ابن سينا: سيرته، كتبه
ترجمة الفيلسوف لنفسه – حال الدولة في عصر ابن سينا – صلة ابن سينا بأمير بخارى – بعض مصنفات الشيخ الرئيس في الفلسفة، والمنطق، والأخلاق، والتصوف، والطب.
***
يجب على القارئ — الذي تفضل باتِّبَاعنا حتى هذا الموضع — أن يتخلَّصَ الآن من بعض المبتَسَرات، التي يمكن أن تكون لديه عند تناول هذا الموضوع. والواقع أن مما يَفْتَرِض بعض الناس، بسماعهم إيانا نتكلم عن فلاسفة عظماء من العرب، كونَ هؤلاء الرجال لم يكونوا عظماء إلا بالنسبة إلى زمنهم وأمتهم، فمن التهوُّر أن يُذهَب إلى مقارنتهم بالفلاسفة والعلماء المشهورين، الذين ظهروا في بيئات أخرى.
وأما نحن فنقول: إن من الجليِّ أن فُضَلَاء كالذين ذَكَرْنَا — من أمثال سرجس الرأس عينيِّ، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، والكندي، والفارابي — يستحقُّون بقوتهم الطبيعية وأصالة طبعهم — كما بعدد مؤلفاتهم وقيمة كتبهم — أن يُصَفُّوا بين أحسن أكفياء الذهن البشري من غير نظرٍ إلى البيئة والزمان. ومع ذلك فإنني أرى عند الكلام عن ابن سينا أن من غير الممكن بقاءَ أيِّ شكٍّ حول المقام الذي يجب أن يُوضَعَ فيه أمثال أولئك الرجال، وإنه — بعد النظر إلى هذا الرأس المنقطع النظير، ونُضْجِ مواهبه، وسرعة ذكائه، وسموِّ عقله، وجلاء ذهنه، وقوة فكره، وكثرة آثاره، واتساع مؤلفاته، التي وَضَعَها في أثناء ما كان يساور حياته من اضطراب متصل، وإلى صولة أهوائه وتنوُّع ميوله — يُقنَع بأن حاصل النشاط الذي بُذل في مثل حياته يفوق — بمراحل — نشاطَ ما تستطيعه المُثُل البشرية المتوسطة، حتى في زماننا أيضًا.
وتمتدُّ سيرة فيلسوفنا إلى عهد كلٍّ من الخلفاء: الطائع والقادر والقائم، وإذا ما قيست أسماء هؤلاء الخلفاء بأسماء أمثال المنصور والرشيد والمأمون وُجدت مجرَّدَةً من الرونق؛ وذلك أننا وصلنا — بالحقيقة — إلى دور انحطاط الخلافة العباسية؛ وذلك أن سلطان خلفاء بغداد المركزيَّ قد ضَعُفَ، وأنه ظَهَرَ مغامرون في مختلف الجهات، فأقاموا دُوَلًا متنافسة. ومما حَدَثَ في عهد المُتَّقِي سابقًا أن أميري الموصل الحمدانيَّيْن؛ ناصر الدولة وسيف الدولة، اللذين وَجَّهَا سلاحهما المجيد إلى البزنطيين والروس خارج العالم الإسلامي، نَازَعَا أمراء الترك حَرْسَ الخليفة مع لقب أمير الأمراء. وقد رأينا أن الفارابي لَزِمَ سيف الدولة.
ومما حَدَثَ في عهد المستكفي أن أولاد بويه — وهم أبناء فقير صائد للسمك على شواطئ بحر قزوين، فكانوا يزعمون أنهم من سلالة الملك الفارسي الساساني سابور ذي الأكتاف — دَخَلوا بغداد في سنة ٣٣٤ على رأس كتائبَ من الديلم، فخُلِعَ المستكفي، وعُمِّيَ واستُبْدِل المطيع به. ولما انتحل الزعيم البويهيُّ معزُّ الدولة لقبَ السلطانِ الجديد، أضاف اسمه في الخطبة على المنابر إلى اسم الخليفة، وكان الأمراء البويهيون يَمِيلون إلى معتقدات الرافضة، فَسَنُّوا — حتى ببغدادَ في يوم عاشوراء من سنة ٣٥٢ والسنين التالية — عيدَ الشيعة، تذكارًا للحسين بن علي، وأمروا بالاحتفال به.
