ترجمة المسرحية١
كان ممثل القرن التاسع عشر يقوم بترجمة دوره بنفسه. ولما كان هذا يتضمن ترجمة المسرحية كلها، فقد كانت المسرحيات أحيانًا تحظى بترجمات بقدر عدد ممثليها. أما في الإخراج الراقي الحديث، فإن الترجمة الأساسية للمسرحية يقوم بها المنتج أو المخرج ولا يترك للممثل سوى التفاصيل. ومع ذلك فمن الضروري أن يعرف الممثل كيف يترجم المسرحية كي يفهم الترجمة التي يمده بها المخرج.
(١) مواد المسرحية وقيمها
عند البدء بدراسة مسرحية، نجري حصرًا إجماليًّا لمادتها الدرامية، فكل ما تتضمنه المسرحية وما توحي به يعد مادةً درامية؛ كالحوار، والشخصيات، والمناظر، والأفكار، والحركات، وكل شيء. ثم نجمع هذه المواد على أساس قيمها من وجهة نظر المتفرجين تمامًا كما يقدر الصانع مدى تأثير بضائعه في الزبائن. فللثوب مثلًا تأثير نفعي من حيث الدفء والمتانة، وتأثيره على العين من حيث اللون والزي وغير ذلك، كذلك المسرحية تمد نظارتها بقيم عاطفية تسوقهم إلى الضحك أو إلى البكاء، وقيم عقلية بعرضها أفكارًا جديدة أو بتعبيرها عن الأفكار العتيقة بطريقة أوقع، وقيم مجردة تثير المتعة بالجمال وليونة التنفيذ أو بأية وسيلة جمالية أخرى. وتعتمد القيم الدرامية على المادة الدرامية، تمامًا كما تعتمد جاذبية الثوب على الزي والصنعة ونوع القماش وما إلى ذلك. فمثلًا نجد في مسرحية ماكبيث: الأطياف، والمرجل، والرقية، والتنبؤات. فمن هذه المواد نخلق القيم الخرافية للمسرحية؛ فالمادة شيء نستعمله، أما القيمة فشيء يتلقاه المتفرجون. ومع ذلك فغالبًا ما يُقصد بلفظة «القيم» القيم الكافية، إلى جانب القيم الفعلية.
ويجب أن تكون القيم العقلية مفهومة حتى يقدرها الجمهور، كما يجب تقديمها بأقصى ما يمكن من الوضوح والبساطة. وهذا يتطلب لمسات جريئة؛ جريئة لدرجة أنها تبدو ساذجة عند شرح أسرارها. أما القيم العاطفية والمجردة فلا تحتاج إلى الفهم بل إلى الإحساس، ويمكن التعبير عنها بوساطة تفاصيل تُحاك خيوطها بدهاء، حتى إن رجل الدنيا قلما يصدق أنه يمكن أن تؤثر في نفوس الجمهور إطلاقًا.
(١-١) القيم العقلية intellectual values
-
(١)
تُسمى الأفكار التي تنهض عليها المسرحية بالقيم الفلسفية؛ فالحكمة الأخلاقية التي تقول «الجريمة لا تفيد» واحدة من تلك الأفكار. وغالبًا ما تكون الفكرة خبرًا، بل سؤالًا — «هل تفيد الجريمة؟» وبعض الأفكار عبارة عن دراسات للشخصية: «كيف يتأثر مثل هذا النوع من الأشخاص بموقف اختير لإظهار مميزاته الأصلية؟» — ولا تبتئس إذا وجدت أفكار المسرحية هزيلة ضحلة. فالعمق يرجع في كثير من الأحوال إلى الصياغة اللغوية، وإذا صيغت الفكرة بإيجاز ووضوح زال عمقها. وفي الغالب لا تأتي المسرحية بجديد، وإنما تعبر عن الأفكار القديمة بأسلوب أكثر حيوية.
-
(٢)
وفضلًا عن القيم الفلسفية، فإن للمسرحية قيمًا ثقافية. والثقافة في المسرح تُغطى بطبقات سميكة من الحلوى. على أن ذلك لا يقلل من مفعولها؛ فمسرحية «سيدة في الظلام» مَثلٌ رائع للتحليل النفسي على نطاق شعبي. وفيلما «الوجهة طوكيو» و«الهدف بورما»، وغيرهما من أفلام الحرب، تعطي معلومات قيمة عن حالة فرق الجيش المختلفة.
(١-٢) القيم العاطفية emotional values
-
(١)
في كثير من المسرحيات يشارك النظارة بمخيلتهم في التجارب التي يمر بها أشخاص المسرحية (أو على الأقل أهم أشخاصها). وهذه المشاركة في التجربة محركة للعواطف، وتُعتبر من أهم العوامل جاذبيةً في المسرح.
