الفصل الثامن
نفسيات ابن سينا
دراسة النفس والعقل عند ابن سينا – نظرية الإدراك الحسي عند الشيخ الرئيس – قُوى
المصورة، والمفكرة، والوهم، والحافظة – العقل الفعَّال والموجودات والمعقولات –
خلود النفس ونتيجة ذلك لروحانيتها.
***
يتألَّف من علم النفس لدى ابن سينا بناءٌ رائعٌ جدًّا متين جِدًّا، فيبدو جديدًا وَفْقَ
الترتيب الذي نَتَّبِع، وأقصد بذلك أنه لا يُلقَى تامًّا بجميع مميِّزاته الجوهرية عند
أيٍّ
من المؤلِّفين قبلَ ابن سينا ما دامت آثار الفارابيِّ غيرَ معلومة لدينا بما فيه الكفاية،
وترانا نَوَدُّ القيامَ بعرضٍ عن هذا المجموع كاملٍ تقريبًا، حتى نكون معبِّرين تعبيرًا
صادقًا عن فيلسوفنا.
يشتمل علمُ النفس عند ابن سينا على دراسة النفس ودراسة العقل، على دراسة هذين العنصرين
اللذين لا نُحسِن التفريقَ بينهما، ولكنْ مع أنهما كانا في هذا الدور من التعليم
السِّكُلاسي يقدِّمان فَرْقًا واضحًا وضوح الفرق بين الجنسِ والنوعِ. والنفسُ — إجمالًا
—
أول ما تكون مجموعةً من الخصائص أو القوى المضافة إلى الجسم المادي، الذي يَكمُل بها
ويصير
فعَّالًا، قال ابن سينا: «النفس كمال أول لجسم طبيعي.»
وقبل ذلك قال ابنُ سينا: «إن جميعَ الأفعال النباتية والحيوانية والإنسانية تكون
من قوًى
زائدة على الجسمية وعلى طبيعة المزاج.»
١ وإن شئتَ فقل: إن جميع أفعال الأجسام الحية تصدُر عن خصائصَ، ومما يُدرَك مقدار
ما تجعلُ به هذه القضية من اتصال وثيق بين مبدأ القوة اللاهوتيِّ ومبدأ الخاصِّيَّة
النفسانيِّ، ويخرُج الفعلُ من القوة اللاهوتية على العموم، وذلك كما تخرج أفعال الأجسام
من
قوى النفس، فيوجد انسجام تام، يكاد يكون ذاتيًّا، بين المبدأين. وفضلًا عن ذلك فإنه لا
يوجد
في العربية غير كلمة واحدة للتعبير عن المبدأين، وهي كلمة «القوة».
وللنفس النباتية قوًى ثلاث عند ابن سينا:
٢ القوة الغاذِيَة، والقوة المُنْمِية، والقوة المولِّدة، قال ابن سينا: «القوة
الغاذية، وهي القوة التي تُحيل جسمًا آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه، فتُلصِقُه به
بَدَلَ ما يَتَحَلَّل عنه. والقوة المُنْمِيَة، وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه بالجسم
المتشبه في أقطاره طولًا وعرضًا وعمقًا، متناسبةً للقدر الواجب؛ لتبلغ به كماله في
النُّشُوء. والقوة المولِّدة، وهي القوة التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءًا هو شبيهٌ
له
بالقوة، فتفعل فيه باستمداد أجسامٍ أخرى، تتشبَّه به من التخلق والتمزيج ما يصير شبيهًا
به
بالفعل.»
وكان إخوان الصفا قد عَدُّوا سبع قُوًى للنفس الحيوانية، فكان منهاج هؤلاء المُوَطِّئِين
أقلَّ بساطةً في هذه النقطة من منهاج العالم، وقد يكون لنا هذا سببًا للاعتراف هنا بوجود
قوة للتكثيف في ابن سينا، يظهر أنها إحدى المزايا المهمة في أهم فلاسفة العرب، وإليك
قوى
النفس النباتية في مذهب إخوان الصفا:
٣ «قُوَى النفس النباتية سبعٌ، وكلُّ قوة من هذه تفعل شيئًا خلافَ ما تفعل القوة
الأخرى، وهذه القوى هي: القوة الجاذبة، ويقوم فعلها على جذب عصارات الأركان الأربعة،
ومَصِّها لطينها وما فيها من الأجزاء المشاكلة لنوع نوعٍ من أصول النبات، والقوة الماسكة،
وتُمسِك لها ذلك، والقوة الهاضمة، وتُنْضِج لها ذلك، والقوة الدافعة، وتدفع ذلك إلى
الأطراف، والقوة الغاذية، وتغذِّي النبات، والقوة النامية، وتقوم بإنماء النبات وزيادته،
والقوة المصورة، وتصوِّر النبات بأنواع الأشكال والأصباغ.»
وتقوم خصائصُ النفس الحيوانية على كَوْنِها تُدرِك الجزئيات وتتحرَّك بالإرادة، وهي
في
الحيوانات تَتَّصِل بالنفس النباتية، وتتصف النفسُ العاقلة، المتصلة في الإنسان بالنفس
النباتية والنفس الحيوانية، بإدراكها الأمورَ الكلية، وبأنها تَفْعَل بالاختيار، وتتصف
النفوسُ الحيوانية والعاقلة بخصائص الإدراك وخصائص الفعل، وتتألَّف من دراسة الثانية
نظريةُ
التأثرات التي لم يُفصِّلها ابن سينا كثيرًا، وتتألف من الأولى — في النفس الحيوانية
—
نظريةُ الإدراك، وفي النفس العاقلة، نظريةُ العلم، وهذا ما سنُعْنَى به.
ولا يَغِبْ عن البال، لحسن فهم نظرية إدراك الحسِّ والعلم العقليِّ في هذا المذهب،
أمر
الترتيب العام لرسم جميع هذه الفلسفة، الذي هو رسم على درجات، فمواليدُ النبات والحيوان
والإنسان مُنَضَّدَة فيه على درجات الموجودات، مستندةً في الأسفل إلى مولد المعدن وإلى
المادة متصلةً في الأعلى بالمولِد الملائكيِّ وعالَم الروح، ويتألف من الخواصِّ الجوهرية
لأنواع النفس الثلاثة تَدَرُّجٌ يمتد من حياة النباتات غيرِ الشاعرة حتى فَعَّالية الإنسان
الحرة العقلية، وقد نُظِّمَ علم النفس، بحصر المعنى، وَفْقَ مبدأ التدرج هذا، وإذا ما
وقع
تناولُ النفس الحيوانية والإنسانية معًا، وُجد أنهما تَعْرِضان سلسلةً من القُوَى، سائرةً
من التي تُعْطِي الإحساس الجافي حتى التي تقُوم غايتها على الإشراق الصوفيِّ.
ولذا تكون في أسفل النفس الحيوانية قوى الحواسِّ الأوَّلية، وتكون فوق هذه القوى
من القوى
ما يمسك المعطيات المحسوسة، ويجمعها، ويفسِّرها على وجه مباشر. قال ابن سينا محدِّثًا
عن
الروح الحيوانية:
٤ «إن القوة المدركة تنقسم قسمين، فإن منها قوةً تُدرِك من خارج، ومنها قوة تدرك
من داخل»، فأما المدركة من خارج فتشتمل على الحواس، والمدركة من داخل فتشتمل على الذاكرة
والخيال وعلى درجة أوَّلية من التأمُّل.