وكان المُلك في بخارى للسامانيين، الذين يَرْجِع سلطانهم إلى أواخر القرن الثالث من الهجرة، وقد مات منصور بن نوح الساماني، الملقبُ بأمير خراسان سنة ٣٦٥، وخَلَفَه نوح بن منصور، فهذا كان أول حامٍ لابن سينا.
ولما كان ابن سينا صبيًّا وُكِلَ إلى معلم؛ ليتعلَّم القرآن ومبادئَ الأدب. ولما بلغ العاشرة من سنيه اتَّفَقَ له من التقدم ما كان يُثِيرُ به العجب، فَحَوَالَيْ هذا الزمن جاء بخارى دُعاةٌ من إسماعيلية مصر، كانوا يُعلِّمون نظريةَ مذهبهم في النفس والعقل، فاعتنقَ والد ابن سينا هذا المذهب. وأما فيلسوفنا فيقول لنا: «وكانوا ربما تذاكروا بينهم، وأنا أسمعهم وأُدرك ما يقولونه، ولا تقبَلُهُ نفسي.» وكذلك كان هؤلاء الدُّعاة يُعلِّمُون العلومَ الدنيوية كالفلسفة اليونانية، والهندسة، وحساب الهند، وقد تعلم ابن سينا هذا النوع من الحساب من تاجرِ بَقْلٍ، كما تَخَرَّج في الفقه والتردُّد فيه بنجاح على زاهد اسمه إسماعيل.
وبعد ذلك، أتى بخارى رجل اسمه الناتِلِيُّ، وكان يُدعى المتفلسف، وبَلَغَ أبو ابن سينا من الوَلَع بالعلوم — كما يلوح — ومن الحرص على تقدُّم ابنه ما أنزل معه هذا الرجل داره، وذلك رجاءَ أن يتعلَّم ابنه الفتى منه شيئًا كثيرًا.
أجل، تعلَّم ابن سينا مبادئ المنطق منه، غير أن هذا الرجل كان غيرَ عالمٍ بجزئيات هذا العلم، فكانت كلما عُرِضَتْ مسألة حلَّها التلميذ خيرًا من أستاذه. هنالك أخذ ابن سينا يدرُس بنفسه، فقرأ رسائل المنطق، وأنعم النظر في الشروح، وقد فَعَلَ مثل هذا حيال هندسة أُقليدس، وتعلَّم من أولها خمسة أشكال أو ستةَ أشكال على الناتِلِيِّ، ثم تَوَلَّى بنفسه حلَّ بقية الكتاب، ثم انتقل إلى دراسة المجَسْطِي، الذي أخبرنا أنه فهمه بسهولة عجيبة، ثم فارقه الناتِلِي متوجِّهًا إلى كركانج، ثم اشتغل ابن سينا بتحصيل الكتب من الفصوص والشروح من الطبيعيِّ والإلهي، «وصارت أبواب العلم تنفتح عليَّ» على حد تعبيره.
هنالك رغب في علم الطبِّ، وبما أن «علم الطبِّ ليس من العلوم الصعبة» — كما قال موكدًا — فقد بَرَزَ فيه في أقلِّ مدة، وبعد أن أخذ ابن سينا يقرأ الكتب المُصَنَّفَةَ في الطب، صار يتعهَّد المرضى، فانفتح عليه من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يُوصف، وبدأ الأطباء يَفِدُون للدراسة تحت إدارته، مع أن سِنَّه كانت لا تزيد على ستَّ عشرة سنة في ذلك الحين.
