طبيعيات ابن سينا
الطبيعيات عند القدماء – دخول قسم من علم النفس عند الشيخ الرئيس تحت عنوان الطبيعيات – مبدأ الكمالات ومبدأ القوة عند ابن سينا – القياس الزماني والسرعة – المكان وتعريفه عند ابن سينا – الخلاء والحركة – قابلية الأجسام للتجزُّؤ.
***
جرت العادةُ في القرون القديمة والقرون الوسطى على عَدِّ الطبيعيات قسمًا من الفلسفة؛ وذلك لأن الفلسفة كانت علمَ الموجودات وأحوالها وَفْقَ تعريفها القديم على الخصوص، وأدقُّ من ذلك أن يقال: إن الطبيعيات كانت تدخل ضِمْنَ نطاق الفلسفة لاحتياجها إلى ما بعد الطبيعة، ولاحتياج ما بعد الطبيعة إليها، وكانت الطبيعيات في نظر قدماء الفلاسفة تُوجَدُ في حقلِ الملاحظة وحقل العقل، وما كانت الملاحظة المحسوسة لِتستغنيَ عن القياس ولا العقلُ عن الحواسِّ، فما كنتَ تَجِدُ هوةً بين الدائرتين على الإطلاق.
ومن عدم الإنصاف نحو المناهج السِّكُلاسِيَّة؛ أن اتُّهِمَت بتكوينها حول الموجودات آراءً سابقةً من غير اكتراثٍ للتجربة، فلو أُحْسِنَ إدراك روح هذه المذاهب المُسِنَّة لرُئِيَ أنه لا شيء أكثرُ خطأً من ذلك؛ وذلك أن القياس والملاحظة متداخلان في ذلك، وأن البحث النظريَّ قائم على العلم الوضعيِّ في ذلك، وأن العلم منتظِمٌ في ذلك بواسطة البحث النظري، فيوجد في ذلك انسجام بين الفكر والموضوع وبين المجرَّد والعين، وبين العقل والأشياء. والمبدأ السابقُ الوحيدُ الذي تَجِدُهُ هنالك هو المبدأ الذي يُوَكِّد وجودَ هذا التوافق، والذي يطالب الفيلسوفَ بيقين سابق بإمكان تطبيق العقل على الأشياء.
وليُعنَ بدراسة تكوين فلسفة القرون الوسطى، وليُنظرْ إلى أنها مدينة بأغاليطها — ضبطًا — لوضعها نفسَها ضمن تابعيةٍ وثيقةٍ لعلمٍ كان لا يزال ناقصًا، لا لأنها استَخَفَّتْ بالعلم الوضعيِّ.
وسنبدأ بإلقاء نورٍ على هذا الأمر في الفصل الحاضر، وما نقوله، بعد ذلك، عن علم النفس وما بعد الطبيعة يُتِمُّ إقامته.
ويستند علمُ النفس إلى الطبيعيات بلا انقطاع، وفي سِكُلاسيَّة ابن سينا يدخُل قسمٌ من علم النفس، وهو الذي يَدُور موضوعُه حَوْل علم الأنفُس، تحت عنوان الطبيعيات. وفضلًا عن ذلك، فإن الطبيعيات ترتبط بما بعد الطبيعة؛ وذلك لأن سلسلة الموجودات متصلة من الهَيُولي إلى العقل، ثم إن من المفيد أن يُذكر وجود صلات متبادَلة تجمع بين الطبيعيات والمنطق. ولا غرو، فالمنطق يستعير من العالم الطبيعي كثيرًا من المبادئ التي يحتاج إليها، ولا سيما مبادئُ المقولات والعلل، كما أن المنطق، من ناحية أخرى، يُعِيرُ الطبيعيات آلة مناهجه ونابض قياساته، ما دمنا نسلِّم بأن قوانين العقل تُطَبَّق على الطبيعة.
ولا نَقْصِدُ القيام هنا بعرضٍ تامٍّ لطبيعيات ابن سينا، فتاريخ الفلسفة، لا تاريخ العلوم هو ما نَرَى شَغْلَ بالنا به، ولكن بما أننا أشرنا — بالضبط — إلى أن الطبيعيات السِّكُلاسية تشتمل على فلسفة، فإنه يجب أن نستخرج منها ما يتَّصِل بموضوعنا، وهذا ما سنصنعه بسهولة، وذلك بدرسنا بعض مبادئ هذا العلم الرئيسة أو قضاياه.
