ساكن الصخرة
ما زال بيروس منذ وقعت الأميرة في أسره يلين لها وتخاشن، ويشرح هواه كما يشرح المظلوم شكواه، أو السائل فقرَه وبلواه، وهي عنه في صمم لا ترثي لحاله، ولا تلقي بالًا لأقواله، حتى انتهى الرجلُ إلى اليأس، فانقلب العاشقُ فصار أحقد حاقد، واستحال الغرامُ إلى عداوة وانتقام، فعقد بيروس العزم على الفتك ببنت عمه قبل أن تهتدي حكومة الملك له ولجماعته، فترجع لادياس إلى العز القديم، وعندئذٍ يعطاها من تشاء وتختار، ولا يعطى هو إلا عاجل الدمار.
وكان هناك عاملان مهمان، يستحثان في الفتى نية العدوان، جنون اليائس وخصوصًا إن كان أهل العشق كما هي حال بيروس، ووجود تلك الفتاة الخائنة هيلانه أكبر قرينات الأميرة، وجملة الخبر عنها إلى الآن أنها كانت الشيطان السائق للادياس إلى الشرك المنصوب، من أجل ثأر لها عند بنت الملك، وهذا الثأر لا يتعدى شخص بيروس، فإن هيلانة كانت تحب هذا الشقي لا تكتمه حبها إياه، وذلك قبل أن ينزل عليه سخط الملك، فلما غضب بوليقراط على ابن أخيه وأخذ ماله وجرده عن ألقابه، فر من العاصمة واختفى تاركًا هيلانة على العهد، تزداد وجدًا على وجد، فما لبثت أن استعملت كل حول وحيلة، لمواصلة عشيقها في الخفاء.
أما بيروس فكان من الغرام ببنت عمه؛ بحيث لا يمكنُهُ أن يملك هيلانة فؤاده، بعد ما وقف على لادياس وقفًا لا شرط فيه، ولا حاكم غير الهوى ينفيه.
إلا أن الفتى لم يكن يبغض التي تحبه، كما أنه لم ير من الحكمة أن يأبى على هيلانة جمائلها وخدماتها المستقبلة، وهي أعظم القرينات منزلةً في القصر، ولا سيما في فؤاد الأميرة، فبقاء المواصلة ولو سرية بينها وبينه في منفاه؛ أمرٌ فيه نفعٌ وليس فيه ضرر، وبالاقتصار فإن بيروس خدع هيلانة حتى نال بغيته، بحسن مهارتها، وجميل سفارتها.
حتى إذا مضت الأيام على وقوع لادياس في قبضة عدويها، بدون أن ينجح بيروس فيما حاول من استمالتها إليه، وجدت هيلانه مجال العمل ذا سعة، فعملت بكل دهائها ومكرها حتى أخرجت لادياس من قلبه بسحرها ودخلت هي ظافرة الغرام، تتخذ ذلك القلب آلة للانتقام.
فلما كان صبح اليوم الذي دهم الأشقياء فيه ما دهمهم، انتبه بيروس من منامه وقد صمم أن يقتص من بنت عمه أشنع قصاص، فجمع أصحابه وقال لهم: أيها الأصحاب إني خارجٌ اليوم في بعض الشئون؛ فإذا طلع القمر ولم أعد فادخلوا على لادياس، فخذوا أنسكم منها بقوة أحدكم فيريق دمها الأثيم. قالوا: سمعًا وطاعة، ثم خرج بيروس وسار، تاركًا الفتاة على أعظم الأخطار، وهي تستجير بهيلانة فلا تجار، وتود لو وجدت سبيلًا إلى الانتحار، فرارًا من هول ذلك العار.
ثم ما كان مما ذكرناه، ولم يبق في الصخرة سوى كلكاس وهيلانة، وقد أبى أن ينزل إلى حماس بل تركه غضبان حائرًا يصول كل مصال، ويطلب الطعن وحده والنزال، وانثنى إلى داخل الصخرة فقص على هيلانة الخبر، فأشفقت واضطربت وأوجست خيفة من سوء العقبى، وكان الليل قد أقبل أو كاد، فشرعت الخائنة تطلب من كلكاس بإلحاح أن يفعل ما أمره به بيروس، وأن ينوب عن سائر إخوانه في إمضاء إشارة الرئيس، وهو يتثاقل عن تلبية دعوتها السابقة الأوان، ويخبرها أنه ما دام القمر لم يطلع فإن يديه مغلولتان، ويدخل معها في أبحاث فلكية ما أنزل الله بها من سلطان، وكان القمر حقيقة قد طلع وبدا نوره والتمع؛ فحينئذٍ عيل صبر الفتاة فطفقت تتهدد كلكاس وتوعده، وتمثل له غضب بيروس وانتقامه في أفظع الصور، حتى تملكه الخوف فاستل خنجرَه، ودخل على بنت الملك حجرتها وهو لا يكاد يمسك قدميه، أو تمسكه قدماه إشفاقًا من هول ما هو قادم عليه؛ لأن الرجل كان رحيم القلب سليم النية بقدر ما كان جريئًا مهذارًا، إلا أن هيلانه كانت خلفه تدفعه إلى الجريمة كأنها شيطان القاتل المسلط عليه، حتى صار أمام لادياس وكانت الفتاة قد سمعتْ الحديث، كما جرى بين بيروس وأصحابه في أول النهار، وبين كلكاس وهيلانه في آخره، فحين دهاها الرجل لم يزدها بقصده علمًا؛ بل ألفاها بهيئة قيام، وفي خشوع تام، لآلهتها وتسألهم حسن الختام.