تصوف ابن سينا
العناية الربانية – الله خير محض، فكيف يُتصور مصدر صدور الشر؟ – ليس الشر شرًّا إلا بالعرض – رسالة ابن سينا عن القدر – التفاؤل عند الشيخ الرئيس – كيف تتم السعادة؟ – بلوغ الأنفس كمالها بذاتها – قصة سلامان وأبسال – تفسير الطوسي لهذه القصة.
***
ذكرنا في أوائل هذا الكتاب أننا لا نتناول التصوف، عادِّين إياه منهاجًا مستقلًّا بنفسه، وما نقوله في هذا الفصل الأخير لا يعدو كونه متمًّا لما بعد الطبيعة. ومن المفيد أن يُرى كيف أن مفهوم ما بعد الطبيعة عن الله يتم في التصوف من بعض الوجوه، وكيف أن ابن سينا يَتَمَثَّل صلة الله بالإنسان في كبريات المسائل عن العناية الرَّبَّانية والقدر. وسوف نسمع في هذا الموضوع أن فيلسوفنا يعرض نظريةً عامةً عن التفاؤل عاليةً جدًّا، وسنرى أيضًا ما مكانُ الأخلاق في منهاجه، ما هذا المكان الذي تناولناه قليلًا في الفصول السابقة فيكاد يُفْلِت من قرائنا، والذي تَرَكَتْ جميعُ التفصيلات السابقة فَرَاغًا فيه يجب مَلْؤُه.
ولن نلاحظ في هذا التعريف العميق ملاحظةً خاصةً نوع ما أُقِيمَ من توحيدٍ بين علم الله وإرادته وقدرته ولطفه، ما دُمنا قد وَقَفْنَا عند حَدِّ وجهة النظر هذه في فصل الإلهيات، وإنما الآن — ونحن نَعُدُّ هذه الأسطر معبِّرةً عن نظرية التفاؤل، نَتَّخِذ هذا ذريعةً لسؤال ابن سينا قائلين: بما أن نظام الأمور يظهر له أحسنَ ما يكون فكيف يُدرِك دورَ الشر، وما الرأي الذي يجعل لنفسه عن القدر؟
«وجميع سبب الشر إنما يوجد فيما تحت فلك القمر»، ولا سلطان للشر على المعقولات، «والشر إنما يصيب أشخاصًا، وفي أوقات، والأنواع محفوظة.»
وقال ابن سينا: «فإن قال قائل: وقد كان جائزًا أن يُوجِد المدبِّرُ الأول خيرًا محضًا، مبرءًا عن الشر، فيقال: «هذا لم يكن جائزًا في مثل هذا النمط من الوجود، وإن كان جائزًا في الوجود المطلق.» وعند فيلسوفنا أن الخير المطلق غير ممكن في عالم يطبَّق عليه ما بعد الطبيعة المشائية؛ أي عالم القوة والفعل، وحيث توجد قوة يوجد إمكان عدم — أي شر — غير أن الخالق ما كان ليترك الخيرَ الكلي الذي هو خير بالذات، ولو لم يوجد إلا بالقوة، وذلك بسبب الشرور العَرَضية الممكنة التي توجد مختلطةً هناك، ويعود العالم الذي لا يَنْطَوي على إمكان الشر غير شبيهٍ بعالمنا، وإنما يَكون شيئًا آخر، ولا يُعرف ما يعزب عن خيالنا.
