المعتزلة
النظريات الأساسية عند المعتزلة – صفات الله والقَدَر والاختيار – المعتزلة في كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني – ظهور مسألة الاختيار قبل المعتزلة – واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد – الاتِّصَال بالفكر اليوناني – العلاف والنظَّام – معمر بن عباد السلمي – مذهب التناسخ – الجاحظ – الجبائي وأبو هاشم – الكرامية ومحمد بن كرَّام.
***
أخذتْ لاهوتية القرآن تكون موضوعًا للبحث الفلسفي منذ القرن الأول من الهجرة؛ ولذا فإن حركةً فلسفيةً تلقائية حدثت في الإسلام قبل إدخال كتب الفلسفة اليونانية إليه، ويُمحَّص هذا البحث النظري، ويصير أكثر تركيبًا كلما أشعر المؤثرُ اليونانيُّ بنفسه، ومن حُبِّ الاطلاع أن تُرقَب تحولات هذه اللاهوتية حتى الزمن الذي تُرجِمت فيه كتب الأوائل وأُدركت تمامًا، فبرزت المسألة السِّكُلَاسِية، وقد تألَّفت أهم سلالة للعلماء، الذين امتازوا في هذا الدور من الفرقة التي تُعرَف بالمعتزلة.
ووُضِعَتْ مسألة الاختيار قبل ظهور فرقة المعتزلة، وذلك من قِبَل مَعْبَد الجُهَنِي وعطاء بن يسار، اللذين كانا ينتسبان إلى مدرسة الفقيه الشهير الحسن بن أبي الحسن البصري (المتوفَّى سنة ١١٠). فهذان العالمان صرَّحا بأنهما نصيران لمبدأ اختيار الإنسان، وكان المذهب المعاكس — الذي نفينا وجوده في القرآن — قد انتصر في الإسلام في أثناء حروب بني أمية، فكان قد ارتُبِطَ — ضِمْنًا على الأقل — في الجَبَرية؛ أي إنه كان يُعتَقَد أن الإنسان صالح أو طالح مُعَدٌّ لجهنم أو للجنة وَفْقَ أوامر الله الأزلية، وكانت آيات القرآن المخالفة لهذا الرأي مَوْضِعَ تأويل، ويؤدِّي مذهب معبد الحر إلى اضطرابات، فيأمر الخليفةُ عبد الملك بتعذيبه وصلبه في السنة الثمانين من الهجرة، ويُصْلَبُ عالم آخر اسمه أبو مروان الدمشقي على باب دمشق بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك لاتِّبَاعه هذه الآراء.
وكان أبو مروان هذا بالغَ الجُرْأَة، وأما عطاء بن يسار، فقد نَجَا من القتل ولم يَمُتْ في غير السنة ١٠٣ من الهجرة، ابنًا للرابعة والثمانين من سِنِيه، وكان قد أُعْتِقَ من قِبَل إحدى أزواج النبي: مَيْمُونة.
وكان أتباع حرية الإرادة الأوَّلون قد اتخذوا اسم «القَدَرية»، بَيْدَ أن هذه التسمية كانت تُرى مُبْهَمَةً؛ وذلك لأن كلمة «القَدَر» يُمْكِن أن تدلَّ — بالتساوي — على قدرة الله وأمره أو على قدرة الإنسان وحريته، كما أن كلمة «القَدَرِية» يمكن أن تدل — في الوقت نفسه — على أنصار حرية الإرادة أو على خصومهم، فلما قال المعتزلة بعقيدة حرية الإرادة نَبَذوا اسم القدرية، وأطلقوا على حرية الإرادة كلمة «العدل».
ومؤسِّس فرقة المعتزلة الكبرى هو واصل بنُ عطاء. وقد وُلد في المدينة سنة ٨٠، وأعتقه بنو مخزوم أو بنو ضبَّة، ومات سنة ١٣١، وكان خطيبًا، ولكن مع عجزه عن النطق بحرف الراء واستبدال حرف الغين به، وإن شئت فقُل: إنه كان يَلْثَغُ بالراء، بيد أنه كان من الاطلاع على العربية وسهولة اللفظ بحيث يُوفَّق في كلامه لاجتناب الألفاظ المشتملة على الراء، وهذا ما حَمَلَ أحد الشعراء على القول:
وكان واصلٌ تلميذًا للحسن البصري في البُداءة، ثم انفصل عنه بسبب رأيٍ جديدٍ أبداه حول حال المؤمنين الذين يقترفون إحدى الكبائر، فقال: «إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، منزلةٌ بين منزلتين.» وظلَّ هذا الرأي في فرقته، حاملًا اسم مذهب «المنزلة بين المنزلتين»، وإلى هذا الظَّرف يُرَدُّ أصلُ اسم المعتزلة.
