القرن الثامن عشر: نظرة كونية جديدة
إن مؤرخ الفكر تواجهه في القرن الثامن عشر صعوبة تواجه كلَّ مَن يؤرخون للقرون القلائل الأخيرة. إنه يجد نفسه مغرقًا بالمواد. فأنت تستطيع أن تُعِدَّ قوائم شاملة للمؤرخين في العصور الوسطى. كما أن الباحث صاحب الضمير الحي يستطيع أن يتقن الكتابات الأصيلة لكلِّ مَن وصل إلينا من الإغريق والرومان. ولكن كمية المكتوب في جميع الميادين — مع اختراع الطباعة، ومع تكاثر الكتَّاب من جميع الصنوف الذين يمكن أن يعولهم مجتمع تتزايد سيطرته على بيئته المادية — ترهق الباحث الفرد، بل وترهق أية جماعة منظمة من الباحثين. كما أن هناك فوق ذلك فيما يبدو مجالًا أفسح في الأذواق والآراء. وبمثل الطريقة التي تَضاعف بها عدد الطوائف البروتستانتية تتضاعف الآراء من جميع الصنوف في كل ميادين المعرفة «اللاتراكمية». كما أن المعرفة «التراكمية» تواصل تراكمها بما يشبه المتوالية الهندسية. وربما أمكن تفسير هذا المجال الفسيح وهذا التركيب بالمطبعة وبالورق الجيد المصنوع من الخرق (وهو لا يشبه صحفنا التي لا بد أن تتحلل وتأخذ شكلًا لا يمكن الإفادة منه في أقل من نصف قرن. وقد بقيت لنا حتى الكتابات الدورية والطارئة التي دُوِّنت في القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، مقروءة كلها). وربما كانت العصور الوسطى متعددة الجوانب كعصرنا. ولكنا نعتمد على ما بين أيدينا، وما بين أيدينا هو ما ينيف عن ثمانية ملايين كتاب ورسالة في مكتبة الكونجرس نُشرت كلها — فيما خلا نسبة ضئيلة جدًّا — منذ عام ١٧٠٠م.
وإذن فإن أحكامنا العامة لا بد أن تقوم على نماذج محدودة من كمية المعلومات الضخمة الميسورة. ونحن لا نستطيع أن نوجِّه الاهتمام حتى للعقول البذرية العظيمة كما استطعنا حتى هذا الوقت؛ لأنه يتحتم علينا أن نركِّز على الأفكار وهي تفعل فعلها في جهرة الناس التي لا تحمل اسمًا. وليس بوسعنا إلا أن نشير على القارئ بأن يتجه بنفسه نحو عمل أولئك الرجال والنساء الذين وضعوا اللمسات الأخيرة على ميراثنا الثقافي، والذين أكسبوا ثقافتنا الغربية صورتها الحديثة التي تتميز بها، أو قُل انعدام صورتها حديثًا إن كنت من طراز خاص من المتشائمين في هذه الأمور.
عملاء التنوير
من الحماقة أن نحاول تلخيص «التنوير» في عبارة واحدة، والواقع أنَّا سوف نعود بعد حين إلى رسم الظلال وملء الفراغ. أما الآن فنستطيع القول بأن الفكرة الأساسية والجدة اللافتة للنظر في «التنوير» — أقصد الفكرة التي تجعله نظرية كونية — إنما هي «الاعتقاد بأن كل الكائنات البشرية يمكن أن تبلغ هنا في هذه الدنيا حالة من حالات الكمال كان يُظن حتى الآن في الغرب أنها لا تتيسر إلا للمسيحيين في حالة النعمة، ولهم وحدهم بعد الموت». وقد عبَّر عن ذلك سنت جست، الثائر الفرنسي الشاب — في بساطة خادعة أمام المجمع الديني حين قال: «إن السعادة فكرة جديدة في أوروبا.» ليست جديدة في السماء بطبيعة الحال، وإنما هي جديدة في أوروبا، وجديدة جدًّا حتى في أمريكا.
وهذا الإمكان في تحقيق الكمال للجنس البشري لم يكن نتيجة لما يقرب من ألفي عام من المسيحية، ولا للوثنية السابقة التي ارتأت صورًا أخرى للسعادة تتحقق بعد آلاف السنين. وإذا كان لا بد لهذا الكمال من أن يستحدث في القرن الثامن عشر فإن شيئًا جديدًا — اختراعًا جديدًا، أو اكتشافًا جديدًا — لا بد أن يحدث. وهذا الشيء الجديد يمكن تلخيصه أحسن تلخيص فيما ألَّف اثنان من الإنجليز الذين عاشوا في أواخر القرن السابع عشر، وهما اللذان جمعَا في بؤرة واحدة العملَ التمهيدي الذي تم في أوائل القرون الحديثة — ذلكما الرجلان هما نيوتن ولوك. وقد بدا العمل الذي أنفق نيوتن فيه حياته — وخاصةً إتمامه لحساب التكامل وصياغته الرياضية العظيمة للعلاقة بين الكواكب وقوانين الجاذبية — بدا لمعاصريه كأنه يفسِّر كل الظواهر الطبيعية، أو يبين على الأقل كيف أن كلَّ ما يماثل هذه الظواهر بما فيها سلوك الكائنات البشرية يمكن أن يخضع للتفسير. أما لوك فقد استخلص طرائق التفكير الواضحة البسيطة من الميتافيزيقيات المحيرة حيث ألقى بها ديكارت، فجعلها — فيما يبدو — امتدادًا طيبًا للإدراك العام. والظاهر أنه بيَّن للناس الطريقة التي يمكن أن تُطبَّق بها النواحي التي نجح فيها نيوتن نجاحًا عظيمًا على دراسة شئون البشر، وقد وضع نيوتن ولوك معًا تلك المجموعات العظيمة من الأفكار، في «الطبيعة» وفي «التفكير»، التي كانت بالنسبة إلى التنوير ما كانت عليه أمثال هذه المجموعات في مجالات النعمة والخلاص والقدرية بالنسبة إلى المسيحية التقليدية.
كانت «الطبيعة» بالنسبة إلى التنوير فكرة سليمة العاقبة، في حين أنها بالنسبة إلى المسيحي، حتى للمسيحي التوماسي، كانت دائمًا شيئًا لا يطمئن المرء إليه، عاجزة بالتأكيد دائمًا إذا لم تدركها معونة السماء. ومنذ عصر التنوير — على أية حال — كان أولئك الذين يستخدمون مصطلح «الطبيعة» في محاولة للتأثير على الكائنات البشرية يفيدون كل الفائدة من الغموض الذي أشرنا إليه آنفًا عندما كنا نناقش القانون الطبيعي عند الرومان (ارجع إلى الفصل السابق عن العنصر الروماني). الطبيعة بالنسبة إلى الرجل في عصر التنوير كانت هي العالم الخارجي الذي يعيش فيه، وهو عالم موجود بكل وضوح، ولكن كل ما يحدث فيه لم يكن «طبيعيًّا» بأية حال من الأحوال. والواقع أن كل شيء تقريبًا مما يحدث، ومما يوجد في لحظة من اللحظات، كل شيء تقريبًا في عالم «الطبيعة» (الواقعي) الخارجي — أو على الأقل في عالم «الطبيعة» البشرية طبقًا لتنظيمها في المجتمع — كل شيء من هذا بالنسبة إلى رجل اشترك في عصر التنوير في القرن الثامن عشر اشتراكًا فعليًّا حماسيًّا «غير طبيعي»؛ فالفوارق الطبقية، ومواضعات المجتمع، وامتيازات النبلاء ورجال الدين، والمفارقة بين الأكواخ والقصور — كل ذلك كان قائمًا، ولكنه غير طبيعي. وبطبيعة الحال كان العضو في حركة التنوير يفكر في «الطبيعي» بمعنى «الطيب» أو «العادي»، وفي «غير الطبيعي» بمعنى «السيئ» أو «غير العادي». والمهم هو أن طبيعة نيوتن كما تسربت إلى المتعلمين وأنصاف المتعلمين كانت هي العمل المنظَّم المستقر البسيط في جمال للعالم (إذا فُهِم فهمًا صحيحًا). وإذا ما فهمنا هذه «الطبيعة» في شئون البشر، فإن كل ما علينا هو أن ننظم أعمالنا طبقًا لها، فلا يكون بعد ذلك سلوك غير طبيعي.
إننا نفهم عمل هذه الطبيعة الكامنة (وهي الطبيعة التي لا تكون واضحة أو محسوسة بالنسبة إلى «غير المدربين») بما كان يحب رجال التنوير أن يسميه «العقل» — وكان العقل عندهم يكاد يكون اسمًا لعلم. والعقل أوضح ما يكون في الرياضة، والواقع أنه لم يظهر عند الأفراد أولًا إلا فيها. والعقل — كما يزعم عملاء حركة التنوير — يمكننا من النفاذ من الظاهر إلى الواقع، بغير العقل، بل وبالعقل الخاطئ الذي اكتفى به الناس — كما اكتفوا بالإدراك العام — عدة قرون، نعتقد أن الشمس «تشرق» فعلًا و«تغرب». أما بالعقل فنحن نعرف العلاقة الصحيحة بين الأرض والشمس. وكذلك العقل عندما يُطبَّق على العلاقات البشرية يهدينا إلى أن الملوك ليسوا آباء شعوبهم، وأن اللحم إذا كان طعامًا جيدًا في أيام الخميس فهو جيد في أيام الجمعة، وأن لحم الخنزير إن كان مغذيًا للأميين فهو مغذٍّ أيضًا لليهود. والعقل يمكِّننا من الكشف عن النُّظم البشرية والعلاقات البشرية «الطبيعية». وإذا ما اهتدينا إلى هذه النُّظم فسوف نخضع لها ونصبح قومًا سعداء. إن العقل يمحو الاضطراب الذي تراكم فوق هذه الأرض بفعل الخرافات، والإلهام، والإيمان (وتلك هي شياطين العقليين).
ولا يهمنا الآن أن نبحث في مدى صحة هذه الوثبة، أو هذه السلسلة من الوثبات، من قانون الجاذبية إلى العلاقات الإنسانية. وإنما المهم هو أن الجيل الذي قرأ نيوتن ولوك هو الذي وثب هذه الوثبة. ولم يتمادَ نيوتن أو لوك إلى الحد الذي تمادى إليه الجيلان أو الأجيال الثلاثة التي رجعت إليهم حجة يُؤخذ بها؛ فإن نيوتن لم يكن مجددًا في شيء خارج عمله الخاص كعالم طبيعي، بل إنه يشتهر في أمثال هذه الميادين بأنه غير محدث وغير مستنير في جولاته في الأدب الإنجيلي. أما لوك — الذي كان يهتم أكثر ما يهتم بعلم النفس، والأخلاق، والنظريات السياسية، فقد كان شخصًا حريصًا، رجلًا من عرض الطريق، الطرق الجديدة عنده تخدم خدمة جزئية على الأقل في تثبيت الحكمة القديمة.
وكذلك لم يكن الجيل الأول الذي بشَّر بالإيمان الجديد — الإيمان بالعقل — انقلابيًّا في طريقته المتطرفة المبسطة. نعم إن هذا الجيل قد أشاع ويسَّر للمتعلمين العاديين من الرجال — ومن النساء بالتأكيد في هذا الزمان — أفكار القرن السابع عشر، الذي أطلق عليه ألفريد وايتهد «قرن العبقريات». وأكثرهم من الفرنسيين، وإذا كان لإنجلترا على وجه العموم النصيب الأوفر من العقول البذرية التي أنبتت أفكار التنوير، إلا أن الفرنسيين — فوق كل شيء — هم الذين نقلوا هذه الأفكار في أنحاء أوروبا وروسيا، بل وفي الأماكن الخارجية النامية للمجتمع الغربي في جميع أنحاء العالم. وأعظم هؤلاء الفرنسيين فولتير، الذي تجد في مؤلفاته التي تربو على التسعين كل الآراء التي بدأ بها عصر التنوير معروضة عرضًا واضحًا فيه فطنة وذكاء في كثير من مواضعه.
وأقول الأفكار التي بدأ بها عصر التنوير، ولا أقول الأفكار التي انتهى إليها، لأن فولتير ينتمي إلى الجيل الأول أو الجيل المعتدل من أجيال التنوير، كما ينتمي إليه منتسكيو، وبوب، والإنجليز الذين يؤمنون بالله دون الوحي، وما زال هؤلاء متأثرين تأثيرًا بالغًا بتيار الذوق الذي حللناه في الفصل الثامن، وأسميناه ﺑ «الإنسانية المقتصدة» في عصر لويس الرابع عشر، وهم ما بَرِحوا يؤمنون بالتقيد، وبالاحتشام، و«بأن القواعد قديمة، تُكتَشف ولا تُبتكر» وهي القواعد التي تحافظ على التوازن الاجتماعي والجمالي. وهم لا يحبون الطرق العتيقة المتزمتة، التوازن الاجتماعي والجمالي. وهم لا يحبون الطرق العتيقة المتزمتة، وبخاصة إذا كان التزمُّتُ يُطبَّق بالإرغام، وهم يكرهون خاصة الكنائس القديمة، كاثوليكية كانت أم أنجليكانية. وهم يسخرون مما لا يحبون. أما الجيل التالي فيرى أن الطرائق القديمة محل اعتراض لا يُسمح حتى بالسخرية منها.
ويحدِّد كتاب «روح القوانين» لمنتسكيو، الذي نشره في عام ١٧٤٨م، وهو ذلك العمل الاجتماعي الضخم الذي صدر عن الرعيل الأول المعتدل، نقطة من نقط التحول. وبالرغم من أن فولتير قد عاش حتى عام ١٧٧٨م، موضعًا لعبادة البطولة في سنواته الأخيرة، فإن الرجال الجدد بعد عام ١٧٥٠م كانوا في الأغلب من الانقلابيين. وهم كأكثر الانقلابيين يميلون إلى التحيز إلى جانب واحد، وإلى تثبيت فكرة معينة واحدة، أو — في إيجاز — إلى أن يكونوا طائفيين. وإذا كان اهتمامهم الرئيسي بالدين، إلا أنهم يسيرون من الاعتقاد في الإله دون الوحي، وهي عقيدة هادئة في ثورتها، إلى المادية والاتحاد الصريح. وهذا الإلحاد ليس بأية حال من الأحوال صورة من صور التشكك، وإنما هو عقيدة إيجابية بأن العالم آلة كبرى. أما إذا كانوا من علماء النفس فهم يسيرون من التفرقة البريئة التي يفرِّق بها لوك بين الصفات الأولية والصفات الثانوية إلى بناء إنسان متكامل على أساس الإحساسات التي تؤثر في نفسٍ تسجِّل ما يقع عليها بطريقةٍ آلية. أي إن جوهر نظريات السلوكيين في القرن العشرين، ونظريات أفعال الشرط المنعكسة، وما إليها، كان معروفًا لهم. وكان هلفيشيس وهلباخ يلتقيان عند وجهة النظر التي تتلخص تلخيصًا واضحًا في عنوان كتاب من وضْع زميلٍ أقل شأنًا، وهو «الإنسان والآلة» لمؤلفه لامتري. وإن كانوا من الاقتصاديين ساروا مع الفيزيوقراط الفرنسيين (الذين يعتقدون في الحكم طبقًا لنظام الطبيعة) ليصوغوا إحدى البسائط الكبرى في عالمنا، وهي قاعدة قوية وإن تكن مبسطة، وتلك هي «دعه يعمل، دعه يسير»، أو ليضعوا الشعارات التي شاعت طويلًا بين الجماهير مثل «خير حكومة هي التي لا تحكم إلا في القليل، وبأقل التكاليف». أما آدم سميث الذي نشر كتابه «ثروة الأمم» أول الأمر في عام ١٧٧٦م، وأما المجموعة الاسكتلندية عامة، فهم استثناء للقاعدة التي ذكرنا. وكان سميث معتدلًا، رجلًا ينتمي بمزاجه إلى الرعيل الأول من حركة التنوير، ولم يكن يعتقد اعتقادًا مذهبيًّا في المنافسة الاقتصادية الحرة المطلقة. وقد كان أتباعه هم الذين بسطوا مبادئه وجعلوها «فردية صارمة». أو بظهور روسو أخيرًا استطاع هذا الجيل الثاني أن يندفع في النفور العاطفي الكامل من بيئته الاجتماعية والثقافية، ويسعى إلى تجديدها تجديدًا كليًّا طبقًا لما تمليه «الطبيعة» التي كانت تنادي الفلاحين السذج، والمتوحشين البدائيين، والأطفال، والأدباء من أمثالهم، نداءً واضحًا جليًّا.