ويُضحِّي تفاؤل ابن سينا — مع كل سهولة — بضحايا الشرور الخاصة في سبيل الخير الكلي؛ أي ضحايا العوارض المؤقتة، حتى بضحايا الجحيم، ولا يكون الشَّرُّ الذي لا يقوم على العدم إلا نسبيًّا، وذلك على حسبه، وهو يكون خيرًا دائمًا في بعض المواضع، ولو تُوُخِّيَت الدقة لوُجد الشر في كل وقت خيرًا بمبدئه، فهو ليس شرًّا إلا بالعرض، «ولا نجد شيئًا مما يقال له شر بالأفعال إلا وهو كمال بنسبة الفاعل إليه، وإنما هو شر بالقياس إلى السبب القابل له، أو بالقياس إلى فاعل آخر يَمْنَع عن فعله في تلك المادة، التي أولى بها من هذا الفعل»، وهكذا فإنَّ الظُّلم شر للمظلوم لا ريب، أو هو شر للنفس النُّطْقِيَّة التي يقوم كمالها على كسر هذه القوة والاستيلاء عليها، وإنما يكون في البداءة خيرًا من الناحية الفعالة؛ أي من حيث القوة الغَضَبيَّة، التي تطلب الغَلَبَة بطبيعتها، وكذلك النار خير بذاتها، فلها منافع كثيرة وفوائد وافرة في العالم الطبيعي، ومن العرض أن تُحدِث الإحراقَ الذي هو شر لمن يعانيه.
ومن الواضح أنه ليس من الحَسَن أن يُزِيل صانع الكلِّ قوةَ الغضب أو يبيد النار بسبب العرض الجزئي الذي ينشأ عن هذه أو تلك، قال ابن سينا: «ليس من الحكمة الإلهية أن تُترك الخيرات الثابتة الدائمة والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية غير دائمة.»
وليست أفضليةُ الخير على الشرِّ في العالم، وَفْقَ هذا المذهب، مقصورةً على أفضليةٍ من أفضليات ما بعد الطبيعة كما أوضحنا، بل هي أفضليةٌ عددية وكمية، قال مؤلِّفنا موكِّدًا: «إن من غير الموجود الأمورَ التي تكون شرًّا على الإطلاق، والأمور التي يكون معظمها شرًّا، والأمور التي يتساوى فيها الخير والشر.» وكل أمر يكون الخير غالبًا فيه، ومن الخطأ أن يقال: إن الشرَّ أكثر وقوعًا من الخير. أجل، إن الشر كثير، ولكنه ليس أكثريةً، وذلك كالأمراض فإنها كثيرة، ومع ذلك فإنها أقل من الصحة، وإذا تأملت الشر الذي حددناه وجدته أقلَّ من الخير الذي يقابله. نعم، إن الشرور التي هي نقصانات الكمالات الثانية أكثرية، وهي مثل جهل الإنسان بالهندسة مما لا يضر في الكمالات الأولى، وهي ليست شرورًا بالحقيقة، ولكنها إعدام خيراتٍ من باب الفضل والزيادة في المادة.
وتحمل هذه التفصيلات البليغة على القول — كما هو حاصل الكلام — بأن مبادئ المقاصد الإلهية تحتجب في سِرٍّ لا يَقدر عقلُ الإنسان أن يَنْفُذَ فيه، ويكشِفُ التصوفُ لنا شيئًا من ذلك أحيانًا، وهكذا يَتَّخِذُ التصوف له مكانًا ملحقًا بما بعد الطبيعة.
وجميع هذه القوى — وإن اشتركت في هذه المعاني — تختلف في مراتبها، فمنها ما كماله أتمُّ وأفضل، ومنها ما كماله أكثر، ومنها ما كماله أدوم، ومن هذا يُستَنْتَج اختلافٌ في درجات اللذات التي تُنال، قال ابن سينا: «يجب أن لا يَتَوَهَّمَ العاقل أن كل لذة فهي كما للحمار في بطنه وفرجه، وأن المبادئ الأولى المقربة عند رب العالمين عادمة للذة والغبطة، وأن رب العالمين — عز وجل — ليس له في سلطانه، وخاصِّيَّة البهاء الذي له، وقوته الغير المتناهية، أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نُجِلُّه عن أن يسمَّى لذةً، ثم للحمار وللبهائم حالةٌ طيِّبة ولذيذة. كلا، بل أي نسبة تكون لما للمبادئ العالية إلى هذه الخسيسة.» ولكنا نتخيَّل هذا ونشاهده، ولم نعرف ذلك بالاستشعار، بل بالقياس، فحالنا عنده كحال الأصمِّ، الذي لم يسمع قطُّ في عمره، ولا تَخَيَّلَ اللذة اللَّحْنِيَّة، وهو متيقِّن لطيبها.