وبدأ واصلٌ بإنكار صفات الله أيضًا، وكان يَقْصِدُ بإبدائه هذا المذهبَ تخليصَ التوحيد المَحْض، فكان لا يُدرِك وحدانيةَ إلهٍ ذي صفات، وكان يقول: «مَنْ أَثْبَتَ معنًى وصفةً قديمةً فقد أثبت إلهين.» ومع ذلك، يظهر أنه لم يُنضِجْ هذه النظرية بما نستطيع أن نَحْكم فيه لفِقْدان كتبه. وقد كان كجميع المعتزلة، كثيرَ الصراحة في الإيمان بحرية الإرادة فقال: «لا يجوز أن يُريد الباري من العباد خلاف ما يأمر.» وقد كان يوافق على الأمر الإلهي فيما يتعلَّق بالحوادث الخارجية واليُسْر والعُسْر والمرض والصحة والحياة والموت، وإن شئت فقل: إنه كان يوافق على الجَبَرية الفزياوية، ولكنه كان يرفض الجَبَرية الأدبية.
وكان عمرو بنُ عبيد — الذي هو رئيسٌ مشهورٌ آخر للمعتزلة — معاصرًا لواصل بن عطاء، فانفصل مِثلَه عن مدرسة الحسن البصري، وكان وجيهًا ذا طبعٍ ممتِع، ويَظْهَرُ أنه من أصل أفغانيٍّ؛ أي إن جده من الذين وقعوا أسرى بيد المسلمين في كابُل، وقد أعتقه بنو تميم، وقد حَضَرَه الموت سنة ١٤٤ أو سنة ١٤٥.
والأبيات الآتية — التي روى المسعودي أن عَمْرًا أنشدها بين يدي المنصور — تُعطي عن عمرو فكرةً عالية:
وعلى ما لعمرو بن عبيدٍ من شهرةٍ، فإننا لا نعرف غيرَ القليل عن مذهبه، كما هو حاصلُ القول.
وبعد هؤلاء الأوَّلِين من المعتزلة أُدْخِلَتْ إلى الإسلام معرفةُ الكتب اليونانية، وقد درسها المعتزلة، فنُبصِر أيَّ تقدُّمٍ أسفرت عنه هذه الدراسة في مذهبهم، وأيَّ غنًى وصقلٍ اتَّفَقَا له، وذلك بلقائنا بعد جيلٍ أو جيلين طائفةً من علماء هذه الفرقة، يجدُر أن نذكُر أبا الهُذَيْل العلَّاف البصري على رأسهم، وقد وُلد أبو الهذيل سنة ١٣٥، وكان بنو عبد القيس قد أعتقوه، ودَرَسَ الفلسفة في بغداد تحت إدارة أحد تلاميذ واصل بن عطاء، وألَّف عدَّة كتبٍ لا نَملِكها مطلقًا، واشترك في المجادلات الكلامية التي وقعت في عهد المأمون. وروى الشهرستانيُّ أنه مات سنة ٢٣٥ ابنًا للمائة، غير أن أبا المحاسن رَوَى أنه مات سنة ٢٢٦، وهذه الرواية أرجح من تلك لا ريب.
لم يوافق أبو الهُذَيْل موافقةً مطلقةً على رأيِ أسلافه في إنكار الصفات الإلهية، وإنما قال بالصفات على أنها وجوهٌ تتجلَّى بها الذات الإلهية، وقد شبَّه الشهرستانيُّ هذا المبدأ بمبدأ الأقانيم لدى النصارى. بَيْدَ أن هذا التشبيه ليس مُقْنِعًا؛ فقد رَوَى هذا المؤرخُ بأوضحَ من ذلك أن الصفات الإلهية عنده هي عين ذات الله، وأنها ليس لها غير معنًى سلبيٍّ صِرْف، أو أنها تُعَبِّر — فقط — عما ينطوي عليه مفهوم الذات، ولم يَقُلْ أبو الهذيل إن الله عالم بذاته لا بالعلم، وإنما قال: إن الله عالم بعلم هو ذاته، والصيغة الأولى التي يمكن أن تكون صيغة المعتزلة السابقين تَنْفِي الصفة، وتقول الصيغة الثانية بذاتٍ هي صفةٌ اتحادًا أو بصفةٍ هي ذاتٌ اتحادًا.