ولما صعد الجيل الثالث كان العنصران اللذان قد سادا في عصر التنوير أخيرًا — وهما الكلاسيكي العقلي والرومانتيكي العاطفي — قد تم نضجهما. وفي السنوات الحرجة التي سبقت الثورة الفرنسية تضافرت هاتان النظرتان، أو هاتان المجموعتان من الأفكار، على الأقل لكي يحطما النظام القديم، وسوف نحاول في فصل مقبل تحليلًا أكثر تفصيلًا لأهمية الحركة الرومانتيكية، التي نجدها على أكملها عند روسو. ويكفينا هنا أن نذكر أن المذهب العقلي والرومانتيكية قد ارتبطا في العقل ارتباطًا لا انفصام له عند أكثر رجال الغرب في عصر التنوير في القرن الثامن عشر. ولم يتفق العقل والعاطفة فقط على إدانة الوسائل القديمة للنبلاء والقسس وغير المستنيرين عامة، بل لقد اتحدا في كثير من العقول لاعتماد الطريقة الجديدة، وهي «حكم الأغلبية الذكية صاحبة القلب الطيب من الرجال الذين لم يلحقهم الفساد». والواقع أن الرجل «الطبيعي» من الأتباع السذج لحركة التنوير كان فاضلًا بالطبيعة وعاقلًا بالطبيعة في آنٍ واحد، فكان قلبه ورأسه سليمين.
ولست أزعم هنا أن الفوارق بين روسو والعقليين لم تكن قائمة. بل لقد كانت فوارق حقيقية، والتعبير عنها ناصعًا، وهي تستحق الدراسة وكانت الرومانتيكية ثورة على التعقل. ولكن من الأهم لنا أن نلاحظ أن الثورة كانت ثورة الطفل على أبيه — وهو طفل على شَبَه كبير بالأب. والمشابهة تنحصر في أمر أساسي؛ ذلك أن كليهما نبذ فكرة الخطيئة الأولى، وكلاهما آمن بأن الإنسان على الأرض يمكن أن يصلح حاله إلى ما لا حد له — وأنه يستطيع أن يحيا الحياة الطيبة — إذا حدثت تغيرات بيئية معينة.
إن جيلًا ثالثًا قد استمع إلى صاحب المذهب العقلي وصاحب المذهب الرومانتيكي على السواء، وهو الذي صنع الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، وأعاد بناء بريطانيا بغير ثورة، ووضع أسس النظرية الكونية المتقدِّمة التي عرفها القرن التاسع عشر. ولقد كان هؤلاء الرجال من صنوفٍ متنوعة، ليسوا على اتفاق بأية حال من الأحوال. والواقع أنهم ضربوا مثلًا كلاسيكيًّا في أوج الثورة الفرنسية للنزاع حتى النزع الأخير، في سبيل السلطة — من غير شك — ولكنها السلطة المجسَّدة في الأفكار. وإذا أنت أردت أن تبحث عن العامل المشترك بين جون آدمز، وتوماس جفرسن، وتوم بين، ولافييت، ودانتون، وروبسبيير، وفرانسيس بلاس، ولورد جراي، وغيرهم من قادة هذه الحركة، لشقَّ عليك الأمر في غير جدوى. وسوف نكتفي هنا بمحاولة الإشارة إلى الخطوط العريضة لما يمكن أن تكون عليه نظرة الشاب العادي المتعلم، المتطلع إلى الأمام، في أواخر القرن الثامن عشر في العالم الغربي، نظرة مثل هذا الشاب نحو العلاقات الإنسانية، ونحو المجتمع بأوسع معاني الكلمة.
مثل هذا الشاب هو بالضرورة شخص خيالي. وحتى في القرن الثامن عشر الذي سادت فيه النظرة العالمية كانت هناك طوابع إقليمية ووطنية ثابتة؛ فالشاب الأرستقراطي الروسي المستغرب الذي يقرأ فولتير بالفرنسية لم يكن يشبه في الكثير الفتى اليانكي (من شرقي الولايات المتحدة) الذي يكتشف في لوك وفي الإنجليز المعتقدين في الألوهية دون الوحي كيف أن قسيس كنيسته يخطئ حين يذكر نار الجحيم. والشاب الجرماني خاصة كان حتى عندما حلَّ عام ١٧٨٠م ذلك الجرماني الروحاني العميق المتسائل الذي لا يقنع قطُّ بالتعقل الضحل الذي نادى به جيرانه وأعداؤه الفرنسيون. وكان بالفعل في بداية الطريق الجرمانية التي تؤدي إلى شيء أكثر، وشيء أعظم، شيء لا يُقاس، شيء مستحيل. ومهما يكن من أمر فسوف نتعرض كثيرًا فيما بعد إلى القومية، وإنما ينبغي هنا أن نحاول في صراحةٍ عمليةَ تبسيطٍ وتجريد.
وثمَّة كلمة أخرى لا بد منها قبل أن نحاول الكشف عن النظرية الكونية الجديدة. إننا نبلغ العصور الحديثة في كثير من النواحي بحلول القرن الثامن عشر، ومن المؤكد أننا لم تَعُد أمامنا مشكلة خطيرة بشأن «حقيقة» انتشار الأفكار بصورةٍ ما بين الألوف، بل الملايين، الكثيرة، الذين لا يمكن أن نَعُدَّهم من بين المفكرين، أو من بين الطبقات الحاكمة مهما ضاق معنى هذا الاصطلاح، وهناك مشكلات عديدة لم تُحَلَّ تتعلق بطبيعة انتشارها. والواقع أن هناك جميع المشكلات، من حيث الجوهر، التي تواجهنا اليوم عند دراسة الرأي العام. ولكنا نعلم على الأقل أنه كان هناك رأي عام، ولدينا بعض الأدلة التي تثبت العقائد التي كانت سائدة.
كانت الصحافة في طفولتها عند مستهل القرن، بالرغم من أنها في نهايته بلغت شكلًا يشبه صورتها الحديثة، وبخاصة في إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا. وقد كانت الرسالة الرخيصة أو العجالة القصيرة خلال القرن الثامن عشر تعني أن الكلمة المطبوعة يمكن أن تنتشر انتشارًا واسعًا. وبقيت الكتب مكلفة نسبيًّا، غير أن المكتبة الدورية التي كانت تتناوبها النوادي الاجتماعية وبعض الفئات الأخرى المتطوعة كانت في بدايتها. وبدأ تعلم الكتابة والقراءة الآن ينتشر بين عددٍ لا بأس به من السكان في بلاد الغرب. ولم يكن بوسع الجماهير حينئذٍ أن تقرأ، وإن كان العمال المهرة في البلدان المتقدِّمة استطاعوا والقرن الثامن عشر يشرف على نهايته أن يقرءوا. وقد قرءوا. ولم يبقَ على جهل تام بالقراءة والكتابة سوى جمهرة أهل الريف. وقد يسَّرت الثورة الفرنسية لهم إمكان البدء في تعلُّم القراءة والكتابة. والمهم هنا — على أية حال — هو وجود طبقة وسطى قوية قارئة، تبلغ كما قيل الملايين العديدة، وتُخلِص لأفكار حركة التنوير، في كل هذه الأقطار.
وأخيرًا شهد القرن الثامن عشر نضج عملاء انتشار الأفكار، ويُعَد هؤلاء العملاء من خصائص العصر الحديث، وليس بوسعنا أن نُخضِعهم جميعًا لاسم واحد — فقد كانوا يتمثلون في فئات متطوعة تنتظم أحيانًا لهدف معين، مثل الجماعة المتأخرة المعادية للصالونات في الولايات المتحدة، وأحيانًا لطقوس اجتماعية وتأمين اجتماعي، مثل الجماعات الأخوية العديدة، وأحيانًا لمجرد التسلية، مثل جماعات الحديث غير الرسمية التي يسميها الفرنسيون ﺑ «الصالونات». والواقع أن المجتمع الغربي في القرن الثامن عشر كان يتميز بوفرة وجود الجماعات. ولما أخذ القرن الثامن عشر يميل إلى الزوال، وبخاصة في فرنسا، أصبحت كل هذه الجماعات في الواقع — حتى تلك التي بدت منها بعيدة عن تاريخ الأفكار، كجماعة «الطُّبَّاق» (أي نادي التدخين) — عوامل لانتشار الأفكار الجديدة، التي كانت في الواقع ثورية في ذلك الحين. وبطبيعة الحال كان هؤلاء البورجوازيون يتغزلون، ويرقصون، ويلعبون الورق، وينغمسون في الحديث التافه، ولكنهم كانوا على الأرجح يمزجون مع ذلك جهدًا ثقافيًّا أشد خطرًا مما كانت تألفه أمثال هذه الجماعات. وحتى مسراتهم كانت تتسم بما كان العصريون منهم يسمونه «الوطنية»، وهي ليست وطنية بمفهومنا، وإنما هي الإخلاص لحركة التنوير. وعند الفرنسيين لعبة من ألعاب الورق، وهي شكل من أشكال «لعبة الهويست الإنجليزية» يسمونها «البوسطون» نسبة إلى المدينة التي وقفت في الثمانينيات من القرن الثامن عشر موقفًا جريئًا للدفاع عن الآراء الجديدة.
إيمان المستنير
إن التغيُّر الذي طرأ على نظرة أهل الغرب إلى العالم وإلى كلِّ ما فيه كان — بأوسع المعاني — تغيُّرًا من الفردوس كما تراه المسيحية فوق الطبيعة بعد الموت إلى الفردوس الطبيعي المعقول فوق هذه الأرض، وفي الوقت الحاضر — أو على الأقل بعد فترة وجيزة. غير أن أوضح طريقة نتحقق بها من عظمة هذا التحوُّل هي أن نبدأ بمبدأ أساسي حديث جديد بغير نزاع — وهو مبدأ التقدُّم. إن العقيدة في التقدُّم، بالرغم من الحربين العالميتين اللتين وقعتا في جيلنا، وبالرغم من الأزمة الاقتصادية الخطيرة في الثلاثينيات، لا تزال تمثل جانبًا من الأسلوب الذي ينشأ عليه الشباب الأمريكي، حتى إن القليل جدًّا من الأمريكيين مَن يدرك كيف أن هذه العقيدة كانت غير مسبوقة. وقد أحس الناس — بطبيعة الحال — من قديم الزمان أن هناك طريقة «تَفضُل» الأخرى في أداءِ عملٍ ما. وعرفوا تحسنًا معينًا في الحِيَل الفنية، كما كانوا — فوق كل شيء — كأعضاء في جماعة على وعي بأن الجماعة الخاصة التي ينتمون إليها هي في حالة ازدهار، أو حالة انحطاط.
ولكن دعنا نستعرض في إنجازٍ ما عرفناه عن أثينا في القرن الخامس. هنا كان قوم في غمرة عمل جماعي عظيم، قوم على وعي تام بأنهم يؤدون أعمالًا كثيرة بطريقة أفضل مما كان أسلافهم يؤدونها بها. ويكاد ثيوسيديد يُسمي حرب البلبونيز حربًا «أضخم وأفضل» من أي حرب قاتل فيها الناس من قبل. وفي خطاب التأبين الذي ألقاه بركليز لمسة من لمسات «الغرفة التجارية» كما نعرفها اليوم. ولكنك لا تجد مع ذلك فكرة واضحة عن التقدُّم كجزء من نظام الكون، أو كعملية تطور من الأدنى إلى الأعلى، في تلك السنوات من ثقافة أثينا الواثقة بنفسها، ولو أنت وجهت نظرك إلى الأوجه الأخرى من التاريخ القديم والوسيط لوجدت ما هو أقل من ذلك مما يشبه أن يكون مبدأ للتقدُّم.
نعم إنك تجد مشروعات عديدة منظمة لمصير الإنسان. وقد وضعت الأساطير الشائعة الوثنية في حوض البحر المتوسط أسعد عصور بني الإنسان وأفضلها في الماضي البعيد، في عصر ذهبي، عصر أبطال، عصر الترجمة العبرية له هي جنة عدن التي نتخيلها جميعًا. وشاعت بين المثقفين في العالم الإغريقي الروماني أفكار دقيقة متنوعة عن سير التاريخ، وبخاصة سلسلة من النظريات الدورية، ومن أكثر هذه النظريات قبولًا وانتشارًا — على سبيل المثال — نظرية العصر الذهبي الذي يتلوه عصر فضي، يتلوه عصر حديدي، تَحِلُّ بعده الكارثة، ثم عصر ذهبي جديد، وبعد ذلك تدور الدورة مرة أخرى — عالم بغير نهاية. ومن المحتمل جدًّا أن تكون لبعض هذه الأفكار صلة بالأفكار الهندية التي تتعلق بتناسخ الأرواح، وتكرار الحدوث إلى ما لا نهاية، وما شابه ذلك، وأنها تشير إلى لقاء بين الشرق والغرب لولاها ما عرفناه. وهي — بطبيعة الحال — لا تشبه قطُّ أفكارنا عن التقدُّم. وكان يعتقد فيها بصفة خاصة قوم يحسَبون أنهم يعيشون في عصر حديدي. وهي باختصار بالنسبة إلى المؤمنين بها شبيهة بالأفكار التي كانت تُعتقد في عصر ذهبي سابق، التي تقوم على عقيدة في «التدهور» أو الانحلال، لا على عقيدة في التقدُّم.
وقد ذكرنا من قبلُ أن المسيحية التقليدية لم تكن لديها نظرية عن التقدُّم في الطبيعة في هذه الدنيا — على الأقل بالصورة الواضحة التي اتخذتها هذه النظرية في عصر التنوير، وسوف نعود في نهاية هذا الفصل إلى المشكلة الدقيقة العويصة، مشكلة العلاقات بين عقيدة المسيحية التقليدية والتنوير. ويمكن أن نذكر هنا عرَضًا أن العلاقة وثيقة جدًّا في الواقع، وأن التنوير في حقيقته ابن المسيحية — وهو ما قد يفسِّر لزماننا المتأثر بفرويد لماذا كان التنوير على عداء شديد بالمسيحية التقليدية، بل إن في المسيحية أساسًا عاطفيًّا لا يفترق كثيرًا عن الاعتقاد في التقدُّم. ومهما يكن من أمر فإن النظرية الكونية الرسمية للمسيحية التقليدية أقربُ بشكل واضح إلى الآراء الوثنية بالنسبة إلى مسير الإنسان فوق الأرض منها إلى آراء عصر التنوير، وكان الأفضل أولًا — وهو حالة البراءة قبل سقوط آدم. ثم هوى الإنسان، وهو لا يستطيع أن يعيد إقامة الجنة على الأرض. إنه يستطيع حقًّا أن يرفع من شأن نفسه، ولا يكون ذلك بأية «عملية» فعلية، أو حتى بأعمال تاريخية على الوجه الصحيح، وإنما يكون بمعجزة تتجاوز الطبيعة، وهي الخلاص عن طريق نعمة الله. إن الفردوس لا يمكن قطعًا أن يقوم فوق هذه الأرض.
