منطق ابن سينا
أهمية المنطق في المناهج القديمة – كيف أوضح ابن سينا غرض المنطق في «النجاة» – فائدة صناعة المنطق – أيساغوجي لفرفريوس الصوري.
***
والحق أن المنطق كان آلة العلوم وجهازها، والمنهاجَ الذي يُعِدُّ تقدمَها، والقانون الذي يَصُونها من الخطأ. وكان المنطق نفسه يتصل ببعض هذه العلوم إلى حد ما، ويرتبط فيها، ولا سيما علم النفس وما بعد الطبيعة. وكان هذا الاتصال المتبادَل لا يؤلِّف حلقةً مُفْرَغةً بالحقيقة، بل يؤلِّف توفيقًا مع الإيضاح بين الأداة وموضوعها، وملاءمةً تتحقَّق الوَحدة الفلسفية بها ما دامت مبادئ المنطق تُعِدُّ نتائج العلوم، وما دامت العلوم ترقب المنطق.
وإذا كانت هذه أهميةَ هذا العلم في المناهج القديمة، فإن من الواجب أن نشغل بالنا به. فعلى القارئ — عند رغبته في اتباعنا — أن يَحْتَمِل سماع قولٍ عنه مهما كان الرأي الذي يَحْمِلُ حوله في الوقت الحاضر. ومع ذلك فإننا لا نتورَّط في وَحَل من التمَحُّكات، والتمحكات مما لم يأتِ به ابن سينا أيضًا، فمنطقه واضح صريح عظيم الأسلوب، ولا غرو، فهذا المنطق نسيج عصر صالح، وهو خالٍ من الأشكال المعقَّدة الجافية التي أظهرها هذا العلم في القرون الوسطى السُّفْلَى؛ ولهذا فلا احتياج إلى تجريد فكر ابن سينا من كلِّ زخرفٍ حشوي، يَنِمُّ على فسادِ ذوقٍ ما دام هذا الحشو غيرَ موجود في أثر فيلسوفنا.
وإنا سنقتصر — بعد هذا التنبيه — على إيضاحنا في هذا الفصل ماذا كان غَرَضُ المنطق في ذهن ابن سينا، وماذا كانت أقسامُ هذا العلم المهمة في مدرسته، وماذا كانت الفكرة التي كوَّنها لنفسه عن العلم على العموم.
وكل واحد من القياس والحدِّ، فإنه معمول ومؤلف من معانٍ معقولة بتأليف محدود، فيكون لكل واحد منهما مادة منها أُلِّف، وصورةٌ بها يَتِمُّ التأليف. وكما أنه ليس عن أيِّ مادة اتَّفَقَتْ يصلح أن يُتَّخَذَ بيت أو كرسي، ولا بأي صورة اتفقت يمكن أن يتمَّ من مادة البيت بيت، ومن مادة الكرسي كرسي، بل لكل شيء مادة تخُصُّه وصورة بعينها تخصه، كذلك لكل معلوم يُعلم بالروية مادة تخصه، وصورة تخصه منهما يُصار إلى تحققه.
وكما أن الفساد في اتخاذ البيت قد يَقَع من جهة المادة وإن كانت الصورة صحيحةً، وقد يقع من جهة الصورة وإن كانت المادة صالحةً، وقد يقع من جهتيهما جميعًا، كذلك الفساد في الروية قد يَقَع من جهة المادة وإن كانت الصورة صحيحةً، وقد يقع من جهة الصورة وإن كانت المادة صالحةً، وقد يقع من جهتيهما جميعًا.