•••
وللأجسام كمالات أولى وكمالات ثانية حُددت هكذا: «وذلك إما كمالات أولى، وهي التي إذا ارتفعت بَطَلَ ما هي له كمالات، وإما كمالات ثانية لا يؤدِّي ارتفاعها إلى بطلان الشيء الذي هي له كمالات، بل يؤدِّي إلى ارتفاع صلاح حاله.»
وينتقل ابنُ سينا من مبدأ الكمالات هذا إلى مبدأ القوة، الذي نرى من المفيد تحليلَه. ويقول في بدء الأمر: «ليس شيء من الأجسام الموجودة يتحرك أو يسكن بنفسه.» وهذا بيان صريح عن مبدأ الجمود، ولم تلبث الفكرة أن صارت أكثرَ عمقًا؛ وذلك أنه «ليس جسم يتحرك عن جسم آخر أو قوة فائضة عن جسم، فليس يَصدُر عنه شيء إلا وفيه قوة» مناسبة، ويمكن تفسير هذه الفكرة بعَدِّها مفهومًا حركيًّا، قائلًا بأن القوة تكون دائمًا كامنةً في الشيء الذي يتحرك، وذلك خلافًا للمفاهيم السكونية الدارجة، القائلة بأن القوة تتحرَّك عن أشياء خارجية كما يلوح.
بَيْدَ أن ابن سينا يُوضِحُ رأيه: إن هذه القوى الملازمة للجسم ليست غيرَ الكمالات الأولى التي تَصدُر عنها الكمالات الثانية، وعن الكمالات الثانية تصدر أفعال الأجسام، وللقُوَى ثلاثة أقسام: فالقوى الأولى هي التي تحفظ في الأجسام كمالاتِها الخاصة بأشكالها ومواضعها الطبيعية، فإذا زالت عن مواضعها الطبيعية وأشكالها أعادتها إليها وثبَّتتها عليها، وهذه القُوَى تُسَمَّى طبيعية، وهي مبدأ لحركاتها بالذات وسكوناتها بالذات، ولسائر كمالاتها التي لها بذاتها، وليس شيءٌ من الأجسام الطبيعية بخالٍ من هذه القوة، والنوع الثاني قوًى تفعل في الأجسام أفعالَها من تحريكٍ أو تسكين وغيرها من الكمالات بتوسط آلات ووجوه مختلفة؛ فبعضها يفعل ذلك دائمًا من غير اختيار ولا معرفة، فيكون نفسًا نباتيةً، ولبعضها القدرة على الفعل وتركه، وإدراك الملائم والمنافي، فيكون نفسًا حيوانية.
وتدخُل ضمن هذا النوع كمالات النفس الإنسانية، التي تستطيع الإحاطة بحقائق الموجودات على سبيل الفكرة، وبهذا نَصِلُ إلى علم النفس، «والنفس بالجملة كمالٌ أوَّلُ لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة»، والنوع الثالث قوًى تفعل مثل هذا الفعل لا بآلات، بل بإرادة متجهة إلى سنَّة واحدة لا تتعداها، وتسمى نفسًا فلكية، وبهذا النوع نصل إلى ما بعد الطبيعة.
ولذا؛ فإن ابن سينا كان ذا إدراكٍ جَلِيٍّ للمبادئ الميكانية، وكان لإدخال رُوحِ ما بعد الطبيعة في هذه الطائفة من المسائل نتيجةُ حَمْله على إهماله بعضَ الإهمال للقوة السُّكونية؛ كيما يُطيل الكلام عن المبدأ الحركي، الذي هو أرفع شأنًا لا ريب.
قال ابن سينا: «فأما السكون، فالزمان لا يتعلَّق به، ولا يُقدِّره إلا بالعَرَض؛ إذ لو كان متحركًا ما هو ساكن لكان يطابق هذا الجزءَ من الزمان، والحركات الأخرى يقدِّرها الزمان، لا بأنه مقدارُها الأول، بل بأنه معها كالمقدار الذي في الذِّراع يُقدِّر خشبة الذراعِ بذاته ويُقدِّر سائرَ الأشياء بتوسطه؛ ولهذا يجوز أن يكون زمان واحد مقدارَ الحركات فوق واحدة.» والواقع أن الأجسام الطبيعية — وفق هذا المنهاج — لا تكون في الزمان مباشرةً، وإنما تكون أولًا في الحركة التي تكون في الزمان. وقد عُبر عن هذه الفكرة البالغة الدقة في العبارة التي جاءت بعد الكلمة المذكورة: «والجسم الطبيعي في الزمان لا لذاته، بل لأنه في الحركة والزمان.»
