الفصل الثاني عشر

القرن التاسع عشر: (أولًا) النظرة الكونية المتقدِّمة

بلغ التفاؤل في الأيام الأولى من الثورة الفرنسية حدًّا جعل كثيرًا من المفكرين يقولون بأن التاريخ قد بلغ نهايته؛ لأن التاريخ عندهم لا يوجد إلا كسجل للنضال، وللتقدُّم البطيء إلى الأمام عن طريق الآلام. أما الآن فقد انتهت الآلام، وتحققت المرامي والأهداف؛ فلم تَعُد ثمَّة حاجة إلى التاريخ، ما دام ليس هناك نضال وليس هناك تغيُّر من حال إلى حال وهل للسماء تاريخ؟ ومهما يكن من أمر فإننا قد تجاوزنا الماضي بما فيه من أهوال، ولم تَعُد بنا حاجة إلى ذكراه. إن الإنسان يبدأ عهدًا جديدًا. ولذلك فقد شعر كندرسيه بأنه مضطر إلى تقديم المعذرة لرجوعه إلى التاريخ عند روايته لقصة تقدُّم الإنسان.

«كل شيء يشير إلى أننا قد بلغنا ثورة من الثورات الكبرى في تاريخ الجنس البشري. أي شيء أنسب لتنويرنا فيما ينبغي أن نتوقعه من هذه الثورة، لإمدادنا بمرشد على هدًى وسط هذه الحركات، أي شيء أنسب لذلك من قصة الثورات التي سبقت والتي مهَّدت لهذه الثورة؟ «إن الحالة الواقعية للاستنارة الإنسانية تكفُل لنا أن تكون هذه الثورة ثورة سعيدة». ولكن ألا يتحتم لذلك أن نكون قادرين على استخدام كل قوانا؟ ولكيلا يكون الثَّمن الذي ندفعه لتحقيق هذه السعادة التي وعدتنا بها هذه الثورة باهظًا، ولكي يمكن انتشارها بشكل أسرع وعلى نطاق أوسع، ولكي تكون أتم في نتائجها، ألا يتحتم علينا أن ندرس في تاريخ العقل البشري أي عقبات يجب أن نخشاها وأي الوسائل لدينا للتغلب على هذه العقبات.»

وقد مات كاتب هذه السطور بعد تدوينها ببضعة أشهر، وربما كانت وفاته انتحارًا، أو من شدة الإجهاد، في سجنٍ يقع في إحدى ضواحي باريس، أُطلق عليها إبَّان الثورة اسم جديد هو «ضاحية المساواة». وباعتباره عضوًا معتدلًا في «المجمع الديني» كان يحاول أن يفر من الحكم بالنفي أو الإعدام الذي أصدره المتطرفون الظافرون على كل خصومهم من المعتدلين (ارجع إلى ما أوردناه في الفصل الثالث من هذا الكتاب تحت عنوان «أزمة القرن الرابع» من مقتبسات من رواية ثيوسيديد لأحداثٍ مشابهة في كوركيرا قبل ذلك بألفين وثلاثمائة عام). وفي ذلك الحين كان العالم الغربي في بداية الطريق نحو حرب عالمية استغرقت نحوًا من خمسة وعشرين عامًا. وهي حرب جذبت إليها في عام ١٨١٢م حتى جمهورية الولايات المتحدة الجديدة الفاضلة المنعزلة. وكانت أكثر ما اشتبك فيه الجنس البشري من حروب من حيث النفقات وإراقة الدماء.

ولا نستطيع أن نتعرض هنا لمجرى الثورة الفرنسية — التي كانت في أصدائها غريبة، ولم تكن فرنسية فحسب، كانت الثورة الفرنسية بالنسبة لصانعيها وبالنسبة لخصومها كذلك، أساسًا للبرهان على أفكار حركة التنوير؛ ففي الثورة أُجريت بالفعل تجربة إلغاء البيئة القديمة السيئة وإقامة البيئة الجديدة الطيبة. وقد تمخَّضت الثورة عن حكم الإرهاب، وعن نابليون، وعن حرب دامية. وكان من الواضح أن خطأ قد وقع. ومع ذلك فإن قادة الفكر البشري لم يستنبطوا البتة في بساطة أن الآراء التي تكمن وراء التجربة كانت كلها على خطأ. لقد وصلوا إلى نتائج عديدة، وهذه النتائج تيسِّر لنا فهْم الكثير من القرنين التاسع عشر والعشرين. وفي الفصول القادمة سنقدم إلى القارئ تقسيمًا تقريبيًّا إلى أولئك الذين استمروا في الإيمان بالأفكار الأساسية لحركة التنوير، بعد تعديلها تعديلًا يلائم الطبقة الوسطى المحتشمة، وأولئك الذين هاجموا هذه الأفكار باعتبارها خاطئة من أساسها، وأولئك الذين هاجموا هذه الأفكار، على الأقل كما تغلغلت في مجتمع القرن التاسع عشر — باعتبارها صحيحة في أساسها، ولكنها تشوهت، أو لم تتحقق، أو لم تتقدم إلى بعُدٍ كافٍ. وإذا استعرنا التعبير من السياسة قلنا إن وجهات النظر كانت وسطًا أو يمينية أو يسارية.

تكييف النظرة الكونية الجديدة وتعديلها

بقيت الأرض الثابتة التي قامت عليها العقيدة العامة في القرن التاسع عشر هي مبدأ التقدُّم. والواقع أن هذا المبدأ في النظرة الكونية الجديدة بدا أثبت مما كان في القرن الثامن عشر؛ فالجنس البشري في تحسُّن، وفي اطراد السعادة، ولم يَعُد لهذا المسير إلى الأمام حدٌّ يقف عنده في هذه الدنيا. وسوف نتعرض بعد قليل إلى بعض القيم والمعايير المحسوسة لهذا المسير. ويكفي هنا أن نشير إلى أنه إذا كانت الأحداث المؤسسية في الحروب والثورات التي نشبت في أواخر القرن الثامن عشر قد أوحت بأن التقدُّم قد يضطرب في مسيره، ولا ينطلق في خط مستقيم منتظم إلى أعلى فإن في الفترة الهادئة نسبيًّا بين عام ١٨١٥م و١٩١٤م كانت هناك دلائل مادية كافية تؤيد الإيمان بنوع من أنواع التقدُّم. ربما كان لا يسير في خطٍّ مستوٍ أو منتظم — وبخاصة في ميدان الأخلاق — ولكنه برغم هذا تقدُّم واضح.

فالعلم والتكنولوجيا أولًا واصلا السَّير قُدُمًا بغير توقُّف ظاهر. وقد بلغنا مرحلة من مراحل تاريخ العلم، لم تَعُد لنا معها حاجة إلى محاولة الرجوع إلى القديم. ولما اقترب القرن الثامن عشر من نهايته أمست «الكيمياء الجديدة» التي جاء بها لافوازييه هي الكيمياء الحديثة، وذلك بالرغم من أن لافوازييه نفسه قد عانى في الثورة الفرنسية مصيرًا كمصير كندرسيه. وكذلك بلغت الجيولوجيا سن الرشد، وفي عام ١٨٠٢م — طبقًا للعالم اللغوي الفرنسي لتريه — استُخدمت لفظة «البيولوجيا» لأول مرة. وبالرغم من أن العلوم البيولوجية لا تزال بحاجةٍ إلى عملٍ كثير، فإن من الحق أن الأسس العريضة قد تم وضعها بحلول عام ١٨٠٠م، وبخاصة فيما يتعلق بتصنيف الحيوان والدراسات المورفولوجية التي تتعلق بتركيب الأجسام. وقبيل منتصف القرن دوَّن أوجست كومت قائمته الشهيرة بالعلوم بترتيب سيطرتها على موادها، و«نضجها» أو كمالها. وكانت العلوم الأقدم في نظره أكمل، ما دامت مادتها كانت أطوع للسيطرة عليها. وهي تمتد من الرياضيات إلى الفلك، ثم إلى الطبيعة والكيمياء، وإلى البيولوجيا والسيكولوجيا. أما «علوم الحياة» — حتى في نظر كومت — فلم تبلغ بعدُ المستوى اللائق بها. وهناك عِلم يختتم به قائمته، وهو عِلم لم يُولد بعدُ، ولكنه في طور التكوين، على الأقل في ظن كومت الطموح، وهو عِلم أطلق عليه اسمًا مكوَّنًا من خليط من اللاتينية والإغريقية، ذلك الخلط الذي كان يسيء إلى الكلاسيكيين دائمًا، وهذا الاسم هو «السوسيولوجيا» أو علم الاجتماع. إن علم الإنسان لا بد أن يتوِّج باقي العلوم.

ومن الأهم لأغراضنا هنا أن نلاحظ أن هذا النمو في العلوم كان يُصطحب بنمو في المخترعات والمشروعات التجارية اللازمة لاستخدامها. وهكذا تعززت نظرة بدأ الغربيون يتمسكون بها في باكورة القرن الثامن عشر، وهي حالة عقلية ترحِّب بالتقدُّم المادي وتتوقعه، كما ترحِّب بسرعة الانتقال وبالمدن الكبرى وبسباكة أفضل، وغذاء أشد تنوُّعًا وأكثر وفرة. ولم يكن هذا التقدُّم — فوق ذلك — للقلة صاحبة الامتياز، وإنما كان تقدُّمًا يأمل كل فرد — حتى أدنى الناس درجة — أن ينال منه نصيبًا في يوم من الأيام. وكان الجميع يفخرون بهذه الإنجازات، والجميع يتوقعون استمرارها، على نطاق أوسع رقعة، وأكثر عددًا من الناس، وهي نظرة نحسب نحن الأمريكيين أحيانًا — بأفق ضيق — أنها تمثِّل الأمريكيين، في حين أنها تمثل العالم الغربي منذ ما يُسمى بالثورة الصناعية؛ فكان في إنجلترا الباحثون عن الثراء تمامًا كما نجد في ربوع الغرب الأوسط في أمريكا. وكانت ليفربول في إنجلترا من كل ناحية من النواحي مدينة جديدة كالمدينة التي تسمَّت باسمها في ولاية أوهايو عبر المحيط. وكنت تستطيع في كل مكان تقريبًا في العالم الغربي أن ترى «الأشياء» تتضاعف من حولك. وسواء أكان ذلك تقدُّمًا أم لم يكن، فإن ازدياد القدرة البشرية على إنتاج السلع المفيدة كان من الوضوح بحيث لا يمكن لأي امرئ أن يُغمِض عنه عينيه.

وكان المرء من ناحيةٍ أخرى يستطيع في منتصف القرن التاسع عشر أن يثبت على الأقل إثباتًا معقولًا بأن هناك تقدُّمًا خلقيًّا وسياسيًّا. وفيما بين عامي ١٨١٥م و١٨٥٣م لم تشتعل في أوروبا حرب هامة، وإنما كانت مجرد حرب استعمارية عادية. وكان الرق قد أُلغي في المستعمرات الإنجليزية، وعلى وشك الإلغاء في الولايات المتحدة. وتحرر رقيق الأرض في روسيا. وبدا كأن كل ضروب السلوك الطيب، من تحريم الخمر، إلى العفة، في سبيل التقدُّم. وأمكن لهربرت سبنسر أن يأمل في سرعة ارتفاع مركز المرأة عن مستوى التجمُّل. وأمست للحياة البشرية قيمة، أو على الأقل بات الناس يمسكون عليها، بطريقةٍ لم يسبق لها مثيل. ولم يَعُد لضروب الرياضة العنيفة، والعقوبات القاسية، صدًى طيب في الغرب. وفي عام ١٨٥٠م أضحى من المستحيل في أي مكان في الغرب أن يكون هناك محل لذلك السلوك البشري الذي نجده في التهديد بالسحر كما كانت الحال في القرن السابع عشر، وهو تهديد ظهر بأبشع صوره في إقليم ماساشوستس في العالم الجديد.

إن أعظم ما قدَّمه القرن التاسع عشر لمبدأ التقدُّم نجده في عمل البيولوجية. وإن كان داروين يحصد — وبحق — أغلب الشهرة، إلا أن صفًّا كبيرًا من العاملين كان لعدة أجيال يبني فكرة التطور العضوي. وأوضح البحث الجيولوجي أن الحياة فوق هذا الكوكب قامت منذ عهد طويل جدًّا، منذ ألوف السنين، بل ومنذ ملايين السنين لما توافر على ذلك الدليل. وتبين من البقايا المتحجرة أن الكائنات العضوية الأكثر حركة والأشد تعقيدًا في جهازها العصبي مثل الفقريات إنما جاءت في وقت متأخر نسبيًّا، وأن أشكال الحياة الأولى كانت بسيطة بوجه عام. وبدا من فحص الصخور كأن الحياة في شبه صعود مع تقدُّم الزمن، والإنسان في ذروتها. وهكذا فإن فكرة التطور العضوي كانت في الجو — على الأقل في الجو الذي يتنفسه المفكرون — منذ أواخر القرن الثامن عشر. وسار التطور من أصداف البحر إلى الإنسان. واستطاع داروين — كما استطاع نيوتن من قبل — أن يربط بين مجموعة الحقائق والنظريات المستمَدة من الدراسات المفصلة في نظرية عامة يمكن أن تصل إلى الرجل المتعلم العادي.

وليس هذا محل محاولة تحليل نظريات داروين في التطور بأية حال من الأحوال. وقد كانت هذه النظريات بالنسبة إلى الرجل العادي، الذي يهمنا في هذا المجال، تعني شيئًا كهذا: إن كل الكائنات العضوية الحية تتنافس على الدوام مع أفراد فصيلتها، كما تتنافس مع الفصائل الأخرى من الكائنات العضوية على الطعام وعلى المجال للحياة. وفي هذا النضال من أجل البقاء تعيش أفراد الكائنات العضوية المهيئة أفضل تهيئة للحصول على وفرة من الطعام وعلى وسائل الحياة الطيبة الأخرى — بوجه عام — أفضل عيشة وأطولها. وتحصل على أكثر الأفراد جاذبية من الجنس الآخر وأقدرها، وتخلف نسلًا ملائمًا مثلها. وهذا التكيف هو في صميمه من حظ الفرد عند مولده؛ لأن الكائنات العضوية تتكاثر عددًا، وفي هذا التكاثر يختلف صغارها اختلافًا يسيرًا، عفويًّا في الظاهر — فهذا فرد أطول قليلًا، أو أقوى قليلًا، أو لديه عضلة من العضلات متطورة إلى الأحسن بصفة خاصة، وهكذا. وهذه الاختلافات التي تحدث بحسن الحظ تميل إلى الاستمرار في الخلف على أية حال، ومِن ثَمَّ يميل صف جديد أو نوع من الأنواع إلى الاستقرار، وهو أكثر نجاحًا وأفضل تهيئة للنضال من أجل الحياة من النوع الذي تطور عنه. والكائن العضوي المعروف باسم «الكائن البشري» لم يتطور عن القردة، وإنما تطور عن نوع أسبق منها. وخرج الإنسان من النضال أعظم نصر للتطور. وهذه العملية تسير على الدوام، وإن يكن في بطء شديد. والإنسان، بعقله، وبانتصاب قامته، وبيده، هو في الوقت الحاضر فيما يظهر ابن التطور المفضل؛ ابن هذه العملية الكونية. غير أنه كغيره من الكائنات العضوية التي تدلنا عليها السجلات الجيولوجية قد «يتقهقر»، وقد يفشل كما فشل الديناصور (حيوان زاحف منقرض) من قبلُ، ويَحُلُّ محله كائن عضوي أنسب منه. هذه بإيجاز هي نظرية داروين كما شاعت في العصر الفكتوري.