فالمنطق هو الصناعة النظرية التي تُعَرِّف أنه من أيِّ الصور والموادِّ يكون الحدُّ الصحيح، الذي يُسمَّى بالحقيقة حَدًّا، والقياسُ الصحيح، الذي يُسمَّى بالحقيقة برهانًا، وتُعرف أنه عن أي الصور والموادِّ يكون الحد الإقناعي، الذي يُسمَّى رسمًا، وعن أي الصور والموادِّ يكون القياس الإقناعي، الذي يُسمى ما قَوِيَ منه وأوقع تصديقًا شبيهًا باليقين جدليًّا، وما ضعف منه وأوقع ظنًّا غالبًا خَطابيًّا، وتُعَرف أنه عن أيِّ صورة ومادة يكون الحد الفاسد، وعن أي صورة ومادة يكون القياس الفاسد، الذي يُسمَّى مغالطيًّا وسوفسطائيًّا، وهو الذي يتراءى أنه برهاني أو جدلي، ولا يكون كذلك، وأنه عن أي صورةٍ ومادةٍ يكون القياس الذي لا يُوقِع تصديقًا البتَّة، ولكن تخييلًا يُرغِّب النفس في شيء، أو يُنفرها ويُقزِّزها، أو يبسطها، أو يقبضها، وهو القياس الشعري.
فهذه فائدة صناعة المنطق، ونسبتها إلى الروية نسبةُ النحو إلى الكلام، والعَروض إلى الشعر، لكنَّ الفطرة السليمة والذوق السليم ربَّما أغنيا عن تعلُّم النحو والعَروض، وليس شيء من الفطر الإنسانية بمستغنٍ في استعمال الروية عن التقدم بإعداد هذه الآلة، إلا أن يكون إنسانًا مؤيَّدًا من عند الله تعالى.»
وليُلاحظ من هذه الديباجة مقدار الأهمية، التي يُعلِّقها ابن سينا على الحدِّ، وكيف قابل به القياس، عادًّا إياهما معًا وسيلتين أساسيتين لفنِّ المنطق، وتدل هذه الحال على اتساع الفكرة التي كوَّنها عن هذا الفن، وهي ملاحظةٌ تقوى — كذلك — بِاكْتِراثه لإدخال دراسةِ مختلفِ درجاتِ اليقين، ودراسةِ جميع طرق الإقناع من البرهان الصارم حتى الإيحاء الشعري، إلى موضوع المنطق.
لقد قُسِّم المنطق — خلا العلوم الأخرى في هذه الرسالة — إلى تسعة أقسام مطابقة لكتب أرسطو الثمانية المسبَّقَة بإيساغوجي فُرفُريوس، وقد عُبِّر عن موضوع هذه الأقسام التسعة والكتب التي تطابقها على الوجه الآتي، وهو: إن موضوع القسم الأول هو الألفاظ والمعاني، ويشتمل عليه كتاب «إيساغوجي». وإن موضوع القسم الثاني هو عدد المعاني الذاتية والشاملة بالعموم لجميع الموجودات، ويشتمل عليه كتاب قاطيغورياس «المَقُولات». وإن موضوع القسم الثالث هو تركيب المعاني المفردة حتى تصير قضيةً، ويشتمل عليه كتاب أرمينياس «العبارة». وإن موضوع القسم الرابع هو تركيب القضايا لتكوين دليل يُعرف به المجهول، ويشتمل عليه كتاب أنولوطيقا الأول «التحليل بالقياس».
وإن موضوع القسم الخامس هو الشروط التي يجب أن تقوم بها مقدمتا القياس، ويشتمل عليه كتاب أنولوطيقا الثاني «البرهان». وإن موضوع القسم السادس هو القياسات المحتملة النافعة عند عدم وجود البرهان التام، ويتضمَّنه كتاب طوبيقا «الجدل». وإن موضوع القسم السابع هو المغالطات، ويتضمنه كتاب سوفسطيقا «نقض شُبَه المغالطين». وإن موضوع القسم الثامن هو تعريف المقاييس الخطابية البلاغية النافعة في مخاطبات الجمهور، ويتضمَّنه كتاب ريطوريقا «الخطابة». وإن موضوع القسم التاسع هو الكلام الشعري، ويشتمل عليه كتاب أبوطيقا «الشعر».