ويُحكم — بمَطْلَع هذا التحليل — في السهولة التي وقعت بها معالجة هذه المبادئ، وقد كان سِكُلاسيُّو الشرق كَثِيرِي الاستقلال في أفكارهم حول الزمن، وهم لم يُقاسوا عسرًا في عَدِّه مُحْدَثًا، في عَدِّه مخلوقًا. وما أكثر ما اعتَبَرَ تفكيرُهم نفسَه مُحَرَّرًا من الشرط الزماني، الذي يبدو لنا أكثَرَ جَبَروتًا في الوقت الحاضر.
«ومعنى المحدث الزماني أنه لم يكن، ثم كان. ومعنى لم يكن أنه كان حالٌ هو فيه معدومًا، وذلك الحال أمر قد وُجد». وأما الزمان فإنه لم يحدث في الزمان، ومثل هذا أمر الحركة، لا كلُّ حركة، بل حركة السماوات المستديرة، والواقع أنه يجب أن نتعوَّد الفكرة القائلة — في هذا المنهاج — إن حركة الأفلاك السماوية، أو الفلك الخارجي على الأقل، قد وُضِعَتْ مثل مبدأٍ لجميع فعَّالية العالم على الوجه الذي سنوضِّحه؛ وذلك أن الزمان ليس سوى خضوع لازم لهذه الحركة، «فالزمان مقدار للحركة المستديرة». وهذه هي النظرية التي كنا قد لَقِيناها عند الكندي، وبما أن هذه الحركة متصلة فالزمان متصل.
ويقول ابن سينا مواصلًا: إن جميع الموجودات ليست في الزمان حادثةً في الحال، «بل الشيء الموجود في الزمان. أما أولًا فأقسامه، وهو الماضي والمستقبل، وأطرافه وهي الآنات. وأما ثانيًا فالحركات، وأما ثالثًا فالمتحركات، فإن المتحركاتِ في الحركة، والحركة في الزمان، فتكون المتحركات بوجه ما في الزمان»، وتكون الآنات كالوحدات في العدد، وتكون المتحركات كَكَوْن المعدودات في العدد، وكل متصل من المقادير الموجودة قد يُفصل فيقع عليه العدد، فلا عَجَبَ لو فُصل الزمان، ولا يكون ما لا يدخل في الأصناف الثلاثة المذكورة، في الزمان، بل إذا قُوبل مع الزمان واعتبر به، فكان له ثبات مطابق لثبات الزمان وما فيه، وسُمِّيَتْ تلك الإضافة وذلك الاعتبار دهرًا له، فيكون الدهر هو المحيط بالزمان، ويُطبَّق القياس الزماني على الأشياء التي ليست ضمن الزمان بواسطة هذا الدهر الثابت. ولا بُدَّ من الاعتراف بأن هذا تحليل نفَّاذ يمكن الانتفاع بكثير منه في هذه الأيام.
ومن المتعذر أن تُعرض بأوضح مما صنع علماء القرن الحادي عشر هؤلاء نظريةُ الضغط الجويِّ والضغط المائي، التي قام على اكتشافها مجد علماء القرن السابع عشر، وإنا لنأسف — حرصًا على مجد ابن سينا — أن نُحقِّق أنه أنكر صحة هذا الرأي مُتَّبِعًا تعليم أرسطو القائل: إن الخفيف يذهب إلى فوق وإن الثقيل يذهب إلى أسفل على أنهما مكاناهما الطبيعيان.
ويُتابع ابن سينا هذا البرهان مثبتًا أن الخلاء إذا كان موجودًا فإنه يكون ذا مسافة، حائزًا للأبعاد الثلاثة، قابلًا للقياس بالذات، ثم يُوضِح كون «الخلاء ليس له مادة»؛ وذلك لأن «كل قابلٍ للانفصال فله مادة؛ فإذن الخلاء لا ينفصل»، ثم يَشْرَع في نقاشٍ طويل حول امتناع التداخل لا يخلو من إمتاع.