وتوجد حواسُّ خمس، وهي التي يعرِفها العوامُّ، وذلك ما لم يُفَضَّلْ عَدُّ ثماني
حواسَّ،
وذلك بتقسيم حاسَّة اللمس إلى أربع على الوجه الآتي، قال فيلسوفنا:
٥ «يشبه أن تكون هذه القوة لا نوعًا واحدًا، بل جنسًا لأربع قوًى مُنْبَثَّة معًا
في الجلد كلِّه، فالواحدة حاكمة في التضادِّ الذي بين الحارِّ والبارد، والثانية حاكمة
في
التضادِّ الذي بين اليابس والرطب، والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين،
والرابعة حاكمة في التضاد بين الخَشِن والأملس.»
وقد دَرَسَ ابن سينا طريقةَ قيام الحواسِّ بوظائفها، غير أن هذا التحليل، الذي يَتَعَلَّق
بالتاريخ الطبيعي أكثر مما بالفلسفة، ليس ذا فائدة كبيرة على ما أرى، فيكفي — والحالة
هذه —
أن نُلَخِّصَ — على سبيل المثال — ما قاله عن حاسة البصر:
٦ «ظن قوم أن البصر يخرج من شيء يسمى شعاعًا، فيُلاقي المُبْصَر، ويأخذ صورته من
خارج»، ويقول آخرون: إن البصر إذا كان بينه وبين المُبصَر شفَّاف بالفعل — وهو جسم لا
لون
له متوسط بينه وبين البصر — تأدَّى شَبَحُ ذلك الجسم ذي اللون الواقع عليه الضوء إلى
الحدقة، فأدركه البصر، فهذه النظرية الثانية تبدو لنا في هذه الأيام معقولةً جدًّا على
ما
فيها من غموض.
وقد فنَّد ابن سينا أولى النظريتين بدقة، فقد قال، بين أمور أخرى: إن الشعاع الذي
يخرج من
البصر إذا لم يكن جسمًا، فإنه لا يمكن أن يطبَّق عليه مبدأ الحركة الطولانية، وإنه إذا
كان
جسمًا فإنه يكون — حين يلاقي كرة الثوابت — جسمًا عظيمًا جدًّا خارجًا من البصر، الذي
هو
جسم صغير. ويُسلِّم فيلسوفنا بأنه يوجد في الرؤية شَبَح للشيء، يُرد بالنور إلى الباصرة،
بيد أنه لا يُعَيِّن هذه النظرية أكثر مما فعلنا آنفًا، وهو، في رسالة النفس التي نشرها
لَنْدَوِر،
٧ يعزو الرأي الذي يرضاه إلى أرسطو، ويعزو الرأي الأول الذي يرفض إلى
أفلاطون.
وإذا نُظِرَ إلى الأمر بوجهٍ عامٍّ وُجِدَ أن موضوع نظرية الإدراك الحسي كما يأتي:
٨ «إدراك الشيء هو أن تكون حقيقته متمثِّلةً عند المدرِك.» فصورة الشيء المدرَك
هي في المدرِك، ومع ذلك، فإن هذا المذهب هو عينُ مذهب الإدراك العقليِّ تمامًا.
وإليك مسألةً تنشأ عن ذلك بحكم الطبيعة، وهي: كيف تُحفَظ هذه الصور المرسلة إلى الأعضاء؟
فالجواب العام هو — من حيث المحسوسات — كون الصور تأتي إلى الحسِّ المشترك، فهناك تكون
الصور في متناول مختلف القوى التي تعاني بها سلسلةً من الأعمال، ولا تقف نظرية ابن سينا
طويلًا عند الحس المشترك أكثرَ مما تقف الإدراكات المحسوسة، وليس لهذا الحسِّ نفسه دَوْرٌ
معيَّن تمامًا، وهو لا يكاد يكون قوةً، وهو ليس له غير وظيفةٍ إدارية؛ أي مثل مكتب مركزيٍّ
تمُرُّ منه الإدراكات، التي تأتي من الخارج قبل أن تُنْضَجَ بقُوَى الباطن. وأما من حيث
الموضع التشريحي، فإن آلة الحسِّ المشترك هو الروح المنتشر في الجهاز العصبي، ولا سيما
في
قسم الدماغ المُقَدَّم،
٩ وقد صُفَّتْ مواضع القوى كهذه القوى نفسها.
وليس رَسْمُ قُوَى النفس الحيوانية التي تؤثِّر — داخلًا — في معطيات الحواس ثابتًا
عند
فلاسفة العرب، ولا سيما كتب ابن سينا، على الإطلاق. وقد درس لَنْدَاوِرُ قسمًا من هذه
الفروق،
١٠ ولنا بهذا ما لا نُعَسِّر به على أنفسنا، فلا نقدِّم هنا غير الرسم الذي نحكم
بأنه أكثر ما يكون وضوحًا. وفضلًا عن ذلك، فإن شأن هذه القوى المتبادل هو من الدقة بحيث
لا
يُحَدَّد، وهي تقوم معًا بإحداث عمل تجريدي ناقص في معطيات الحواس، وذلك من غير تجريدها
من
المادة تمامًا، وهذا ما هو خاص بالعقل، وهي تقوم أيضًا بجمعها للحواسِّ بنوع من التركيب
الخياليِّ من غير أن يكون شأن الخيال قد جُلِيَ تمامًا، ومن غير أن يكون للخيال في ذلك
وجود
بَيِّنٌ لا التباسَ فيه، وذلك خلا كونها تحفظ نتائج هذا التجريد وهذا التركيب كما تصنع
الذاكرة.
ويمكن أن يُبَيَّن أن هذه القوى الباطنية أربع، وهي: المصوِّرة، والمفكِّرة، والوهم،
والحافظة أو الذاكرة.
فالمصورة هي خزانة ما تدركه الحواسُّ، وهي تحفظ الصورة المحسوسة، التي تتخلَّص جزئيًّا
من
أحوال الأين، والوضع، والكم، والكيف، وذلك بعد أن ينقطع الشيء المحسوس عن التأثير في
الحواس. فالقطرة التي تسقط، والنقطة المشتعلة التي تدور بسرعة تجعلنا نشاهد خطًّا مستقيمًا
سائلًا أو دائرةَ نار،
١١ ولذا فنحن نُدَاوِم على رؤية الشيء في مكان عاد لا يكون فيه، وبذلك يوجد حادث
حفظ الخيال في الدرجة الأولى من الذاكرة، ومع ذلك فإن شأن المصوِّرة الذاكريَّ أوسع مدًى
—
لا ريب — مما يُرى وفق هذا المثال، ففي مكان آخر قال ابن سينا:
١٢ إن للماء قوةَ تَقَبُّلِ الخيال، لا حفظه، وتَتَلَقَّاه الحاسة على هذا الوجه،
ولكن لا بُدَّ من وجود قوةٍ أخرى لحفظه، وهذه القوة هي المصوِّرة، وإذا ما استُعْمِل
من
التعابير ما هو أقرب إلى ما بعد الطبيعة
١٣ يُرى أن الصورة المحسوسة عند انتزاعها من المادة التي تحتملها في الحقيقة، لا
تزول دفعةً، وهذا ما يجعل كل علم مستحيلًا إلى الأبد، وإنما تُحفظ مجردةً من المادة،
إن لم
يكن هذا من جميع لواحق المادة، وذلك في قوة هي المصوِّرة، وقد سُمِّيَتْ هذه القوة في
هذا
الموضع باسم يُدْنِيها من الخيال (فنطاسيا)،
١٤ وقال ابن سينا في عبارة أخرى:
١٥ «الشيء قد يكون محسوسًا عندما يشاهَد، ثم يكون مُتَخَيَّلًا.» ولهذا يمكننا أن
نعرض المصوِّرة، كما هو مُجْمَل القول، مثلَ درجةٍ جنينية للذاكرة والخيال، وقد جُعل
مكان
هذه القوة في التجويف المقدَّم من الدماغ.