وهكذا نرى أن الأفكار الداروينية ليست — بأية حال من الأحوال — متفائلة بالضرورة. ولكن أولئك الذين قبِلوا أكثر هذه الأفكار وجدوها مليئة بالأمل. وأوضحوا أن ما يُسمَّى بالتقدُّم يبلغ من الصدق مبلغ ما يُسمَّى بالجاذبية. وطبعوا الأفكار الخلقية والسياسية بطابع العلوم الطبيعية، تمامًا كما فعلت أفكار نيوتن قبل ذلك بقرن ونصف القرن. ومن الحق أن نشر «أصل الأنواع» لداروين في عام ١٨٥٩م قد أدَّى إلى صراع شديد بين العلم والدين، وظهر كتاب داروين — وبخاصة بعدما نشره تلاميذه المتحمسون له — لكثير من المسيحيين أنه لا يتعارض مع التفسير الحرفي لسِفر التكوين فحسب، ولكنه يُنكِر أن الإنسان يختلف عن الحيوانات الأخرى بأي شكل من الأشكال — إلا في ناحية واحدة، وهي أن التطور الطبيعي المحض لجهازه العصبي المركزي قد مكَّنه من الاسترسال في التفكير الرمزي، كما مكَّنه من أن تكون له أفكار خلقية، وأن «يخترع» إلهًا له. وهذا الصراع لم ينتهِ بعدُ. ويبدو أنه يتخذ في عصرنا — وبين المفكرين على الأقل — شكلًا آخر، وهو نضال تعبِّر عنه لفظة «الإنسانية» أو «العلوم الإنسانية» من ناحية، ولفظة «العلوم» من ناحية أخرى.

ومهما يكن من أمرٍ فإن اهتمامنا الأكبر هنا ليس هو الصراع بشأن مكانة الإنسان في الطبيعة كما نشب في القرن التاسع عشر، بل وليس هو الحرب القائمة بين العلوم البحت والعلوم الدينية؛ فإن تأثير كتاب داروين قد امتد إلى الفلسفة، والاقتصاد، بل وإلى كل العلوم الاجتماعية الوليدة في الواقع. وسوف نلتقي به مرة أخرى، ويكفينا هنا أن نذكر أن التطور العضوي كما أظهره داروين وأتباعه، كان عملية بطيئة جدًّا في الواقع، حتى إن التاريخ كله — من هومر إلى تنيسون — هو بالنسبة إلى الزمان منذ البقايا الحجرية الكامبرية الأولى بمثابة بضع دقائق بالنسبة إلى العام. والنضال من أجل البقاء، بل وكل أسلحة الأفكار الداروينية، كانت أبعدَ ما تكون عن الإيحاء بمستقبلٍ يسوده السلام، والتعاون، وانتفاء الآلام وخيبة الآمال. ومِن ثَمَّ فإن مقتضيات مذهب داروين — باختصار — بالنسبة إلى الأخلاق والسياسة أقرب إلى أن تعارض منها إلى أن تؤيد فكرة الاستبشار التي آمنت بها حركة التنوير؛ تلك الحركة التي أكدت إمكان التحول «السريع» نحو الأفضل. ومع ذلك فإن نتائج العملية كلها كانت مما يرفع الروح المعنوية، ومن المحتمل أن هربرت سبنسر لم يكن سوى المعبِّر بوضوح عن نظرة الرجل الأوروبي أو الأمريكي المتوسط، عندما قال إن نظام الطبيعة «فيه قسوة خفيفة بحيث يمكن أن يكون رحيمًا جدًّا.» وظهر للمؤمن بالتطور أن التطور يفسِّر الطريقة التي يتم بها التقدُّم. وليس ذلك فحسب، بل إن التطور يجعل هذا التقدُّم أمرًا طيبًا لا مفر منه بصورة واضحة.

وكانت هناك — فوق ذلك — وسائل للتوفيق بين الأوجه الجافة من النضال الدارويني من أجل الحياة وتقاليد حركة التنوير التي تدعو إلى الإنسانية والسلام؛ فيمكن أن يُعتَبر النضال من أجل البقاء بين الكائنات العضوية الدنيئة متساميًّا بشكل من الأشكال بين الكائنات البشرية؛ ﻓ «الطبيعة المتوحشة بأسنانها ومخالبها» يمكن — وبخاصة بالنسبة إلى رجل الأعمال الناجح الذي نشأ في المدينة — أن تمسي بسهولة مسالمة متعاونة في المجالات الثقافية في إنجلترا لعهد فكتوريا؛ فالناس آنئذٍ كانوا يتنافسون في الإنتاج وفي سمو الأخلاق، لا في نضال الحروب الهمجي. وهناك تفسير آخر لم يخلُ من الخطر على تفاؤل حركة التنوير، وهو التفسير الذي يعتبر النضال الدارويني في الحياة البشرية نضالًا بين جماعات منظمة — وبخاصة بين الحكومات القومية — وليس، أو ليس في المقام الأول، بين الأفراد في هذه الحكومات. أما في داخل المنظمة، أو في داخل هذا «الكائن العضوي السياسي» كما كان يحب هؤلاء المفكرون أن يطلقوا عليه، فقد ساد التعاون، ولم تَسُد المنافسة. كانت المنافسة بين ألمانيا وإنجلترا — مثلًا — لا بين الألمان والإنجليز. وهذا النوع من التفسير حتى قبل تطور الأفكار الداروينية، كان يلقى قبولًا بين كل الدعاة الألمان في هذا القرن، من نيتشه إلى تريسكي. ومقتضى هذا التفسير — كالقومية المتطرفة التي يقوم عليها — لا يتفق ونظرة القرن الثامن عشر بأسْرها، وليس مجرد تعديل لها.

إن التطور الدارويني كان — على أية حال — بالنسبة إلى أكثر المتعلمين في القرن التاسع عشر — تبويبًا وتثبيتًا لمبدأ التقدُّم، وتعزيزًا لميراثهم من حركة التنوير، ولكنه ربما أعان — مع أفول شمس هذا القرن — على زيادة تملُّك الأفكار الآخذة في القوة، أفكار السمو القومي أو العنصري، لخيال هؤلاء المتعلمين والعلاقة بين أفكار القومية ومُثُل حركة التنوير من أشق الأمور في تحليلها. كانت حركة التنوير ترى أن الناس جميعًا سواء، وأن كل الفوارق — كفوارق اللون — إنما هي فوارق سطحية، ليس لها أثر في قدرة الإنسان على التثقيف وعلى الحياة الطيبة؛ ومِن ثَمَّ فقد كانت الحركة عالمية بكليتها في نظرتها. ووقع القرن التاسع عشر في فخ المذاهب القومية، وخان عهد أسلافه المفكرين في حركة التنوير. وسمح للتقسيم القومي الذي ما زلنا نعاني منه أن ينمو.

وأرجو أن يتضح جيدًا في الأذهان أن هذا التباين بين العالمية والقومية يستند إلى أفكار عامة معينة لفلاسفة القرن الثامن عشر وإلى أفكار أخرى مباينة لها لكتَّاب القرن التاسع عشر — التباين الذي يظهر مثلًا بين لسنج الذي كتب «ناثان الحكيم» ضد التحيز العنصري، وجوبينو الذي كتب «مقالًا عن الفوارق العنصرية» يدافع فيه عن التمييز العنصري. أما في العمل الواقعي فإن هناك فارقًا يسيرًا جدًّا في العلاقات الدولية، والأخلاق الدولية، بين العهد الأول والعهد الثاني. وكانت الحرب هي الملجأ الأخير في القرنين، ولم تكن الدبلوماسية في أحد القرنين أفضل منها في القرن الآخر. بل وليس من الحق أن تصريحات الدبلوماسيين في القرن التاسع عشر كانت أنبل من تصريحات سابقيهم.

ليست القومية في صميمها إلا تلك الصورة الهامة التي اتخذها الإحساس بالانتماء إلى قوم من الأقوام في ثقافتنا الغربية الحديثة. وقد كانت لهذه الثقافة منذ بدايتها عند الإغريق القدامى غزارة في الحياة الجماعية، من الأسرة إلى مثل تلك الجماعة الضخمة الكاثوليكية في الكنيسة الرومانية في العصور الوسطى. ومن بين هذه الجماعات العديدة جماعة كانت تقوم باطراد على أساس الرقعة الأرضية السياسية الإدارية، وعلى نوع تلك العواطف التي تنطوي عليها لفظة «الوطن»، أو «بلد الأمهات»، أو «بلد الآباء»، وهو تعبير أكثر شيوعًا في الغرب. ومن المفيد جدًّا لطالب التاريخ والعلوم الاجتماعية المتخصص أن يدرس هذا الشعور الخاص؛ الشعور بالانتماء إلى قومٍ من الأقوام — باعتباره اندماجًا لمجموعة من الأفكار والعواطف والمصالح — في سلسلة من المساحات المتباينة في الزمان والمكان — في أثينا في القرن الخامس — مثلًا — وفي روما الإمبراطورية، وفي فرنسا في أيام القديسة جان دارك، وفرنسا في نظر فولتير، وفرنسا في عهد الجمهورية الثالثة. إن الباحث سوف يجد من غير شك فروقًا في غزارة ونقاء عواطف الانتماء إلى الجماعة القومية، وفي توزيع هذه المشاعر بين الطبقات الاجتماعية، وفي مدى وغزارة المشاعر المعادية للجماعات القومية الأخرى (الجماعات الخارجية) وهلم جرًّا.

ولكنه سوف يجد كذلك مشابهات. ولا بد أن نؤكد هذا الجانب من الموضوع؛ لأن القومية لم تكن شيئًا جديدًا مفاجئًا، ولم تكن كالوغد أو الشيطان الذي ظهر بغتة في ثقافة حركة التنوير، التي كانت على نقيض فكرة القومية، تقدُّمية، ديمقراطية مسالمة. القومية طريقة قديمة من التفكير والشعور تتركز في وحدات أرضية معينة نتيجة — بصفة خاصة — للقرون الثلاثة الأولى من العصر الغربي الحديث (من عام ١٥٠٠م إلى عام ١٨٠٠م) وهي سنوات التكوين. وليست هذه الوحدات ثابتة ثبوتًا مطلقًا، وإن يكن أكثرها ثابتًا نسبيًّا خلال الأزمنة الحديثة — مثل فرنسا على سبيل المثال، أو أيرلندة إذا ضربنا المثل ببلد «مظلوم». وليس هناك اختبار واحد خارجي نختبر به القومية. وفي الواقع أن اللغة تعتبر عامة اختبارًا كافيًا؛ لأن سياسة أولئك الذين يسيطرون على الدول الحديثة كانت تتجه نحو محاولة بسط الوحدة الظاهرة التي تتيحها اللغة الواحدة على أعضاء الجماعة القومية. وفي البلاد التي يتكلم أهلها لغتين مثل بلجيكا وكندا نلمس بشكل ظاهر ضغطًا وتوترًا لا نجده في البلاد التي تشبهها من النواحي الأخرى مثل هولندا وأستراليا. ولا تزال سويسرا المثال الكلاسيكي، بل وتكاد تكون المثال الوحيد، لدولة يتكلم أهلها عدة لغات، ويعترف كل امرئ بأنها أمة حقيقية، و«بلد الآباء» بالنسبة لأبنائها.

إن الأمة تتكون من تشابك معقَّد لعلاقات واقعية إنسانية تمتد لعدة سنوات، وكثيرًا ما تمتد لعدة قرون، ويُغرم الأحرار المحدثون بالإصرار على انعدام وجود أساس بدني أو فسيولوجي للقومية، وانعدام وجود صفات «قومية» فطرية، نفسية أو جثمانية، فيما عدا ما نجده من توزيع عادي عفوي بين الأفراد الذين تتألف منهم أمم كفرنسا وألمانيا، والولايات المتحدة. إن الفرنسيين لا يُولدون بمهارات فطرية في الغزل، والإنجليز لا يُولدون طائعين للقانون مزوَّدين بإدراك سياسي عام كامل. ولا يُولد الألمان شُقرًا، ولا بشعور فطري بالتسلط. كل ذلك قد يكون صادقًا، غير أن التربية، وكثيرًا مما يُطبع به الناس بقوة في مشاعرهم وآرائهم ظلت تفعل فعْلَها سنوات عديدة لإقناع الناس بأن الصفات القومية هي من حقائق الحياة. وقد تكون القومية نتيجة للبيئة، لا الوراثة، بيد أن البيئة الثقافية التي ينشئها التطور التاريخي الطويل قد تعصي في تعديلها عصيان الصفات البدنية.

ولا مشاحَّة في أن القومية قد تعززت، بل في الواقع قد اكتسبت شكلها المميز الحديث، نتيجة لأفكار حركة التنوير وتفاعلها مع العلاقات البشرية المعقَّدة التي نطلق عليها «الثورة الفرنسية». وربما تستطيع أن تقول في عبارة مجردة — من غير داعٍ إلى التجريد — إن الأمم ذات السيادة الشعبية، والديمقراطية، أو الإرادة العامة طبقًا لما قال روسو، قد تحوَّلت إلى واقع سياسي تبريرًا للحكومة القومية ذات السيادة. وقد ذكرنا من قبلُ أن وراء لغة العقل التي استعملها روسو في القرن الثامن عشر في كتابه «العقد الاجتماعي» شعورًا بإرادة الجماعة يتجاوز الحدود «الاسمية» لأكثر ما في القرن الثامن عشر من تعقُّل، شعورًا بأن الكل السياسي أكبر من مجموع أجزائه، وهو شعور يُوصف بحق بالنزعة التصوفية، وهذا الشعور الصوفي — إذا تسلط بخاصة على جماعة قومية معينة — يُكسِب فكرة القومية رموزًا ومُثُلًا يشترك فيها كل أعضاء الجماعة. وتستبدل بالقومية عند المتحمسين لها حقًّا المسيحية وكل الأشكال المنظمة الأخرى لحياة الجماعة في كثير من الأحيان. وليس من شك في أن القومية عند الرجل المتوسط لا تعدو أن تكون عقيدة من العقائد التي تسكن في قلبه وعقله معًا في صحبة حقيقية وإن تكن غير منطقية (غير منطقية بمعنى أن بعض هذه العقائد — كالمسيحية أو الوطنية القومية مثلًا — قد تنطوي على مُثُل أخلاقية متعارضة). ومع ذلك فإنه من العسير أن نبالغ في مدى ضخامة الجزء الذي تشغله عبارة الدولة — عند كثير من الغربيين المحدثين — في علاقاتهم — التي تصدر عن وعي — مع الجماعات التي لا تقع في حدود أسْرتهم.