وتوجد هذه الدقة التحليلية الممتازة في القواعد الأخرى من فلسفة أبي الهُذَيْل، وتُعَدُّ نظريتُه في الإرادة الإلهية والبشرية ممتعةً؛ فالإرادة في الله ليست سوى وجهٍ للعلم، والله يريد كلَّ شيء يَعْلَمُ أنه خير. ويوجد نوعان للإرادات أو الأعمال الإلهية؛ فبعضها لا ضرورةَ لأنْ يُكَوَّن في مكانٍ، وإنما يُحدِثُ معلولَه المباشِر بنفسه، وذلك كالإرادات في نظام الخَلْوة، وهي ما يُعبَّرُ عنها بكلمة: «كُنْ»، وبعضها الآخر يحتاج إلى الوقوع في مكان لإحداث معلوله، وهذه هي الإرادات الأدبية التي يُعَبَّرُ عنها بأوامر الله ونواهيه وبلاغاته. وفي الإنسان تكُون الإرادات والفاعلية الباطنية حرةً وجوبًا، ويقول عالِمنا، على رواية الشهرستانيِّ: إنه لا يُمكِن تَصَوُّرُها على شكلٍ آخر، وهذا دليلٌ على حرية الإرادة عن شعور بها. وأما الفاعلية الخارجية، فليست حُرَّةً بنفسها، ولكنها تكون — عادةً — نتيجةً لإرادات الباطن الحُرَّة.
ونظرية أبي الهذيل عن حركة العالَم على شيءٍ من الغرابة، ويَلُوح أن هذا الفيلسوف حاول قبولَ المذهب اليونانيِّ في دوام العالَم من غير أن يناقِض القرآنَ صراحةً، وبما أنه لم يستطع الذهاب إلى حركة دائمة بلا بدايةٍ ولا نهاية، فإنه قال: إن الخَلْقَ هو في حركة العالَم، وإن نهاية العالَم هي دخوله في السكون؛ ولذا، فإنه يكون هناك دوام، وإن مادةً تبقى ساكنةً إلى الأبد.
ثم إن هذا السكون أُدرك على وجه كثير اللاهوتية؛ وذلك أنه لا ينبغي اتخاذ هذه الكلمة ضِمْنَ معناها العادي، فحال السكون الأبدي للعالَم هي حال النظام المطلق كما هو الأَحْرَى، هي هذه الحال التي ينتهي إليها كلٌّ وَفْق سُنَنٍ لازمة، وذلك طِبْقَ تَبَصُّرٍ باقٍ. ومُجْمَل القول أنَّ هذه حالٌ ينقطع فيها كلُّ هوًى وكلُّ حرية، ولا رَيْبَ في أن أبا الهذيل قد قَصَدَها على هذا الوجه، وهو لم يُدرِك حرية الإنسان في غير هذا العالَم كما رَوَى الشهرستاني؛ فالناس بعد هذا العالم يدخلون في ضَرْب من حال الإطلاق التي هي حال سعادة بالغة لأناس، وحال عذاب هائلٍ للآخرين.
ومن ثَمَّ ترى مَبْلَغَ البراعة في هذه المذاهب، وكيف أن الاتصال بالذهن اليوناني قد أيقظ العبقرية الفلسفية لدى المسلمين مع الإنذار بتحريف العقيدة القرآنية.
وأخيرًا؛ يجب أن يلاحَظ وجودُ فِكرة جريئة لدى أبي الهُذَيْل ليست أقلَّ شأنًا مما تقدَّم؛ وهي فكرة السُّنَّة الطبيعية، وقد عُبِّرَ عنها بوضوحٍ كثيرٍ من قِبَلِ الشهرستاني؛ وذلك أن الإنسان يُمْكِنُه — قبل كل وحي — أن يَصِلَ إلى معرفة الله والشعور بالخير والشرِّ، وأنه مسئول عن هذا أيضًا. فعلى الإنسان أن يُميِّز بعقله الخاصِّ جمالَ الخير وقُبْحَ الشَّرِّ، وهو مُلْزَمٌ بالسعي في العمل وفق الحق والعدل، وباجتناب الكذب والظلم؛ فإذا لم يَقُمْ بهذا الواجب استحقَّ العقاب، وقد قَبِلَتْ مدرسة المعتزلة هذه النظريةَ في السُّنَّة الطبيعية.