وذلك أن الجسمين — كالمكعبين المتساويين — يَمْتَنِع تداخلهما؛ أي يستحيل استغراق كل واحد منهما الآخر، ويبحث ابن سينا عن كون هذا الامتناع واقعًا بين المادتين من الجسمين، أو بين البعدين، أو بين البعد والمادة، أو بين كل واحد منهما مع كل واحد منهما، فينتهي إلى تمانع البعدين عن التداخل.
وإلى ذلك أضاف ابن سينا قولَه: «فبيِّنٌ من هذه الأصول أن الخلاء لا حركةَ فيه؛ لأنه إذا تحرَّك فيه شيء فإما أن يُداخل بُعدُه بُعدَه، وقد قيل: إن ذلك محال، وإما أن يتحرك بأن يَغْلِبَه إذا مانعه بالنفوذ فيه، وقد قِيلَ: إن ذلك محال أيضًا، فإذن لا حركةَ في الخلاء، وكذلك لا سكون فيه.»
ونتيجة جميع البرهان هي: «الخلاء غير موجودٍ أصلًا، وهو كاسمه، كما قال المعلِّم الأول.»
وإنا — بعد أن عُنينا بمنهاج هذا النقاش الوجيز العنيف — نَرْغَبُ في تقدير الأفكار التي يشتمل عليها، فنلاحظ — بلا عناء — أن النقطة المعيَّنة التي تَصْدِم أفكارَنا الحاضرة من هذه النظرية هي النقطة التي وُكِّدَ فيها أن أبعاد الخلاء لا يمكن نفوذُها، ففي هذا التوكيد ضرب من مادية مبدأ الاتساع الذي يُلقي الحَيْرَة فينا، وعندنا — نحن الذين عادوا لا يتكلَّمون عن المكان ولا عن الخلاء، بل عن الفضاء والاتساع بلا انقطاع — أن لأبعاد الفضاء تلك الخاصِّية التي يُمكِن أن تُنَضَّدَ فيها أبعادُ الأجسام المادية.
وعندنا أن من الممكن نفوذَ الفضاء جوهريًّا، وأن الاتساع الماديَّ المرتبط في الأجسام غيرُ ذلك، ولمَ طَرَحَت السكلاسية هذا المبدأ البالغ الملاءمة عن الفضاء الخالي القابل للنفوذ؟ لا ينبغي أن يكون هذا مقصورًا على البراهين العقلية المذكورة آنفًا؛ وذلك لأن السكلاسية — كما أعتقد — كانت منهاجًا تجريبيًّا تمامًا، خلافًا لبعض المُبتَسَرات، فلا وجود للفضاء الخالي كما تَقْضِي به المشاهدة التجرِبية.
ويجد معظمُ النظريات السابقة تكملته في الطريقة التي تناول بها ابن سينا معضلة اللانهاية المخيفةَ الأزليةَ، وكان لهذه المعضلة في هذه الفلسفة عدة وجوه، نَعُدُّ أهمَّها ما يأتي: هل يوجد خلاء لا نهاية له؟ وهل يوجد ماضٍ لا نهاية له؟ وهل يمكن تجزئة الأجسام إلا ما لا نهاية له؟ وهل يوجد عدد لا نهايةَ له؟ إن الحل العامَّ الذي قُدِّم حيال هذه الأسئلة هو: أن اللانهاية غير موجودة بالفعل، وإنما هي موجودة بالقوة.
وإليك البرهانَ النموذجيَّ، الذي يُقدمه ابن سينا؛ ليُثبت استحالةَ وجود لانهايةٍ حاضرة، وتجد هذا البرهان غير مرة في آثاره على أشكال مختلفة بعض الاختلاف، وأول ما نصنع، هو أننا نُقدِّمه على شكل هندسي، كما صاغه ابن سينا في المطلب الذي أنكر فيه إمكان وجود خلاءٍ لا نهاية له، فنرجو القارئ — والحالة هذه — أن يتتبَّعه بانتباهٍ، وذلك لكي يلاحظ نقصَه، وهذه وثيقة مهمة عن تاريخ الذهن البشري، فقد ألقى هذا البرهان السهل الناقص عائقًا ثقيلًا مستمرًّا حيال تقدم الفلسفة والعلوم.