-
(٢)
كذلك هناك قيم عاطفية ينفصل فيها المتفرج عاطفيًّا عن أشخاص المسرحية. والضحك خير مثال لذلك؛ فإننا لا نضحك ممن يأتي النكتة، بل ممن يكون أضحوكة لها.
(١-٣) القيم المجردة abstract values
وهذه تشمل:
-
(١)
ما يجذب الأنظار، كالجمال والمنظر ونحوهما.
-
(٢)
ما يجذب السمع، كالشِّعر والصوت العذب والموسيقى وغيرها.
-
(٣)
ما يجذب الذهن، كالإطار الفني والإيقاع وما إليهما.
(٢) موضوع المسرحية
الفكرة الفلسفية الرئيسية للمسرحية هي موضوعها، والموضوع هو الأساس الذي تُبنى عليه وحدة المسرحية. وهذا القول ينسحب حتى على المسرحيات التي تعتمد كليةً على القيم العاطفية؛ فثمار الكرمة طعام لذيذ، وأوراقها زخارف جميلة، ولكن الكرمة نفسها هي التي تكفلهما وتجعل منهما وحدة واحدة.
(٢-١) اختيار الموضوع choosing the theme
وإذا كانت مسرحيتك تتواثب من موضوع إلى موضوع، فإنها لن تحرك العواطف القوية أكثر مما تحرك الريح المتغيرة الأمواج العاتية. إن الموضوع المختار يتحكم في كل عناصر الإخراج. فإذا اخترت الطموح موضوعًا لك، أصبحت مادة القوى غير البشرية عديمة الأهمية نسبيًّا، وعلى ذلك ينبغي الإقلال من شأنها. وقد يختار مخرج آخر «مسايرة الأرواح غير البشرية» كموضوع لمسرحيته، وعندئذٍ يجعل الضغط كله على مشاهد الأشباح والتنبؤات؛ ولذا عليك أن تختار دائمًا الموضوع الذي تحس بأنه سيعمل أكثر من غيره على توحيد إخراجك وإبراز القيم الكافية فيه. وسنتناول في المناقشات التالية موضوعًا بعينه، هو أكثرها وضوحًا. لا تقلْ: «لا أظن أن ماكبيث (أو روميو) كان هكذا.» فقد تكون على حق في ترجمة أخرى، ولكن يجب عليك أن تتمسك بترجمتي حتى يمكنك أن تتبع الأمثلة التي أسوقها إليك. ومع هذا فلن يخلق ذلك الأمر أية صعوبة، حيث إن المسرحيات الحديثة قلما تحتوي على أكثر من موضوع عملي حقيقي واحد.
ولا يعني اختيار الموضوع أن نترك الأفكار الأخرى؛ فلا تزال ذات فائدة طالما لا نجعلها تكتسب أهميةً زائدة. وبطبيعة الحال، إذا تضاربت فكرتان فلا يمكن أن نستعملهما كلتيهما. فإذا استعملنا في ماكبيث «الجريمة لا تفيد»، فلا نستطيع في نفس الوقت أن نستعمل «وإبرة النحل يُنسي وخْزَها العسل».
(٣) العلاج
يعمل موضوع المسرحية على تماسك أجزائها. ولكن قد ينال الموضوع نفسه قليلًا من الضغط؛ إذ يوجه الضغط على أكثر القيم أهمية. وقد استعمل كثير من أفلام الحرب موضوع «الإخلاص في تأدية الواجب أعظم فضائل الجندي»، ولكن في الوقت نفسه كانت حياة المعسكرات والخطط الحربية تشغل أغلب الفيلم، وهذا ما كان يجب أن يحدث. وأحيانًا نجد لزامًا علينا أن تتعمد إهمال الموضوع؛ فقد كان موضوع مسرحية «فتيات المشاة» هو أن موظفي المكاتب في واشنطن سيَّروا الحرب بطريقة مهذبة تنطوي على كثير من الأنانية. ومع ذلك فإن تأكيد هذه الفكرة الجدية غير السارة، كان يؤدي بالنظارة إلى القنوط، بدلًا من أن يضحكوا من القيم الهزلية التي كانت الهدف الرئيسي في المسرحية. فهنا استُفيد من الموضوع في اختيار القيم الهزلية والربط بينها وإعطاء المسرحية وجهة النظر الخاصة بها، وفيما عدا ذلك أغرق الموضوع تحت السطح.