وقد لاحظنا في «النزاع بين القدماء والمحدثين» في أواخر القرن السابع عشر بداية الجدل العام بين المفكرين في هذه الأمور، والمبدأ — وهو في خطوطه العريضة شديد الشبه بالآراء الشعبية عن التقدُّم عند الأمريكيين — يتسرب بسرعة شديدة في الثقافة الغربية في القرن الثامن عشر، وإن لم يكن قبوله بالإجماع بأية حال من الأحوال، وبغير معارضة بتاتًا. وتستطيع أن تلتمس عند فولتير — على سبيل المثال — من البراهين ما يدل على أنه آمن بالدورات، التي يكون فيها عام ١٧٥٠م «أدنى» في الدورة من عصر لويس الرابع عشر، كما تستطيع أن تجد من الدلائل على نظرية إيمانه بالتقدُّم — وذلك في عصره، عصر التنوير. وفي نهاية القرن الأخير على أية حال يعطينا كتاب كوندورسيه «تقدُّم الروح البشرية» وصفًا كاملًا شاملًا للخطوات العشر التي رفع الناس بها أنفسهم من الهمجية الأولى إلى حافة الكمال فوق الأرض. إن هذه الفلسفة للتاريخ التي تنصهر فيها «المدينة المقدسة» ﺑ «المدينة الأرضية» من غير تمييز جاءت بعد ألف وخمسمائة عام بعد سنت أوغسطين.
وكوندورسيه غامض بعض الشيء فيما يتعلق بالطريقة التي يتم بها كل ذلك، وفيما يتعلق بالقوى المحركة التي تدفع الإنسانية من مرحلة إلى أخرى أعلى منها. ونستطيع أن نقول إجمالًا إنه لم تكن هناك نظرية عامة مقنعة عن التقدُّم تحاول أن تفسِّر لماذا وكيف تحدث خطوات التقدُّم تفصيلًا حتى أمست آراء داروين عن التطور العضوي في القرن التالي مرجعًا في العلوم الاجتماعية. والتفسير الذي كان يؤثره المفكرون في القرن الثامن عشر هو أن التقدُّم يرجع إلى انتشار العقل، وإلى زيادة التنوير التي تمكِّن الناس من السيطرة على بيئتهم بطريقة أفضل.
وهنا نلمس في وضوح وجلاء الارتباط التاريخي بين التقدُّم العلمي والتكنولوجي وفكرة التقدُّم بالمعنى الخلقي والثقافي. بحلول القرن الثامن عشر كان عمل العلماء من كوبرنيكس إلى نيوتن قد تمخَّض عن مجموعة كبيرة من الأحكام العامة عن سلوك العالم المادي — وهي أحكام عامة كانت في عام ١٧٥٠م معروفة للعامة على الأقل كمعرفتنا بالأحكام العامة عن النسبية وميكانيكا النشاط الذري. وكان من الواضح — فوق ذلك — أن هذه الأحكام العامة النيوتونية كانت أفضل وأصدق من أحكام أسلافه في العصور الوسطى. وأهم من ذلك أنه لما انتصف القرن كان نوع التقدُّم المادي — الذي ربما كان عند غير المفكرين مصدرًا أثبت من العلوم البحتة للعقيدة في التقدُّم — واضحًا ملموسًا؛ فقد كانت هنالك طرق أفضل تطرقها العربات في رحلاتها كل عام أسرع من ذي قبل، وكانت هناك تحسينات واضحة منزلية كدورات المياه، بل لقد كانت هناك في نهاية القرن بداية غزو الفضاء. وكان الغزو حقًّا ناقصًا في البالونات، ولكن في عام ١٧٨٧م — برغم هذا — قام رجل فرنسي بمغامرة مميتة حديثة عندما حاول أن يعبر القنال الإنجليزي جوًّا. وأقول في إيجاز إن الرجل العجوز في القرن الثامن عشر يستطيع أن يرجع ببصره إلى طفولته فيراها زمانًا لم تتوافر للناس فيه وسائل الراحة، أو الأدوات والآلات القادرة، ولم يرتفع فيه مستوى البيئة المادية، أو مستوى المعيشة، إلى الحد الذي كان ذلك عليه في شيخوخته.
ومهما يكن ما تَدين به نظرية التقدُّم إلى نمو المعرفة التراكمية وإلى ازدياد القدرة عند الناس على إنتاج الثروة المادية من بيئتهم الطبيعية، فهي نظرية أخلاق، بل ميتافيزيقيات. إن الناس — طبقًا لهذه النظرية — يصبحون أفضل، وأسعد، وأقرب إلى ما هدفت إليه المُثُل العليا في أفضل ثقافاتنا. وإن أنت حاولت أن تتابع هذه الفكرة عن التقدُّم الخلقي في تفصيلاتها المحسوسة، التقيت بشيء يشبه نوع الغموض الذي علِق دائمًا بالآراء المسيحية عن الفردوس — وربما كان في هذا نفسه دليل يثبت صحة الفكرة التي تقول بأن مبدأ التقدُّم لا يعدو أن يكون كنظرية «الموت، والحساب، والجحيم أو النعيم» في صورة حديثة. والتقدُّم يسوقنا إلى حالة يكون الناس كلهم فيها سعداء، حالة ينتفي فيها الشر، وهو يسوقنا إلى ذلك طبقًا لفكرة القرن الثامن عشر الأصيلة عن التقدُّم في سرعة زائدة، خلال جيل أو جيلين من الناس. وليست هذه السعادة مجرد الراحة البدنية بأية حال من الأحوال. ولا نبعد عن الدقة إذا قلنا إن أكثر أولئك الذين تحدثوا عن التقدُّم وإمكان كمال الإنسان في القرن الثامن عشر كانوا يفكرون في حدود قريبة من الأخلاق المسيحية والإغريقية والعبرية المتأخرة وفي حدود السلام على الأرض لمن كانت نيته طيبة من الناس، وانتفاء كل الرذائل التقليدية، ووجود الفضائل التقليدية.
ويكفينا هذا عن الأساس العريض للإيمان بالتقدُّم فوق هذه الأرض وقد كان هذا التقدُّم سيتم بانتشار العقل. وكان العقل للرجل العادي في عصر التنوير الذي نحاول هنا أن نتتبعه هو كلمة السر الكبرى لعالمه الجديد. العقل هو الذي يسوق الناس إلى فهم الطبيعة (وهذه عنده هي كلمة السر الثانية الكبرى)، وبفهمه للطبيعة يصوغ سلوكه طبقًا لها، وبذلك يتجنب المحاولات العابثة التي قام بها في ظل أفكار المسيحية التقليدية الخاطئة وما يحالفها في الأخلاق والسياسة مما يناقض الطبيعة. والعقل في ذلك الحين لم يكن شيئًا ظهر في الوجود فجأة حوالي عام ١٦٨٧م (وهو تاريخ نشر الفلسفة الطبيعية لمبادئ الرياضة لنيوتن). ولا بد من الاعتراف بأنه كان هناك من المحدثين المغالين مَن كاد يعتقد أن كل ما سبق حوالي عام ١٧٠٠م كان سلسلة ضخمة من الأخطاء، كان تخبطًا من الإنسان المرتبك في حجرة مظلمة. ولكن المفكر المتوسط المستنير كان يميل إلى أن يعزو إلى الإغريق والرومان القدامى فضل تمهيد الأرض تمهيدًا طيبًا، وإلى الاعتقاد بأن ما نسميه النهضة والإصلاح الديني قد بدأ مرة أخرى يطور العقل. وفي الكنيسة — وبخاصة في الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى وخلفائها — وجد المستنيرون مصدر الظلام، أو كبح الطبيعة كبحًا غير طبيعي، وجدوا — في عبارة موجزة — الشيطان الذي ليس لأي دين غنًى عنه، وسوف نعود إلى هذا الموضوع؛ لأن له أهمية قصوى. وأما الآن فيكفينا أن نسجل أن الرجل المستنير كان يعتقد أن العقل شيء يمكن لكل امرئ أن يسايره، فيما خلا قلة بائسة معيبة. كان العقل مكبوتًا، بل كان ضامرًا، بفعل سيطرة المسيحية التقليدية أمدًا طويلًا. أما الآن في القرن الثامن عشر فإن العقل يستطيع مرة أخرى أن يسترد سلطانه، وأن يؤدي لكل الناس ما أداه لرجال من أمثال نيوتن ولوك. واستطاع العمل أن يبين للناس كيف يسيطرون على بيئتهم وعلى أنفسهم.
لأن العقل استطاع أن يبين للناس كيف فعلت الطبيعة فعلها، أو كيف تفعل الطبيعة فعلها إذا كفَّ الناس عن الوقوف في سبيل هذا الفعل بنظمهم وعاداتهم غير الطبيعية. إن العقل يستطيع أن يبصرهم بالقوانين الطبيعية التي كانوا يخرجون عليها في جهالتهم؛ فكانوا مثلًا يحاولون بالتعريفة الجمركية وقوانين الملاحة، وجميع ضروب اللوائح الاقتصادية، أن «يحموا» تجارة بلادهم، وأن يكفلوا لبلدهم نصيبًا أوفر من الثراء. ولما سلطوا العقل على هذه الأمور استطاعوا أن يدركوا أنه لو أمكن لكل امرئ أن يسير وفقًا لمصلحته الاقتصادية الخاصة (أي عمل عملًا طبيعيًّا)، فاشترى بأرخص الأثمان وباع بأعلى الأثمان لتوافر بتطبيق العرض والطلب تطبيقًا حرًّا (طبيعيًّا) الحد الأقصى من إنتاج الثروة. ولأدرك أن الحواجز الجمركية، بل وكل محاولة لتنظيم النشاط الاقتصادي بالعمل السياسي، إنما تؤدي إلى إنتاج «أقل» ولا ينفع إلا قلة صغيرة تحصل بذلك على احتكار «غير طبيعي».
وكذلك حاول الناس عدة أجيال أن يطردوا أو يخرجوا الشياطين التي كانوا يعتقدون أنها تسكن في المجانين بطريقةٍ ما. فكانوا يلهبون المجنون المسكين بالسياط، ويربطونه، ويقومون بكل ضروب الطقوس لكي يطردوا الشياطين، ولكن العقل الذي يتسلط على مشكلات الدين يستطيع أن يبيِّن للناس أنه ليس هناك شياطين. والعقل الذي يعمل على مستوى البحوث الطبية والسيكولوجية يستطيع أن يثبت أن الجنون اضطراب طبيعي في العقل (وربما في البدن) يُؤسف له، هو باختصار «مرض» يمكن أن يُعالج أو يُخفَّف على الأقل بمزيد من استخدام العقل.
وأخيرًا، كان الرجال والنساء لعدة قرون يلتحقون بنُظم الأديرة، ويُقسِمون على الطهارة، والطاعة، والفقر ويحيون حياتهم رهبانًا أو راهبات. والعقل يبيِّن أن الرهبان وإن كانوا ربما طهَّروا الحقول وجفَّفوا المستنقعات في نشأتهم، وإن كانوا ربما لا يزالون يؤدون أعمالًا نافعة بين الحين والحين، إلا أن الرهبانية على وجه العموم تعني إسرافًا عظيمًا في قدرة الإنسان الإنتاجية. وأوضح من ذلك أن العقل يبيِّن أنه من غير الطبيعي للكائنات البشرية صحيحة البدن أن تمتنع بتاتًا عن الاتصال الجنسي، وأن التبرير الديني لمثل هذا السلوك غير الطبيعي كان هراء كهراء فكرة الشياطين التي تستولي على المجنون. ولما قضى العقل على الرهبانية بدا هذا النظام مثالًا نموذجيًّا للعقائد الفاسدة، والعادات السيئة، وطرق الأداء السيئة. ولا بد أن تختفي الرهبانية في المجتمع الجديد.
تضافر كل ذلك عند الرجل المستنير لبناء نظام يفسِّر العالم. وقد ذكرنا عن هذا النظام من قبل اصطلاحًا نافعًا، هو «العالم الآلي النيوتوني». وقد شرع المستنيرون — وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقات البشرية — في فهْم هذه الآلة الجديدة. وبفضل نيوتن وأسلافه فهموا النظام الشمسي، والجاذبية، والكتلة، بل وكل العلوم الطبيعية في خطوطها العريضة. ولم يكن البحث مطلوبًا إلا لمجرد إمداد التفصيلات. أما فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية فإنهم لم يبلغوا فيها بعدُ مستَوى نيوتن، بالرغم من أنهم عرفوا ما يكفي أن يدلهم على أن أسلافهم غير المستنيرين — تحت تأثير المسيحية التقليدية — كانوا مخطئين كل الخطأ في إدراكهم للعلاقات الإنسانية، بل وقد وضعوا مجموعة من القوانين والنُّظم ناقصة على أحسن الفروض، مرذولة على أسوئها. إن مستوى نيوتن في العلوم الاجتماعية كان لا يزال مختفيًا، ولم يظهر بعدُ الرجلُ الذي يلخِّص معرفة المستنير في علم اجتماعي منظم ليس على الناس إلا أن يطبقوه لكي يكفلوا لأنفسهم العصر الذهبي الحقيقي، والفردوس الواقعي — الفردوس الذي يقع أمامنا لا وراءنا.
إن المسيحية التقليدية لم تَعُد قادرة على أن تَمُدَّ المستنيرين بنظرية كونية، فقد بدأ الناس يعرفون ما يكفي من الجيولوجيا لكي يبين أن تاريخ الخليقة — الذي حدَّده الأسقف أشر بعام ٤٠٠٤ق.م — وتاريخ قصة الطوفان بعيد الاحتمال. ولكن لم تكن هناك حاجة إلى أن ينتظر الناس نمو المعرفة الجيولوجية. خذ مبدأ التثليث في المسيحية مثالًا. إن الرياضة كانت ضد هذا المبدأ؛ فإن أي نظام رياضي محترم لا يسمح بأن يكون الثلاثة ثلاثة وواحدًا في آنٍ واحد. أما عن المعجزات، فلماذا توقفت؟ إذا أمكن إحياء الميت في القرن الأول فلماذا لا يُحيى في القرن الثامن عشر؟ وهكذا في الجدول الذي نألفه اليوم، والذي كان جديدًا وجريئًا في ذلك الحين.
ولكن أولئك الذين لم يهتز إيمانهم بالمسيحية التقليدية لم يتخلوا — على أية حال — مرة واحدة عن فكرة الله. وأكثر المستنيرين في النصف الأول من القرن، ومن بينهم شخصيات عظيمة كفولتير وبوب، كانوا — على الأقل أمام الجمهور — يؤمنون بوجود الله مع عدم الوحي، وأصبح هذا المذهب عقيدة محسوسة عن العالم ومحددة إلى درجة كبيرة. وإذا استثنينا بعض المجادلات في ذلك الحين وبعده، فإن هذا المذهب لا يرادف الإلحاد أو التشكك (أو اللاأدرية). وينبغي أن نفرِّق بين هذا المذهب والعقيدة في وجود الله مع الإيحاء به إيحاء من وراء الطبيعة؛ إذ إن هذا المذهب الأخير يعني وجود إله أكثر تشخيصًا، إله لا يتحتم أن تكون له صفات الإنسان، ولكنه كامن على الأقل بمعنًى من المعاني، وجدير بأن نصلي له وندعوه. هذا المذهب مستمَد من مذهب وجود الله في كل مكان وتغلغله في كل ذرة من ذرات العالم، ومن المثالية الفلسفية التي تتحدث عن الروح أكثر مما تتحدث عن الله. والواقع أن المعتقدين بوجود الله مع نفي الوحي على يقين ثابت بوجوده، مهما يكن هذا الإله بعيدًا باردًا. هذا المذهب هو أقرب انعكاس ممكن واضح لعالم نيوتن الذي يخضع للنظام، ويدور وفقًا للقانون، والإله في هذا المذهب هو الشخص المسئول عن التدبير، والبناء، وتحريك هذا العالم الآلي؛ إذ كيف تكون هناك آلة بغير صانع لها، ونتيجة بغير سبب؟ وفي الاصطلاح الفني نستطيع أن نقول إن أصحاب هذا المبدأ أثبتوا وجود الله بحجتين قديمتين، الحجة المستمَدة من «السبب الأول»، والحجة المستمدة من ضرورة «التدبير» قبل التنفيذ. ولكن بعدما يدير هذا الإله الذي لا بد منه العالم الآلي، يكفُّ عن أن يصنع به أي شيء. هذا الإله الذي يشبه صانع الساعة صنع هذا العالم الذي يشبه الساعة، وأدارها إلى الأبد، وأراد لها أن تدور إلى الأبد، طبقًا للقوانين التي أوضحها المستر نيوتن من قبل. إن الناس في هذا العالم متروكون وشأنهم لقد خلقهم الله جزءًا من آلته، ودبَّر لهم أن يحيوا حياتهم مع إمدادهم بالموهبة الخاصة التي تدلهم على أن يعرفوا كيف يسيرون في الحياة باستخدام عقولهم، ومن الواضح أنه ليست هناك فائدة من الصلاة لهذا الإله الذي يشبه صانع الساعة، والذي لا يستطيع — حتى إن أراد — أن يتدخل فيما صنعت يداه. ومن الواضح أن هذا الإله لم يظهر لموسى في صحراء سيناء، ولم يرسل ابنه الأوحد إلى الأرض ليخلص الناس المذنبين — بل لا يمكن أن يكون له ابن.