والفرضية فاسدة، ونرى ذلك بلا عناء؛ وذلك أن الفَرْضية فاسدة لإمكان ملاحظتنا على الخطِّ الثابت نقطة «ك»، التي هي أول نقطة يلتقي بها الخطُّ الدائر، غير أن ابن سينا اعتقد أن الفَرْضية الفاسدة هي التي جَعَلَها على رأس برهانه، وهي الخلاء اللانهائي، ولو كان هذا البرهان صحيحًا لكانت نتيجته استحالة الخلاء اللانهائي، الذي لا يُهمنا أمرُه كثيرًا، فضلًا عن استحالة المسافة الهندسية، التي لا نهاية لها، واستحالة العلم الهندسي الذي لا نهاية له، ولم يكن هذا قد قام في زمن ابن سينا، وقد عانته الفلسفة، ومع ذلك، فإن من الإنصاف أن يلاحَظَ أن تحليل هذه المسألة كان يتعلق — على الأقل — بالذهن الفلسفي بمقدار تعلقها بالذهن الرياضي، فيمكن أن يُلام العلم على تضليله الفلسفة، والفلسفةُ على عدم تقويمها العلم.
وإليكَ شكلًا آخر للبرهان عينه: «أقول إنه لا يَتَأَتَّى أن يكونَ كم متصل موجود الذات ذو وضع غير متناهٍ، ولا أيضًا عدد مرتَّب الذات موجود معًا غير متناهٍ، وأعني بمرتب الذات أن يكون بعضه أقدمَ من بعض في ذاته، ولنبرهن أنه لا يتأتَّى أن يوجد مقدار ذو وضع غير متناهٍ؛ لأنه إما أن يكون غير متناهٍ من الأطراف كلِّها أو غير متناهٍ من طرف. فإن كان غير متناهٍ من طرف أمكن أن يُفصَلَ منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم، فيؤخَذُ ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيئًا على حِدَة، وبانفراده شيئًا على حِدَة، ثم نطبِّق بين الطرفين المتناهيين في التوهم فلا يخلو إما أن يكونا بحيث يمتدان معًا، متطابقين في الامتداد، فيكون الزائد والناقص متساويين، وهذا محال، وإما أن لا يمتدَّ بل يقصُر عنه فيكون متناهيًا، والفضل أيضًا كان متناهيًا، فيكون المجموع متناهيًا، فالكل متناهٍ، مع أنه غير متناهٍ، فوجب أن يَلْزَم ذلك محال.»
ومن الواضح اليومَ أن جميع هذه الأنواع من البراهين سَفْسطيَّة، وقد قلنا هذا، ولا يُجْدِي التوكيد نفعًا، ويسُرُّنا أن نغتم هذه الفرصة، فنذكر إمكان كون معظم القضايا المشهورة وأضدادها، وهي ما تُدعى في الفلسفة «الكَنْتِيَّة» بمبادئ العقل الخالص المتناقضة، لم يتفق لها إثبات بالبراهين أكثرَ قيمةً مما تقدم، ومن المحتمل في زماننا — الذي عمت فيه معرفة المبدأ اللانهائي في الرياضيات، وهذا لم يكن في زمن «كَنْت» — أنه إذا ما بُحِثَ في هذه المبادئ المتناقضة لم تُرَ أكثر صوابًا من التي كان يُزَوِّد بها مخالفُ المدارس في زمن ابن سينا، وليس مما يُلْقِي الحيرة في نفسي، مطلقًا أن يُوصَلَ — بسرعة — إلى النتيجة القائلة، في هذه الموضوعات، إن القضيةَ وضدَّها لا يمكن إثباتهما، وإنه لا يوجد مبادئ متناقضة، بل براهينُ فاسدة، ومع ذلك فإننا كيما نحصر أنفسنا ضمن نطاق المؤرخ، نقتصر هنا على ختم قولنا — وَفْقَ ما كنا قد لاحظناه — بأن فلسفة ابن سينا إذا كانت قد ضَلَّت فذلك لأنها عانت ضَعْفَ العِلْم.
