التعبير عن القيم
يحتوي النص عدة قيم كافية، بيد أنه يقتصر عند ترجمة المسرحية على اختيار ما يصلح أساسًا للإخراج. ولا فائدة للقيم الكامنة إلا إذا أمكن تحويلها إلى قيم حقيقية في أذهان النظارة.
عند التعبير عن القيم يجب على كلٍّ من المخرج والممثلين والمصممين أن يبذل قصارى ما في وسعه للإسهام في ذلك، فوظيفة المخرج نقل القيم بالتشكيلات والحركة والخطو، ووظيفة الممثلين نقلها عن طريق الشغل والإيماءة ونبرات الصوت، في حين ينقلها المصممون بمجالهم الخاص. فعندما يقول البطل «أحبك»، فإن كلًّا من القيم العاطفية والعقلية تتجلى في التشكيل والشغل ونبرات الصوت، كما تتجلى إلى حد ما في المناظر والملابس والإضاءة. فإذا وقف البطل كالخشبة في مكانه على بُعد عشر أقدام من محبوبته، أو كانت الإضاءة والملابس أفخم مما تقتضيه الحال، فلا شك أن جزءًا من قيم الحب سيفوت النظارة، وقد تحدث له بلبلة فلا يفهمون ما يقال. لقد قام المؤلف بكل ما في وسعه من حيث الألفاظ، وإذَن فلا بد للمخرج والممثلين والمصممين من القيام بواجبهم كما لو كانت السيدة العجوز الصماء الجالسة في الصف الخلفي، لا تعرف إلا القليل من لغة الكلام.
ورغم ضرورة قيام كل فرد بواجبه للتعبير عن كل قيمة، فإن هناك قيمًا معينة لا يمكن نقلها في بعض الوسائل. فعذوبة الإلقاء قيمة جمالية هامة في المسرحيات الشعرية، ولا يمكن لمصمم المنظر أن ينقلها بنجاح. ومع ذلك فلا ينبغي أن تحكم لأول وهلة بأن قيمةً ما تخرج عن نطاق اختصاصك. فالليل قيمة عقلية يمكن نقلها في صورة حية عن طريق الإضاءة، كما يمكن التعبير عنها بالحركة والشغل ونبرات الصوت وما أشبه، وعلى ذلك فلا عذر للمخرج أو الممثلين إذا تركوا هذه القيمة لمصمم الإضاءة وحده.
لا يمكن التعبير تمامًا عن فكرة ما بأن نطبعها في البرنامج، كما لا يمكن أن تكتسب صورة البقرة حياة بأن يكتب تحتها: «هذه بقرة.»
(١) القيم العقلية
لا تشمل القيم العقلية أفكارًا فحسب، بل ووقائع أيضًا. فمثلًا العبارات: «الشجاعة سيدة الفضائل»، «جون يحب ماري»، «يوجد ويسكي في هذه القارورة»، تختلف اختلافًا بيِّنًا في أهميتها، ولكنها كلها قيم عقلية. ولا يتوقف الفرق بين القيم العقلية والقيم العاطفية على مسلك أشخاص المسرحية، بل على مسلك النظارة. وغالبًا ما يحمل انفعال الممثل في أحد المواقف قيمة عقلية. مثال ذلك، انفعال الملك حيال تمثيل الجوقة الجوالة في مسرحية «هامليت» يوحي إلى المتفرجين بأنه القاتل.
ومن أهم ضرورات القيمة العقلية أن تكون واضحة يفهمها الجمهور. وقد نحيِّرهم مؤقتًا، في بعض الحالات النادرة، لخلق لغز يظهر تفسيره فيما بعد. وفي أحوال أخرى أكثر ندرة، نلتزم الغموض عندما يكون الوضوح غير مستحب. ورغم ذلك فلا ينبغي أن نحيِّر النظارة بلفت أذهانهم إلى مشاكل يستعصي عليهم حلها، أو لا تستحق عناء الحل.
حاول أن تفهم كل شيء بنفسك؛ فإذا لم تكن الفكرة واضحة لديك، فلا أمل لك في التعبير عنها. وهذه الطريقة بالغة الأهمية خصوصًا عندما تزمع أن تتعمد الغموض؛ فإذا لم تكن الفكرة جلية في ذهنك، فلن يمكنك أن تعبر عنها في غموض.