والواقع أنه بدا كإله لا ضرورة البتة له، نوع من الإله الذي لا يفعل شيئًّا. ومجرد أن الناس ارتضَوا لأنفسهم إلهًا لا يُشبِع العواطف إطلاقًا مثال شائق للطريقة التي لا بد أن تتم بها التطورات العقلية تدريجًا؛ لأن الوثبة من إله مسيحي إلى عدم وجود الإله كانت مستحيلة. ولكن مذهب إثبات وجود الله مع إنكار الوحي كان نوعًا من أنواع التوفيق الذي لا يُرضى، لا يكفي لإقناع العقل أو إشباع العاطفة. وتنم حكمة فولتير الشهيرة عن الله وهي: «إذا كان الله غير موجود فلا بد من اختراعه» عن ضعف قاتل. ولكن المجددين الثائرين من الجيل التالي لم يروا ضرورة لاختراعه؛ فقد كانوا بالفعل يألفون عن طريق الرياضة فكرة اللانهائي. ومن الممكن أن يكون العالم الآلي أزليًّا أبديًّا، على الأقل بمقدارِ ما يمكن للناس كبشر أن يعرفوا. وكيف يمكن لأي امرئ أن يعرف أن هناك إلهًا بعيدًا عنه كما يتصور أصحاب مذهب إثبات وجود الله مع إنكار الوحي؟ إذا كان الله يخرج كلية عن العالم المخلوق فكيف يكون في الداخل أو حتى في داخل عقولنا كفكرة من الأفكار؟ من الواضح أنه لم يكن إلهًا ليس منه بد؛ فالطبيعة تكفي — وهذا العالم الكبير لا يمكن أن يتوافر لنا الوقت الكافي لدراسته في أبديته، وإذن فلنكفَّ عن شغل عقولنا بالله، ولنجعل ديانتنا ديانة عقل، نظامًا من الأخلاق يخلو من كل هراء علوم الدين.
هذه على الأقل كانت نظرة العصاة المعتدلين، الماديين الذين رأوا أن الله لا ضرورة له. وجاوزهم آخرون، ورأَوا أن الله شر إيجابي، وبخاصة إن كان إله الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وأطلقوا على أنفسهم في تبجُّح اسم الملحدين، أو قومًا لا إله لهم، ولم تكن عقيدتهم عقيدة شك؛ فقد عرفوا إن إله المسيحيين لا وجود له، وعرفوا أن العالم عبارة عن نظام من المادة في حركتها، يمكن أن يُفْهم فهمًا كاملًا باستخدام العقل البشري على أسس القواعد التي وضعتها العلوم الطبيعية. وكانت ماديتهم — كما كان إلحادهم — عقيدة إيجابية، ولم تكن صورة من صور التشكك. كانت شكلًا معينًا من أشكال الإيمان، ونوعًا من أنواع الدين. وهذه العقيدة الإيجابية في عالمٍ تُمكن معرفته، عالم يتكون في النهاية من ذرات من المادة، بقيت منذ ذلك الحين عنصرًا من عناصر الثقافة الغربية. ومع ذلك فإن أحدًا لا يعرف بتاتًا على وجه الدقة كم من الناس من قبل ولا يزال يقبل نوعًا من أنواع هذه العقيدة.
إن أصحاب مذهب الاعتقاد بوجود الله مع إنكار الوحي، والملحدين، على السواء نبذوا المسيحية المنظمة كما كانت في زمانهم. كان القرن الثامن عشر هو القرن العظيم الذي عارض الأكليروس، القرن الذي أمكن فيه أن يعبِّر المرء صراحة عن كل ضروب العداوات والإحن ضد المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية، وذلك بفضل «روح العصر» في عهد التنوير، وبفضل الطباعة الرخيصة، وللتهاون في الرقابة، ولعدم كفاية الشرطة، وبفضل الموافقة بارتياح التي قابلت بها الطبقات الحاكمة القديمة هذه الهجمات على الديانة القائمة. وما كان مشروعًا في ذينك القطرين المتحررين تحررًا مذهلًا، إنجلترا وهولندا، كان يتسرب في يسرٍ إلى فرنسا وولايات ألمانيا. ولأول مرة منذ الإمبراطورية الرومانية أحست المسيحية أنها تتعرض للهجوم الشديد في داخل ثقافتها ذاتها. ولما جاءت الثورة الفرنسية بلغ هذا الهجوم مرارة شديدة، وبخاصة في بلدان القارة الأوروبية. وعانى المسيحيون مرة أخرى الاستشهاد في سبيل العقيدة، وكانوا هذه المرة يستشهدون على المقصلة.
وكان على كل المؤمنين بالدين الجديد، دين العقل — سواء أكانوا من المؤمنين بالله دون الوحي أم من الماديين — أن يتصارعوا مع مشكلة الشر، حتى وإن نبذوا الإله المسيحي. وكانت بالنسبة إليهم مشكلة معقدة. إنهم افترضوا وجود عالم آلي، الإنسان جزء منه بالتأكيد، وهذا العالم يسير وفقًا لقوانين الطبيعة، وكذلك افترضوا وجود قدرة عند الإنسان، أطلقوا عليها اسم العقل، يستطيع الناس بممارسته أن يفهموا هذه القوانين الطبيعية، وهي قوانين منظمة مضبوطة. ويستطيع الناس بالانصياع في سلوكهم لهذه القوانين الطبيعية أن يعيشوا معًا في سلام وسعادة. ولكنهم حيثما صالوا في عالم القرن الثامن عشر وجدوا نضالًا وبؤسًا في كل مكان، ورأَوا كل صنوف الشر، فهل هذه الشرور مما يتفق وقوانين الطبيعة، الطبيعة الرحيمة؟ كلا، بالتأكيد؛ فهي غير طبيعية على الإطلاق، فكان المستنيرون مشتغلين بطبيعة الحال باقتلاعها. ولكن كيف تسنَّى لهذه الشرور أن تظهر؟ كيف تسنَّى لغير الطبيعي أن يمسي طبيعيًّا؟ وكيف أصبح الأعلى أدنى؟
لقد التقينا بهذه المشكلة من قبلُ عند دراستنا للمسيحية. بيد أن المسيحية كان لها على الأقل شيطانها، بالرغم من صعوبة التوفيق بين وجود الشيطان والخير عند الله. وأما أولئك الذين قبلوا النظرية الكونية، نظرية العالم الآلي النيوتوني فقد كانت أمامهم مشكلات أشد تعقيدًا عندما أعلنوا — أو على الأقل برروا — رغبتهم الواضحة في تعديل أو تحسين شيء هو بالفعل كامل أوتوماتيكي مقرر. والواقع أنه ليس من السهل في أي مذهب طبيعي يقول بوحدانية الكون أن يحدث تحول إلى غير الطبيعي. ولم يكن روسو نفسه معجبًا بالعالم الآلي النيوتوني وبالعقل، فإن الطبيعة التي كشفها في صميم جميع الأشياء كانت هي الشفقة المشوبة بالمحبة، الشفقة التلقائية الصادرة من القلب، الشفقة كما يُظهِرها الأشخاص البسطاء غير الفاسدين، كالأطفال، والهمجيين، والفلاحين. وقد وجد هذه الحالة الطبيعية — فوق كل شيء — في الماضي، قبل أن تأتي المدنية بالفساد. وفي كتابه «بحث في أصل التفرقة» يحاول روسو أن يصف أصل الشر. إن أول رجل جرؤ على أن يقتطع من الملكية العامة رقعة من الأرض، ويقيم حولها سورًا، ويقول: «هذه لي.» — ذلك هو الوغد المسئول عن نهاية حالة الطبيعة. ولا يفسِّر روسو «لماذا» تصرَّف ابن الطبيعة هذا بهذه الطريقة غير الطبيعية.
وإذا كان المستنيرون قد عجزوا عن حل مشكلة أصل الشر، فقد كانت عندهم أفكار ثابتة جدًّا عن الخير والشر في عصرهم. وعَدُّوا الشرَّ نموًّا تاريخيًّا يتجسد في العادات والقوانين، والنُّظم — أي في البيئة، وبخاصة في البيئة الطبيعية؛ أي فيما صنع الإنسان بالإنسان. وأدركوا أن البيئة الطبيعية — وبخاصة بعد كتاب منتسكيو «روح القوانين» — كثيرًا ما تكون قاسية مجدبة، أو ميسَّرة وافرة. وعرفوا أن بعض الأمراض لم تكن كلها فيما يظهر نتيجة البيئة الاجتماعية. ولكنهم تعشموا أن يتمكنوا من السيطرة على البيئة الطبيعية. والواقع أنهم تعشموا أن يسيطروا على البيئة الاجتماعية. وظنوا أن البيئة الاجتماعية لعهدهم كانت كلها تقريبًا سيئة، سيئة إلى حدِّ أنه ربما كان لا بد من القضاء عليها، في جذورها وفروعها. ولم يعتقدوا في الأغلب أن هذا القضاء سيكون عنيفًا. فتنبئوا ﺑ «ثورة فرنسية»، ولكنهم لم يتنبئوا ﺑ «عصر إرهاب».
وعادلوا الشر بالبيئة، والخير بشيء كامن في الكائنات البشرية، وفي الطبيعة البشرية؛ فالإنسان يُولد طيبًا، فيجعله المجتمع سيئًا. والسبيل إلى إعادته إلى الخير هو حماية هذا الخير الطبيعي من الفساد الذي يجلبه المجتمع. أو بطريقة محسوسة نقول إن السبيل إلى إصلاح الأفراد هو إصلاح المجتمع. والعقل يرشدنا إلى الطريقة. ولا بد من أن يخضع كل قانون، وكل عادة، وكل نظام لامتحان معقوليته. هل النُّبل الموروث معقولًا؟ إن لم يكن كذلك فلا بد من إلغائه، وإن كان كذلك فلا بد من الإبقاء عليه. إن النُّبل الوراثي عندما يتعرض لحكم العقل كما يتصرف العقل في رءوس أكثر المستنيرين على الأقل في الثمانينيات من القرن الثامن عشر، يتبين أنه غير معقول؛ فكان من الأعمال الأولى التي أدَّتها «الجمعية الوطنية الفرنسية» التي دُعيت لإعادة بناء فرنسا إلغاءُ ألقاب النبلاء.
وهنا نلتقي بشكلٍ من الأشكال الكبرى التي تعرض فيها المشكلات الخلقية والسياسية نفسها للمحدثين، وهو الشكل الذي نعرفه جميعًا ﺑ «البيئة ضد الوراثة»، وقد يعلن امرؤ حينًا بعد حين في ثبات أنه يرى أن الحرب وما يترتب عليها من آلام وقسوة «شيء طيب»، ويشكو غيره من أن أسباب راحتنا المادية «شيء سيئ»، غير أن أهل المجتمع الغربي يتفقون في الأغلب على الخطوط العريضة لما يرونه خيرًا ولما يرونه شرًّا، وإنما يختلفون في تفسيرهم لإلحاح الشر. وتؤكد حركة التنوير، كما نؤكد نحن، باعتبارنا ورثة لها، قوة تأثير البيئة. ونميل إلى الاعتقاد — أقصد أننا نحن الأمريكيين نميل إلى الاعتقاد — أننا لو استطعنا أن نضع «التنظيمات» الصحيحة، والقوانين، والنُّظم، والتربية الصحيحة، لعاشت الكائنات البشرية بعضها مع بعض على صورة قريبة جدًّا من الحياة الطيبة. أما التقليد المسيحي فيميل إلى أن يعزو التفسير إلى الطبيعة البشرية؛ فالناس يُولدون وفي باطنهم شيء يجعلهم يجنحون إلى الشر، فهم يُولدون في الخطيئة. ومن الحق أن المسيحية ترى المخرج في إمكان الخلاص الذي جاء لنا به المسيح، ولكن هذا ليس معناه الاعتقاد في أثر البيئة، وليس معناه الإيمان بإمكان وضع القوانين ورسم خطط التربية ومناهجها.
ومن المهم هنا أن ندرك أن الاعتقاد الحديث في أثر البيئة — حتى في صورته المستبشرة الأولى — لم يذهب إلى التطرف غير المعقول. ولا يقول بأن الطفل الذي نختاره اختيارًا عشوائيًّا من بين عدد من المواليد الجدد يمكن بتناولنا لبيئته أن يتشكل في أية صورة — فيكون ملاكمًا من الوزن الثقيل، أو موسيقيًّا عظيمًا، أو عالِمًا من كبار علماء الطبيعة، لا يقول بذلك إلا رجل مجنون. نعم إن علم النفس في القرن الثامن عشر قد التقط الحبل من لوك واعتقد أن العقل البشري وعاء فارغ تصب فيه التجارب مضمون الحياة، ولكن حتى علم النفس الذي كان يرى أن العقل يُولَد صفحة بيضاء لم يفسِّر المساواة البشرية بالتماثل التام بين البشر. وإليكم عبارة لأحد الأبناء الصغار لمذهب تأثير البيئة الذي تميز به القرن الثامن عشر، وهو روبرت أوين:
«إن أية صفة عامة — من أفضل الصفات إلى أسوئها، ومن أكثرها استنارة إلى أشدها جهالة — يمكن أن تُوهَب لأي مجتمع، بل للعالم بأسْره، بتطبيق الوسائل الصحيحة، وهي وسائل يتحكم فيها ويسيطر عليها — إلى حدٍّ كبير — أصحاب النفوذ في شئون الناس.»
والكلمة الرئيسية هنا هي لفظة «عامة»؛ فإن أوين لا يعتقد أنه يستطيع أن يبلغ نتائج معينة نوعية لكل فرد، وإنما هو يعتقد أنه يستطيع ذلك في مجموعات كبيرة، وهل هذا يبعد كثيرًا عن الآراء التي تكمن وراء كل الجهود التي تُبذل للتأثير في الناس وتكييفهم في الوقت الحاضر؟
والواقع أن الاعتقاد في أثر البيئة لا يزال ضروريًّا لكلِّ مَن يتعشم أن يأتي في سرعة معقولة «وعلى نطاق واسع» بتغيرات في السلوك الفعلي للكائنات البشرية على سطح الأرض. وقلَّ من الناس اليوم مَن يرى أن مثل هذه التغيرات يمكن أن يتم عن طريق تدخل قوى فوق الطبيعة، أو بالدين بمعناه التقليدي، ولا يمكن أن يؤمن بأن النتائج السريعة ممكنة بأي إجراء سلالي في الكائن البشري إلا رجل متهوس. إننا لا نستطيع أن «نُولد» نساءً ورجالًا أفضل بسرعة عاجلة؛ إذ لا بد لنا أن «نصنع» النساء والرجال الأفضل من المواد الموجودة. وأُورِد هنا نصًّا آخر لأوين ينم عن تفاؤل حركة التنوير التي لم تظلمها عنده أهوال الثورة الفرنسية والحروب العالمية النابليونية:
«وهذه الخطط يجب أن تُوضع لتدريب الأطفال منذ نعومة أظفارهم على العادات الطيبة من كل نوع (مما يحول بطبيعة الحال دون أن يكتسبوا عادات المغالطة والخداع)، ويجب أن يربَّوا بعد ذلك تربية عقلية، وأن توجه أعمالهم وجهة نافعة. إن مثل هذه العادات وهذه التربية تطبعهم بطابع الرغبة الملحة الفعالة في مزيد من السعادة لكل فرد، وأن يتم ذلك دون أي «ظل من ظلال الاستثناء» لطائفة من الطوائف، أو لحزب من الأحزاب، أو بلد من البلدان، أو جو من الأجواء. وهذه العادات وهذه التربية تكفل أيضًا — مع أقل استثناء ممكن — الصحة، والقوة، ونشاط الجسم؛ لأن سعادة الإنسان لا تقوم إلا على أسس صحة البدن وهدوء العقل.»
