حماس في الصخرة
كان حماس قد قضى بقية النهار بأسفل الصخرة لم يبرحها لحظة واحدة، حتى إذا جاء الليل توارى خلف حجر يعصمه من بغتات العدو في الظلام، ثم أقام يرقب فلم تمض ساعتان من الليل حتى طلع القمر يرسل أشعته على الصخور فتضيئها من كل جانب، فاستبشر الفتى لهذا الملاك الهادي والزائر المؤنس، ثم بدت منه التفاتة، فإذا هو بظل يقبل من بُعد وكأنما يطير طيرانًا من سرعة السير، فازداد حماس أنسًا على أنسه، وهنأ النفس على حفيد جديد، ولكنه دخل في الحجر كل الدخول؛ بحيث صار منه بالمخبأ الأمين.
وما هي إلا دقائق قليلة، حتى تجسد ذلك الظل فصار إنسانًا طويلًا عريضًا يتقدم نحو الصخرة وثبًا، كأنه الليث النافر وهي عرينه، ثم إذا هو بأسفلها وقد صفر صفيرًا دوى له الفضاء، فأخرج حماس عندئذٍ رأسه وخالس الرجل نظرة، فرأى له هيئة أصحابه الذين عرفهم في أول النهار، فهَمَّ بالخروج إليه ليلحقه بهم ولكنه رأى سلم حبل يدلى به من أعلى الصخرة ليصعد الرجل عليه، فخشي إذا هو تحرك أن يتنبه من في الصخرة فيرفع الحبل بعد ما أرسله، فأمهل حماس غريمه ريثما نزل الحبل تمامًا، ثم خرج إليه وهو لا يشعر به، كما يخرج الذئب إلى الشاة، وكان الرجل قد تعلق بالحبل أو كاد فتعلق حماس معه، وقد أمسك الحبل بيد وغرس بالأخرى خنجره المسلول في أم فؤاد اللص، فنزل يهوى جثة لا حراك بها، واستمر حماس صاعدًا حتى بلغ مدخل الصخرة، وهناك استقبله كلكاس وهو يحسب أنه بيروس صاحب الإشارة، وحامل الصفارة، فانتصب حماس أمامه كأنه عزرائيل قد أتى بلا ميعاد، ثم قال له بصوت أنكر من صوت الرعد: من الرجل وما شأنك؟
فأخذ كلكاس الذعر شر مأخذ، فوقف يتلعثم بكلمات متقطعة، وأسنانه يدق بعضها بعضًا من الرعدة وهو يقول: عفوًا أيها الملك، إن الأميرة بخير.
– لا تؤذني أيها الشيطان.
– لعلك عفريت بيروس!
– سامحني يا سيدي حماس.
إلى غير ذلك من لغة الذهول حتى أضحك الفتى حاله، فتركه وتقدم في جوف الصخرة، فوجد بها حجرة فيها قليل نور فدخلها، وإذا هو بمنظر هائل؛ إذ رأى فتاتين إحداهما قتيلة لم تجف دماؤها بعد، والأخرى قائمة عند رأسها وفي يدها خنجر تقطر صفحتاه من دماء تلك الفتاة، فصرخ حماس بها يقول: من أنت أيتها الشريرة وما هذا المشهد الفظيع؟
فألقت الفتاة سلاحها وقالت: حلمك أيها الرجل، فليست الشريرة إلا طريدة الحياة هذه (وأشارت للفتاة القتيلة)، وأنا إنما قتلتها مدافعة عن عرضي وحياتي، قال: وما حديثكما؟ قالت: أنا بنت بعض الناس وقد وقعت في أسر عصابة من الأشقياء يرأسها طريد المملكة بيروس، ثم إنها حدثت حماس أخبارها، من يوم وقعت في قبضة العصابة إلى الساعة التي هي فيها، ثم قالت: وأعلم أيها البطل أنه لولا بعض رحمة في قلب الرجل الذي مد لك الحبل، لكنت الآن مكان هذه الآثمة الظالمة، وكانت مكاني أنا البريئة المظلومة، فإنها ما زالت تدفعه إلى الجريمة دفع الأبالسة الناس إلى الشر، حتى دخل عليَّ ليقتلني كما هي إشارة بيروس، فجاءني كسلان متراخيًا كأنما يريد أن يمهلني ما استطاع إمهالي، وفي هذه الأثناء سمع صفيرَ الصفارة فخطفت هذه الشقية الخنجر من يد الرجل، وخرج هو ليدلي الحبال كما هي العادة، فكان من حسن حظي أن الخنجر سقط من يد كلكاس وهي تحاول أخذه منه، فوثبت فسبقتها إلى موضعه من الأرض، ثم حملت عليها وطعنتها به الطعنة القاضية، وإذ كنت قد سمعت طرفًا من جدالك في هذا النهار مع كلكاس، مما جعلني أطمئن بعض الشيء، فقد وقفت وقفتي التي رأيتني عليها الخنجر بيدي، وأنا مستجمعة لأقتل بيروس فإن لم أتمكن فنفسي.
وكانت الفتاة تتكلم ولباس الجرم ينحل عن جسمها الطاهر، كما تماط الستور عن تمثال بديع فاخر.
فما استتمت حتى رفع حماس عينيه فأبصر، ولم يكن رأى من قبل شيئًا فإذا هو بملك يبرئ نفسه وهو البراءة متجسمة، ويتكلم ولو سكت لكان الطهارة متكلمة.