(١-١) القيم العقلية – (أ) التأكيد
عندما تقرأ هذه العبارة في كتاب: «تسللت يد جون حول خاصرة ماري، والتقت شفاهما»، فإن ذهنك ينتقل من «يد جون» إلى «خاصرة ماري» ﻓ «إليهما» ﻓ «الشفاه» ﻓ «القبلة». فالمؤلف يذكر نقطة محددة في كل مرة، والقارئ يتتبع من تلقاء نفسه. وذلك يجب أن تكون النقط التي تحتويها المسرحية مرتبة، الواحدة بعد الأخرى. ولكن المسرح يتضمن عددًا من الأشياء التي تحدث في وقت واحد. فإذا التفت المتفرج إلى «يد جون» أو «إلى الباب الواقع في الجانب الآخر من المنظر»، وكان من الواجب أن يلتفت إلى «شفاههما»؛ فاتته نقطة هامة في المسرحية. وإذا فات كثيرًا من النظارة كثير من النقط، أخفقت المسرحية.
ونظريًّا، يوجد نوعان من الانتباه:
-
(١)
الانتباه الاختياري voluntary attention، ومثاله انتباه التلميذ إلى كتابه عند التركيز عليه.
-
(٢)
الانتباه اللاإرادي unvoluntary attention، الذي يثيره تلقائيًّا مؤثر خارجي قوي كالضوء المتألق أو الصوت المرتفع.
ومن النادر أن يشترك النظارة في المسرحية بكثير من الانتباه الاختياري، إذَن فلا بد لنا من إيجاد الحافز اللازم لاسترعاء انتباههم اللاإرادي وتوجيهه إلى الموضع الصحيح في الوقت المناسب، حتى يمكن تنسيق نقط المسرحية في نظام وترتيب.
عندما يسترعي الانتباه، يقال إنه «مؤكد». ولا يمكننا السيطرة على الانتباه بطريقة مباشرة، ولكن يمكننا السيطرة على عنصر التأكيد إلى حد بعيد. ويمكن أن توجد عدة درجات من التأكيد في نفس الوقت. وتنحصر مهمتنا في المسرح في معرفة الأهمية النسبية لمختلف العناصر، وتأكيد كلٍّ منها بالدرجة المناسبة. كما تختلف هذه الأهمية النسبية من لحظة إلى أخرى. فإذا كانت الألفاظ هي الهامة — وهذا هو الغالب — كان أهم شخص هو المتكلم، حتى ولو كان دوره في المسرحية ضئيلًا، وكان الأشخاص الرئيسيون في المسرحية موجودين على المسرح.
المقابلة contrast
زيادة التأكيد increasing emphasis
لكل جديد لذةٌ عند مقابلته بالقديم؛ لذلك لا يمكن لأية صورة من صور التأكيد أن تدوم لمدة طويلة. فإذا أردت أن تؤكد شخصية ما إلى أقصى حد ممكن، فلا تضعها في أشد المواضع تأكيدًا وتتركها فيه طويلًا، بل اجعلها غير بارزة، ثم أضف إليها وسائل التأكيد شيئًا فشيئًا حتى تستغلها جميعًا. فإذا بلغت الذروة لا تبقِ عليها، وإنما تخلَّ عنها ثم أعد الكرَّة من جديد.
المخالطة blending
ليس التأكيد بالشيء الذي يُرغب فيه لذاته؛ إذ يجب أن يتناسب التأكيد المنصب على شخص ما مع أهميته في اللحظة المعينة. والتأكيد أمره سهل في العادة، ولكن تحاشي التأكيد غير المرغوب فيه أمر تكتنفه الصعوبة. وهذا ما يسمى بالمخالطة؛ لأنها تساعد الممثل على أن يندمج ويختلط، بدلًا من الظهور. وهناك وسيلتان لتحاشي التأكيد:
-
(١)
الإقلال من عنصر التقابل، ومنع التقابل الصارخ منعًا تامًّا.
-
(٢)
جعل الممثلين ذوي الأدوار غير الهامة يتجهون بأبصارهم شطر مركز الاهتمام الرئيسي.
التشتت distraction
عندما يتجه انتباه النظارة نحو الشيء غير الصحيح نقول إنه «تشتت»؛ فقد يتشتت الانتباه بالنسبة لبطل المسرحية إذا كان هناك شخص أكثر منه أهمية في تلك الآونة. وهناك حالات من تشتت الانتباه أشد خطرًا من هذه، عندما يخرج ممثل عن دوره، أو إذا أخطأ الكهربي في تنفيذ إحدى إشارات الإضاءة، أو إذا سمع المتفرجون صوت انفجار الغاز العادم في سيارة بالطريق. ففي مثل هذه الأحوال يسرح انتباه النظارة تمامًا بعيدًا عن المسرحية، حتى ليتنبهون إلى أنهم يجلسون في المسرح يشاهدون مجموعة من الممثلين ليس غير، وقد تستغرق هذه الفترة عدة دقائق قبل أن يعود جو الإيحاء ثانيةً إلى ما كان عليه. وللأسف لا يمكن تفادي جميع أنواع التشتت، ولكن يجب اتخاذ كل وسيلة للإقلال أو التخفيف منه.