وأُتبِعت المصوِّرة بقوة تشابه جنينًا للعقل، وإن كان يجب ألا يُنسى أنها ليست سوى
قوة
حيوانية كجميع هذا الجمع من القُوَى، وتُسَمى هذه القوةُ «مُفَكِّرَة»، كما تُسَمَّى
«المتخيلة»، و«المقلدة» أيضًا، ويقوم شأن المفكِّرة السيئ التحديد على إحداث أول عمل
كثير
التعقيد أيضًا، في التجريد والجَمْع والضَّمِّ والتعميم حول معطيات الحواسِّ التي حُفظت
بالمصوِّرة، فالمفكِّرَة تُعِدُّ المفهومات التي تأتي لخدمة القوة التالية — أي الوهم
—
لتكوين ضروب حُكْمِه، ومع ذلك فَلْيُعلَم أن مفهومات المفكِّرة ليست أفكارًا بالحقيقة،
كما
أن أحكامَ الوهم ليست أحكامًا عقليةً؛ وذلك لأن الأشياء التي تؤثِّر فيها هذه القوى ليست
كليات، بل جزئيات مستخلصةً استخلاصًا ناقصًا جدًّا عن أحوال المادة، ومركز المفكِّرة
هو في
القسم المقدَّم من تجويف الدماغ الأوسط قريبًا من الوهم.
وللوهم — ومكانه في القسم المؤخَّر من تجويف الدماغ الأوسط — قوةُ جَمْعِه، في ضروبٍ
من
الأحكام ذات العمومية، مفاهيم مجردةً تجريدًا غليظًا بمفكِّرة مُعْطَيَات الحواس، ولهذه
القوة، التي هي قوة مسيطرة على النفس الحيوانية كما هو واضح، شأن كبير وأهميةٌ عظيمة؛
فهي
تطابق — تقريبًا — كما هو مجمل القول، ما نُسَمِّيه بالغريزة في الحيوان، وهي تشتمل في
الإنسان على مجموعة الآراء والمشاعر والمُبْتَسَرَات، التي تُولَدُ فينا بفعل التجارب
الابتدائية، أو الاندفاعات اللاشعورية، وكنا نودُّ أن نسمِّيَها تسميةً مجردةً لو لم
نَخْشَ
صَدْمَ الاصطلاح السِّكُلاسي القائل ﺑ «العقل الحيواني»، وإذا ما استخلصنا مثالًا من
كتب
ابن سينا، وَجَدْنَا للشاة إدراكًا لذئب خاص، وهذا الإدراك هو عند هذا الفيلسوف — كما
أفترض
— نوع من الصورة المحسوسة ارْتَسَمَت ارتسامًا غليظًا في نفس الشاة بالقوة المفكِّرَة،
١٦ وأما الوهم، فيُولِدُ — في صدد هذا المفهوم — مشاعرَ أقل مشابهةً للأحكام
العقلية مما للاندفاعات الطبيعية تُحَذَّرُ بها الشاة، فيما تحذَّر به، عندما ترى الذئبَ
كيما تفر، ومثل ذلك حال الرجل الذي يشعر بضرورة معاملة الصبيِّ برفق حينما يراه، وذلك
قبل
كلِّ تَعَقُّلٍ.
١٧
وقد أكمل مجموع هذه القوى بقوة رابعة، وهي: «الحافظة أو الذاكرة»، التي تحفظ ما يُنْضَج
بالوهم من أحكام، ومركز الذاكرة هو في القسم المؤخَّر من الدماغ.
وإليك سطورًا اقتطفناها من «النجاة»، يمكن أن يُنْتَفَع بها مثل قطعة لتسويغ النظرية
التي
عَرَضناها، وذلك مع تقديمها إجمالًا، حول هذه النقطة الغامضة بعضَ الغموض، عن وجود ضروب
من
الأفكار العامة في النفس الحيوانية، قال ابن سينا:
١٨ «الحس (الخارج) يأخُذُ الصورةَ عن المادة مع لواحقها (الأين، والوضع، والكم،
والكيف) … وأما الخيال، فإنه يُبَرِّئُ الصورة عن المادة تبرئةً أشدَّ، وذلك بأخذها عن
المادة، بحيث لا يحتاج في وجودها فيها إلى وجود مادة، (كما كان ذلك ضروريًّا للإدراك
بالحسِّ الخارج)؛ لأن المادة، وإن غابت أو بَطَلَتْ، فإن الصورة تكون ثابتةَ الوجود في
الخيال، إلا أنها لا تكون مجردةً عن اللواحق المادية، فالحسُّ لم يُجَرِّدها عن المادة
تجريدًا تامًّا، ولا جرَّدَها عن لواحق المادة. وأما الخيال، فإنه قد جَرَّدَها عن المادة
تجريدًا تامًّا، ولكنه لم يجرِّدْها البتة عن لواحق المادة؛ لأن الصورة في الخيال هي
على
حسب الصور المحسوسة … وأما الوهم، فإنه قد تَعَدَّى قليلًا عن هذه المرتبة في التجريد؛
لأنه
ينال المعاني التي ليست هي في ذواتها بمادية، وإن عرض لها أن تكون في مادة …
وأما الخير والشر، والموافق والمخالف، وما أشبه ذلك فهي أمور في أنفسها غير مادية؛
(لأنها
من المعقولات)، وقد يعرض لها أن تكون في مادة … والوهمُ إنما يَنَال ويُدْرِك أمثالَ
هذه
الأمور … فهذا النَّزع أشدُّ استقصاءً وأقربُ إلى البساطة من النَّزْعين الأولين، إلا
أنه —
مع ذلك — لا يُجَرِّد هذه الصورة عن لواحق المادة.» والعقل وحده هو الذي يدرك الصورة
المجردة عن المادة وعن جميع لواحقها.
•••
وقد قدَّمنا نظريةَ العقل عند الكلام عن الفارابي، فإذا عدنا إليه هنا بإيجاز؛ فلكيلا
نقطع وحدة عرضنا، وذلك فضلًا عن ملاحظتنا أن هذا المذهب هو من أهمِّ جميع ما في هذه
الفلسفة، وأبرزِ ما تنطوي عليه وأجمل، وأن الوجه الذي يَعْرِضه به ابن سينا يختلف به
بعض
الاختلاف عن سَلَفه.
قال ابن سينا نقلًا عن الفارابي، ولكن من غير أن يذكره: «الحس هو عالم الخلق، والعقل
هو
عالم البدء، وأما الذي هو فرق الاثنين فلا يدركه الحس ولا العقل.» ويُقَسَّم العقل أو
النفسُ الناطقة (العاقلة) إلى عقل عملي، وعقل نظري، كما كنا قد أشرنا إليه؛ فأما الأول
فهو
القوة المحركة التي تسيطر على الفعل، وهو على اتصال بما هو تحته؛ أي بالعالم الحيواني
الذي
يجب أن يهيمن عليه. وأما الثاني فهو القوة المدركة، التي نُطْلِق عليها اسم العقل حصرًا،
وهو على اتصال بما هو فوقه؛ أي بالمبادئ العليا التي يجب أن يَخْضَع لها. وليعلم — دائمًا
—
ما وجهنا إليه نَظَرَ قرائنا من ترتيب مُدَرَّج.
