تمهيد
هذا كتابٌ عن الآراء التي اعتنقها الناس — ولا يزالون يعتنقونها — في عالمنا الغربي فيما يتعلَّق بالمشكلات الكبرى؛ المشكلات الكونية التي تبحث عما إذا كان للعالم معنًى في مقدور البشر أن يدركوه، وإذا كان الأمر كذلك فماذا عسى أن يكون هذا المعنى، والمشكلات الخلقية التي تبحث عما إذا كان لِما نعمل ولِما نريد أن نعمل معنًى من المعاني، والتي تبحث أيضًا فيما نعني فعلًا بالخير والشر، والجميل والقبيح. وأن مجموع ما دوَّن الإنسان من إجابات عن هذه المشكلات وما شابهها — وأعني بها الجانب الأكبر من فلسفتنا الغربية، وما لدينا من أدب وفن، وتاريخ طبيعي من بعض الوجوه — لَيشغل ملايين المجلدات، ومِن ثَمَّ فإن أية طريقة من طرق السرد لهذه الإجابات لا بد أن تهمل منها أكثر مما تستطيع أن تُورِد.
وهناك عدة وسائل ممكنة يسترشد بها مؤرِّخ هذه الآراء والأفكار؛ وسائلُ يمكن أن نسميها مجازًا: طُرق رسم مصورات الأفكار، وهو تشبيهٌ أصدقُ من كثير من التشبيهات في أغلب الأحيان؛ لأن المؤرِّخ والصور كليهما لا يستطيعان قطُّ أن يعرضا على قارئ الكتب أو المصورات صورة كاملة من الواقع الذي يريدان أن ينقلاه إليه. وأقصى ما بوسعهما أن يقدِّما إليه تخطيطًا، أو مجموعة من الدلائل التي تشير إلى الواقع. وهناك وسائل متباينة للاختيار من المجموعات الضخمة من التفصيلات قد تحصل على مصوَّر يحشد فيه صاحبه كلَّ ظاهرة لها اسم، وكل جبل صغير، أو نُهير، أو ملتقَى طرق. وقد يحصل على مصوَّر يتجاهل كثيرًا من التفصيلات بقصد إطلاع القارئ على موقع الأرض، وشكل السلاسل الجبلية فيها، والعلاقات القائمة بين تصريف المياه، والتضاريس، وطرق المواصلات، إلى غير ذلك. والطريقة الأولى والطريقة الثانية نافعتان على السواء، ويتوقف نفعُهما على حاجاتِ مَن يستخدم الطريقة، وسنحاول قطعًا في هذا الكتاب، عند رسم مخطَّط لتاريخ الأفكار، أن نسلك الطريقة الثانية. سنحاول في هذا الكتاب أن نرسم صورة عامة لمواقع الحركات الثقافية والفكرية، وسوف نهمل كثيرًا من الأسماء الشهيرة، بل وربما نهمل أيضًا قليلًا من المعالم، وذلك في سبيل إيضاح ما أحسته مجموعاتٌ كبيرة من الرجال والنساء في الغرب فيما يتعلَّق بالإجابات عن المشكلات الكبرى في مصير الإنسان.
وهناك أيضًا مجموعة أخرى لها أهميتها في الوسائل المتباينة التي يسترشد بها مؤرخ الفكر. ويتضح هذا التباين في المفارقة بين انتقاء الأفكار والآراء التي يَعُدُّها المؤرِّخ حقًّا أو صدقًا، وعرْض مختاراتٍ لا تحيُّز فيها للآراء والأفكار لكي يصدر القارئ حكمه الخاص فيها، والطريقة الأولى — في تعبير المصطلحات التربوية — تقوم على أساس المبدأ الذي يقول ﺑ «أن التعليم هو تثبيت الأفكار»، وأما الطريقة الثانية فأساسها «أن التعليم هو عرض المشكلات».
وليست الطريقة الأولى أو الثانية — في عالم الواقع — بالعامةِ التي لا تَقبل الاستثناء؛ ذلك أن الطريقة الأولى مهما تكن جازمة — في الغرب على الأقل — قلَّ أن يَقصد بها أربابُها أن يروي المتعلم ما يسمع أو يقرأ عن ظهر قلب. كما أن الطريقة الثانية مهما تبلغ من التهاون وحرية الفكر لا يمكن أن يعني بها أصحابها أنه لا يجوز البتة النقلُ عن الثقات، وأن كل امرئ يصوغ آراءه الخاصة في دنياه الخاصة. كلتا الطريقتين كالقطبين في هذه الدنيا أرضٌ باردة غير مأهولة. ومهما يكن من أمرٍ فإن هذا الكتاب سوف يحاول أن يقترب من دائرة القطب الثاني، من المبدأ الذي يقول بأن الفرد يجب أن يبذل جهدًا كبيرًا تلقائيًّا، فيفكِّر وينتقي وحدَه، وأن تاريخ الفكر — على حد تعبير ألفرد نورث هوايتهد الواضح — إنما هو «مغامرات الأفكار» لكلِّ مَن يغوص في هذا التاريخ. وكل مغامرة تتضمن شيئًا من الشك.
وهذان الاتجاهان — أعني في الخطوط العريضة دون التفصيلات، والتفكير المستقل دون استيعاب المعرفة «الصحيحة» وتفسيرها — يتفقان مع الشعور السائد في الولايات المتحدة بأننا استوعبنا في الماضي من الوقائع أكثرَ مما ينبغي، وفكَّرنا فيها أقلَّ مما ينبغي.
ويتضح هذا الشعور في الحركة التي تؤيد التعليم العام — مهما يكن الاسم الذي يُطلق على هذه الحركة. وحركة التعليم العام هذه قد يُغالى فيها، شأنها في ذلك شأن أكثر أمثال هذه الحركات. وتدرك العامةُ بحكمتها الخطرَ الذي يحدق بالطفل إذا ألقينا به في خضم الماء ثم تخلينا عنه، ولا يحب الإنسان العاقل أن يلفظ «الطفل» — وأعني به هنا السيطرة السليمة الطيبة على الوقائع الضرورية. وثقافتنا — بوجه عام — منظمة تنظيمًا يدعو إلى الإعجاب، ويسمح باستجماع الحقائق اللازمة للتفكير المثمر في مشكلةٍ معينة استجماعًا دقيقًا وسريعًا، كما يهيئ الاتصال المباشر بهذه الحقائق؛ فهناك كثرة من المكتبات، ودوائر المعارف، وكُتُب النصوص التي هي في الواقع من أمهات المراجع.
وكذلك لا يحب إنسان عاقل أن يلفظ «الطفل» الذي يتمثل في التعميمات السليمة، أو النظريات. غير أن في هذا المجال مشكلة، تلك هي الفصل بين التعميمات السليمة، والتعميمات غير السليمة. في ميدانٍ مثل ميدان العلوم الطبيعية توجد نواة من النظريات يعرفها كلُّ العاملين ذوي الكفاية في الميدان، ولا مناصَ لهم جميعًا من قبولها. وليس الأمر كذلك في ميادين علوم الدين والفلسفة والأدب والفن — كما سنبيِّن فيما بعد — فمن البيِّن هنا أن رجال المعرفة والذوق يختلفون فيما بينهم اختلافًا شديدًا؛ لأننا في هذه الميادين لا نكتفي بالتساؤل «عما هو كائن»، وإنما نحس جميعًا، بدرجاتٍ متفاوتة، أن «شيئًا آخرَ ينبغي أن يكون».
وفي المجتمع الديمقراطي يعتقد الناسُ أن لكل عضوٍ في المجتمع دورًا يلعبه في العملية المعقَّدة التي يتحوَّل فيها «ما ينبغي أن يكون» — أي حاجات الناس والأشكال التي يعبِّرون بها عن هذه الحاجات — تدريجًا، وبصورة ناقصة، وربما كذلك بطريقةٍ لا يمكن التنبؤ بها، إلى «ما يكون». (والمشكلات التي يقابلها المرء في هذه العملية، وهي أولًا: هل العملية وهمٌ من الأوهام؟ — وتلك هي بعينها المشكلة القديمة: الحتمية أو حرية الإرادة — هذه المشكلات أمثلة طيِّبة للمشكلات التي لا تُحَلُّ ولكنها — برغم ذلك — مُلِحَّة، ولها أهميتها التي لا يمكن تجاهلها، وقد اهتم بها العقل الغربي آلاف السنين.)
لا بد للفرد في المجتمع الديمقراطي أن يمارس الحكم في مثل هذه المشكلات؛ لأنه إذا لم يفعل فلا مندوحةَ من أن يُصدِر فيها الحكمَ خصومُ الديمقراطية أصحابُ النفوذ بطريقةٍ لا ترضيه. وقد عبَّرتُ ﺑ «الممارسة» عمدًا؛ لأني قصدت إلى بذل الجهد العقلي والبدني. ولكن الجهد العقلي معناه إصدار القرارات، ومحاولة حل المشكلات التي لم يُبَتَّ فيها مقدمًا، ومحاولة الموازنة والاختيار بين التعميمات المتعارضة. وهذا الكتاب يعطي القارئ الجاد فرصةً كافية لمثل هذه الممارسة.
ولم أهدف من هذا الكتاب أولًا إلى أن أقدِّم للقارئ المعرفة، وليس هو بالكتاب الذي يُعِين القارئ على أن يتفوَّق في حل الألغاز، وليس تاريخًا لأي نظام من النظم الكبرى، عن دين، أو فلسفة، أو بحث، أو علم، أو أدب، أو فن؛ فإن كتابًا موجزًا يعالج كلَّ هذه الموضوعات لا يعدو أن يكون قائمة بأسماء، وقليلًا من العناوين الملائمة، كقولنا مثلًا: «شلي الهوائي»، أو «كيتس صاحب الصوت العذب». وأود أن أذكر بخاصةٍ أن هذا الكتاب ليس تاريخًا للفلسفة، ولم يكتبه فيلسوف محترف، ولا يعالج فيلسوفًا واحدًا معالجةً كاملة شاملة من جميع النواحي. وإنما أحاول جهدي في هذا الكتاب أن أعالج ذلك الجانب من عمل الفيلسوف الذي كان له أثرٌ فيما عند الطبقات المثقفة من آراء. إنه — على حد تعبير المستر د. س. سومرفل — تاريخُ آراء (أي وجهات من النظر) أكثر منه تاريخ أفكار. ولا يمكن أن يَحُلَّ محلَّ الدراسة العميقة لتاريخ الفلسفة بشكلها المعروف لأولئك الذين يريدون أن يقوموا بمثل هذا العمل.