برنامج حركة التنوير
إن رجال حركة التنوير لم يكونوا على اتفاقٍ في الرأي كما قد يبدو لنا حتى الآن مما تقدم من تحليل. والواقع أن انقسامًا عظيمًا في صفوفهم، انقسامًا لم تلتئم ثغرته بعد، قد ظهر بوضوح في هذه الآونة؛ فإن كل المستنيرين لم يُجمِعوا على أن العقل ضد النبل الموروث، ومن المؤكد أنهم لم يجمعوا على الرغبة في الاستغناء عن التمييز الطبقي. وتبين من الوجهة العملية أن للعقل وسائل تختلف باختلاف الأفراد.
ويمكن أن تتبين التفرقة الكبرى في صفوف المستنيرين فيما كان بين أولئك الذين كانوا يعتقدون أن القلة النسبية من أصحاب الحكمة والموهبة — أصحاب النفوذ — يمكنها أن تعالج البيئة بحيث يصبح كل امرئ — معالِجًا أو معالَجًا — فردًا سعيدًا، وأولئك الذين كانوا يعتقدون أن كل المطلوب هو تحطيم البيئة القائمة، ومحوها محوًا تامًّا، وعندئذٍ يتعاون كل امرئ تعاونًا تلقائيًّا في خلق البيئة الكاملة. وكانت الفئة الأولى — مهما تشدَّقت بمُثُل الديمقراطية والحرية للناس أجمعين — في الواقع من أصحاب السلطان. وكانوا في المجال الخاص بالفكر والنُّظم السائدة في القرن الثامن عشر يميلون إلى أن يعقدوا آمالهم على الحكام العقلاء والموظفين المدنيين المدربين، أو على ما يسميه المؤرخون الحركة نحو «الاستبداد المستنير». أما الفئة الثانية فقد كانت تميل إلى الاعتقاد بأن الرجل العادي، الرجل من عامة الناس، الرجل في الحقل والشارع، شخص معقول سليم، كأكثر أفراد البشر. وقد أرادوا لأمثال هؤلاء أن يكونوا أحرارًا في اتباع حكمتهم الفطرية. وكانوا يميلون إلى الإيمان بالطرق الديمقراطية، وبالتصويت بالرأس، وبحكم الأغلبية. وكان المتطرفون منهم فوضويين متفلسفين يعتقدون أن كل حكومة سيئة، وأن لا بد للناس من إلغاء كل أنواع الحكومات.
ولدينا مثال واضح جدًّا لحقيقة هذين الموقفين المتعارضين، نلمسه في حياة جرمي بنتام، وهو من أقوى فلاسفة حركة التنوير أثرًا. وقد فرغ بنتام في شبابه من وضع صيغة مذهبه النفعي واضحًا، ومعقولًا عند الكثيرين: قال إن كل شيء ينبغي أن يعمل للحصول على أكبر قدْر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولما كان قد أرفق هذه الصيغة بطريقة — رضي عنها كما رضي عنها زملاؤه — ﻟ «قياس» السعادة قياسًا فعليًّا، فقد كان عنده ما كان بحاجة إليه ليقدم بيئة صالحة تَحُلُّ محل البيئة الطالحة العتيقة. كانت لديه مشروعات الأعمال مدهشة في ميدان الهندسة الاجتماعية.
وكانت الفكرة الأولى عند بنتام أن يقوم بهذا العمل الذي اقترحه الطبقات الحاكمة في بريطانيا، وكبار اللوردات والتجار الذين عرفهم كذلك — وقد كان هو نفسه من أسرة تجار ناجحة، كما كان ضيفًا كثير التردد على اللورد شلبيرن ذلك الرجل المفكر؛ فهؤلاء الرجال يطلعون ويتحدثون وهم أكفاء لما كان يجري في العالم المستنير. غير أن هؤلاء الرجال كانت لهم امتيازات خاصة في ظل النظام القديم — والواقع أنه كان من الواضح أن البيئة القديمة السيئة كانت تبدو لهم بيئة صالحة من الوجهة الشخصية — ووجد بنتام نفسه عاجزًا عن حثهم على الأخذ بإصلاحاته المقترحة، ومِن ثَمَّ نراه يشرع في بواكير القرن التاسع عشر في الاتجاه نحو الشعب، ولم يمضِ زمن طويل حتى تحوَّل إلى ديمقراطي شديد الإيمان بالديمقراطية، متمسكًا بحق الانتخاب للجميع، وبإجراء الانتخاب بين الحين والحين لضمان انتقال الحكم دوريًّا بين الأفراد، وببقية أجزاء دولاب الديمقراطية. عندئذٍ آمن بنتام بأن الجماهير ستقوم بالتعديل الذي لم يستطِع أن يحث الطبقة الممتازة على القيام به. والجماهير بطبيعة الحال في حاجة إلى معلمين، وإلى قادة، ويخرج هؤلاء من بين صفوف فئة صغيرة نسبيًّا من أتباع بنتام المتعلمين من غير الأرستقراطيين، وقد أطلق عليهم اسم «الانقلابيين الفلسفيين». غير أن هؤلاء ليسوا إلا بمثابة رأس الحربة للديمقراطية، وليسوا فئة ممتازة من الحكماء تحتكر أعمال الحكومة.
وقد ذكرت منذ لحظة ذلك الانقسام الذي حدث في صفوف المستنيرين. غير أن العقل البشري — لسوء الحظ — لكي يفهم أمثال هذه الأمور، قلما يواجه مثل هذا الاختيار البسيط بين صفين اثنين. والواقع أن العقل البشري يستطيع أن يقفز في خفةٍ من صف إلى صف حتى يصبح مسيره أشبه بالمتاهة. والتمييز الذي قدَّمناه بين المؤمنين بأثر البيئة الذين يركنون إلى معالجة البيئة بواسطة القلة (فلاسفة، أو مهندسين، أو مخططين، فنيين، أو أصحاب عقول ثاقبة)، وأولئك الذين يتوقعون من الجماهير أن تقدِّم البيئة المعدلة الضرورية بالطريقة الديمقراطية، طريقة تصويت الأغلبية — هذا التمييز يستحق البيان، وهو تمييز يعطينا صورة تقريبية أولية، وبخاصة بالنسبة إلى القرن الثامن عشر. ولكنا نحتاج هنا في الواقع إلى تبويب ثنائي بسيط آخر على الأقل، لا ينطبق تمام الانطباق على التمييز السابق. وذلك هو التمييز بين أولئك الذين يعتقدون أن البيئة الجديدة توقع على عامة الناس نوعًا من الإرغام — وهو إرغام سوف يستسيغونه، ولكنه برغم ذلك شيء خارجي إلى حدٍّ ما يربط بعضهم ببعض في جماعة منظمة — وأولئك الذين يعتقدون أن البيئة الجديدة قد لا تتطلب في الواقع نظمًا أو قوانين، وأن الناس في ظل النظام الجديد سوف يعيشون تلقائيًّا وفقًا ﻟ «القاعدة الذهبية»، والنظرة الأولى تحكمية، والثانية تحررية، أو فوضوية.
إن المؤمنين بالاستبداد المستنير يقفون في أكثر الأمور الموقف التحكمي والسلطة «القديمة»، سلطة الكنيسة، بالنسبة إليهم سلطة سيئة، ولكن مبدأ السلطة سليم والسلطة في أيدي رجالٍ مدربين على استخدام العقل المستنير سلطة في موضعها — بل هي في الواقع سلطة لا بد منها. ولكن كثيرًا من هؤلاء المؤمنين بالسلطة — برغم ذلك — كانوا يعتقدون في الشئون الاقتصادية أن رجال الأعمال ينبغي أن يكونوا أحرارًا تمامًا في معالجة شئون أعمالهم، أحرارًا من قيود الحكومة أو سلطة النقابة. والواقع أن ما كانوا يدفعون عنه حتى في الاقتصاد لم يكن الحرية لجميع الأفراد، وإنما مجرد الحرية لصاحب المشروع الاقتصادي، أو رجل التصنيع. وأما في داخل المملكة الصغيرة — وأعني بها المصنع أو العمل التجاري — فلا بد من وجود ذلك التنظيم، وتلك الكفاية، والقدرة على التفكير، التي تتفق مع الجانب التحكمي في حركة التنوير. وقد كان روبرت أوين نفسه — الذي أوضح في جلاء نظرية تأثير البيئة — مساهمًا في ملكية مصنع للنسيج في نيو لانارك باسكتلندا يدر ربحًا كبيرًا، وكان وحده يقوم على إدارته. وكان هذا المصنع في تلك الأيام مصنعًا نموذجيًّا، تحوطه بيوت للشركة نظيفة حقًّا، تتوافر فيها شروط العمل الممتازة، وتقوم فيها المدارس التقدُّمية التجريبية التي كان يؤثرها روبرت أوين، ميسرة لأبناء العمال. غير أن مصنع نيو لانارك لم تتوافر فيه «الديمقراطية الصناعية». وكانت كلمة أوين هي القانون. أوين هو الذي يعالج البيئة. وكان أوين أبًا في نظام أبوي إلى أبعد الحدود.
ويمدنا بنتام بمثال أوضح للبيئة المدبرة تدبيرًا معنيًّا به، تدبيرًا من أعلى، من السلطة الحكيمة الأبوية. والمبادئ الأساسية التي نادى بها بنتام هي أن الناس يبحثون عن اللذة ويتجنبون الألم (وأرجو أن تلاحظوا هنا التشابه الظاهر لفكرة الجاذبية في الطبيعة). وما دامت هذه حقيقة واقعة فلا بد من قبولها باعتبارها خيرًا خلقيًّا. ومِن ثَمَّ فإن سر الحكم هو في وضع نظام للثواب والعقاب بحيث يؤدي العمل الذي يتفق مع القواعد الأخلاقية والاجتماعية دائمًا بالفرد إلى اللذة أكثر مما يؤدي إلى الألم، ويؤدي به العمل الذي لا يتفق مع القواعد الأخلاقية والاجتماعية به إلى الألم أكثر مما يؤدي إلى اللذة. واستطرد بنتام في تفصيل ذلك، وأعد قائمة حساب للملذات والآلام، وأخذ يبوب ويزيد ويقيس الأنواع المختلفة من الملذات والآلام. وما فعله بطبيعة الحال كان تقديرًا للقيم التي يحترمها الرجل المهذب الإنجليزي، الرقيق، المتفلسف، صاحب العقل الجاد، وتبين أن أكثر القواعد الخلقية التي نادى بها مسيحية، كما كانت القواعد الخلقية التي نادى بها أكثر الغربيين الثائرين على المسيحية. غير أن بنتام لا يثق بنظم المجتمع العادية مقياسًا صحيحًا للذة والألم. إن المجتمع يثيب بشكلٍ ما الأعمال التي لا تأتي بأكبر قدْر من الخير لأكثر عدد من الناس، ويعاقب على الأعمال التي تفعل ذلك إذا أُتيحت لها الفرصة. غير أن مجرد الحرية لا يتيح هذه الفرصة. ولا بد لرجالٍ من أمثال بنتام أن يتوفروا على وضع خطط جديدة، ومجتمع جديد. ومِن ثَمَّ فإن العقل يرشدنا إلى أن الجريمة — كالسرقة مثلًا — لا بد من أن تلقى جزاءها، لأنها تأتي لمن يقع فيها بألم أشد، وكذلك تأتي في صورة الخوف والقلق بألم أشد لكلِّ مَن يعلم بالسرقة (فهم يخشون أن تحدث لهم) أكثر مما تعود بالنفع على السارق. ولكن العقل يهدينا إلى أن الأفكار التي تتعلق بالإثم، واللعنة، والندم، وما إلى ذلك مما يتصل بالسرقة هراء في هراء. إننا هنا نعالج موضوعًا بسيطًا من موضوعات الحساب. لا بد أن يُلقى القبض على السارق وأن يُوقع عليه الجزاء بحيث يزيد وزن العقوبة في ذهن السارق على اللذة (أو الكسب) الذي عادت إليه به الجريمة، فإذا كانت اللذة أعظم من العقوبة الخفيفة، كان ذلك إغراء للسارق بأن يعود إلى الجريمة. وإذا كان الألم أشد — أي إذا كانت العقوبة قاسية جدًّا، كما كانت الحال في قانون الجنايات الإنجليزي في ذلك الحين — شعر السارق بأنه شهيد، أو أنه يُسحق سحقًا، أو أنه من العصاة، ومن المؤكد أنه لا يصلح بهذه الطريقة. والهدف كله من القانون هو منع تكرار الجريمة بإصلاح المجرم، ومِن ثَمَّ كان لا بد أن تتناسب العقوبة مع الجريمة.
إن التفصيلات السيكولوجية التي قدمها بنتام تبدو لنا اليوم ساذجة، كما تبدو الخطط الدقيقة التي وضعها غير عملية. ولكنا نعرف حق المعرفة روح الإصلاح، وكثير مما حاول بنتام وأتباعه أن ينجزوه في إصلاح النُّظم قد وُضع في الواقع في نصوص قانونية جامدة. فلا تجد اليوم مَن يُشنق لسرقة كبش، ونحن لا نأمل في النتائج الكاسحة التي أمل فيها بنتام، ولكنا ما برحنا نستخدم كثيرًا من طرائفه، وما برحنا — برغم ديمقراطيتنا الطيبة — نعقد كثيرًا من آمالنا على تعديل النُّظم التي تُوضع خطتها من أعلى. وأثرُ بنتام واضح في القوانين الجديدة.
ويظهر الانشقاق عند الذين يأخذون جانب التحرر في صورةٍ أوضح مما يظهر عند الذين يأخذون جانب التسلط، وإنا لنلمس خلال هذا القرن تيارًا من الفكر ربما يبلغ قيمته في «العدالة السياسية» الذي نشره في عام ١٧٩٣م وليام جدوين، ذلك الكاتب الثائر. والكتاب أشبه ما يكون بدعوة علمانية إلى عدم التقيد بقواعد الأخلاق الدينية، وقد كان جدوين يعتقد أن الناس لا يرتكبون الخطأ إلا لأنهم يحاولون أن يطيعوا، وأن يرغموا غيرهم على أن يطيعوا، قوانين ثابتة. أما إذا عمل كل امرئ بحريةٍ ما أراد فعلًا أن يفعله في كل لحظة من اللحظات، وإذا تحرَّر الناس جميعًا تحريرًا كاملًا من الأهواء والتعصب والجهل، فهم عندئذٍ يتصرفون تصرفًا عاقلًا؛ فإن الرجل العاقل لا يحب أن يؤذي غيره، أو أن يجمع من السلع أكثر مما يستطيع أن ينتفع به، أو أن يَغار من إنسان أدى عملًا لا يستطيع أداءه. واستطرد جدوين في هذا المبدأ، مبدأ الفوضى الفلسفية، حتى لقد عارض في وجود قائد للأوركسترا يوجهها توجيهًا زمنيًّا، باعتبار ذلك صورة من صور الاستبداد بالعازفين استبدادًا لا مبرر له، فإذا ما ترك العازفون وشأنهم فإنهم يضربون نغمة طبيعية، ويؤدون أداء أفضل بغير قائد.