ومما يحدث أحيانًا أن يكون الكمال الخاص بقوة، والأمر الملائم الذي يمكن أن يُيَسِّرَه لها، في متناول هذه القوة نفسها، فتُمنع هذه القوة من تلقيهما بعائق أو شاغل، وذلك كَكَرَاهِيَة بعض المرضى للطعم الحلو، وشهوتهم للطعوم التي تكرهها نفوس الأصحاء، وربما لا يكره المريض حلو الطعوم، وإنما يكون غير قادر على الاستلذاذ بها، ولا يُطيق الرديء منها على الأقل، وربما لم يُحِسَّ المريض بمرارة فمه إلى أن يَصلُح مزاجه وتُشْفَى أعضاؤه، فحينئذ ينفر عن الحال العارضة له.
وقال مؤلفنا: «إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالَمًا عقليًّا، مرتسمًا فيها صورة الكلِّ والنظام المعقول في الكلِّ، والخير الفائض في الكل مبتدئًا من مبدأ الكل، سالكًا إلى الجواهر الشريفة فالروحانية المطلقة، ثم الروحانية المتعلقة نوعًا ما من التعلق بالأبدان، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها، ثم تستمر كذلك حتى تستوفيَ في نفسها هيئةَ الوجود كلِّه، فتنقلب عالَمًا معقولًا، موازيًا للعالَم الموجود كله، مشاهدًا لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق، ومتحدًا به، ومنتقشًا بمثاله وهيئته، ومنخرطًا في سلكه، وصائرًا من جوهره.»
وإذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقُوَى الأخرى، وُجِدَ في المرتبة التي يقبح معها أن يقال إنه أتمُّ وأفضل منها، وكيف يقاس الدوام الأبدي بالدوام المتغيِّر الفاسد؟ وكيف يَكُون حال ما وصولُه بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سارٍ في جوهر قابله، حتى يكون كأنه هو هو بلا انفصال، ما دام العقل والمعقول والعاقل شيئًا واحدًا أو قريبًا من الواحد؟ ولا يخفى أن إدراكات النفس النطقية أوثق من إدراك الحواس وأشد تقصيًا وقوةً؛ ولذا، فكيف تقاس لذَّات هذه النفس — عند إدراكها المعقولات — باللذات الحسية والبهيمية؟
والغايات العقلية أكرم على الأنفس من محقَّرات الأشياء، فكيف في الأمور النبيهة العالية؟ ومع ذلك فإن النفوس الخسيسة تَعُود عاجزةً عن الإحساس بالخير والشرِّ في الأمور العالية، كما يعود المرضى عاجزين عن الإحساس بطعم الطعوم كما قلنا.
ومتى انفصلت النفسُ عن البدن ذهبت نحو غايتها وبَلَغَتْها واستلذَّت بها، ما لم يكن ذوقها قد فَسَدَ كفساد ذوق المرضى، غيرَ باحثة عن غايتها مطلقًا، فهنالك لا تبلغ هذه الغاية وتألَم.
ومتى انتهت القوة العقلية، التي هي النفس الخالدة إلى درجة من الكمال في أثناء الحياة حازت هذا الكمال بالفعل حين مفارقتها للبدن، ونالت اللذة مع الكمال؛ أي اللذة التي هي من نوع ما تَنْطَوِي عليه الجواهر المحضة؛ فيُعَدُّ أكرم من لذة الحواسِّ وأعلى، وهذا يسمَّى السعادة.
