لاهوتية القرآن
عيان الله لدى محمد – تجلِّي القدرة الإلهية – المعجزة القرآنية – ذات الله وصفاته – مشكلة القدَر وعلم الله – جبرية القرآن – نظرية الوحي والملائكة.
***
وأولُ ما قام عليه عيانُ الله لدى محمد هو عيانُ الإله الواحد القادر، وأول ما لازم النبيَّ منذ عُزلتِه في غار حراء هو مبدأ الوحدانية الإلهية، خِلافًا لمعتقدات العرب المشركين. وأما مبدأ القدرة الإلهية، فقد تَقَدَّمَ في نفسه بنسبة تَجَلِّي مقاومة العرب الجاحدين، ثم تسليمهم.
والنصوصُ الخاصةُ بالقدرة الإلهية كثيرةٌ إلى الغاية في القرآن، وهي أكثر تفصيلًا مما هو خاص بالوحدانية، وتكاد كلها تكُون ذاتَ معنًى دفاعيٍّ. وإلهُ المسلمين كإله اليهود، يُثْبَت بقدرته، وتُرَى قدرته نفسها.
وتتجلَّى القدرة الإلهية على ثلاثة أوجه؛ أي في الطبيعة والتاريخ العامِّ والمعجزة الحاضرة، وأوجه التجلِّي الثلاثة هذه تَوْرائية.
وأما الإثبات بالمعجزة، فقد ادَّعى محمد أنه يأتي به، ومع ذلك فقد طُلب منه ذلك، بَيْدَ أن من المعلوم أنه — وهو خالٍ من موهبة الخوارق — حاول أن يجعل القرآن في نظر الناس معجزةً. ومن الطريف أن يلاحَظ أنه كان يشعُر بالأحوال التي لا بُدَّ منها لجعل الإثبات بالمعجزة مؤثِّرًا، وذلك بمطالبته من يشاهدونها باستعدادٍ قلبيٍّ: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٦: ١٠٩-١١٠).
وفي القرآن يظهر أن عِلم الله شرطٌ لقدرته وأحد وجوهها تقريبًا، ولا مِراءَ في أن القرآن لا يشتمل على نظريةٍ للعِلم لَدَى الإنسان ولا عند الله، وإنما وُكِّد علم الله في القرآن، ونُصَّ فيه على أنه مطْلقٌ كقدرته: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦: ٥٩). ويساور أتقياءَ المسلمين — دائمًا — رأيٌ قائل بأنه لا ينبغي للإنسان أن يحاول الخوضَ كثيرًا في أسرار الله، وهم — كمؤلِّف «التقليد» — يكادون يَعُدُّون الفضولَ العلميَّ تدنيسًا للقُدسيَّات.
وليست ذاتُ الله وحياتُه موضعًا لبحثٍ مُنَظَّمٍ أكثرَ من صفاته لدى محمد؛ فهو لم يقل عنهما غير ما هو عِيَاني، وإنما يؤكِّد بجلاءٍ رُوحانيةَ الله التي يُبصِرها في صلته بوحدانيته وقدرته وعلمه وجلاله. وعنده أن الله لا يمكن أن يُدرَك، وهو يُدرِكُ كلَّ شيء، وأنه ليس ذا عاهةِ بَدَنٍ، وأنه يعلو الإنسانَ وكلَّ شيء بطبيعته، وأنه من العلو فوق العالم ما يتعذَّر معه حتى النظرُ إليه، وليس هنالك غيرُ مثال موسَّعٍ لعاهل شرقي، غيرَ صورةٍ معظَّمة لملكة سبأ، التي تستقبل من وراء حجاب مليكَ الجُزُر القاصية، الذي تنحني الرِّقابُ في طريقه، وتُغْلَق النوافذ.
وترتبط في مبدأ جَلَال الله مسألةٌ كانت موضعَ جَدَلٍ في علم الكلام الإسلامي، كما اشتهر أمرها في السِّكُلَاسِيَّةِ النصرانية، وهي رؤية الله في الحياة الآخرة. ومما يجدُر ذكرُه ما يظهر في القرآن من صعوبة كبيرة في نيل هذه الرؤية، وهي قد وقع تقديرها في السُّوَر التي تشتمل على أقاصيص تورائية، ومن ذلك أن الله نادى آدم من غير أن يُظهِر نفسَه، وأن نوحًا — الذي نجا من الطوفان وحدَه — لم يَرَ الله، وأن إبراهيم — الذي يُدعى خليلَ الله — لم يستقبل غيرَ ملائكته، وأن موسى طلب أن يرى الله، فلم يكد يلمَحُه حتى خَرَّ مغشيًّا عليه، فلما أفاق تاب إليه، وأن خاتم الأنبياء محمدًا لم يَرَ غير رُوحِ القُدُس؛ المَلَك العظيم جبرائيلَ.
