في طلب الأميرة
كان في جملة الأجانب الذين ذهبوا تحت كل كوكب، في طلب الأميرة يفتشون عن مكانها، ويعللون النفس بوجدانها، شقيق ملك العجم، وقد تقدم لنا القول بأنه خاب في الامتحان، فكان نصيبه مما أمل نصيب سائر الأقران.
وكان فتًى جميلًا جريئًا، كما تحب المعالي وتهوى العظائم، فحين قال الملك للقوم ما قال، وكان الأمير معهم يسمع ويرى، شجعتْه رؤيةُ الأب الحزين وجزع على ذلك الكنز، فخرج مسرعًا، فطلب من أحد الخدم أن يجمعه برئيس الركائب الملوكية، فجاءه الخادم به فنزع الأمير خاتمًا من الياقوت كان في إصبعه وناوله الرجل قائلًا: هذا الخاتم أيها الرئيس من أنفس ما حمل الملوك والسلاطين، وأنا أودعه لديك على شريطة أن تذهب بي الساعة إلى المرابط العامرة، لأختار من خيل الملك جوادًا أركبه، فإذا أنا عدت سالمًا رددت إليك الجواد ولم آخذ الخاتم، وإذا عاجلني حيني في سفري وهلك الجواد لهلاكي، كان لك التصرف في الوديعة لذلك، فتبيعها وتشتري من ثمنها ما شئت من بدل لأمانتك.
فأخذ الرجل الخاتم وتأمله، فإذا به يسوي دواب الملك جمعاء، فالتفت ينظر هل من مطلع عليهما، ثم أشار للأمير أن يتبعه فتبعه وسارا تحت ستار الظلماء حتى وصلا الإصطبل العامر، وهنالك فتحت له الحجر واحدة واحدة، وإذا في إحداها ثلاث أفراس من أكرم ما اتخذ الملوك للرباط، أحدها فارسي والثاني أشوري والثالث مصري، فأراد الأمير أن يختار فقال له الرئيس: لو أخذت المصري يا مولاي كان ذلك أخف بليةً وأدنى إلى السلامة، قال: ولم؟
قال: لأنه للأميرة خاصة، وما دامت غائبة كما تعلم، فالملك لا يسأل عنه فرارًا من ذكراها برؤيته، قال: وأنا قد تفاءلتُ فلا آخذُ إلا هذا المصري، لعل الأميرة أن تعود عليه، قال: هو لك يا مولاي، ثم قرب منه مربط الجواد وهو يحكمه إسراجًا وإلجامًا حتى تهيأ للركوب، فركب الأمير وسار، يريد أن يسبق إلى لادياس النهار، فما زال يصل السرى في ليل غاب نجمه، وكثف غيمه، حتى طلع الصبح عليه وهو خارج المدينة، في أماكن صخرة يستعصي على أرجُل الخيل دوسها فيها من غير خطر.
وكانت المدينة لم تغب بعد عن ناظر الأمير الغريب، وإن هو بعد عنها مسيرة ساعتين على الجواد، فحين رأى أنه يسلك طريقًا ليس بالمأمون، وأنه قطع كل تلك المسافة ولم يمرر بغياض الحدبة، مع علمه أنها لا تبعد كل هذا البُعد عن البلد، خشي أن يذهب سعيه سُدًى، فثنى عنان فرسه يريد أن يتخذ له طريقًا غير الذي هو فيه، فالتفت فوجد وراءه رجلًا سوقة لا يرى له شأن، وإن بدت مخايل الشجاعة عليه، فعجل الرجل إليه يقول: لعلك ضال أيها البطل، فإنما تسير على الدرب الأصفر وهو مملوء من المخاوف والأخطار، فقل لي إلى أين تريد الذهاب؟ وأنا أدلك على الطريق، قال: بل بغيتي هذا الدرب الأصفر، قال: إذن فأنت من العصابة. قال: نعم.
قال: ولكن هذي أولى مرة أراك، قال: وأنا أيضًا لم أرك إلا اليوم، فلعل أحدنا قد دخل حديثًا في العصابة، والآن قل لي ما مخاوف هذا الطريق؟ قال: ليس فيه مخاوف، وإنما حسبت أنك أجنبي عنا، فأردت أن أوهمك كما وهمنا على الناس من قبل، فلم يعد أحدٌ يستطيعُ المسير على الدرب الأصفر، قال: وما وقوفُك الآن هنا؟ قال: ألم ترني كدت أرجعك من حيث جئت لولا أني علمت أنك من رجالنا. قال: إذن فأنا أشكر لك سعيك، وأعدك ثناءً جميلًا حال التقائي بالإخوان.
ثم إن الأمير اندفع يسيرُ وهو يحمد تلك المصادفة الحسنة. وعلى الخُصوص قوله للرجل في ابتداء المحادثة «بل بغيتي هذا الدرب الأصفر.» إذ لو لم يلهم هذا الجواب ما علم بوجود تلك العصابة، التي لا يبعد أن يكون لها شأنٌ في الحادثة عظيم، وكان قد عرف من كلام الرجل وإشاراته أين يبتدئ الدب الأصفر، فأطلق لجواده العنانَ فيه، حتى احتجب بين صخوره وفيافيه.