وأقام فُرفُريوس — الذي اتَّفَقَ لكتبه في المنطق نفوذٌ عظيم في القرون الوسطى — نوعًا من فلسفة اللسان ما بَقِيَ معه أداةً لاصقةً بمنطقيات أرسطو وما رَاقَ معه العربَ، على الخصوص، بما فيه الكفاية، وذلك بمقدمته للمنطق أو بإيساغوجي. والعرب قد بَدَوْا نحويين بارعين جدًّا، والعرب قد قاموا بتقديس لغتهم باكرًا جدًّا، فحَلَّلُوها بحسٍّ فلسفي عميق، وكان لسانهم نفسه يفتح سبيلًا لهذا العمل؛ أي كانت العبارة العربية، البسيطة المرنة المؤلَّفة من جمل قصيرة عناصرها ذات أدوار محدَّدة بلا التباس، ويربط بينها على مائة شكل مختلف أُلْهُوَّةٌ من الحروف، حسنة الإعداد للقياس السكلاسي، وكان من طبيعة طريقة اشتقاق الكلمات التي تتناول الفكرة في أصلها أول الأمر، فتدل بعدئذ على جميع الوجوه وجميع المظاهر بوساطة عدد قليل من الحروف الطارئة أو التحولات اللفظية، أن تَشْحَذَ الذهن الفلسفي وتساعده.
وقد قامت مدرستا نحويِّي العرب العظيمتان — أي مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة — باكرًا، وذلك منذ القرن الأول بعد الهجرة، فدَرَسَتا الأشعار القومية القديمة وآي القرآن، وجَعَلَ الوحيُ القرآني المنزَّل بلغة العرب من غير أن تجُوز ترجمته هذا اللسان مبجَّلًا مقدسًا حتى عند الأجانب، فبادر هؤلاء إلى خدمة مجده.
أجل، تُرى نتيجة أعمال هؤلاء النحويين الأولين قد كُثِّفَت في كتب ظهرت بعد زمن، ولكن مع القدم البالغ، ككتاب النحو المشهور لسيبويه الفارسي، ما دام هذا العلامة قد توفي سنة ١٧٧ أو سنة ١٨٠ من الهجرة، ومن ثم ترى أن اللسان العربي دُرس فلسفيًّا قبل بدء الحركة الفلسفية العظيمة، وأن النحويين وضعوا — كما وضع فرفريوس — ضربًا من إيساغوجي أو مقدمةً للتوسعات التي تقع فيما بعد.
وقد يكون من المفيد أن يُذكَر كيف يظهر هذا القسم الأول من المنطق في هذه المناهج السكلاسية القديمة. ويدور الأمر — كما هو معلوم — حول القيمة التي تكون للكلمات بالنسبة إلى المعاني التي تنطوي عليها، فيُرى هناك ما يكون اللفظ المفرد واللفظ المركب، واللفظ الذاتي واللفظ العَرَضي، والمُعَيَّن والمطلق، والكلي والجزئي. ويُعرف هناك ما تكون الألفاظ الخمسة التي هي: جنس، ونوع، وفصل، وخاصة، وعَرَض عام، وكيف يَجِبُ أن يُجاب عن السؤالين: ما هو؟ ما هذا الشيء؟ فهذان السؤالان يؤدِّيان إلى مذهب المقولات ومذهب العلل، بَيْدَ أن هذين المذهبين لم يُلمَسَا غير لَمْس سطحيٍّ جدًّا في هذا البدء، ولَأَنْ يُنتظر للكلام عنهما خير من أن نلقاهما في مكان آخر.
وقد أشار ابن سينا في أثناء دراسته للأحكام إلى خاصِّيَّةٍ طريفة، أو خاصيتين في اللغة العربية؛ وذلك أنه عندما يتكلم مثلًا عن بعض القضايا السيئة التعيين فلا يُعرَف هل الحامل — كالرجل — قد أُخذ بمعنًى كلي أو جزئي، فلاحظ أن هذا لا يمكن أن يكون في العربية، والواقع أنه يُعرف في هذه اللغة، بما لا شك فيه، وذلك بحرف التعريف أمام كلمة «الرجل»، كونُ المقصود هو الرجلَ كليًّا، فإذا نُوِّنَ الاسم فقيل: «رجلٌ» قُصِدَ رجل جزئيًّا.
