القرن العشرون: هجوم اللاعقليين
كان المتطرفون — على الأقل — في حركة التنوير في القرن الثامن عشر يعتقدون أن الكائنات البشرية سوف تبدأ عما قريب في العيش في مجتمعٍ كامل، مجتمع يُنتفى فيه كلُّ ما يَعُدُّه الناس جميعًا شرًّا، ولا يبقى فيه إلا ما يَعُدُّه الناس جميعًا خيرًا. وهذه النظرة تعتبر في تحليلنا قاعدة أساسية. أو قُل إن صدى هذه النظرة في الآمال الأقل تواضعًا التي يعقدها الرجل العادي الغربي على الارتقاء الشخصي فيما يصيبه من هذه الحياة، وعلى التقدُّم الاجتماعي الملموس في أثناء حياته، ينبغي أن يكون قاعدتنا الأساسية. وكان لا بد لهذه النظرة المتفائلة أن تصمد إزاء مجرد انقضاء مائة وخمسين عامًا بقي الشر في نهايتها — فيما يظهر — حيًّا وسائدًا كما كان في أي عهد سبق. وكان لا بد لهذه النظرة من أن تعيش برغم أزمتين عظيمتين كانتا نتيجة لحرب عالمية، وما ترتب عليها من آلام بسبب الموت والمرض، والشح، والكثير غير ذلك من قسوة الإنسان على الإنسان. وقد رأينا أن أولى هاتين الأزمتين — وأعني بها نضال الحروب التي شنتها الثورة الفرنسية ونابليون في مدى ثلاثين عامًا — عاونت على استعادة التفاؤل الأول الذي أسميناه التوفيق الفكتوري. وأما الأزمة الثانية — وهي النضال الذي دام ثلاثين عامًا والذي نسميه في بلادنا الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، فقد رأينا من قبل أنها قد جاءت بفيضٍ آخر من المشاعر المتشائمة والنقد المتشائم، وهي الآن تفعل فعلها ناشطة تُدخِل تعديلًا جديدًا في ميراث القرن الثامن عشر وهو الحلم الديمقراطي. وما زلنا على مقربة شديدة من الحركة بحيث لا نستطيع أن نراها رؤية واضحة. وربما استطاع النقاد في عام ٢٠٠٠م أن يروا أن القرن العشرين كان له — عقيدته الخاصة، وثقافته الخاصة.
ولكنا نرى اليوم بوضوح أن الحلم قد تخطَّى الأزمة الثانية، وما زلنا في الغرب أبناء القرن الثامن عشر، ولا تصدقوا دعاة الانهيار الذين يحدثونكم بغير ذلك. إنهم قد يكونون على صواب؛ فإن الجانب الأكبر من مجموعة الآراء والقيم التي نسميها الديمقراطية قد يختفي في السنوات المقبلة؛ فنحن لا نستطيع الآن أن نتنبأ بالمستقبل في أمورٍ من هذا القبيل. أما في الوقت الحاضر فإن بقاء التفاؤل الأساسي، الذي كان موجودًا في القرن الثامن عشر، يتبين في أية صحيفة، وفي أية مجلة، أو محاضرة، وبخاصة في الولايات المتحدة. ولا تزال الصور المختلفة في هذا النمط الأساسي بالنسبة إلى عامة الناس في الغرب أقل أهمية من النمط في حد ذاته.
ومن الحق أنه قد وُجدت بين المثقفين تيارات معقدة من طراز جديد. كانت بينهم موجات من اليأس، والتشاؤم المر، والبحث الجاد عن كمالٍ أعظم. وحتى قبل عام ١٩١٤م كانت هناك تلك الفترة الشهيرة في التسعينيات، بما كان فيها من فكاهة مقصودة، وجهد شديد يبذله المرء لكي يبدو ملولًا عسير الإرضاء، واكتشاف حقيقة التدهور التي يمكن أن تكون وجهة التاريخ. غير أن العالم الغربي حينما كان القرن الماضي يسدل ستاره لم يكن مجرد العالم الذي تصوره أوسكار وايلد أو صوَّره «الكتاب الأصفر». بل لقد كان كذلك عالم الفابيين، عالم تيدي روزفلت والتقدُّميين، عالم فرنسا الناهضة التي ظهرت فيها قضية درايفوس. كان عالمًا لا يزال يضطرب فيه الصراع المستبشر. وقد أدخلت حرب ١٩١٤م في نفوس المثقفين الشعور بالرعب والاشمئزاز الذي يمازجه الأمل في حركة يسارية راديكالية حقًّا تظهر في أشهر الروايات التي نُشرت في ذلك الحين إبَّان الحرب، وهي «النار» لهنري باربوس. ولما حلت العشرينيات من هذا القرن ظهر كأننا عُدْنا إلى شيء يشبه الحياة القديمة مرة أخرى. وقد عبَّر هاردنج عن «الاعتدال» بلفظةٍ أساءت إلى أصحاب العقول الرفيعة، ولكنها كانت صورة صادقة لما كان يريده أكثر الناس.
وهناك تيارات أخرى كانت طرازًا جديدًا في الفكر. ومن أوضحها — وإن يكن من العسير أن نحكم على أهميتها في هذا التاريخ — التيارات التي تتطلع إلى نُظُمٍ تاريخية لا مناص لنا من أن نبقي على تسميتها بفلسفات التاريخ. إن رجال الفكر في الغرب من شبنجلر بالأمس إلى سوروكين وتوينبي اليوم، إلى كثيرين آخرين من المتنبئين الذين لا نقرأ لهم كثيرًا، يتلمسون دليلًا من الماضي، دليلًا على ما سوف يحدث في المستقبل، لا في عشرات السنين القلائل التي يأمل المرء أن يعيشها فحسب، ولكن في القرون المقبلة حينما لا يستطيع أحد من الأحياء اليوم أن يحكم بشخصه على صدق ما تنبأ به هؤلاء المفكرون. إن أكثر هؤلاء الكتَّاب متنبئون لا يزال الحكم عليهم معلَّقًا. وخير موازنة هي ما بين الفترة الأخيرة من الإمبراطورية الرومانية المنهارة والعصر الحاضر، ولكن بعض المؤرخين من أمثال توينبي يجدون بين أيديهم أمثلة كثيرة أخرى لحضارات أخفقت في مجابهة تحدي «القومية المتعصبة» التي يرى أننا نواجهها اليوم. وفلاسفة التاريخ هؤلاء ليسوا — على أية حال — بغير أملٍ بتاتًا في مستقبل الجنس البشري. إنهم يرون أن مدنيتنا الحاضرة قد يُحكم عليها بالهلاك إذا احتفظت بشكل الثقافة الغربية التقليدية، إلا أن ثقافة جديدة لا بد أن تظهر على أنقاضها. إن فلسفتهم تقوم على أساس التبادل الذي يلزم الدور في تطوُّر مهما تخبط في مسيره فهو تطوُّر على كل حال، تطوُّر من ظلام إلى «فجر عظيم» يأتي في أعقابه. وهناك ميل إلى وضعنا اليوم في هوة مادية، ولكنا على وشك النهوض إلى ارتفاع روحاني، ومِن ثَمَّ فإن «سمو الوعي» الذي أشار إليه جيرالد هيرد، و«الأثيرية» التي قال بها توينبي، و«الثقافة الفكرية» التي نوَّه بها بيتيريم سوروكين، كلها تشترك في شيء واحد، وتحاول المصطلحات الثلاثة أن تصف حالة من النعيم غير المادي، وتدعونا إليه.