والواقع أن الموقف الديني المشابه الذي شرحناه في الفصل السابق، ووازنَّا فيه بين المسيحية التقليدية و«المدينة السماوية» كما تخيَّلها فلاسفة القرن الثامن عشر، هذا الموقف يمكن أن يكون أقوى تجسُّدًا في ديانة «أرض الآباء». هنا نجد وحدة أرضية محددة منظمة بحيث تستغل كل الاستغلال القوى السياسية التي تساندها بدلًا من إنسانية غامضة يطلب رفع مستواها، وبدلًا من أفكار مجردة ﻛ «الحرية والإخاء والمساواة». ويمكن إشباع المواطنين بالمذهب منذ البداية حتى يطابقوا عاطفيًّا بين أنفسهم وبين مصير الجماعة القومية. وإن الشعائر التي تحيط بالعلم، والأناشيد الوطنية، والقراءة الموقرة للنصوص الوطنية، وتمجيد الأبطال القوميين (القديسين)، والإصرار على أن للأمة رسالة، والتوافق الأساسي بين الأمة والنظام العالمي — كل ذلك يألفه أكثرنا إلى درجة أن الفرد منَّا — إذا لم يكن متحمسًا للعالمية يؤيد قيام حكومة موحدة للعالم أو أي اقتراح آخر لإقرار السلام العالمي — لا يكاد يلقي إليه بالًا. ولكنك إن أردت أن تدرك مدى هذه الديانة القومية حتى في الولايات المتحدة، حيث لا يوقظها أي إحساس بالظلم القومي، أي إحساس بالحاجة إلى رقعة من الأرض ليست عندنا، فاقرأ الفصل الجذاب عن مذهب لنكولن في كتاب رالف جبرائيل «سير الفكر الديمقراطي الأمريكي» وسوف تجد أن الناس قد توجَّهوا بالصلاة فعلًا إلى لنكولن بعد مماته.

وإذن فالقومية أحد «الأشكال العملية» التي اتخذتها المذاهب الجديدة للسيادة الشعبية، والتقدُّم، وإمكان كمال الإنسان، في عالم الواقع. القومية تتفق وكثير من العناصر في حياة الجماعة الغربية الحديثة. وهي من الناحية النفسية تتفق وازدياد نفوذ الطبقة الوسطى التي كانت تعوزها التجربة العالمية والمعرفة الشخصية بالبلدان الأخرى التي كان النبلاء على عِلم بها. كانت طبقة تجد أن الإخلاص المجرد من الرجل المفكر للإنسانية جمعاء فوق مدارها، طبقة الأمة عندها على أهبة الاستعداد لكي تكفل «احترامًا ذاتيًّا مشتركًا» دائمًا وإن يكن في غير موضعه أحيانًا (وهذه الصفة الأخيرة هي التعريف الصارم الذي عرَّف به الوطنية كلاتون بروك الإنساني الإنجليزي). القومية تتفق كل الاتفاق وحقائق التنظيم الاقتصادي في أوائل وأواسط الثورة الصناعية. والواقع أن المتعصبين للتفسير الاقتصادي للتاريخ قد فسَّروا القومية — كما فسَّروا كل أوجه العلاقات البشرية الأخرى — على أنها بكليتها نتيجة للتنظيم الاقتصادي لوسائل الإنتاج في المراحل الأولى من الرأسمالية الصناعية الحديثة. فإذا أنت أحسست بنور الحق يسطع من مثل العبارات التي تقول بأن واترلو كانت صراعًا بين الرأسمالية البريطانية والرأسمالية الفرنسية فلربما لم يطفئ هذا النور شيء مما تطالعه هنا.

أما من وجهة نظرنا فإن المكاسب التي تتحقق من تنظيم الأمة كوحدة اقتصادية — وهي مكاسب يزيد منها كل ضروب القوانين التي تصدر في إطار الحكومة القومية، من تقنين الأوزان والمكاييل إلى حماية العلم في التجارة الاستعمارية — هذه المكاسب وما يترتب عليها إنما تعزِّز ما نسميه بالقومية، وهي لا «تفسِّرها».

وأخيرًا أقول إن القومية إجمالًا قد تكيَّفت بالنظرة الكونية المتفائلة في عمومها التي سادت القرن الثامن عشر بتسرُّب هذه النظرة الكونية إلى أوساط المتعلمين الغربيين في القرن التاسع عشر. وقد تم هذا التكييف بشكل واضح، وبصورة تلائم كل الملاءمة الآمال الطيبة لحركة التنوير، فيما قام به الرجل الإيطالي القومي مازيني من عمل؛ فالأمة عند مازيني إن هي إلا خلقة لا بد منها في سلسلة يمكن أن تُوصف بالفردية فالقومية فالإنسانية. وإذا تحرَّرت كل الجماعات التي تحس أنها قوميات لما قامت بينها مشكلات، ولما نشبت بينها بالتأكيد حروب. إن الإيطاليين لم يُظهِروا الكراهية للأجانب إلا لأن إيطاليا في مستهل القرن التاسع عشر كانت تخضع لحكم أجنبي، وكانت ممزقة إلى وحدات صغيرة مصطنعة. إن إيطاليا الحرة لا تشن حربًا قطُّ ولا تضمر عداوة. وفي عبارة مازيني:

«إن ما يَصدُق على الأمة الواحدة يصدُق بين مجموعة الأمم؛ فالأمم هي أفراد الإنسانية. والتنظيم الوطني الداخلي هو الأداة التي تؤدي بها الأمة رسالتها في العالم. القوميات مقدسة. وهي تقوم بإرادة سماوية لكي تمثل — في داخل الإنسانية — تقسيم العمل أو توزيعه لصالح الشعوب، كما أن تقسيم العمل وتوزيعه في حدود الدولة يجب أن يُنظَّم لكي يحقق أكبر نفع لجميع المواطنين. فإذا لم تضع القوميات هذه الغاية نُصْب أعينها فهي عديمة الجدوى ومآلها السقوط، وإذا استغرقت في الشر — وهي الأنانية — هلكت. ولن تنهض مرة أخرى إلا إذا كفَّرت عن نفسها وعادت إلى الخير.»

وقد تبدو هذه الآراء غير واقعية إلى حدٍّ ما في منتصف القرن العشرين؛ حيث نجد الناس من أصحاب المزاج المثالي الحماسي الذي اتصف به مازيني على جانب ضئيل من الشعور بالقومية — اللهم إلا إذا استثنينا البلاد التي لا تزال تخضع لسلطان الاستعمار الغربي، ولكنها إحدى الوسائل التي يمكن أن يتم التوفيق بها بين القومية والمُثُل العالمية الحرة. وربما وصل الرجل العادي الإنجليزي أو الفرنسي — في صورة مخففة — إلى مثل هذه التسوية: لا بد في نهاية الأمر أن تتم المساواة والإخاء بين الناس، ويستطيع أبناء أمتنا في الوقت الحاضر أن يقودوا بقية العالم غير المتمدن إلى أوضاع أفضل. ولكن القومية يمكن أن تندفع حتى تمسي هجومًا على أفكار حركة التنوير، لا تعديلًا لها. إن صور القومية العديدة التي تَرفع مجموعة قومية إلى مرتبة السادة، وتهبِط بالمجموعات الأخرى جميعًا إلى مرتبة العبيد، أو التي تهدف إلى إسكان الأرض كلها بمجموعة واحدة مختارة، والقضاء على غيرها من المجموعات — مِثل هذه القوميات لا تتفق ومُثُل القرن الثامن عشر. ومن بين هذه القوميات التي تتعارض مع حركة التنوير، ليست الصورة الألمانية التي بلغت ذروتها في العقيدة النازية بالأمس فقط سوى أكثر الصور شهرة وأشدها اقترابًا من النجاح.

ذكرنا أن الداروينية قد عزَّزت في عقول العامة العقيدة في التقدُّم فوق هذه الأرض، وواءمت نفسها مواءمة كافية مع نظرة حركة التنوير المتفائلة إلى القدرات البشرية. وكذلك أمكن للقومية أن تتواءم — على الأقل في مُثُل الكتب النظرية التي ألَّفها مازيني — مع فكرة عالم مسالم من أفراد أحرار يعيشون عيشة معقولة في تسامح متبادل — بل في محبة متبادلة — وهناك كذلك تيار عظيم ثالث في الحياة العقلية والعاطفية في القرن التاسع عشر يعرض مشكلات أشد تعقيدًا بالنسبة إلى الاتجاهات السائدة في عصر «النثر والعقل». غير أن هذا التيار — تيار الحركة «الرومانتيكية» الكبرى التي ثارت على ثقافة القرن الثامن عشر، وهي من الاتجاهات التي تميَّز بها القرن التاسع عشر في بدايته — حتى هذا التيار في الصورة العريضة لتاريخ الغرب ليس في الواقع انحرافًا شديدًا عن حركة التنوير، ولكنه في الأغلب، ومن حيث أثره في اتجاهات العامة من الرجال والنساء إزاء «المشكلات الكبرى»، لنشاط الإنسان فوق الأرض، استمرار لحركة التنوير.

وليس هناك — أولًا — من شك في أن الجيل الذي عاش في مستهل القرن التاسع عشر قد نظر إلى آبائه نظرة فيها من الازدراء أكثر مما يحس به الرجل الغربي الحديث من احتقار عادي، هو احتقار الجيل الحاضر للجيل الذي سبقه مباشرة؛ فالشاب الذي تأثَّر كل التأثر بوردزورث اشترك مع وردزورث في احتقاره لكاتب مثل بوب الذي كان في رأيه ضحلًا، مغرورًا، ناثرًا، وليس البتة بشاعر. والشاب الفرنسي في عام ١٨١٦م — الذي ربما وُلد في المنفى، ثم أصبح كاثوليكيًّا متحمسًا — أحس باشمئزاز شديد من جَدِّه المسن، وكان من أتباع فولتير لا يعرف الندم، ويمقت رجال الدين، ويحب الحديث الجيد، والطعام الجيد، والنساء الساقطات. هنا في الواقع نجد نظام الأجيال المألوف معكوسًا، كما يبدو بصورة أقل وضوحًا في منتصف القرن العشرين؛ فالجيل الجديد هو الذي يَعُدُّ الجيل القديم منحلًّا لا يؤمن بالقيود والحدود.

وفي عبارة مجردة، وفي المصطلح المألوف في التاريخ الثقافي، نقول إن الكلاسيكية أو الكلاسيكية الجديدة في القرن الثامن عشر أعقبتها حركة رومانتيكية في مستهل القرن التاسع عشر، وكذلك المادية، والمذهب الاسمي، والتفتيت في حركة التنوير، أعقبتها المثالية، والتأكيد على الكل العضوي، في أخريات القرن التاسع عشر، كما أن مذهب الإيمان بالله مع إنكار الوحي، والإمعان في الإلحاد، والتشكك بين حين وآخر، والمناداة في أغلب الأحيان بتجريد رجال الدين من سلطاتهم في القرن الثامن عشر، أعقبه التوسُّع في إحياء الصور المسيحية في القرن التاسع عشر. وأقول في عبارة موجزة إن الانتقال إلى الأذواق الرومانتيكية هو من الأمثلة التقليدية للتحول السريع في كثير من أوجه الثقافة.

وإني لا أريد أن أنكر حقيقة هذا التحول، أو قيمة دراسته — وقد نال قسطًا كبيرًا من الدراسة وبخاصة من طلاب الآداب. إن الفارق بين صورة لواتو وصورة لدلاكروا، وبين قصيدة لبوالو وقصيدة للامارتين، وبين كنيسة على طراز القرن الثامن عشر النابي في ذوقه، وكنيسة على الطراز الغوطي الجديد، إنما هو من الفوارق الحقيقية الهامة. وأهم من ذلك الانتقال في الفلسفة من المذهب الاسمي إلى المذهب الواقعي، أو من العقل الجامد في الفلسفة إلى العقل المرن، على ألا تأخذ الجمود مأخذًا جديًّا مبالغًا فيه. وقد التقينا من قبلُ بهذا الانقسام الثنائي الأساسي في الفلسفة منذ عهد الإغريق. وككل الثنائيات يتفرع هذا الانقسام الثنائي إلى اتجاهات عديدة محيرة نلمسها إذا نحن قمنا بالتحليل الدقيق، ولكنه انقسام له فوائده على أية حال. ويجب أن نقف برهة لكي نرسم الخطوط العريضة للخطوات التي مرَّت بها الفلسفة من فلسفة العقل في القرن الثامن عشر إلى فلسفة القلب في القرن التاسع عشر.

إن اتجاه التفكير في القرن الثامن عشر في ميادين المعرفة العميقة يمكن أن يُستمد من بنتام، الذي قد يكون متطرفًا، ولكنه واضح بصفة خاصة. ويرى بنتام أن الإدراك الحسي حقيقي ولا يجوز الجدل فيه. وفي مستوى العلاقات الإنسانية تجعلنا حواسنا على وعي بوجود الكائنات البشرية، وهي نحن وغيرنا. وهذا كلُّ ما هنالك. فإن كل كائن بشري فرد، أو ذرة اجتماعية، وكل تجمع لهؤلاء الأفراد إنما هو تجمع أفراد. وليس قولنا: «الإرادة العامة»، و«روح الأمة» وما إلى ذلك سوى هراء وادعاء؛ فإن الجماعة لا تشعر ولا تفكِّر أو تعمل كما يستطيع الفرد. والكل لا يكاد حتى أن يكون مجموع الأجزاء، والكل في هذه الحالة (وأرجو أن تذكروا هنا المذهب الاسمي في العصور الوسطى) خيال، ولكنه خيال نافع، وهو برغم هذا من إنشاء العقل.

وقد بدأ الابتعاد عن هذا الموقف — كما يُظَن عادة — بالفيلسوف الألماني كانْت، الذي يُعتبر النصف الثاني من القرن الثامن عشر فترة إنتاجه. وكانْت فيلسوف محترف عسير الفهم. وربما ما زال بالنسبة إلى الرجل المتعلم المتوسط اليوم أحسن نموذج وخير ممثل للفلاسفة. وإذا أخذنا بالتمييز بين الواقعي والمثالي، قلنا إنه في مزاجه وتأثيره مثالي، مفكِّر مرن العقل. ولكنه — كآدم سميث في ميدان آخر — لم يكن البتة من المتطرفين. وكما أن تلاميذ آدم سميث في القرن التاسع عشر هم الذين ساروا بمبادئ الفردية الاقتصادية إلى حد التطرف فكذلك كان تلاميذ كانْت من أمثال هيجل الألماني في بداية القرن التاسع عشر هم المثاليين الأقحاح. وبالرغم من أن كانْت كان غامضًا كثير التفصيلات كالألمان، وبالرغم من انحيازه بشكل واضح إلى جانب الملائكة، فهو كذلك من الواضح ابنٌ من أبناء حركة التنوير. وقد أزعجه التطوير المنطقي الذي أحدَثه هيوم في الثنائية الديكارتية؛ ثنائية الروح والمادة وتحويله لها إلى تشكك في اتفاق العقل البشري مع العالم الخارجي، فشرع في حزمٍ ينقذ اليقين الفلسفي، وأرضى بعمله عددًا كبيرًا من الناس. وقد اتفق — في إيجاز — مع هيوم على أن التجارب التي نستقبلها والإدراك لا يعطياننا إلا أحكامًا اتفاقية متقلبة غير مؤكدة. بيد أنه وجد في العقل اليقين الذي كان يبحث عنه. والعقل عنده نوعان: عقل عملي، وهو الذي يبين لنا — بغير ذلك — عن طريق البصيرة الأخلاقية ما هو حق وما هو باطل في موقف معين، والعقل البحت الذي يصدر بطريقةٍ ما أحكامًا صحيحة بطريقةٍ لا نستطيع بمجرد الحساب العادي أن نصل إليها. ومن الواضح أن التفرقة بين الإدراك والعقل هي عين التفرقة بين المادة والعرض (ارجع إلى ما ذكرنا عن علوم الدين والفلسفة في العصور الوسطى في الفصل السادس) أي إنها تفرقة على أسسٍ تختلف عن الأسس التي يستند إليها رجال العلم، وربما كانت كذلك مختلفة عما نستخدمه في إدراكنا العام من أسس، وهي مختلفة قطْعًا عن الأسس التي يلجأ إليها أصحاب المذهب الاسمي.