التشتت المقصود intentional distraction
يلجأ المخرج أحيانًا إلى شغل انتباه النظارة بشيء بعيد عن المسرحية، كنوع من «التشتت المقصود». ومن الأمثلة التي تقتضي هذا مشاهد الموت، حيث توجد أحيانًا لحظات تقشعر فيها الأبدان، لا يمكن حذفها دون الإخلال بواقعية المسرحية. ومع ذلك فالموت نفسه مما يسوء النظارةَ رؤيتُه. وللتغلب على مثل هذه الصعوبة تسند حركة مقصودة لممثل على الجانب البعيد للمسرح تجعله بارزًا، فتتجه إليه جميع الأنظار لحظة، وعندما تعود إلى الشخص الميت تكون اللحظة غير السارة قد مرت.
(١-٢) القيم العقلية – (ب) العلاقات
ليس من الضروري أن نبين الأهمية النسبية لكل شخص من أشخاص المسرحية فحسب، بل يجب أن نوضح الدرجات المختلفة لعلاقة كلٍّ منهم بالآخر. فيجب أن ننظر إلى كل تشكيل وكل حركة، كأنها تخطيط بياني يقصد بها تصوير هذه العلاقات في المشهد.
تركيز الاتجاه focusing
وتنتج التأثيرات الملفوفة من جعل شخص يركز اتجاهه نحو موضعين في وقت واحد، ففي رسم ٤ يدل ذراعا الفتاة على علاقة بالشخص أ، بينما هي تفصح عن علاقة أخرى بالشخص ج وهي تنظر إليه. وبالمثل في رسم ٥ تجدها تنظر إلى أينما تشير أصبع قدمها إلى ج. وأصابع القدم وسيلة هامة لتركيز الاتجاه. وقد يتسبب الممثلون غير المتمرنين في خلق تركيز كاذب بأن يشيروا بأصابع أقدامهم، عن غير قصد، إلى شيء غير هام.
الرموز symbols
كثيرًا ما نحتاج لتوضيح العلاقة بين الأشخاص الموجودين على المسرح وشخص غائب أو فكرة مجردة؛ لهذا لا بد لنا من أن نرمز إلى الشخص الغائب أو الفكرة بوسيلة ما. فعندما يفكر ماكبيث في أنه سيصبح ملكًا، يمكننا أن نرمز للملكية بعرش، وعندما يفكر في مزاياها فإنه يتقدم نحو العرش، ولكنه إذا فكر في مساوئها أدار ظهره للعرش. وعندئذٍ يدرك النظارة جميعهم، حتى أغباهم، الفكرة في الحال. ويمكن أن نرمز لشخص غائب نتوقع حضوره بالباب. فالممثل الذي يتجه ببصره نحو الباب يفهم النظارة أنه يفكر في الشخص الغائب. ونموذج الطائرة يرمز إلى الطيار، كما نرمز إلى الوقت بساعة أو بنتيجة حائط، وإلى القتل بسلاح قاتل … إلخ. وقد تبدو هذه الرموز تافهة عند كتابتها، ولكنها لا تبدو تافهة للنظارة. ولا تنسَ أن الرمز المسرحي وسيلة للتعبير عن فكرة، فيجب أن يكون مدلولها واضحًا «في الحال» للمتفرجين، وإلا ضاعت فائدتها كرمز، وأصبحت مصدر حيرة للنظارة.
أهمية الموضع significance of position
يترجم النظارة (لا شعوريًّا) المواضع النسبية للأشخاص فوق المسرح إلى مدلولها الرمزي. ويمكن التعبير عن القوة والسيادة بما يأتي:
-
(١)
الابتعاد النسبي نحو أعلى المسرح.
-
(٢)
الاقتراب النسبي نحو يمين المسرح. فالممثل الموجود على اليمين، دائمًا أقوى من غيره. ويقال إن هذه الحقيقة المدهشة نتجت من تعودنا القراءة (في الإنجليزية) من اليسار إلى اليمين (من يمين المسرح إلى يساره). ومهما كان السبب، فإن فرق القوة بين جانبَي المسرح أمر لا مراء فيه؛ ولذا كان ذا فائدة حيوية للمخرج والممثل والمصمم. فالجيش في تقدمه، والصف (الطابور) الواقف أمام شباك التذاكر، وكل شيء تفكر في أنه يتغلب على مقاومة ما (سواء أكانت حقيقية أم مجازية)، كل هؤلاء يتحركون من اليسار إلى اليمين، في حين أن الجيش المتقهقر أو أي شيء نفكر في استسلامه وخضوعه لقوة أعلى، يتحرك من اليمين إلى اليسار.
-
(٣)
الارتفاع النسبي فوق خشبة المسرح. فالرجل الأقوى يقف، على حين يجلس من كان أضعف. وعندما يتحدث سيد جالس إلى خادم واقف، فإننا نعوض السيد عن حاجته إلى الارتفاع بوضعه على اليمين.