ومن الصعب أن يُقال بالضبط ما تَعرِف النفس عندما تقترب من الحدِّ الذي تتحقَّق به هذه السعادة، ولكن مما يُظَنُّ أن نفس الإنسان في ذلك الوقت تكون حائزةً لصورة دقيقة عن المبادئ العقلية أو العقول المحضة، وأنها تعرف أسرار الحركات الكلية، لا جميع الجزئية التي لا نهاية لها، وأن صورةَ الكل تَتَجَلَّى فيها، وذلك مع الصلة المتبادلة بين أقسامها وبين النظام الذي تلتحم به في سلسلة الموجودات.
والسعادةُ لا تتمُّ إلا بإصلاح الجزء العمليِّ من النفس، وعلى هذا تَقُوم الأخلاق، قال ابن سينا: «إن الخُلُق هو مَلَكَةٌ تَصدُر بها عن النَّفْس أفعال ما بسهولة من غير تقدُّم رَوِيَّة.» وأغلب ما يكون أن خُلُق الإنسان في أثناء حياته لا يكون إلا متوسط الصلاح، ولا يكون إذعان العقل العملي للعقل النظري كاملًا، ولا يكون للنفس شوق محض إلى الأمور الروحانية، وهي تحتفظ بميلٍ إلى الأشياء البدنية يمنعها من الوصول إلى كمالٍ تام بعد الممات، وتشعر النفس المفارقة للبدن بتناقض هذه الميول الفاسدة، التي كانت عادةً لها، وخيرِها الحقِّ، فيكون هذا التناقض سبب ألم شديد لها، ومع ذلك فبما أنها كانت صالحةً مبدأً فإن هذا الألم لا يكون أمرًا ضروريًّا جوهريًّا لها، وهو لا يكون سوى حالٍ غريبةٍ عنها.
وبما أن ما يكون عرضيًّا أجنبيًّا لا يدوم عندما يأتي الموت لقطع الأعمال التي يغذِّي تكرارُها في النفس هذه العاداتِ السيئةَ، فإن هذه العادات تَمَّحِي وتزول، ويَنْقُص ألم النفس الناشئ عنها كلما زَكَتْ، فبعد ذهاب هذا الألم العابر تبلُغ النفس سعادتها، وتصير النفوس الروحانية الخالصة عند الموت إلى سعةٍ من رحمة الله. وأما النفوس الرديئة تمامًا، والتي لا تميل إلى غير البدن، فإنها تَتَعَذَّبُ عذابًا شديدًا بفقد البدن؛ «لأن آلةَ ذلك قد بَطَلَت، وخُلُقَ التعلق بالبدن قد بقي.»
وكذلك يمكن قبول ما يقوله بعض العلماء من أن النفس المفارقة للبدن يمكن أن تؤثِّر في المواد السماوية، وتواصلَ تخيُّل صورٍ بهذه المواد مثل موضوعات، ويتخيَّل صالح النفوس حالات السعادة التي تاقوا إليها في أثناء الحياة، ويتخيَّل سيئ النفوس أنواعَ العقوبات والآلام، وليست الصورُ الخيالية أضعفَ من الحسية، بل تزداد عليها، كما يشاهد ذلك في المنام حيث يُرى — أحيانًا — ما هو أشد مما يُرى في اليقظة، فالارتسامات التي تتكون في باطن النفس تصدُر عن علةٍ ذاتية، والارتسامات التي تتكوَّن من الخارج تصدُر عن علةٍ عرضية.
وتبلُغ الأنفس المقدَّسة كمالها بذاتها وتنغمس في اللذة الحقيقية، وتتبرَّأ عن النظر إلى ما خَلْفَها، وتطهُر من آثار العوالق الحسية التي كانت لاصقةً بها، متخلِّفةً لأجلٍ عن درجة علِّيين.
•••
وبقصةٍ سنختم هذا الكتاب على الطريقة الأفلاطونية.