وقد بدت الفوضى دائمًا — حتى باعتبارها مَثلًا من المُثُل — غير معقولة عند أكثر الناس، ولكنا — برغم ذلك — لا يجب ألا نلفظها باعتبارها عديمة الأهمية. نعم إنها تقف إذا تطرفت عند حد الجنون، ولكنها عامل أساسي في كثير من الآراء التي لا تبلغ هذه الدرجة من التطرف، وقد كان لها دورها — كهدف وكنوع من الأمل الذي لا يُرفض كله — لا في ضروب عديدة من الاشتراكية فحسب، وإنما في ديمقراطيتنا ذاتها. وهي كمَثَل من المُثُل تحتفظ بحيويتها بطريقةٍ ما في عالمنا هذا الذي يخضع لقدْر كبير من الحكم.
وهناك — على أية حال — طريق أفضل تمهيدًا سلكه أكثر المنحازين لجانب التحرر، وهو طريق له فروع كثيرة، لبعضها طريقة غير مستقيمة تميل بها بغتة نحو الطرف الآخر المقابل، طرف السلطة، ولا بد لنا من فحص دقيق لوثيقة من الوثائق الشهيرة في تاريخ الفلسفة السياسية البحت، وهي وثيقة «العقد الاجتماعي» التي نشرها روسو في عام ١٧٦٢م. وقد ثار الجدل حول هذه الرسالة الصغيرة أجيالًا، ويجدها بعض القراء أساسًا وثيقة تعزِّز جانب الحرية الفردية، ويجدها آخرون في جانب الجماعية المحكية، وسابقة من السوابق العقلية للحكم الجماعي الشامل في العصر الحديث.
إن روسو في صميمه يتناول مشكلة الطاعة السياسية. وأعماله الأولى، وكل اتجاه ميوله، تهدف إلى ما أسميناه الفوضى. وفي عبارة رنانة افتتاحية يقول: «يُولد الإنسان حرًّا، ولكنه يُكبَّل بالأغلال في كل مكان.» لماذا؟ الجواب عند روسو هو أنه اضطُر إلى استبدال حالة المدنية بحالة الطبيعة (ولا يهمنا «لماذا» تخلَّى عن حالة الطبيعة؛ فقد ذكرنا من قبل أكثر من مرة أنه لا يوجد جواب منطقي مقنع لمشكلة الشر). إن الإنسان لم يُطِع أحدًا في حالة الطبيعة، أو إن شئت فقُل إنه أطاع نزواته الشخصية ورغباته. أما في حالة المدنية فلا بد له من طاعة الأوامر التي يعرف أنها لا تنبعث مباشرة من دخيلة نفسه، فإن كان مثلًا رقيقًا تحتَّم عليه أن يطيع شخصًا مثله، وهي تجربة مهينة لا تَسُرُّ النفس، بل هي تجربة في الواقع غير طبيعية وغير إنسانية. وحتى المجتمعات التي كانت قائمة في القرن الثامن عشر كان عليه أن يطيع قوانين لم يعاون قطُّ في وضعها، ورجالًا لم يعاون قطُّ في اختيارهم حكامًا له. فأين المخرج؟
ربما لاحظتم أن روسو يحاول أن يحلِّل العوامل السيكولوجية للطاعة كما يحاول أن يحث قراءه على التفرقة بين الطاعة الطيبة والطاعة السيئة، في آنٍ واحد. وإذا استخدمنا وسيلة للإيضاح ربما لم يكن بوسعه أن يلجأ إليها، ولكنها وسيلة تلائم عصرنا الحاضر، قلنا إن الناس لا يطيعون في الواقع — حتى في الحياة السياسية المألوفة العادية — إلا إذا أمكنهم أن يشعروا أنهم لا يطيعون إرادة «بشرية» أخرى، كطاعة العبد لسيده، وإنما يطيعون إرادة أعلى من نوعٍ ما يمكن أن تُعَدَّ إرادتهم جزءًا منها. وهذه الإرادة يسميها روسو «الإرادة العامة». وهذه الإرادة العامة بالنسبة للاسميين من جميع الوجوه — وبطبيعة الحال — مجرد خيال. بيد أن كل مَن ارتبط ارتباطًا عاطفيًّا بمجموعة من المجموعات، من الأسرة إلى الكلية إلى الأمة، لا يسعه إلا أن يدرك لمحة مما يتحسس روسو إليه الطريق. إن الإرادة العامة عند روسو يخلقها العقد الاجتماعي. والعقد الاجتماعي عنده يسير على نمط هوبز، من حيث إن كل عضو من أعضاء المجتمع يدخل في التعاقد مع كل فرد آخر، ولكن المجموعة الناتجة عن ذلك لا تحول الحكم إلى مُلْك مطْلق كما أراد هوبز، وإنما تعامل أية سلطات حاكمة باعتبارها عميلات لها، يمكن إعفاؤها من الحكم كلما رأت الإرادة العامة أن هذا الإعفاء هو أفضل الأمور.
ولكن كيف يتسنى لهذه الإرادة العامة أن تعرف بنفسها؟ إن إرادة الفرد يمكن إدراكها بمراقبةِ ما يفعل، ولكن مَن ذا الذي شهد «الولايات المتحدة» أو استمع إليها؟ أي معنًى يكون ﻟ «إرادة الشعب الأمريكي» عند أولئك الذين لا تخدعهم الميتافيزيقيات المثالية، وإنما يريدون أن يشهدوا أو يسمعوا أو يدركوا بأية صورة من الصور؟ ثم إذا كان المرشح في انتخاب وطني يحصل على خمسة وخمسين في المائة من مجموع الأصوات، وإذا كان غيره يحصل على خمسة وأربعين في المائة، ألا تستطيع أن تقول إن المرشح المنتَخب يمثل «إرادة الشعب الأمريكي»؟ أو إذا كان الكونجرس يُنتَخب انتخابًا حرًّا صحيحًا، ألا تمثل أصواته إرادة الشعب؟
لو سُئل روسو هذا السؤال الثاني لأجاب بالنفي القاطع؛ فكان يعتقد في الديمقراطية المباشرة، كما كانت الحال في المدينة الحكومية اليونانية، أو في مقاطعة سويسرية صغيرة، وكان يرى أن قُطرًا كبيرًا مثل فرنسا لا يمكن أن يكون شعبًا واحدًا ذا مصلحة مشتركة وإرادة عامة. وهذا الإنكار لأن القُطر الواسع يمكن أن يكون دولة صحيحة ليس إلا صورة ملتوية لتفكير روسو، ومثالًا شائقًا لنوع من أنواع الإخلاص الذي ساد في عهد النهضة للأشكال الكلاسيكية، شيئًا يُشار إليه دائمًا عند التعليق على روسو، ولكنه ليس بذي أهمية كبرى. أما بالنسبة إلى السؤال الأول، فلو فرضنا أنه يقر بأن أمة من مائة وخمسين مليونًا يمكن أن تكون أمة، فإن روسو كان يقدِّم جوابًا غامضًا. يقول: «نعم» إذا كان المرشح الذي يحصل على خمسة وخمسين في المائة من الأصوات يمثِّل «حقًّا» الإرادة العامة للولايات المتحدة، ويقول: «لا» إذا كان لا يمثل هذه الإرادة. وكثيرًا ما أهمل الناس تفسير روسو وحسَبوا أنه يؤيد النظرية التي تقول إن إرادة الأغلبية دائمًا على صواب، والواقع أنه لم يقل بمثل هذا.
وينبغي لنا أن نضيف اصطلاحًا جديدًا لروسو فوق قوله: «إرادة الفرد» و«الإرادة العامة»، وذلك هو «إرادة الجميع». عندما تصدر جماعة من الجماعات قرارًا ما بأي شكل من الأشكال، بالتصويت أو التصفيق أو حتى بصك الدروع كما كانوا يفعلون في إسبرطة، فإن الإرادة العامة تكون موجودة إذا كان القرار «صحيحًا»، في حين أن إرادة الجميع، وهي مجرد المجموع الآلي لإرادات الأفراد الأنانيين غير المتنورين إنما تكون موجودة إذا كان القرار «باطلًا»، ولكن مَن ذا الذي يقرِّر الصحة والبطلان؟ إننا هنا نبلغ نقطة بلغناها من قبل، وهي نقطة يحس عندها كثير من الكائنات البشرية بالحيرة اليائسة. ومن الجلي أنه ليس هناك اختبار كيموي يميز بين الصحيح والباطل. وأنت لا تستطيع أن تقوم ﺑ «عملية» اختبار علمي تميِّز بها بين الإرادة العامة وإرادة الجميع. ويكتب روسو كأنه يعتقد أن المجموعة الصغيرة، كاجتماع في إحدى مدن إنجلترا الجديدة، يكون قرار الأغلبية فيها في الواقع بعد مناقشة حرة مستفيضة صورة تعكس «إحساس المجتمعين»، ويكون ممارسة للإرادة العامة. ولكن الأمر لا يتحتم أن يكون كذلك؛ لأن الاختبار النهائي اختبار يتعلق بالإيمان، ويجاوز الظاهر.
وقد تجد هذا الذي عرضناه مربكًا ومغرقًا في الفلسفة، بمعنًى غير مستحب. ولكنك حتى إن رفضت أن تسير مع روسو في ميتافيزيقيات الإرادة العامة، تستطيع أن ترى أنه يتلمس حقيقة سيكولوجية عميقة؛ فهو يلاحظ في المجتمع الديمقراطي الحر أن أولئك الذين عارضوا في أول الأمر في إجراء مقترح يقبلونه طوعًا عندما يتضح لهم أنه يمثل الإرادة العامة؛ أي إن الخمسة والأربعين في المائة تقبل رغبات الخمسة والخمسين في المائة باعتبارها «في الواقع»، وللأغراض العملية، رغبات المائة في المائة كلها. وبالرغم من أن هذا قد يبدو كلامًا عاطفيًّا لكثير من الأشخاص الذين يتصفون بالصلابة المقصودة، إلا أنه ليس هناك في الواقع ديمقراطية حية إلا إن وُجد شيء يشبه هذه العملية. وقد لا نرضى تمامًا عن انتخاب الرجل الذي عارضناه تحقيقًا ﻟ «إرادتنا الفردية». ولكننا إن رفضنا قبول هذا الانتخاب أمسينا عصاة. وإذا تكوَّنت منا جماعة تقف هذا الموقف أضحينا فيما يشبه جمهورية من جمهوريات أمريكا اللاتينية في أسوأ صورها التي تبعث على السخرية، لا في ديمقراطية مستقرة. وإذن فإن القبول الخيالي لشيءٍ يشبه ما يعنيه روسو — في بعض الأوقات على الأقل — ﺑ «الإرادة العامة» يبدو أمرًا ضروريًّا لاستقرار أي مجتمع حر.
وإنما يقع غموض روسو الأكبر بعد ذلك بخطوة. إنني عندما أوقِّع على العقد الاجتماعي (حتى إن كان ذلك مجازًا بمولدي في مجتمعٍ ما) أتخلى عن حريتي الطبيعية البسيطة، وأحصل لقاء ذلك على الحرية الكبرى، حرية طاعة الإرادة العامة، فإن لم أفعل كنت من عصاة الحق، وكنت في الواقع عبدًا لإرادتي الذاتية. وإرغامي على الطاعة في مثل هذه الحالة هو في الواقع تحرير لي، ويعبِّر عن ذلك روسو بوضوح فيقول:
«وإذن فلكيلا يكون التماسك الاجتماعي مجرد صيغة عابثة، لا بد أن يحتوي — حتى إذا لم يكن ذلك بالنص — على الشرط الوحيد الذي يستطيع وحده أن يُكسِب الكل قوة — أعني أن كلَّ مَن يرفض طاعة الإرادة العامة يجب أن يُكره من مجموع زملائه المواطنين على الطاعة، ولا يعدو ذلك قولنا إنه قد يكون من الضروري أن نرغم الفرد على أن يكون حرًّا …»
لقد بعُدنا كثيرًا عن الميل نحو التحرر الذي بدأنا به، والحجة (أو التشبيه) واضحة جدًّا في الواقع، تقف إلى جانب كلِّ مَن يريد أن يدفع عن وضع القيود على حرية الفرد. وقد تحولت على أيدي مفكرين عديدين من أمثال كانْت وهردر إلى عقيدة جرمانية عادية، واستخدمتها السلطات الجرمانية على صورةٍ من الصور لتبرير الطاعة. وقد كانت دائمًا تبدو للأوروبيين الغربيين والأمريكان على شيء من الخطر، وكأنها تضحي بالفرد كلية في سبيل الدولة. ولكن متابعة روسو لتحليله إلى الحد الذي يجعل عنده إرادته العامة سيدةً لا تُوصم بالخيانة مثال شائق لما يمكن أن يبلغه العقل البشري، إذا سار على طريق الفكر المجرد. وقد كان روسو كشخص — شاذًّا، فرديًّا، رجلًا اعتراضاته العاطفية الأساسية على ضغط النظام من أي نوعٍ كان على الفرد تذكرنا بثورو. ولكنه برغم ذلك أحد المبشرين بالمجتمع الجماعي الحديث.
وسوف نرجِئ إلى الفصل القادم النظر في الحركة الرومانتيكية، التي تصدرها في القرن الثامن عشر روسو وكتَّاب إنجليز من أمثال شافتسبري، حتى أصبحت أحد العناصر الرئيسية في نظرة القرن التاسع عشر إلى الحياة. ولكن لكي نفهم حركة التنوير المتأخرة لا بد لنا من أن نلاحظ أن هذا التحول نحو العاطفة أكسب بعض الأفكار، ﻛ «الطبيعة» لونًا يختلف جد الاختلاف عن لون «الطبيعة» في العالم الآلي النيوتوني. لم تَعُد الطبيعة بذلك الوضوح السابق، أو ذلك النظام، أو على تلك الأسس الرياضية. إنما كانت بالمعنى الذي تحمله «الطبيعة» لأكثرنا، العالم الخارجي الذي لم تمسه يد، أو الذي مسَّته يد الإنسان مسًّا خفيفًا، عالمًا لم تُشذَّب أطرافه، ولم يُستأنس، متوحشًا، تلقائيًّا، لا يقوم البتة على أسس رياضية. وتهمنا هنا المقتضيات السياسية لهذا التحول في الأساس من الطبيعة الكلاسيكية إلى الطبيعة الرومانتيكية.
وقد ترى — وأنت مصيب فيما ترى — أن الانقسام الثنائي بين العقل والعاطفة، أو بين الرأس والقلب، نوع من أنواع الصيغ المألوفة في التفكير السقيم. إن التفكير والشعور ليسا عملين من أعمال الكائنات البشرية لا ينفصلان؛ ذلك أن أفكارنا وعواطفنا تنصهر فيما نكوِّن من آراء. غير أن التفرقة — برغم ذلك — تستحق التوضيح، لمجرد أن تكون أداة من أدوات التحليل. وإليكم مثالًا طيبًا ملموسًا من أواخر القرن الثامن عشر، يتضمن مشكلةً ما زلنا نجابهها. استطاع الاقتصاديون المحترفون — وقد باتوا الآن جماعة معترفًا بها، جماعة لها نظامها المحتَرم وإن يكن نظامًا جديدًا — أن «يثبتوا» أن معونة الفقراء والصدقات التي تُقدِّم للمنتفعين بها المأوى ونفقات الأسرة، أمرٌ سيئ لكل إنسان، حتى للمنتفع ذاته. ولما نشر مالتس «مقالة في مبادئ السكان» في عام ١٧٩٨م كانت الحجج التي أدلى بها الاقتصاديون قد تشكلت، فقيل إنك كلما خففت عن الفقير رزءه، زاد إنجابه للأطفال، وقلَّ ما يصيب العمال، وساءت حالهم جميعًا. والتقط النفعيون هذا الرأي، وعاونوا على وضع نظام لإعانة العمال في بريطانيا يقضي بعزل الفقراء المعانين عن الجنس الآخر في بيوت خاصة بهم لا تَسُرُّ الناظرين. والمنطق الكامل ربما أدَّى إلى التخلي عن الفقراء حتى يموتوا جوعًا إذا لم يستطيعوا أن يكسبوا عيشهم، غير أن الغرب لم يتبع قطُّ هذا المنطق، حتى إن كان من بين المشتغلين فيه بالاقتصاد.