وثمَّة كلمةُ إيضاحٍ أخيرة. إن القارئ الجاد قد يجد أن معالجتنا لكثير من هذه المشكلات أبعدُ ما تكون عن الجِد، بل قد يجدها خفيفةً لا وزن لها، وهذه مشقة حقيقية. ويبدو لمؤلِّف هذا الكتاب أن كثيرًا من المشكلات الضخمة التي تتعلَّق بالخير والجمال كثيرًا ما عُولجت — وبخاصة بين الشعوب التي تتكلم الإنجليزية — بقدْر كبير من التوقير، مما أدَّى إلى الخلط الشديد بين «ما ينبغي أن يكون» و«ما هو كائن». ويحب الأمريكيون أن يَعُدُّوا أنفسهم مثاليين، والواقع أن كثيرًا منهم كذلك. غير أن الأجانب كثيرًا ما يتهموننا بأننا نَفصِل فصلًا تامًّا بين مُثُلِنا وأعمالنا، وهم في هذا غيرُ منصفين، بالرغم من أن موقفهم له سندٌ من الواقع؛ فنحن نميل — كشعب — أن نقدِّس بعض الآراء المجردة إلى درجةٍ يحتمل معها أن نخطئ فنحسَب أننا بمجرد تدوين الأفكار على الورق، وبمجرد قبولنا شفويًّا لهدفٍ من الأهداف باعتباره فاضلًا، قد حققنا الهدف. ويشهد بذلك تاريخ حياة وودرو ولسن منذ إعلان الشروط الأربعة عشر حتى الانتهاء من معاهدة فرساي. ويشهد بذلك أيضًا «التعديل الثامن عشر».
وقد بذلت في هذا الكتاب إزاء هذه الموضوعات جهدًا يشبه جهدَ الطبيب في عيادته، وهو نظرة إلى الأمور تتطلب دِقَّة البحث في التافه والحقير بُغية إدراك ما نعالجه فعلًا عندما نَدرُس الأفكار التي لها تأثيرها في الكائنات البشرية التي تحيا فعلًا. ولا يمكن أن تُوصم هذه النظرة بأنها «ضد التوقير»، وإنما هي نظرة «لا يتوافر فيها التوقير» أثناء القيام ببحث المشكلة بالطريقة التي يعالج بها الطبيب مرضاه.
ولا تعني هذه النظرة إنكارَ وجود الخير والجمال، أو إنكار الرغبة فيهما، أكثر مما يعني الفحص الطبي إنكار وجود الصحة والسلامة أو الرغبة فيهما.
حدود تاريخ الفكر
إن مجال الدراسة الذي يُعرف باسم تاريخ الفكر ليس أمرًا هينًا محدود الجوانب؛ فقد يندرج تحت هذا العنوان مدًى فسيح من الموضوعات الفعلية، من آثار الفلاسفة الممعنِين في التجرُّد، إلى التعبير عن الخرافات الشائعة مثل التشاؤم الشديد من العدد ١٣. وقد تعرَّض مؤرخو الفكر لأفكارِ الفلاسفة كما تعرَّضوا للآراء التي يعتنقها رجل الشارع، ومهمتهم الأساسية هي محاولةُ تعرُّف «العلاقات بين آراء الفلاسفة، والمثقفين، والمفكرين، وطريقة العيش الواقعية للملايين الذين يحملون على عواتقهم واجبات المدنية».
وهي مهمةٌ تفرِّق أساسًا بين تاريخ الفكر وبين تلك النُّظم القديمة الثابتة، مثل تاريخ الفلسفة، أو تاريخ العلم، أو تاريخ الأدب. مؤرِّخ الفكر تهمه الأفكار أنَّى وجدها، سواءً أكانت أفكارًا همجية أم معقولة، تأمُّلًا رقيقًا أم تحيُّزًا عامًّا. ولكنه يهتم بهذه الثمار من نشاط الإنسان العقلي من حيث تأثيرها في وجود الإنسان كلِّه أو تأثُّرها بهذا الوجود. ومن ثَمَّ فهو لا يتعرَّض فقط للأفكار المجردة التي تولد غيرها من الآراء المجردة؛ فهو لا يتعرض مثلًا لتلك النظرية السياسية المجردة التي تُعرَف بالعقد الاجتماعي كأنها ناحية من نواحي التفكير المشروع فحسب. إنما هو يعالج حتى أشد الأفكار تجريدًا عندما تتسرب هذه الأفكار إلى رءوس الأفراد العاديين وقلوبهم؛ فهو يفسِّر ما كان يعني العقد الاجتماعي لأولئك الثوار في القرن الثامن عشر الذين قرَّ في نفوسهم أن حكَّامهم قد خرقوه.
ولعمري إنها لمهمة شاقة. إن مؤرخ الفكر يحاول أن يستنبط مجموعة مركَّبة من العلاقات بين ما تكتبه قلَّة من الأفراد وما يقوم به فعلًا كثيرٌ من الأفراد. ومن اليسير عليه — على الأقل في الخمسة والعشرين قرنًا الماضية من تاريخ المجتمع الغربي — أن يكتشف وأن يحلِّل ما كتبته القلة وما قالته. وقد لا يبلغ هذا السجل حدَّ الكمال، ولكنه يصل إلى درجة نادرة من الإجادة، حتى فيما يتعلَّق باليونان والرومان، وذلك بفضل الجهد الذي بذلته أجيال متعاقبة من الباحثين. غير أن مهمة مؤرِّخ الفكر ظلت شاقة حتى أمدَّته المطبعة والتعليم العام في الصحف والمجلات والرسائل وما إليها بسجلٍّ لِما فكَّر فيه وأحسَّ به عامة الناس؛ فقد يستطيع المؤرِّخ أن يصف في وضوحٍ رأي الناس على اختلاف طوائفهم في أدولف هتلر، سواء أكانوا في ألمانيا أم في خارجها، غير أنه لا يستطيع البتة أن يعرف رأي الملايين من عامة الناس — الذين لم يسمع بهم أحدٌ في العالم اليوناني الروماني — في يوليس قيصر؛ فلم يكن ثمَّة استفتاء للرأي العام كاستفتاء «جالوب» في أمريكا، ولم تكن هناك رسائل لرؤساء تحرير الصحف أو مجلات شعبية. غير أن مؤرِّخ الفكر — برغم هذا — لا بد أن يبذل جهدًا في رسم صورة متكاملة يجمعها من شتيت المصادر للطريقة التي كانت تسري بها الأفكار في صفوف الجماهير؛ إذ كان يتحتم عليه ألا يحصر نفسه في تحليل الأفكار في صورةِ أفكارٍ أخرى.
وفي الحق أن هناك ما يسوِّغ حصْر تاريخ الفكر فيما أسماه المرحوم ج. ﻫ. روبنسن: «الطبقات المثقفة». وقد عرَّف الأستاذ بومر بجامعة ييل الطبقة المثقفة ﺑ «أنها لا تقتصر فقط على الفئة الصغيرة نسبيًّا من المفكرين والمبتكرين العميقين فعلًا، أو على المحترفين وحدَهم من الفلاسفة ورجال العلم والدين، والباحثين عامة، وإنما هي تشمل أيضًا رجال الأدب والفن المبدعين، وناشري الأفكار، والجمهور القارئ الذكي.» وبعبارةٍ أخرى نستطيع أن نقول إنه من المعقول أن نحصر تاريخ الفكر فيما يقوم به المثقفون من أفعال وأقوال وكتابات. وبالرغم من هذا فإن تعريف الأستاذ بومر يبدو ضيقًا بعض الشيء. ثم إنه مما لا شك فيه أن الأفراد غير المثقفين — حتى بالمعنى اللفظي الذي يتصل بالبحث وقراءة الكتب — والأفراد غير الأذكياء، يتقبَّلون الآراء التي تتصل بالحق والباطل، ولهم أهدافٌ يمكن أن يُعبَّر عنها باللفظ، بل هم يعبِّرون عنها فعلًا، كما أنهم يتأثرون بكل ضروب العقائد، والمذاهب، والخرافات، والتقاليد، والعواطف. إن تاريخ الطبقات المثقفة يستحق التدوين، ولكنه لا يشمل كل تاريخ الفكر، أمَّا إن كان يشمله بأكمله فلا بد من البحث عن عنوانٍ آخرَ لِما يتعرَّض له هذا الكتاب.
إن مصادر دراسة الأفكار (بأوسع معانيها) التي تعتنقها عامة الناس متعددةٌ في الواقع. ومن الجلي أن الأدب ليس على درجةٍ من التفكير المجرَّد أو من المستوى الرفيع كالعلم أو الفلسفة الشكلية. وما بقي لدينا من الأيام التي سبقت الطباعة هو — بطبيعة الحال — مما يتصل نسبيًّا بالمستوى الرفيع؛ فلدينا من عهد الإغريق والرومان والعصر الوسيط، بل ومن عصر النهضة، ما هو أقربُ إلى مستوى «النيويورك تايمز» منه إلى المختصرات الموجزة، أو أقرب إلى برنارد شو منه إلى «آني الصغيرة اليتيمة». غير أنه لا يزال لدينا — برغم هذا — قدْر كبير من الواضح أنه أقرب إلى مستوى الأرض منه إلى سماء الفلسفة؛ فنستطيع أن نتصل بسقراط الفيلسوف كما ظهر لتلميذه أفلاطون إذا نحن قرأنا «السُّحُب» لأريستوفان، وهي مسرحية يسخر فيها كاتبٌ شعبي ناجح من سقراط. ونستطيع أن نتعرَّف الأفراد في العصور الوسطى من رجال ونساء لا كما وصفهم الفلاسفة ورجال الدين، ولكن كما وصفهم رجال الدنيا كما فعل شوسر في «حكايات كانتربري».