(٣-١) تحديد العلاج determining treatment
العلاج هو اختيار القيم الصحيحة التي يجب الضغط عليها، وإيجاد خير وسيلة للتعبير عنها. إنه أهم عنصر في الإخراج كله. وقد يتضمن النص الواحد جميع أنواع القيم، إلا أننا لا نستطيع في الإخراج الواحد أن نستغل سوى عدد قليل منها استغلالًا مجديًا. ففي مسرحية «روميو وجولييت» مثلًا: (١) قيم مجردة، في الجمال والمناظر والأصوات الشجية والموسيقى، وغير ذلك. (٢) وقيم ذات مشاركة وجدانية، في الحب والمغامرة. (٣) وقيم هزلية معينة … ومع ذلك فإننا نغضُّ الطرف عن الفرص المواتية لتثقيف النظارة في تاريخ الإيطاليين وعاداتهم، كما نختزل بعض القيم الهزلية. (كيف يمكنك معالجة المشهد الخامس من الفصل الرابع، بين بيتر والموسيقى، والمفروض أن جولييت ميتة؟)
(٣-٢) العلاج – (أ) الروح العامة
عندما نتكلم عن الروح العامة في إخراج ما، فإنما نعني الروح التي يتلقى بها الجمهور المسرحية في مجموعها. وتتصل الروح العامة بالقيم اتصالًا وثيقًا، وتتولد عنها، غير أننا عندما نختار روح مسرحيتنا فإننا نختار كذلك القيم التي يجب أن نشدد الضغط عليها.
الخاتمة ending
أول نقطة تجب ملاحظتها في تحديد الروح العامة هي ما إذا كانت المسرحية تنتهي بفرح أو بحزن؛ فالمسرحيات التي خاتماتها مفرحة يجب أن تسودها صفة «الأمل»، في حين تسود المسرحيات ذات الخاتمات المحزنة لا صفة اليأس، بل صفة «القضاء والقدر» أو الاكتمال، فيجب أن يقال فيها: «لم يكن هناك مفر.» أو «كانت حياة طيبةً طيلة مدة استمرارها.»
الوزن weight
الجدية seriousness
لجدية استقبال جمهور النظارة للمسرحية أثرٌ عميق في روحها العامة. هل تبدو لهم الشخصيات كأناس حقيقيين أم مجرد ممثلين؟ وخير أمثلة لذلك المسرحيات الميلودرامية ذات الطراز العتيق، مثل مسرحية «السكير». ففيما مضى، كان الجمهور يعتبرها أعمالًا جدية للغاية، أما اليوم فإنه يتقبلها كأعمال هزلية ساخرة، ولو بقي التمثيل والإخراج على حاله الأولى دون تغيير. وإذا عولجت القيم الجنسية في مسرحية كوميدية علاجًا غير جدي، أدى هذا إلى تجريد النقاد من سلاحهم. أما في التراجيديات، كمسرحية «أنطوني وكليوباترة»، فلا يستجيب علاج القيم الجنسية علاجًا عرضيًّا.
وحدة الروح unity of spirit
النظارة كالطفل يجب ألا تفاجئه بشيء قبل سابق إنذار، كأن تقول له: «سأفاجئك الآن.» وعادةً يكون هذا في صورة إنذار للمتفرجين بأن شيئًا ما سيحدث، دون ذكر لذلك الشيء. وحتى في مثل هذه المفاجأة الكاذبة، يجب أن يكون الحدث مساويًا في المتعة على الأقل، لِما كان منتظرًا. وفي التراجيديات تسلف المقدمات المبينات دائمًا لما سيتمخض عنه المستقبل؛ حتى لا يفاجأ النظارة مفاجأةً غير سارة. أما في الهزليات فيتوقع النظارة دائمًا «مفاجآت» سارة.
ولا يُقصد بوحدة الروح الامتناع عن مزج الدراما بالكوميديا؛ فالواقع أن الذوق الأمريكي السائد الآن يتطلب مثل هذا المزج. ومع ذلك ينبغي أن يكون المزج متجانسًا طوال المسرحية تمامًا كما تُمزج مواد الكعكة الجيدة الصنع … تأكد من أن نسبة الكوميديا إلى الدراما واحدة تقريبًا في كل فصل، وأن الانتقال من الوحدة إلى الأخرى لا يتم بصورة فجائية لا يستسيغها المتفرجون. وتنوع الروح العامة يُسمى «الأمزجة».
وما إن تتقرر الروح العامة في الإخراج حتى تكون مرشدًا في كل شيء. لقد مُثِّل موت ماكبيث بجميع الطرق الممكنة، من إلقاء ماكدوف الهادئ، إلى مبارزة عاتية بالسيوف. فأيهما أصح؟ … لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بعد معرفة الروح السائدة في الإخراج، فما إن تتحدد حتى يكون من السهل أداء المشهد بما يتطلبه من تحكم أو مبالغة.