(١-٣) القيم العقلية – (ﺟ) التكرار
التنوع دستور المسرح، ولا ينبغي لنا أن نكرر شيئًا دون قصد. وهناك ثلاثة أغراض مشروعة للتكرار:
-
(١)
العدد: فعندما نريد أن نقول «أكثر من واحد»، يُفرَض علينا التكرار. فالحشد، إلى حد ما، تكرار للفرد.
-
(٢)
التأكيد: فالشيء الذي نفعله عدة مرات يصبح ولا شك أكثر تأكيدًا من الشيء الذي نعمله مرة واحدة. وقد يبعث على الملل أكثر.
-
(٣)
العلاقة: فقد نعبر عن العلاقة بين شيئين بالتكرار.
الثلاثيات triplets
هناك حقيقة نفسية غريبة، وهي أن كلمة «عديد» في عُرف المسرح تعني «ثلاثة بالضبط». ففي مسرحية ماكبيث ثلاث ساحرات، وأغلب المسرحيات الحديثة تتألف من ثلاثة فصول. وكل عمل ميكانيكي، كالطَّرق بالمِطرقة مثلًا، يتطلب ثلاث طَرقات. وإذا كان الأمر يستلزم عدة طرقات، فإننا نحاول تقسيمها إلى ثلاث مجموعات. ومع ذلك، فقلما تكرر التشكيلات أو الحركات العريضة ثلاث مرات.
مشاهد الأصداء echo scenes
التوضيبات الهزلية running gags
(٢) القيم العاطفية
لا جدال في أن القيم العاطفية أهم قيم للإخراج. فحتى المسرحيات الذهنية تعتمد على قيمها العاطفية في إشاعة الحياة في الأفكار التي تتضمنها. وقد تكون الأفكار هي كل ما يَعلق بذهن المتفرجين بعد مغادرتهم المسرح، ولكن طيلة وجودهم في مقاعدهم به، فإن القيم العاطفية هي التي تسيطر عليهم وتستولي على مشاعرهم.
(٢-١) القيم العاطفية – (أ) خلق عاطفي عن طريق القيم العقلية
بالرغم من أن القيم العقلية أقل أهمية في حد ذاتها من القيم العاطفية، فإنها قد تخلق قيمًا عاطفية في أذهان المتفرجين. فما إن يتخذ النظارة ميلًا خاصًّا نحو أحد أشخاص المسرحية، حتى يكون لكل حقيقة أو فكرة — وهاتان قيمتان عقليتان — ذات أثر في حظه، تأثير عاطفي على النظارة. ففي مسرحية «الزرنيخ والعجوز»، يعرف النظارة أن النبيذ قد مُزج بالسم. فلو نظرنا إلى هذه المسألة في حد ذاتها، لوجدناها مجرد حقيقة خالية من أي أثر عاطفي. بيد أنه عندما يبدأ البطل في شرب النبيذ (وواقعة الشرب في حد ذاتها حقيقة أخرى)، يشيع بين النظارة شعور بالخوف على سلامة البطل. ولكن عندما يبدأ الشرير في الشرب (وهذه حقيقة أخرى)، يشعر النظارة بالأمل؛ لأنه إذا سمم الشرير نفسه، عن غير قصد، نجا الأشخاص المحبوبون. وفي النهاية عندما يشرع رئيس المستشفى في الشرب (وهذه حقيقة أخرى أيضًا)، فإن النظارة يجدون فيها ما يبعث على الضحك. وصحيح أن فكرة شرب النبيذ المسمم لا تنطوي في حد ذاتها على عاطفة معينة، بيد أنها تؤدي إلى خلق ثلاثة انفعالات مختلفة عند ارتباطها بأشخاص معينين.
(٢-٢) القيم العاطفية – (ب) الاستجابة
حافز المحاكاة the imitative impulse
عندما كان هوديني يقوم بألعابه المدهشة تحت الماء، كان يأخذ أنفاسًا عميقة قبل أن يغطس. ولا شك في أن هذا إجراء ضروري، ولكنه كذلك مهارة فنية بارعة. فبعد الأنفاس الأولى، كان المتفرجون يتنفسون معه. ولك أن تتصور ألف شخص يتنفسون معًا في وقت واحد وبنظام … هذا مثال واضح لتأثير حافز المحاكاة على الجمهور.
تأثير جيمس لانج James-Lange effect
إذا شعرنا بالخوف لُذنا بالفرار. والعكس صحيح، ولكنه أقل وضوحًا، وهو أننا إذا لُذنا بالفرار شعرنا بالخوف. ولا نعني بالفرار الجري الفعلي، وإنما يكفي ما يطلق عليه العلماء النفسانيون «تحفز العضلات». فعندما نسمع صوتًا عاليًا تتحفز عضلاتنا أو تكيف نفسها للفرار. وبالرغم من أن الجري الفعلي قد يكون في عقلنا الواعي، فإن تكيف العضلات كافٍ لأن يخلق فينا عاطفة الخوف. وهذا ما يسميه العلماء النفسانيون «تأثير جيمس لانج».