ولمَّا بَلَغَ هذه المرحلة، تَوَفَّرَ على القراءة سنةً ونصفًا، ولم يصنع في أثناء هذه المدة غير مطالعة كتب المنطق والفلسفة تكرارًا؛ قال ابن سينا: «وكلما كنت أَتَحَيَّر في مسألةٍ ولم أكن أظفر بالحدِّ الأوسط في قياسٍ ترددتُ إلى الجامع، وصليتُ وابتهلتُ إلى مُبدِعِ الكل، حتى فتح لي المُنغلِق ويسَّر المتعسِّر، وكنت أرجِعُ بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يديَّ، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غَلَبَنِي النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قَدَح من الشراب، ريثما تعود إليَّ قوتي، ثم أرجع إلى القراءة. ومتى أخذني أدنى نومٍ أحلُم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرًا من المسائل اتَّضَحَ لي وجوهها في المنام.»
وهكذا، تبحَّر الفيلسوف الشابُّ في سلسلة من العلوم المنطقية والطبيعية والرياضية إلى الحدِّ الذي يستطيع الرجل أن يبلُغَه. ويَرْوِي أنه عاد لا يأتي بتقدم بعد ذلك الحين، ثم تَوَجَّهَ إلى ما بعد الطبيعة، ولكن ما بعد الطبيعة لأرسطو ظل صعبَ المنال عليه زمنًا طويلًا، على الرغم من تلك الأهلية المتناهية وتلك القدرة المدهشة على العمل، التي يباهي بها مع التوكيد.
وما انفكَّ نوح بن منصور يكون سلطانَ بُخارى في ذلك الحين، ويمرض هذا الأمير، ويُدعى ابنُ سينا، ويَشْفِيه، ويصير ابن سينا من المقربين إليه بعد ذلك. ويطلُب ابن سينا من نوح أن يَسمَحَ له بدخول مكتبته، ويروي ابن سينا أن هذه المكتبة كانت منقطعة النظير، فهي دار ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضَّد بعضها على بعض، في بيت منها كتب الفقه، وفي آخر كتب الشعر، وهكذا. فاكتشف ابن سينا فيها من الكتب ما هو نادر، لم يَرَهُ من قبل ولا من بعد، وقد احترقت هذه المكتبة بعد حين، فزعم بعض الحساد أن الفيلسوف هو الذي أحرقها بنفسه؛ كيما يَكُونَ وحده حائزًا للمعارف التي اكتسبها فيها.
وكان ابن سينا في الثامنةَ عشرةَ من سنيه عندما فَرَغَ من هذه العلوم كلها. قال ابن سينا موكدًا: «وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يَتَجَدَّدْ لي بعده شيء.» فلما بَلَغَ ابن سينا الحادي والعشرين من عمره صار يؤلِّف، وقد ألَّف عادةً تلبيةً لطلب مختلف الوجوه المعروفين قليلًا في الغالب، ومن ذلك أن أحد جيرانه، أبا الحسين العَرُوضِيَّ سأله أن يُصنف كتابًا جامعًا في العلم، فَفَعَلَ ذلك، وسمَّى هذا الكتاب باسم هذا الرجل، وهو «الحكم العَرُوضية». وكان في جواره رجل آخر يقال له أبو بكر البرقي، فسأله أن يَضَع شرحًا فلسفيًّا؛ فصنف له كتاب «الحاصل والمحصول»، كما صَنَّف له كتابًا في الأخلاق.
ولما كان فيلسوفنا في الثانية والعشرين من سِنِيهِ فَقَدَ أباه، وتَغَيَّرَ وضعه؛ وذلك أنه دخل باب الحياة السياسية، وقلَّدَه السلطانُ شيئًا من أعماله. ثم يقول ابن سينا إن الضرورة دعته إلى الارتحال عن بخارى والانتقال إلى كُرْكَانْج، وهناك كان أبو الحسين السَّهْلِيُّ محبًّا للعلوم، ووزيرًا للأمير عليِّ بن مأمون، وأقام ابن سينا بهذا البلاط الصغير على زِيِّ الفقهاء، ثم دعت الضرورة إلى انتقاله — كما قال — إلى نَسَا ومنها إلى بادر، ومنها إلى طوس وإلى مدن أخرى، ومنها إلى جُرْجَان، وكان قصده أن يضع نفسه تحت حماية الأمير قابوس، ولكن بَيْنَا كان في صحبة هذا السَّرِيِّ اعتُقِل هذا الأخير، ومات في السجن.