(٣-٣) العلاج – (ب) الأسلوب
الأسلوب هو الطريقة التي تبرز بها قيم المسرحية. ولكل مسرحية أسلوبُها الخاص الذي يتحتم تحديده إذا كان للمسرحية أن تخرج على الوجه المرضي. وأساليب المسرحيات كثيرة، أهمها ما يلي:
لا وجود للأسلوب المجرد no pure style
لا جدال في أن تصنيف الأساليب المختلفة ومعرفتها بأسمائها عملٌ عظيم الفائدة. بيد أننا نجد عمليًّا أن لكل مسرحية أسلوبَها الخاص الذي يتضمن عدة عناصر من أساليب مختلفة. ويتجلى هذا بشيء من المبالغة في مسرحية «مدينتنا»؛ إذ نجد أسلوبها خليطًا من جميع الأنواع. فقد استُبعدت معالم البيئة الحسية إلى حد كبير (كلاسيكية)، بينما أبرزت معالم البيئة الإنسانية في كثير من التفاصيل كاد يشمل المسرحية كلها، ولغة الحوار هي اللغة الشائعة في حياتنا اليومية (واقعية). والاستعانة بالتمثيل الصامت والمؤثرات الصوتية دون ملحقات يدوية لا تخضع لمنطق (تعبيرية). ومع ذلك فقد نجحت مسرحية «مدينتنا» باستثناء ثغرات قليلة في سبك هذه العناصر التي تختلف اختلافًا شاسعًا في أسلوب واحد.
الملاءمة appropriateness
تتطلب الوحدة أن يكون الأسلوب ملائمًا للحوار والموضوع والروح والقيم الرئيسية للمسرحية. ولا يوجد عرف للأسلوب. فإذا حاولنا إخراج مسرحية «بير جينت» واقعيًّا، أو مسرحية «الأعماق السفلى» رومانتيكيًّا، أفسدناهما إفسادًا ذريعًا. وأقصى ما نستطيع أن نفعله لتغيير الأسلوب هو أن نختار موضوعًا آخر، وروحًا أخرى، ونبرز قيمًا غير القيم الأولى. فمسرحية ماكبيث مثلًا رومانسية في أساسها، فإذا عالجناها كدراسة للشخصية، مال أسلوبها قليلًا إلى الواقعية. وإذا تعمَّدنا إبرازنا الأطياف ذهبنا بالأسلوب إلى الخيالية. وإذا أبرزنا القيم الميلودرامية أصبح الأسلوب أكثر مسرحة. وعلى أي حال فإن مثل هذه التنوعات محدودة جدًّا؛ لأن الحوار سيظل كما هو مفصحًا عن الأسلوب. والحوار في المسرحيات العادية أقل مرونة مما هو في أعمال شكسبير، ولا يكاد يسمح بأي تبديل في الأسلوب.
تحديد الأسلوب determining style
يشمل الأسلوب جميع العناصر، ولكن وُجد من الأسهل عند تحليل أسلوب النص أن نركز اهتمامنا على: (١) لغة الحوار. (٢) الشخصيات. (٣) الملحقات وحركات الشغل التي يتطلبها أو يتضمنها الحوار. (٤) معالم البيئة الخلفية، وهي مقياس حساس للأسلوب. فالأسلوب الواقعي يهتم بالبيئة ويلح في التفاصيل حتى ولو كانت في غير محلها أو كان منظرها لا يسر، كأنابيب التدفئة وجرادل القمامة وما إلى ذلك. أما الواقعية الممسرحة فتُهمل معالم البيئة الخلفية، وإن كانت التفاصيل التي تستخدمها تتصف بالواقعية. وفي الأساليب الأكثر تطرفًا قد يُكتفى بالإيحاء بالبيئة الخلفية وإن بقيت معالم الصدارة (وتتمثل في المكياج والملابس والملحقات اليدوية) واقعية وعلى شيء غير قليل من التفصيل.
وفي أثناء تحليلك للأسلوب، وجه إلى نفسك الأسئلة الآتية:
هل مواد المسرحية كاملة التفاصيل، أو قد حُذفت منها التفاصيل المستهجنة وغير الهامة؟ فإننا نلاحظ في الحوار الواقعي عددًا من المصطلحات يُستعمل لغرض إبراز الواقعية فحسب، مثل: «أهلًا وسهلًا!» «هل لك في سيجارة؟» «تقولي لي …» والبذاءة كذلك، من علامات الواقعية. ومثل هذه التعبيرات يُختصر إلى أقل قدر ممكن في الواقعية الممسرحة، وتُحذف تمامًا في الأساليب الأكثر تطرفًا. وتمشيًا مع علامات الحوار هذه، نجد أن الواقعية تقدم جميع الأشخاص الممكن وجودهم في واقع الحياة دون نظر إلى علاقتهم بالمسرحية، بينما تميل الأساليب الأخرى إلى حذف مثل هؤلاء الأشخاص، أو تستخدمهم لأغراض جمالية أكثر منها واقعية. كما أن الإشارة في الحوار إلى ملحقات أو حركات قد يكون لها وجود في الحياة العادية، ولكنها لا تفي بأي غرض درامي، علامة من علامات الواقعية.