فيقولون بالعربية: لا شيءَ من «ﺟ» «ب»، ويكون مقتَضَى ذلك عندهم أنه لا شيء مما هو «ﺟ» يُوصَف البتةَ بأنه «ب» ما دام موصوفًا بأنه «ﺟ»، وهو سلب عن كل واحد واحد من الموصوفات ﺑ «ﺟ» ما دامت موضوعةً له إلا أن لا تُوضع له، وكذلك ما يقال في فصيح لغة الفرس، هيج «ﺟ» «ب» نيس، وهذا الاستعمال يشمل الضروري وضربًا واحدًا من ضروب الإطلاق الذي شرطه في الموضوع، وهذا قد غلَّط كثيرًا من الناس أيضًا في جانب الكليِّ الموجب، لكن السالِبَ الكليَّ المطلق بالإطلاق العام أولى الألفاظ به هو ما يساوي قولنا: كل «ﺟ» يكون ليس ﺑ «ب»، أو يَسلُب عنه «ب» من غير بيان وقت وحال، وليكن السالب الوجوديُّ وهو المطلق الخاص ما يساوي قولنا: كل «ﺟ» ينفي عنه «ب» نفيًّا غير ضروري ولا دائم، وأما في الضرورة، فلا بُعد بين الجهتين، والفرق بينهما أن قولنا: كل «ﺟ» فبالضرورة ليس ﺑ «ب» يجعل الضرورة لحال السلب عند واحد واحد.
وقولنا: بالضرورة لا شيء من «ﺟ» «ب» يجعل الضرورة لكون السلب عامًّا ولحصره، ولا يتعرَّض واحد لواحد إلا بالقوة، فيكون مع اختلاف المعنى ليس بينهما افتراق في اللزوم، بل حيث صحَّ أحدها صحَّ الآخر، وعلى هذا القياس فاقضِ في الإمكان.»
وقد قلنا آنفًا: إن القياسَ المنطقيَّ عند ابن سينا معتدل جدًّا، وليس لدينا أيُّ قصد في الوقوف عنده، فمن السهل على القارئ أن يَتَمَثَّلَ ما يكون القياس البسيط الحسن الترتيبِ المكتوب بلا ارتباك ولا إسهاب فعُجِل فيه، كما في المثال السابق، استعمال ملائم للحروف عَرضًا لحدود القياس، وأُوضِحَ ببعض الأمثلة القليلة، وقد أُضيفت إلى دراسة القياس المنطقي دراسة التراكيب القياسية التي يُسميها المؤلِّف بالقياسات المركَّبة.
وجميع ما استشهدنا به وما قلناه يكفيان للإشعار بسِمَة منطق ابن سينا الواضحة الوجيزة الدقيقة الثابتة، حيث يَتْبَع المؤلِّف أرسطو وشارحيه بكل استقلال، وذلك من غير أن يبدو عبدًا لرسمهم ولا لتعليمهم، وإنما كان يُكملهم ويكافحهم ويقوِّمهم في بعض الأحيان. ومع ذلك فإننا نخشى أن يَفرغ صبر القارئ، وأن تفوته أهمية هذا التقدم التفصيلي الذي حقَّقَه ابن سينا في المنطق اليوناني. فترانا نبادر إلى إيصاله إلى قسم هذا المنطق، الذي ظلَّ حيًّا، والذي موضوعه فن التصديق على العموم ونظرية العلم.
وقد رأينا في تعريف المنطق أن العلم تَصَوُّرٌ وتصديق. وقد بيَّن ابن سينا — الذي لم يكن عالمًا نفسيًّا نفَّاذًا أقلَّ منه عالمًا منطقيًّا دقيقًا، وذلك في منطقه — أن هذين العنصرين متحدان اتحادًا وثيقًا، وأنهما يتعاونان تعاونًا شديدًا في جميع درجات العمل الذهني.