الاستجابة empathy
كلما كان حافز المحاكاة قويًّا لدرجة إحداث تحفز في عضلات النظارة، خلق فيهم تأثير جيمس لانج. فإذا اتخذ شخص على المسرح مظهرًا خاصًّا، كالحزن مثلًا، مال النظارة إلى تكييف عضلاتهم لمحاكاته في مظهره. وهذا بدوره يخلق فيهم عاطفة مناسبة لذلك المظهر؛ أي الحزن. والاستجابة لا تنقل عواطف الممثل إلى النظارة مباشرةً، بل تحرك عواطفهم وتحثها، أو تؤثر فيها، بنفس الطريقة التي يتأثر بها ملف كهربي في محول بملف آخر يسري فيه تيار كهربي.
استخدام الاستجابة using empathy
يستطيع بعض الممثلين إحداث استجابات أقوى مما يستطيع آخرون. والحقيقة أن المخرج ليحتاج إلى أمثال هؤلاء الذين يثيرون عواطف النظارة ولا سيما للأدوار الرئيسية. وصفة الاستجابة لا تقل أهمية عن شدته. فإذا أحدث ممثلٌ استجابة غير الاستجابة المقصودة قيل إنه «غير مناسب للدور». وإذا أحسن توزيع الأدوار حدثت الاستجابة المطلوبة من تلقاء نفسها. وهذه نعمة لا يُجحد فضلها؛ إذ يكفي المخرج ما يبذله من جهد في اجتناب الاستجابات غير السارة.
حدث ذات مرة أنني قمت بعمل فني في مسرحية كان أحد شخصياتها عاملًا مجنونًا في مصنع للحديد والصلب، وكان عليه أن يمسك بيده المجردة مسمار «برشام» محميًّا إلى درجة الاحمرار. كان المسمار باردًا مطليًّا باللون الأحمر، وكنت قلقًا خشية أن يبدو المنظر غير واقعي. والحقيقة أنه كان بعيدًا في الواقعية لدرجة أنه خلق استجابات عنيفة في النظارة حتى إن كثيرًا منهم مرض بالأعصاب. إن استجابة سيئة كهذه لخليقة بإفساد الإخراج كله.
(٢-٣) القيم العاطفية – (ﺟ) إثارة العاطفة عن طريق الذاكرة
تشبه إثارة العواطف عن طريق الذاكرة عملية الاستجابة إلى حد كبير، إن لم تكن مساوية لها. فمثلًا تستطيع ممثلة أن تبكي باسترجاع أحزان طفولتها وقت أن ماتت قطتها التي كانت عزيزة عليها. وقد نسبب اكتئاب النظارة بأن نضع لهم نعشًا على المسرح يعيد إلى ذاكرتهم مشاعر الحزن التي تكتنفهم في الجنازات.
(٣) القيم الجمالية
تضاف إلى الإخراج أحيانًا بعض القيم الجمالية التي لا صلة لها بالقيم العقلية أو القيم العاطفية، كغاية في حد ذاتها. وهذا لا يضر المسرحيات الهزلية أو التافهة، بل قد يفيدها، ولكنه يضر بالمسرحيات القيِّمة. وكم من مرة فسد إخراج مسرحية «أغنية المهد»، لأن المخرج انتهز الفرصة ووضع الراهبات في تشكيلات جميلة المنظر، فشغل الجمال الطبيعي انتباه النظارة عن الجمال الروحي الذي هو أساس عظمة تلك المسرحية.
والقيمة الجمالية التي تُعتبر جزءًا أساسيًّا من المسرحية لا يمكن أن تبقى بمعزل. إنها تتولد عن قيمة عقلية أو عاطفية وتقويها في نفس الوقت. فإذا كانت الممثلة القائمة بدور جولييت على قدر عظيم من الفتنة والإغراء، تمتع النظارة بجمالها من أجل الجمال نفسه، وفي الوقت عينه يكون هذا جزءًا من الفتنة الأساسية التي تجعلهم يولعون بتلك الممثلة، وإذَن يُفجعون في موتها.
ومن عناصر التعبير الفنية المستخدَمة في إحداث القيم الجمالية، الوضوح، والتأكيد، والعلاقة، والرمزية، والتكرار، والاستجابة، وإثارة العاطفة عن طريق الذاكرة … أما العنصران الباقيان، وهما الانتقاء والتنسيق، فيمكن اعتبارهما من العناصر الجمالية البحتة. والواقع أنهما يتعلقان بالقيم العقلية والعاطفية أيضًا، فضلًا عن اتصالهما الوثيق بعناصر الوضوح والتكرار … إلخ. ونظرًا لما لهما من أهمية عامة فإننا سنناقشهما تحت عنوان منفرد.