ثم مَضَى ابن سينا إلى دِهِسْتَان، ومَرِض بها مَرَضًا صعبًا، وعاد إلى جُرْجان، واتصل به أبو عبيد الجوزجاني، وأنشأ في حاله قصيدةً جاء فيها:
وتُمثِّل الحالُ التي وَصَفَهَا ابن سينا على هذا الوجه ما كانت عليه حال العلم — أيضًا — في ذلك العصر.
وهنا تقفُ سيرة ابن سينا بقلمه، ومن المحتمل أن يكون قد كَتَبَهَا عملًا بطلب البوزجاني، ولهذا الأخير — الذي هو شاهد عياني لسلوك الفيلسوف — تَرَانا مدينين ببقيَّة القصة.
وفي جرجان كان يوجَد رجل يقال له أبو محمد الشيرازي، وكان أبو محمد هذا محبًّا للعلوم، وقد اشترى هذا الرجل دارًا للشيخ؛ أي لابن سينا، في جواره، وكان الشيخ يعطيه — في كل يوم — دروسًا في الفلك والمنطق. وصنَّف ابن سينا له — وهو في هذا المنزل — قسمًا من مؤلفاته.
ثم انتقل الفيلسوف إلى الريِّ، واتصل بسيدة الريِّ وابنها مَجْدِ الدولة، واشتغل بمداواة هذا الأمير، الذي كان مصابًا بالسوداء، وأقام بالريِّ إلى ما بعد قتل هلال بن بدر وهزيمةِ عسكر بغداد، فقضت الضرورة بأن ينتقل إلى قزوين ومنها إلى همذان، واتصاله بخدمة كَذْبَانَويه، والنظر في أسبابها.
وحَدَثَ في تلك الأثناء أن استدعاه أمير همذان، شمس الدولة، الذي كان مريضًا، فعالجه، وشفاه بعد أن أقام عنده أربعين يومًا بلياليها، وفاز من الأمير بخِلَع كثيرة، وصار من ندمائه، ويمضي زمن فيشترك الفيلسوف في حملة وجهها شمس الدولة إلى قِرْمِيسِّين، ويعود إلى هَمَذَان منهزمًا، ثم قُلد الوزارة، ثم ثار العسكر عليه، وخافوا منه على أنفسهم، وحاصروا داره، وقبضوا عليه وسَجَنُوه، واستولوا على جميع أمواله، وحاولوا أن يحملوا الأمير على قتله، فامتنع الأمير عن ذلك، ولكن الأمير أراد أن يُرضيهم فوافق على إقصائه عن السلطة، والتجأ ابن سينا إلى دار صديق له اسمه أبو سعد بن دَخْدُوك، حيث توارى أربعين يومًا، فلما انقضت هذه المدة عاد المرض إلى الأمير، وبحث عن ابن سينا، وقلَّده الوزارة مرةً أخرى.
واختار الجوزجاني هذا الوقت ليسأل الشيخَ أن يؤلِّف شرحًا عامًّا على كتب أرسطو، فذكر أنه لا فَرَاغ له إلى ذلك في ذلك الوقت، ولكن الجوزجانيَّ لم يكن ليرغب منه في غير تصنيف كتاب جامع لآرائه بلا اشتغالٍ بالرد على المخالفين، ففعل ابن سينا ذلك، وابتدأ بالطبيعيات من كتاب الشفاء، وكان ابن سينا قد صنَّف الكتابَ الأولَ من القانون في الطب، وكان يُقدِّم تأليف هذين السفرين العظيمين، وكان يجمع كلَّ ليلة في داره لفيفًا من أهل الفضل وطلبة العلم، وكان الجوزجاني يقرأ من الشفاء نَوْبةً، ويقرأ غيرُه من القانون نوبةً. وهكذا كانت تُتَنَاوَب القراءةُ حتى يكون كل واحد قد قرأ في دَوْره، ثم يُتناول الشراب، وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار خدمةً للأمير، وهكذا كان الشيخ يقضي حياتَه في هَمَذَان، بَيْدَ أن حاميه ذهب لمحاربة أمير مجاور، فعاودته علة القُولَنْج في الطريق، ومات.