ولسنا بحاجة إلى أن نناقش هل تفكير الاقتصاديين في هذا الأمر هو في الواقع مما يتفق مع ما يعني «العقل» في تقاليدنا؟ وإنما المهم هو أنهم كانوا يزعمون أنهم يسيرون وراء العقل — وقد قبِل خصومهم ما زعموا. وقال الخصوم شيئًا كهذا: «إننا لا نستطيع أن نرى موضع الخطأ في سلسلة تفكيركم، ولربما ارتفع مستوى العنصر البشري إذا تطهَّر من العاجزين ولكنا لا نستطيع أن نقبل حجتكم. إننا نأسف لحال الفقير. ونحن نعلم أنكم على خطأ لأننا نحس أنكم على خطأ. ربما كان الفقير كسولًا، ينقصه التدريب، شاذًّا، عاجزًا، غير أن …» ومن الممكن أن يطَّرد الدفاع إلى ما لا نهاية، وحتى إن تولاه أخلص المتحيزين لشعور القلب فلا بد أن يتعثر في الحجة، وفي التفكير. أي إن الفقير يلقى دفاعًا عن حقه في الحياة الطيبة، ودفاعًا عن وقوعه في الفقر فعلًا لأن الفرصة لم تُتَح له قطُّ (وهي حجة المنادين بأثر البيئة). وربما أدلى أحد المدافعين بالحجة الحديثة — كما فعل روبرت أوين — وهي أن رفع مستوى معيشة الفقراء معناه زيادة الطلب على الإنتاج الصناعي الضخم، وإمكان اطراد التقدُّم الاقتصادي. ولكن الحجة الأساسية بقيت كما كانت، وهي: أننا «نحس» أن معالجة الأمر بإنشاء بيوت العمال فيه قسوة شديدة.
وأقول مرة أخرى بوجه عام إن المشايعين للعقل مالوا في أخريات حركة التنوير إلى تدعيم جانب الاستبداد المستنير، والتخطيط، والتسلط. أما المشايعون للقلب فكانوا يميلون إلى تدعيم جانب الديمقراطية، أو على الأقل جانب الحكم الذاتي عن طريق الحرية الفردية: والتلقائية «الطبيعية» من جانب عدد كبير من أبناء الطبقة المتوسطة، ولكن هذين الموقفين — عندما ذكرنا آنفًا عند إظهار أوجه الخلاف بين التفكير والشعور — لا ينفصلان، وإنما يتحدان بقوًى مختلفة في نظراتنا السياسية.
ولطالما بلبلت هذه الصعوبة التي عرضناها تفكير الرجل الأمريكي الذي ننعته ﺑ «التقدُّمي» أو «المتحرر». ذلك أن عواطفه — يعزِّزها التقليد الديمقراطي الأمريكي — تنحاز بشدة إلى جانب الثقة في الناس، فيسمح لهم بإصدار القرار بعد المناقشة الحرة، ويسمح لهم بإظهار صفة الحق التي يملكها عامة الناس في الجماعات التي يؤلفونها. إنه يريد أن يؤمن بالشعب، وأن يثق بحكمه، غير أن عقله — من ناحية أخرى — تعززه عادات التفكير عند المثقفين من الأمريكيين يرشده إلى أن رجل الشارع يؤمن بالخرافة، منحط الذوق، عاجز عن التفكير الموضوعي من أي درجة من درجات التعقيد، تسوقه دوافع غير كريمة أو مستحبة. ودعنا مرة أخرى نقدم مثالًا محسوسًا: إن حزب الأحرار يرى أن قلة من السياسيين المحافظين الأشرار، ومن الأثرياء، ومن المثقفين المضللين، مسئولة عن جيم كرو في الجنوب. ولكن شيئًا ما يلح عليهم أن العدو الحقيقي لهذا الزنجي هو مجموعة البِيض، وبخاصة الفقراء منهم، ومِن ثَمَّ فهم يحتجون بأن الرجل الأبيض الفقير إنما يخشى الزنجي بسبب النُّظم الاقتصادية. وحتى عندئذٍ نراهم عندما يعالجون مشكلةً بعينها يجابهون سؤالًا واقعيًّا، وهو: هل تثق أو لا تثق بحكمة الرجل العادي وحسن نيته؟ وهم لا يستطيعون الإجابة الأكيدة عن هذا السؤال. ولهذا التردد جذور تاريخية عميقة، ترجع على الأقل إلى عصر التنوير.
حركة التنوير والتقاليد المسيحية
إن آراء حركة التنوير، سواء أكانت صادرة عن العقل أم عن القلب، أم عن كليهما متضافرين، كانت تعمل بجلاء على هدم النُّظم القائمة. وإذا نحن وافقنا على حكمة بيكون «بأن دقة الطبيعة أعظم أضعافًا مضاعفة من دقة الحواس والفهم» وجدنا أن أية محاولة إنسانية للتفكير في النُّظم الاجتماعية لا بد أن «تبسطها». ويتمخض عن ذلك نمط واضح، أو مخطط، إذا قُورن به الواقع وجدناه دائمًا أشد تعقيدًا، ومِن ثَمَّ أقل كمالًا عند صنوف كثيرة من المفكرين. وفي عبارة أبسط نستطيع أن نقول إن أي إنسان تقريبًا يستطيع أن يفكر في طريقة أفضل من الطريقة الواقعية في أداء الأشياء — كإدارة نادٍ من النوادي، أو رسم منهج تعليمي، أو تدريب فريق لكرة القدم، أو إدارة مصلحة حكومية — ويستطيع كناقد أن يشير إلى مواضع النقص فيما يؤدي فعلًا. إنك إذا اعتقدت بوجه خاص أن كل الشئون الإنسانية لا بد أن تُدار بمثلِ ما في أفضل التفكير الرياضي من دقة ووضوح، وإذا أنت تعمقت ديكارت ونيوتن ولوك، فقد تكون أشد النقاد هدمًا لما يجري حتى في عصرنا الحاضر، وربما استطعت أن تجد في عام ١٧٥٠م مواضع للنقص، والانحراف، وبقايا غير معقولة تخلفت عن العصور الوسطى، أكثر مما تجد الآن. فلا يبدو لك مبدأ التثليث غير معقول فحسب، وإنما يصدم رغبتك الملحة في الإصلاح كذلك اختلاف المكاييل، وقيمة العملة من مدينة إلى أخرى.
إننا لا نستطيع هنا أن نستطرد في الحديث في هذا الموضوع الشائك، الذي أضحى محلًّا للجدل الكلاسيكي بشأن مكانة الأفكار في التاريخ، والتأثير النسبي لنوع التفكير الذي قام به فلاسفة القرن الثامن عشر. إننا نميل اليوم إلى الشك فيما إذا كان ما كتبوه قد يُضعِف مجتمعًا قويًّا منظمًا من نواحيه الأخرى. إننا نميل إلى أن نعده «أعراضًا» للانحلال الاجتماعي أكثر منه أسبابًا مبدئية له. غير أنه مما لا شك فيه أن ما كتبوه ساعد على تجميع العقول وتوحيدها فيما يتعلق بمشكلات لولا ذلك لأثارت معارضة في مناسبات مختلفة ومن حين إلى حين. لقد شحذ فلاسفة عصر التنوير إحساس الناس بالضيم، وذلك بإحالتهم دائمًا إلى معيار معين للحق والباطل، وإلى مقياسٍ يضخم هذا الضيم ويظهر شدته.
والواقع أن ما يهمنا الآن سؤال ضخم في الواقع، وهو سؤال لا نستطيع أن نجيب عنه إجابة كاملة، وذلك السؤال هو: ما الصلة بين هذه النظرة العالمية التي رآها القرن الثامن عشر والمسيحية التقليدية؟ ومرة أخرى أقول إنه من السهل أن نجيب عن هذا السؤال بتأكيد مطلق للانطباق بينهما، أو لاختلافهما اختلاف النقيض مع النقيض. وقد تقدمت بالفعل إجابات كهذه. وبدت حركة التنوير لرجالٍ من أمثال بيرك، وجوزيف دي ميستر، ولكلِّ مَن يُركِّز اهتمامه بالمبدأ الذي ساد في القرن الثامن عشر، المبدأ القائل بأن الخير الطبيعي والعقل السليم عند الإنسان هرطقة أساسية، ضد المسيحية في صميمها كما كانت كذلك على ألسنة المناهضين الأشداء لرجال الدين من أمثال هلباخ وهلفيشيس. ولكنها عند أناسٍ من أمثال الاشتراكيين المسيحيين في القرن التاسع عشر، أو عند رجال الدين الأحرار الأمريكيين المعاصرين — جون هاينز هولمز على سبيل المثال — حركة امتداد أو تحقيق لما قصدت المسيحية إليه. والحقيقة هنا مرة أخرى أمر معقد؛ لأن النظرة العالمية لحركة التنوير، التي نَعُدُّ أنفسنا نحن الأمريكيين ورثتها الرئيسيين وممثليها، تحتوي على عناصر مسيحية وعناصر غير مسيحية على السواء، مختلطة في كلٍّ يُعَدُّ جديدًا في مجالات النظرات العالمية.
وقد يكون من الضروري عند هذه النقطة أن نحذِّر القارئ بكلمة يسيرة. إن لفظة «متشكك» تُطبَّق أحيانًا تطبيقًا غير مضبوط على رجالٍ أمثال فولتير، وعلى كتَّاب الموسوعة الفرنسية الكبرى، وعلى النظرة التي أسميناها التنوير بأسْرها. وهذا بطبيعة الحال سوء استخدام للكلمة. فإن مزاج القرن الثامن عشر لم يكن متشككًا. نعم إنه ضد رجال الدين، وضعي، مادي في حالات التطرف. ولكن «فلاسفة» هذا القرن — إن كانوا يؤمنون بالمسيحية التقليدية — آمنوا بعالمهم الطريف. وهناك بطبيعة الحال مجموعات كبيرة من الناس، بل ومن المثقفين، لا يتشككون قطُّ ولا يكون التشكك أبدًا حركة شعبية. وقد كانت حركة التنوير حركة شعبية فكرية على نطاق واسع، وهناك خيط دقيق من الشك الفلسفي الحقيقي امتد منذ عصر الإغريق، وإن كان يتقطع في العصور الوسطى. ويعود الخيط إلى الظهور مرة أخرى في عصر النهضة. ويبدو في شخص مونتيني أشهر المتشككين من الأدباء وأبعدهم صيتًا.
وكان هناك في الواقع في القرن الثامن عشر فيلسوف محترف مشهور، وهو دافيد هيوم الاسكتلندي، الذي سار بالمعضلة الديكارتية التي تتعلق بالفكر والمادة إلى حدٍّ بدأ معه الشك بالتأكيد. كان هيوم أحد المتسائلين المدنيين عن الوحي — ولا يزال هجومه على المعجزات أحد الأسلحة التي يلوذ بها خصوم المسيحية — وكذلك عن مذهب إثبات وجود الله مع إنكار الوحي، أو «الديانة الطبيعية»، ولكنه كان كثير الصحاب في هذا اللون من النشاط. وهو أكثر ابتكارًا عندما يتساءل عن الصدق — بمعنى اليقين الثابت المطلق الميتافيزيقي — صدق الأحكام العامة التي وصل إليها رجال العلم. إن العقل عند هيوم ذاتي كالحواس، أو هو على الأقل نقل أو تقرير للواقع على صورةٍ لا يمكن التثبُّت من صحتها في نهاية الأمر، ولقد وجد هيوم — كغيره من المتشككين في قدرات الناس العقلية والخلقية — في التقاليد والعادات والعرف أساسًا أثبت للحياة فوق هذه الأرض. وهكذا انتهى إلى موقفٍ يناقض موقف أهل زمانه بشكل فريد — إذ كان يعتقد في القديم دون الجديد، ومع ذلك فقد تحسَبه من «فلاسفة» هذا القرن عند قراءته؛ إذ كانت في أسلوبه لمسة القرن الثامن عشر، وهو يعترف بمكانة العاطفة في أعمال الناس، وإن يكن ذلك في غير حماسة بشكل فذ فريد. إن هيوم لم يكن في صميمه ذلك المتشكك بمقدارِ ما كان ذلك المتعقِّل الذي ملَّ التعقُّل.
ولست بحاجةٍ إلى أن أكرِّر القول فيما أبرزت في مناسبات أخرى، وهو أن روح حركة التنوير كانت معادية للديانة المسيحية المنظمة. ويقول توماس جفرسن: «إن القسيس في كل بلد وكل عصر من أعداء الحرية. وهو دائمًا حليف الحاكم المستبد، يعينه على سيئاته في نظير حمايته لسيئاته هو الآخر.» ويستعمل جفرسن هنا لفظ «القسيس» بطبيعة الحال بمعنًى عام ليدل به على أي رجل من رجال الدين. وليس في عبارته مبالغة قط، وإنما هي تقع موقعًا وسطًا بين فولتير من ناحية عندما يقول: «دعنا نلتهم بعض الجزويت» (وهناك من التطرف ما هو أشد من ذلك افتراسًا) و«الديانة الطبيعية» من ناحية أخرى، أو مذهب الاعتقاد في الله مع إنكار الوحي الذي أخذ به بعض الكاثوليك من أمثال إسكندر بوب. إن نار حركة التنوير كانت أوضح ما تكون اشتعالًا عندما تهاجم المسيحية.
وقبل أن ننتقل إلى المشكلة الأساسية، وهي ما مقدار ما تبقَّى من المسيحية في حركة التنوير، وإلى أي حد عاشت المسيحية في هذا الإيمان الجديد، لا بد لنا من العلم بأن كثيرًا من الجماعات المسيحية في ذلك الحين — بل واليوم — سارت على الدرب القديم، ترد الهجوم أحيانًا على صفحات الجرائد ومن فوق المنابر، وتعيش أحيانًا عيشة لا تتأثر بالآراء الحديثة. وأدب القرن الثامن عشر في الغرب يميل بدرجة ساحقة نحو جانب حركة التنوير الجديدة. والأسماء التي نذكرها — من بابل وفولتير إلى جفرسن وبين — كانت تتجه نحو الهجوم. غير أن جماعات صغيرة كالبولانديست ظهرت خلال القرن وعاشت عيشة القديسين، وقامت بتدوين التاريخ الذي ينطوي على النقد وإن كان أساسه الوَرَع. وواصلت الكنائس القائمة في أداء مهمة التعليم وإقامة صلواتها العادية. وظلت الجموع الغفيرة وعدد كبير من أبناء الطبقات الوسطى والأرستقراط خلال كل هذه السنوات ترعى التقاليد المسيحية.
وظهرت في حركة «النظاميين» و«الورعين» في بريطانيا ومستعمراتها الأمريكية وفي ألمانيا صورة جديدة من البروتستانتية لا تميل البتة إلى الناحية العقلية. وكانت هذه الحركات إنجيلية من حيث رغبتها في إقامة السلام على الأرض وتنفيذ ما أمر الله به. واتجهوا في نهاية الأمر كما فعل كثير من المسيحيين في الأزمنة الحديثة نحو أهداف إنسانية، ولكنهم أبقَوا على فكرة العالم الآخر الأساسية التي سادت التقاليد المسيحية. ولم يكونوا البتة ثائرين في نظرياتهم الاجتماعية والسياسية. ونحن نستطيع في الواقع أن نذكر عرضًا — كمثال لنوع التعميم الذي فيه مغامرة كما فيه إيحاء، وهو التعميم الذي يستطيع المرء أن يستمده من تاريخ الفكر — أن المؤرخين من أمثال ليكي وهالفي آمنوا بأن شعبية النظاميين بين الطبقات البريطانية الدنيا كانت عاملًا من عوامل الاستقرار التي صرفتهم عن نوع النظرة الثورية التي انتشرت بين الجماهير الفرنسية.