(٤) التكوين
الانتقاء والتنسيق، تبعًا لبعض المبادئ، ضرورة أساسية في الفن، وفي معظم ألوان الجمال الطبيعي، إن لم يكن كلها. فذرَّة الثلج المكبرة تكوِّن شكلًا سداسيًّا، ومنظر الغروب يتألف من الصبغتين الحمراء والبرتقالية، في تقابل مع زرقة السماء. وتُسمى عملية الانتقاء والتنسيق في الفن باسم «التكوين». والتكوين وسيلة هامة في المسرح لتوضيح وتركيز القيم العقلية والعاطفية في الإخراج. وإذا جاء التكوين ممتعًا في حد ذاته خلق قيمًا جمالية.
(٤-١) التكوين – (أ) المبادئ
يمكن فهمُ أي شيء بسهولة إذا أُحسنَ انتقاء عناصره وتنسيقها حسب نظام خاص. فلو رُتبت خمسة ريالات في خمسة صفوف، كل صف منها يتكون من أربع قطع من ذات ربع الريال، لأمكن عدها في لمحة عين. أما خمسة الريالات المبعثرة فوق نضد، من مختلف أنواع القطع الصغيرة، فيحتاج عدها إلى دقيقة أو دقيقتين. والحقيقة أن كثيرًا من الناس لا يمكنه أن يعد النقود إلا إذا نسَّقها بطريقة ما، كأن يضع كل قطعة على حدة عند عدها.
ومبادئ التكوين مختلفة الأنواع والأشكال، وقد سبق أن رأينا أن المسرحية تكون طلية إذا تناولت موضوعًا واحدًا؛ أي إذا انتُقيت عناصرها بحيث تلائم الموضوع. ومن المبادئ التي ترشدنا إلى انتقاء وتنسيق مادة المسرحية، وحدة الروح ووحدة الأسلوب.
وتتخذ المبادئ الخاصة بالتنسيق أنماطًا محددة. فأساس الموسيقى كلها شكلان:
-
(١)
النمط الزمني، مثل «واحد – اثنين – ثلاثة» الفالس، و«واحد – اثنين – ثلاثة – أربعة» في المارش.
-
(٢)
النمط الطبقي، ويُكونه السلم الموسيقي والمفتاح.
والأنماط الزمنية شائعة في المسرح. فمثلًا في المنظر الخامس من الفصل الثاني لرواية «الليلة الثانية عشرة»، يختبئ كلٌّ من ماريا، وفابيان، والسير توبي، والسير أندرو، ولكنهم يُطلون برءوسهم ليراقبوا مالفوليو. فإذا ظهرت الرءوس حسبما اتفق كان الأثر ضعيفًا، أما إذا ظهرت الرءوس الثلاثة الأولى الواحد بعد الآخر على الترتيب «واحد – اثنين – ثلاثة»، ثم أطل سير أندرو برأسه بعد عدين، أي عند «عد ستة»، فإن ذلك يكون مدعاة لضحك الجمهور. وفترة الانتظار نفسها تميِّز بطء ذكاء السير أندرو. فكلٌّ من الفكاهة ومميزات الشخصية قد نشأت عن النمط الزمني البحت.
وما خطط الألوان، في الحقيقة، إلا أنماط لونية. ولانتقاء الألوان تبعًا لمبدأ بعينه، تُستخدم «عجلات الألوان» التي تباع للرسامين الناشئين ومزخرفي المنازل.
ومع أن كثيرًا من مبادئ التكوين يتعلق بأنماط محددة، إلا أن ذلك لا يجعل التكوين نفسه مسألة آلية. فيجب أن تكون المبادئ المستعملة في حالة بعينها ملائمة للموضوع، كما يلائم كلٌّ منها الآخر؛ لذا يستلزم اختيارها ذوقًا ودراية. ويمكن استعمال أنماط التكوين على أوجهٍ تفوق الحصر؛ فمثلًا أغلب المناظر المسرحية الموضَّحة بهذا الكتاب مصمَّمة على أساس المحاور، ولكنها تختلف عن بعضها اختلافًا كبيرًا. وأخيرًا لا يفوتنا أن معالم الأنماط المستخدَمة توارى عادةً بشكل أو بآخر، حتى يتم إخفاء ما قد تنطوي عليه من مظاهر آلية. وعلى هذا قد تلتقي حوائط المنظر بزوايا قائمة، ومع ذلك لا يبدو تأثيرها آليًّا؛ لأن المنظر يشاهَد من الأمام فتتغير جميع الزوايا تبعًا لقانون «المنظور»، كما يمكن مواراة معالم النمط بإجراء بعض تعديلات طفيفة عليه. فالمعروف أن صندوق الموسيقى يتبع وحدة زمنية ثابتة، بيد أن الموسيقيَّ البارع يغير من وحدة الزمن قليلًا، وبذا يتجنب الأثر الآلي.