وفي وصف القرآن للجنة أنَّ الأخيارَ يتمتَّعون برؤية المنازل الجميلة والرِّياض ومختلف النفوس من ذكور وإناث، ولكن من غير قَوْلٍ بأنهم يتمتَّعون برؤية الله. وفي يوم الفصل يُؤتَى بالناس أمام الله، من غير أن يُعلم من النص كيف يَكُون هذا المُثُول، وكيف يُدرَك.
وقِدَمُ الله مما وكَّده القرآن، وذلك من غير إصرارٍ خاصٍّ. وفضلًا عن ذلك، فإن هذا المبدأ لم يُحلَّلْ، ولم يُعنَ محمد بالبحث عما يُمكن أن يكُونه وجودُ الله خارجَ العالم وخارجَ الزمان.
ولم يُحدَّدْ مبدأ الخلق تمامًا. ونصُّ القرآن — كنصِّ التوراة — لم يُناقض وجود خَوَاءٍ يُطبَّق الخلقُ عليه ويكون أصلُه غيرَ محدود، ولم يرضَ محمد عن فكرة لا نهائية الزمان، ونكاد نَحَارُ من إبهام كلامه حول أبدية الثواب والعِقاب: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١١: ١٠٨–١١٠). وقد عُيِّنَتْ فكرة الأبدية بعد زمن من قِبَل علماء الكلام بتأثير الفلسفة، وأنت ترى نقص معالجةِ محمد لها، ولمَّا تَزَلْ تربيته حول هذه النقطة غيرَ تَوْرائية.
وعدم تغيُّر الله ملازمٌ لعلمه وقِدَمه، بَيْدَ أن محمدًا يتمثَّل الله غير متغير، مثلَ مدبِّرٍ للعالم على الخصوص: سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (٤٨: ٢٣). والمقصود هنا هو عدم التغير التاريخيُّ والأدبي. ولم يُبالِ النبي بعدم التغير اللاهوتي، وهو لم يُفكِّر قَطُّ في كيفية إمكانِ الله أن يكون فعَّالًا مع بقائه غيرَ متغيِّر.
وبما أن محمدًا كان يتمثَّل الله على وجهٍ أقلَّ لاهوتيةً من تمثُّله إياه أدبيًّا، فإنه كان يكترث لصلاتِه بالإنسان، وقد عبَّر بجلاءٍ عن مبدأ العناية الإلهية، فوضع مُعضِلَةَ القَدَر الهائلةَ غير خاليةٍ من الجفاء.
ويشمل علم الله وحكمتُه وقدرتُه المستقبلَ. وتهدف أعمال الله إلى غايةٍ؛ فلمجموع الخلق غَرَض عُرِض — فقط — بالكلمة القائلة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥١: ٥٦). وإلى هذا أضف أن كلَّ جُزْئِيٍّ في الطبيعة قد صُنع من أجل المجموع، وهو حسَنٌ نظرًا إلى غايته. وهذه نظرية في التفاؤل مشتقة — بلا جهد — من مبدأ كَوْنِ الله قادرًا عالمًا لطيفًا: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (١٥: ١٩–٢١).
غير أن محمدًا قد حُفِزَ بعبقريته الخاصة وبالكفاح إلى الاتِّكاء على مبدأ مجانبٍ — من بعض الوجوه — لمبدأ العناية الإلهية؛ أي على مبدأ القَدَر، وهو قد أصَرَّ عليه بعزم قويٍّ شديد. ومع ذلك، فإننا إذا ما أَجَلْنَا البصر بروحٍ هادئ — ومن غير ابْتِسَار — في آي القرآن الخاصة بالقَدَر وَجَدْنَا أنها ليست جبريةً محضًا، كما يعتقد كثير من الناس؛ فهي — مع كونها هائلةً — ليست مخالفةً لكلِّ عدلٍ مطلقًا.