ويُنادَى بابن شمس الدولة خَلَفًا له، ويُطْلَب من ابن سينا أن يَقُوم بمنصب الوزارة أيضًا، ويرفض ابن سينا ذلك، وقد اختفى في دار أبي غالبٍ الوطَّار، حيث داوم على تصنيف كتبه، فألَّف هناك فصولَ الطبيعيات، ومما بعد الطبيعة من كتاب الشفاء، خلا كتابي الحيوان والنبات، وقد كان يكتب خمسين ورقةً في كل يوم، ثم شَعَرَ بأنه في غير مأمنٍ بهمذان؛ فأرسل كتابًا في السرِّ إلى أمير أصبهان، علاءِ الدولة، طالبًا أن يسمح له بأن يكون في جواره، ويعلمُ تاج الملك — الذي صار صاحب السلطة في همذان — أمرَ هذا الكتاب، ويغضب، وقد حَثَّ في طلب الشيخ، فدل عليه بعض أعدائه، فأخذوه وأدَّوْه إلى قلعة يقال لها فرْدَجَان، وأنشأ هناك قصيدةً منها:
وبقي في هذه القلعة أربعةَ أشهر، وقام علاء الدولة بحملةٍ على همذان في ذلك الحين. وينهزم تاج الملك ومعه شمس الدولة، ويجيء للبحث عن ملجأٍ في هذه القلعة، التي كان ابن سينا معتقلًا فيها، ويعود علاء الدولة إلى أصبهان بعد قليل، فيغادر تاج الملك ملجأه، ويدخُل همذان آتيًا بالشيخ معه، وكان هذا الشيخ قد ألَّف كثيرًا من الكتب في سجنه.
وتَزِيد رغبة ابن سينا في مغادرة هَمَذَان عقب تلك الحوادث، ويخرج من هذه المدينة متنكِّرًا هو والجوزجاني وأخوه وغلامان معه في زي الصوفية، ويَصِلَان إلى أصبهان بعد أن قاسوا شدائدَ في الطريق، ويحسن علاء الدين قبول الفيلسوف، ويجد في مجلسه الإكرامَ والإعزاز الذي يستحقُّه مثلُه، ويأخذ في العمل ليلًا، وفي عقد المجالس الفلسفية وَفْقَ المنهاج الذي اتبعه في همذان، ويرأس الأمير نفسه هذه المجالس في ليالي الجُمُعة. وقد ألَّف ابن سينا كتبًا كثيرة في صحبة علاء الدولة، فأتمَّ الشفاء في السنة التي توجَّه فيها علاء الدولة إلى سابور خَواسْت، كما صنَّف في الطريق — أيضًا — كتبًا كثيرةً، ولا سيما «النجاة».
وقد استمرَّ الفيلسوف في البقاء بجوار علاء الدولة حتى وفاتِه، ومما حَدَثَ ذاتَ يوم أن ذَكَرَ للأمير أمرَ وَقْف الأرصاد الفلكية المعمول بها لدى الأقدمين في الدولة الإسلامية؛ نتيجةً للفتن والحروب، وأن من الصالح أن يُرجَع إليها؛ فلم يَلْبَث الأمير أن أعانه بالمال للقيام بهذا العمل، وقد عَهِدَ الشيخ إلى البوزجانيِّ بالإشراف على نَصْبِ الآلات، غير أن الأرصاد أُهملت بسبب كثرة التكاليف والأسفار.