وفي المنطق يتناول ابن سينا بالتدريج شأنَ الإحساس كمبدأ للمعرفة، فيُتاح له الكلام عنه فيما بعد، ومع ذلك فإن الكلمات القليلة التي تكلَّم بها عنه هنا ذات فائدة، وذلك كما أنه لاحَظَ عَدَمَ وجود قياس بلا تصور وَكَّدَ عدم وجود محسوس بلا قياس. «فالمحسوسات هي أمور أوقع التصديق بها الحسُّ بشركة من القياس»؛ ومن ثم يُرَى أنه يريد بالمحسوسات مُجَرَّبات الحواسِّ، وهو يُوضِحُ الدورَ الذي تمثِّله الذاكرة في هذه التجربة، فيقول: «إذا تكرَّر في إحساسنا وجود شيء لشيء، مثل الإسهال للسقمونيا، والحركات المرصودة للسماويات، تكرَّر ذلك منا في الذكر، وإذا تكرَّر منا ذلك في الذكر حَدَثَتْ لنا منه تجربة بسبب قياس اقترن بالذِّكر، وهو أنه لو كان هذا الأمرُ كالإسهال مَثَلًا عن السقمونيا اتفاقيًّا عرضيًّا، لا عن مقتضى طبيعته، لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف، حتى إنه إذا لم يوجد ذلك استندرت النفس الواقعة، فطلبت سببًا لِمَا عَرَضَ من أنه لم يوجد. وإذا اجتمع هذا الإحساس وهذا الذكر مع هذا القياس أذعنت النفس بسبب ذلك التصديق بأن السقمونيا من شأنها إذا شُربت، أن تُسْهِل صاحبها.»
وفضلًا عن الذاكرة، فإن الوهم يُمَثِّل عند ابن سينا دورًا مهمًّا في مبادئ قياساتنا، «فالعقل يبتدئ من مقدمات، يساعده عليها الوهم»، وتنطوي هذه المقدماتُ على حقائقَ متفاوتة، فبعضها ما هو من الإيمان، «والمقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول إما لأمر سماوي يختص به، أو لرأي وفكر قويٍّ تميز به، مثل اعتقادنا أمورًا قبلناها عن أئمة الشرائع»، وأخرى مقدماتُ حسٍّ كلي.
«فالذائعات مقدمات وآراء مشهورة محمودة، أوجب التصديقَ بها، إما شهادة الكل — مثل أن العدل جميل — وإما شهادة الأكثر، وإما شهادة العلماء أو شهادة أكثرهم أو الأفاضل منهم فيما لا يخالِف فيه الجمهورُ». ومثل هذا النوع من المقدمات — أيضًا — المبادئُ التي تقوم على العادات المكتسبة منذ الصبا، أو القائمة على أهواء يكون الإنسان عُرضةً لها، أو على «الاستقراء الكثير»، فليست حقيقةُ مثل هذه المقدمات مطلقةً، ثم توجد مبادئ العقل (الأوَّليَّات)؛ «فالأوليات، هي قضايا ومقدمات تَحدُث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب يُوجِب التصديق بها إلا ذَوَاتها … فوجب أن يُصدِّق بها الذهن ابتداءً ومن غير أن يشعر»، ومن هذه الأوَّليات — مثلًا — كونُ الكل أعظمَ من الجزء.
أجل، إن للحسِّ نصيبه — أيضًا — في تكوين هذا النوع من المقدمات، ولكن ليس النصيب الرئيس. «نعم، قد يمكن أن يُفيده الحسُّ تصوُّرًا للكل وللأعظم وللجزء. وأما التصديق بهذه القضية فهو من جِبِلَّته (أي العقل).»
وموضوعات العلوم هي الأمور التي تُوضَع في العلوم، وتُطلب أعراضها الذاتية مثل المقدار للهندسة، ومثل العدد للحساب، ومثل الجسم من جهة ما يتحرك ويسكن للعلم الطبيعي، ومثل الموجود والواحد للعلم الإلهي، ولكلٍّ منها أعراض ذاتية تخُصُّه مثل المنطق والأصمِّ للمقادير، ومثل الشكل لها، ومثل الزوج والفرد للعدد، ومثل الاستحالة والنموِّ والذبول وغير ذلك للجسم الطبيعي، ومثل القوة والفعل والتمام والنقصان للموجود، وبالحدِّ تُعَيَّن موضوعات العلم، فلنقل بضع كلمات عنها.
والمسائل التي تُوضع في العلوم هي — عدا مسائلَ معرفةِ ما الشيء، وهل هو موجود — ما يؤخذ في الجواب عنه بالحد والرسم، ومسائل معرفة أين يكون هذا الشيء ومتى يكون، وكيف يكون، ولماذا يَكُون، وتسُوقُنا هذه المسائل المختلفة، التي تستدعي نظريةَ المقولات ونظريةَ العلل، إلى حدود المنطق وإلى النقطة التي يَلْمَس عندها هذا العلم ما بعد الطبيعة.