وقد فصَّل النَّظَّام — مع الإمتاع — مذهبَ العدل الإلهيِّ المرتبطَ في مذهب التفاؤل، فنَزَع من الله قدرةَ فعل الشَّرِّ، وكان الرأيُ الشائع عند المعتزلة هو أن الله قادرٌ على صنع الشَّرِّ، ولكنه لا يفعله؛ لأن الشر قبيح. فذهب النظَّام إلى أن القبح إذا كان صفةً ذاتيةً للقبيح بالفعل فإن القبيح بالفعل لا يمكن تجويزه من الله بالقدرة، وإن شئت فقل: إن الشر مما لا يُقدَرُ عليه من الله لا قوةً ولا فعلًا. ويَسِير النظَّام بفكرته إلى ما هو أبعد من ذلك، فيذهب إلى أن الخير الأقلَّ ليس مما يُقْدَر عليه من الله، فالله لا يريد غيرَ الخير الأكبر؛ فمن التجديف على الله أن يُفْتَرَضَ خيرٌ بالغ العِظَم ولا يُذهَب إلى أن الله لا يختاره.
ويجيب النظَّام عن اعتراض القائلين إن جميع أعمال الخالق تكون محدودةً إذ ذاك بقوله: «إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل، فإن عندكم يستحيل أن يفعله وإن كان مقدورًا، فلا فرق.» وإنما أخذ النظَّام هذه المقالة من قدماء الفلاسفة.
وقد تطرَّق الوهمُ إلى عالمِنا بمحاولته أن يقتبس من الأغارقة المفهوم المشهور القائل: إن النفس هي صورة البدن، فهو قد أساء فهمَ الفكرة، فذهب إلى أن البدن هو صورة النفسِ والروحِ الخارجيةُ، فالروح جسمٌ لطيف مُشابِك للبدن، مُداخِل للقلب بأجزائه مداخلةَ المائية في الوَرد، والدهنية في السِّمسم، والسَّمنيَّة في اللبن. وهكذا كان النظَّام أكثر اتجاهًا إلى علماء الطبيعة منه إلى علماء ما بعد الطبيعة كما لاحظه الشهرستانيُّ.
ومن الطريف رأيه في الخَلْق وإن زَعَمَ الشهرستانيُّ أنه أخذه عن اليونان؛ فعنده أن الله خلق جميع الموجودات دفعةً واحدة، ولكنه أخفاها ولم يُظهِرْهَا إلا بالتدريج. وهذا الظهور هو ما نُسميه الولادة. والحقيقة أن آدم وجميع ذريته وُجدوا معًا منذ اليوم الأول، وأنه لم يحدث غير خلق واحد يتعذَّر وقوع خلقٍ آخر بعده، وتنمو جميع الأشياء وتبدو على هذا الأساس الطبيعي مرةً واحدة.
ويؤدي هذا المذهب عند النظام إلى جَبَريةٍ طبيعية صريحة يعود شرفها إليه؛ فعنده أنه لا يوجد في الطبيعة غير فاعلية حرَّة واحدة، وهي فاعلية الإنسان، فإذا عَدَوْتَ هذا وجدت أن جميع الأشياء تحدُث وجوبًا؛ «فالحجر إذا دفعته اندفع، وإذا بَلَغَتْ قوة الدفع مبلغَها عاد الحجر إلى مكانه طبعًا.»
وكذلك تناول هذا العالِمُ مسألة قابلية الأجسام للتجزُّؤ إلى ما لا نهاية له، فأبدى رأيَه النهائي مُنْكِرًا الجزءَ الذي لا يتجزَّأ، وقد أصدَر نظريةً في الأعراض الطبيعية، ووحَّد بينها وبين الأجسام، فقال: إن الطُّعُوم والألوان والروائح أجسام؛ ولذا فإن النظَّام عالم مفكر ذو آراء جريئة واسعة، ويدلُّنا عمله وعمل أبي الهذيل، مع إيجاز ما عُرف عنهما، على تأثير لاهوت الأغارقة وخَطابتهم وعلمهم الطبيعيِّ في العالم الإسلامي في ذلك الحين.