لقد خلَّف الرجل العادي — حقًّا — آثارًا كثيرة غير تلك التي وصلت إلينا فيما نسميه الأدب؛ فليس لدينا في الديانات علوم الدين فقط — وأعني بها العناصر الفكرية الأوضح التي تقابل ما يُسمَّى الفلسفة في أمور الدنيا — وإنما لدينا كذلك الطقوس، وما نؤديه كل يوم، بل ولدينا كذلك ما نسميه — إذا جعلنا من أنفسنا حماة للتراث القديم — خرافات العصور الوسطى والقديمة. وإن جانبًا كبيرًا مما لا بد أن يستند إليه مؤرِّخ الفكر هو مما جمعه المختصون الذين نسميهم المؤرخين الاجتماعيين، وهم أولئك الذين أخذوا على أنفسهم واجب البحث عن الأسلوب الذي كانت عامة الناس من جميع الطبقات تعيش فعلًا وفقًا له. ولم يهتم هؤلاء المؤرخون الاجتماعيون في أغلب الأحيان فقط بما كان الرجال والنساء يأكلون ويلبَسون ويفعلون لكسْب عيشهم، وإنما اهتموا أيضًا بما كانوا يعتقدون خطأه أو صوابه، وبما كانوا يتطلعون إليه في الدنيا والآخرة. وكم من مؤرِّخ اجتماعي انقلب — بمعنًى ما — إلى مؤرخ للفكر، يركِّز اهتمامه فيما كان يدور في خَلَد رجل الشارع العادي.
ومِن ثَمَّ فإن الواجب الكامل لمؤرخ الفكر هو أن يجمع في صورةٍ كاملةٍ مفهومةٍ الموادَّ التي تنحصر فيما بين الآراء المجردة الفلسفية وأفعال الناس المحسوسة. وهو في أحد أطراف مجال بحْثِه يقترب من الفيلسوف، أو على الأقل من مؤرِّخ الفلسفة، ويقترب في الطرف الآخر من المؤرخ الاجتماعي، أو حتى من المؤرخ العادي، الذي يهتم بحياة الناس اليومية. غير أن واجبه الخاص هو أن يجمع بين الطرفين، وأن يتابع الأفكار في مسيرها المتعرِّج في أكثر الأحيان من حجرة الدرس أو المعمل إلى السوق، والنادي، والبيت، وساحة القضاء، وحجرة التشريع، ومائدة المؤتمر، وميدان القتال.
وعندما يقوم مؤرخ الفكر بهذا الواجب الضخم قد يجد نفسه غازيًا لميدان جديد من الدرس مهَّد له من قبلُ الباحثون، وذلك هو الميدان الغامض الشامل الذي ألفنا أن نسمِّيه فلسفة التاريخ. إن فيلسوف التاريخ يحاول أن يستخدم علمه بما حدث في الماضي لكي يَحُلَّ جميع ما يكتنف مصير الإنسان من ألغاز. والفلسفة الكاملة للتاريخ (كأي وككل فلسفة أخرى) تستهدف أن تقدِّم إجابات نهائية عن كل «المشكلات الكبرى»: ماذا هي الحياة الطيبة؟ وكيف يستطيع الناس أن يحيوا الحياة الطيبة؟ وما هو الأمل في إمكان حياة الناس حياة طيبة؟ أو في كلمة موجزة، أين نحن، وإلى أين المسير؟
وسنحاول أن نبيِّن في فصلٍ متأخر من هذا الكتاب لماذا كانت — في منتصف القرن العشرين — أكثرُ النُّظم الفلسفية الشائعة في واقع الأمر فلسفاتٍ للتاريخ، وأن أسماء شبنجلر وسوروكين وتوينبي معروفة حيثما نُوقشت أمورُ الفكر في أعلى مراتبها. ويكفينا في الوقت الحاضر أن ننبه إلى أن مؤرخ الفكر ينبغي له أن يتحاشى أن يرتدي لَبوس المتنبئ وفيلسوف التاريخ مهما اشتد إغراؤه في هذا الاتجاه. وسوف يكون عمله أجدى لو حصر نفسه في مهمة البحث عن الطرق التي أجاب الناس بها عن المشكلات الكبرى — الحياة، والمصير، والحق، والصدق، والله — فتأثَّرت إجاباتهم على سلوكهم بشكل ظاهر. وهي مهمة أشقُّ وإن تكن أكثرَ تواضعًا. وقد يكون لمؤرِّخ الفكر رأيه في بعض هذه المشكلات الكبرى على الأقل، بل لا بد أن يكون له هذا الرأي إذا كان إنسانًا طبيعيًّا. ولكنه لو أخلص لتقاليد العلم والبحث كما نضجت لمؤرخ اليوم لَبذلَ أقصى جهده في الاحتفاظ بآرائه الخاصة حتى لا يكون لها تأثير في روايته لآراء غيره.
وفي فصولٍ قادمة من هذا الكتاب سوف أعود بشيء من التفصيل لهذه المسألة كلها، مسألة الطريقة العلمية والموضوعية، وعلاقتهما بدراسة سلوك الإنسان، ويكفيني هنا أن أنبِّه إلى أن تاريخ الفكر كما عرضته في هذا الكتاب لا يُساق للإجابة عن كل المشكلات التي تحيط بالإنسان الحديث، وإنما أسوقه لكي أُعِين على تقديم بعض هذه المشكلات بصورةٍ أوضح، وربما كان ذلك بقصد الإشارة إلى النتائج التي يحتمل أن تحدث في أثر المحاولات العديدة التي تُبذل لحل هذه المشكلات.
وفي الحق يجب أن يتنبه القارئ إلى أن مهمة تتبُّع ما كان — وما يزال — للأفكار من أثر في جميع الجماهير في المجتمع الغربي، لا يمكن إلا أن تُؤدى بصورة ناقصة؛ فالمصادر التاريخية قبل العصور الحديثة إما غير ميسورة وإما من العسير جمْعها. وليس الأمر كذلك فحسب؛ لأن المتخصصين ذوي الكفاية قد يستطيعون — إذا ما وجَّهوا اهتمامهم إلى هذه المشكلة — في الأجيال القليلة القادمة، أن يقوموا بعملٍ يسدون به هذا النقص في المادة. وإنما هناك صعوبة أخطر؛ فنحن لا ندرك حتى الآن حقَّ الإدراك — بالرغم من جهود علماء النفس والاجتماع والفلاسفة — ما يدور في عقول الناس وأفئدتهم، وكيف يتحركون نحو العمل، أو نحو السكون.
وعلاوة على ذلك فإن الأفراد الذين بذلوا وقتًا طويلًا في دراسة هذه المشكلات لم يتفقوا — على أية صورة من الصور — فيما يتعلَّق بالدور الذي يلعبه في السلوك البشري العقل، والمنطق، والأفكار، والمعرفة، مقابل الوجدان، والعاطفة، والدوافع، والبواعث.
ليس بين هؤلاء الأفراد اتفاقٌ تام — على أي شكل — على أنه لا بد من البحث في السلوك البشري المحسوس عن مركَّباتٍ مثل المعقول واللامعقول. غير أنه ليست هناك مجموعة من التعريفات العملية الفعالة لهذه المصطلحات مقبولة في جميع أنحاء العالم.
دور الأفكار
ومِن ثَمَّ كانت هناك بعض المشكلات العويصة التي تتعلَّق بالطرق، وربما كانت تتعلق أيضًا بالفلسفة، لا بد من مواجهتها قبل أن نستطيع البدء في دراسة تراثنا الفكري الغربي في مصادره الإغريقية والعبرية الكبرى. إن مؤرخ الفكر يحاول أن يرى كيف تعمل الأفكار في هذه الدنيا، وأن يَدرُس العلاقة بين ما يقول الناس وما يقومون بعمله فعلًا: ماذا يعني بالأفكار، وماذا يعني بقوله إن للأفكار تأثيرَها في هذه الدنيا؟ إن هذه هي في حدِّ ذاتها مسائلُ فلسفية، يدور فيها الجدل بين الأفراد بغير اتفاق. وهذه الحقيقة وحدَها توضِّح أن هذه المسائل ليست مما يمكن الإجابةُ عنها كما يفعل الصبي الأمريكي عندما يجيب عن مثل هذه الأسئلة: ماذا يعني مهندس السيارات بالكاربيوريتر؟ وماذا يعني عندما يقول إن الكاربيوريتر يؤدي وظيفته؟
إن الأفكار تختلف اختلافًا بينًا عن الكاربيوريتر. ولكن أرجو ألا يخطئ القارئ فيحسَب أنها أقل واقعية من الكاربيوريتر، أو أنها أقل أهمية في حياتنا، أو أنها مجرد ألفاظ ليست لها البتة أية قيمة.
سنأخذ «الأفكار» هنا بمعنًى واسعٍ جدًّا حقًّا كأي مَثَل ملموس لعمل العقل البشري يمكن التعبير عنه بالألفاظ. ومِن ثَمَّ فإن لفظة «آه» التي تَصدُر عن رجلٍ يؤذي إصبعه بالمطرقة ليست على الأرجح فكرةً من الأفكار. أما قوله: «لقد آذيت إصبعي بالمطرقة» فهو تعبير ساذج جدًّا، ومِن ثَمَّ فهو فكرة من الأفكار. ثم إن قوله: «إن أصبعي تؤلمني لأني آذيتها بالمطرقة» يتضمن أفكارًا أشدَّ تعقيدًا. أما أمثال هذه الأقوال: «إن إصبعي تؤلمني لأن ضربة المطرقة أثَّرت في أعصابٍ معينة نقلت إلى جهاز العصبي المركزي نوعًا من الإثارة يرتبط بما نسميه الألم.» أو: «إن إصبعي تؤلمني لأن الله يعاقبني على ما اقترفت من آثام.» فهي فروض شديدة التعقيد، تنقلنا إلى مجالين هامين من مجالات الفكر: المجال العلمي، والمجال الديني.