وفي هذا الزَّمن، ألَّف ابن سينا كتبًا مختلفةً، ولا سيما الكتاب الذي يحمل اسم حاميه، وهو «الحكمة العلائية»، وهذا الكتاب بالفارسية عن الفلسفة، ومما لاحظ الجوزجاني مع الدَّهش أنه في الخمس والعشرين سنةً التي قام بخدمته فيها لم يره يقرأ كتابًا جديدًا قراءةً متتابعة، وإنما كان يَقْصِد المواضعَ الصعبةَ منه، فيحكُم بهذا في أمر الكتاب، فهذه الطريقة عادت لا تُثير عَجَبَنَا في الوقت الحاضر.
وقال كاتب سيرته، مصوِّرًا فيلسوفَنا: «وكان الشيخ قويَّ القُوَى كلها، وكانت قوةُ المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب، وكان كثيرًا ما يشتغل به، فأثَّر في مزاجه.» وكان القُولَنْج الذي أصابه سببَ موته، وكان من شدة الميل إلى الشفاء منه ما جعله يأخذ منه ثماني حُقَن في يوم واحد، فتقرَّح بعضُ أمعائه، وظَهَرَ به زُحار، وتَنْحَطُّ قواه نتيجةً للقولنج، ويبلغ من الضعف حدًّا لا يقدر معه على النهوض، ومع ذلك فقد استمرَّ على معالجة نفسه، واستطاع أن يمشي مجددًا، ولكنه لم يتحفَّظ، فأكثر من الانهماك في الشهوات والتخليط في التداوي، فلم يبرأ من العلة كلَّ البرء، فكان ينتكس، ويبرأ كلَّ وقت.
ويُزعم أنه أمر يومًا بوضع دانقَيْن من بِزْر الكَرَفْس في جملة ما يُحقن به، فوَضَع الطبيبُ الذي يقوم بمعالجته خمسةَ دوانق، فازداد مرضه من حِدَّة الكرفس، ودسَّ خادمه مقدارًا كبيرًا من الأفيون في أدويته، فأوجب هذا الخادم فيه بعض الضرر، وكان الخادم يخشى عاقبة أفعالٍ له إذا ما شُفِيَ الشيخ.
ثم قَصَدَ علاء الدولة همذانَ، وأتى بالشيخ معه فعاوده القولنج في الطريق، وشَعَرَ الشيخ بأن قوته سقطت، وأنها لا تَفِي بدفع المرض، وصرف أطباءه، وأخذ يقول: «المدبر الذي كان يُدَبر بدني قد عَجَزَ عن التدبير، والآن فلا تنفع المعالجة.» ثم توجَّه إلى ربه بأفكاره، واغتسل وتاب، ووزَّع كثيرًا من الصدقات، وأعتق مماليكه، وجَعَلَ يختم في كل ثلاثة أيام خَتْمةً، ثم مات بعد أيام قليلة.
لقد تُوفي سنة ٤٢٨، وعاش ثمانيَ وخمسين سنة، وقال فيه بعض الناس:
فرضي الملك بذلك مسرورًا، وشدَّ السَّرْج على فرسه، وذهب إلى الباب وانتظر، وذهب ابن سينا من ناحيته إلى الطريق المؤدية إلى الباب، وأخذ يقرأ إحدى الرقى، فجاءت فأرةٌ، فأمسكها ابن سينا وقتلها ووضعها في تابوت، ودعا أربعة فئران لحمله، ويداوم على رُقَاه، وتأخذ الفئران في المشي وهي تخبط أرجلها، وتحضر فئران المدينة كلها لحضور الجِنَازة، وتتقدَّم مصفوفةً إلى الباب حيث كان الملك، ويَسبِق بعضها الجنازة، ويسير بعضها الآخر خلفها، وينظر الملك، ولكنه لم يتمالكْ أن قهقه عندما رأى الفئران الحاملةَ للتابوت، وتموت جميع الفئران التي جاوزت الباب حالًا، وأما التي لم تزل داخل المدينة فقد انفصل بعضها عن بعض وفرَّت. فقال ابن سينا: «أيها الملك، لو أمسكت عن الضحك بضع دقائق أخرى ما بقي في المدينة واحدة منها، ولكُشِفَ الهم عن جميع الناس.» فندم الملك، ولكن ما الحيلة؟ لا فائدة من نَدَم بعد الأوان.