ويقسَّم العقلُ النظريُّ بدَوْرِه إلى سلسلة مُرَتَّبَة من العقول الخاصة، نُظِّمَت
وظائفها وَفْقَ مفهوم ما بعد الطبيعة في القوة والفعل، وذلك وَفْقَ ما كان الفارابي قد
عَلَّمَنَا إياه سابقًا، فموضوع المذهب يقوم على تناول العقل في حال القوة، وجعلِه ينتقل
إلى الفعل. وكان الفارابي قد اتَّخَذَ في هذا السبيل ثلاثَ مَرَاقٍ موضوعةٍ في نفس الإنسان،
أقام فوقها العقلَ الفعَّال خارجَ النفس. وأما ابن سينا فقد قال بأربع مراقٍ، لحم بها
من
علٍ عقلًا خفيًّا كان سَلَفُه قد تَرَكَه خارجَ هذه النظرية قليلًا، وهو لم يَغْفُلْ
عن
إضافة العقل الفعَّال إلى هذه العقول الخمسة.
وإليك كيف ينبثق فيلسوفنا:
١٩ توجد للقوة ثلاثة أنواع؛ فالأول هو قوة للاستعداد المُطْلَق الذي لا يخرج منه
شيء إلى الفعل، وهذه كقوة الصبيِّ على الكتابة، وهذه هي القوة المادية، ثم تَكُون القوة
استعدادًا قريبًا من الفعل، ولكن من غير أن يتحقَّق هذا الفعل لعدم وجود الواسطة أو
المعرفة، وذلك كقوة الصبي على الكتابة، إذا كان لا يعرف شيئًا، أو كان القلم غيرَ موجود،
وتُسَمَّى هذه القوة قوةً «ممكنة»، ويسميها آخرون «ملكة»، ثم يكون الاستعداد تامًّا،
ولا
يُعْوِزُه غيرُ الإرادة، وذلك كالقدرة على الكتابة لدى الكاتب عندما تكون عنده وسائطه،
ويُسَمِّي ابن سينا هذه القوة «ملكةً»، ويسمِّيها آخرون «كمالَ قوة».
والواقع أنه كما يوجد ثلاث أحوالٍ للقوة يوجد للعقل ثلاث أحوال، والعقل ما قلنا إنه
خاصية
أو قوة في الأساس؛ فالأولى هي العقل الهيولاني الذي ليس سوى إمكان مطلق للعلم، ويصرِّح
الفيلسوف بأنها سميت هيولانية تشبيهًا بالهيولي الأولى، التي ليست سوى إمكان مطلق لتقبُّل
الصور، وهي من علم النفس على أساس ما بعد الطبيعة، والحال الثانية هي العقل الممكن أو
«العقل بالملكة» الذي يكون بالفعل بالنسبة إلى السابق؛ وذلك لأنه يحصل على أشياءَ كالحقائق
الأولية الضرورية، مثل كون الكلِّ أعظمَ من الجزء، وكون الأشياء المساوية لشيءٍ واحد
متساويةً، ولا تَجِدُ هاتين الدرجتين في الفارابي، والدرجة الثالثة هي درجة العقل الذي
يكون
في حال الاستعداد التام، والذي يمكن أن تحصل فيه في كلِّ وقت صور المعقولات المكتسبة
بعد
الحقائق الأولية، وتسمَّى هذه الدرجة «العقل بالفعل»، وإن كان لا يزال بالحقيقة درجةَ
«العقل بالقوة» العليا.
وبما أن العقل يكون مستعدًّا على هذا الوجه، فإن قوة إدراك الصور تَتَحَقَّق فيه،
ويتحوَّل هذا العقل إلى ما يجب أن يسمى «العقلَ بالفعل» ضبطًا، ولكن الاصطلاحَ الناقص
يُطْلِق عليه اسمَ «العقل المستفاد».
ويضع ابن سينا فوق هذه الدرجة من العقل حالًا ثالثة، مشتركةً بين عدد قليل من الناس،
وهي
ما يُسَمِّيها «العقل القدسيَّ»، فهذا العقل يَعْرِف الأشياء مباشرة، وبه يُدْخَل في
التصوف.
وقد يُسر القارئ بالاطلاع على المقارنة الآتية، المقتطفة من «الإشارات»، والتي تفسَّر
فيها أدوار هذه العقول المتتابعة؛ قال ابن سينا:
٢٠ «ومن قوى النفس ما لها، بِحَسَب حاجتها إلى تكميل جوهرها، عقل بالفعل؛ فأوَّلها
قوة استعدادية لها نحو المعقولات، وقد يسمِّيها قوم «عقلًا هَيُولانيًّا»، وهي المشكاة،
وتتلوها قوة أخرى تحصل لها عند حصول المعقولات الأُوَل لها، فتتهيأ بها لاكتساب الثواني
إما
بالفكرة، وهي الشجرة الزيتونة إن كانت أضعف، أو بالحدس، فهي زيت، أيضًا، إن كانت أقوى
من
ذلك، فتسمى «عقلًا بالملكة»، وهي الزجاجة، والشريفة البالغة منها قوة قدسية يكاد زيتها
يضيء
ولو لم تمسسه نار، ثم يحصل لها بعد ذلك قوة وكمال. أما الكمال فأن تحصل لها المعقولات
بالفعل مُشَاهَدَةً متمثِّلةً في الذهن، وهو نور على نور. وأما القوة فأن يكون لها أن
تُحَصِّل المعقول المكتسب المفروغ منه كالمشاهَد متى شاءت من غير افتقار إلى اكتساب،
وهو
المصباح. وهذا الكمال يُسَمَّى «عقلًا مستفادًا»، وهذه القوة تسمى «عقلًا بالفعل»، والذي
يخرج من المَلَكَة إلى الفعل التام، ومن الهيولاني أيضًا إلى الملكة، فهو «العقل الفعَّال»،
وهو النار.»
وللعقل الفعال في مذهب ابن سينا عَيْنُ الدَّوْر الذي له في مذهب الفارابي، قال مؤلِّفنا:
«من الواضح أن العقل بالقوة لا يَخْرُج إلى الفعل إلا بسبب وجود عقل بالفعل دائمًا»،
وكلُّ
نوع من الإدراك أو العلم يَقُوم على ارتسام صورة الشيء في الفاعل. والواقع أن هذه الصُّوَر
المحسوسة أو المعقولة لا تكون أمام الفاعل دائمًا، فيجب حفظها في موضع ما، وتحفظ الصور
المحسوسة في الذاكرة، ولكن الصور المعقولة التي لا يمكنها الاستقرار إلا في جوهر لا جسمي،
ما دام مفترضًا خروجها من عقلنا، لا يمكن أن تُلقَى في غير جوهر خارج عنا، وهذا الجوهر
هو
عقل بالفعل، ومتى اتَّصَلت النفس الناطقة به أدركت الصورَ المعقولة فيه، أو هذه أو تلك
الصور من هذه الصور وَفْقَ استعداده، «ولا تدرِك النفس العاقلة شيئًا إلا باتصالها بالعقل
الفعال.»