وتصنيف جميع ضروب الأفكار التي تتضافر في تأليفِ ما نسميه عامَّة بالمعرفة هو في حد ذاته المهمة الكبرى التي تضطلع بها عدة نظم، منها المنطق، وعلم المعرفة، وعلم المعاني. وتأتي بعد ذلك مهمة البت في أي أنواع المعرفة صادق، أو إلى أي حد يَصدُق قدْر معيَّن من المعرفة، ومهمات أخرى كثيرة لا نستطيع هنا أن نحدِّدها. وقد أثارت في أيامنا هذه دراسة علم المعاني، وتحليل الطرق المعقدة التي تدل بها الكلمات — عند استخدامها في تبادل الآراء بين الأفراد — على معانيها اهتمامًا بالغًا. ويكفينا فيما نحن بصدده أن نميز تمييزًا أساسيًّا بين لونين من المعرفة: المعرفة التي يمكن تراكمها، والمعرفة التي لا يمكن أن تتراكم.
وخير مثال للمعرفة التراكمية هو المعرفة التي نسميها عادةً بالعلوم الطبيعية، أو مجرد العلوم؛ فقد أخذت أفكارنا في علوم الفلك والطبيعة «تتراكم» منذ بداية دراسة هذه العلوم منذ آلاف السنين في شرق البحر المتوسط، كما أخذت تتكوَّن تدريجًا في صورة علوم الفلك والطبيعة التي نَدرُسها في المعاهد والكليات. ولم تكن عملية التكوين منتظمة، ولكنها كانت ثابتة بوجهٍ عام، ولا تزال بعض الأفكار أو النظريات التي ظهرت منذ البداية صادقة، كفكرة أرشميدس في عصر اليونان عن الكثافة النوعية. ولكنَّ كثيرًا جدًّا من النظريات والأفكار قد أُضيف إلى الرصيد الأول من الأفكار، كما أن كثيرًا أيضًا قد نُبذ لخطئه. وكانت النتيجة نظامًا، أو عِلمًا، له أساسٌ متين مقبول في كل مكان من المعرفة المتراكمة، وله حدود من المعرفة الجديدة آخذة في الاتساع. والجدل يتركَّز بين العلماء — والعلماء يتجادلون كما يتجادل الفلاسفة وعامة الناس — في هذه الحدود النامية دون الأساس. أما هذا الأساس فإن جميع العلماء يقبلون صدْقه.
ويمكن للمعرفة الجديدة بطبيعة الحال أن تنعكس خلال الأساس كله، وتسبِّب ما يمكن أن نسميه حقًّا ﺑ «الثورة» في العلم، ومِن ثَمَّ فإن نظريات الميكانيكا الكمية والنسبية قد كان لها صداها في لب طبيعة نيوتن.
أما المعرفة اللاتراكمية فخيرُ مثالٍ نسوقه هنا لها يُستمد من ميدان الأدب؛ فالأدباء يقدِّمون فروضًا معينة، وأفكارًا معينة عن الأفراد، وعن الحق والباطل، وعن الجميل والقبيح. وقد كتب الأدباء باليونانية في هذه الأمور منذ أكثر من ألفي عام. كما كان غيرهم في نفس الوقت ويكتبون باليونانية عن حركات النجوم أو عن نظريات الأجسام الصلبة في الماء. ولكن أدباءنا المعاصرين يكتبون اليوم في نفس الأشياء التي كتب عنها الأدباء اليونان بنفس الطريقة إلى حدٍّ كبير وبغير زيادة واضحة أو معينة في المعرفة. أما علماؤنا فإن لديهم عن علوم الفلك والطبيعة معارفَ وأفكارًا وفروضًا تربو كثيرًا على ما كان عند اليونان.
وإذا أردنا أن نَعرض الموضوع في أبسط صورة قلنا إن الأديب اليوناني كأريستوفان، أو الفيلسوف اليوناني كأفلاطون، إذا عاد إلى الأرض بمعجزة في منتصف القرن العشرين وتحدَّث إلينا (ولم يظفر بأية معرفة جديدة منذ وفاته) يستطيع لتوه أن يتكلم في الأدب وفي الفلسفة مع ج. ب. شو أو مع جون ديوي، دون أي إحساس بالغرابة. في حين أن عالمًا إغريقيًّا كأرشميدس في مثل هذا الوضع — مهما يكن عبقريًّا — يحتاج إلى أن يقضي أيامًا عدة يمحِّص فيها كتب الطبيعة الأولية والمتقدمة، ويكتسب فيها قدْرًا كافيًا من الرياضيات قبل أن يستطيع الكلام في موضوعه مع عالِمٍ حديثٍ في الطبيعة مثل بور أو أينشتين.
وفي عبارة أخرى نستطيع أن نقول إن طالب الجامعة الحديث ليس أحكم من الحكماء القدامى، وليس له ذوق أفضل من ذوق السابقين، ولكنه يعرف من علم الطبيعة قدْرًا أكبرَ مما عرف أعظم العلماء اليونان؛ إنه يعرف «وقائع» أكثر في الأدب والفلسفة مما كان يعرف أحكم الإغريق في عام ٤٠٠ق.م، ولكنه في علم الطبيعة لا يعرف «وقائع» أكثر فحسب، وإنما هو يدرك العلاقات بين الوقائع؛ أي النظريات والقوانين.
وهذه التفرقة بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية واضحة ونافعة، وهو كل ما يريده المرء من التفرقة. «إن هذه التفرقة لا تعني أن العلم جيد ونافع، وأن الفن والأدب والفلسفة رديئة وغير نافعة، وإنما تعني أنها مختلفة فيما يتعلق بالتراكم فحسب.» وكثير من الناس يتخذون هذه التفرقة دليلًا على أن الفن أحطُّ شأنًا من العلم، وتسوءُهم هذه التفرقة إلى حد أن يَنبذوا أي صدْق أو منفعة تتضمنها التفرقة. وتلك من عادات الناس المألوفة التي ينبغي لمؤرِّخ الفكر أن يَحسُب لها حسابها.
وربما كانت الحقيقة هي أن العلم قد تراكم «بسرعة» في الثلاثمائة السنة الأخيرة، في حين أن الفن والأدب والفلسفة قد تراكمت «ببطء» في ألوف عديدة من السنين. وقد يكون عظماؤنا من بعض النواحي أحكمَ من العظماء في الماضي، وقد يكون ما لدى المواطن الأمريكي المتوسط من الحكمة والإدراك السليم أكثر مما كان لدى المواطن الأثيني. بيد أن هذه الأمور مما يشق قياسها، ومما يشق الاتفاق فيها، في حين أن صفة التراكم في المعرفة العلمية لا جدال فيها تقريبًا. إن أكثر المدافعين عن تقدُّم الفنون والفلسفة تفاؤلًا لا يمكن أن يؤمن بأن شيكسبير بالنسبة إلى سوفوكليز هو كنيوتن بالنسبة إلى أرشميدس.
وقد حاولنا فيما سبق أن نبالغ بالضرورة في تبسيط الفارق بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية. ويلاحظ أن ذلك الجانب من المعرفة الذي لا يقع تحت عنوان «العلوم» لم يلقَ — لعدة أجيال من مفكري الغرب، وعند كثير من مفكري اليوم — حقَّه من الإنصاف بنعته ﺑ «اللاتراكمي». ويمكن القول بأن ما نسميه عادةً ﺑ «العلوم الاجتماعية» به في حد ذاته — وليس باعتباره تقليدًا ضعيفًا للعلوم الطبيعية — قدْرٌ من المعرفة المتراكمة التي تتعلق بتبادل العلاقات بين الكائنات البشرية. وهذه المعرفة ليست مجرد تراكم للوقائع، وإنما هي أيضًا تراكم لتفسيراتٍ صادقة لهذه الوقائع. وهكذا استطاع رجال الاقتصاد في مدى قرن ونصف قرن من آدم سميث إلى لورد كينز — أن يزدادوا «إدراكًا» للنشاط الاقتصادي، ويمكن القول كذلك أن الفلاسفة استطاعوا على كرِّ القرون أن يحسِّنوا من طرائقهم في التحليل، كما أنهم ازدادوا تحديدًا للأسئلة التي يوجِّهونها لأنفسهم — وذلك بالرغم من أنهم لا يزالون يواجهون بعض المشكلات التي واجهها أفلاطون وأرسطو. وأخيرًا قد يستطيع المتشائم أن يقول إن كل ما نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم منه شيئًا قط، غير أن أكثرنا يؤمن بأن رجال الغرب قد بنَوا على مرِّ القرون هيكلًا من الحكمة والذوق السليم الذي لم يتوافر للإغريق. أما مدى انتشار هذه الحكمة وذلك الذوق في مجتمعنا فذلك أمرٌ آخر.
والحق أن مسألة «النشر» في المعرفة التراكمية واللاتراكمية على السواء، مسألة تصحيح الأخطاء الشائعة في تفكير الجمهور، هي على الأقل في أهمية مسألة اتفاق الخبراء، بل هي في المجتمع الديمقراطي ربما كانت أكثر منها أهمية. ويتضح ذلك في ميدانٍ كميدان الاقتصاد، إلا لأولئك المصرِّين على ازدراء التفكير الاقتصادي. إن رجال الاقتصاد يختلفون وكذلك يختلف الأطباء. وحتى في أمريكا الحديثة، حيث يكون للطب تقديرٌ بالغٌ بين جميع الطبقات، ليس من اليسير أن نعلِّم الجمهور حتى يتصرَّف عن علمٍ في الشئون الطبية. وفي الشئون الاقتصادية لا يزال الجمهور حتى في منتصف القرن العشرين عاجزًا إلى حد كبير عن الإفادة من مقدار المعرفة المتراكمة التي يملكها الخبراء، وإلا ما حاولنا أن ننشئ درجة من التجارة الدولية المتوازنة مع احتفاظنا بمستوًى عام مرتفع — وكثيرًا ما تكون مرتفعة جدًّا في نواحٍ معينة — من ضريبة الحماية الجمركية.
ومن الواضح أن مؤرخ الفكر لا بد أن يهتم بالمعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية على حد سواء، ولا بد أن يبذل قصارى جهده لكي يميِّز هذا النوع من المعرفة من ذلك، وأن يتقصَّى العلاقة المتبادلة بينهما، وأن يَدرُس آثارهما على السلوك البشري. إن كلا اللونين من المعرفة له أهميته، وكل لون منهما يفعل فعْله في هذه الدنيا.