إن فلاسفة التاريخ هؤلاء الذين ينتمون إلى القرن العشرين قد يَثبُت وقد لا يَثبُت أنهم أدقُّ في تنبؤهم من ماركس. ومناهجهم ليست مناهج العلوم، وعملهم ليس جزءًا من المعرفة التراكمية. والمهم بالنسبة إلينا هو أن نلاحظ أنهم — مثل ماركس — يأخذون التاريخ مأخذ النظرية الكونية الشاملة. واستخدام التاريخ على هذه الصورة هو تطور نشأ عن الفكرة الحديثة التي ترفض ما فوق الطبيعي، والاحتفاظ في العصر الحديث بالرغبة في العلم بكل شيء وفي اليقين الذي يستطيع ما فوق الطبيعة — وما فوق الطبيعة وحده — أن يَمُدَّنا به. إن العالم الآلي النيوتوني قد أمد القرن الثامن عشر بهذا اليقين، ولكنه أخفق في تعليل حقائق الحياة العضوية، والنمو، والتغير، فوق هذه الأرض، تعليلًا مقنعًا. وقد أمدتنا الأفكار الداروينية عن التطور العضوي في القرن التاسع عشر بهذا التعليل بشكل واضح، فأصبحنا لا نفهم فقط كيف يسير نظام الكواكب، وإنما نفهم كذلك كيف نما البشر والفئران والشُّعب المرجانية بالصورة التي حدثت. والمفتاح الذي يرشدنا إلى معرفة ما هو كائن وما سوف يكون هو عند أصحاب الفكرة التاريخية معرفة ما كان. إن الخط البياني يمكن دائمًا أن يبدأ بالماضي — ثم يمتد إلى المستقبل. ولو أنك عرفت كيف تطورت الجماعات والثقافات — أي لو أنك عرفت تاريخها — لعرفت على أية صورة سوف تكون، وهي معرفة يطمئن إليها بعض الناس.
هناك أناس كثيرون لا يستطيعون بطبعهم أن يقبلوا هذا النوع من الثقة بالتاريخ. وهم يرون ضرورة تجاوز مجرد الخبرة التي نكتسبها من الزمان والمكان. ويعتقدون ضرورة وجود الله والحق في «الكينونة» البحت متحررة من «الصيرورة» المبتذلة. أما إن أنت قبِلت بوجه عام صحة وجهات النظر وطرق المعالجة العلمية الحديثة، فلا بد لك من أن توافق على أن هذه الطريقة التاريخية تتفق «في فروضها الأساسية» مع العلم الحديث، ومع ذلك فإن الفجوة التي تفصل ما بين أمثال سوروكين وتوينبي من ناحية، والعلماء الطبيعيين من ناحية أخرى، عميقة جدًّا في الواقع، من حيث الأداء بالتأكيد، ومن حيث الطريقة والأهداف على الأرجح؛ فالعلوم الطبيعية — أولًا — «علوم» لا تحاول أن تكون نظرة كونية (إن العلماء باعتبارهم «كائنات بشرية» كاملة يؤمنون بتنوع النظرات الكونية. ولا يزال الكثيرون منهم «ماديين» بريئين يسيرون وفقًا لتقاليد حركة التنوير مباشرة، وآخرون مسيحيون مخلصون للمسيحية، بل كاثوليكيون مخلصون للكاثوليكية، وغيرهم — مثل أدنجتون وجينز — يخترعون نظريات كونية غريبة غير مقنعة خاصة بهم، يربطون في شغف بطريقةٍ ما بينها وبين علومهم). ونحن من ناحية ثانية — لا نعرف قدْرًا كافيًا من تاريخ الإنسان في المجتمع يمكِّننا من وضع الأحكام العامة التنبؤية لمدًى طويل كما يستطيع حتى علماء الأرصاد الجوية. والصور المختلفة — فوق ذلك — في هذا الصدد أكثر تعددًا من أن ندركها في الوقت الحاضر إدراكًا علميًّا. فأنت — باختصار — لا تستطيع أن تحدِّد بداية الخط البياني في الماضي كما يستطيع العالم أن يفعل، وليس بوسعك إلا أن تَحدُس مكانه، ولا تستطيع إلا أن ترسمه على وجه التقريب، وفي شيء من الاجتراء. والأمر بحاجة إلى أجيال صابرة من العمل، قبل أن نخطو كثيرًا إلى الأمام. والخط البياني فوق ذلك «لا يمكن» أن يسير إلى الطرف الآخر بطريقة محددة، لأن هناك دائمًا — من ناحية ثالثة — إمكان ظهور اتجاهات جديدة جدتها حقيقية، مما لا يمكن التنبؤ به. وقد ذكرنا من قبل أن ماركس — وهو بطبيعته أحد فلاسفة التاريخ التجريديين هؤلاء — قد أثبت على وجه الجملة أنه سيئ التنبؤ، وقد أخفق بصفة خاصة في حدْس عدد من العوامل الجديدة — بما فيها العوامل التي أدَّت إلى قيام ثورته في روسيا بدلًا من قيامها في بريطانيا العظمى. وليس لدينا علمٌ كافٍ بالأمراض التي تفتك بالحضارات (إن كانت هناك مثل هذه الأمراض) حتى نستطيع أن نكشف عنها في أنفسنا. ويستطيع المؤرخون المهرة من أمثال توينبي بالتأكيد أن يشيروا إلى أعراضٍ مزعجة في ثقافتنا كما يشيرون إليها في ثقافة الرومان المتأخرة. ولكنا لا نعرف في الواقع ما تعنيه هذه الأعراض. ومهما يكن من أمر فإن القلق من مثل هذه الأعراض — كالموازنة بين الطلاق عندنا والطلاق عند الرومان — يوقفنا عند حافة مرض الاكتئاب النفساني.