٢١
وناهض ابن سينا الفلاسفةَ الذين يزعُمون أن النفس — باتصالها بالعقل الفعَّال — تصير
هذا
العقلَ نفسَه، فقد لاحَظ أن هذا يَجْعَل العقلَ الفعال قابلًا للتجزُّؤ، ما دامت النفسُ
متحدة بأحد أقسامه، أو أن هذا يَفْتَرِض النفس الكاملة حائزةً لجميع المعقولات. ولقد
فَنَّد
من قبل هذا الرأيَ على الوجه الآتي، وهو: أن النفس إذ تشتمل على صورة تصير إياها. وقد
سأل:
ما يُفَكَّرُ في أمر النفس إذا ما اشتملت على «ب» بعد اشتمالها على «أ»؟ أتصير نفسًا
أخرى،
أم إنه يستحيل عليها أن تشتمل على «ب» عقب اتصالها ﺑ «أ»؟
وفي نظرية ابن سينا أن وظيفةَ العقل الخاصة هي إدراك الكليات، وأن وظيفة الحواس هي
إدراك
الجزئي، غير أن دراسةَ الكليات عند هذا الفيلسوف لا تؤدِّي إلى نظرية مستقلة، وإنما تَظْهَر
هذه النظرية مثلَ تابعةٍ في مواضع كثيرة من فلسفته، وقد لَقِيناها في المنطق، وسنلقاها
فيما
بعد الطبيعة حيث أُلْحِقَت بنظرية العلل. وأما هنا — في علم النفس — فنستطيع استنباطَها
من
جميع ما قلناه عن الحواسِّ والعقل.
والمعقولات موجودة، وقد وُكِّدَ هذا تكرارًا في كلام ابن سينا والفارابي، وهذه المعقولات
تختلط بالكليات كما هو حاصلُ القول، ويقول ابن سينا في مكانٍ ما:
٢٢ إن العاميَّ يَتَصَوَّر أن الموجودَ هو المحسوس، وأنه لا وجودَ لغير المحسوس،
فيكفي — والحالة هذه — أن يُنْعَم النظر قليلًا ليُرَى بطلان هذا الاعتقاد، فخذ مثلًا
حدًّا
مجردًا بذاته، كحدِّ الإنسان مثلًا، تَجِدْه يُطَبَّق على شيئين محسوسين: زيد وعمرو،
وهذا
الحدُّ إما أن يُدْرَك بالحواس أو لا يدرك، فإذا ما أُدْرِكَ بها فيجب أن يكون له — ككل
محسوس — مكان، ووَضْع، وكَمٌّ، وكيفيةُ وجودٍ معينة، ولكنه يُرى أنه ليس له من هذا شيء،
فليس لمفهوم الإنسان كمية ولا وضع ولا مكان ولا كيفية خاصة؛ ولذا فإن هذا المفهوم ليس
محسوسًا، وإنما هو معقول صرف، وقل مثل هذا عن جميع الكليات.
والحواسُّ تأتي النفسَ بالجزئيات التي هي محسوسة، فتستخرج النفس منها الكلياتِ التي
هي
معقولات، ولكنها لا تدركها بالفعل إلا باتصالها بالعقل الفعَّال حيث المعقولات قائمة.
وأما
الجزئيات فإنها — فضلًا عن إدراكها بالحواسِّ — قابلةٌ لإدراك العقل إياها، لا على أنها
جزئيات، بل على أنها معلولات لعللها. وهنا تتعلَّق هذه النظريةُ بما بعد الطبيعة، ويتألف
من
هذا الإدراك علم الجزئي الذي هو عمل عقلي لا ينبغي أن يُخْلَطَ بإدراك الجزئي بالحواس،
وهكذا يكون الأمر وَفْقَ مثالٍ في فصل المنطق، يكرِّره ابن سينا نفسه، وهو أنه يُشْعَر
بالكُسُوف الخاص في عين الوقت الذي يُدْرَك فيه أنه معلول لحركات النجوم. ثم إن الكليات
—
مع إدراك العقل لها — تدرَك في الوقت نفسه في علاقاتها بمعلولاتها وعللها، فالكسوف —
على
العموم — يُدْرَك مثل معلولٍ لتوسُّط القمر بين الشمس والأرض.
والخلاصةُ أن الإدراك الحسي هو على أساس جميع أعمال النفس، ولكن النفس العاقلة، بعد
انتفاعها بالمحسوس كيما تستعدَّ لتَقَبُّل المعقولات في ذاتها، تَنْفَصِل عن الحواس
بالتدريج وتقترب — وفق طبيعتها — من الحقائق الكلية. وقد أجاد ابن سينا حيث قال:
٢٣ «إن النفس — بعد أن تستعين بالحواس — ترجع إلى ذاتها شيئًا فشيئًا.» أي إنها
تتخلَّص من المادة مقدارًا فمقدارًا؛ كيما تَرْتَقِي إلى أحكام معقولة صِرْفة.
ولا مِرَاء في جمال هذه النظرية. ومع ذلك فإنني أَرَى أن من طبيعتها تحريضَ من يقولون
بإعادة الأذهان أو المناهج إلى نُطُق مرسومةٍ سلفًا، وهي تُوَفِّق ببراعةٍ بين آراء جرت
العادة على عَدِّهَا متباينةً، وإلى مثالية أفلاطونية خالصة، تمتد هذه النظرية التي هي
تجربية في أوَّلها بما تعطيه الحواس من شأن أساسي، فتكون أرسطوطاليسيةً بهذا، وذلك لما
يوشك
العقل الفعال أن يتصل بعالَم الأفكار. ومن الصعب أن يُعين بالضبط مَن يَرْجِع إليه فضل
هذا
التوفيق، ولا أظن أننا نستطيع أن نشكَّ الآن في قيام جهد شخصي في حقل التوفيق والتنسيق
من
قِبَل فلاسفة العرب على أساس العَنْعَنَات الفلسفية، ويَرْجِع النصيب الوافر من هذا الجهد
إلى ابن سينا نفسه مع كلِّ احتمال، وذلك عَقْبَ سَلَفِه العظيم: الفارابي. وأما السُّنَّة
التي سار عليها هؤلاء المفكرون، فمن الجَلِيِّ أنها طريقة الأفلاطونية الجديدة في
الانتخاب.
•••
ويجد برهان روحانية النفس العاقلة لاحقه في برهان خلودها، وهذا ما قَدَّمَه ابن سينا
مع
الإفاضة، وسنحاول عَرْضَ جوهَرِ ما قاله في هذا الموضوع.
لقد استُخْلِص أولُ وجهٍ للدليل من شعور النفس المباشر بذاتها، أو بِقُواها على الأخصِّ،
ويشابه هذا البرهان ذلك الدليلَ الذي يُثْبِت الاختيارَ بالشعور به، ومهما يكن من أمر
فإن
النفس تُدْرِك ذاتها الخاصةَ، وهي تدركها بلا واسطة، وهي لا تخلِط هذا الإدراك بالإدراكات
الحسية، ويسأل المؤلف في «الإشارات»:
٢٤ أتوجد حال يشك الإنسان فيها في وجود ذاته الخاصة، ولا يكون موقنًا بأمره؟
وليَكن الإنسانُ غارقًا في التأمل أو نائمًا أو سكرانَ، فإنه يُدْرِك نفسَه، وافْتَرِضْ
أن
ذاتك منفصلةٌ عن الكل، وأن أقسامها غيرُ مرئيةٍ، وأن أعضاءها غير ملموسة، وأنها
كالمُعَلَّقة في الخلاء، تَجِدْ أنها تعود لا تشغل بالها بأيِّ شيء خلا توكيدها أمرَ
حقيقتها، وكلٌّ يُدْرِك ذاته من غير احتياج إلى أية قوةٍ أخرى، ولا إلى أية واسطة، وكل
ما
تدرك كأنه أنت، ليس ما تَرَى ولا ما تَلْمِسُ، ولا عضوًا من بدنك، ولا قلبَك ولا دماغَك،
فالذي تُدْرِك كأنه أنت ليس المحسوس ولا أي شيء يشابهه.