وهنا يأتي سؤالنا الثاني: كيف تؤثِّر الأفكار في هذه الدنيا؟ إن أية إجابة عن هذا السؤال لا بد أن تأخذ في الاعتبار أن «الأفكار» هي في الواقع «أفكار مثالية»، هي تعبيراتٌ عن الآمال والتطلعات عن رغبات الناس وجهودهم؛ فنحن نقول مثلًا إن «الناس جميعًا قد خُلقوا متساوين» أو نقول مع الشاعر كيتس:
ماذا تعني أمثال هذه الأقوال؟ إذا زعمت أن جسمًا ثقيلًا وجسمًا أخفَّ منه وزنًا يسقطان خلال الهواء بسرعتين مختلفتين، أمكنك أن تسقطهما من فوق ارتفاعٍ معيَّن ثم تشهد ما يحدث. وقد فعل ذلك جاليليو، وإن لم يكن — كما نعرف اليوم — من برج بيزا المائل. ويستطيع المشاهدون أيضًا أن يرقبوا ثم يتفقوا بعد مراجعة ما شهدوا، ولكن ليس بوسعك أن تختبر القول بالمساواة بين الناس، أو تطابق الحق مع الجمال، بمثل هذه الطريقة. وأنت على يقين أن أية مجموعة اعتباطية من الناس لن تتفق في الواقع في هذين الموضوعين بعد الجدل فيهما.
إن نوع المعرفة الذي أسميناه تراكميًّا؛ أي المعرفة العلمية، يخضع بوجه عام لنوع من الاختبار يجعل بالإمكان أن يتفق على صدْقها أو بطلانها كلُّ ذي عقل سليم، مدرَّب تدريبًا صحيحًا. أما نوع المعرفة الذي أسميناه لا تراكميًّا فلا يخضع لمثل هذا الاختبار، ولا يمكن له أن ينتهي بمثل هذا الاتفاق، ومِن ثَمَّ فقد استنبط بعضهم من هذا — كما ذكرتُ من قبل — أن المعرفة اللاتراكمية لا فائدة منها، وليست معرفة حقيقية وليس لها معنًى وليس لها — فوق هذا كله — أثرٌ فعلي في سلوك البشر. إن هؤلاء الناس كثيرًا ما يتوهمون أنفسهم واقعيين في الصميم، عقلاء يعرفون ما هي الدنيا في واقعها. وهم في الحق مخطئون، عقولهم ضيقة كعقول أولئك الأبرياء من المثاليين الذين يلومونهم.
إذ إن قولًا كهذا: «خُلق الناس جميعًا متساوين» يعني على أقل تقدير أن فردًا ما «يريد» أن يكون الناس جميعًا متساوين من بعض الوجوه. ولو قلنا: «ينبغي أن يكون الناس جميعًا متساوين» كان هذا القول صراحة هو ما نسميه بالفكرة المثالية. وهذا الخلط بين «ما ينبغي» وما هو «كائن» هو عند مؤرِّخ الفكر عادة من العادات المتأصلة في رجال الفكر. ويدرك مؤرخ الفكر فوق هذا أن «ما ينبغي» و«ما هو كائن» يؤثر أحدهما في الآخر، وهما جانبان من عملية متكاملة، لا يستقل أحدهما عن الآخر ولا يتعارضان، أو هما على الأقل لا يتعارضان في أكثر الأحيان. ويعرف حقًّا مؤرخ الفكر أن الجهد الذي يُبذل في سبيل سد الثغرة بين المثالي والواقعي، بين «ما ينبغي» و«ما هو كائن»، هو من الموضوعات الرئيسية الهامة في تاريخ الفكر. هذه الثغرة لم تَنسد قط، أو على الأقل لم يَسُدَّها المثاليون الذين ينكرون «ما هو كائن» ولم يَسُدَّها الواقعيون الذين ينكرون «ما ينبغي». إن الناس لا يتصرفون باطراد تصرُّفًا منطقيًّا (معقولًا) طبقًا لما ينادون به من مُثُل. وفي هذا يكون النصر للواقعيين. غير أن مُثُلهم التي ينادون بها ليست خلوًّا من المعنى. وليس التفكير في المُثُل نشاطًا سخيفًا لا أثرَ له في حياتهم. إن المُثُل — كالشهوات — تدفع الناس إلى العمل، وفي هذا يكون النصر للمثاليين.
وربما كنا اليوم في الولايات المتحدة أقربَ إلى الانسياق وراء خطأ الواقعيين منا وراء خطأ المثاليين. وإن كان كثير من المُثُل قد أضاء حياتنا خلال التاريخ، ثم إن دراسة تاريخ الفكر يجب أن تعيننا على أن نفهم الأسباب. ولكنا نستطيع الآن أن نكتفي بهذه الملاحظة: ليس في تاريخ البشر وقائعُ هامة لا ترتبط بالأفكار، أو أفكار هامة لا ترتبط بالوقائع. والجدل القائم الذي يدور بين الماركسيين وخصومهم، وهو: هل التغيُّرات الاقتصادية أعمق جذورًا من التغيرات الأخرى؟ هذا الجدل ليس له معنًى من الناحية المنطقية، وليس هناك مهندس للسيارات يحلم بالجدل فيما إذا كان الغاز أو الشرارة هو الذي يدير آلة الاحتراق الداخلي. دع عنك أيهما سبق الآخر: الغاز أو الشرارة. وليس بمؤرخ الفكر حاجة إلى الجدل فيما إذا كانت الأفكار «أو» الاهتمامات هي التي تحرِّك الناس في علاقاتهم بالمجتمع، ولا حاجة إلى أيهما سبق. بغير الغاز والشرارة «معًا» لا يدور المحرِّك، وبغير الأفكار والاهتمامات (أو الشهوات، أو الدوافع، أو العوامل المادية) معًا لا يكون مجتمع بشري عامل حي، ولا يكون تاريخ للبشر.
أهمية تاريخ الفكر في عصرنا
إن دراسة تاريخ الفكر لها أهميتها بوجه خاص في زماننا؛ لأن مثل هذه الدراسة لا بد أن تعيننا على مزيدٍ من وضوح الفكر في إحدى القضايا الهامة في هذا العصر. وقد عُرضت علينا جميعًا هذه القضية في أشكالٍ عديدة من التربية والدعاية، وقد تُعرض علينا أحيانًا في صورة معتدلة، وأحيانًا أخرى في صورة هستيرية جدًّا. ويحب كُتَّاب الصحف أن يضعوها في مثل هذه العبارة: العلوم والتكنولوجيا مكَّنت من ظهور الأسلحة التي تستطيع أن تقضي على الجنس البشري في الحرب القادمة. ويبدو أن الحكمة السياسية والخلقية لم تخترع وسيلةً من الوسائل لمنع الحرب القادمة. ويقول كُتَّاب الصحف ينبغي لنا أن نلتمس السبيل إلى أن نسمو بحكمتنا السياسية والخلقية (وهي حتى الآن لا تراكمية، أو تتراكم ببطء على أحسن الفروض) وبتطبيق هذه الحكمة إلى مستوى معرفتنا العلمية (وهي سريعة التراكم) ومستوى تطبيقها في التكنولوجيا ولا بد أن نهتدي إلى هذا السبيل على عَجَل حتى لا تقع حرب أخرى.
ويمكن أن يُصاغ الموضوع في عبارةٍ أخرى استخدمناها من قبل، وهي أقل من هذه إثارة. إن ما أسميناه المعرفة المتراكمة مكَّن البشر — وبخاصة خلال القرون الثلاثة الماضية — من تحقيق السيطرة الخارقة على ما يحيط بهم من بيئة غير إنسانية؛ فإن الناس لا يتناولون المادة غير العضوية فحسب، ولكنهم يستطيعون أيضًا أن يقوموا بالشيء الكثير في تشكيل الكائنات العضوية الحية؛ فهم يستطيعون تربية الحيوان إلى الحد الأقصى من المنفعة للناس. وهم يستطيعون التحكُّم في كثير من الكائنات العضوية الصغيرة كما أنهم أطالوا من عمر الإنسان في البلدان المتقدمة إلى أبعد مما كان يبدو ممكنًا منذ أجيال قليلة مضت.
ولكن الناس لم يحققوا بعدُ نصرًا مماثلًا في السيطرة على البيئة الإنسانية في أعلى مستويات السلوك البشري الواعي. والظاهر أن معرفة السبب الذي يدفع الناس إلى إرادة أشياء معينة، ولماذا يقتلون غيرهم للحصول على هذه الأشياء، وكيف تتغيَّر رغباتهم أو تشبع، ومعرفة كثير من المدى الفسيح للسلوك البشري — الظاهر أن كل هذا ينتمي إلى المعرفة اللاتراكمية أكثر من انتمائه إلى المعرفة التراكمية. وهذه المعرفة اللاتراكمية، سواءً أكانت فلسفة، أم علوم الدين، أم حكمة عملية، أم مجرد الإدراك العام الساذج، لم تبلغ حتى اليوم حدًّا يكفي لحفظ السلام على الأرض — دعْ عنك أن تنفي كل ضروب الشر في العلاقات الإنسانية. وما لم يتوافر لنا نوعٌ آخر من المعرفة والسلوك البشري — كما يقول بعض الكُتَّاب المنذرين — معرفة من نوعٍ ما يعلمه عالِم الطبيعة أو البيولوجيا، فسوف تضطرب أمورنا إلى حدٍّ تتحطم معه حضارتنا، وربما يتحطم معه أيضًا الجنس البشري.
إن إحدى المشكلات الكبرى في زماننا هي هذه في عبارة موجزة: هل يُمْكِن أن يُمَكِّن ما نسميه ﺑ «العلوم الاجتماعية» الإنسانَ من التحكم في بيئته البشرية إلى ما يشبه مدى ما مكَّنته العلوم الطبيعية من السيطرة على بيئته غير البشرية؟ إن مؤرخ الفكر في العصر الحاضر مرغَم على أن يركِّز عمله في هذه المشكلة، وأن يركز فكره أولًا في الطريقة التي عالج بها الناس في الماضي المشكلات الأساسية في العلاقات الإنسانية. إنه يكتب — بمعنًى من المعاني — تاريخ العلوم الاجتماعية.