إن الحتمية التي يأخذ بها أكثر فلاسفة التاريخ يوازنها في الوقت الحاضر من ناحية أخرى نوع من أنواع عدم الحتمية التي تعبأ أشد ما تعبأ بالأفكار التي تتعلق بالتدفق، والتغير، والنمو — لأن عصرنا الحاضر يشغل نفسه ﺑ «المسير» دون المصير. وهذا هو الاتجاه التطوعي الذي يظهر في كثير من الفلسفات الرسمية التي — فيما عدا هذا الاتجاه — تختلف اختلافًا بينًا فيما بينها، وهي الفلسفات التي ظهرت في الخمسين السنة الأخيرة — في نيتشه، وفي برجسون الفرنسي، وفي وليام جيمز وجون ديوي الأمريكيين وكانت فلسفة برجسون منذ أمس القريب هي طابع العصرية بين المثقفين الغربيين، الذين وجدوا في «تطوره الخلاق» وفيما شابه ذلك من عباراتٍ، فلسفةً من التغير والتدفق تلقى في نفوسهم صدًى. كان برجسون يتفق تمام الاتفاق مع الرومانتيكيين فيما كان هؤلاء يرونه دائمًا غير مستساغ أو مقبول في تقاليد حركة التنوير. ومن العسير أن نشير بوجه الدقة إلى هذا الشيء — إنه شيء يراه الرومانتيكيون بائدًا، منتهيًا، متعلقًا بالمخ، يضايق النفس، جامدًا، جافًّا. لا خيال فيه، وقد حاولنا — في شيء من الاعتذار عن الإيجاز عند الكلام عن برنامج حركة التنوير في الفصل الحادي عشر — أن نلخص مجموعة الآراء التي يمقتها الرومانتيكيون تحت كلمة الرأس ومجموعة الآراء التي يعشقونها تحت كلمة «القلب».
ومهما يكن من أمر فإن أكثر «الحتميات» من أمور «الرأس» وأكثر «التطوعات» من أمور «القلب». بيد أن برجسون، باعتباره عصريًّا دقيق الفكر لم يستطِع أن يحتمي في عودة بسيطة إلى الفطري، والبدائي، وهو يلفظ الميراث المعقَّد للفكر الحديث؛ ولذلك نراه يحاول أن يحتفظ بخيرِ ما في العالمين، العاطفة اليانعة، وكهوف الفكر ونواحيه الخفية الدقيقة المنطقية. والواقع أن هذا الجهد لإعطاء الفكر نفسه — لنوع من أنواع النشاط يربطه غير العقليين عادة بالأمن والدعة — صفة المخاطرة والمغامرة، أقول إن هذا الجهد هو من الموضوعات الرئيسية عند أبرز فلاسفة القرن العشرين، وأعني به المرحوم ألفرد نورث هوايتهد. وقد كانت الفلسفة العملية (البراجماتية) عند جون ديوي — ولعل البراجماتية هي أهم ما أسهم به الأمريكيون في الفكر الفلسفي الرسمي — كانت هذه الفلسفة تعارض أيضًا تأكيدات التفكير المنظم وصفة الثبات فيه. كان جيمس يعتقد أن الفكر أداة من أدوات الإرادة. والتفكير الجيد هو التفكير الذي يحقق لك ما تريد. ولم يكن بطبيعة الحال متشائمًا أو فوضويًّا أو منطقيًّا إلى الحد الذي يجعله يقول بأن كلَّ ما يريد المرء لا بد أن يكون طيبًا على الأقل من وجهة نظر ألفرد المريد. الخير عند جيمس هو ما يراه خيرًا الرجل المثقف الحساس المتسامح الرحيم المحترم من أعماقه في إنجلترا الجديدة لعهده. كان يحب الغريب والمضطرب، ويتفق مع جون مل في أن الخير والنافع والجديد المفيد قد ينبع من مصادر بعيدة الاحتمال. كان جيمس يرى أن التنوع، بل والكثرة المتصارعة هي في الواقع عملية، وهي تأتي بالنتائج، أو على الأقل كانت كذلك في عام ١٩٠٠م.
وأخيرًا أقول إن القرن العشرين — كغيره من القرون الحديثة — لم يعوزه أن يجد عالمًا طبيعيًّا عظيمًا يستطيع فيما يظهر أن يستلهم أعماله الفلاسفة وكتَّاب المقالات ورجال الفكر عامة ويلتمسون لديه القيادة التي وجدها القرن الثامن عشر في نيوتن. ذلك هو عالم الطبيعة ألبرت أينشتين، الذي كان عمله كعالم في الطبيعة فوق مستوى إدراك الجميع فيما خلا قلة من زملائه العلماء. أما بالنسبة إلى عامة الجمهور فإن أينشتين لم يكن مجرد الساحر القبلي في عصرنا وإنما كان الرجل الذي يمثِّل النسبية، يمثل الفكرة التي تقول بأن الأشياء تبدو مختلفة للمشاهدين من أماكن مختلفة أو في أزمنة مختلفة، وأن الحق يتوقف على وجهة نظر الباحث عنه، وأن الرجل الذي يتحرك بسرعة معينة يرى الأمور على خلاف شديد مما يراها عليه رجل آخر يتحرك بسرعة أخرى. أي أنه ليس هناك باختصار «حق مطلق»، وإنما هناك حقوق نسبية.