كان في الزمن القديم — وقبل طوفان النار — مَلِكٌ اسمه هرمانوس بن هرقل، وكان لهذا الملك مملكة الروم إلى ساحل البحر مع بلاد يونان وأرض مصر، وكان ذا علمٍ غزير، وكان شديد الاطلاع على تأثيرات الصُّوَر الفلكية.
وكان يوجد بين معاصري هذا الأمير حكيم اسمه إقليقولاس الحائز على جميع العلوم الخفية، وكان هذا الحكيم يعيش معتزلًا منذ دَوْرٍ في مغارةٍ يقال لها ساريقون، وكان يفطر في كل أربعين يومًا بشيء من نبات الأرض، وقد بلغ من العمر ثلاثة أدوار، وكان الملك هرمانوس يستشيره كثيرًا.
وهذا ما صُنع، ويولد الولد، ويسمى سلامان، وتُطلب له امرأة لتغذوه بلبنها، وتوجد له امرأة جميلة بنت للثامنة عشرة من سنيها، يقال لها أبسال، وتتولَّى هذه المرأة أمر تربيته، ويفرح الملك.
ويروى أن هرمانوس وعد الحكيم بأن يقيم — كدليلٍ على شكره — بناءين عظيمين قادرين على مقاومة طوفانات الماء والنار، حيث تُحفظ أسرار العلوم، وهذان البناءان هما الهرمان.
ولما تَمَّ للصبيِّ مدة الرضاع أراد الملك أن يُفَرِّق بينه وبين المرأة؛ فجزع الصبي من ذلك لشدَّة شغفه بها، فلما رأى الملك ذلك تركهما إلى حين بلوغ الصبي، فلما بلغ اشتدت محبته للمرأة وقَوِيَ عشقه لها، حتى كان في أكثر أوقاته يفارق خدمةَ الملك لإصلاح أمرها.
ويأمر الملك بإحضار ابنه، ويوجِّه إليه نصائح قائلًا: «أنت ولدي، وليس لي في الدنيا غيرك، ولكن اعلم — يا بني — أن النسوان هن مكايد الشر ومصايده، وما أفلح من خالطهن إلا لاعتبارٍ بهن، أو ليُحصِّل لنفسه خيرًا منهن، ولا خير فيهن، فلا تجعل لامرأةٍ في قلبك مقامًا حتى يصير سلطان عقلك مقهورًا ونورُ بصرك وحياتك مغمورًا، فلا أحسب هذا إلا من شأن البُلْه المغفَّلين.
واعلم — يا بني — أن الطريق طريقان: طريق هو العروج من الأسفل إلى الأعلى، والثاني الانحدار من الأعلى إلى الأسفل، ولنمثِّلْ لك ذلك في عالم الحس حتى يَتَبَيَّنَ لك الصواب. اعلم أن كل واحدٍ من جملة مَنْ هو على بابنا إذا لم يأخذ بطريق العدل والعقل هل يصير قريبَ المنزلة منا؟ كَلَّا، بل إذا أخذ بطريق العدل والعقل يصير كل يوم قريبَ المنزلة منا، فكذا الإنسان إذا سَلَكَ طريق العقل وتصرَّف في قواه البدنية التي هي أعوانه على أن يَقْرَبَ من عالم النور العالي، الذي يبهر كلَّ نورٍ فبعد مدة يصير قريبًا منه منزلةً، ومن علامة ذلك أن يَصِيرَ نافذ الأمر في السفليات، وهذه أخسُّ هذه المنازل، بل الوسطى منها هو أن يصير مشاهدًا للأنوار القاهرة، التي تتصل على سبيل الدوام بالعالم السفليِّ، والعليا منها أن يصير عالمًا بحقائق الموجودات، منصرفًا فيها على وفق العدل والحق.