ويجب أن يُضمَّ إلى العالِمَين الكبيرين المشار إليهما علماء آخرون، تُعزَى إليهم آراء ممتعة في مسائلَ مشهورة. وقد سارت هذه الطائفة من المفكِّرين، في وقت قصير، بمباحثها إلى أكثر الاتجاهات تنوُّعًا سَيْرًا يُعتقد معه — عند سماع ما يُقال حولها — أنها تدل على منازلَ لتطور فلسفيٍّ طويل، مع أنها وقعت في زمن واحد تقريبًا، فحثُّ الذهن الشرقي بالرسائل اليونانية كان من القوة ما يَقضِي بالعَجَب إذن.
وكذلك أثار بِشْرٌ مسألتين مشهورتين في اللاهوت، تُعَدَّان من أصعب مسائل هذا العلم، وهما: مسألة عدل الله نحو الأطفال، ومسألة عناية الله نحو الأمم التي لا عِلْمَ لها بالدين؛ فأما المسألة الأولى فيُنكِر بها كونَ الله يمكن أن يَدين الأطفال، لا لأن هذا ظلمٌ ضبطًا، بل لأن هذا يفترض كون الطفل أهلًا للَّوْم، وحينئذٍ لا يكون طفلًا، وهذا متناقض.
وأما المسألة الثانية، فبها يَبْتَعِد بِشْرٌ عن التفاؤل السائد للمعتزلة، فهو يعتقد أن الله يُمكِنه أن يُوجِدَ عالَمًا آخر، يُدعَى به جميعُ الناس إلى الدين ويستحقُّون النجاة، ولا حَدَّ للكمال الذي يُمكن أن يُحقِّقَه الله، ويمكن أن يُفتَرَض دائمًا وجودُ عالَمٍ أصلحَ من كلِّ عالَمٍ مُحدَث؛ ولذا فإن الله لا يتعلَّقُ بالأصلح، وإن شئت فقل: إن أحكامنا في الصالح والعدل لا تُطَبَّقُ عليه، وإنما يَقُوم الله بمنح الإنسان إرادةً حرة، ووحيًا في بعض الأحيان، فإذا عَدَوْتَ الوحيَ وجدتَ للإنسان هاديًا أنوار العقل، التي تكشِفُ له سُنَّةَ الطبيعة.
وإذا ما نُظر إلى آراء بِشْر — وَفْقَ تلخيص الشهرستاني — رُئِيَ أنها أقلُّ إحكامًا وسُمُوًّا من آراء العلماء السابقين.
وبمُعَمَّرِ بن عبَّاد السُّلَمِيِّ يكتسب مذهب المعتزلة إقدامًا عجيبًا، ويتقدَّم نحو وَحدة الوجود؛ فهذا العالِمُ يَرَى أن الله لم يَخْلُق غيرَ الأجسام، لا الأعراض، والأجسام هي التي تُحدث الأعراض، وذلك إما طَبْعًا كالنار التي تُحدِث الإحراق، وكالقمر الذي يُحدث التلوين، وإما اختيارًا، كما هو أمر الحياة الحيوانية. وعند مُعَمَّر أن الجسم والفناء عَرَضان أيضًا؛ ولذا فإنهما لا يكونان سوى معلولَين مباشرين لأفعال الخالق، والخالق لا يُحدث سوى مادة عامة تَصْدُرُ عنها صُوَرُ جميع الموجودات بقوة ملازمة.
وبما أن مُعَمَّرًا قد أَبْعَدَ اللهَ من الطبيعة فإنه يُقصيه خارج متناول علمنا؛ وذلك استنادًا إلى رأيه البالغ الإطلاق في نَفْيِ الصفات الإلهية. ولا يمكن العلمَ — مثلًا — أن يُسنَد إلى الله؛ وذلك لأنه إما أن يكون موضعَ علمه، وهنالك يكون تفريقٌ بين العالِم والمعلوم، ومن ثَمَّ ثنائيةٌ في ذات الله، وإما أن يكون موضعُ علمه خارجًا عنه، وهنالك لا يكون عالمًا إلا بهذا الموضع الخارجي، وبذلك يعود غيرَ مطلق، ويؤدي هذا النقد إلى القول بأن مداركنا لا تُطَبَّق على الوجود الإلهي، وأن هذا الوجود لا يمكن أن يُعرف.