وكانت لادياس قد وصفت من قبل لحماس، فحين تأملها عرفها بتلك الأوصاف، وسبقت فراسته لسانها إلى الاعتراف، فدنا منها وهو يقول بأعذب هتاف:
فلما سمعت الأميرة هذا الكلام، وكان قد دخلها من الفتى ما داخل الفتى منها؛ أقبلت نحوه صامتة وعيناها تتكلمان، فنظرت إليه نظرةً لا يقوى على مثلها جنان، ولئن أطاقها فؤاده فلأنه من حديد أو صوان.
ثم قالت مجيبةً بأعذب بيان:
قال: وهل تعرفين اسمي يا منية حماس؟ قالت: عرفته منذ النهار؛ إذ أنت تحت الصخرة تنشد نشيدك تدعو كلكاس للنزول، قال: لقد ذكرتنيه فأين هو؟ قالت لا ينل كلكاس منك أذًى؛ فإنه بالكرامة أَحَقُّ يا مولاي، ثم إنهما برحا الحجرة ففتشا عن كلكاس، فلم يجدا له أثرًا في الصخرة، وكان الحبل مدلًّى لا يزال، فعلما أنه نزل وفر على عجل، فالتفت حماس عندئذٍ إلى الأميرة، وقال: لم يبق إلا أن نحذو حذوه فننزل نحن أيضًا، قالت: الأمر لبطل الصخرة الملساء.
فمسك حماس الحبل بيُمناه وجعل اليسرى سند لادياس، ثم نزل متئدًا محترسًا، كمن ينزل بحمل من زجاج، حتى مس الأرض، فاستقر به وبالأميرة النزول، وأول ما نقلت لادياس القدم تعثرتْ في جسم اللين والصلب، فذعرت لأول وهلة وارتدَّتْ مجفلة، فدعاها حماس لتطمئنَّ قلبًا، وأعلمها أن تلك جثة شقي من الأشقياء، فدنتْ حينئذٍ منها وتأملتْها فعرفت القتيل، فرفعت عينها نحو السماء مبتهلة للعناية، ثم قالت ما معناه:
فسألها حماس: ومن هذا الباغي يا مولاتي؟ قالت: هذا بيروس ابن عمي ومختطفي ورئيس العصابة الهالكة، قال: إذن فقد قطع رأس الأفعى، وأصبح الطريق مأمونًا من هذا الصخر إلى القصر.
وكانت لبيروس ذؤابةٌ يعتني بها، ويُبالغ في تسريحها وتطبيبها، بقدر ما بلغت الخلقة في تذهيبها، فأعجب حماس بها، وأراد أن يتخذها علامةً على ما جرى له في ذلك اليوم مع الأشقياء، وذكرى لوقائع الصخرة الملساء، فاستأذن الأميرة في ذلك فأذنتْ له، فاستأصل الذؤابةَ من جُذُورها ثم تمنطق بها فكفت ووَفَّتْ.
والتفت بعد ذلك إلى لادياس، فقال لها: الآن اجعليني أيتها الأميرة زمامك، وثبتي أقدامك، ولا تُبصري إلا قدامك، فإن ذلك أمضي سلاح يتقلده الإنسان، في مكان مخوف مثل هذا المكان. قالت: سمعًا وطاعة. ثم مشى البطل المصري ومشت أميرة ساموس بجنبه كأنها ظله المديد، أو رمحه السديد وهو يتوجه بها؛ حيث وصف له ذلك الصياد، وينظر في سهل الطرق ويرتاد، فيهبط الأغوار ويعلو الأنجاد، وتسلمه الهضاب إلى الوهاد، حتى أقامه السرى في طريق مستوية منبسطة يُشرف عليها الصخر من الجانبين فكأنها مضيق بين جبلين.
وكان قد ذهب من الليل ثلثاه والقمر لا يزال ملتمع الضياع، وهاج السراج في الأرض والسماء، فمال بالأميرة السرى، ومالت إلى الكرى، فاشتهتْ من حماس لو سامحها في الاضطجاع ولو هنيهة من الزمن، فلم ير من بأس في تلبية هذا المقترح، وفتش للحين عن جانب من الأرض يصلح لضم ذلك الجسم الناعم، فلما وجده عرضه عليها، فاضطجعت واضطجع هو أيضًا دون قدميها، فأخذهما كليهما النوم فناما مثقلين بالمتاعب، ثملين من كأس السرى الناصب.
فحين تملك حماسًا المنام، وسرت روحه من دنيا الأوهام إلى عالم الأحلام، رأى في نومه كأن الشعب في سيبس (عاصمة مصر يومئذ) يلبسه تاج البلاد ويجلسه على عرشها، ثم كأن الأمة بأسرها موكب له يسير فيه إلى الهيكل الأعظم، ثم كأنه دخل الهيكل فمثل سدة الآلهة فحمدهم وأثنى عليهم، ثم هَمَّ بأداء يمين الطاعة والأمانة لهم، فسمع عندئذٍ من وراء الحجاب صوتًا يقول «ليس للملك يمين، وعند اللوح الخبر اليقين.» فتذكر حماس على الفور أقسامه ووعوده للوح، فانتبه من نومه مبغوتًا مذعورًا، فنظر إلى لادياس فإذا هي لا تزال في أسر النعاس، فحدثتْه نفسه المضطربة أن يرجع إلى حيث ترك اللوح، فيأتي به قبل أن تهب الأميرة من رقادها، فنظر إليها نظرة معتذر خجل، ثم تركها في حفظ الآلهة وانطلق يعدو في طلب اللوح، فلو رأيته حسبته يقظان وهو نائم لم يستفق بعد من النوم، وإنما تلك حالٌ كانتْ تعاودُهُ في منامه، فيبلغ إلى مثل هذا الحد في أحلامه.