أقول لك: إنك إن أردتَ أن تكون لك امرأة تقبل منك ما تريد، وتفعل لك ما تشتهيه فهلمَّ سعيًا، فقد نَفِدَ الزاد وبعُد المزار، وإن كنت مالكًا سبيل الإيمان، طارقًا طريقة الإيقان فخذْ نفسك عن هذه الفاجرة أبسال؛ إذ لا حاجة لك فيها، ولا مصلحةَ لك في مخالطتها؛ فاجعل نفسك رجلًا متحلِّيًا بحلية التجرد، حتى أخطب لك جاريةً من العالم العلوي تُزَفُّ إليك أَبَدَ الأبدين، ويرضى عنك رب العالمين.»
وكان سلامان — لشدة شغفه بأبسال — لا يُصْغِي لكلام الملك، فرجع إلى بيته، وحكى كلَّ ما جرى له مع الملك لأبسال على طريق المشورة، فقالت المرأة: «لا يقرعنَّ سمعَك قول الرجل؛ فإنه يريد أن يُفوِّت عليك اللذة بمواعيدَ أكثرها أباطيل وأجلُّها مخاييل. والتقدم بالأمر عزمة، وإني امرأة مأمورة لك بكل ما تَطِيب به نفسك وتشتهي، فإن كنت ذا عقل وحزم فاكشف للملك عن سرِّك بأن لست تاركي ولستُ بتاركةٍ لك.»
وذهب الصبي لينقل كلام أبسال، لا للملك، بل لوزيره الذي رواه للملك بدوره، فلما بلغ الملك هذا الأمرُ تأسَّف على ولده، ودعاه إليه ليوجِّه إليه نصائح جديدةً، ولكن الملك أبصر أنه لم يسطِعْ أن ينفذ روحه، فعنَّ له أن يقوم بتسويةٍ، فقال له: «فإن كان ولا بُدَّ، فاجعل حظك قسمين، أحد القسمين تشتغل بالاستفادة من الحكماء، والثاني تأخذ لنفسك منها ما تظنه لذةً.»
فقَبِلَ سلامان ذلك، ولكنه — وهو يشتغل في نصف من الوقت — كان ذهنه مشغولًا بالنصف الآخر، ويعلم الملك ذلك، ويعزم على استشارة الحكماء حتى يُهلِكَ أبسال، وكانت هذه هي الوسيلة الوحيدة التي بقيت له كيما يتخلَّص منها، فوجه الحكماء لومهم إلى هذه الخطة، وقام جواب الوزير إلى الملك على كون هذا القتل يضعضع عرشه من غير أن يفتح له بابًا في زمرة الكروبيين.
ويصل صدى هذا الكلام إلى سلامان، الذي أُهرع إلى أبسال ليُبلِّغها إياه، ويبحثان معًا عن السبيل لإحباط خطط الملك، وليكونا في مأمنٍ من غضبه، فتقرَّر عزمُهما على الفرار إلى وراء بحر المغرب، ويسكنان هناك.
والواقع أنه كان عند الملك — بفضل علمه السحر — قصبتان من ذهب، وعليهما سبعة مواضع من الصَّفَّارات، يُصَفِّر فيها لكل إقليمٍ فيطَّلع على ما يريده من ذلك الإقليم، وهكذا اطلع على المكان الذي انزوى فيه سلامان وأبسال، فوجدهما على أسوأ حالٍ من الغربة وضيق الحال، فرقَّ لهما في بدء الأمر، وأمر بإرسال ما يكفي كلَّ واحد منهما، ثم غضب بعد مدةٍ على روحانيات شهوتهما، فأمر بتعذيبهما، في سواء هيامهما، بأرواحٍ أخذت تُجرِي عليهما رغبات يتعذَّر عليهما قضاؤها.
وأدرك سلامان أن هذه المكاره تأتيه من أبيه، فقام وجاء إلى باب الملك معتذرًا مستغفرًا ومعه أبسال، فطلب الملك منه أن يصرف أبسال، مكررًا له أنه لا يستطيع أن يجلس على العرش ما دام محتفظًا بها؛ وذلك لأن هذه المرأة والمُلك يطالبان به كاملًا، وأن أبسال تكون متعلقةً برِجله هو، على حين يكون هو متعلقًا به بيده، فيحول هذا دون بلوغه عرش الأفلاك أيضًا، قال الملك هذا، وأمر أن يتعلقا يومًا تامًّا على الوضع المذكور في هذا المثال، فلما كان الليل فُكَّا فأخذ كل منهما بيد صاحبه، وألقيا بأنفسهما في البحر.