وكذلك يلخِّص اسم أينشتين في عقول الجمهور التطور العلمي العظيم الذي حدث في النصف الأول من هذا القرن. ونحن لم نعبأ بالتاريخ المفصل للعلوم الحديثة في الفصول الأخيرة، ويعرف كل امرئ أن العلوم الطبيعية قد واصلت في هذا العصر الحاضر تآلفها المثمر مع التكنولوجيا والمشروعات الاقتصادية، وأنها واصلت صفتها التراكمية. ومهما يكن من أمر فإن أعمال علماء الطبيعة والرياضة من أمثال أينشتين، وبلانك، وبوهر، قد أثمرت في مستهل القرن العشرين على صورة نظريات رئيسية جديدة كبرى فيما يتعلق بالعالم الطبيعي، حتى أمسى من التفكير العصري بين ناشري العلوم أن يقولوا إن طبيعة نيوتن قد «انتهى عهدها»، ومن الإنصاف أن نقول إن النسبية، والميكانيكا الذرية، والدراسات المتقدِّمة للذرة المحيرة المعقدة (ولو بُعِث ديمقريطس لما عرف ذرته الفلسفية البسيطة بعد الذي لحِق بها)، من الإنصاف أن نقول إن ذلك قد أدخل تعديلًا في طبيعة نيوتن كما أضاف إليها جديدًا. وإذا كانت الميكانيكا الذرية تنم عن عنصر واضح من عناصر استحالة التنبؤ في سلوك الذرة المفردة، فإن ذلك ليس معناه أن التنبؤ القديم لا وجود له — من الناحية الإحصائية — في كتلات الذرات. إن طبيعة نيوتن في الواقع لا تزال نافعة في كثير من العمل التقريبي. أما الأهمية الحقيقية للطبيعة الجديدة بالنسبة إلينا فهي أنها عاونت على وضع اللمسة الأخيرة في عملية هدم الأفكار الساذجة التي تتعلق بالسببية العلمية والتي سادت في القرن التاسع عشر، وهي الأفكار التي كانت تتصوَّر كل العلاقات في العالم قائمة على نمط آلي محدَّد، والتي كانت ترتبط بأفكار ساذجة عن الاستقراء العملي. إن النظريات العلمية الحديثة عن مناهج العلم دقيقة جدًّا ومعقدة، وقد أقرت بأن العالم الخلاق هو فنان خلاق إلى حدٍّ ما وأن البيان الذي تقدِّمه لنا نظرياته عن العالم هو من عمل عقله إلى درجةٍ ما، وليس مجرد صورة للواقع طبق الأصل. وأهم من ذلك أن العالم الحديث يعرف — أو لا بد أن يعرف — أن نظرياته ليست حقًّا مطلقًا، ليست حقًّا بالمعنى الديني وبمعنى الجانب الأكبر من الفلسفة الغربية. التي انحدرت إلينا بوجه خاص من القرنين الأخيرين أو القرون الثلاثة الأخيرة هي من وجهة نظر مؤرخ الفكر أبرز وأهم من عناصر الجدة. إن القنبلة الذرية هي من ناحيةٍ ما شيء جديد، وهي تتفجر بطريقة جديدة.
ومهما يكن من أمر فإننا لا نريد هنا إلا أن نسجل أن قوة العناصر وطبعًا بقوة وشدة جديدة. ولكن الشعور بأن القنبلة الذرية قد تؤدي إلى هدم الإنسانية، وإلى «نهاية العالم» ليس فيه من الجدة إلا علاقته بالقنبلة الذرية. فإن الخوف من بلوغ العالم نهايته شعور متكرر من «المشاعر الإنسانية»، وليس جديدًا باعتباره جزءًا من الخبرة الإنسانية حتى في محيط تاريخ الثقافة الغربية المحدود. وقد كان هذا الشعور وباءً منتشرًا في بعض الأحيان — كما كان في الأيام الأولى من المسيحية، وبدرجة أقل في عام ١٠٠٠م — ولكنه في كل حين وباء محلي يُصاب به الشواذ من الناس والطوائف الغريبة. إن القارئ المؤمن لسِفر الرؤيا لا يرى في تفجُّر الذرة هولًا جديدًا.
إن أكثر ما حاولنا تحليله حتى الآن على الأقل في الفصول القلائل الأخيرة لا يزال قائمًا بيننا. ويشق علينا ألا نتصور أن أكثر الأفكار التي مُثِّلت أمام أعيننا في غضون هذا الكتاب لا يزال حيًّا في العالم المعاصر. فإن المعرفة التراكمية — معرفة العلوم الطبيعية — قد استمرت بغير تخلف ملموس. بل إن الحرب تستحث بعض النواحي من العمل العلمي. كما أن أصحاب العقول المرنة الذين يعتقدون أن التطبيق المبتذل على الأمور العملية هو وحده الذي يستمر أثناء الحرب، وإن العمل الخلاق في «العلوم» البحت لا بد أن يتوافر له السلام، وربما كانوا على صواب، والحقيقة أن بين الأشياء الكثيرة التي نجهلها الظروف الاجتماعية والثقافية اللازمة لانتعاش العلوم الطبيعية إلى أقصى حدٍّ ممكن. والواقع أن العلم البحت والعلم التطبيقي في الغرب كليهما قد أضافا جديدًا من غير شك إلى العمل التراكمي في غضون النصف الأول من القرن العشرين الذي مزقته الحروب.