ويجب أن نوجِّه الأنظار بصفةٍ خاصة إلى أن تاريخ الفكر في حد ذاته لا يَحُلُّ المشكلات التي تزعجنا اليوم جميعًا؛ إذ لا يمكن أن تُحَلَّ هذه المشكلات إلا بالجهد الجماعي الذي نبذله جميعًا، وبوسائلَ لا يمكن أن يتنبأ بها أحكم الفلاسفة أو العلماء — بل أحكم كُتَّاب افتتاحيات الصحف. إن العلوم الاجتماعية إذا سارت في الطريق التي سلكتها العلوم، الطبيعية، فإن الذي يَحُلُّ المشكلات الكبرى هو ذلك النوع من الناس الذين نسميهم العباقرة. غير أن العباقرة لا يستطيعون إيجاد الحلول إلا بسبب العمل الكامل الدءوب الذي يقوم به آلاف العاملين في البحث وفي الحياة العملية. وأهم من ذلك أن هذه الحلول لا يمكن أن تُتَرجم إلى عمل اجتماعي فعال في مجتمع ديمقراطي إلا إذا كانت لدى المواطنين في هذا المجتمع درجة من الإدراك الأساسي لما هو حادث، ويمكن أن تصبح دراسة تاريخ الفكر نافعة لأولئك المشتغلين بالعمل الإيجابي في مشكلات العلاقات الإنسانية، ولأولئك الذين ينحصر عملهم الرئيسي في ميادينَ أخرى.
إن معرفة كيفية سلوك الناس في الماضي لها أهمية قصوى لأولئك الذين يعملون مباشرةً في ميدان العلاقات الاجتماعية، إما كعلماء اجتماعيين أو كرجال عمليين. وسنرى في فصلٍ مقبل من فصول هذا الكتاب أن موضوع الفوائد التي تعود من الدراسة التاريخية، وحدود هذه الدراسة، كان من الموضوعات التي ثار حولها جدل كثير في مراحلَ معينة من حضارتنا الغربية وقد كان هناك دائمًا أفرادٌ يرون أن دراسة التاريخ ليس من ورائها جدوى، بل هي شر، وحدَّ من إمكان تحليق الروح إذا لم يجذبها التاريخ إلى أسفل. ولكن الحكم العام لحضارتنا الغربية هو أن معرفة التاريخ هي على أقل تقدير نوع من امتداد الخبرة الفردية، ومِن ثَمَّ فإن لها قيمتها للذكاء البشري الذي يستغل الخبرة. ومن المؤكد أن نوع المعرفة الذي أسميناه تراكميًّا — العلوم الطبيعية — يلتزم بالرأي الذي يؤمن بأن التعميمات الصالحة يجب أن تعتمد على الخبرة الواسعة التي تشمل ما نسميه عادة بالتاريخ. ومِن ثَمَّ فإن العلوم التاريخية أو التكوينية — كالجيولوجيا التاريخية أو الباليونتولوجيا — هي في أهمية العلوم التحليلية كالكيمياء فيما تحققه العلوم الطبيعية. وللتاريخ نفس الضرورة في العلوم الاجتماعية.
وإذا أُريد للعلوم الاجتماعية أن تتقدَّم وجب على التاريخ في الواقع أن يتمم العمل الميداني والتجربة. إن تسجيل ما أداه الناس في الماضي لازم لإنقاذنا اليوم من ضياع أوقاتنا في دياجير الظلام. وتشتغل اليونسكو — منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة — بدراسةٍ تعاونية فسيحة المجال للتوتُّر الذي يهدِّد بالانفجار في شكل صراع عنيف. ولا يمكن فهْم هذا التوتُّر دون الاهتمام بتاريخه — أعني التاريخ الخاص لهذا التوتر. فالتاريخ إذن يمدنا ببعض الحقائق الضرورية، بالمادة الخام للوقائع، يسجل التجربة والخطأ، الذي يلزم لفهْم السلوك البشري في الوقت الحاضر.
وأهم من هذا الفائدة التي تعود على مَن يؤدي منا الواجبات العديدة الهامة في مدنيتنا — تلك الواجبات التي لا تتطلب معرفة التخصص في العلوم الاجتماعية، أو العمل الخلاق في هذه العلوم — الفائدة التي تعود على هؤلاء من معرفة التاريخ، وبخاصة تاريخ الفكر. ويستطيع المرء أن يتخيَّل مجتمعًا تدير فيه قلة من الخبراء شئون الجماهير بمهارة وكفاية — وقد تخيَّل المستر ألدوس هكسلي في الواقع في قصته «العالم الطريف» مثل هذا المجتمع. كما ابتدع مستر ب. ف. سكنر مجتمعًا عبقريًّا في كتابه «والدن الثانية». فهذا مطمع كثيرًا ما يغري أصحاب المزاج الهندسي. غير أن الثمرة التي تنتج من هذه «الهندسة الثقافية» لن تكون مجتمعًا «ديمقراطيًّا». وحتى إن أمكن تحقيق مثل هذا المجتمع — وهو ما أشك فيه — فإن الأمريكان الذين نشئوا في تقاليدنا الوطنية يتعذر عليهم العمل فيه. إننا نلتزم بالحلول الديمقراطية، التلقائية، واسعة الانتشار، لمشكلاتنا، نلتزم بالحلول التي نبلغها بالجدل والقرارات الحرة على نطاق واسع، تلك القرارات التي نصدرها بطريقةٍ من طرق تعداد القرارات الفردية. إن العلماء وهم القلة المبدعة يقدِّمون الحلول بطبيعة الحال. ولكن الحلول لا تتحقق إلا إذا فهمناها جميعًا، ووضعناها موضع التنفيذ لأننا ندركها، ونوافق عليها، ونريدها.
وهنا أيضًا نستطيع أن نستضيء بما حدث في العلوم الطبيعية؛ فقد قام علماء الأمراض والوقاية، والأطباء العاملون، بعملٍ مبدعٍ ولكنهم لم يستطيعوا معه القضاء على بعض الأمراض كالتيفود أو الدفتريا على سبيل المثال. ولكن هذا التقدُّم العظيم في الصحة العامة في مجتمعنا لم يصبح ممكنًا إلا لأن الغالبية الكبرى من الناس في بضع عشرات السنين الأخيرة فهمت — ولو بصورة ناقصة — نظرية الجراثيم في الأمراض، وأرادت أن تمحو المرض، وعاونت بحرية وعن فهْم إلى حدٍّ كبير في عمل الخبراء.
وليس من شك في أن الخبراء الذين يعملون مع شعوب جاهلة، شعوب تعتنق عن الأمراض عقائد غير التي تعتنقها، قد حققوا شيئًا من التقدُّم في إزالة أمراض مثل التيفود أو الدفتريا. وتقدمت الصحة العامة حتى في الهند وأفريقيا. غير أن سير هذا التقدُّم كان أبطأ هناك منه عندنا، وأقل ضمانًا، لا لشيء سوى أن الخبراء لم يستطيعوا في الواقع أن يشركوا بقية السكان معهم في معارفهم وإنما لجئوا إلى السلطة، والنفوذ، والإغراء، والحِيَل، لكي يقوموا بالعلاج.
إن الطريقة الناجحة للانتقال من الفكرة في ذهن العبقري إلى أثرها المنتشر بين الناس كافة — وهي موضوع الفقرات القليلة السابقة — هي من المشكلات الكثيرة الهامة التي ما زلنا لا نعرف عنها نسبيًّا إلا القليل. ومن المؤكد أن هناك مشكلة، وأن العبارة الأخاذة التي تُنسب إلى إمرسن وهي: «لو أن إنسانًا اخترع مصيدة فئران أفضل مما لدينا، لعبَّدَ الناس إلى بابه طريقًا.» هي عبارة مضلِّلة في أقل تقدير؛ لأن الطرق لا بد أن تتقاطع، وربما لم ينشأ البتة طريق. إن التطعيم كان لا بد له في أول الأمر أن يكتسب إلى جانبه مهنة الطب، ثم الجمهور، بالرغم من أن طريق انتشاره سهل نسبيًّا. فما بالك بآراء ماركس؟ ما هي مجموعة الطرق الملتوية التي سارت من المتحف البريطاني إلى الكرملين؟ ويلاحظ هنا أنه حتى بين الخبراء لا يوجد شيء يقرب من الاتفاق العام على حقيقة الآراء الماركسية وقيمتها مما يوجد فيما يتعلق بالتطعيم.
وإذا اهتدى خبراؤنا إلى وسائل العلاج — أو على الأقل لتخفيف — الأمراض الاجتماعية كالحرب، والتدهور، والبطالة، والتضخم، والانحراف، والجريمة، وكل سلسلة الشر الطويلة، لَما أفلحوا في أن تكون هذه الوسائل فعَّالة إلا إذا كانت لدى البقية منا بعض المعرفة بما ينصح به هؤلاء الخبراء. وإذا كان تقدُّم العلوم الاجتماعية في زماننا ليس كبيرًا جدًّا، وإذا كان لا بد لنا من الاعتماد على نوع القادة ونوع الأفكار التي تتعلق بالكائنات البشرية التي كان لا مناصَ لأسلافنا من الاعتماد عليها — إذا كان الأمر كذلك لكانت الحاجة أمسَّ إلى أن يكون لدى جميع المواطنين في المجتمع الديمقراطي شيء من المعرفة بتاريخ التفكير. وإذ كان ينقصنا الخبراء في الوقت الحاضر، وركنا إلى الإدراك العام، فلا بد أن يكون هذا الإدراك العام عامًّا حقًّا، والتاريخ — كغيره من جميع ضروب الخبرة — مرشد نافع في تكوين الإدراك العام. إنه مرشد، وليس قائدًا لا يخطئ، أو صانع معجزات! فإن أردت المعجزة — وهي بالتأكيد حاجةٌ بشرية — فعليك أن تبحث عنها في غير التاريخ: إن ربة التاريخ «كليو» من الآلهة ذوات القدرة المحدودة.
بعض أنماط تاريخ الفكر
لدينا في الوقت الحاضر في منتصف القرن العشرين سجلٌ كاملٌ مطبوع لما قال الناس وما فعلوا في الماضي، لدينا أصولُ تعليقات الأجيال المتعاقبة من المؤرخين والنقاد. لدينا من هذا ما لا يستطيع فرد واحد أن يطلع على كلِّ ما يتعلق منه بجانب كبير من جوانب هذا السجل التاريخي. إن حياة واحدة لا تكفي لقراءة كل كلمة لدينا سطَّرها اليونان القدامى وكل كلمة كُتبت عنهم. وعلى كُتَّاب التاريخ وقرائه على السواء أن يختاروا من هذا القدْر الكبير مما كُتب. وهذه ملاحظة هامة وإن تكن من البديهيات.