وقد يُخَيَّلُ إليك — كما يُوَكِّد ابن سينا — أنك تدرك ذاتك بواسطة فعلك، ولكنك إذا
كنت
توكِّد الفعل فإنك توكد الفاعل، وإذا كنت موقنًا بفَعَّاليتك فإنك تكون موقنًا بنفسك
مثل
فاعل، لا بطريق الاستنتاج، بل من فورك، وإن مبدأ القوى التي تدرك مجموع عناصر الجسم البشري
وتحفظه وتحرِّكه هو ما تسمِّيه النفس، وهو جوهر ينبسط في جسمك كالساق التي تنشُر أغصانَها،
وهذا الجوهر هو أنت لا ريب.
وفي «النجاة» بيان قوي عن البرهان القائل: إن القوة العاقلة تدرِك بلا آلة، ولهذا
البيان
قيمة برهانٍ ثانٍ، فقد عاد الأمر لا يدور — فقط — حول إثبات كون النفس العاقلة شاعرةً
بنفسها مباشرةً، بل حول كون القوة العقلية «تتعقَّل بذاتها، لا بآلة جسدية»، «فنقول:
٢٥ إن القوة العقلية لو كانت تَعْقِلُ بالآلة الجَسَدَانية، حتى يكون فعلها الخاص
إنما يتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية، لكان يجب أن لا تَعْقِلَ ذاتها، وأن لا تعقل
الآلة،
ولا أن تعقل أنها عقلت، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة، وليس بينها وبين آلتها، ولا بينها
وبين أنها عقلت آلة.»
وعلى العموم تُدْرِك القوى — التي تعقل بآلة — شيئًا خارجًا عن ذاتها وعن هذه الآلة
نفسها. أجل، إن إدراك الحواس الخاص وإدراكَ قوى النفس الحيوانية الأخرى يَتِمُّ بآلة،
غير
أن الحواسَّ وهذه القوى تُدْرِك أمورًا خارجيةً فقط، وهي لا تدرِك آلاتها ولا ماهياتها
الخاصة، والقوة العقلية وحدها هي التي تُدْرِك ماهيتها الخاصة؛ ولذا فهي تُدْرِك بلا
آلة.
ويقول ابن سينا مواصلًا: «وأيضًا، مما يَشْهَد لنا بهذا ويُقْنِع فيه أن القوى
الدَّرَّاكة بانطباع الصور في الآلات يَعْرِض لها من إدامة العمل أن تَكِلَّ لأجل أن
الآلاتِ تُكِلُّها إدامةُ الحركة، وتُفْسِدُ مزاجَها الذي هو جوهرها وطبيعتها … والأمر
في
القوة العقلية بالعكس، فإن إدامتها للتعقل وتصوُّرَها للأمور الأقوى يكسبها قوةً وسهولةَ
قبولٍ لما بعدها.»
٢٦ ولو كانت القوة العقلية خاصيةً جسمانيةً مشابهةً للأخرى، لوجب أن تضعُف بعد
سِنِّ الأربعين. أجل إنه يُعتَرَضُ بأن النفس في دَوْرِ الهرم وفي بعض الأمراض تَنْسَى
ما
أدركت، غير أنه لا قيمة لهذا الاعتراض؛ وذلك لأننا بعد إثبات كون النفس تعمل بذاتها،
إذا ما
سلَّمنا — زيادةً على ذلك — بأنها تنقطع عن العمل عندما يُعْوِزها البَدَن، لا يمكننا
أن
نَجِدَ في ذلك تناقضًا ولا إشكالًا.
وهناك وجهٌ آخر للإثبات يقوم على بيان أن مكان المعقولات جوهر غير عقلي، ويُطَبَّق
هذا
الدليل على النفس العاقلة كما يمكن أن يُطَبَّق على العقل الفعال، فابن سينا يُقَدِّمه
في
«النجاة» على شكل رياضيٍّ، نرى من حب الاطلاع نَقْلَه، قال المؤلف:
٢٧ «إن الجوهر الذي هو محلُّ المعقولات ليس بجسم، ولا قائم بجسم على أنه قوة فيه أو
صورة له بوجه، فإنه إن كان محل المعقولات جسمًا أو مقدارًا من المقادير، فإما أن
يكون محل الصور فيه طرفًا منه لا ينقسم، أو يكون إنما يَحُلُّ منه شيئًا منقسمًا،
ولنمتحن أولًا أنه هل يمكن أن يكون طرفًا غيرَ منقسمٍ، فأقول إن هذا محال؛ وذلك أن
النقطة هي نهاية ما لا تَميز لها في الوضع عن الخط والمقدار الذي هو مُنتهٍ إليها
حتى ينتقش فيها شيء من غير أن يكون في شيءٍ من ذلك الخط، بل كما أن النقطة لا تنفرد
بذاتها، وإنما هي طرف ذاتي لما هو بالذات مقدارٌ كذلك، إنما يَجُوز أن يقال بوجه
ما: إنه يَحُلُّ فيها شيء إذا كان ذلك الشيء حالًّا في المقدار الذي هي طرفه،
فيتقدر به بالعَرَض، فكما أنه يتقدَّر به بالعرض كذلك يَتَنَاهى بالعَرَض مع
النقطة.
ولو كانت النقطة منفردةً تقبل شيئًا من الأشياء لكان يتميَّز لها ذات، فكانت
النقطة حينئذٍ ذات جهتين؛ جهة منها تَلِي الخطَّ الذي تميزت عنه، وجهة منها مخالفة
لها مقابلة، فتكون حينئذٍ منفصلةً عن الخط، وللخط نهاية غيرُها يلاقيها، فتكون تلك
النقطة نهايةَ الخط، لا هذه، والكلامُ فيها وفي هذه النقطة واحد، ويؤدي هذا إلى أن
تكون النقط متشافعةً في الخط، إما متناهيةً وإما غير متناهيةٍ، وهذا أمر قد بَانَ
لنا في مواضع أخرى استحالتُه، فقد بان أن النقط لا تتركَّب بتشافعها، وبان أيضًا أن
النقطة لا يتمُّ لها وضع خاص، ونشير إلى طرف منها، فنقول: إن النقطتين حينئذ اللتين
يُطيفان بنقطة واحدة من جَنْبَتَيْهَا، إما أن تكون النقطة المتوسطة تحجز بينهما
فلا يتماسَّان، فيلزم حينئذٍ في البديهة العقلية الأولية أن يكون كل واحد منهما
يختصُّ بشيء من الوسطى تُمَاسُّه، فتنقسم حينئذ الواسطة، وهذا محال، وإما أن تكون
الوسطى لا تَحجُزُ المكتنفتين عن التَّماسِّ، فحينئذ تكون الصورة المعقولة حالَّةً
في جميع النقطة، وجميع النقط كنقطة واحدة، وقد وضعنا هذه النقطةَ الواحدةَ منفصلةً
عن الخط، فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها، فتلك النقطة تكون
مباينةً لهذه في الوضع، وقد وُضعت النقط كلها مشتركةً في الوضع.