أما عن المعرفة اللاتراكمية، فإن ثقافتنا تشبه اللوحة العجيبة التي تبقى آثار الكتابة القديمة فيها مهما حاولت محوها، فلا شيء مما عليها يزول فجأة أو يزول بكليته. قد يتذبذب النجاح النسبي أو العصرية بين وجهات النظر والأفكار المختلفة، ولكن قلَّ منها ما يُستَبعد. ولْنستعرض المواد التي قدَّمناها في الفصول القلائل السابقة. ومن المؤكد أن المسيحية باقية على تنوُّعها الفني — كما تبدو للمُشاهد من الخارج — وباقية على توترها الأساسي بين هذا العالم والعالم الآخر. إن هذا القرن لم يشهد طائفة مسيحية جديدة كبرى، وقد شهد ذوبان المؤمنين في تيار اللامبالاة الذي يَعُدُّه كل جيل من أجيال المبشرين بالدين من ذوي ميول معينة شيئًا حديثًا، أو يتكلفه المبشرون لأغراض تبشيرية فيَعُدونه أمرًا جديدًا. بيد أن هذا القرن شهد كذلك ألوانًا من إحياء النشاط الروحاني في كل ضروب الطوائف وفي مكان من الأمكنة — بما فيها روسيا السوفيتية التي جاهدت جهادًا شاقًّا لتحطيم المسيحية. وكان هناك إحياء فكري يوازي بصورة واضحة ذلك الإحياء الذي حدث في السنوات التي أعقبت أزمة الثورة الفرنسية وكان بردييف، الرجل الذي نفته روسيا — في كثير من النواحي — على الأقل من حيث مشاعره إزاء ذنوب الجيل الذي لا يؤمن بالله، الذنوب التي أدت إلى أزمة العصر، أشبه بجوزيف دي مستر في العصر الحديث. ومن المحاولات بعيدة الغور ذات الأثر ما قام به كارل بارث في ألمانيا ورينولد نيبور في الولايات المتحدة، وهي محاولات لإصلاح ما كانا يَعُدَّانه تفاؤلًا سطحيًّا تقوم على أساسه نظرتنا الكونية الغربية الديمقراطية، وذلك عن طريق الرؤيا المسيحية. وبقيت الكاثوليكية الرومانية على الزعم بأنها على حكمةٍ أعمق مما توصلت إليه حركة التنوير في أي وقت من أوقاتها، وعلى الزعم بأنها تهتم بمصير عامة الناس في هذه الدنيا، على الأقل بدرجةٍ مساوية لما كانت تعزوه حركة التنوير إلى نفسها. وقد برهن الكاثوليك بجاك مايتين على أنهم ما زالوا يستطيعون إخراج «السياسي الأخلاقي» المفكِّر الحساس، الأصيل دون أن يكون من المتشبثين بالرأي.
وكذلك بقي التيار المعارض للمسيحية، ولا يزال بيننا خلفاء توم بين وهربرت سبنسر، واللاأدريين المتحررين في إيمان وثبات، والإنسانيين، والعلمانيين، والوضعيين، والماديين، وأتباع الثقافة الخلقية ومَن إليهم، وإن كنَّا قد بدأنا نَعُدُّهم من الرجعيين القدامى في التفكير. وقد نَعُدُّهم عصريين مرة أخرى؛ فهم أشبه بالأزياء التي تَعُدُّ طرازًا قديمًا ثم تعود إلى الظهور فجأة طرازًا جديدًا، وإن يكن في شكلٍ مهذَّب، كالأزياء النسوية لعهد فكتوريا وإدوارد. وفي الحق أن بعض هذه المذاهب قد ظهر في زيه الجديد في الوجودية التي شاعت في منتصف القرن، والتي انتشرت بين الدوائر المثقفة في أعقاب حرب ١٩٣٩–١٩٤٥م وقد تركزت الوجودية في فرنسا؛ حيث كان أشهر زعمائها الكاتب جين بول سارتر. إن الوجوديين لا يعتقدون في الله — أو على الأقل لا يعتقدون قطعًا في إله خير. وكانوا يرون أن الدنيا مكانٌ لا يَسُرُّ، يُولد فيه الإنسان من غير شك ليلاقي المتاعب التي لا يمكن أن يتخلص منها. إن مبدأ التقدُّم في نظر هؤلاء المتشائمين المصرِّين على التشاؤم هراء في هراء. ومع ذلك فهم يواصلون النضال، ويحيون حياة خلقية في أساسها (ولا أعني الحياة الخلقية الفكتورية المصطنعة بطبيعة الحال، وإنما أعني الحياة الخلقية الفنية). إنهم باختصار يريدون أن يوجدوا، ما دام الوجود إنسانيًّا.
ومن اليسير ألا نرى في الوجودية إلا عرَضًا يدل على ما أصاب أوروبا من إنهاك في نهاية حربٍ عظمى. غير أن المبشِّرين بالحركة، نيتشه وكيركجارد، كانوا من رجال القرن التاسع عشر. والوجودية من إحدى وجهات النظر هي انقلاب الإيمان المادي المتفائل في القرن التاسع عشر انقلابًا تشاؤميًّا لا يتستر وراء الأوهام. غير أن الوجودية، وغيرها من الفلسفات المسيحية في تحدٍّ، لم تتغلغل كثيرًا في مجتمعنا الغربي. ومن المحتمل أن يكون الرجل المتعلم العادي في العالم الغربي — الذي يُعبَّر عنه بالفرنسية بما معناه «الرجل المثقف المتوسط» — باقيًا على ما كان عليه في القرن التاسع عشر، مزيجًا متناقضًا بعض الشيء من التبعية للمسيحية والأخذ بالمذهب الطبيعي المتفائل الذي ساد في القرن الثامن عشر.
والماركسيون أبعدُ ما يكونون عن الموت. وقد كابدت عقيدتهم في روسيا المصير الذي يلحق بأكثر العقائد الإصلاحية بعد استقرارها، فإن عملية تحويل الماركسية في روسيا من عامل تفجير — أو عامل إثارة على الأقل — إلى عامل تمكين قد استمرت عدة عشرات من السنين. وقد بلغت مدًى لم يَعُد المواطن الصالح في روسيا السوفيتية يضطرب عنده — فيما يظهر — للتباين الموجود بين الشعار الماركسي «من كلٍّ على قدْر طاقته، إلى كلٍّ على قدْر حاجته» ووجود مَن يعادل المليونيرات الأمريكيين في داخل الاتحاد السوفيتي ذاته. إن أي تقدير عادل لما تعنيه الماركسية في روسيا، بل وما تعنيه في الدول التي تقع الآن تحت التأثير الروسي، يتجاوز قدرة الرجل الغربي؛ فنحن لا نملك حتى المَدد الضروري من الحقائق؛ إذ إنه من الواضح أنه ليس هناك تبادل حر في الآراء والمعارف بين النظامين العظيمين المتنافسين في النفوذ في عالم اليوم. وأهم من ذلك أننا لا نملك الظروف اللازمة لتحقيق درجة معقولة من درجات الابتعاد عن التحيز. ومن الجلي أن الماركسية لا تزال في كثير من أنحاء العالم عقيدة نامية مكافحة، عقيدة لا يجوز لنا أن نتغاضى عنها باعتبارها مجرد شيء مقلوب خبيث، بل لا بد لنا من النظر إليها على أقل تقدير كعَرَض خطير من أعراض فشلنا في استرداد حتى تلك الدرجة من الاستقرار الاجتماعي التي حققها الغرب في القرن التاسع عشر.