والمشكلة الحرجة التي علينا جميعًا أن نجابهها هي كيفية الاختيار، وكيفية تمييز المهم من غير المهم. وكيف نتعرَّف المهم إذا التقينا به. إن الإجابة الكاملة عن مثل هذا السؤال تحتاج إلى كتابٍ بأسره في منهج البحث للمؤرخ. ويكفينا هنا أن نحاول في إيجاز أن نبرِّر طريقة الاختيار في هذا الكتاب، وأود قبل هذا أن أبحث في بعض طرق الاختيار الأخرى التي نبذتها.
من مبادئ الاختيار المعقولة، الشائعة جدًّا في أمريكا في هذه الأيام، هي أن ننتقي ما يُقال عنه إنه «حي» بالنسبة إلينا في هذه الأيام، وأن ننبذ ما يُقال عنه إنه «ميت». ونعتقد أن الأول هام، والثاني لا يهم إلا المتحذلق أو الأخصَّائي، ومِن ثَمَّ يُقال لنا: دعنا بكل وسيلة نأخذ عن أفلاطون «أفكاره الحية»، ولا نأخذ من أفكاره ما كان ينطبق على الإغريق في عهده فقط.
والصعوبة في ذلك هي في معرفةِ ما نعني ﺑ «الحي» في مثل هذا المجال. قد نعني «ما تعتقد الغالبية العظمى من الناس في صدقه.» ونستطيع القول إن كلَّ ما يحتاج عالِم الطبيعة إلى معرفته — بهذا المعنى من الطبيعة عند الإغريق هو الجانب الذي ما زلنا نعتقد في صحته. ولكن حتى العالِم قد يستطيع أن يتعلم الكثير من تاريخ العلم. يستطيع أن يتعلم كيف يمكن الوقوع في الخطأ بسهولة، وكيف أن الرأي الجديد السليم — حتى في مثل هذا الميدان — أمر شاق عسير. ويستطيع أن يتعلم أن العلم ليس برجًا عاجيًّا، وإنما هو جزء من الحياة الإنسانية الكاملة.
ومهما يكن من أمر فإن علم الطبيعة مَثَل واضح للمعرفة التراكمية. ولم يكن أفلاطون عالِمًا في الطبيعة، إنما كان فيلسوفًا، همُّه الأول المشكلات التي تتعلق بالحياة الصحيحة والحياة الخاطئة، ووجود الإله، وخلود الروح، والعلاقات بين الدوام والتغيُّر، وموضوعات أخرى من هذا القبيل. وهذه أمور من المعرفة اللاتراكمية، ليس من السهل فيها بأية حال من الأحوال أن نقرِّر ما هو حق وحي منها اليوم، وما هو باطل وميت. ومن الحقائق التي دلت عليها الخبرة أن قرَّاء أفلاطون في القرن العشرين يتراوحون بين أولئك الذين يرون في كلِّ ما كُتِب الحكمةَ السامية، وأولئك الذين يرونه كله هراء، وبين أولئك وهؤلاء درجاتٌ من التفاوت.
ويبدو أن أولئك الذين يتحدثون عن اختيار ما بقي من الماضي حيًّا اليوم يَعنُون بالحي أحيانًا المألوفَ، ويَعنُون بالميت الغريب. خذْ مثالًا لذلك مأساة إغريقية قديمة: مسرحية أنتيجون لسوفوكليز. تعالج المسرحية جهودَ أنتيجون لضمان أداء طقوس الجناز الصحيحة إزاء جثة أخيها بولينيسيس، الذي قُتل في الثورة التي قامت ضد كريون، الحاكم الشرعي لطيبة. ولمَّا كان كريون يعتقد أن مصير بولينيسيس لا بد أن يشهر به ليكون مثالًا لما يحدث للعصاة والخارجين على القانون؛ فقد رفض دفنَ الجثة بالطريقة الصحيحة، وعندما حاولت أنتيجون مستعطفة أن تؤدي طقوس الدفن لأخيها، حُكم عليها بالموت.
إن إمكان شيوع مثل هذا الصراع بين أنتيجون وكريون وتطبيقه على قومٍ مثْلنا أمرٌ لا يحتاج إلى بيان؛ فإن أنتيجون تضع إحساسها الخاص بالخطأ والصواب تجاه ما يتطلبه النظام الشرعي الذي نعيش في ظلِّه. وهناك — برغم هذا — مَن يرى أن ما يثير إحساسها بالخطأ والصواب في معاملة جثة أخيها — شيء غريب، بل تافه في نظر الأمريكان الحديثين، فيفوتهم لذلك مغزى الدراما، ما لم يُنبَّهوا إليه. وطبقًا لما يرى هؤلاء النقاد والمعلِّمون لا يمكن أن تكون هذه التحفة الفنية لسوفوكليز حيةً بالنسبة إلينا إلا إذا اتضح أن أنتيجون كانت فعلًا أشبه بثورو أو غاندي، مشتركة في حركة من حركات «العصيان المدني».
ولم تكن أنتيجون بطبيعة الحال إحدى هؤلاء، وإنما كانت عذراء يونانية من عصر الإغريق العظيم، تتأثر تأثرًا عميقًا بآراء تتعلَّق بالكرامة البشرية غريبة عنا بعض الشيء. ولكن ما هو غريب في أنتيجون له لدينا أهمية قصوى؛ فالتاريخ — حتى تاريخ الفكر — نافع فوق كل شيء لأنه ينتزعنا من محيط حياتنا الضيق المحدود، ويبصرنا بمدى اتساع الخبرة البشرية، ومدى تعقيد ما نسميه في إهمالٍ «الطبيعةَ البشرية»، وإلى أي حد يتشابه الناس ويمكن التنبؤ بتصرفاتهم، وإلى أي حد يختلفون ولا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم.
وإذا نحن أخذنا المألوف، أو الأشياء التي نجد فيها أدنى مشقة لقبولها كأمورٍ إنسانية، مبدأ للاختيار في معمعان وقائع التاريخ، هبطنا كثيرًا بقيمة أي دراسة للماضي. ولو كانت معرفتنا بالناس حقًّا تراكمية فقط، كمعرفتنا بعلم الطبيعة، لأمكننا الاحتفاظ بالجوانب الحية ونبذ الجوانب الميتة من سجل الماضي. غير أن معرفتنا بالناس ليست تراكمية، ولا نستطيع أن نأخذ عقلًا بأي مبدأ «بسيط» عند الاختيار بين الحي والميت، والصالح وغير الصالح، والهام وغير الهام. ولكن لا بد من نوعٍ من أنواع الاختبار، وكل مَن يكتب التاريخ أو يقرؤه يقوم بالاختيار. وإنما ينبغي أن يتسع مجال الاختيار، ولا بد أن تكون النماذج المختارة طيبة بقدْر الإمكان، ولا يكون الاختيار مقررًا بأي نظام مقيد من نظم الأفكار، ولا ينبغي أن يُهمِل تاريخ الفكر الديمقراطي تاريخ الفكر غير الديمقراطي.
وهناك مبدأ آخر للاختيار — في تاريخ الفكر على الأقل — وذلك أن تأخذ الشخصيات التي يَعُدُّها الرأي العام المثقف اليوم أصولًا ككبار المفكرين والكتَّاب ونعرض ما كتبوه في وضوحٍ وإيجازٍ بقدْر الإمكان. وهذا عملٌ يستحق الأداء، وقد تم أداؤه بإجادة. غير أن ذلك ليس ما نعنيه في هذا الكتاب بتاريخ الفكر، إنما هو تاريخ الفلسفة أو تاريخ الأدب أو تاريخ النظريات السياسية. أما ما نعنيه بتاريخ الفكر فهو شيء أكثر من ناحية وأقل من ناحية أخرى من سجل ما أنجزته كبار العقول في ميادين المعرفة اللاتراكمية. هو أكثر من ذلك لأنه يحاول أن يكتشف ما تحسه وما تفكر فيه وما تعمله العامة من الرجال والنساء دون العباقرة والعظماء. وهو أقل من ذلك لأنه لا يستطيع — دون أن يصل إلى أبعادٍ لا حد لها — أن يحلل تحليلًا كاملًا التفكير الشكلي عند العظماء وأشباه العظماء من المفكرين كما يحلل هذا الفكر المحترفون والفنيون في الكتب المعتمدة في الفلسفة والفن والأدب. لا يهمنا هنا تفكير أفلاطون في حد ذاته كما يهمنا أن نعرف إلى أي حد كان هذا التفكير جزءًا من أسلوب العيش الإغريقي، وإلى أي حد ينبذ هذا التفكير ذلك الأسلوب والعيش، وإلى أي حد كانت عامة المتعلمين تقبله في المجتمعات التي جاءت فيما بعد — وباختصار نحن أقل اهتمامًا بأفلاطون في حد ذاته منا بما أفاد الناس من أفلاطون أو كانت أو نيتشه.
وأخيرًا — وهذه أشد المشكلات تعقيدًا — هناك ذلك النوع من الاختيار من بين تفصيلات الماضي التي لا تكاد تنتهي، ذلك الاختيار الذي يرتِّب هذه التفصيلات بقصد التدليل على شيء ما. إن كل المؤرخين في الواقع يرتِّبون مادتهم بطريقةٍ تسوق القارئ إلى أن يعتقد أن بعض الفروض الخاصة بالناس ومصيرهم هي فروضٌ صادقة، وكثيرًا ما تكون هذه الفروض ضخمة وفلسفية إلى أبعد الحدود؛ فقد استخدم سنت أوغسطين في كتابه «مدينة الله» وقائع التاريخ التي جمعها لكي يبرهن على أن المسيحية لم تُضعِف الإمبراطورية الرومانية، وأن الإمبراطورية إنما سقطت لأن الله يُنزِل العقوبة بالأشرار. أما جورج بانكروفت في تاريخه للولايات المتحدة فيستخدم وقائعه المختارة لكي يبين أننا نحن الأمريكيين الشعب المختار حقًّا للإله الديمقراطي الحق، وأن «مصيرنا الواضح» هو أن نقود العالم إلى حياة أفضل. أما الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر في القرن التاسع عشر فقد وجد أن التاريخ يبيِّن بجلاء أن الناس يتقدمون من المجتمعات المقاتلة المتنافسة إلى المجتمعات المسالمة المتعاونة الصناعية.