تُقسَّم الفلسفة، التي هي اسم يُطلق على مجموع علوم الحكمة، إلى قسمين: الفلسفة النظرية، والفلسفة العملية؛ فغرض الأولى هو الحقيقة، وغرض الثانية هو الخَيْر.
وتقسم الفلسفة النظرية إلى ثلاثة أقسام، وهي: العلم الأسفل ويُسمَّى الطبيعيات، والعلم الأوسط ويُسمى الرياضيات، والعلم الأعلى ويُسمَّى الإلهيات، وكذلك الفلسفة العملية تُقسَّم إلى ثلاثة أقسام، وهي: علم ما يجب أن يكون عليه الإنسان مِثْلَ فرد، وهو الأخلاق، وعلمُ ما يجب أن يسلكه حيالَ بيته وزوجه وأولاده وأمواله، وهو الاقتصاد (تدبير المنزل)، وعلم الحكومات ونظام المدن الكاملة والناقصة، وهو السياسة.
ويُقسَّمُ كلٌّ من العلوم التي تتألَّف الفلسفة النظرية منها إلى طائفة من العلوم الصِّرفة أو الأولى، وإلى طائفة من العلوم التطبيقية أو الثانية.
والعلوم التي تُصَفُّ في الطبيعيات الصِّرفة هي: علم الموجودات على العموم، والهَيُولي، والصورة، والحركة، والمحرِّك الأول، وعلمُ الأجسام الأولى التي يَتَكَوَّن منها العالَم والسماوات والعناصر وحركاتها، وعلمُ الكون والفساد، وعلمُ الآثار العلوية، وعلم المعادن، وعلم النباتات، وعلم الحيوان، وعلم النفس وخواصِّها، سواءٌ أفي الحيوان أم في الإنسان، ويربط المؤلِّف بهذا القسم الأخير من العلم الطبيعي الصرفِ مسألةَ خلود النفس.
وتشتمل الطبيعيات التطبيقية على الطبِّ، والتنجيم، والفِراسة، وتفسير الأحلام، وعلم الطَّلَاسِم، وعلمِ السحر، وعلم السيمياء.
ووُضعت أربعةُ علوم في الرياضيات الأولى، وهي: العدد، والهندسة، والفلك، والموسيقى.
وتُطابِقُ هذه العلومَ في الرياضيات الثانية علومٌ تطبيقية مختلفة؛ فيرتبط في علم العدد الحساب الهندي السِّتُّوني، والجبر، ويرتبط في علم الهندسة المساحة، والميكانيكا، وجر الأثقال، وصُنعُ الأوزان والموازين، وعلم الآلات الجزئية، وعلم المناظر والمَرَايا والمائيات (نقل المياه)، ويرتبط في علم الفلك فنُّ وَضْع الأزياج والتقاويم، ويرتبط في الموسيقى إنشاءُ الآلات الغريبة مثل الأرغل، وما أشبهه.
وللإلهيات الأولى خمسة أقسام، وهي: (١) علم المعاني العامة التي تشتمل على جميع الموجودات؛ أي: الهُويَّة والواحد والكثرة والوِفاق والخلاف والتضادُّ والقوة والفعل والعلة والمعلول. (٢) معرفة المبادئ الأولى للعلوم. (٣) النظر في إثبات الحق الأول وتوحيده، والدلالة على تفرُّده وربوبيته، وغير ذلك من الصفات. (٤) علم الجواهر الأولى الروحانية التي هي أقرب المخلوقات إلى الحق الأول كالكَرُوبيين، وعلم الجواهر الروحانية الثانية التي تكون دون الأولى، كالملائكة المُوكَلِ إليهم أمر السماوات والحَمَلَة لعرش الإله أو المدبرين للطبيعة. (٥) علمُ الوجه الذي تَخْضَعُ به الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية.
وأخيرًا؛ تشتمل الإلهيات الثانية على علم الوحي وعلم المعاد؛ أي الثواب والعقاب في الحياة الأخرى.