وهكذا، اتَّفَق لابن سينا — بعد موته على الأقل — شعبيةٌ ضخمةٌ وصُغرى نواحي المجد.
•••
توجد بين آثار ابن سينا رسائلُ عامةٌ عن الفلسفة، وأهم كتبه التي هي من هذا النوع هو سِفرُه الضخم المسمَّى «الشفاء». وقد رأينا أن ابن سينا ألَّفه دفعة بعد دفعة في أماكن مختلفة، فلما أتمَّه لخَّصَه في كتاب سماه «النجاة».
وفضلًا عن ذلك، فإننا نطَّلِع في جداول الجوزجاني على عنوان يصحبه شرح ذو غرابة، وهو كتاب الإنصاف، فيقول كاتب السيرة: إن ابن سينا شرح في هذا الكتاب جميع كتب أرسطو، وأنصف فيه المشرقيين والمغربيين، وقد ضاع هذا الكتاب في أثناء غارة السلطان مسعود، ولا نَدْرِي تلك القسمة الجغرافية، التي أشار إليها الجوزجاني.
وتَحمِل ترجمة لاتينية قديمة لهذه الرسالة محفوظة في فلورنسة إهداءً للسلطان نوح بن منصور، وهذا يدلُّ على كون هذه الرسالة من عَمَل ابن سينا في شبابه، وللفيلسوف رسالة في النفس نَقَلَها إلى اللاتينية أندره البِلُّوني فتوجد كمخطوط في المكتبة البودلية بأكسفورد (٢، رقم ٣٦٦)، وكانت قد طُبعت مع رسائل أخرى لابن سينا في البندقية سنة ١٥٤٦. وتوجد في معظم قوائم مكتبات أوربة رسائلُ في النفس، كالتي بسان بطرسبرغ (رقم ٢٠٥٢)، وبليدن (رقم ١٤٦٤ و١٤٦٧ … إلخ)، وبالإسكوريال (رقم ٦٥٦ و٦٦٣)، وبالمتحف البريطاني (القسم الثاني من القائمة، ص٢٠٩)، وبأماكن أخرى.
ومن ثَمَّ ترى أن الخطأ — الذي أوجب ترجمة النعت المشتمل عليه هذا العنوان — قديم ما دام يرجع إلى تلاميذ ابن سينا، الذين أرادوا الانحرافَ عن مذهبه ضِمْنَ معنى الوثنية الكَلْدِيَّة والتصوف الهنديِّ. ومن المحتمل جدًّا أن كان هؤلاء التلاميذ مفسِّرين غيرَ صادقين لأستاذهم، ولا شيء يُبيح لنا أن نذهب إلى أن مؤلفات ابن سينا الفلسفية الكبرى لا تُعَبِّرُ عن رأيه الحقيقي، وأن حكمته المشرقية تنطوي على مذهب غير ما جاء في الرسائل الصوفية التي نَعْرِفها له.
وسنضيف بعض الإشارات القصيرة عن كتب ابن سينا الطبية ومختلف مؤلَّفَاته. وكان كتابه الجليل المشهور، القانونُ في الطبِّ — الذي يوجد مخطوطًا في باريس (رقم ٢٨٨٥–٢٨٩١) وفي أماكن أخرى — قد طُبِعَ بالعربية في رومة سنة ١٥٩٣، كما تَجِدُ له عِدَّةَ طَبَعَات لاتينية، وأحصى مؤلِّفُنا مقالات من بقراط في الطب موجودةً في مكتبة أيا صوفية (رقم ٣٧٠٦)، ويوجد له كتاب في «الأدوية القلبية» (رقم ٣٧٩٩، تكملة)، وفي نُورِ عثمانية (رقم ٣٤٥٦)، وفي ليدن (رقم ١٣٣٠).