وقد كانت ﻟ «العقل» سيرة رائعة بين صفٍّ من الفلاسفة الألمان يمتد من كانْت إلى فخت وشلنج وهيجل. ونحب هنا أن نركِّز اهتمامنا على هيجل، وهو أوسعهم شهرة، ويُعَدُّ مثالًا نموذجيًّا جدًّا في كثير من نواحيه. العقل عند هيجل رسالة من الروح العالمية، رسالة من الإله الكامن الذي يكاد يكون إله سبينوزا، أو الحقيقة العليا التي تحكم العالم، وقد وقع هيجل في الورطة التي وقع فيها المثاليون من قبله، كما يدلنا على ذلك مبدأ له نستشهد به أكثر من غيره، وهو قوله بأن الحقيقي معقول وأن المعقول حقيقي، وقد سبقه مواطن له في نهاية القرن السابع عشر، هو ليبنتز، عندما انتهى إلى أن هذا العالم لا بد أن يكون أفضل العوالم الممكنة، وهو الحكم الذي هاجمه فولتير بشدة في روايته «كانديد». وقد ذكرنا من قبلُ أن رجل الدين الذي يجزم بوجود إله عليم بكل شيء، قادر على كل شيء، فاضل من كل نواحيه، يجد أن مشكلة نشأة الشر مسألة وعرة. ولم يكن هؤلاء الفلاسفة في الواقع على أية حال ممن يعتقدون بوجود إله يكشف عنه الإنسان بطريقة تجاوز الطبيعة، ثم يكون هذا الإله بعد ذلك على صلة شخصية بمخلوقاته، بل ولم يكونوا ممن يؤمنون بوجود الله مع إنكار الوحي، مهما استخدموا لفظة «الله» فيما يكتبون. إنما هم يقدِّمون مبدأ، أو روحًا (وهي شيء لا يمكن أن تدركه الحواس)، وهذه الروح شيء أشبه بالقوة التي تحرك العالم كله، من الفئران إلى الناس، ولكنهم يقعون في معضلةٍ تشبه معضلة رجال الدين. ذلك أن الروح لا بد أن تؤدي عملها، ومِن ثَمَّ فإن كل ما هو موجود حق، وإلا لما وُجد. ومثل هذا الجدل يسيء إلى أفراد كثيرين، بل هو يضايق في أغلب الأحيان المفكر الذي يثيره.

لم يكن هيجل قدَريًّا، إنما كان ألمانيًّا وطنيًّا أراد أن يغيِّر بعض الأشياء على الأرض وأراد — مثلًا — أن يحطَّ من قدْر العادات الفرنسية، ويرفع من شأن العادات الألمانية. وقد خرج من معضلاته المنطقية — أو ظن أنه خرج منها — وذلك بإطلاق ما أسماه «الروح العالمية» تعمل في التاريخ، والزمان بخطةٍ كاملة، ولكنها غير ثابتة أو مستقرة. وهذه العملية، التي زاد من شهرتها تلميذه كارل ماركس، عُرفت بالطريقة «الجدلية». تضع الروح فكرةً ما كالحرية الإغريقية تثير بطريقةٍ ما عكسها تمامًا، وهو في هذا المثال الاستبداد الشرقي، وهو عكس فكرة الحرية الإغريقية. الفكرة وضدها، مجسدتان في الإرادات والشهوات البشرية، تتصارعان في سلسلة عظيمة من ضروب الكفاح تنظمها الروح العالمية، ومن هذا الكفاح أخيرًا تصدر «الفكرة المركبة»، وهي في هذا المثال «الحرية المنظمة» الجرمانية وفيما يلي نموذج لا يمثِّل هيجل أفضل تمثيل في آرائه وطرائقه — وذلك لأن النموذج يعالج وقائع محسوسة يفترض أكثرنا أنها لا تتضح فعلًا بنوع العمل الذي يقوم به هيجل:

«إن خير جواهر الأرض هو الألماس الذي يَسُرُّ كلَّ عين، لأنها ترى فيه الثمرة الأولى (الفكرة المركبة) التي تتولَّد عن التقاء الضوء (الفكرة) بالثقل (عكس الفكرة) والضوء مجرد، هويته حرة حرية كاملة — والهواء يمثِّل هوية العنصر الأول، أما الهوية الثانوية فهي السلبية الكامنة في الضوء، ومِن ثَمَّ كان شفوف الجوهر. أما المعدن — من ناحية أخرى — فهو معتِم، لأن الجزيء فيه يتركز في وجود مستقل بذاته عن طريق الكثافة النوعية العظمى.»

إن الفكرة المركَّبة ليست توفيقًا بين الفكرة وضدها، وليست توسطًا للفارق بينهما، ولكنها شيء جديد كل الجدة، يتولَّد عن كفاح سار. ومن الحق أن هيجل ربما ظن أن المرحلة البروسية من نضجه العلمي كانت نهاية العملية، أو الفكرة المركبة الكاملة. غير أن النقطة الهامة بالنسبة إلينا التي ينبغي ألا تفوتنا فهي أن المثالية الفلسفية الشكلية ذاتها، التي تميل إلى تأكيد الثابت على المتحرك، والمستقر على المتغير، كانت لا بد أن تتلاءم في هذا القرن التاسع عشر مع الشعور القوي بالزمان، وبالتحول، والتغير، والتقدُّم، والتطور.

وأهم من تفصيلات هذه الفلسفات المثالية بالنسبة إلينا نجاحها؛ فقد كان لها مركز الصدارة في ألمانيا منذ بداية القرن، وفي إنجلترا — وبخاصة في الدوائر العلمية — تغلبت تدريجًا على المقاومة الممثلة في المذهب التجريبي الذي كانت له تقاليد قوية في بريطانيا. ولما أشرف القرن على نهايته كان ت. ﻫ. جرين وبرادلي، وبواسنكيه — وكلهم مثاليون — أبرز الفلاسفة المحترفين بالتأكيد. وفي الولايات المتحدة تردَّد صدى مثالية جوشيا رويس من فوق المنابر وكراسي الجامعات، بل لقد غزت المثالية فرنسا، بلد المنطق البسيط الرزين؛ حيث كانت اللغة لا تميز بسهولة بين «الإدراك» و«العقل» كما يتميزان في اللغة الألمانية، وفي قرنٍ فيه كثير من الحرية الفكرية كالقرن التاسع عشر، لم يكن بوسع مدرسة فلسفية أيًّا كانت — بطبيعة الحال — أن تسير الأمور وفقًا لطريقتها وحدها. فازدهرت أشكال عديدة من المادية، والوضعية، والبراجماتية، وغيرها من الفلسفات التي تصدر عن عقول جامدة عمدًا، ازدهرت حتى في ألمانيا. والواقع أن المفكر الإنجليزي هربرت سبنسر حاول نوعًا من «التلخيص» لمادية القرن التاسع عشر التطورية العلمية، وظل أجيالًا عديدة نوعًا من أنواع الأبطال الثقافيين للشعوب «المتقدِّمة» بوجه عام.

ويتضح من ذلك أن الشخص المتعلم العادي — وكان هناك في أواخر القرن التاسع عشر ملايين الأشخاص من هذا الطراز في العالم الغربي — قد غيَّر في المائة سنة التي أعقبت الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية كثيرًا من اتجاهاته الفكرية. وقد أكدنا فيما سبق التحول الذي حدث في الفلسفة الشكلية الأكاديمية، من لوك أو بنتام مثلًا إلى هيجل وبوسانكيه. وقد تقول إن الفلسفة الشكلية لم يكن لها قطُّ تأثير بالغ حتى على عامة المتعلمين وتستطيع أن تضيف إلى هذا القول هذه الحقيقة الخاصة: وهي أن الفلسفة بحلول القرن التاسع عشر كانت بسبيل التحول إلى موضوع تخصص أكاديمي بحت، لا يكاد يراه إلا الأساتذة، فكان بذلك يزداد انقطاعًا عن عامة المتعلمين. غير أن هناك صنوفًا كثيرة أخرى من الاختبار، كالفن، والأدب، والدين. وكان الرجال والنساء في كل ذلك يميلون في القرن التاسع عشر إلى الحط من قدْر آبائهم وأمهاتهم في القرن الثامن عشر، ويعدونهم سطحيين، نثريين، معرفتهم ضحلة، لم يشعروا أو يفكِّروا قطُّ في الواقع شعورًا أو تفكيرًا عميقًا. كانوا قومًا لم يعيشوا حياتهم كاملة.

ومع ذلك فإن هذه الفوارق تصبح باهتة أمام هذه الحقيقة: إن كلا القرنين يشتركان في أساسيات النظرة الكونية الحديثة. وكلاهما يعتقد التقدُّم هنا فوق هذه الأرض، وكلاهما يؤمن بأن انقلابًا أساسيًّا يمكن أن يحدث في كل نظام من النُّظم هنا مما يضاعف السعادة ويخفف من الآلام. وكلاهما في الصميم متفائل يؤمن بالتحسُّن. والعناصر الرومانتيكية والمثالية في ثورة القرن التاسع عشر على القرن الثامن عشر ربما ينبغي في المنطق الصارم أن تجعل العقيدة المتفائلة بإمكان الكمال البشري أمرًا مستحيل الوقوع. وإحياء العاطفة، والخيال، والشعور بالكليات العضوية كان لا بد أن يجعل الفردية التي ينادي بها مبدأ «دعه يعمل» والارتباط البسيط الساذج بمشروعات الإصلاح، والآمال العريضة في انقلاب سياسي في السلوك البشري، أمورًا أقل شيوعًا. وقد استخرج بعض الناس بعض أمثال هذه النتائج من الثورة ضد عصر النثر وعصر العقل، ولكن رجل الشارع لم يفعل ذلك. وقد تمثل الطبيعة للقرن التاسع عشر مناظر الطبيعة الوحشية، والملاهي الهمجية، والوفرة بغير تدبير، بدلًا من الحقول الهادئة، والفن التقليدي، والنظام والتسوية التي كانت تبدو طبيعية في القرن الثامن عشر. غير أن الطبيعة كانت في كلا القرنين حليفًا مواسيًا للإنسان، تكاد تتغلب على كل خصومه غير الطبيعيين فلا تكون لهم بعد ذلك عودة أو رجعة. وفيما كتب لويس مورجان العالم الأمريكي في الأنثروبولوجيا في عام ١٨٧٧م صدًى لما كتب كندرسيه قبل ذلك بقرن من الزمان. يقول مورجان:

«الديمقراطية في الحكم، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق والامتيازات، وتعميم التعليم، كل ذلك يشير إلى المستوى الأعلى التالي في المجتمع، المستوى الذي تتجه إليه التجارب، والذكاء، والمعرفة، بخطوات مطردة.»

التوفيق في عهد فكتوريا

ليس من شك في أن في محاولة رسم الخطوط العريضة للنظرة العالمية للرجل المتوسط من أهل الغرب في القرن التاسع عشر أمرًا عسيرًا؛ لأن الأوساط في الغالب لا يوجَدون في الحياة. ثم إن التنوُّع الذي نلمسه في القرن العشرين هو كذلك حقيقة من حقائق القرن التاسع عشر، ومع ذلك فإن القرن التاسع عشر هو القرن العظيم بالنسبة إلى النفوذ والقوة الإنجليزية؛ فالرجل الإنجليزي هو الذي وضع المعايير حتى لتلك «السلالات الأدنى منه» والتي كانت تمقته. كان الرجل الإنجليزي العادي من الطبقة الوسطى هو أنجح بني الإنسان في القرن الماضي، وأعظمهم أملًا، وأكثرهم تمثيلًا للإنسان. كان الوريث الواضح لحركة التنوير، ولكنه مارس ممارسة كاملة الاتجاهات المتنوعة للمبادئ المعادية لهذه الحركة. وقد قاد المعركة ضد الثورة الفرنسية. ورحَّب شعراؤه وواعظوه وفنانوه جميعًا بالأعماق الجديدة للشعور الذي جلبته الحركة الرومانتيكية. ولم تكن تقاليده بالتأكيد تميل إلى جانب الإيمان بالكمال، ولم تكن مشجعة لأولئك الذين كانوا يأملون أشد الأمل في التحول السريع (الذي يسير على نهج معين) في السلوك البشري — كان أكبر المنتفعين من الثورة الصناعية، عضوًا في أعظم وأقوى دولة في عالم تتنافس فيه الدول. ولم تكن وطنيته بحاجة إلى أن تنم عن لمسة من لمسات عقدة النقص؛ لأن الرجل الإنجليزي. كان في قمة العالم، وما فعله بميراث حركة التنوير جدير بالبحث.

كان الرجل الإنجليزي يؤمن بالتقدُّم المادي. والواقع أن الناس في كل أنحاء العالم الغربي كانوا في ذلك الحين يسلِّمون بأن المشروعات الاقتصادية والمخترعات لا بد أن تؤدي إلى مزيد من وسائل الراحة. وظهرت «المدائن الفاضلة» مزودة تزويدًا كاملًا بالحِيَل الآلية التي كثيرًا ما كانت تنتهي باستغلالها في الإنتاج. ومِن ثَمَّ فإن إدوارد بلامي الأمريكي — الذي يُعتبر كتابه «النظر إلى الوراء» الذي نشره في عام ١٨٨٩م أشهر هذه الجنات الآلية — يتخيل أن شخصية البطل رب فان وينكل التي بدعها تتعجب من حيلةٍ آلية يمكن بضغط أحد أزرارها أن يتدفق في الحجرة فيضٌ من الموسيقى. ولكن المتنبئين مع ذلك كانوا يخطئون أحيانًا؛ فقد تنبأ باكولي في الدفعة الأولى من التحمس للسكك الحديدية أن القرن العشرين ستنعدم فيه الطرق العامة والشوارع؛ لأن كل شيء سوف يتحرك فوق القضبان. واعتبر الرجل الفكتوري الرفاهية المادية أمرًا لا بد من تحقيقه. لم يكن يُخجِله أن يعيش عيشة مريحة، ولم يأبه كثيرًا بالنقص البادي في منتجات الآلات من الناحية الجمالية. وكان يعلم بوجود فنانين من أمثال رسكن وموريس الذين كانوا يرون أن هذه السلع الرخيصة المصنوعة بالآلات كانت كئيبة إلى درجةٍ يُرثى لها، ولكن ليس هناك ما يدل على أن علمه بذلك قد أمسك بيده عن الشراء.

