكها كيف عظم واتسع.
فإذا أتم الشعراء كلمات المدح والثناء أقبل العازفون وأهل الغناء فأجزلوا لها من الطرب، وكالوا لها من كل لحن عجب.
فإذا خرج هؤلاء دخل الأمراء والوزراء والكبراء والعلماء والحكماء، هذا يسجد وهذا ينحني، وهذا يقبل اليد ثم ينثني، وهذا يضحكها بنادرة يرويها وهذا يهز أعطافها بحكمة يلقيها، والكل بين المهابة فيها والإعجاب، يبالغون لعروس اليونان في الخطاب.
ثم يؤتى إليها مِن أقاصي المدينة بالتحف الغالية والهدايا الثمينة؛ برهانًا إثر برهان على ولاء رعيتها الصادقة الأمينة.
وبالجملة، كانت لادياس في كل صبح هي العناية في ملك، والشمس الورود في فلك، ظل للرعية وعصمة، وسلام فيهم ورحمة، تمنح إذا الدنيا منعت، وترفع إذا الأيام وضعت، ولا تستشفع إلا شفعت.
إذا عرفت هذا شق عليك أن تعلم أن عروس اليونان؛ أصبحت في غد تلك الليلة النحيسة، لا تحكيها في شقائها وبؤسها وبلائها جاريةٌ في مملكة ساموس، بل في ممالك الأرض جمعاء؛ أصبحت في ظلمات تلك الصخرة الهائلة وِسَادُها الحجر بعد الخز، ورداؤها الذل بعد العز.
ونكد الدنيا يتمثل لها في صورة ابن عمها وهو قائم عند رأسها يقول: انظري أين أصبحت يا لادياس.
قالت: في أسر شيطانك يا باغي وما أسرت إلا الجسم، ولن تملكه حتى تصير للدود، فلا تطمع مني بحب ولا قبول، ولا ظفر بمأمول.
بل اقتلني؛ فهو خير لك من طلب المحال، وأهون لي من عذابي بنحس وجهك المستمر.
قال: أما أني أقتلك أو أدعك تقتلين نفسك؛ فأمر لا يكون، وأما أني لا أنال ذاك المرام، فهذا يا لادياس كلامٌ في كلام، فإن لم يكن لي أن أطمع، فإن لي أن أغصب الإرادة كما غصبت المريد.
قالت: إن للفضيلة والطهارة آلهة بهم اليوم اعتصامي، فإن لم يغنوا فإن غدًا بهم انتقامي. والآن أطلب منك يا بيروس الراحة الصغرى بعد ما بخلت عليَّ بالراحة الكبرى.
قال: مري يا ابنة العم.
فشق على الأميرة قبول هذه القرابة، وازدادت غضبًا على غضب.
فقالت: إنني أحرمك يا بيروس أن تدعوني بيا بنة العم؛ فقد أخرجك الملك من قرابته. ولا يليق ببنت الملك أن تكون أول مخالف لإرادته.
قال وتبسم: ولكني أنا الملك هنا، وأنت لي كل الرعية يا لادياس، ومع ذلك فإني عبدكِ أسألكِ ماذا تأمرين.
قالت: لقد بخلت عليَّ بالقتل، فلا أظنك تبخل عليَّ بتركي وحدي، لعلي أجد بعض الراحة في الوحدة.
قال: ذلك إليك.
وكان حب الفتى لبنت عمه يداني الجنون، وهي بالعكس تبغض ابن عمها بغض الموت، فلم يثنه ما رأى منها وما سمع عن رجاء انقيادها، والوصول يومًا إلى اجتذاب فؤادها. وهكذا كبير الغرام كبير المرام، فتركها وشأنها وما تبتغي من الخلوة؛ ظنًّا منه أن ذلك منها نفار ويزول، وصدود عنه ستحول، فنحن نتركه الآن يقضي الأيام في الأماني والأحلام. ويروم من عروس اليونان ما لا يرام.