ومن الممتع قصةُ الطُّفَيْلي، الذي انساب بين جماعة من المانوية، معتقدًا أنه أتى جَمْعَ لَهْوٍ، فهذا الرجل أدرك خطأه حينما رأى نفسه ورأى المانويين مُقَرَّنِين في الأصفاد كما أمر المأمون، فلما أُتِيَ بهؤلاء الزنادقة أمام الخليفة قُتِلُوا. وأما الطفيليُّ، فقد صرَّح بأنه مستعدٌّ للكفر بماني وتدنيس صورته، قائلًا: إنه كان مخطئًا؛ فسُرِّي عن الخليفة. وإلى ثُمامة يُنسَب الرأي القائل: إن العالَم مِن عَمَل الله وَفْقَ الطبيعة؛ أي إن العالَم ليس نتيجةَ عمل حر من الخالق، وإنما يصدر عن الطبيعة الإلهية وجوبًا، وهكذا يكون العالَم قديمًا كقِدَم الله ووجهًا من الألوهية.
ويظهر مبدأ التناسخ ثانيةً لدى عالِمَين من فرقة النَّظَّام، وهما أحمد بن حائط وفضل الحُدثي، وقد طبَّقاه — مع التحديد وشيء من الغلظة — على أُناسٍ ليسوا صالحين تمامًا ولا أشرارًا تمامًا، على أناس ليسوا أهلًا للجنة ولا للنار؛ فأرواح هؤلاء الناس تَدخُل ثانيةً في أرواح أناس أو حيوانات وتستأنف حَيَوَاتٍ أخرى. ولهما — كذلك — تأويل مبتكر لرؤية الله يوم البعث؛ وذلك أن الناس لن يَرَوا الله نفسه، وإنما يرون العقل الأول؛ أي العقل الفعَّال، الذي تَسْرِي منه الصُّوَر إلى الموجودات. وعندهما أن هذا هو الذي قصده النبي حين قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر.» وهذا مثال مكانيٌّ في تطبيق فكرةٍ يونانية على نصٍّ إسلامي.
ويلوح أن الجاحظ زاول نفوذًا عظيمًا؛ فأسهم في نشر روح فرقته الحرِّ والانتقاديِّ بين كثير من المؤلفين. وأما فلسفته الخاصة التي تُعرَف دائمًا من خلاصة الشهرستانيِّ، فيلوح أنها لا تخلُو من دقة وقوة.
فلا حرية في العلم، والعلم يصدر عن وجوب طبيعي، وليست الإرادة نفسها غيرَ وجهٍ من العلم ونوعٍ من العَرَض، والعملُ الإراديُّ يُعَيِّن العمل الذي يُعرَف بفاعله، وليست الإرادة بالنسبة إلى العمل الخارجي غير ميلٍ.
وللأجسام — أيضًا — هذه الميولُ الطبيعية التي تَصْدُر عن قوًى باطنية، والجواهر وحدها أبدية، والأعراض هي المتقلِّبة والمتحركة، وهي تُعَبِّر — بسبب القوة الملازمة للجواهر — عن ظهور حياة الأجسام والروح، فإذا ما أُحسن إدراكُ هذا النِّظَام جيدًا وُجد أنه يؤدِّي إلى ضربٍ من علم الذرات الحية.
وأظهر الجاحظ الرأي الغريبَ القائلَ: إن المحكوم عليهم بالعذاب لا يُعذَّبون في النار إلى الأبد، وإنما يتحوَّلون إلى طبيعة النار. وأما من حيث نظريةُ الوحي، فإنه يُعزَى إلى الجاحظ رأيٌ غريب آخر قائل: إن القرآن جَسَدٌ مخلوق يُمْكِن أن يتحوَّل إلى إنسان أو إلى حيوان.
أجلْ، إننا نصل بالجاحظ — المتوفى سنة ٢٥٥ — إلى عصر الكنديِّ، الذي هو أولُ عظماء الفلاسفة، ولكننا، لكيلا نعودَ إلى المعتزلة مؤخرًا، نَتَتَبَّعُ — مع الإيجاز — تاريخَ هذه الفرقة المُمْتِعَة حتى زمن العالم اللاهوتي: الأشعري.