كان الرجل في عهد فكتوريا على ثقةٍ تامة بأنه يعرف لماذا تدفقت هذه الرفاهية المادية على بريطانيا العظمى. ذلك أن الشعب البريطاني في عقيدته موهوب بصفة خاصة في القدرة على الابتكار، وقوة التفكير، والاختراع، وحب العمل الشاق. كان هذا الشعب — في عبارة موجزة — يملك الصفات الإنسانية الضرورية للنجاح. ولكنه كان كذلك يعتقد أن هذا الشعب يملك مجموعة من النُّظم، والوسائل الاجتماعية والسياسية للقيام بالأعمال المختلفة، اللازمة لهذه المواهب لكي تؤتي ثمارها. ويسوقنا ذلك إلى العقيدة الكبرى في عهد فكتوريا في المذاهب الاقتصادية التي تأخذ بمبدأ «دعه يعمل». ولم يكن ذلك بطبيعة الحال لأن رجال الأعمال كانوا جميعًا اقتصاديين، ولكني أقول كذلك إن المسيحيين ليسوا جميعًا من الدارسين لأصول الدين. والواقع أن لدينا في هذا الموقف مثلًا من الأمثلة الكلاسيكية لاتخاذ العامة لمبادئ من وضع رجال الفكر. الاقتصاد هو أكثر العلوم الاجتماعية تطورًا، وله تاريخه الخاص، الذي يحتاج لسرده كله إلى مجلد في ضخامة هذا الكتاب على الأقل. وقد التقينا به من قبلُ في هذا الكتاب، ولكن لقاءنا معه كان عرَضيًّا. ومهما يكن من أمر فإن الآراء التي تتعلق بكيفية توجيه الإنتاج وتوزيع الثروة توجيهًا صحيحًا — في القرن التاسع عشر — ولا أقول مجرد الآراء التي يوحي بها الإدراك العام أو التقاليد والتي تتصل بطريقة معينة من طرق كسب العيش، وإنما الآراء المتطورة تطورًا كاملًا في إطار نظري له نتائجه السياسية والخلقية — هذه الآراء شاعت شيوعًا عامًّا. وأقول في إيجازٍ إن في النظرة الكونية الفكتورية عنصرًا اقتصاديًّا قويًّا.

والمبدأ الأساسي بسيط، وهو أن الأفراد، أو الأفراد المشتركين بحريتهم في شركات مساهمة مشتركة (ولا أقول المشتركين في الاتحادات بالمعنى الذي يفهمه منها الرجل الذي يمثل روح القرن التاسع عشر) يجب أن يصنعوا، وأن يشتروا، وأن يبيعوا ما يشاءون وبأية طريقة شاءوا. وإنما تُحدِّد الأسعار والمعايير حرية هذه المنافسة طبقًا لقانون العرض والطلب (وهو قانون كان الفكتوري يظن أنه في أساسه كقانون الجاذبية). ومن مثل عمليات المنافسة هذه يتوافر — بقانون الطبيعة — الحد الأقصى من السلع، ويتوزع بالحد الأقصى من العدالة الاجتماعية، فيحصل كل فرد بالضرورة على ما كسبه بموهبته وعمله. ويجب أن يستمر النشاط الاقتصادي دون أي تدخُّل من سلطات الحكومة تقريبًا، ويحتاج رجل الأعمال — على أية حال — إلى أن يكون هناك نوع من أنواع تنظيم العقود على الأقل، وبالرغم من أن الأعمال الأنانية التي يقومون بها يكون لها عادة وقْع طيب على المجتمع، إلا أن بعضهم يتجاوز حدوده أحيانًا. ومقاومة الخداع إذن واجبة، كما أن هناك حاجة إلى ممثلي الحكومة لتنفيذ العقود. إلا أن القوانين الإيجابية من جانب الحكومة، كتقرير حدٍّ أدنى للأجور — مثلًا — لا ينبغي أن يسمح لها بالتدخل في انسجام الطبيعة. وهناك في الواقع نتيجة حتمية في الاقتصاد القديم، وضحت بالفعل من قبل في مؤلفات آدم سميث؛ وهي أن الاحتكار — أو السيطرة على أي سوق بأي تنظيم تجاري منفرد، هو أعظم الشرور. غير أن كثيرًا من الاقتصاديين القدامى وأتباعهم — وهم في ذلك من أبناء حركة التنوير الأبرار — اعتقدوا أن الاحتكار في الواقع من «خلق» الحكومات نتيجة للتراخيص والتعهدات وما إلى ذلك مما تعمل. واعتقدوا أن رجال الأعمال لو تُركوا لأنفسهم لا يخلقون الاحتكار من تلقاء أنفسهم طائعين، وذلك بالرغم من أن آدم سميث — بما عُرف عنه عن إدراك طيب سليم — لم يَسَعه إلا أن يلاحظ أن التجار كلما تجمعوا حاولوا أن يتحدوا وأن يشكلوا لونًا من ألوان الاحتكار. ولما اتضح — وبخاصة في أمريكا في القرن التاسع عشر — أن الاحتكار، أو التوكيل، كان يوجد بهذه الطريقة، امتد المبدأ الاقتصادي: «دعه يعمل» من غير تحوير إلى سيطرة الحكومة — فيما عدا تنفيذها للعقود — ليخضعها له. إن الاحتكار الذي يَحُدُّ من التجارة يمكن أن يحرِّمه القانون، كما يمكن للدولة أن «تحتم المنافسة».

هذه، في صورة مختصرة، هي النظرية الاقتصادية الكلاسيكية كما تسرَّبت إلى رجال الأعمال في القرن التاسع عشر في صيغةٍ مبسطة نسبيًّا. ولكن المبدأ لاقى معارضة من بعض المفكرين على الأقل، كما سنبين في الفصل التالي. ولم يتردد العمال في محاولة انتهاك قانون العرض والطلب في العمل، وذلك بتنظيمهم أنفسهم في نقابات عمالية منذ بداية القرن. ومع ذلك فإن بعض اتجاهات الاعتماد على معاونة المرء لنفسه وعلى الابتكار الفردي، وعدم الثقة بتنظيم الحكومة للنشاط الاقتصادي، تسرَّبت إلى الطبقات العاملة. ولا يزال المبدأ القديم: «دعه يعمل»، المَثل الأعلى، والعقيدة المقدسة في المجتمع التجاري والمهني في أمريكا — وذلك بالرغم من أن هذا المجتمع قد اضطُر إلى أن يكيِّف سلوكه طبقًا لعالم واقعي أبعدَ ما يكون عن العالم الذي يأخذ بالنظرية الاقتصادية التقليدية.

والواقع أن النظرية التي تنادي بأن تسير الدولة على مبدأ: «دعه يعمل» مثال رائع للمشكلة المعقدة، التي لم تُفهم قطُّ فهمًا جيدًا، مشكلة العلاقة بين نظريات العلاقات الإنسانية والحياة الواقعية في هذه الدنيا. وهذه العلاقة كما ذكرنا من قبلُ ليست هي نفس العلاقة بين قانون الجاذبية وعمل المهندس. والواقع أن كثيرًا ممن يدرسون شئون الناس اليوم يقفون موقفًا يشبه موقف جورج سورل الفرنسي صاحب النظريات السياسية، الذي يسمي النظريات من هذا القبيل «أساطير». والمؤمنون بهذه الأساطير يكتسبون الشجاعة من عقيدتهم، ويجدون الأساطير نافعة من كثير من الوجوه. بيد أن الأساطير ليست تعميمات تحليلية للواقع. ويجب أن نعود إلى هذا التفسير الذي لا يتفق والعقل في فصل مقبل. ومن العسير أن نلفظ التفسير جملة واحدة، وبخاصة فيما يتعلق بالنظريات الاجتماعية الضخمة. وربما استطاع الرجل الأمريكي أن يفهم المشكلة على خير وجه من نظرية حقوق الولايات، وهي النظرية التي نألفها جميعًا. في عام ١٨١٤م في مجمع هارتفورد لجأت ولايات إنجلترا الجديدة إلى النظرية وهدَّدت بالانفصال. ولم ينقضِ بعد ذلك قرنٌ من الزمان حتى حاربت هذه الولايات نفسها لكي تمنع الولايات الجنوبية من أن تفيد من التجائها إلى نفس النظرية. ويمكن أن يُقال إجمالًا أن الجماعات السياسية الأمريكية المتنوعة أشد تنويع لجأت من حين إلى آخر إلى نظرية حقوق الولايات.

فإذا كانت نظرية: «دعه يعمل» يمكن تكييفها كنظرية حقوق الولايات، فإنا نتوقع من رجال الأعمال أن يعارضوا في تدخل الدولة ويؤيدوا الابتكار الفردي في بعض الأحيان عندما يجدون أن مثل هذه السياسة تتفق ومصالحهم الخاصة كما يرونها، ولكنهم يقبلون تدخل الدولة إن كان ذلك في مصلحتهم، وهكذا كانوا. وحتى المجتمع التجاري البريطاني؛ ذلك المجتمع الذي استطاع في منتصف القرن التاسع عشر أن ينشر في البلاد مبدأ التجارة الدولية الحرة — قَبِلَ دون عناء كبير مجموعةً بأكملها من قوانين الحكومة التنظيمية التي تتعلق بالمصانع، وتشغيل الأطفال، وتنظيف المداخن، ونقابات العمال، وما إليها، وأكثرها من وحي بنتام. وكذلك أُمِّمت التلغرافات البريطانية تقريبًا من بداية الأمر في عام ١٨٥٦م. وفي أقطارٍ أخرى — وبخاصة في ألمانيا والولايات المتحدة — لم يُبدِ مجتمع رجال الأعمال استياء قط من حيث المبدأ، وعلى وجه العموم (بل وبالتفصيل أحيانًا) من شكل من أشكال السيطرة الحكومية الصارمة عُرف بالرسوم الجمركية. وكان أشد المنادين بالفردية حماسة في الولايات الغربية من الولايات المتحدة هم أعلى الناس صوتًا في المناداة ﺑ «الإصلاحات الداخلية» التي تدفع نفقاتها الحكومة الفيدرالية وتنفِّذها. ويمكن أن نقول إجمالًا إن التجربة الأمريكية دلَّت على أنه بالرغم من أن الاتجاه الذي يُنتظر أن يسلكه الرجل الأمريكي هو التشهير بالسياسة، والساسة، وإنفاق الحكومة، إلا أن قلة صغيرة جدًّا من الجماعات الأمريكية قد رفضت السماح للحكومة الفيدرالية بإنفاق المال على هذه الجماعات.

ومع ذلك فإننا بعد كل هذا التعديل الذي ذكرنا عن نظريات الاقتصاد الكلاسيكي — وهو تعديل في غاية الأهمية — وبعد إدراكنا أن وقائع الحياة الاجتماعية لا تتفق قط مع هذه النظريات، بعد هذا كله نلمس اندفاع هذا المثل — أو هذه النظرية — بعيدًا عن اتجاه السلطة، ونحو اتجاه الحرية الفردية. ولكن مبدأ «دعه يعمل» لا يدخل في الحياة في عهد فكتوريا باعتباره مذهبًا مطلقًا، ولكن باعتباره جزءًا من هذا الأسلوب يشجع — وبخاصة في حياة رجال الأعمال — أولئك الذين يمكنهم أن يجرِّبوا طرقًا جديدة، وأولئك الذين يستطيعون المغامرة. ومعنى هذا التشجيع أن من الرجال مَن حاول طرقًا جديدة لم تكن ناجحة، ومعناه أنه كان هناك فاشلون، كما كان هناك ناجحون. معناه حقًّا أن عددًا من الكائنات البشرية يريد أن يرفع مستواه — مستواه المادي ومركزه الاجتماعي — أكبر ممن يستطيعون ذلك فعلًا. كان معناه — كما سوف نرى — أن الحاجة كانت ماسة إلى قوةٍ ما، إلى نوع من أنواع العقائد والعمل الاجتماعي لتعوض الفردية المتطرفة، وهي الفردية التي أطلق عليها المثاليون الألمان ساخرين: «مبدأ الذرية» في كثير من نواحي النشاط الاقتصادي والاجتماعي في الغرب.

وأكثر الأمريكيين يعرفون لبَّ هذه العقيدة الفكتورية الاقتصادية الخلقية. والواقع أن لدينا عبارات محببة إلى نفوسنا نعبِّر بها عنها فنقول: «الفردية الوحشية»، ولها عدة أشكال، منها عدم الثقة عامة بالحكومة، والسياسة، والسياسيين، مما ذكرنا آنفًا. وهناك مجموعة كبرى من الحِكم الشعبية، مثل: «جدِّف في زورقك وحدك»، و«الله يعين مَن يعينون أنفسهم»، وكثير غير ذلك مما يشير إلى انعدام الثقة هذا في «الحكومة» كعنصر من العناصر الأساسية في ثقافة الغرب، لا يجد في القرن التاسع إلا مجرد التأييد له، وانتشاره بين جميع الطبقات.

إن القرن التاسع عشر يشهد في كل أنحاء العالم الغربي درجة من درجات الاعتقاد في الفردية، الاعتقاد الذي يجد نوعًا من أنواع التبرير النظري والتأييد في مبدأ «الحقوق الطبيعية». وقد رأينا أن هذا المبدأ قديم جدًّا في الواقع، وقد كانت الحقوق الطبيعية — مثلًا — في العصور الوسطى مِلكًا للأفراد، ولكن بغير مساواة، بل وبغير إطلاق، وإنما كجزء من مركَّب العادات والتقاليد بأسْره الذي نشأ فيه الأفراد. والتقت الحقوق بالعقل في تفكير القرن الثامن عشر، ولما أشرف القرن على نهايته أصبحت «حقوق الإنسان» أمرًا مألوفًا. وكان المضمون المحسوس لهذه الحقوق يختلف باختلاف المفكر السياسي الذي كان يطالب بها، ولكنه صِيغ في قوانين وإعلانات للحقوق، وبخاصة في الولايات المتحدة وفرنسا. وكان الرجل الإنجليزي في أيام فكتوريا يحس في الأغلب أنه يملك الحقوق دون الحاجة إلى أي تعبير صريح عنها.

وجوهر فكرة الحقوق هذه هو أن الفرد — أي فرد وكل فرد — يستطيع أن يسلك مسالك معينة بالرغم من أن الأفراد أو مجموعات الأفراد الأقوى والأغنى لا تريده أن يسلك هذه المسالك. ومن الجماعات التي لا ينبغي أن تتدخل في سلوكه مسلكًا معينًا تلك الجماعة القوية التي نسميها الدولة. والواقع أن «الدولة» هي الجماعة المنظمة التي كان الشكل الذي اتخذه مبدأ الحقوق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مصوَّبًا إليها. وكانت الحقوق تتضمن عادةً حرية الكلام، وحرية المشروعات الاقتصادية (ويُعبَّر عنها عادة بحرية «الامتلاك») وحرية الاجتماع في غالب الأحيان، كما تضمن حقًّا مفهومًا على الأقل في مستوًى أدنى معيَّن للمعيشة، ويتخذ هذا الحق أبسط صورة له في حق المرء في أن يعيش. وهذه الصورة عن حقوق الأفراد هي في أساسها المعادل الحديث للصورة المسيحية عن قداسة الروح الخالدة عند كل إنسان، والصورة الإنسانية عن كرامة الإنسان. وهي صورة معادلة مجردة — تجردت من أكثر ما في المشاعر المسيحية من عمق وغموض. ولكن فكرة «الفردية الوحشية» العامة، بل المبتذلة، محسوسة في التقاليد الغربية. كما أن الإنكار الشامل لحقوق الأفراد ليس له وجود فيها.

وليس الأمريكيون بحاجة إلى أن يذكروا أن هذه الحقوق ليست في ممارستها مطلقة، ثابتة لا تتغير، وأن الدولة — على سبيل المثال — تستطيع أن تستولي على ملكية أي فرد للصالح البين العام — وإن كانت الدولة في نوع مجتمعنا لا بد أن تعوِّض المالك — وأن الدولة، بل والجمعيات العديدة المتطوعة، تستطيع لحماية الأخلاق أن تَحُدَّ من حرية الفرد في الكلام، وأن المجال المحدود الذي يستطيع المرء — في إيجاز — أن يختص به نفسه في ظل هذا المبدأ يمكن أن يتلاشى كله تقريبًا في بعض الأحيان. ولسنا كذلك بحاجةٍ إلى أن نذكر أن هذا المجال الضيق في القرن الماضي — أو فيما يقرب منه — منذ العهد الفكتوري الأوسط قد انكمش حتى في الولايات المتحدة ولا تستطيع أن تجد تعريفًا أحسن تعبيرًا عن المجالات التي كان الرجل المتحرر المخلص في عهد فكتوريا يعتقد في ضرورة تقديسها بالنسبة إلى الفرد من مقال جون مل «عن الحرية» في عام ١٨٥٩م. وفي كتابات مل أجزاء صداها اليوم في مسامعنا يشبه كتابة رجل محافظ يدافع عن الفردية العتيقة ضد «القانون الجديد».