أما عن القومية فهي ما بَرِحت في منتصف القرن العشرين — فيما يبدو — أقوى عامل بمفرده في التشابك القائم بين المصالح والعواطف والأفكار الذي يربط الأفراد في جماعات سياسية تقوم على أساس وحدة الرقعة الأرضية. والقومية في حد ذاتها مزيج مختلط من كلِّ ما يسري في الحياة الثقافية الغربية تقريبًا؛ فهي لذلك ركيزة لكل الأشكال السياسية الأكثر تجردًا مما عالجناه في الفصول القلائل السابقة، ركيزة للشيوعية الروسية (وذلك برغم المبادئ العالمية اللاقومية النظرية في الماركسية الأولى)، وركيزة للنازية الألمانية، وللديمقراطية الأمريكية. وقد كانت الوحدات التي قاتلت في الحرب الأخيرة وحدات «قومية». إن أولئك الذين يمقتون الحرب ويأملون أن يمحوها من فوق هذه الأرض هم اليوم على اقتناع شديد بالحاجة إلى الحكومة العالمية، أو على الأقل إلى عدد أقل من الدول الإقليمية التي تستبعد الدول القومية كما نعرفها. وأكثر هؤلاء المنادين بالاتحادات العالمية يألفون الاستخفاف بالقومية، كأنها من اختراع شرذمة من الأشرار، وكأنها شيء دسَّه على عامة الناس سادتهم الأشرار، شر يمكن أن يزيله عنهم التشريع السليم. والقارئ الحصيف يتبين هنا نظرة القرن الثامن عشر الساذجة كلها إلى الشر باعتباره نتيجة البيئة، البيئة الخاضعة مباشرة — كما هي الحال في الأزمنة الحديثة — لمعالجة الأفراد الطيبين بدلًا من خضوعها للأفراد السيئين؛ فالسيئون لم يخلقوا البيئة إلا في الماضي — طبقًا لما يراه أصحاب هذه العقيدة. إن دعاة الاتحادات العالمية يزعمون أن القومية كامنة في أفئدة الناس، أو في عاداتهم، أو في سلوكهم الشعبي — وأعني بذلك على الأقل تلك القومية التي تدفع الأمريكي إلى قتل الياباني، والياباني إلى قتل الأمريكي، وليس هناك الآن أي دليل على أن دعاة الاتحادات على صواب. وبالرغم من أن القومية قد تكون نتيجة للبيئة، يبدو لنا — بعد مائتي عام من الإيمان بتأثير البيئة الذي ساد في القرن الثامن عشر — أن الثمرة هي نتيجة قرون عديدة من التاريخ، وأنها من الثبات والقوة بحيث لا يمكن أن تتبدل كثيرًا في أي جيل معين من الأجيال بتوجيه بيئي جديد مخطط — كذلك الذي نراه على الورق دستورًا عالميًّا جميلًا.
القومية إحدى حقائق الحياة، وهي من الحقائق المُشاهدة التي ليس بوسع عالم من العلماء أن يتجاهلها. وهي ليست بعينها في أي دولتين قوميتين، ما دامت ليست سوى عنصر واحد من عناصر الثقافة المعقدة. ويمكن تجاوزها، كما تجاوزتها إلى حدٍّ ما الأقلية الفعالة من دعاة الاتحادات العالمية — وإن يكن كل شيء أمريكي «قومي» يخلو بتاتًا من التفاؤل، ومن الإيمان بسحر الدساتير المكتوبة، ومن التخدير الديني بالأفكار المجردة الخلقية السامية؛ أي مما يظهره أكثر أنصار الحكومة العالمية من الأمريكيين. غير أن القومية بالنسبة إلى أكثر الناس عاطفة عميقة الجذور في حياتهم كلها، يدرُسها دراسة نافعة السيكولوجي الاجتماعي الذي لا يزال حتى اليوم على عتبة عمله العلمي في بناء المعرفة التراكمية. وهو يستطيع الآن بالفعل أن يُصدِر أحكامًا تجريبية كقوله إن القومية تأخذ أشد صورها اعتداء — على الأرجح — في الجماعات القومية التي تحس أنها مظلومة، معتدًى عليها، وتُعامل على أنها أحط من غيرها. كما تبدو القومية في أضعف صورها اعتداء، وأشبه ما تكون بذلك اللون الثقافي المقبول من ألوان طعوم الحياة الذي آمن مازيني بإمكانه، في الجماعات الصغيرة، الناجحة نسبيًّا، ولكنها مستقلة من الناحية السياسية، كالسويسريين أو النرويجيين أو الأستراليين. وحتى في أستراليا قد يُولِّد الخوفُ من الكتل الكبيرة الآسيوية النازحة إليها نوعًا من القومية النائية المكتئبة في السنوات المقبلة. غير أن موضوع القومية هذا بأسْره هو أحد الموضوعات المثيرة في المعالجة الجديدة لدراسة العلاقات البشرية التي سوف نتعرض لها بالبحث في القسم الثاني من هذا الفصل.