يمتاز الخياط — في هذا الدور — في مدرسة المعتزلة ببغداد؛ فقد أقام نظريةً ذات مظهر نفساني على شيء من الابتكار، فهو يُطلِق اسم الشيء على ما هو معروف؛ أي ما يمكن أن يُحَدَّثَ عنه، وللشيء عنده حقيقةٌ مستقلةٌ عن وجوده، وليس الموجود سوى صفةٍ تُضاف إلى الشيء؛ فالسواد — مثلًا — سواد حتى في العَدَم، وإن شئت فقل: إن الشيء حقيقي — قبلًا — في المعقول البسيط مع ماهيته وصفاته، وإن إيجاد الشيء يُحدَّد بإضافة صفة الموجود إلى هذه الماهية أو الصفات الحقيقية.
وفي مدرسة المعتزلة بالبصرة يتغلَّب اسمان، وهما: اسم الجبائي المتوفى سنة ٣٠٣، واسم ابنه أبي هاشم. وينطوي اختلاف هذين العالِمين في موضوع الصفات الإلهية على دقة متناهية. وقديمًا كان العالم الكبير أبو الهذيل قد أزال جميعَ الصفات حتى في معقول الوجود الإلهي، فيَجِدُ أبو هاشم أن هذا المعقول المحض على شيء من الفراغ، ويحاول أن يملأه، وأن يجعل منه صورةً عن الله أكثر حيوية.
وعند أبي هاشم أن الصفات وجوهٌ منفصلةٌ عن الوجود، ولكن مع كونها غير موجودة ولا معروفة بنفسها، فلا يمكن أن تكون موجودةً معروفةً إلا بالماهية الإلهية؛ فالعقل يُميز الشيء المعروف بذاته والشيء المعروف بإحدى صفاته. وهذه الأحكام التي يجمع العقل بها الصفات أو يَفصِلها لا تأتي لتوكيد الموجود وحده ولا لتوكيد الأعراض بجانب الموجود؛ ولذا، فإن الصفات أنواع وجوهٍ ذات وجودٍ نفسانيٍّ لدى مَن يعرف الوجود الإلهي، حتى إن نفسانية هذه النظرية مما أنكر الجُبَّائِي، وقد لاح للجبائي أن هذه الوجوه تُرَدُّ إلى أسماءٍ لا تنطوي على معقول ولا على تصورات للنفس نسبية محضًا، عاجزة عن المباهاة مثل صفات، وهو يكاد يلزم مذهب أبي الهذيل.
وكان العالِم اللاهوتي المشهور، الأشعري (٢٦٠–٣٢٤) — الذي يأتي في الذروة من تاريخ اللاهوت الفلسفي لدى المسلمين — تلميذًا للجبائي وابنه، ولكن بما أننا لا نريد الكلام عنه في هذا الكتاب فإن من الملائم أن نقف.
•••
قلنا إن المعتزلة كانوا أكثر الفِرق الإسلامية فلسفةً، وإننا لا نتعرَّض لتاريخ الفرق الكلامية والفقهية والصوفية والسياسية، وتكفي أسطر قليلة عن الفرق المعارضة للمعتزلة للإشعار بأفضلية هؤلاء، ولتَمَثُّل الحركة الفكرية الواسعة التي تمَّت في الدور الذي نَتَفَرَّغُ له، والذي ذكرنا أنه أكثر ما تلتفت إليه الفلسفة الصِّرْفة.
وعلى العموم، تُطلَق كلمة «الجَبَرية» — المشتقة من كلمة «الجَبْر» — على علماء الكلام المعارضين لمذهب حرية الإرادة، ويجب أن يُذكَرَ من بينهم جَهْمُ بن صفوان، الذي كان يُدَرِّس في تِرْمذ من بلاد ما وراء النهر، والذي قُتل في أواخر العهد الأموي. ومن رأي جهم أنه لا سلطان للإنسان على أفعاله، وأنه لا يمكن ألا يُوصَف بالخضوع لله؛ فالإنسان مُكْرَهٌ بالحقيقة، وأنه لا قدرة له ولا إرادة ولا حرية، والله يخلق جميع أفعاله كما يخلقها في الموجودات الأخرى، كما يخلقها في الشجر الذي ينبُت، والماء الذي يَجْرِي، والحجر الذي يسقط. وأعمال الإنسان الصالحة أو السيئة مُوجَبَةٌ، والثواب أو العقاب نتيجةٌ لهذه الأعمال الواجبة.
وتَرَى كيف تُبعِدُنا هذه النظريات الجافية من تحليل مفكري المعتزلة اللطيف ومن الفلسفة الحقيقية.