ونَظَمَ ابن سينا عددًا من القصائد في الطب، وأكثر هذه القصائد من وزن الرَّجَز؛ فسُميت «أراجيز» لهذا السبب. ومنها أرجوزة طويلة في الطب موجودة في المكتبة البُودِلِيَّة (رقم ٩٤٥) وفي ليدن، وأرجوزة في الحُميات والخُرَاجات (المكتبة البودلية أيضًا، الرقم نفسه)، وأرجوزة في المحاجم (في باريس، رقم ٢٥٦٢)، والأرجوزة المنظومة، التي توجد في سان بطرسبرغ (رقم ٣٤٥٨)، وفي باريس (رقم ١١٧٦ و٢٩٩٢ و٣٠٣٨).
•••
فإزاء الأثر البالغ ذلك الاتساع، والذي لا نستطيع أن نعرف عنه غير قسم قليل من الناحية العملية، وذلك في وقت نحاول أن نتكلَّم عنه مفصَّلًا، نشعر باستيلاء دُوارٍ وذُعر علينا، لو لم نعلم أن ذوي العقول الكبيرة في القرون الوسطى والقرون القديمة كانوا — في الغالب — أقلَّ اكتراثًا للابتكار مما للجَمْع، وأنهم كانوا أكثر كَلَفًا بالعلم مما بالإبداع عن إخلاص. ونعتقد أن من الواجب أن نُحَيِّي هنا — بسبب ابن سينا — أولئك العظماء السابقين، الذين كانت آثارهم وسِيَرُهم موسوعيةً بالتساوي، فهذه الآثار والسِّيَر — وإن لم تكن مثلًا كاملًا من الناحية الخلقية — كانت خلاصةً ورمزًا للنشاط الإنساني بأسره، وقد عادت أزمنتنا لا تَعرِض وجوهًا مماثلة، وترانا راضين عن اعتقادنا عدمَ وجود أناس من ذلك الطراز؛ وذلك لأن العلم بلغ اليوم من الاتساع ما لا يستطيع معه دماغ رجل واحد أن يستوعبه.
أجل، قد يكون هذا، ولكن من الإنصاف أن يُعْتَرَف بأن العِلْم اليوم ذو وَحدة وانسجام أقلَّ مما في الماضي، وأنه أقلُّ بساطةً مما كان عليه تحت ظل النظام المشَّائِي العظيم، وفضلًا عن ذلك، فإن وضعنا حيال العلم أقل تواضعًا وإخلاصًا؛ وذلك أننا أكثر حرصًا على إذاعة صِيتنا من إنعام نظرنا في قياس واسع من العلم، وأننا أكثر سعيًا وراء المراتب من وَلَعنا بالدرس، وأننا نطلب الألقاب أكثر من طلبنا للمعارف، ونحن إذ نَوَدُّ أن نكون أكثر كمالًا من أجدادنا في الاختصاص نوافق أن نكون ذوي أذهانٍ أضيقَ أفقًا، وطباعٍ أقلَّ قوةً، ونفوسٍ أقلَّ حريةً.
ووُلد أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني سنة ٣٦٢ في إحدى ضواحي خوارزم، التي هي خيوة في الوقت الحاضر، وكان في البداءة تحت رعاية بني مأمون بخوارزم؛ أي تحت حماية هؤلاء الآل الذين كانوا تابعين للسامانية، ثم عاش سنين كثيرة في جرجان أو هرقانية الواقعة في جنوب بحر قزوين الشرقي، وفي بلاط الأمير قابوس، ثم عاد إلى مسقط رأسه، حيث شاهد قتل الأمير مأمون وفتح هذه البقعة من قبل محمود الغزنوي الذي أتى به إلى أفغانستان سنة ٤٠٨. فمنذ هذا الحين أقام بغزنة خاصة، وساح في الهند على الخصوص. وقد توفي البيروني سنة ٤٤٠، واشتهر مثل عالم جغرافي ومثل مؤرخ ورياضي وفلكي، كما اشتهر بسعة اطلاعه على آداب الهندوس وطبائعهم وعاداتهم.