هل مواد المسرحية شائعة، أو قد اختيرت بقصد خلق تأثير معين؟ إن المواد الشائعة توحي بالواقعية. فإذا وُجد من المناسب أن يتمخط أحد الأشخاص في منديله، كان ميل المسرحية إلى الواقعية قويًّا. وإذا كانت المواد عالية تتضمن آراءً ميتافيزيقية أو أشخاصًا أسمى من البشر، كان الأسلوب أكثر ميلًا إلى الكلاسيكية. والمواد التي تتضمن الحب والمغامرات رومانتيكية. والسحر ونحوه من الأمور الخارقة للطبيعة من مواد الأسلوب الخيالي. واختيار مواد متضاربة الأنواع يدل على التعبيرية.
هل المواد منمَّقة، أو مبالغ فيها، أو محرَّفة بطريقة ما؟ إن الشِّعر والجناس، والإيقاع الظاهر، والشِّعر المنثور، كلها من أمارات الأسلوبية. وتميل اللغة في الأسلوب الكلاسيكي إلى الفخامة، وفي الرومانسي إلى التأنق، وفي الخيالي إلى الطرافة، وفي التعبيري إلى التقطع. ويتخذ أشخاص المسرحية صبغة الحوار من حيث التنميق أو المبالغة؛ فجولييت رومانسية، وبيرجينت خيالي، وأجاممنون كلاسيكي. فإن أحسست بحرِّية مطلقة في تصميم الملابس والمناظر واختيار ألوانها دون اهتمام بواقع الحال، دل ذلك على شيء من الأسلوبية.
عند التحليل الصحيح، تشير جميع التجارب إلى نفس الأسلوب. قد يكون عسيرًا أن تطابقه على واحد بالذات من الأساليب المتعارف عليها، ولكنه كفيل بأن يجعلك تطمئن إلى تجانسه. فإذا عجز عن ذلك، فمن المؤكد أنك قد أخطأت الأسلوب الصحيح للمسرحية.
الأسلوب كمرشد style as a guide
ولا يفوتنا أن حذف بعض التفاصيل يزيد من العبء على ما استبقى منها، ويحتم أن يكون كلٌّ منها ذا أهمية فردية في حد ذاته. فحركة اليد في الأسلوب الواقعي قد لا تزيد عن بضع بوصات، أما في الأسلوب الكلاسيكي أو الرومانسي فتشمل الحركة التفافةً كاملة من الذراع.
(٤) ترجمة المراحل
لقد تناولنا حتى الآن مضمون المسرحية أكثر من بنائها، مع أنه لا يقل عنه أهمية.
(٤-١) الخطة plot
الإلمام بخطة المسرحية ضروري لمعرفة بنائها؛ فالخطة عبارة عن قصة لتوضيح الموضوع. فإذا كان موضوع مسرحية ماكبيث هو «الجريمة لا تفيد»، كانت الخطة: «يحصل ماكبيث على عرش اسكتلندة عن طريق قتل الملك، ثم يفقد أمنه الشخصي وراحة باله. وتكون محاولاته لتقوية مركزه بالإكثار من القتل سببًا في اتحاد أعدائه ضده، فيحاصرونه ويقتلونه.»
وإذا كان للمسرحية عدة موضوعات، فلا مناص من أن تحتوي على عدة خطط مختلفة؛ لذا كان من الأهمية بمكان أن تستوثق من أن الخطة التي تستعملها تلائم موضوع المسرحية الذي وقع عليه اختيارك؛ لأن الخطة هيكل الفعل الدرامي، ومفتاح بناء المسرحية. وهذا صحيح حتى في المسرحيات التي تطغى بعض قيمها، كالشخصيات والفكاهة وما إليهما، على الخطة. فإذا لم تكن متمكنًا تمامًا من الخطة، فلن تستطيع أن تفهم المسرحية فهمًا حقيقيًّا. والطريقة الوحيدة لكي تتأكد من فهمك للخطة هي أن تكتبها. وليس هذا بالأمر الهين كما يبدو لأول وهلة. فإذا احتجت إلى أكثر من ثلاث أو أربع جمل، فإنك قد تجاوزت الخطة المجردة وأضفت إليها بعض القيم الأخرى … ولا تنتظر أن يكون وقع الخطة في الأذن ممتعًا، فأعظم مسرحية مثيرة في العالم تبدو مملة عند اختصارها إلى خطة مجردة.