وإذن فإن أنماط الفكر التي سادت القرن التاسع عشر لا تزال بين ظهرانينا بعدما أدخلنا عليها تعديلًا من تجربتنا. فلا يزال لدينا المركز الديمقراطي الذي يتعرض للهجوم من اليمين ومن اليسار. وثمَّة كذلك أثرٌ آخر من آثار القرن التاسع عشر لا بد من التنويه عنه، ذلك أن المثقفين منَّا لا يزالون بعيدين عن عامة الناس، ولا يزالون في ثورة، ولا يزالون على خلاف فيما ينبغي أن تؤدي إليه الثورة. وما برح أولئك الذين يكتبون ويصورون ويمثلون ويعظون مجموعة منعزلة. نعم لقد مرَّت بأمريكا فترة قصيرة في أثناء الأزمة الاقتصادية الكبرى وخلال حرب ١٩٣٩–١٩٤٥م ابتهج فيها الكتَّاب لأنهم آمنوا بالديمقراطية، كما آمن بها جورج بابيت الذي ينتمي إلى زنيث بأوهايو، وآمنوا بابتكار الفرد، وبالإنسان العادي، وبطريقة العيش الأمريكية. غير أن هذه الفترة لم تكن سوى مدة قصيرة كفترة شهر العسل إن لم تكن بجملتها وهمًا من الأوهام. أما اليوم فإن الكتَّاب المفكرين وغيرهم من الفنانين قد عادُوا إلى الثورة مرة أخرى، يكتبون قذفًا في هذه الدنيا، وفي بعضهم بعضًا، منهم الماركسيون من جميع المذاهب من الاستالينية الأصيلة إلى أحدث شكل من أشكال التروتسكية، ومنهم مَن لا يزال يدعو إلى الأفكار المناهضة للديمقراطية بصورةٍ أخفى وأقل ابتذالًا، من الأفكار التي نادى بها المرحوم إيرفنج بابيت إلى تلك الأفكار التي بشَّر بها الفاشستيون العقليون حقًّا من أمثال عزرا باوند. وجميعهم يستمر في الشكاة، حتى إنك لو فتحت «مجلة الحزب» أو «مجلة أطلنطيق الشهرية»، أو حتى ريدرز ديجست (عصارة القارئ) لما توغَّلت كثيرًا في القراءة قبل أن تلتقي بمقالٍ يمكن أن يكون عنوانه: «ماذا دهى كذا وكذا …»
وأخيرًا نستطيع أن نعود إلى التنوع الشديد في الطرز المعمارية التي اتخذناها رمزًا للتنوع المتعدد في المجتمع الغربي المعاصر (ارجع إلى ما كتبناه في التوفيق الفكتوري في الفصل الثاني عشر). وليس بوسع أحد أن يجادل في أننا قد عُدنا في منتصف القرن العشرين إلى عادة الإنسان القديمة في البناء على طراز واحد في العصر الواحد. ومن الحق أنه قد ظهر في القرن العشرين طراز موحد بدرجة معقولة (بالرغم من وجود فروق فردية) وهو طراز يسميه كثيرون من الآخذين به طرازًا «وظيفيًّا»، ويعرفه الرجل العادي بأنه طراز «حديث». ولهذا الطراز ما يسير معه سيرًا ملائمًا في الزينة الداخلية وفي الفنون التشكيلية، حتى صار من الممكن أن تبني بيتًا وأن تؤثثه فيُعزى إلى منتصف القرن العشرين ولا يُعزى إلى أي زمان أو مكان آخر. والواقع أن هذا الإمكان إنما أضاف عنصرًا جديدًا إلى الفوضى القائمة. إن كثيرًا من الناس يسخطون على الطراز الحديث، وكثيرين لا يطيقونه؛ لأنه لا يزال أكثرَ طرق البناء في النفقات. والنتيجة هي أن «طريق سيرنجا» الجديد، الذي افتُتح عقب الحرب مباشرة، به بيت حديث طرازه مستمَد مباشرةً من طراز جروبيوس بوهوس، وذلك بالإضافة إلى ما به من طراز كوخ «رأس كود»، ومن الطراز الجورجي المركَّب، وطراز إرسالية كاليفورنيا، وطراز «صندوق الملح» الذي وَرِثه عن القرن السابع عشر. والجيران في شك من وجود هذا الطراز الوظيفي الصارم وسط ما لديهم من جمال.
ومن المحتمل أن يكون الرجل المثقف في الغرب في منتصف القرن العشرين على وعي بأن التنوع الموجود في العالم الحديث في كل موضوع من الموضوعات صغُر أو كبُر، شيء جديد نسبيًّا في تاريخ البشرية، وهو يخشى كثيرًا أن يكون تقبُّله فوق طاقتنا. إنه يبحث عن مركَّب جديد، عن إيمان جديد، عن قاعدة مشتركة من الاتفاق بشأن «المشكلات الكبرى». ولكنه لم يحصل بعدُ حتى على البدايات الظاهرة لمركَّب روحاني جديد، أو حتى على بدايات شيء جديد جدًّا وحديث يمكن على الأقل أن ينضم إلى الخليط، كما انضم البناء «الحديث» إلى غيره. وليس معنى هذا أننا نقول بأن عصرنا الحديث لا يتصف بروح العصر الخاصة به، وبنكهته الخاصة، وبلمساته الصغيرة الخاصة في الأسلوب التي سوف يميزه بها المؤرخون في المستقبل، وإنما نحن أقرب إلى أن نقول: إننا لسنا حتى الآن سوى شكل من الأشكال في نمط ثقافي مطرد إلى حدٍّ كبير نشأ عن العصور الوسطى، واتخذ صورة واضحة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وفي الحق أن أحدث شيء في حياتنا الفكرية ربما لا يكون شيئًا جماليًّا، بالرغم من شيوع طابع العصرية، بل قد يكون اتجاهًا نحو دراسة الناس والعلاقات البشرية، اتجاهًا ربما كان في الواقع بداية لما عبَّرنا عنه من قديم بمصطلح العلوم الاجتماعية.
تعريف اللامعقول
إن هذا الاتجاه في كثير من مظاهره المحسوسة قديم جدًّا — فأنت تلمس أثره في كتاب «السياسة» لأرسطو — وقد يكون من الخطأ أن نَعُدَّه مقدمة لبداية دراسة علمية شكلية للعلاقات الإنسانية، وربما كان ما نسميه هنا باللامعقول لا يعني بالنسبة لمؤرخ المستقبل أكثر من اتجاه واحد من اتجاهات الثقافة في القرن العشرين، وجانب من جوانب روح العصر، وجزء من كل نظراتنا إلى الحياة والعالم يزيد كثيرًا عن كونه معرفة تراكمية، أو علمًا. وربما كان من الأسلم هنا أن نعالج اللامعقول — وبخاصة من حيث علاقته بدراسة الإنسان في المجتمع — باعتباره مجرد مظهر من المظاهر المميزة لروح العصر الذي نعيش فيه.
إن العاشق الحديث للاتعقل — ككثير من المدافعين عن النازية — يتجاوز كثيرًا هؤلاء الرومانتيكيين الأوائل. غير أن جوهر الفكرة هو في الرومانتيكية. ومن نكد الطالع أن يكون هناك مثل هذا الاضطراب في مسألةٍ من مسائل المصطلحات لها أهميتها القصوى. ومهما يكن من أمر فسوف نحاول أن نستعمل اصطلاح «اللامعقول»، لا نهجوه ولا نثني عليه، لنصف محاولة التثبت من مكانة التعقل في المسلك الحقيقي للإنسان.