إننا — بإيجاز — نواجه في القرن الثامن عشر كما نواجه دائمًا تقريبًا في العالم الغربي ذلك المدى الفسيح من اختلاف الرأي، أو ذلك «التعدد» فيه الذي تميزت به ثقافتنا. وكأن هذا التعدد يطرد في الزيادة كلما اقتربنا من عصرنا؛ لأن الآراء القديمة التي تتمثل في الجماعات القديمة تنضم إليها دائمًا آراء جديدة. وقلَّ من هذه الآراء ما يموت، وما يموت منها يستغرق وقتًا طويلًا جدًّا حتى يختفي بتاتًا. يقولون إنه لا يزال هناك إنجليز يعتقدون اعتقادًا جازمًا أن الوارث الحق لعرش بريطانيا هو أحد أبناء بيت ستيوارت، الذي طُرد إلى الأبد في عام ١٦٨٨م. وإذن فحركة التنوير التي نجاهد في فهمها ليست عقيدة جديدة كل الجدة تقتلع عقيدة أخرى قديمة كلَّ القِدَم. إنما هي سلسلة من التجارب، والاتجاهات، والنظرات، قديمها وحديثها، وهي جزء آخر — ولكنه في غاية الأهمية — من الأجزاء التي تتكون منها عصارة أو لب الثقافة الحديثة كما يرى العاشق المفتون للسلام والبساطة.
وتستطيع أن تدرك دقة المشكلة؛ مشكلة مقدارِ ما في حركة التنوير من المسيحية، إذا أنت وازنت بين نظرة سنت توماس أكويناس وآدم سميث نحو الطبيعة والقانون الطبيعي. وهذه الموازنة تستحق أن تُعقد؛ لأنه من الميسور أن يقول المرء عند النظرة الأولى وطبقًا للرأي التقليدي إن آدم سميث باعتباره أحد رواد الاقتصاد الذي يقول بحرية العمل هو على النقيض تمامًا من الاقتصاد التحكمي الذي يحدِّد الأسعار، ويمنع الربا، وغير ذلك من نظريات العصور الوسطى في العلاقات الاقتصادية. ومن السخف بطبيعة الحال أن نقول إنه ليست هناك فوارق بين أكويناس وآدم سميث، غير أن سميث لم يكن فوضويًّا، ولم يكن يعتقد في الخير الطبيعي عند الإنسان. وهو يُدخِل تعديلات كثيرة حتى على نوع الحرية الاقتصادية لرجال الأعمال التي يجعلها صلب نظامه، وهو لا يسمح بحرية التجارة إلى حدِّ أن يترك قُطرًا من الأقطار بغير موارده الضرورية في زمن الحرب. أما أنواع الرقابة الاقتصادية التي يعترض عليها فهي الرقابة التي يراها مناقضة للطبيعة، وأسوأها كما يرى، «الاحتكار»؛ فهو رقابة مصطنعة يستطيع الرأسمالي أو مجموعة الرأسماليين الذين يميزهم القانون أن يفرضوها على محصول يمكن أن يكون سعره بتطبيق قانون العرض والطلب على مستوًى نافع للمجتمع بقدرِ ما يمكن ذلك في عالمنا هذا؛ عالم العرق والندرة. هذا الاحتكار هو في الواقع الرذيلة الأساسية في النظام التجاري الذي كان يهاجمه.
كان سميث — كما كان أكويناس — يعتقد في «الثَّمَن المناسب». وكان كمثله يعتقد أن وراء العمليات الفوضوية في ظاهرها التي تتمثل في البيع والشراء الفردي نظامًا طبيعيًّا، يجب على الناس أن ينصاعوا له. فإذا لم يفعلوا فذلك عند سميث وأكويناس على السواء في صميم الأمر إنما يرجع إلى أن بعض الأفراد يحاولون في عنادٍ أن يقلبوا النظام الطبيعي لمصلحتهم القريبة الخاصة، ولكن النظام الطبيعي قائم، ومن الآمال المسيحية المقبولة أن يتعلم الناس الخضوع له، ومن الحق أن الطبيعة — عند أكويناس — تفرض رقابات اجتماعية معينة، تبلغ في بعض الأحيان حدَّ تحديد الأسعار، وهي رقابات رفضها سميت بالذات. وكان الرجلان يؤمنان بوجود قدرة علاجية في الطبيعة. وهما يختلفان في مقدار المعونة التي تحتاج إليها الطبيعة، وفي أفضل الطرق لتوجيه هذه المعونة. إنهما يختلفان، ولكن الخلف بينهما ليس كاملًا كما يبدو في ظاهر الأمر، وإنما هو في طبيعة الطبيعة. ولكن أكبر شيء «غير طبيعي» عند الطرفين هو الاحتكار، الذي يستطيع عن طريقه فرد واحد أو مجموعة أفراد أن يسيطروا على السوق بطريقة يفيد بها شخصيًّا من قحطٍ مصطَنع.
إن أوجه الشبه الشكلية بين المسيحية التقليدية وحركة التنوير لا تنتهي عند حد؛ لأن كليهما مجهود يشارك فيه كثير من النساء والرجال لتقديم نوع من أنواع المجموعات المنظمة للإجابة عن «المشكلات الكبرى»، وكلاهما نظام من نُظُم القيم الخلقية، ونُظُم الوسائل والغايات، أو إن شئت فقُل إن كلًّا منهما دِين من الأديان. ويُظهِر كارل بكر أوجه المشابهة هذه ببراعة فائقة في كتابه «المدينة السماوية لفلاسفة القرن الثامن عشر». والنقطة الرئيسية عند بكر هي أن عقيدة حركة التنوير لها صورة دينية كاملة كصورة «الموت ويوم البعث والجحيم والنعيم» محددة كهذا التحديد في المسيحية، لكلٍّ منهما فردوس أمام الأعين هو الهدف من كفاحنا في هذه الدنيا. نعم إن المدينة السماوية في القرن الثامن عشر مقرها الأرض، ولكن المهم هو أنها تقع في المستقبل — أجل في المستقبل القريب عند رجال من أمثال كوندورسيه، ولكن هذا الأمل مع ذلك لا يتحقق الآن في هذا المكان. ومن الحق أن الناس سينعمون بهذا الفردوس بأجسادهم (ولكنا يجب أن نذكر أن البعث ﺑ «الجسد» والتمتُّع بالجنة هما من صميم العقيدة المسيحية). وليس من المجدي أن نحاول بسط التفصيلات المحسوسة للحياة في النعيم المرتقب، وربما كان الفردوس في حركة التنوير أكثر مادية، وأقل روحانية من فردوس المسيحيين. غير أن الجانب الأساسي في هذه الجنة وفي تلك هو انتفاء الشر، وخيبة الأمل، والروح والجسد — كلاهما في النعيم في كلتا الجنتين، وربما كان هذا الذي ذكرنا بالنسبة إلى كثير من المسيحيين — وإلى أكثر المسيحيين روحانية — تصوير هزلي للفردوس. النشوة عند هؤلاء تفوق الوصف، وهي ليست مجرد انتفاء لحالات معينة. ولكن أهدافهم — مع ذلك — كما هي في كل الأهداف الصوفية — في نظر العين الخارجية، أو في نظر الرجل الدنيوي، لا بد أن تخضع، بل تلغي، كلَّ ما يجعل الحياة تستحق العيش. ومن المؤكد أن الجنة بالنسبة لأكثر المسيحيين لا تعدو أن تكون سعادة غامضة، ونهاية للكفاح، وللعوز.
والنتيجة في كلتا العقيدتين تخضع لسلطةٍ أقوى من أي رجل بمفرده. إن الناس يستطيعون أن يفهموا تدبير هذه السلطة وأن يكفُّوا أنفسهم طبقًا لها، بل إنه ليتحتم عليهم ذلك إن أرادوا بلوغ الجنة، ولكنهم لا يستطيعون أن يغيروا من هذا التدبير. ومعنى ذلك أن الديانتين، المسيحية وحركة التنوير، كلاهما يؤمن بالحتمية. وبالرغم من هذا الإيمان فإن كليهما من الناحية العملية تخفف من حتميته بالنسبة إلى الفرد قواعد خلقية تدعو إلى النضال في سبيل الحق وضد الباطل، وهي قواعد تترك للفرد على الأقل توهُّم الحرية الشخصية. والنعمة المسيحية توازي العقل الفلسفي، كما أن الخلاص المسيحي يوازي الاستنارة الفلسفية. والموازنة حتى في أمورٍ كالتنظيم والطقوس ليست مصطنعة بأية حال من الأحوال. ويتبين ذلك في وضوحٍ تام في السنوات الأولى من الثورة الفرنسية التي نشبت في عام ١٧٨٩م، عندما حذت النوادي اليعقوبية — التي كانت تضم الأعضاء المؤمنين بالدين الحديث — حذو الطقوس الدينية المسيحية إلى درجةٍ تكاد أن تكون هزلية: فكانت لهم أناشيدهم الجمهورية، ومواكبهم، وأعياد المحبة، ومحاوراتهم بالسؤال والجواب لشرح مذهبهم، بل وكانت لديهم «علامة الصليب الجمهورية». ومن الأمثلة الرائعة لبقاء الأشكال الدينية ما نلمسه لدى المؤمنين علنًا بوجود الله دون الوحي عندما يسترسلون في الصلوات، كما كانوا يفعلون بين الحين والحين. والنقطة الرئيسية — على أية حال — فيما يتعلق بالإله الذي يشبه صانع الساعات في نظر المؤمن بوجود الله دون الوحي — هي أنه دفع العالم إلى الحركة طبقًا للقانون الطبيعي، ثم تركه بعد ذلك ليسير وفقًا لما يضع العالم لنفسه من قواعد. والدعاء لمثل هذا الإله يبدو عديم الأثر بصفة خاصة، ولكنه في قلوب اليعقوبيين الفرنسيين الوطنيين يتحول في سهولة ويسر إلى إله منتقم.
ومع ذلك فإن أهم ما يلفت النظر فيما تشترك فيه المسيحية التقليدية وهذا الإيمان الجديد، إيمان حركة التنوير، هو الشعور بأن الإنسان ليس نابيًا في هذه الدنيا؛ فهي دنيا خُلقت — بمعنًى من المعاني — لتحقيق الحياة الطيبة للإنسان، وإن الإنسان — بالرغم من أن جانبًا من جوانبه، هو الخطيئة الأولى عند المسيحي، والجهالة عند المستنير في القرن الثامن عشر، يحول بينه وبين بلوغ الحياة الطيبة فوق هذه الأرض — يستطيع مع ذلك بالجهد الخلقي والعقلي الجاد أن يكيِّف نفسه لهذا العنصر الطيب من عناصر التدبير في الكون، أو للإله، أو للعناية الربانية، أو للطبيعة. إن المسيحية وعقيدة حركة التنوير كلاهما من العقائد الفعالة التي تدعو بشدة إلى رفع شأن الإنسان. كلاهما يهدف إلى التطهير القوي بطريقةٍ ما. ولكليهما أهداف خلقية أساسية، يرميان إلى السلام، وإلى إشباع حاجات الجسد باعتدال، وإلى التعاون الاجتماعي والحرية الفردية، وإلى حياة هادئة ولكنها ليست كئيبة. وكلاهما يتخيل الرذيلة على صورة واحدة. ولما كان كلاهما دينًا مكافحًا، فإنه يفيد من هذه الصورة أكثر مما يفيد من صورة الفضيلة — يفيد من كفاحه ضد القسوة، والآلام، والغيرة والغرور، والأنانية، والاستهتار، والكبرياء، وغير ذلك من الرذائل الكثيرة التي نعرفها جميعًا.
ولكنا يجب أن نحتفظ عند المقارنة بالتوازن. إذا كانت عقيدة حركة التنوير ضربًا من ضروب المسيحية، وتطورًا لها، فهي من وجهة نظر المسيحية التاريخية في العصور الوسطى زندقة، أو تحريفًا للمسيحية، ومن وجهة نظر الكالفنية كفر بالله. إن عقيدة حركة التنوير لا تُفسِح مجالًا معقولًا لإله شخصي، يمكن الوصول إليه بالصلاة الإنسانية، إلهًا لا تحيط به حدود، أو أية قاعدة من القواعد التي يكشف الناس عنها عندما يدرسون أنفسهم ويدرسون بيئتهم، وهي لا تسمح بوجود غير الطبيعي فوق الطبيعي. إن عقيدة التنوير بسبب تحالفها الوثيق مع العلوم الطبيعية ومع التفكير المجرد عامة تميل — إلى حدٍّ ما — إلى أن تكون أكثر معقولية حتى من أشد المتطرفين من المسيحيين العقليين، وتميل إلى أن تجعل هذا الاستسلام الصوفي الذي نجده في التجربة المسيحية أمرًا مستحيلًا. وأرجو ألا نسيء الفهم هنا؛ فإن الفارق ليس بين المسيحية «العاطفية» والتعقل «البارد»؛ فإن هناك في الواقع عواطف حارة سَرت في إيمان حركة التنوير، كما أن كثيرًا من العقليين قومٌ حساسون. إنما ينحصر الفارق في «نوع» العاطفة، وكذلك في موضوعها إلى حدٍّ ما. وتستطيع أن تصوغ الفارق بينهما إذا اعتبرت حركة التنوير أقل انسجامًا مع مشاعر «المنطوي على نفسه» من المسيحية، بالرغم من بساطة هذا التعبير وقِدَمه.
وأكرِّر مرة أخرى أنه ليس بالأمر التافه أن تكون جنة حركة التنوير فوق هذه الأرض — في هذه الدنيا، وإن تكن في المستقبل. وقد عزَت هذه الحركة إلى نفسها مبدأ التقدُّم، وما يترتب عليه من مبدأ إمكان الكمال للإنسان. وتستطيع من وجهة نظر بعيدة بعُدًا كافيًا أن تقول إن المسيحية وحركة التنوير كليهما يحفل كثيرًا بمكانة الإنسان في التاريخ، وإن لكليهما في الواقع فلسفة للتاريخ، وإن كليهما يعد لنهاية سعيدة. ولكن مبدأ التقدُّم يبسط ويتعجل في آنٍ واحد على الأقل في صورته كما تخيلها الناس في القرن الثامن عشر — رحلة الإنسان المعنوية. وهذا المبدأ يؤكد بشدة الجانب المادي من التقدُّم. وهو — فوق كل شيء — يتوقع أن يتم التقدُّم نتيجة لتحرير الكائنات البشرية العاقلة الطيبة بطبيعتها من قيود القانون، والتقاليد، والعادات، والسلطة، بل ومن أكثر ما شيدته المسيحية التقليدية في ألف وسبعمائة عام، وهذا المبدأ الذي يقول بالخير الطبيعي عند الإنسان هو عند المسيحي التقليدي الزندقة الأساسية في حركة التنوير. ذلك أن نتيجته المنطقية هي الفوضى الفلسفية — إلغاء كل القيود الخارجية على سلوك الفرد. وقد ذكرنا من قبلُ أنه لم توجد في القرن الثامن عشر حركة هامة قصدت في الواقع من ناحية عملية إلى الفوضى واتجهت نحوها، ولكن الميل نحوها لصق بأكثر ضروب التفكير التقدُّمي أو الديمقراطي، فقيل إن الفرد على حق، والمجموع على خطأ. والحرية خير في حد ذاتها، والخضوع للقواعد شر في حد ذاته، أو هو — على أحسن الفروض — غير ضروري.
لقد وعدت حركة التنوير بالفردوس في هذه الدنيا، وفي وقت قريب، وبطريقةٍ كان معناها عند الفرد انطلاق «طبيعي» للقوى العريضة الشهوانية الكامنة في نفسه، ولم يكن معناها إنكار الذات وتدريب النفس على الحرمان. أو قُل على الأقل إن هذا هو الجانب السهل، المتفائل، المبتذل من حركة التنوير، أو هو التطرف في الحركة، أو الجانب غير المعتدل الذي يعلمنا شيئًا من نقائصها وأخطارها. بيد أن المستنيرين لم يكونوا جميعًا متفائلين بهذه السذاجة. وحركة التنوير لم تأتِ لتدعو في وضوح وجلاء إلى سفك الدماء، وإلى العمل الشاق، والعَرق، والدموع. وسوف نرى ما حلَّ بأحلام حركة التنوير في ظل المتاعب التي أعقبت تلك الحماسة المتفائلة بعالم أمثل، حماسة الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية.