خَلقُ الشخصية
وبعد ترجمة الشخصية تبدأ عملية بعث الحياة فيها، وذلك بأن يُسند إليها ما يميزها من الحركة والشغل وعادات الكلام … إلخ. ويجب ألا تكون هذه جميعًا مناسبة فحسب، بل وتكشف عن طبيعة الشخصية وانفعالاتهما النفسية إزاء مواقف المسرحية. فمثلًا قد تختال الشخصية إذا سار كل شيء على ما يرام، وتنكمش إذا أخفقت الأمور، وقد تحافظ شخصية أخرى على سمات هدوئها في جميع الحالات. وكثير من هذه التأثيرات من النوع المستتر، وأغلبها لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ. ويظن الكثيرون أن خلق الشخصية يقتضي مهارة فائقة، بيد أن الواقع أنك ما إن تعرف الكيفية التي يتم بها هذا الأمر حتى تجده سهلًا يسيرًا.
(١) المعالجة
يتوقف نجاح الممثل في بث الحياة بالشخصية التي يمثلها على مناهج المعالجة التي يتبعها في بناء الشخصية.
(١-١) المنهج الموضوعي the objective method
يتناول بعض الممثلين الحركات المميزة والصفات الكلامية على وجه موضوعي؛ فالممثل الذي يقوم بدور رجل عجوز قد يدرس عجوزًا حقيقيًّا فيجده محني الظهر، يتكلم بصوت متحشرج، أو ربما لاحظ الممثل أن معظم الكهول لهم ظهور محنية وأصوات محشرجة. وفي كلتا الحالتين نراه يسعى إلى توضيح كِبر السن بتقويس كتفيه ورفع طبقة صوته إلى درجة حادة. ولكني أقرر، بما اكتسبته من خبرة، عدم جدوى هذه الطريقة إذا استُخدمت وحدها. ففي الأدوار الطويلة، يجد الممثل أن عليه أن يقوم بمئات بل آلاف من الأشياء، إذا حسبنا كل حركة وكل نبرة صوت. فالرجل العجوز لا ينحني فقط، بل ويحرك كل عضلة وكل مفصل بطريقة خاصة. وعلى ذلك إذا أتى الممثل إيماءة خاطئة أو نطقًا لا يتفق وكبر السن أضعف الإيهام لدى الجمهور أو أفسده، وإن عشرة أخطاء من هذا النوع لتكفي لتحطيم الدور كله. وما من ممثل يستطيع ملاحظة كل شيء أو يدرس دوره دراسة تكفي لأن يجيد تقليد كل حركة وكل نبرة صوت من أول المسرحية إلى آخرها؛ إذ لا بد أن تتغلب عليه عاداته الذاتية فتُذكر المتفرجين بأنهم يشاهدون ممثلًا لا شخصية حية. وعلاوةً على ذلك فلا يلزم أن تكون الحركات والنبرات مطابقة للشخصية فحسب، بل وللاستعداد البدني للممثل. فالرجل البدين لا يستطيع تقليد رجل خفيف الحركة، ومهما أجاد التقليد فلن يقنع النظارة بذلك؛ لأن الحركات التي تتناسب والنحافة لا تتفق والبدانة.
وليس المنهج الموضوعي مقصورًا على التقليد وحده، بل يشمل كل شيء يأتي من خارج الممثل. فإذا أطعت المخرج طاعةً عمياء، أو قمت بتمثيل مشهد حسب القواعد الحرفية، وجاءت نتيجة عملك على المنهج الموضوعي.
(١-٢) المنهج الذاتي the subjective method
-
(١)
يستلزم التمرن عليه وقتًا طويلًا جدًّا وقدرًا كبيرًا من الجهد. وقد كان ممثلو ستانيسلافسكي بمسرح موسكو الفني يقومون بالتجارب (بالبروفات) اللازمة لمسرحية واحدة عدة شهور، وأحيانًا بضع سنوات قبل أن يجهزوا لعرضها على المسرح. وحتى لو أدخلنا في اعتبارنا مستوى التمثيل الراقي الذي يضعه ذلك المسرح الفني نُصب عينيه، فإن مناهجه تُعتبر غير عملية بالنسبة للفرق العادية.
-
(٢)
لا يكفي أن تُحدث تأثيرًا ما، بل يجب نقل هذا التأثير إلى النظارة. والممثل الذي ينساق مع شخصية دوره لدرجة إهمال حرفيته، يجد أن معظم فنه يعجز عن تخطي حاجز الأضواء السفلي للمسرح. ولقد عاب النقاد مسرح موسكو الفني في هذه النقطة. وجدير بالذكر أن نجاحه لم يكن إلا في المسرحيات الواقعية ذات الدراسات الشخصية، وأن محاولاته لتقديم أعمال أسلوبية لم تبلغ نفس هذا القدر من التوفيق بسبب ما تتطلبه من حرفية كبيرة.
(١-٣) المنهج المشترك combined method
إذا استخدمنا المنهجين الموضوعي والذاتي معًا، حصلنا من كلٍّ منهما على ما ينقص الآخر. وهذا يتفق والمبادئ النفسية. «فالممثل الذي يتعلم أداء بعض الحركات بطريقة معينة، ثم يتعود الإحساس بانفعالات الشخصية التي يمثلها، لا يلبث أن يعبر عن هذه الانفعالات تلقائيًّا عن طريق الحركات التي تعلمها، ما دامت تلك الحركات تتناسب مع تلك الانفعالات.»
ولكي نستخدم هذه المبادئ، يجب القيام بأعمال الإخراج الأولى على المنهج الموضوعي؛ أي بالعقل لا بالعاطفة. وتستمر هذه الفترة من الوقت الذي يبدأ فيه بقراءة نص المسرحية حتى البروفة العاشرة أو الثانية عشرة، وتشمل جميع المظاهر العامة للترجمة والأفعال، بما فيها:
-
(١)
تقرير موضوع المسرحية وعلاجها وطبيعة الشخصيات ووظائفها.
-
(٢)
تصميم التشكيلات واتجاهات العبور، وابتكار حركات الشغل.
-
(٣)
كل شيء يكون للقواعد الحرفية فيه أهمية أساسية.
ليس هناك حد فاصل بين الفترة الموضوعية والفترة الذاتية التي تأتي بعدها. ففي أثناء حفظ الممثلين لأدوارهم، يبدءون بتلمس الطريق إلى الشخصيات التي يمثلونها. وبعد أن يتم حفظ الأدوار جيدًا، يحل المنهج الذاتي، فيتعلم الممثلون أن يحسوا بمشاعر شخصياتهم شيئًا فشيئًا، ويعبرون عن هذه المشاعر من خلال الأفعال التي تعلموها؛ إلا إذا وجد أنها غير ملائمة، وفي هذه الحال يجب تغييرها. ومع ذلك يحتاج الأمر إلى عدد من التفاصيل كنبرات الصوت، والإيماءات، وهذه تستحث على أن تنشأ طبيعيًّا من العواطف.
ويجب أن يتبع الممثلون المنهج الذاتي أثناء العرض وألا يحيدوا عنه، إلا في الأحوال الآتية:
-
(١)
إذا كان هناك مواقف تستدعي التظاهر، كالعراك المسرحي، وإلا أصيب بعض الممثلين من العراك الحقيقي.
-
(٢)
إذا حال رد الفعل عند النظارة دون استمرار التمثيل، وهذا يشمل الضحك والتصفيق لمدة طويلة، ولا يشمل الأمور الخفية كبرود النظارة أو إقبالهم الذي يجب أن يحس به الممثلون ويعملوا له حسابًا في عقلهم الباطن.
-
(٣)
إذا حدث خطأ يستلزم التصحيح، ولا تحدث في الحياة الواقعية «أخطاء» من هذا القبيل، وعلى ذلك يجب حل هذه المشاكل بالطريقة الموضوعية.
(٢) كيفية الإحساس بالدور
«إذا تخيلت أنك نفس الشخصية التي تمثلها، وفكرت بأفكارها، وجدت أنك تشعر بعواطفها تلقائيًّا دون جهد ولا تكلف.» ويمكنني أن أذكر مئات من الأمثلة التي قابلتني أثناء مباشرة مهنتي كمخرج؛ ففي مسرحية «أنَّا كريستي»، لقي الممثل القائم بدور «ماتيو» صعوبة في المشهد الذي تنهال فيه «أنَّا» على «ماتيو» بالنقد اللاذع ثلاث صفحات، على حين يدير ماتيو ظهره للمتفرجين. وكان الممثل القائم بدور ماتيو صورةً طبق الأصل للممثل الذي ينتظر الإشارة ليبدأ حديثه، ولا أكثر من ذلك. فسألته ماذا يظن في انفعال ماتيو إزاء كل ذلك النقد، وماذا كان يفكر و«أنَّا» مسترسلة في نقدها له. فأجاب الممثل بأن ماتيو لا بد وأن يكون قد جُنَّ جنونه، فلم يستطع التفكير السليم، وعلى ذلك أخذ يكيل لها سيلًا من الشتائم في سرِّه. فطلبت من الممثل أن يكتب لي ذلك السيل من الشتائم التي يظن أن ماتيو كان يفكر فيها، على أن تكون تلك الشتائم بطول نقد «أنَّا»، ثم يتلو هذه الشتائم في سره طيلة المشهد. فكانت النتيجة أنه لم يعد لدينا بعد ذلك ممثل ينتظر أية إشارة ليبدأ الكلام، بل أضحى كرجل أيرلندي ثائر يهم بأن ينقضَّ على عنق «أنَّا» فيعصره عصرًا ويزهق روحها.
(٢-١) النصوص الصامتة the “silent script”
لاستخدام هذا المنهج على الوجه الأكمل يجب أن يراجع الممثل دوره — ومن الأفضل أن يكون ذلك أثناء عملية الحفظ — وأن يعيش في أفكاره الشخصية بالتفصيل، كلما ظهرت على المسرح دون أن يكون لها ما تقوله. وأحيانًا قد تكون الشخصية مصغية إلى كل ما يقال تمام الإصغاء، وأفكارها متمشية مع ألفاظ المتكلم. وغالبًا ما تنتقد في ذهنها أقوال المتحدث، أو ربما تفكر في شيء آخر يختلف عنها اختلافًا كليًّا. وبعد أن يجيد الممثل هذه النصوص الصامتة كل الإجادة، يجب أن يتلوها في سره في أثناء التمرين (البروفات) والتمثيل. حقيقةً إن هذا يتطلب منه جهدًا، ولكنه جهد ممتع. ولم يحدث أن لاحظت إخفاق هذه الوسيلة عند استخدامها بإخلاص. وزيادةً على ذلك فإن نتائجها سريعة. فالممثل الذي يقضي ساعة أو ساعتين في تلاوة «هذه النصوص الصامتة» في سره، يبدي تقدمًا ملحوظًا في البروفة التالية.
وليس من الضروري حفظ هذه «النصوص الصامتة» عن ظهر قلب، بل يكفي أن تلم بالأفكار التي تتضمنها، وتضع لها ما يناسبها من الألفاظ في أثناء البروفات والعرض؛ فهذا يوفر بعض الجهد ويمنع الابتذال.
لا يهم أن تكون لغة «النصوص الصامتة» أدبية أو متمشية مع لغة المسرحية، والواقع أن الجمل المتقطعة أفضل بكثير لأن الناس يفكرون بهذه الطريقة عادةً. وهاك مثالًا لذلك من مسرحية «روميو وجولييت»:
النص الأصلي | «النص الصامت» لبنفوليو |
---|---|
بنفوليو: افترقا أيها المعتوهان … أغمدا سيفكما؛ فلستما تعلمان ماذا تفعلان (ويضرب سيفيهما). يدخل تيبالت. تيبالت: ماذا؟ أتُجرد سلاحك بين هؤلاء الكلاب عديمي الرحمة؟ استدر يا بنفوليو، وفكر في أمر موتك. بنفوليو: ما أنا إلا ساعٍ في السلام … أغمد سيفك. |
(إنه خارج المسرح عندما يسمع بدء القتال) قتال! يا لله … إنهما يتقاتلان ثانيةً … لقد أقسم الأمير أنه سوف … «يدخل». افترقا أيتها المعتوهان … أغمدا سيفيكما؛ فلستما تعلمان ماذا تفعلان … لعنة الله عليكما (يضرب سيف جريجوري فيسقطه على الأرض). ألقه من يدك. إذا رآكما الشرطة وقعنا كلنا في مأزق. آه. آه … ها هو ذا تيبالت … يا له من … «فكر في موتك يا بنفوليو.» ما أنا إلا ساعٍ في السلام، أيها الأحمق … أغمد سيفك. |
يجب أن يبدأ «النص الصامت» قبل أن تدخل الشخصية بجملتين على الأقل ويستمر جملتين على الأقل بعد أن تخرج، أو إلى أن ينزل الستار.
ويجب أن تصاغ الأفكار في عبارات على غرار الأفكار الحقيقية لا كعبارات خبرية يرويها شخص غريب. فإذا قال الممثل القائم بدور بنفوليو في سره: «إنه (أي بنفوليو) يظن أن هناك قتالًا … إلخ.» أو حتى: «أظن أن هناك قتالًا … إلخ.» أخفقت هذه الطريقة؛ لأن كل جملة توحي إلى الممثل بأنه غير بنفوليو، والغرض الأصلي هو أن يعتبر الممثل نفسه بنفوليو.
وإذا أضاف الممثل شيئًا من التعقيب الصامت إلى عبارات دوره، ساعده ذلك كثيرًا كما في المشهد الآتي (وتجد التعقيبات الإضافية بين أقواس):
وتفيد هذه الوسيلة في اجتناب الوقوع في خطأ ارتخاء توتر الأعصاب في نهاية كل حديث. كما أنها تجعل الممثل يركِّز انتباهه في المعنى الداخلي لكلمات الدور … لاحظ كيف يتغير معنى المشهد بأَسره — وكذلك نبرات صوت الممثل — عند تغيير العبارات الصامتة.
(٢-٢) العواطف البديلة substitute emotions
يتطلب الدور أحيانًا عاطفة لا يستطيع الممثل الإحساس بها. فإذا كان في المشهد مثلًا فتاة مسلمة من عصور الخلفاء سقط النصيف عن وجهها أمام رجل غريب، فإن الممثلة التي تعودت السفور طول حياتها لا يمكن أن تحس بنفس الخجل الذي تحس به تلك الفتاة. والطريقة الوحيدة لعلاج أمثال هذه الحالات، هي أن تتصور الممثلة حالةً أقرب شبهًا بهذه تكون قد واجهتها في حياتها الواقعية، كأن تتصور أنها خلعت ملابسها وأصبحت عارية تمامًا. حقيقةً إن هذه العاطفة لن تكون هي نفس تلك، ولكن ربما يقنع بها النظارة.
(٢-٣) التمثيل المكبوت العواطف repressed acting
(٢-٤) وظيفة الممثل function of the actor
يقوم الممثل بالتمثيل، وهو الذي يجب أن يحس بعواطف الشخصية التي يمثلها؛ وعلى ذلك يلزم أن يكون له الحكم الأخير فيما إذا كانت الدوافع مناسبة أو غير مناسبة. ومهما كان شعور المخرج قويًّا بأن عاطفةً ما تنشأ عن حركة بعينها، فلا ينبغي أن يُصر على هذه الحركة إذا كان الممثل لا يوافق عليها … قد يجبر المخرج الممثل على القيام بشيء ما، ولكنه لن يستطيع إجباره على الإحساس به. والشيء الذي لا يحس به الممثل لا يمكن أن يحس به النظارة أيضًا. ومن جهة أخرى، إذا شعر الممثل بأن الدافع مناسب، كان هذا كافيًا حتى إذا لم يوافق عليه المخرج.
فإذا اختلف الممثل والمخرج، أمكن تسوية وجهة الخلاف بالمناقشة فيه. وإذا كان النقاش حول نقطة ستستغرق من الوقت أكثر مما يجب، وجب على المخرج أن يترك الممثل وما بدا له. ولكنهما غالبًا ما يصلان إلى اتفاق. لقد مرت بي مئات من أمثال هذه المناقشات. فأسفرت إما عن موافقتي على رأي الممثل وإما عن إقناعه برأيي وموافقته عليه، اللهم إلا في الحالات التي يركب الممثل فيها الغرور أكثر من المحاولة المخلصة للشعور بدوره. وكثيرًا ما يكون الممثلون المغرورون من الغباء بحيث لا يعلمون أن النظارة لا يولعون بهم بل بالشخصيات التي يمثلونها. فإذا قام أحد هؤلاء بدور لشخصية تبدو مضحكة، أو لا تتفق ورأي الممثل في نفسه، فإنه يبتكر جميع الأسباب غير المستساغة لترجمة الشخصية على ضوء أكثر جاذبية، بيد أنه لن يخدع أحدًا بهذا المنطق، والحل الوحيد هو أن يعمل المخرج على استبدال الممثل بغيره، وهذا الإجراء غير مستطاع دائمًا. ومع ذلك فإن إجبار الممثل على فعل شيء ضد رغبته لا يجدي أبدًا.