غير أن مل مغرق في التفكير، وأنت تستطيع أن تدرك إدراكًا أوسع لإحساس الرجل الفكتوري العادي من كتابٍ يذكره كل المؤرخين الاجتماعيين، وإن لم يقرأه أحد؛ لأنه ليس بالكتاب العظيم بأي معنًى من المعاني. هذا الكتاب هو «عاونْ نفسك» لصمويل سمايلز، الذي نشره في عام ١٨٦٠م في نفس الوقت تقريبًا الذي نشر فيه داروين كتابه «أصل الأنواع» ونشر فيه مل مقالًا «عن الحرية»:

… يتضح لنا يومًا بعد يوم ونزداد إدراكًا أن وظيفة الحكومة سلبية مانعة أكثر منها إيجابية فعالة؛ فهي ترجع أساسًا إلى الحماية — حماية الحياة، والحرية، والملكية. ومِن ثَمَّ فقد كانت الإصلاحات الرئيسية في الخمسين السنة الأخيرة تنحصر أساسًا في إلغاء وإبطال بعض التشريعات، ولكن ليست هناك قوة أو قانون يستطيع أن يحمل الكسول على الجدِ، والمستهتر على الحرص، أو مدمن الشراب على الصحو. وإن كان كل فرد يستطيع أن يتصف بإحدى هذه الصفات أو بها كلها إن أراد، وذلك باستعمال قدراته الحرة على العمل وإنكار الذات. والواقع أن كل الخبرات تثبت أن قيمة الدولة وقوَّتها لا تتوقف على شكل دستورها بمقدار ما تتوقف على صفات أبنائها؛ لأن الأمة ليست إلا مجموع الظروف الفردية، وليست المدنية ذاتها إلا مسألة تقدُّم الأشخاص … إن صفة الجماعة في الأمة — بحكم الطبيعة — لا بد أن تجد نتيجتها التي تلائمها في قوانينها وحكومتها، كما يجد الماء مستواه. الشعب النبيل لا بد أن يُحكم حُكمًا نبيلًا، والشعب الجاهل الفاسد لا بد أن يُحكم حُكمًا غير نبيل. والواقع أن الحرية نمو أخلاقي بمقدار ما هي نمو سياسي — هي نتيجة العمل الفردي الحر، والنشاط الفردي الحر، والاستقلال الذاتي الحر — وقد تكون الطريقة التي يحكم بها المرء من خارج نفسه ذات خطر قليل نسبيًّا، في حين أن كل شيء يتوقف على الطريقة التي يحكم بها نفسه من داخله. إن أشد العبيد ذلًّا ليس ذلك الذي يحكمه حاكم مستبد، بالرغم مما في ذلك من شرٍّ عظيم، وإنما هو ذلك الذي يتحكم فيه جهله الأخلاقي، وأنانيته، ورذيلته. لقد كان — وربما لا يزال — هناك في الخارج مَن يُسمَّون وطنيين، يَحسَبون أن أعظم خطوة نحو الحرية هي قتل الحاكم الظالم المستبد، ناسين أن هذا الحاكم إنما يمثل عادة في صدق وإخلاص شديد ملايين البشر الذين يسودهم، ولكن الأمم المستعبَدة في صميمها لا يمكن أن تتحرر بأي استبدال في السادة أو النُّظم، وما دام الضلال القاتل قائمًا، وما دامت الحرية تتوقف فقط على الحكومة، وتنحصر فيها، فإن مثل هذا الاستبدال — مهما يكن ثَمنه — لا تكون له إلا نتيجة دائمة عملية محدودة، كأن التحول لا يعدو أن يكون انتقالًا من صورة إلى أخرى في «خيال الظل». إن الأسس المتينة للحرية يجب أن تستند إلى الصفات الفردية. وهي كذلك الضمان الأكيد الوحيد للأمن الجماعي والتقدُّم القومي. وذلك هو أساس القوة الحقيقية للحرية الإنجليزية. إن الإنجليز يَحُسُّون أنهم أحرار، لا لمجرد أنهم يعيشون في ظل تلك النُّظم الحرة التي بنَوها بمشقة كبرى، بل لأن كل عضو في المجتمع عنده جذور الموضوع في نفسه إلى درجةٍ ما — كبيرة كانت أو صغيرة. وهم يتمسكون بحريتهم تمسُّكًا شديدًا ويتمتعون بها لا عن طريق حرية الكلام فحسب، وإنما كذلك عن طريق حياتهم الثابتة وعملهم الناشط باعتبارهم أفرادًا أحرارًا.

وفي هذه الفقرات الصغيرة قدْر هائل من العقائد الفكتورية التقليدية — ومنها الإنكار الاسمي بأن الكل قد يكون أي شيء سوى مجموع أجزائه، وهو اتجاه معهود في ذلك الحين. ولكن سمايلز يضع في وضوحٍ أشدَّ من هذا العامل الذي يوازن الفوضى الفردية الظاهرة التي بشَّر بها. يقول:

«… وهكذا نعرض ما كان لأمد طويل موضع الإعجاب عند الأجانب — نشاط صحيح للحرية الفردية، مع طاعة جماعية — برغم ذلك — للسلطة القائمة — العمل الناشط الطليق للأشخاص، مع الخضوع المتشابه عند الجميع للقانون الوطني، قانون «الواجب»».

والتوازن هو ذلك الذي وصفه شو بفطنته بالعبارة الشهيرة «الأخلاق الفكتورية» أو «أخلاق الطبقة الوسطى»، وهو ذلك الأمر الذي ثار عليه جيل السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر ثورة عنيفة، وربما كان هؤلاء الثائرون، الذين كانوا كذلك من المثقفين الذين أساءت إليهم الأذواق الفكتورية وميادين النجاح الفكتوري، رواةً ضِعافًا لحقيقة الأعمال الفكتورية. ومع ذلك فإنك إن قصدت مباشرة إلى كتَّاب الرواية الفكتوريين — وبخاصة إلى ترولوب — لوجدت أن الفرد — على الأقل في الطبقة الوسطى والطبقة العليا والطبقات الحاكمة — يتقيد بقانونٍ صارم للسلوك، وهو تدريب اجتماعي دقيق، وهو يوجد بطبيعة الحال في جميع المجتمعات على النظام، وادماج نفسه في الجماعة عن رغبة. وهذا التكيف يتم عن طريق تدريب اجتماعي دقيق، وهو يوجد بطبيعة الحال في جميع المجتمعات على صورة من الصور، والمفروض أن الحياة الاقتصادية في المجتمع الفكتوري كانت تسير على غير نسقٍ، في حين أن الحياة الاجتماعية كانت تخضع للنظام. وكان تأكيد الحرية يوازن بتأكيد السلطة.

ولسنا بحاجة إلى أن ندخل في تفصيل شديد فيما يتعلق بهذا الناموس السلوكي. إنه يستحق الدراسة المباشرة في مخلفات الثقافة الفكتورية ذاتها، وهي على قرْبها منَّا، وعلى أنها جزء منَّا، بعيدة عنَّا في منتصف القرن العشرين. وربما وجد الأمريكي الحديث أن البناء الاجتماعي والأخلاقي للأسْرة غريب عنه جدًّا. الأسُرة بحجمها الكبير نسبيًّا، والسلطة الكبرى للأب، والتربية الصارمة التي يتعرض لها الأطفال، وإخضاع الإناث للذكور، وندرة الطلاق، بل والفزع منه. إن أكثر الآباء الفكتوريين شفقة ما كان يطرأ على باله أن يعامل أطفاله ﺑ «التسامح» وهو السلوك العصري في أكثر الأسر الأمريكية. إن كتاب صمويل بتلر «طريق الجسد» هو من تأليف ثائر مفكر جدًّا، والصورة التي يرسمها الأب الفكتوري قد تكون باطلة وشاذة، ولكن الأب الذي رسمه بتلر كان لا يمكن أن ينشأ في أي مجتمع آخر.

وما بدأته الأسرة واصلته المدارس الداخلية، أو المدارس «العامة» (أي الممتازة) التي تناظر المدارس الخاصة الأمريكية، التي كان يلتحق بها على الأقل أبناء الطبقة العليا والطبقة الوسطى. وقد كانت هذه المدارس إسبرطية من بعض الوجوه، من حيث ترويضها للفرد، وصياغته على صورة عضو في فريق، أو جماعة. وربما كان المراهقون بصفة خاصة بحاجة إلى الترويض على النظام العام. كانت المدارس «العامة» الإنجليزية تصوغ أبناءها على النمط المألوف في الروايات الإنجليزية وفي أفلام هوليوود — الإنجليزي الذي يعرف واجبه، الإنجليزي الذي لا يحتاج إلى شرطي؛ لأنه يملك الضمير، الإنجليزي الذي يستطيع أن يفعل ما يشاء، لأنه لا يمكن أن يحب عمل شيء بالغ الضرر للمجتمع. وكان هناك دائمًا بطبيعة الحال أبناء لم تمكن صياغتهم على هذه الصورة. وهؤلاء هم العصاة الذين انتقل بعضهم إلى أنحاء العالم القصية، والذين لم يخضعوا للنظام العام إلا بالقدْر الذي يجعلهم يُوصمون بالشذوذ، وهم جماعة احتملهم الفكتوريون طبقًا لمبادئهم، والذين هاجم بعضهم النظام بأسْره، أصوله وفروعه، مثل الشاعر شيلي في أحد طرفي القرن، والشاعر سوينبرن في الطرف الآخر منه.

وإذن فإن الفوضى الهمجية، ذلك النضال الدارويني من أجل الحياة، الذي دعت إليه المعتقدات الاقتصادية الرجل الإنجليزي المتوسط من الطبقة الحاكمة — هذه الفوضى كانت توازن عند هذا الرجل بالعالم النظامي؛ عالم الأدب واللباقة الذي كانت تَعُدُّه له تربيته وأسرته، وبالرغم من وجود عناصر عديدة من عدم الاستقرار في هذا التوفيق الفكتوري، فإنه أمدَّنا خلال الجيل أو الجيلين اللذين دام فيهما بفترة من تلك الفترات النادرة من الاتزان في التاريخ الغربي. وهي فترة سلام من غير خمول، فترة من فترات التحول والتجريب خلت على أية حال من القلاقل، وقرحات المعدة، والانهيار العصبي.

وكان التوفيق توفيقًا مع المسيحية من ناحيةٍ ما. وقد بقيت الحركة المناهضة لرجال الدين — التي دعت إليها حركة التنوير — حية في جميع أنحاء العالم الغربي وبخاصة في البلدان الكاثوليكية، واتخذت لها جذورًا ثابتة في الثقافة الغربية حيث لم تَعُد الطاعة الدينية الظاهرة مقررة بحكم القانون. ولكن بعد الاضطهاد الشديد الذي تعرض له المسيحيون إبَّان حركة «التحلل من المسيحية» في الثورة الفرنسية، مال الميزان إلى الناحية الأخرى نحو المسيحية، على الأقل بين الطبقات المثقفة، وهو ميل أشار إليه إشارة واضحة الكاتب الفرنسي الرومانتيكي شاتوبريان في كتابه «قداسة المسيحية» الذي نشره في عام ١٨٠٢م. ومن التعسُّف أن نقول إن شاتوبريان لم يتأثر «بصدق» بالمسيحية. غير أن صدْقها لم يكن بالتأكيد ذلك الذي أبرزه في كتابه. أما ما أذهله، وما ظن أنه يؤثِّر في جيله، فهو جمال المسيحية، وصفة الحركة في طقوسها الدينية، وأساس ماضيها الغوطي الذي لا يبرح الأذهان.

ولا يصح أن نترك القارئ متأثرًا بأن شاتوبريان يمثل الإحياء المسيحي في القرن التاسع عشر، وحيثما كان هذا الإحياء معاديًا لروح العصر بشكل واضح، معاديًا للتوفيق الفكتوري الذي حاولنا أن نعرِّفه هنا، فإنا سوف نتعرض له في الفصل التالي. إن الاحتجاج المسيحي ضد التوفيق المسيحي الذي كانت الكنائس تقوم به مع روح العصر كان ثابتًا وصارخًا. ولا يمكن لدارسٍ منصف للقرن التاسع عشر أن يهمل هذا الاحتجاج، سواء أكان صادرًا عن ميستر أم نيومان أم من الجنرال بوث من «جيش الخلاص». غير أنه مما لا شك فيه أن هذا الإحياء — وبخاصة في الأقطار البروتستانتية، وبالرغم من أن الشعوب الكاثوليكية لم تخلُ منه — هو في الواقع توفيق في حد ذاته إلى حدٍّ كبير؛ ذلك أن التفاؤل الأساسي بالنسبة إلى الطبيعة البشرية، ذلك التفاؤل الذي تتميز به حركة التنوير، يتغلغل في مسيحية القرن التاسع عشر، جنبًا إلى جنب مع الرغبة في التوفيق مع الحركة العقلية ومع الاتجاه نحو إراحة الأبدان. ولو أنك اكتفيت بِعَدِّ الرءوس المسيحية، ولو أنك قِسْت بانتشار عمل المبشرين في جميع أنحاء المعمورة، أو بالأناجيل المطبوعة، أو بالمواظبة على مدارس الأحد، لانتهيت إلى أن القرن التاسع عشر كان أعظم القرون المسيحية؛ لأن كل هذه الدلائل تشير إلى السمو. ويستطيع المؤمن بإمكان كمال البشرية المتفائل — بطبيعة الحال — أن يتمسك بأن هذه الدلائل هي التي تهمنا، وأن هذا المركَّب الجديد المؤلَّف من المسيحية وحركة التنوير إنما هو مرحلة من مراحل تحقيق هذا الكمال.

إن القرن التاسع عشر — من وجهة نظر المؤرخ — لا يتميز بأية طوائف مسيحية جديدة كبرى. ولم تنشأ فيه قطُّ طائفة بلغت من النجاح ما بلغته طائفة النظاميين وجماعة الورعين في القرن الثامن عشر، عندما صعد عصر النثر والعقل إلى أوج قمته. وكانت هناك جماعتان أمريكيتان جديدتان — المورمون والعلماء المسيحيون — تسترعيان النظر من الوجهة العددية. ولكن ربما كان تضاعف الجماعات الدينية المنشقة، والهرطقة ضد الهرطقة، وبخاصة تلك الاتجاهات المؤلَّفة من عصارات شرقية، ربما كان ذلك أقوى من أي عهد سلف. وازدهرت بين الطبقات المثقفة الناجحة الجماعات «الموحدة» و«العالمية» التي كانت تنكِر صراحة صفة السر المقدس في عبادة يسوع، وهي جماعات كانت تشفُّ عن تأثير عقلي قوي فيها. وفي الطرف الآخر — أو في الظاهر على الأقل — قامت حركات «الكنيسة العليا» في إنجلترا وأمريكا، بما عُرف عنها من العودة إلى الطقوس والتقاليد. ومِن ثَمَّ فإن الإحياء المسيحي — أيًّا كان لونه — لم يكن إحياء للوحدة المسيحية. إن القرن التاسع عشر كان في الدِّين كما كان في فن العمارة متنوع الاتجاهات كما كان في الكهربا.