وأما من حيث لانهائيةُ الماضي، فتعليم ابن سينا إيجابي، ففيلسوفنا يسلِّم بإمكان سلسلات من اللانهايات، عادًّا هذه السلسلات الماضية أنها عادت لا تكون موجودة إلا بالقوة. وليس هذا الرأي جليًّا أولَ وهلة، فاضطرَّ ابن سينا إلى بَذْلِ بعض الجهود ليسوِّغه، ولكن بما أننا قد أَثَرْنا ذكرى «كنت» منذ هنيهة، فإننا نُبِيح لنفسنا ملاحظةَ مقدار التَّعَمُّل في نقد هذا الفيلسوف للمبادئ المتناقضة. وتبدو نظرية «كنت»، التي صاغها حول التناقض الأول، وذلك «أن للعالَم بدءًا في الزمان، وهو محدود في الفضاء»، من قلة المتانة والمطابقة بما لا يُسَلِّم معه جميع المدرسة السِّكُلَاسية الشرقية الكبرى بعد القرون القديمة بغير نصفه، وذلك بقولها: «إن العالم محدود في الفضاء» ومع إضافتها نصفَ التضادِّ القائل «ليس للعالم بدءٌ في الزمان.»
ولم يُحدِّد ابن سينا ما كان يُوَجَّه من اعتراضات على إمكان سلسلة غير المتناهي في الماضي، ويمكننا أن نذكر للغزاليِّ اعتراضًا بالغ البراعة على ذلك. فلنفترضْ سلسلةً غيرَ متناهية لموجودات خالدة — كسلسلة الأرواح مثلًا — قد وُلدت بالتتابع في الماضي، فجميع هذه الموجودات قائمة في الوقت الحاضر، ومن ثمَّ يكون العدد الغيرُ المتناهي موجودًا بالفعل، وهذا ما تصرِّح مدرسة ابن سينا بأنه محال.
وعند ابن سينا أن الأجسام قابلةٌ للتجزُّؤ بالقوة إلى ما لا نهاية له، ففيلسوفنا يرفض الذَّرِّية على أنها فاسدة عقلًا.
ومن الواضح أنه لا قيمةَ لهذه الاعتراضات، وليست أكثرَ من هذا قيمةُ الاعتراضات التي يوجِّهُها ابن سينا — من ناحيته — إلى الذَّرِّية، وإليك جوابَه عن الاعتراض الثاني المذكور: لنفترض أن من الممكن تركيبَ جسم من عدد معين من الأجزاء، وسيكون الجسم البسيط جسمًا لا يكون مركبًا من أجزاء كثيرة، ولكن الجسم البسيط قابِل للتجزؤ؛ إذن يوجد تناقض والفَرْضية فاسدة.
ويقوم جواب ابن سينا — كما هو حاصل القول — على أن هذا الجزء الأوسط إما أن يكون قد مُسَّ على وجه واحد من قِبَل الجزأين اللذين هما في الطرفين؛ أي يكون قد دُخِلَ فيه من قِبَلهما، فيقع تداخل جميع الأجزاء، ولا يَتَكَوَّن حجم مطلقًا، وإما ألا يكون ذلك الجزء الأوسط قد مُسَّ من قِبَل الجزء الذي يَكُون في طرفٍ على الوجه الذي يُمَسُّ به من قِبَل الطرف الآخر، فيكون قابلًا للتجزُّؤ، وإن شئت فقل: إنه إما أن يوجد تماس كامل، وهنالك تداخل، أو أن يوجد تماسٌّ جزئي، وهنالك تجزؤ.
ولذا؛ لا يُدافَع عن هذه الفرضية. أجل، نقول هنا، أيضًا: إن من الجَلِيِّ أنه لا يدافع عن هذه الفرضية كما عرضها ابن سينا، بيد أنها تعود غيرَ ذلك، إذا ما أجرينا عليها تعديلًا يسهُل تصوُّره.
لقد أصررنا على جميع هذه البراهين بلا وجل من إتعاب القارئ؛ وذلك لاعتقادنا أنها مهمة — لا لذاتها — لا ريب، ما دامت غيرَ صحيحة، بل لدلالتها على مرحلة وَقَفَ الذهنُ البشري عندها زمنًا طويلًا، وقد مرَّت قرون كثيرة على الفلاسفة وهم يأتون بحلول متناقضة لهذه المسائل، التي كان يدخل فيها مبدأ اللانهاية الرياضيُّ، وقد زَعَمَ «كَنْتُ» أنه يَضَعُ حدًّا للجدال بطرحه هذه المتناقضات على حساب العقل، فعندنا أن من السهولة بمكان، ومن الصواب البالغ أن يُعتَرف — على ضوء علمٍ أكثَرَ تقدُّمًا — ببُطل جميع هذه البراهين المتناقضة، فيُذهب إلى أن القضية وضدها في هذا النوع من المسائل مقبولتان على السواء، وأن كلًّا منهما غير خاضع لأية ضرورة عقلية.