(٤-٢) التكوين – (ب) التكوين التصويري
في أية لحظة من لحظات المسرحية، تتألف من المناظر والممثلين والملحقات والملابس والمكياج والإضاءة صورة مسرحية. ويخضع تكوين الصور المسرحية، إلى حد بعيد، لقوانين التكوين التصويري التي يعرفها غواة الرسم والتصوير، رغم عوامل أخرى؛ كالحركة، التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار. ويدخل بعض مظاهر التكوين التصويري (كالألوان مثلًا) في نطاق مهمة المصمم أكثر من الممثل أو المخرج. غير أنه لا بد للممثل والمخرج من أن يعرفا على الأقل عناصر نظرية الألوان إذا أرادا الاستفادة من أفكار المصمم على أفضل وجه. وأبسط مثل على ذلك أنه: إذا أعطى المصمم لإحدى الممثلات جونلة زاهية الألوان، فعليها أن تعلم أنه يقصد من ذلك أن تستخدم الجونلة كعنصر تأكيد، بأن تُظهرها في لحظات خاصة، وأن تخفيها تحت جونلتها الخارجية فيما عدا ذلك.
العناصر المجردة abstract elements
يمكن تحليل كل صورة مسرحية إلى عناصر يُستعمل كلٌّ منها في التكوين بطريقة خاصة، وهي:
كتل الأجسام masses
توجد على المسرح عدة أجسام، ما إن ننظر إليها حتى نفكر في وزنها وحجمها من حيث الطول والعرض والارتفاع. والكتلة الواحدة قد تتعدد أشكالها. فرغم اتفاق كلٍّ من قطعة النقود وقطعة من رخام الطاولة في الشكل الدائري إلا أن كتلتيهما تختلفان كل الاختلاف. ولوزن الكتلة «الجمالي» بعض العلاقة بالوزن الطبيعي للجسم، ولكنهما ليسا متماثلين. فللأجسام القاتمة وزن جمالي أثقل من الفاتحة اللون، كما أن شكل ووظيفة الجسم يدخلان في الاعتبار أيضًا. والطريقة الوحيدة لمعرفة الكتلة هي أن تسترشد بإحساساتك؛ فالجسم الذي يبدو لك ثقيل الوزن سيبدو ثقيلًا للنظارة أيضًا.
الإشعاعات tones
وهي الألوان بما فيها الأبيض والأسود وجميع التدريجات والأصباغ. وللصبغة ثلاث صفات:
-
(١)
الصنف hue، وهو موضعه بالطيف الشمسي كالأحمر والأزرق والبرتقالي … إلخ.
-
(٢)
الدرجة value؛ أي كونه زاهيًا أو قاتمًا.
-
(٣)
الكثافة intensity، أي حيوية اللون أو عتمته (انظر خريطة الألوان في شكل ١٧-٣).
الحيز space
وهو الفراغ الفاصل بين العناصر الأخرى، وله في التكوين نفس أهمية الأجسام الصلبة.
الإيحاء connotation
كذلك تلعب الذاكرة هنا دورها، فكلٌّ منا يربط اللون الأحمر بالدم والنار — إنه لون إشارات الخطر وأعلام الثورة — ولذا يصح أن يستخدم في إثارة مثل هذه العواطف في الجمهور. ورغم ذلك فلا ينبغي الاعتماد كليةً على تأثيرات الذاكرة إلا إذا كانت مصحوبة بالرموز الأخرى. فاللون الأحمر يعني الدم والخطر إذا ارتبط بموقف ميلودرامي، أو إذا صاحبه السواد والألوان الرمادية القاتمة. كما أن له، في مواقف أخرى، علاقة بالمخمل الأحمر الدال على البذخ والترف وحياة القصور. وأحيانًا يوحي بالدفء والبهجة. وكذلك له علاقة بأزهار عيد الميلاد القرمزية. على أن ما هو أهم من التأثير الذي تخلقه كل صبغة على حدة أن نعرف أن الألوان الصفراء والبرتقالية والحمراء ألوان دافئة ذات حرارة، ولكن الخضراء والزرقاء والبنفسجية ألوان رطبة تتسم بالرسمية.
ليست هذه المشكلة بالصعوبة التي تبدو عليها. فتأثرك وانفعالك إزاء أي صورة مسرحية هو نفس تأثر وانفعال النظارة نحوها. وعلى ذلك إذا كنت متيقظًا في اختيار هذه التأثيرات، أمكنك اجتناب كثير من الأخطاء الجسيمة. كذلك تستطيع أن تنمي حساسيتك بملاحظة درجة تأثرك بالعناصر المستعملة في المسرحيات والأفلام التي تراها. فعندما تباشر الإخراج بنفسك، حاول التفكير في الخطوط والإشعاعات والكتل … إلخ، التي ترتبط لديك بالقيم العاطفية الكامنة فيها.