بيد أن ارتياد الكنيسة كان أمرًا لا بد منه بالنسبة إلى عامة الناس من الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي نهتم بها هنا. وقد كان معنى التوفيق الفكتوري أن العناصر الرئيسية في المجتمع لا يمكن بعد ذلك أن تقف ذلك الموقف المتطرف المعارض للمسيحية، وهو الموقف الذي وقفه كثير من المتنورين في القرن الثامن عشر. وقد أمست عداوة جفرسن للديانة المنظمة تقض مضجعه لما اعتلى الرئاسة في عام ١٨٠٠م. ولو أن رجلًا مثل جفرسن عاش في منتصف القرن التاسع عشر وقف موقفًا صريحًا ضد الكنائس المسيحية المنظمة لأنكر على نفسه في بساطة العمل السياسي في أكثر الأقطار. وليس معنى هذا أن صاحب طاحونة لانكشير عندما يؤدي الصلاة في كنيسة الجماعة المحلية، وأن حامل الأسهم ذات الفائدة السنوية عندما يرود كنيسة قريته، من المنافقين علنًا وفي صراحة تامة، فإن مثل هذا النفاق كان لا بد من وجوده في مجتمعٍ تكثر فيه الحوافز الاجتماعية وضواغط العمل التي تدفع إلى السلوك الديني الشكلي المتشابه. ولكنَّا على حق حين نعتقد أن أكثر رواد الكنيسة هؤلاء كان لا يزعجهم التباين بين حياتهم والمُثُل المسيحية. ومهما يكن من أمر فإنا قد عرفنا المسيحيين الدنيويين منذ أمد بعيد. إن لم يكن منذ ما ظهرت المسيحية.

أما ما يُبرِز هؤلاء المسيحيين الفكتوريين أمام أعيننا فقد لا يعدو أن يكون تلك البراعة التي هاجمهم بها المفكرون من أمثال برناردشو الذين جاءوا فيما بعد. ومع ذلك فهم يبدون لنا في منتصف القرن العشرين مستقيمين أكثر مما ينبغي، وعاجزين عن إدراك عجز الإنسان عن الوصول إلى تسويةٍ مريحة مع المألوف، مطمئنين إلى صهيون أكثر مما يجب. وربما كانوا محظوظين جدًّا من وجهة نظرنا. غير أن إدماجهم لتعقل القرن الثامن عشر بعاطفة القرن التاسع عشر لم يتم على الوجه الأكمل. وكانوا يظهرون على الأقل في سطحية العقليين الأصفياء، وأقل اقتناعًا بأن الله إنما يحتاج حقًّا إلى تفكير عميق من ناحيتنا.

ويظهر في أشكال الحياة السياسية والاجتماعية في العالم الغربي في القرن التاسع عشر تنوُّع شديد، من الديمقراطية التقليدية في الولايات المتحدة إلى الملكية التقليدية في بروسيا. وقد كان العالم الغربي — بمعنًى ما — شبيهًا بالعالم الأصغر في القرن الخامس — شبيهًا بهلاس. وكان يتكون من قوميات مماثلة لإسبرطة، وطيبة، وأثينا. وليست الحكومة القومية إلا المدينة الحكومية على نطاق أوسع. ومع ذلك فإن المرء يحس في أوروبا الحديثة أكثر مما يحس في هلاس القديمة أن هناك نوعًا من مجموعة اتجاهات عامة سائدة في كل مكان، وهي اتجاهات لا تتفق اتفاقًا كاملًا قطُّ في مختلف الأقطار، وليست البتة على نفس العلاقة مع التيارات الأخرى في البلدان المختلفة، ولكنها مع ذلك ليست أسطورة بأية حال من الأحوال؛ فهناك ثقافة غربية، ووعي غربي من نوعٍ واحد في القرن التاسع عشر. ولا يتردد الماركسي في أن يطلِق على مجموعة الاتجاهات كلها اسم «الطبقة الوسطى». وإذا كان المرء يدرك أن كثيرًا من هذه الاتجاهات كان يسود أيضًا بين الطبقات العليا والدنيا، فلا ضرر إذن من استعمال هذه التسمية.

كان هناك في السياسة توفيق في القرن التاسع عشر كما كان في الأخلاق والدين، وقد ذكرنا أن حركة التنوير ذاتها كانت منقسمة في آمالها السياسية وفي برامجها، كما رأينا أن الفرد الواحد أحيانًا — مثل بنتام — كان يعتقد أن تناول الأقلية الحكيمة لشئون البيئة فيه نفع كبير، كما يعتقد بقدرة الجماهير على اختيار حكامها بالانتخاب العام. وقد استطاع القرن التاسع عشر في شيء من النجاح أن يتمسك بآراء لا تَبُتُّ ولا تَقطع في هذه المعضلة الشائكة. كان يعتقد في الحرية للجميع، وكان أفضل مخرج عند أهله هو الإيمان بالحرية بغير استهتار. والتفرقة بين الحرية والاستهتار مسألة خلقية؛ فالمرء حر في أن يفعل الصواب، ولكن فعل الخطأ معناه الاستهتار، وهو ما ينبغي أن يوقف. ومِن ثَمَّ ترون أن السياسة في العهد الفكتوري ترتبط بالناموس الخلقي.

كان للفكتوري — في إيجاز — دستور سياسي كهذا: أولًا، هناك البداية التي لا مفر منها بمبدأ التقدُّم، الذي بتطبيقه يصبح جميع الناس في نهاية الأمر أحرارًا، إخوة، متساوين؛ لا شرطة، ولا ضريبة، والعمل سار تطوعي، ولا فقر، ولا عنف بأية صورة من الصور — هي باختصار المدينة الفاضلة التي أسميناها «الفوضى الفلسفية» وهذا المجتمع المثالي لا بد أن يأتي — مهما يطُل بنا الزمن — وسوف يتحقق بالتربية وبالتوسع التدريجي في الديمقراطية. وكانت الديمقراطية — برغم احتمال خطورتها حتى في إنجلترا في الستينيات من القرن التاسع عشر بالنسبة إلى الرجل في القرن التاسع عشر في «موجة المستقبل» بكل تأكيد. وكان الرجل من الأحرار الأخيار حتى في بلادٍ ليست البتة وسط حركة التوفيق الفكتوري، في ألمانيا، وفي شرق أوروبا، يؤمن بأن تحقيق المُثُل الديمقراطية في نهاية الأمر لا بد أن يتم بمجرى الحوادث. أما في اللحظة الراهنة فإن خير المؤهلين ينبغي أن يحكموا كأوصياء على الجماهير المتقدِّمة في بطء شديد. وليس خير المؤهلين هم الأرستقراط القدامى، الذين خفَّ في عروقهم الدم النبيل، وإنما هم الرجال من أي طبقة الذين أثبتوا بنجاحهم في الأعمال أو المهن أنهم يستطيعون مواجهة المشكلات العملية. كان الفكتوري يعتقد في الحرية ولكنها الحرية التي تعني المنافسة، وكان يعتقد في المساواة، ولكنها المساواة في الفرص التي تعطي لكل فرد بداية متساوية في السباق، وليست المساواة التي لا سباق فيها — أو على الأقل لا جوائز فيها للرابحين أو ربما خلت من الرابحين. وقد ازداد وعيه بأن مجتمعه يقف عقبة في سبيل أبناء الآباء الفقراء، وأن البداية المتساوية ليست إلا أسطورة. ثم شعر كذلك بوجه عام — عندما أشرف القرن على نهايته — أن سباق الحياة العظيم قد يكون شيئًا جميلًا، وأن هذا السباق قد يتمخض عن أبطال أفضل، إلا أن الطريق بحاجة إلى تطهير، وبحاجة إلى محطات الإسعاف، وبحاجة إلى قواعد صارمة ضد التسلل، والتجمهر، وغير ذلك من الحِيَل البغيضة. وازداد إيمانه بتدخل الدولة في معونة الصغير، والتخفيف من التفرقة الاقتصادية الفعلية، والقيام بذلك العمل الذي نطلق عليه جميعًا اسم «دولة الرفاهية». ومع ذلك فإن الرجل الذي يمثِّل منتصف القرن كان على وضوح في ذهنه بأن الديمقراطية — عند الخيار بين الحرية أو المساواة — لا بد أن تنحاز إلى جانب الحرية إن أرادت لنفسها الصحة والسلامة.

لقد كنا حتى الآن ننظر فيما كان يراه الفكتوري حقًّا. وأشق من ذلك أن نصف ما كان يراه جميلًا. ويجدر بنا هنا ألا نحاول أكثر من أحكام قليلة عامة على هذه الناحية من نواحي الثقافة الغربية، مع التحذير مرة أخرى أنه ليست هناك فقط فروق خطيرة بين الطبقات الاجتماعية وغيرها من التجمعات الثقافية، وإنما كان هناك فوق كل شيء فارق عظيم في الجنسيات، ربما كان أوضح في الشئون الجمالية منه في غيرها. ومع ذلك فهناك على الأقل حكم عام واحد أو حكمان ليس هناك خطر من ذكرهما:
  • فأولًا: هذا عصر اختلافات شديدة بدرجةٍ غير مألوفة في معايير الأذواق. وربما قلْت في شيء من التجني: إن المعايير كانت معدومة، وإن الأذواق كانت في حالة من حالات الفوضى. أو قلْت في شيء من الإنصاف إن العصر كان يتصف في الفن والثقافة كما يتصف في الحياة الاقتصادية بحرية الفرد وبالتنافس الذي تمخَّض عن تنوع غني، أفضله كان جيدًا حقًّا. ومهما يكن من أمر فإنك تستطيع أن تدرك حقائق الموقف بوضوح في موضوع كموضوع فن العمارة. كان المرء حتى ذلك الحين في بلاد الغرب، الفرد الذي يشرع في إقامة أي بناء من أدنى المباني إلى ما فوقها، يعرف على أي طراز سيقيم مبناه؛ لأنه لا بد أن يبني كما كان يبني الناس من حوله. ومن الحق أن الطراز قد تغيَّر، وبخاصة عندما تخلَّى الطراز الغوطي للطراز الكلاسيكي، ومن الحق أيضًا أنه كان هناك تنوُّع بطيء في هذه الطرز. وقد أبقت العصور الوسطى في مدنٍ كباريس ولندن مخلفاتٍ تبرز بصورة تلفت النظر وسط المباني الحديثة الأولى، وأكثرها تقريبًا على الطراز الذي يسميه الأمريكيون استعماريًّا. ولكن بتقدُّم القرن التاسع عشر استولى على المباني استيلاءً تامًّا ما نسميه الاختيار، سواء في المباني العامة أو الخاصة، وكانت هناك دفعة قصيرة المدى من الطراز الغوطي الجديد في مستهل القرن، ولكن حتى هذا الطراز لم يكن عامًّا.

    وأخيرًا انتهى الأمر إلى ذلك الموقف الذي ما زلنا نحن الأمريكيين نَعُدُّه طبيعيًّا بشكل واضح. إذا أراد المرء أن يبني بيتًا حسنًا، استشار أسرته واستشار مهندسًا معماريًّا، وتدور الاستشارة إلى حد كبير حول الطراز — هل يكون طراز رأس كود، أو البيت ذي الطابق الواحد، أو بيت المزرعة، وهل يكون نصفه من الخشب مثل التيودور الإنجليزي، أو على طراز القصر الفرنسي، أو الطراز الهولندي في جنوب أفريقيا. وهل يكون مسكنًا، أو إرسالية، إلى آخر ذلك. وليس من الإنصاف أن نأخذ المباني التي تقع على الطرق الأمريكية للسيارات على أنه نموذج لأي شيء ولكنها تعرض الأمر لنا عرضًا قويًّا: إنك إن أردت أن تبني مكانًا لشواء السجق فليس لذلك حدود — فقد تبني كوخًا ذا قبَّة كأكواخ الإسكيمو المصنوعة من جلود كلاب البحار، أو على شكل قبعة دربي، أو أسد ضخم، أو على شكل «السجق» المشوي ذاته. إن الإنسان لم يبنِ في أية مرحلة من مراحل التاريخ البشري على أشكال متنوعة تنوعًا يحيِّر الألباب كما فعل منذ عام ١٨٠٠م. ولم تكن مدنه في أية ثقافة أخرى غير هذه أشبه ما تكون بالفوضى في فنون البناء.

  • وثانيًا: ربما كان من الحق أنه قد نما في القرن التاسع عشر، جنبًا إلى جنب مع هذا التنوُّع الشديد في الأذواق، شعور واسع الانتشار بين المثقفين بازدياد الأشياء القبيحة من حولهم. وليس هناك من الناس من يفترض أن الأثيني كان يرى المباني في الأكروبول قبيحة؛ لأن هذه المباني كانت موحدة الطراز، منشأة طبقًا لتقليد واحد. ولكنك لن تظفر بأي نوع من أنواع الإجماع بين الأمريكيين في موضوع المباني العامة في مدينة واشنطن — وذلك بالرغم من أن واشنطن فيها اتفاق في التخطيط يفوق ما في أية مدينة أمريكية أخرى. وربما كان سجل العصور الماضية الذي وصل إلينا ناقصًا. غير أنه من المؤكد أن المفكرين في كل عصور التاريخ الغربي قد شكَوا مُرَّ الشكوى من عادات، وأخلاق، وذكاء كثرة الناس. وليس من شك في أن أفلاطون قد لمس انحطاطًا في الأذواق الشعبية، كما لمس هذا الانحطاط في كل شيء شعبي آخر. بيد أن الانطباع العام عن القرن التاسع عشر — وعنَّا باعتبارنا ورثةً له — أنه قد أضاف الذوق إلى العناصر الكثيرة الأخرى التي كانت تفصل بين الجماعات الاجتماعية، والتي عزلت بصفة خاصة طبقة مثقفة في جانب من الجوانب وحدها.

ومع ذلك فالراجح أنه كان هناك في القرن التاسع عشر حدٌّ أدنى من الذوق — أو على الأقل عامل مشترك — بين جميع الناس، وهو — وأقول ذلك مرة أخرى — ذوق الرجل الناجح في الأعمال، وذوق زوجته. كان الفكتوري يحب أن تكون الأشياء صلبة فيها قدْر ضئيل من المظهر. وكان يحب الوفرة، ويمقت القلة، والتقشف. وكان خياليًّا، هاربًا من الواقع، شديد المبالاة بالبعيد الغريب من الأشياء، ولكنه كان كذلك يفخر بإحساسه الشديد بالواقع، وبقدْرته على التسجيل والرواية. وفي أدب العصر كل لون من ألوان الطيف من التبرم والسخرية الرومانتيكية الصادرة عن النفوس الضالة مثل بيرون وتلاميذه الأوروبيين، إلى الإدراك العام المهذب الهادئ الذي اتصف به ترولوب، «وطبيعة» زولا المغامرة، كل شيء موجود وإن يكن على غير نسق أو نظام.