وكان هرمانوس يرقبهما في تلك الأثناء، فأمر روحانية الماء بأن تحفظ سلامان حتى يرسل جماعةً للبحث عنه، وأما أبسال فقد تركها تغرق.
فلما تحقق سلامان أن أبسال قد غرقت كاد يشرف على الموت ألمًا وصار كالمجنون، فاستشار الملك إقليقولاس الحكيم، معربًا عن رجائه أن يرى الصبي ثانيةً، ويحضر الصبي، ويسأله الحكيم عن رغبته في وصال أبسال، فقال الصبي: «وكيف لا أريد ذلك؟» فقال الحكيم: «تعالَ معي إلى مغارة ساريقون حتى أدعو وتدعو أربعين يومًا، فإن أبسال تعود إليك بهذا العمل»، ومضيا إلى المغارة معًا، ووضع الحكيم، لقيامه بوعده، ثلاثة شروط، وهي: ألا يكتم الصبي عنه شيئًا، أن يقتدي الصبي به في أفعاله خلا تخفيفٍ في أمر الصوم، وألا يحب الصبي امرأةً غير أبسال ما دام حيًّا.
هنالك أخذا يدعوان الزهرة، وكان سلامان يرى كل يومٍ صورة أبسال تتردد إليه، وتجالسه وتكلمه، فيحكي للحكيم كل ما رأى وسمع.
فلما كان يوم الأربعين ظهرت صورة عجيبة وشكل غريب، فائق لكل حسن وجمال، وهذه صورة الزهرة، فشغف سلامان بهذه الصورة شغفًا شديدًا أنساه حب أبسال، فقال للحكيم: «لست أريد أبسال، ولا أريد إلا هذه الصورة»، فقال له الحكيم: «ألست قد شرطت عليك أن لا تعشق أحدًا غير أبسال، وقد تعبنا هذه المدة حتى قارب أن يُستجاب لنا في عود أبسال إليك؟» فقال سلامان: «أغثني، فإني لا أريد إلا هذه الصورة».
فسخر له الحكيم روحانية هذه الصورة حتى كانت تأتيه في كل وقتٍ، ولم يزل كذلك حتى تعب منها أيضًا، وصفت نفسه من كدورة المحبة.
وشكر الملك للحكيم ما صنع، ولما جلس سلامان على العرش لم يفكر في غير الحكمة، فنال مجدًا عظيمًا، وظهرت في مدة ملكه عجائب.
وتُكتب هذه القصة على سبعة ألواحٍ من ذهب، وتُكتب أدعية الكواكب السبعة في سبعة ألواحٍ أخرى أيضًا، ويوضع الجميع في الهرمين بالقرب من قبور أجداد سلامان، ويقع الطوفانان، الناري والمائي، ويظهر الحكيم الإلهي، أفلاطون، ويريد البحث عن ذخائر العلوم في الهرمين، ويسافر إليهما، ولكن ملوك زمانه لم يساعدوه على فتحهما، فأوصى، عند وفاته، تلميذه، أرسطو، أن يواصل سعيه في هذا السبيل، وقد اغتنم أرسطو فرصة فتوح الإسكندر، ففتح باب الهرمين بطريقة كان أفلاطون قد أوصاه بها، وقد دخلهما الإسكندر، فأخرج منهما ألواح الذهب، التي كُتبت عليها هذه القصة.