هذا خلف، فقد بَطَلَ أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئًا غير منقسم، فبَقِيَ أن
يكون حلها من الجسم، إن كان محلها جسمًا، شيئًا منقسمًا، فلنفرضْ صورةً معقولةً في
شيء منقسم، فإذا فرضناها في الشيء المنقسم انقسامًا عرَّض للصورة أن تنقسم، فحينئذ
لا يخلو إما أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين، فإن كانا متشابهين فكيف
يجتمع منهما ما ليس إياهما، اللهم إلا أن يكون ذلك الشيء شيئًا يحصل فيهما من جهة
الزيادة في المقدار أو الزيادة في العدد لا من جهة الصورة، فيكون حينئذ للصورة
المعقولة شكل ما أو عدد ما، وليس صورةٌ معقولةٌ بمشكلة، وتَصِير حينئذ الصورةُ
خياليةً، لا عقليةً … وإن كانا غيرَ متشابهين فلننظر كيف يمكن أن يكون للصورة
المعقولة أجزاءٌ غير متشابهة، فإنه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلا
أجزاء الحد التي هي الأجناس والفصول، ويلزم من هذا محالات منها أن كلَّ جزء من
الجسم يَقبَل القسمة أيضًا في القوة قبولًا غير متناهٍ، فيجب أن تكون الأجناس
والفصول بالقوة غير متناهية.
وقد صحَّ أن الأجناس والفصول الذاتيةَ للشيء الواحد ليست في القوة غير متناهية،
ولأنه ليس يمكن أن يكون توهُّم القسمة يفيد الجنس والفصل تمييزًا بينهما، بل ما لا
يُشَكُّ فيه أنه إذا كان هناك جنس وفصل يستحقان تمييزًا في المحل أن ذلك التمييزَ
لا يتوقف على توهُّم القسمة، فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالفعل أيضًا غيرَ
متناهية. وقد صح أن الأجناس والفصول وأجزاء الحد للشيء الواحد متناهية من كلِّ وجه،
ولو كانت غيرَ متناهية بالفعل لَمَا كان يجوز أن يجتمع في الجسم اجتماعًا على هذه
الصورة، فإن ذلك يُوجِب أن يكون الجسم الواحد انفصلَ بأجزاء غير متناهية، وأيضًا
لِتَكُن القسمة وقعت من جهة، فأفرزت من جانب جنسًا ومن جانب فصلًا، فلو غيَّرنا
القسمةَ لكان يقع منها في جانبٍ نصفُ جنس ونصفُ فصل، أو كان ينقلب الجنس إلى مكان
الفصل والفصل إلى مكان الجنس، فكان فرضُنا الوهمي يدور مقامَ الجنس والفصل فيه،
وكان يُغير كلَّ واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة من بدنٍ خارج، على أن ذلك أيضًا
لا يَفْنَى، فإنه يمكننا أن نُرْقِعَ قسمًا في قسم، وأيضًا ليس كل معقول يمكن أن
يُقَسَّم إلى معقولات أبسطَ منه؛ فإن ها هنا معقولاتٍ هي أبسط المعقولات ومبادئَ
للتركيب في سائر المعقولات، وليس لها أجناس ولا فصول، ولا هي منقسمة في الكم، ولا
هي منقسمة في المعنى، فإذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المتوهمة فيه غيرَ متشابهة، كل
واحد منها هو في المعنى الكل، وإنما يحصل الكل بالاجتماع، فإذن كان ليس يمكن أن
تنقسم الصورة المعقولة، ولا أن تحلَّ طرفًا من المقادير غيرَ منقسم، ولا بُدَّ لها
من قابلٍ فينا، فبَيَّن أن محلَّ المعقولات جوهر ليس بجسم، ولا أيضًا قوةً في جسم،
فيَلحَقُه ما يَلْحَق الجسمَ من الانقسام، ثم يَتبَعُه سائرُ المحالات.
ولا أدري ما يُفَكِّر فيه حَوْلَ هذا البرهان، وقد يجبُ وجود روحٍ هندسية
لتذوُّقه، وأعترف بأنني نقلته مسرورًا لِمَا وجدت من طعم كثير على ما فيه من تطويل،
ثم إن مما لا ريب فيه أنه كان يُعَلق أهمية كبيرة على ابن سينا، فقد دعاه
الشهرستاني، الذي كرَّره مع تلخيص القسم الأول منه ﺑ «البرهان القاطع»؛ ولذا فإن
لنا عذرًا في إيراده.»
وقد أتبع ابن سينا هذا الدليلَ الطويل بآخرَ أقصرَ منه كثيرًا على أنه وجه آخر
له، واليوم عادت النفوسُ غير متعوِّدة جفاء البرهنة السكلاسية، فقد يبدو الشكل
الآتي للبرهان أحسنَ من ذاك. قال ابن سينا: «ولنا أن نبرهن على هذا ببرهان آخر،
فنقول: إن القوة العقلية هي التي تُجَرِّد المعقولات عن الكمِّ المحدود، والأين،
والوضع، وسائرِ ما قيل، فيجب أن نَنْظُر في ذات هذه الصورة المجرَّدة عن الوضع كيف
هي مجرَّدة عنه، هل ذلك التجرُّد بالقياس إلى الشيء المأخوذ منه، أو بالقياس إلى
الشيء الآخذ؟ أعني أن هذه الذاتَ المعقولة تَتَجَرَّدُ عن الوضع في الوجود الخارجي
أو في الوجود المتصوَّر في الجوهر العاقل، ومحالٌ أن يكون كذلك في الوجود
الخارجيِّ، فبقي أن تكون إنما هي مفارقة للوضع والأين عند وجودها في العقل، فإذن
إذا وُجِدَتْ في العقل لم تكن ذات وضع، وبحيث تقع إليها إشارة تجري أو انقسام أو
شيء مما أشبه هذا المعنى، فلا يمكن أن تكون في جسم.»
وقد أضاف المؤلف إلى ما تقدَّم قوله: «وأيضًا فإنه قد يصحُّ لنا أن المعقولات
المفروضةَ التي من شأن القوة الناطقة أن تَعقِل بالفعل واحدًا واحدًا منها غير
متناهية بالقوة، ليس واحدٌ أولى من الآخر. وقد صحَّ لنا أن الشيء الذي يَقْوَى على
أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون مَحَله جسمًا ولا قوةً في جسم.»
وخلود النفس نتيجةٌ مباشرة لروحانيتها، وبما أن النفس العاقلة غير مرتسمة في البدن،
وبما
أنها جوهر روحاني مستقل ليس البدن سوى آلةٍ له، فإن زوال هذه الآلة لا يُصِيب هذا الجوهر.
وبما أن النفس — عند اتصالها بالعقل الفعال — تُدرِك بذاتها من غير احتياج إلى أعضاء،
فإن
زوال هذه الأعضاء لا يُمكِن أن يَضُرَّها، وهذه النتائج واضحة،
٢٨ ثم إن ابن سينا هو الآن أقلُّ إقبالًا على إثبات خلود النفس العاقلة مما على
البحث عن وجه تَعَلُّقِها بالبدن.