وإليك الفكرةَ التي تشتمل عليها كما أرى: إن الله يعلم كل شيء مقدَّمًا؛ ومن ثَمَّ يعلم السيئات والعقابَ عليها، كما يَعْلَم الحسناتِ والثوابَ عليها، فكلُّ شيء مسطورٌ في كتاب محفوظ في السماء، وهنا لا نُبالي كثيرًا في أن لهذا الكتاب وجودًا خفيًّا، أو في أنه ليس غيرَ رمزٍ لعلم الله بالغَيْب، فهو — على كل حال — يَعدِل من الناحية الفلسفية توكيدًا لعلم الغيب، ولكن توكيد علم الغيب ليس إنكارًا للاختيار أيضًا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا (٥٧: ٢٢).
وهذا لا يعني أن هذه المصائب تَحِلُّ ظُلمًا إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (٣٦: ١١). وهذا لا يدل على أن أفعال الناس مُقدَّرةٌ، وهذه إشارة إلى كتابين: كتاب علم الغيب، أو المِثال، أو الرسم، لحياة الدنيا؛ أي ضرب من الموازنة، وكتابِ العلم الحاضر المسطورةِ فيه أعمال الناس على مقدار ما يأتونها، والذي سيفتح يوم الفصل، وهذا كتاب حساب، ولا يُزيل الاختيار أيٌّ من هذين الكتابين أيضًا.
ولكن إليك ما هو أكثر تخويفًا؛ قال الله: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٣٢: ١٢). وقُل مثل هذا عن الكلمة الموَكَّدَة الآتية، التي كُرِّرت غير مرة: فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (٣٥: ٩). فإذا ما نظرنا إلى هذين القولين على انفراد لاحَ لنا أنهما يدلَّان على أن الله يريد — أوَّلَ وهلة — أن يُهلِك فريقًا من الناس، وأنه لا مناص من هذا الهلاك. بيدَ أن قراءة الآيات الأخرى تدلُّ بوضوح على أن هذه ليست فكرة محمد؛ فقد قال الله في سورة أخرى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (٧: ١٧٨)، وقال أيضًا: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ (١٤: ٢٧).
أجل، إن هاتين الآيتين موازيتان للسابقتين، غير أنهما تنطويان على تكملة، وهذا الفرق الدقيق مهم؛ وذلك أن مَن خلقهم الله لجهنم ليسوا من أي أناس كانوا؛ أي ممن اختِيروا اختيارًا مراديًّا، بل هم أولئك الذين يأبون أن يستمعوا إلى رسالة النبي، وأن مَن يُضلُّهم ليسوا من أيِّ أناس كانوا، بل هم الأشرار، والأبرار هم الذين يهديهم اللهُ على هذا النحو؛ ولذا، فإن من الواضح من هذه الآيات وحدها أن الضلال وجهنم ليسا سوى عقابٍ ناشئٍ عن ذنبٍ سابق اقتُرِف اختيارًا لا رَيْبَ.
وآي القرآن الأخرى التي تناسب عينَ المسألة كثيرةٌ، وهي تؤيِّد هذا الوجه من الرأي، ونعتقد أن هذا أصليٌّ، ويبدو لنا أن هذا التفسير — الذي أُدرِكَ إدراكًا ناقصًا حتى الآن — شديدُ الصلاح لسدِّ باب النزاع الطويل حولَ جَبَرية القرآن؛ فالقرآن ليس جَبَريًّا، ولم يَرِدْ فيه أن الله يُقدِّر الشرَّ وهلاكَ أيِّ إنسان بَدَاهةً، والواقع أن المذهب — الذي أُريدَ إدراكه كما تقدَّم — يقوم على أن الله، بعد أول خطيئة — ولا سيما بعد الخطيئة الأولى حيال الإيمان — يُضل المجرمَ ويُعميه، ويُقَسِّيه مقدارًا فمقدارًا، فيسير نحو هلاكه مثلَ مُكْرَه، وإنما يَبْقَى الكفر الأول طليقًا، وليس هذا المذهب — من جهة أخرى — غيرَ تعبير عن مَلال النبيِّ من المقاومة الطويلة التي لاقتها رسالتُه، وذلك أن الذين كانوا يَسمَعونه عدة مرات، وكانوا شاهدين لجميع آياته، إذا لم يُذعنوا في آخر الأمر، عُدُّوا — بالحقيقة — أناسًا فَقَدُوا عقلهم بقوةٍ خارجية، أناسًا غَدَوْا أنعامًا صُمًّا عُميًا، على حسب تعبير محمد، هَدَفًا للعقاب الإلهي، فكانت جهنم تستحوذ على روحهم في أثناء حياتهم، فإذا ما طُعِنُوا على هذا الوجه فلأنهم أَبَوْا أن يؤمنوا في وقتٍ كانوا فيه أحرارًا في اختيارهم، مالكين لعقلهم.