ولا يزال التاريخ — وربما سوف يبقى دائمًا — أقرب إلى المعرفة اللاتراكمية منه إلى المعرفة التراكمية. نعم إن بعض طرائقه في البحث، وطرائقه في الحكم على صحة الدلالة، هي علمية أو تراكمية. ولكن المؤرخ — إن عاجلًا أو آجلًا — لا بد أن يقابل هذه المشكلة: ماذا تعني دلائله إذا قيست بمقاييس الحب والكراهية الإنسانية، ومقاييس الآمال والمخاوف. إنه لا بد — عاجلًا أو آجلًا — أن يقيم، وأن يحكم بالطيب والخبيث، وأن يُدخِل الفرض في حسابه. أما العلم — كعلم في حد ذاته — فلا يفعل شيئًا من هذا، وإنما يقتصر على إقامة قواعد عامة أو قوانين وصفية في أساسها، وليست تقويمية.
وفي هذا الكتاب نمطٌ من أنماط التقويم، وفكرة رئيسية، وتفسيرٌ لمجرى الحوادث الإنسانية، التي لا بد أن تظهر بصورة محددة لأولئك الذين يتابعون الكتاب حتى نهايته. وأستطيع هنا في إيجاز، قد يكون مخلًّا بالوضوح، أن أسارع فأقول إن هذا الكتاب سيحاول أن يبيِّن أن المثقفين الغربيين في خلال ألفي السنة الأخيرة قد عاونوا على إنشاء مستويات رفيعة جدًّا من الحياة الطيبة والسلوك المعقول، وأنه في السنوات الثلاثمائة الأخيرة انتشرت فكرة — وبخاصة في غضون مذاهب التقدُّم والديمقراطية — تقول بأن كل فرد حيثما كان في هذا الزمان على هذه الأرض، يستطيع، أو ينبغي له، أن يعيش وفقًا لهذه المستويات وأن يكون «سعيدًا»، وأن الحربين العالميتين اللتين نشبتا في العصر الحديث وما أعقبهما من شرور، والانهيار الاقتصادي العظيم، وكثيرًا غير ذلك، قد جعلت تأجيل هذه الحياة الديمقراطية الطيبة — بل جعلت التخلي عنها كلية — أمرًا محتملًا عند كثير من المفكرين، وأن أقرب تفسير إلى العقل للفشل النسبي الذي أصاب المُثُل الديمقراطية والتقدُّم يرجع إلى المبالغة من المؤمنين بها في تقدير ما عند الرجل العادي اليوم من تعقُّل وقدرة على التفكير التحليلي، وأنه — بناء على ذلك — ينبغي لكل المهتمين بمصير الإنسان أن يدرسوا بعناية فائقة طريقةَ السلوك الفعلي للناس، والعلاقة بين مُثُلهم وأعمالهم، وبين أقوالهم وأفعالهم، وأخيرًا، أن هذه العلاقة ليست بسيطة، مباشرة، سببية، كما نشأ أكثرنا على العقيدة أنها كذلك.
وفي خلال هذا الكتاب تدور مشكلة ضخمة حقًّا؛ مشكلة تشغل كثيرًا أذهانَ كلِّ مَن يهتم اليوم بالعلاقات الإنسانية، وهي مشكلة يجدها المرء في فجر تاريخ الفكر الغربي عند الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي مشكلة يتضمنها تميُّزنا بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية. ولْنسلِّم بأن العلم، أو المعرفة التراكمية، يستطيع أن يبين لنا في كثير من الحالات المحسوسة ما هو حق وما هو باطل، أو حتى ما هو «عملي» وما ليس بالعملي. ولكن هل هناك معرفة يعتمد عليها تنبئنا بما هو طيب وما هو خبيث؟ هل هناك علم، أو معرفة، ﺑ «المعايير» أم هل ما نسميه عادة بالحكم على القيم (ولا أستطيع هنا أن أهبِط إلى الأغوار السحيقة التي تتطلبها المعالجة الجادة لهذه المصطلحات) عاجزٌ في أساسه عن الخضوع لقياس أداة التفكير؟
إن أهل الغرب — فيما يتعلق بالحق والباطل، والجميل والقبيح — لم يصلوا في الواقع إلى نوع من الاتفاق يشبه ما بلغوه في الأمور التي تتعلق بالعلوم الطبيعية. غير أن التقاليد الغربية يسري فيها في الواقع تيار شديد التدفق يرفض الزعم — الذي ظهر بين الحين والحين في تاريخ الغرب من السفسطائيين إلى المنطقيين الوضعيين — بأنه لا جدوى من تعليل أخلاق الناس وأذواقهم، ولا جدوى من البحث العقلي في «حاجاتهم». وبالرغم من الأقوال الشائعة مثل «لا فائدة من الجدل في الأذواق»، والادعاءات مثل «القوة تحدِّد الحق» فإن أهل الغرب ينبذون العقيدة بأن القيم ليست إلا نتيجة اعتباطية للرغبات الإنسانية المتعارضة. وهذا النَّبذ هو في حد ذاته حقيقة كبرى.
سنحاول في هذا الكتاب ألا نتحاشى هذه المسألة الكبرى؛ مسألة وجود معرفة قياسية للقيم، وإنما سوف نحفز القارئ على أن يفكِّر بنفسه فيها. ويعترف مؤلف هذا الكتاب أنه سارَ في تفكيره الخاص في الاتجاه الذي يرى أن الحكم على القيم لا يمكن — عند أهل الغرب — أن يقوم على أساس متين إلا إذا أقحمنا نوعًا من النشاط الإنساني نسميه عادة ﺑ «الإيمان». إن الناس بوسعهم أن يعتقدوا — بل هم يعتقدون — أن باخ مؤلِّف موسيقي أفضل من أوفنباخ، وهم يجزمون بذلك كما يجزمون بأن قمَّة إفرست أعلى من قمة واشنطن. إنهم يستطيعون أن يفكروا في العلاقة بين باخ وأوفنباخ وفي حكمهم على هذه العلاقة. وهم يستطيعون أن ينقلوا كثيرًا مما يفكرون فيه (أو مما يحسونه) بشأن هذه العلاقة إلى زملائهم، بل إنهم ليستطيعون أن يقنعوا زملاءهم أن يقبلوا رأيهم في هذه العلاقة.
ولا نستطيع هنا إلا أن نمس موضوع الحكم القياسي من ظاهره. ومن الجلي أن المرء لا يستخدم في الحكم على العلاقة بين موسيقى باخ وموسيقى أوفنباخ نفس المعايير التي يستخدمها في الحكم على العلاقة بين ارتفاع قمة إفرست وارتفاع قمة واشنطن. إن أكثرنا عند الحكم في الموضوع الثاني يعود إلى مرجعٍ جيد ويقبل حكمه، ولا يحاول أن يقيس القمتين بنفسه. مثل هذه العودة إلى مرجعٍ في أمرٍ واقعي (أو في «علم من العلوم» بمعنًى ما) كثيرًا ما يأخذ به المدافعون عن صحة الأحكام القياسية في الأخلاق، والجمال، وغير ذلك من الميادين، الذين يريدوننا — طبقًا لذلك — أن نقبل الرجوع إلى الكنيسة مثلًا فيما يتعلق بوجود الله. بيدَ أن هناك في الواقع فارقًا بين الإفادة من المرجعين في هذين المثالين؛ ذلك أن كل فرد مدرَّب يستطيع أن يخطو نفس الخطى التي يراها الجغرافيون صحيحة والتي انتهت إلى قياس القمتين، في حين أن مثل هذه العملية مستحيلة بالنسبة إلى وجود الله. نعم إن الأفراد المدربَّين تدريبًا صحيحًا يستطيعون أن يتابعوا خطوات التفكير التي يبرهن بها رجال الدين على وجود الله، غير أنهم سوف يلتقون بكثير من الأدلة المتعارضة، بما فيها الأدلة التي تنتهي بالبرهان على أن الله «غير» موجود.
كذلك يستطيع الفرد المدرَّب، تدريبًا صحيحًا أن يتابع خطوات الفكر التي يبرهن بها ناقدٌ موسيقيٌّ على أن موسيقى باخ أفضل من موسيقى أوفنباخ، وسيجد هنا كثيرًا من الفروق، ولكنه سوف يجد أيضًا اتفاقًا أكثر مما هناك على وجود الله — وسوف يجد الدليل في المراجع على أن الحكام الكفاة يتفقون على أن موسيقى باخ أفضل من موسيقى أوفنباخ. وسوف يجد أدلة مركَّبة، تدخل في ميدان الأخلاق، تبرهِن على أن باخ كان في الموسيقى أعلى مرتبةً من أوفنباخ وأنه ألَّف قِطَعًا موسيقية أقوى أثرًا وأفضل وقعًا إذا قيست بمعايير الجمال. وسوف يجد شروحًا فنية جدًّا قائمة على رياضيات الموسيقى وطبيعتها. وأخيرًا سوف يُسعده أن يجد أن باخ يؤلِّف في الموسيقى الجادة تأليفًا جيدًا، وأن أوفنباخ يؤلِّف موسيقى خفيفة تأليفًا جيدًا، وأن المرء يستطيع أن يستمتع باللونين، كل في مكانه الملائم.
وإذن فليس العقل عاجزًا بأية حال في مسائل القيم؛ فهو يستطيع أن يفعل الكثير، وهو يستطيع فوق كل شيء أن يقنع الناس وأن يعلِّمهم. ولكن العقل لا يستطيع أن يفعل المستحيل فيستبعد ما يَعُدُّه العقليون الأقحاح من عناد الأفراد — أعني عقيدة كل فرد أنه عند حدٍّ أدنى معيَّن لا بد أن يختلف عن غيره، وأن له إرادة، وشخصية خاصة به. هذه الإرادة — عند حدٍّ معيَّن — يجب أن تجد لنفسها دعامة من الإيمان «تستند إلى الأمور التي لا تُروى».