(٤-٢) الاطراد continuity
(٤-٣) وظيفة المراحل sequences function
يجب مراعاة الوظيفة الفنية لكل مرحلة عند عنونتها. والأنواع الأساسية للمراحل خمسة:
-
(١)
مراحل الصراع sequences of conflict
-
«وعادةً تكون عقلية»، وتمد المسرحية بكيان الخطة الأساسية.
-
-
(٢)
مراحل التوازي parallel sequences
-
وفيها يتفق أشخاص المسرحية فيما بينهم اتفاقًا تامًّا، كمشاهد الغرام، ومشاهد العرض والتقديم.
-
-
(٣)
مراحل البيئة الخلفية background sequences
-
وتستعرض فيها ظروف المعيشة، دون أن يلحق بالخطة أيُّ تقدم.
-
-
(٤)
مراحل الانتقال transition sequences
-
وهي فترات دخول وخروج أشخاص المسرحية.
-
-
(٥)
مراحل الترفيه relief sequences
-
وهي الفترات التي يُسمح خلالها لأعصاب النظارة بالارتخاء بعد التوتر الشديد. وخير مثال لمراحل الترفيه مشهد البواب في مسرحية ماكبيث (وهو مشهد مضحك يعقب مشهد قتل الملك وشجار ماكبيث مع زوجته على إحضار الخنجر الذي قتل به الملك). وقلما تجد مرحلة للترفيه البحت في المسرحيات الحديثة.
-
(٥) ترجمة الشخصيات
مهما كانت الشخصية بارزة فلا أهمية لها في حد ذاتها، وإنما ينبغي أن تترجَم للنظارة كجزء من الترجمة الكاملة للمسرحية.
(٥-١) وظائف الشخصيات functions
في المسرحيات الجيدة التأليف، نجد لكل شخصية عدةَ وظائف، وإن كانت إحداها هي التي تسيطر أغلب الوقت. والخطوة الأولى في ترجمة أية شخصية هي حصر وظيفتها أو وظائفها الأساسية. وفيما يلي أكثر هذه الوظائف شيوعًا. ولا تنتظر أن تلتقي بها جميعًا في مسرحية واحدة.
(٥-٢) البطل principal
غالبًا ما يكون الشخص الذي تذكر الخطة قصته هو مفتاح الترجمة، ويطلَق عليه «الشخصية الرئيسية، أو البطل». وأحيانًا يكون هناك شخصان متعادلان في الأهمية، كما في مسرحية «روميو وجولييت». وتوزع بعض المسرحيات الأهمية بالتساوي على جميع الشخصيات، حتى ليتعذر أن تجد شخصًا يمكن أن يسمى بطل المسرحية، كما في مسرحية «الأعماق السفلى». وعادةً يكون البطل هو الشخصية الأكثر بروزًا في المسرحية، والذي يتولى معظم حوارها، بيد أن هذا ليس بقاعدة دائمة؛ فمدير المسرح هو الممثل الأول في مسرحية «مدينتنا»، ولكنه ليس بالشخصية الرئيسية. وإذا كان بالمسرحية أبطال، فهما الفتى والفتاة عادةً.
(٥-٣) الخصم antagonist
وهو أهم مناوئ للبطل.
(٥-٤) موضع الخصام subject of controversy
(٥-٥) موضع الأسرار confidant
تقال الأفكار الذاتية في المسرحيات الحديثة بصوت مرتفع لشخص ما؛ ولذا قد تدمج في المسرحية شخصية تتلقى مثل هذه الخواطر.
(٥-٦) الشخصية ذات النفع المادي utility character
تتضمن أغلب المسرحيات شخصية، كخادم، وظيفته أن يفتح الباب لكل طارق، أو يرد على التليفون، أو يوصل الرسائل، أو ما إلى ذلك من الأعمال. وليس لهذه الشخصيات أهمية تذكر في خطة المسرحية أو قيمها، ولكن أهميتها الفنية بالغة.
(٥-٧) الحكيم raisonneur
(٥-٨) الشخصيات الممثلة للجموع أو القوى characters representing groups or forces
(٥-٩) الشخصيات ذات القيم الخاصة characters who serve special values
(٥-١٠) توزيع التعاطف distribution of sympathy
ومما يجعل الشخصية موضع تعاطف النظارة، أن نسبغ عليها صفات الفكاهة، كما حدث لشخصية هوايتسيد، في مسرحية «السيد الذي أتى للعشاء». إنه انتقاد أليم للطبيعة البشرية، بيد أنه لا يوجد بين النظارة من يساء من شخصية تضحكه. وهذا هو السر في جعل المتفرجين يعطفون على شخص يتصف بالخيانة والفجور والشر. كما أنه مصدر خطر في بعض المسرحيات؛ إذ لا يستطيع البطل الجاد، مهما كان لطيفًا، أن يستلب تعاطف المتفرجين من شرير ضاحك.