وقد قال ابن سينا
٢٩ بثلاثة أنواع للتعلق، وهي: تَعَلُّق المكافئ في الوجود، وتعلق المتأخر، وتعلُّق
المتقدم، فإن كان تعلق النفس بالبدن تعلُّق المكافئ، وكان هذا التعلق ذاتيًّا، فإن كلًّا
منهما يضاف إلى صاحبه إضافةَ ذات، ولا يكون في الحقيقة جوهران، بل جوهر واحد، وهذا باطل،
وإن كان هذا التعلق عَرَضيًّا فقط، فإن أحد الاثنين لا يزول بموت الآخر، بل يكون هناك
جوهران: البَدَن والنفس، يمكن أن يوجدا انفرادًا،
٣٠ وإن كان التعلُّق تعلُّقَ المتأخر في الوجود، فإن البدن يكون علةً للنفس في
الوجود حينئذ، والعلل أربع كما هو معلوم، فمن المحال أن يكون البدن علةً فاعليةً للنفس،
مُعطِيةً لها الوجود؛ وذلك لأن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئًا، وإنما يفعل بقُوَاه،
ومن
المحال أن يكون البدن علةً مادية، فقد قلنا: إن النفس جوهر مطبوع في البدن كصورة الصنم
المطبوعة في النحاس، ومحالٌ أن يكون البدن مطبوعًا في النفس بتركيب تَدْخل النفس فيه،
فيكون
البدن علةً صوريةً للنفس، ومحال أن يكون البدن علةً كماليةً للنفس، والأَوْلى أن يكون
الأمر
بالعكس؛ ولذا ليس تعلُّق النفس بالبدن تعلُّقَ معلولٍ بعلةٍ ذاتية، وإنما يمكن أن يكون
البدن علةً بالعَرَض، ومتى حدث البدن والمزاج صَلَحا أن يكونا آلة النفس وملكًا لها.
وأما القسم الثالث من التعلق، فهو تعلق المتقدِّم، فيكون التقدم للنفس على البدن،
وتكون
النفس علةَ البدن في الوجود، فإن كان هذا التقدم في الزمان، فإن من المحال أن تَتَعَلَّقَ
النفس بوجود البدن وقد تَقَدَّمَتْه في الزمان، وإن كان هذا التقدم في الذات، فإن هذا
يَعْنِي أن الذاتَ المتقدمة تصدُر عن الذات المتأخرة لزومًا، ولكن عَدَمَ المتأخر يُوجِب
افتراضَ عدم المتقدم حينئذ، مع أن المتأخر لا يمكن أن يكون معدومًا إلا إذا عَرَضَ للمتقدم
ما أعدمه، وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون السبب المعدم قد عَرَضَ في جوهر النفس، فيفسُد
معه
البدن، وألا يكون البدن قد فَسَدَ بسببٍ يخصُّه، لكن فساد البدن يكون بسبب يخصه من تغير
المزاج أو التركيب، فباطل أن تكون النفس تتعلَّق بالبدن تعلُّق المتقدم بالذات؛ ومن ثم
يُستنتج عدم وجود تعلُّق ذاتي في النفس بالبدن، وإنما يوجد تعلُّق عَرَضِي يأتي من مبادئَ
عاليةٍ، وبما أنه لا يوجد غير تعلق عَرَضي، فإن النفس لا تفسُد بموت البدن.
ثم بما أن النفس جوهر بسيط، فإنها لا تستطيع أن تَجمَع في نفسها فِعلَ الوجود وقوةَ
الفساد؛ وذلك لما يرى ابن سينا من تضادِّ هذين الشرطين، وعدم إمكان التوفيق بينهما ببساطة
الجوهر، ولا يمكن وجود قوة الفساد في غير الأشياء المركبة أو الأشياء البسيطة التي تبقى
في
المركبة.
وجميعُ هذه البراهين في خلود النفس خاصةٌ بما بعد الطبيعة قطعًا، ولا يَلُوح أن ابن
سينا
عُنِيَ كثيرًا بالأدلة الخلقية أو الصوفية، ولا يَعْنِي هذا أنها كانت مجهولةً في ذلك
الحين، ولا رَيْبَ في وجودها لدى علماء الكلام، وقد قدَّم إخوان الصفا، الذين تَجِدُ
لمنهاجهم مسحةً خلقيةً أكثر مما تَجِدُ في منهاج الفلاسفة، برهانًا شعبيًّا ظريفًا نفعًا
للخلود،
٣١ فقالوا: إنه يرى أن جميع الناس يبكون موتاهم، وليست الأبدانُ هي التي يبكون ما
دامت الأبدان تحت أعينهم، وما داموا يدفنونها عادةً بدلًا من تحنيطها، وإنما نشأ بكاؤهم
عن
أمرٍ آخر، فَرَّ بعيدًا من الجُثَث.
وفي مذهب ابن سينا أن النفس الإنسانية لا توجد قبل البدن، فكلُّ نفس تُخلق عند حدوث
البدن،
٣٢ وهي تكتسب تكييفًا خاصًّا بالنسبة إلى البدن، ومن المستحيل أن تُوجَدَ الأنفس
قبل أبدانها؛ وذلك لأنها لا يُمكِن أن تكون في ذلك مُتَكَثِّرةً ولا واحدةً، وهي لا يُمكِن
أن تكون متكثِّرةً؛ لأنه لا يُمكن أن تتغاير، وعلى العموم لا يُمكِن أن تصير الأشياء
المجردة الصِّرفة متكثِّرة إلا بأشياء أخرى عينية تحتملها، وأما في حد ذاتها فإنها لا
تتغاير ولا يمكن أن تُعيَّن، ثم إن النفوسَ ليست آحادًا متحدةً قبل دخولها في الأبدان؛
وذلك
لأن النفوس التي هي في الأبدان إما أن تكون أجزاءً لهذه النفس الوحيدة، ولكن مع كونها
شيئًا
واحدًا بلا عِظَم ولا حجم، غيرَ قابلة للانقسام بالقوة، وإما أن تكون هذه النفوس آحادًا
في
الأبدان أيضًا، وهذا باطل بيقينٍ شعوري.
وتَحدُث النفوس وتكثر — إذن — عند ولادة الأبدان، وهي تعاني إعدادًا يناسب به كل واحدة
منها الجسم الذي يجب أن تسيطر عليه، ويظهر أن الوجه الذي يتمُّ به هذا الإعداد قد بَقِيَ
خفيًّا بعضَ الخفاء على عَيْن ابن سينا.
ومتى تَرَكَت الأنفسُ الأبدان فإن هذا الاختلاف الأصليَّ، المضافَ إلى اختلاف أزمنة
حدوثها وانطلاقها خارجَ الأبدان، يَحُول دون اختلاطها، فتبقى ذواتٍ منفصلةً.
والحاصل،
٣٣ أن كل حي يُدْرِك بشعوره أنه لا يوجد فيه غيرُ نفس واحدة، تُحِسُّ وتعمل
ببدنها، وتسيطر على البَدَن اختياريًّا، وما كان لنفسٍ أخرى أن تُحِسَّ بهذا البدن، ولا
أن
تعمل به، ولا أن تَتَجَلَّى فيه على الإطلاق، فلا تَعَلُّق بينها وبين هذا البدن، وينتهي
ابن سينا بوحدة النفس الفردية هذه إلى استحالة التناسخ.
٣٤
ومن الواضح أن ابن سينا بَذَلَ وسعه بهذه البراهين الأخيرة، وذلك كما أعتقد مخلصًا،
في
مكافحة مناحي وحدة الوجود، التي كان يمكن أن يَجُرَّ إليه مذهبُه، وهذا الجهد هو من الإمتاع
البالغ؛ وذلك لأننا ندرك به الحد الذي يتغلَّب به — في ذهن الفيلسوف — نفوذ العقيدة على
نفوذ الفلسفة، فعلى الفلسفة أن تنحني أمام علم الكلام فيما وراء هذا الحد، وعلى كلِّ
منهاج
— في هذه الناحية — أن يُنَظَّمَ، عند امتداده إلى هذه النقطة، على وجه لا يصدم به العقيدة،
ويجاوز ابنُ سينا هذا المَجَازَ بلا عائق، فيُثْبِت أنه وُفِّقَ لإقامة اتصال بين العلم
والاعتقاد، اللذين لَحَمَ أحدهما بالآخر، وإن شئت فقل: إنه قام بعمل السِّكُلَاسي.