التجانس والتقابل harmony and contrast
عندما تتشابه الخطوط والأشكال والإشعاعات في صورة مسرحية، يقال إنها متجانسة. فمثلًا مجموعة ملابس من مختلف درجات اللون الأخضر تُعتبر متجانسة. أما العناصر التي بينها اختلاف صارخ، كالأحمر والأخضر أو الخطوط المنحنية والمستقيمة، فتولد تأثيرًا بالتقابل. وبقدر المستطاع يجب أن تتجانس العناصر أو تخلق تقابلًا محددًا. فإذا لم تتصف بهذا ولا ذاك، كان تأثيرها عديم المعنى. ودرجة التقابل في الصورة المسرحية تتعادل دائمًا مع درجة الصراع في المشهد.
التوازن balance
إذا بدا أي تشكيل غير متوازن خلق نوعًا من التأكيد شبيهًا بما تخلقه صورة منبعجة. والقاعدة في غاية السهولة: انظر إلى المسرح كأنه أرجوحة رافعة ترتكز على محور في وسطها، وعلى هذا فالأجسام عند أحد الطرفين يجب أن تتعادل مع ما يكون منها عند الطرف الآخر. وإذَن فكتلة صغيرة تبعد عن المركز، يمكن أن تتعادل مع كتلة كبيرة قريبة من المركز في الطرف الآخر، تبعًا لنظرية الروافع التي تقول بأن «حاصل ضرب القوة في ذراعها يساوي حاصل ضرب المقاومة في ذراعها». والممثلون أهم الكتل الداخلة في نطاق عمل المخرج. ولما كان من السهل تحريك هؤلاء؛ لهذا لم يكن من الصعب إقامة التوازن في الصور المسرحية. وزيادةً على ذلك، فالتشكيلات التي تشغل قطاعًا أو قطاعين لا أكثر توازن نفسها بنفسها؛ إذ لا تستطيع عيون النظارة أن تشمل المسرح كله، بل تتركز على التشكيلات وتنتقي مركز التوازن الصحيح من تلقاء نفسها.
الثبات stability
استعمال الحيز use of space
(٤-٣) التكوين – (ﺟ) الجمال
اختلف الفلاسفة في طبيعة الجمال، ولكن في استطاعتنا أن نضع قاعدة عملية تفي بالأغراض المسرحية، وهي أنه يمكن اعتبار أي عنصر (صورة مسرحية، أو حركة أو عبارة، أو حتى المسرحية بأَسرها) جميلًا، إذا أحس النظارة بانتقائه وتنسيقه تبعًا لمبدأ خاص (أي إنه مُكوَّن)، على شرط:
-
(١)
ألا يكون التكوين واضحًا بدرجة تجعله مبتذلًا أو غير ممتع.
-
(٢)
ألا يكون هناك عنصر ناشز يُفسد التأثير … وبمعنًى آخر، إذا أردت أن تزيد في جمال صورة مسرحية فعليك بالإقلال من التقابلات والتعقيدات، فهذا يزيد — تلقائيًّا — من البساطة والتجانس، ويجعل التكوين أكثر وضوحًا. وهناك طريقة أخرى، وهي أن تختار عناصر تكوين أبسط. فكثير من الناس يجد الفالس أجمل بكثير من مقطوعة ذات وحدة زمنية معقدة.
والوضوح أكثر من اللازم خطر في معظم الفنون، غير أن تكوين الصورة المسرحية يكون دائمًا مقبولًا حتى ولو كان في وضوح الكارت بوستال. وهذا مما يجعل الجمال في المسرح سهل البلوغ.
ليس الجمال مرغوبًا دائمًا. فلا محل له في الواقعية أو الواقعية المسرحية، وهو خطر في الميلودراما والمهازل. ومثل هذه المسرحيات تتطلب أنواعًا ملفوفة من التكوين.
(٤-٤) التكوين – (د) الخلاصة
دراسة التكوين تستغرق العمر كله؛ لذا وضعنا في آخر هذا الكتاب قائمة بأسماء كتب تفيد في دراسة بعض إمكانياته العديدة. ولا تجعل تعقدات الموضوع تفزعك، فسوف تجد فيها بدلًا من المصاعب فرصًا متاحة. وأهم ما يجب أن تضعه نُصب عينيك، هو أن كل شيء ينسق طبقًا لمبدأ أو نمط خاص، يسهل على المخرج إدراكه، ويسهل على الممثل تذكره وتنفيذه، ويسهل على النظارة استيعابه.