ولكنها الفوضى التي امتزجت أجزاؤها مزجًا جيدًا، وأصبحت لها نكهة خاصة بها. وإذا نحن رجعنا بأبصارنا من عصرنا الحاضر إلى هذا العصر الماضي، استرعى أنظارنا أن القرن التاسع عشر، برغم تنوُّع الأذواق فيه، وبرغم الفرار الخيالي من الواقع الذي اتصف به، وبرغم ما قام فيه من منازعات حول الأساسيات، يبلغ نوعًا من أنواع الوحدة برغم التناقض، وهو عصر اتزان، وعصر «ازدهار». كان عند الرجل في القرن التاسع عشر إحساس ﺑ «الانتماء» (أعمق من مجرد التفاؤل) لا نحسه نحن اليوم. ولم يكن بحاجةٍ إلى الاحتماء وراء الأساليب الوهمية، أو وراء الفائدة الوظيفية البسيطة — والتي كثيرًا ما تنعدم فيها صفة الإنسانية — كما نفعل اليوم. ولم يكن بحاجة إلى محاولة الفرار من الفرار.

وإني أتردَّد عندما أحاول أن أجد رمزًا لثقافة القرن التاسع عشر، كما أجد البارثينون رمزًا لأثينا في عهد بركليز، أو كاتدرائية شارتر رمزًا للقرن الثالث عشر. هل أقول محطة السكة الحديدية؟ أو المصنع الكبير؟ أو منظر مانهاتن (في نيويورك) من أعلى؟ ليس في أحد هذه الرموز إنصاف؛ لأن القرن التاسع عشر لم يكن مجرد عصر للصناعة والإنجازات المادية. لقد انهمك القرن التاسع عشر بقوة في المباني العامة من جميع الأنواع، ولكني لا أجد مبنًى من هذه المباني يصلح أن يكون رمزًا. ولما كان جانب كبير من مجهود القرن قد بُذل في إدخال أسباب الراحة، والسعادة، والأهمية، على حياة الأفراد، فربما كان — بعد هذا — أحد الشوارع السكنية الجيدة في مدينةٍ كبيرة مثل لندن أو مانشستر أو ليون أو درسدن أو بولتيمور، ربما كان أحد هذه الشوارع التي خُصِّصت للمنازل الخاصة المنفصلة، أو «الفيلات» كما يسمونها في أوروبا، يصلح أن يكون رمزًا للقرن التاسع عشر. هنا تجد الراحة، وسعة المكان، والخضرة، والهدوء، والنظافة — كما تجد فوضى من الأذواق في فن البناء. وإن كنت ممن يعطف على الثائرين فإنك ترى أن هذا الشارع يجب أن يوازن مع شارع من شوارع الأحياء الفقيرة. ولكن دعك من هذا، فإن شوارع الأحياء الفقيرة كانت ماثلة في أذهان ساكني «الفيلات»، فكانوا يأملون أن تختفي هذه الأحياء يومًا ما، وإن كانوا يعتقدون أنهم لا يستطيعون تغيير الأوضاع كثيرًا على الفور. ولكن هذه الأحياء كانت تزعج خواطرهم حتى في منتصف القرن. وباعتبار الطبقة الوسطى الفكتورية هي الطبقة صاحبة السيادة فقد كان حكمها قصيرًا غير مضمون لا يمكنها من اكتساب رزانة الثقة بالنفس التي كانت عند الأرستقراطيين الإقطاعيين في يوم من الأيام.

وكم كان يود ساكنو شوارع الأحياء الفقيرة أن يحولوها إلى مثل شوارع الفيلات. وقد أكدنا تأكيدًا شديدًا خلال هذا الفصل من الكتاب وجود كل أنواع الجماعات إلى جانب الطبقة الوسطى الفكتورية التي وقع عليها اختيارنا لتكون أفضل نموذج للقرن. ولذلك فقد كان هناك: جماعات وطنية، على ثقةٍ من نفسها كالبريطانيين، أو كالبروسيين — مثلًا — أو الأمريكيين، أو كأولئك الذين ينادون بأن يستعيد الوطن إليه كل البلاد التي تتحدث بلغته، أو أولئك الذين يشكون، ويستشهد أفرادها كالأرلنديين أو البولنديين. وكانت هناك جماعات ثقافية ضد رجال الدين، وجماعات وضعية، وأخرى ذات أخلاق خاصة، تفخر بأنها لا ترتاد الكنيسة المسيحية، ولكنها تصر على أن أخلاقها مسيحية على الأقل كأخلاق الأرثوذكس. وكانت هناك جماعات صغيرة من المتعصبين، وأكثرهم من المعتدلين في تعصبهم، يكرِّسون حياتهم لناحية واحدة أو لنوع واحد من الاتجاهات الاجتماعية، ولكنهم فيما عدا ذلك يتشابهون مع غيرهم في الاتجاهات، كالقائلين بدفع الضريبة على قيمة الأرض بغض النظر عما يقوم عليها، والمتصوفين الدينيين، والنباتيين، والمعارضين للقسوة على الأطفال أو الحيوان، والمحرِّمين للخمور، إلى غير ذلك من القائمة الطويلة من «القضايا الصالحة» في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهنالك غير هؤلاء جماعة المثقفين — وهي ليست أقل من هذه الجماعات بروزًا — وهي الجماعة التي تبذل جهدًا شاقًّا لكي تنبذ المجتمع الفوضوي الغريب الذي وجدت نفسها فيه، أو تعيد تشكيله.

إن ما أسميناه النظرة الكونية المتقدِّمة إذن هو العقيدة الأساسية عند أكثر المتعلمين من أهل الغرب، رجالًا ونساء، في القرن التاسع عشر، وهو المعيار الذي كانت تقيس آمالها به حتى الجماهير غير المتعلمة أو ناقصة التعليم. وهذه النظرة الكونية قَبِلت عقيدة عصر التنوير في التقدُّم، وفي إمكان كمال الإنسان هنا في هذه الدنيا، وفي الحصول على السعادة فوق هذه الأرض. بيد أن القرن التاسع عشر قد أزال عن هذه العقائد حدَّتها واتجاهها المباشر، كما حدث — من بعض الوجوه — عندما أزالت العقيدة المسيحية المتأخرة عن المسيحية البدائية الإمكانيات المفزعة — وإن تكن إمكانيات متفائلة — لعودة المسيح مرة ثانية في وقتٍ قريب. ووقف الفكتوري موقف التوفيق مع أمل حركة التنوير وبطولتها؛ فكان يؤيد فكرة التقدُّم التدريجي وعملية تعليم الجماهير في بطء وحرص، كما يؤيد ناموسًا خلقيًّا صارمًا من وضع الضغط الاجتماعي الكامل من الناس الذين يؤلفون الجماعات، وحرية التجريب، على ألا يكون ذلك على حسابِ ما كان يحس أنه أحكام خلقية مطلقة، ويعضد فتح أبواب المستقبل للمواهب مع عدم إغلاقها في وجه الثروة الموروثة والوضع الاجتماعي، ويؤيد السلام على الأرض على ألا يكون ذلك على حساب شرفه الوطني وكرامته القومية — بل والديمقراطية على ألا تكون للانقلابيين، وألا تكون ديمقراطية اشتراكية؛ فهو لا يؤيد الديمقراطية التي تأخذ «الحرية والإخاء والمساواة» مأخذًا حرفيًّا. إن المرء يستطيع بكل تأكيد — كما كان يرى الفكتوري — أن يكون ديمقراطيًّا، حرًّا، متنورًا، شخصًا عصريًّا، وأن يكون مع ذلك ناجحًا، سعيدًا، مرتاحًا، حتى في هذه الدنيا حيث لم يصبح الجميع «بعد» ناجحين سعداء مرتاحين. وكان في لفظة «بعد» هذه خلاصًا عظيمًا لضميره. فسوف يأتي اليوم الذي يمسي فيه جميع الناس في مثل يساره آنئذٍ. أما في الوقت الحاضر فإن من واجب المحظوظين وأصحاب الامتياز ألا يعرضوا للخطر ما هو ممكن — أو أن يسمحوا لغيرهم بالمحاولة — في سبيل الحصول على ما هو مستحيل. إن وجود الرجل الغني، أو على الأقل «البورجوازي» الغني في اعتدال، في عالم القرن التاسع عشر، يجب ألا يوحي بأية مجازات سخيفة تعبِّر عن صعوبة دخول الجَمَل فِي سَمِّ الخِيَاط.

ومع ذلك فإني أرى ألا نترك الحديث عن هذا الفكتوري الواثق من نفسه — بالرغم من غيرتنا في الواقع من هذه الثقة بالنفس — دون أن نعترف بأننا ورثة إيمانه بالكائنات البشرية — وهو إيمان معدَّل إذا قُورن بتفاؤل حركة التنوير المطلق، إيمان أدخلنا عليه كثيرًا من التعديل، بل ربما كدنا أن نتخلى عنه. وأنت تستطيع أن تلمس هذا الإيمان عند جون ستيوارت مل في أوضح صورة، وفي أفضلها من بعض الوجوه، كما تلمسه بين المثقفين. فإن أكثر المثقفين قد انشقوا على حركة التنوير كما تتمثل في التوفيق الفكتوري. ومن الحق أن أمثال لنجفلو، وتنيسون، وديكنز، وكثير غيرهم من الفنانين أصحاب الخيال، كانوا — من بعض النواحي — منسجمين مع الطبقات الوسطى الظافرة، أو على الأقل لم يكونوا معارضين لكلِّ ما تمثِّله هذه الطبقة معارضة شديدة تضعهم في طرفٍ آخر مضاد لها. ولكن ليس هناك كثير من «رجال السياسة والأخلاق» ممن يستظلون براية حركة التنوير؛ ومن هؤلاء كان مل نموذجًا رائعًا.

وهو ابن جيمس مل، رجل اسكتلندي عصامي، وتلميذ أثير عند بنتام. وكثيرًا ما كان بمثابة الحفيد لبنتام. وكان طوال حياته ينادي بأنه مخلص لحركة التنوير — ضد المسيحية في قواعدها الدينية لا في أخلاقها، مؤمنًا إيمانًا ثابتًا بقوة العقل يتأثر في عمله بالتجربة وبالإدراك العام، لا يثق بالمثالية الفلسفية، أو المثالية الجرمانية خاصة (وقد قال مرة إنه أحس بشيء من الاشمئزاز بعد محاولة قراءة هيجل). وكان مصلحًا متحمسًا لتحسين الحالة المادية للجماهير. يؤمن بالحرية للجميع، وبالتسامح في وسائل الآخرين حتى عند اصطدامها مع وسائله. وربما كان — فوق هذا كله — رجلًا أحس إحساسًا عميقًا أن هناك شيئًا ضروريًّا كل الضرورة للحياة البشرية يعبِّر عنه مصطلح «الحرية» وهو ذلك المصطلح الشكلي، الذي كثيرًا ما يكون خلوًا من معناه. ومع ذلك فإن مل هذا هو بعينه الرجل الذي تراجع عما وَرِثه من جَده الروحاني، أو عدَّل في كثير منه. وبتأثير الشعراء الرومانتيكيين من أمثال وردزورث وكولردج انتهى إلى تخفيف التعقل الصارم في حركة التنوير عن طريق الشعور بالأمور غير الثابتة، والاستجابات العاطفية، و«اللامعقول» باعتبارها أمورًا تزيد من ثروة الحياة وليست من الأوهام، شأنه في ذلك شأن العامة من أبناء الجيل الذي عاش فيه، بل لقد مرت به فترة وجيزة تأثَّر فيها بكارليل فاعتقد أن التصوف يجذبه، ولكنه سرعان ما عاد إلى تعقل معتدل. كان يؤمن بالحرية، ومع ذلك فقد أطلق على نفسه في أخريات العمر اسم الديمقراطي، وليس ذلك فحسب، بل اسم الاشتراكي أيضًا من بعض الوجوه؛ لأنه انتهى إلى الإيمان بأن الحكومة لا بد أن تتدخل لا لكي تنفذ العقود فحسب، وإنما لكي ترفع إيجابيًّا من مركز الفقراء والمعوقين. وكان نفعيًّا، خليفة بنتام الذي قرَّر في كتابه «علم الواجبات والأخلاق» أن مسرات العقيدة في الله أقل من آلام هذه العقيدة، ومن أجل هذا أصدر حكمه ضد نفعية الدِّين. ولكن جون مل — مع ذلك — اعتنق في أواخر حياته نوعًا من «المانيكانية» الخاصة به، وهو مذهب يقول بأن الله وروح الشر يخوضان معركة غير أكيدة ويرميان إلى تجنيدنا جميعًا في هذه المعركة. وكان هذا الرجل الذي خلف المدرسة التي آمنت بإمكان كمال الإنسان يخشى أشد الخشية إمكان ظلم الأغلبية، وأبان في إحدى الحواشي «أن الطبيعة البشرية العادية ضعيفة جدًّا».

ولكن مل، برغم هذا، قد عبَّر عن المبدأ الرئيسي للتحرر في القرن التاسع عشر كأوضح ما عبَّر عنه أي فرد آخر من قبل. قال:

«… إن الغرض الوحيد الذي تُمكن من أجله ممارسة السلطة بحق على أي عضو في مجتمع متمدن، ضد إرادة هذا العضو، هو الحيلولة دون الأذى للآخرين، فإن ما عنده من خير — مادي أو خلقي — ليس بالضمان الكافي. ولا يمكن بحق إرغامه على العمل أو الامتناع لأن من الأفضل له أن يقوم بهذا العمل، ولأن ذلك يجعله أكثر سعادة، ولأن هذا العمل — في رأي الآخرين — من الحكمة، أو حتى من الحق والصواب. وهناك أسباب طيبة للجدل معه، أو لتبادل التفكير معه، أو لإغرائه، أو رجائه، لا لإرغامه أو إلحاق الأذى به إن هو سلك مسلكًا آخر. ولكي نبرِّر ذلك فإن السلوك الذي نرغب في صدِّه عنه لا بد أن يتبين بالحساب أنه يسبب الأذى لشخص آخر. إن الجانب الوحيد من سلوك أي إنسان، الذي ينبغي له فيه أن ينقاد للمجتمع، هو ذلك الجانب الذي يتعلق بالآخرين. أما في الجانب الذي يخصه وحده فإن استقلاله فيه مطلق بحق. الفرد سيد على نفسه، على جسده، وعلى عقله.»

وقد يبدو هذا لكثير من المفكرين اليوم أمرًا بعيد المنال، مبسطًا أشد تبسيط، بل وربما موجهًا توجيهًا خاطئًا، أو ربما كان التفكير فيه غير سليم. إننا لا نثق اليوم بأي نوع من أنواع السيادة، على الأقل إن كنا ممن اكتسحتهم التيارات العصرية، تيارات النسبية الفلسفية. وإن كنا على الأقل ما زلنا نؤمن بالأحكام المطلقة، فإن التقديس المطلق لسيادة الفرد على نفسه ليس من الأحكام المطلقة التي نتمسك بها. ومع ذلك فإن أمثال هذه المعتقدات التي يعبِّر عنها مل هنا ما زالت شائعة بالتأكيد هنا في أمريكا في منتصف القرن العشرين، وما زلنا نعطف على ذلك الفرد من الناس الذي يحاول أن يحدد، وأن يقرر، تفرده، وأن يجعل له قيمة، ذلك التفرد الذي يُعَدُّ تقليدًا من تقاليد الغرب. وما زلنا نمقت التجنيد، والخضوع للآباء، واحترام السلطان، حتى إن كنا بحاجة إلى الأمن وقد مللنا النضال الدارويني الحر الجميل. وما زلنا ننظر إلى الفرد من الجنس البشري لا كعضو في جماعة كجماعة النحل أو النمل، ولكن كالحيوان الحر الجوال المغامر. إننا ما زلنا — باختصار — نعيش إلى حدٍّ ما على الرصيد العقلي والعاطفي الذي ورثناه عن القرن الماضي — أو في الواقع عن كل تقاليد الأخلاق والفلسفة في الغرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