(٥-١١) تعيين صفات الشخصيات characterization
والخطأ في تقدير هذه الصفات خطر يسهل الوقوع فيه. فمثلًا، في مسرحية «آبي لنكولن في إيلينوي» لبروبرت شيروود، نجد الإغراء شديدًا إلى جعل ماري (مسز لنكولن) شديدة الطموح، أنانية، مشاكسة (وهي صفات يبدو أنها كانت تلازمها في حياتها الواقعية)؛ لأن هذه الصفات تفتح أمام الممثلة مجالًا واسعًا للعاطفية الميلودرامية، إلا أن مثل هذه الترجمة تحجب القيم الدرامية الملفوفة، وتضفي على ماري أهمية لا تحتلها في المسرحية. وكذلك من الخطأ أن نتطرف فنظهرها كشخصية يعجب بها الجمهور غاية الإعجاب، رغم أنه من المستطاع فعل ذلك. إن الضرورة الدرامية تقضي بأن نجعل ماري مذمومةً بعض الشيء؛ لأن المسرحية تفيد أن أحد الطرفين أساء إلى الآخر. وعلى هذا، فكلما زاد تعاطف النظارة مع ماري واحترموها قلَّ تعاطفهم مع آبي لنكولن واحترامهم إيَّاه. ولما كان هو بطل المسرحية، يلزم صيانة شخصيته حتى ولو كان هذا على حساب خفض شخصيتها.
عندما تتوازن شخصيتان على هذا النحو، يجب توجيه التعاطف أولًا إلى أكثرهما أهمية، ثم نقلل من هيبة الشخصية الأخرى نسبيًّا. على أنه يجب علينا أن نعلم أن «الصفات المذمومة» شيء، وفقدان التعاطف شيء آخر؛ إذ يمكننا أن نسلب ماري لنكولن تعاطف النظارة بأن نصم غاياتها بالأنانية، أو بأن نجعلها تناكف زوجها. ولا حاجة إلى الأمرين معًا، أو أن نعطيها صفة مذمومة أخرى.
(٥-١٢) الشخصيات الحركية dynamic characters
(٥-١٣) الثبات consistency
وما يبدو للمرء من علامات التناقض قد لا يزيد في الحقيقة عن تغيُّر في الرأي أو الغرض. وإن هامليت ليبدو كمجموعة من التناقض إلا إذا أدرك النظارة طبيعته المتقلبة. وفي مسرحية ريتشارد الثاني، يبدو ريتشارد في البداية متوثبًا مع شهواته المفاجئة، في حين يظهر في الفصول الثلاثة الأخيرة رزينًا مثابرًا. وإزاء هذا التناقض يقف النظارة حيارى، ولا تزول حيرتهم إلا إذا وضح لهم أن ريتشارد يسلك ذلك المسلك عامدًا في الفصول الأولى ليظهر قوته وشدة بأسه، وأنه يتزن في الفصول الأخيرة بسبب تكاثر أعدائه.
(٥-١٤) الاسترشاد بترجمة الشخصيات character interpretation as guide
ما إن تنتهي من اختيار الصفات الملائمة لكل شخصية حتى تجد أن ذلك قد حل لك كثيرًا من المشاكل. بعد ذلك اسأل نفسك الأسئلة الآتية:
«فيمَ يفكر هذا الشخص في هذه الظروف؟»
«ماذا يقصد بهذه الألفاظ؟»
«ماذا يكون انفعاله في ذلك الموقف؟»
(٦) ترجمة المعاني
عندما يقول الشرقيون «السلام عليكم»، فإنما يعبرون عن الفكرة التي يعبر عنها الغربيون بقولهم: «كيف حالك؟» وهذه بدورها تحمل معنى «نهارك سعيد». غير أن الألفاظ تختلف، في حين تحمل وكلها يحمل معنى التحية. وليس المعنى في صيغة العبارة أو في الكلمات، بل في الفكرة المقصودة منها. وليس الفكرة وحدها هي التي يمكن التعبير عنها بجملة عبارات مختلفة، ولكن العبارة أيضًا يمكن أن تعبر عن عدة أفكار مختلفة، هكذا:
«كيف حالك؟» (كنت قلق البال من أجلك.)
«كيف حالك؟!» (يسرني أن أراك!)
«كيف حالك؟» (كنت مشتاقًا لرؤياك.)