ومن الصعب أن يُقال — حصرًا — هل كانت هذه القصة تنطوي في ذهن واضعها على منهاج فلسفي معين، أو كانت رمزًا واسعًا يمكن كل واحدٍ أن يُدخل إليه شيئًا من فكره، ومع ذلك، فإن ما نستطيع ملاحظته هو أن هذه القصة طُبقت على الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، وأنها طبقت بأصرح من ذلك على منهاج ابن سينا، وإليك تفسير نصير الدين الطوسي لها: «إن الملك هرمانوس هو العقل الفعال، وإن الحكيم هو الفيض، الذي يفيض عليه مما فوقه، وإن سلامان هو النفس الناطقة الصادرة عن العقل الفعال من غير تعلق بالجسمانيات، وإن أبسال هي القوة البدنية الحيوانية، وإن عشق سلامان لأبسال هو ميل النفس إلى اللذات البدنية، وإن هربهما إلى ما وراء بحر المغرب هو انغماسهما في الأمور الفانية، وإن تعذيبهما بالشوق مع الحرمان وهما متلاقيان، هو بقاء ميل النفس مع فتور القوى عن أفعالها بعد سن الانحطاط، وإن رجوع سلامان إلى أبيه هو التفطن للكمال والندامة، وإن إلقاء نفسيهما في البحر هو تورطهما في الهلاك، وإن خلاص سلامان هو بقاء النفس بعد البدن، وإن اطلاعه على صورة الزهرة هو التذاذ النفس بالكمالات العقلية، وإن جلوس سلامان على سرير الملك هو وصول النفس إلى كمالها الحقيقي، وإن الهرمين الباقيين على مرور الدهر هما الصورة والمادة الجسمانيتان.»
وإذا ما أقدمنا على إزلاق فكرٍ شخصيٍّ تحت القصة بعد أن سمعنا هذا التفسير الدقيق، رأينا رمز الفلسفة في الهرمين اللذين أقيما في مصر منذ زمن قديمٍ جدًّا، ففُتحا من قِبل أفلاطون وأرسطو، وبقيا على مرور الدهر.
•••
لقد عرضنا نتائج هذا الكتاب في آخر الفصل السابق، وإنا إذ نختم به هذا الفصل وهذا الكتاب، وذلك على حين نودع قراءنا، ونودع أولئك الموتى الكرام السابقين، الذين كان فكرهم موضوع هذه الدراسة، لم أُرد غير إضافة كلمة للجهر بلذةٍ، تمتعت بها في الشهور الكثيرة، التي قضيتها في صحبة رجالٍ آمنوا بالعقل، وبحثوا وفق قوانين المنطق، وعدوا جميع الفرضيات في كل صفحة، وميزوا جميع المعاني، واعتقدوا الحقيقة العامة، وأيقنوا بخلودها، وعدوا الفلسفة علمًا، وذهبوا إلى أن السياسة قسم من العلم، وقضوا بوجوب الحكم في الدول من قبل الحكماء، لا من قبل الغوغاء، واتصفوا بقلب كبير لم يروا معه نقص قيمة العقل باعترافهم أنه محدود، وبقولهم: إنه يوجد فوقه إمكان للمعرفة بالمعاينة، فحبا نفوسهم بوسيلة الانطلاق في بقاع حافلةٍ بالأسرار، وقد بلغ هؤلاء الرجال من اتساع الذهن ما يستحق معه تنوع آرائهم أن يثير حسد هواة عصرنا، وذلك ما داموا قد جدوا بعقلهم أن يدركوا جميع المناهج، فيوفقوا بينها جميعًا، ولم يعرفوا أي حاجزٍ في حقل البحث العقلي، الذي ساروا به أحرارًا من خلال جميع العلوم، وما داموا قد أرادوا أن تكون جميع ميادين النشاط مفتحةً لهم، فارتقوا جميع درجات مرقاة الموجودات، ونزلوا منها بسهولةٍ متساوية، هذه الدرجات، التي تُبيح لها طبيعة ذهن الإنسان أن تتحرك من أعماق الأرض حتى الأفلاك العليا، ومن ظلمات الهيولى التي لا تُدرك حتى أنوار العقل المحض.