وأصْرَح الآيات في هذا المعنى هي: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٢: ١٧). وهذه الآية الأخرى التي كنا قد استشهدنا بها، وهي: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
ومن المفيد أن يُضاف إلى هذا البيان عن لاهوتية محمد بضعُ كلمات خاصة بنظرية الوحي ونظرية الملائكة: وذلك بما أن إله القرآن صعبُ الاقتراب من الإنسان إلى الغاية، فإن الوحي جُعل ضروريًّا لهذا السبب: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (٤٢: ٥٠). وقد تلقَّت هذه الآية الجافية — فيما بعد — كثيرًا من مخالفة متصوفي الإسلام عمليًّا.
وقد تمثَّل محمدٌ أمرَ الوحي نفسه على وجهٍ مماثل للوجه الذي تمثَّل به إدارةَ العالَم؛ فالفكرة في ذلك تتصل بفكرة الإله القادر، والوحي هو رسالة من الله، ويوجد مثال للكتاب المُوحَى به، يوجد نوع من القرآن السماوي المحفوظ لدى الله، ويقرأ المَلَك في هذا الكتاب، ويأتي ليُبلِّغ النبيَّ ما قَرَأَ، وهذا جهاز بسيط جدًّا؛ أيْ خارجي تمامًا، فهنا نبتعد عن حماسة التنبؤ التورائي وهُيامه اللذين ضُيِّقَ مفهومهما وأُنْحِل.
وذهب محمد إلى التدرُّج النبوي؛ فقد قال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (١٣: ٣٩). ولا تتناقض هذه الكتب، وإنما يُوضِح بعضها بعضًا وتتكامل، وتكون هذه الفكرة الجميلة بنفسها — والتي هي على شيء من الفتون — ضارَّةً بالإسلام؛ فقد تناولها كثير من الفِرَق إضافةً إلى القرآن وحيًا جديدًا تحت ستار تفسيره، فكانت تُقوِّضه.
ويحفظ القرآن لعيسى لقب «كلمة الله»، بيْد أن هذه الكلمةَ عادة لا يكون لها أي معنًى معين في فكرة الوحي القرآنية.
ويجب أن تُذكَر نظرية الملائكة ليُذكَر — فقط — أنها لا تُسَلِّم بشيء لنظريات الفيوضات الأدرية، وكانت نفس محمد ثابتةً جدًّا حول النقطة الأساسية للوحدانية الإلهية، وهي لا تترك أيَّ مجال تُفاجَأُ به من هذه الناحية؛ فالملائكة الذين يقول بهم مع الجن مخلوقون منفصلون عن الله كانفصال الناس عنه، ولهم وظائفُ عند الله، ومنها أنهم يُدبِّرون حركات الطبيعة الكبيرة، وأنهم رسل بين الله والإنسان. وعَرَفَ محمد مبدأ الفَلَك، ولكنه لم يكن لديه حِسٌّ عن مبدأ إدراك الأفلاك إلا بالمقدار الذي كان ضروريًّا لتحريم عبادة الكواكب، وقد قال ببعض القوى السحرية التي حكم عليها من غير أن يبالي بإيضاحها.
ومجمل القول: أنه يمكن أن يُقضَى في أمر محمد — مثل فيلسوف — بأنه معتدل حكيم بصير عمليٌّ خُلُقي أكثرَ من أن يكون لاهوتيًّا بدرجات، وبأنه أبدَعَ لاهوتيةً عاليةً ثابتةً محاكيةً للاهوتيةِ التوراة، وقد نُزِّه بجمال شعوره عن كل تطرُّف ساق إليه متكلِّمون لاحقون، ولم تسمح أُمِّيَّتُه النسبية له بأن يتوقَّع أيًّا من المصاعب التي سوف يُثِيرُها البحث الفلسفي بعده.