والمعنى في هذه الحالات يعتمد أساسًا على الموقف ونبرات الصوت، وإلى حد بسيط على الكلمات نفسها.
ولما كان معنى السطر الواحد يمكن أن يتغير على هذا النحو، فكيف يمكننا إذَن أن نحدد المعنى الصحيح؟ الجواب على هذا أن المعنى يتوقف على ترجمة المسرحية كلها كوحدة واحدة، وعلى الشخص الذي يقول العبارة، وعلى المشهد الذي ترد فيه. إن المعنى الصحيح لا يمكن تحديده إلا باعتبار الترجمة التي يتوخاها الإخراج. ولشرح القاعدة العامة نسوق الأمثلة الآتية من مسرحية ماكبيث:
الترجمة على أساس موضوع: «السير وراء القوى غير البشرية خطر» | الترجمة على أساس موضوع: «الجريمة لا تفيد» |
---|---|
الفصل الخامس، المنظر الثالث | |
ماكبيث: لا تأتني بأية تقارير أخرى، دعهم (أي الأشراف) يهربون جميعًا (لديَّ تنبؤات أكيدة بأنني سأنتصر في هذه المعركة). حتى تتحرك غابة برنام إلى تل دانسينان. لن يتسرب الخوف إلى قلبي. من هو ذلك الغلام مالكولم؟ ألم تلده امرأة؟ |
ماكبيث: لا تأتني بأية تقارير أخرى، دعهم يهربون جميعًا (لقد كشفتني جرائمي، وأملي الوحيد هو التأثير على جنودي لكي يؤمنوا بالنبوءة التي تقول بأنني غير قابل للقتل). حتى تتحرك غابة برنام إلى تل دانسينان. لن يتسرب الخوف إلى قلبي. من هو ذلك الغلام مالكولم؟ ألم تلده امرأة؟ |
الفصل الخامس، المنظر الثامن | |
ماكبيث (لماكدوف): لقد تحاشيتك دون سائر الرجال (لأن النبوءة أمرتني بأن أتحاشاك). أما أنت فلتعُدْ أدراجك؛ لأن روحي ما زالت ملطخة بدم آل بيتك (وإذا تقاتلنا فسأصرعك إذ …) … إن حياتي تحرسها التعاويذ فلا يجب أن تستسلم لمولود أنثى. |
ماكبيث (لماكدوف): لقد تحاشيتك دون سائر الرجال. أما أنت، فلتعُدْ أدراجك (لا أريد أن أوذيك)؛ لأن روحي ما زالت ملطخة بدم آل بيتك … (كما أنني لا أريد أن تقتلني، ولكن إذا كنت مصممًا على القتال، فسأحاول تخويفك بأن أقول لك): … إن حياتي تحرسها التعاويذ فلا يجب أن تستسلم لمولود أنثى. |
(٦-١) التأكيد emphasis
إن معرفة الموضع الصحيح لتأكيد كلمة، خطوة هامة في ترجمة المعنى. لا تؤكد أكثر من كلمة واحدة في أية جملة، أو في أية عبارة طويلة، دون سبب قوي. وأحيانًا تؤكد كلمتان لتوضيح المقابلة بينهما (مثال ذلك: ليس هذا من شأني، بل من شأنك). بيد أنه من النادر أن يكون هذا ضروريًّا. والمقتضيات الأخرى لتأكيد أكثر من كلمة واحدة نادرة جدًّا بحيث يمكنك إهمالها.
(٦-٢) فترات الوقف breaks
الممثل الذي يحفظ كل فقرة كوحدة قائمة بذاتها، يميل إلى إلقائها كوحدة متشابكة دون توقف. غير أن أغلب الفقرات تتكون من عدة أفكار، وإذا لم تفصل بينها فترات وقف (كالسكوت لحظة، أو التغير المفاجئ في ارتفاع الصوت)، فلن يستطيع المتفرجون متابعة المعنى. وهناك ثلاثة أنواع أساسية للوقف:
-
(١)
التغير الكلي في الفكرة. وهذا نادر وواضح فلا نجد فيه صعوبة.
-
(٢)
الانتقال إلى فكرة مخالفة تتعلق بالفكرة السابقة لها.
-
(٣)
الانتقال إلى جزء آخر من نفس الفكرة.
والنوعان (٢، ٣) يشبهان إجمالًا التغيرات التي ترقم بنقط أو فاصلات في النص المطبوع. ومع ذلك فليست هذه المشابهة تامة؛ لأن ترقيم النصوص يتبع قواعد عرفية، بينما يعبر الوقف عن تغيرات حقيقية في الأفكار.
ولمعرفة المواضع الصحيحة للوقف، في كلٍّ من الترجمة والإلقاء، أثر عظيم في تحسين مقدرتك كممثل.