إن الرجل اللامعقول يميل إلى عدم الثقة في نوع معين من التفكير المجرد الاستنباطي في المشكلات الكبرى من النوع الذي كثيرًا ما التقينا به في هذا الكتاب، وبأوضح صورة في العبارة التي اقتبسناها من هيجل في الفصل الثاني عشر عند الكلام على تكييف النظرة الكونية الجديدة وتعديلها. غير أن الرجل اللامعقول — بالرغم من أنه في معارضته لفلسفة حركة التنوير التي تقول بأن تعميم التعليم سوف يهدي كل امرئ بين عشية وضحاها إلى التفكير السليم كثيرًا ما يحط من شأن أداة التفكير — هو «بمعنًى ما وارث حقيقي لحركة التنوير»، وهو في أعماقه مؤمن بقدرة التفكير على أن تجعل حياة الإنسان هنا فوق هذه الأرض من نوع أفضل. وقد كان فرويد نفسه — الذي يخطئ بعض أصحاب العقول المرنة فيَعُدُّونه رسولًا لفكرة التمادي في إشباع الشهوات الذاتية الغريزية المظلمة عميقة الغور — يعتقد في قوة الصدق — الصدق العلمي الذي استقر بحق — في ثباتٍ كثبات أي فيلسوف من فلاسفة القرن الثامن عشر، قوة هذا الصدق على الارتفاع بمستوى السلوك الحسن من جانب الفرد الذي أفلح في تعلُّم الصدق، إلا أن الفيلسوف في القرن الثامن عشر كان يظن أن كل ما يقف بين الفرد وتعلُّم الصدق ليس إلا قوقعة متعفنة من النُّظم البائدة، كالكنيسة الكاثوليكية والملكية الفرنسية، في حين أن فرويد كان يظن أن مجموعة النُّظم العتيدة لا تقف وحدها بين الفرد وتعلُّم الصدق، وإنما يقف إلى جانبها كذلك مجموعة قوية من العادات والميول الشخصية، ومجموعة قوية من العادات التي تأصلت منذ الطفولة الباكرة — وفي هذا فارق له أهمية كبرى. إن فرويد — حتى في شيخوخته البائسة في منفاه — لم يأمل أن تشق «الكثرة» من الناس طريقها ظافرة نحو هذا النوع من الصدق في فترة وجيزة.
إن الآمال المخفَّفة في التحسن البطيء في العلاقات الإنسانية — وهو تحسُّن كاد يرفعه حتى أصحاب الميول اليسارية من بين اللاعقليين إلى مرتبة كمال المدينة الفاضلة — يظهر في اقتباسٍ من جراهام والاس، وهو أحد الفابيين من أيام ولز وشو وآل وب، وهو عضو تقدُّمي في مجلس مقاطعة لندن، ومؤلف كتاب «الطبيعة البشرية في السياسة» الذي نُشر في عام ١٩٠٨م. وقد قام والاس بدراسة «واقعية» لا عقلية خفيفة في السياسة البريطانية، أشار فيها إلى أن الناخبين لا يعللون الأشياء في هدوء ومنطق، بل لا ينظرون في كثير من الأحيان إلى مصالحهم الخاصة نظرة ذكية، وإنما كانوا يتأثرون بالملق، وبمناشدة أهوائهم وبمظهر المرشح الجميل، وباهتمام المرشح بهم — فوق كل شيء — كأشخاص، وبأشياء صغيرة جدًّا كمناداته إياهم بالاسم. وقد أحس ولاس بالأسى العميق حينما اتهمه أحد زملائه من العمال في حزب العمال بتقرُّبه إلى خصومه بهذه الأمور اللاعقلية فكتب يقول:
«إن دور الفكر قد يكون متأخرًا في حركة التطور، وقد يكون الفكر ضعيفًا بدرجةٍ يُرثى لها من حيث قوَّته الدافعة، غير أن أي امرئ وأي نظام لا يستطيع بغير إرشاد الفكر أن يجد طريقًا آمنًا وسط الأمور غير الشخصية الكثيرة المعقدة في هذا الكون كما تعلمنا أن ننظر إليه.»
إن اللاعقلي يصر على أن الإنسان مخلوق معقَّد ينبغي لنا أن ندرُس سلوكه بغير أفكار سابقة تتعلق بما في هذا السلوك من خير أو شر ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. وموقف السلوك الطيب يشبه موقف التفكير المنطقي في الحياة الإنسانية. إن اللاعقلي لا ينكر الفرق بين الخير والشر، ولا يتردد في أن يؤثِر الطيب على الخبيث. أما ما يصر عليه فهو أننا إذا حكمنا بالدليل الذي نستمده من ملاحظةِ ما قام به الناس وما يقومون به لوجدنا قدْرًا كبيرًا من السوء حولنا، ولبدا لنا — وهذا هو الأمر المهم — أنه ليست هناك أية علاقة سببية مباشرة أو بسيطة بين المُثُل العليا الخلقية عند الناس وبين أعمالهم. ومن أجل هذا نجد أن اللاعقلي يعيد ثناء بيكون على مكيافيلي، وهو من اللاعقليين الأوائل في كثير من اتجاهاته: «إننا مدينون كثيرًا لمكيافيلي وغيره ممن كتبوا عما يفعل الناس، ولم يكتبوا عما ينبغي لهم أن يفعلوا.»
وموجز ما قدَّمنا أن أكثر اللاعقليين يَقبَلون على وجه العموم أهداف النظام، والسعادة، والحرية الفردية، وغير ذلك مما نربط بينه وبين حركة التنوير، غير أنهم يتمسكون بهذه الأهداف باعتبارها ممكنة التحقيق في هذه الدنيا على صورة ناقصة وفي بطء شديد ليس غير. وهم يعتقدون أن أحسن السبل لتحقيقها لا يكون بالتبشير بضرورة تحقيقها، ولا يكون «بادعاء تحقيقها فيما سبق» (وهو زعم شائع بين المربين الأمريكيين والكتَّاب، والمبشرين بالآمال للجماهير المستمعة)، وإنما يكون بالعمل الدءوب على بناء علوم اجتماعية صادقة تقوم على أساس مناهج المعرفة التراكمية التي جُرِّبت أمدًا طويلًا، وعلى أساس استخدام الناس لهذه المعرفة للنهوض بالطيب دون الخبيث. وهم على اتفاق على ما هو طيب أتم مما يظن المتشائمون من الشباب، الذين استجدوا في الكشف عن أن الآراء الإنسانية عن الجمال والخير ليست في غينا الجديدة كما هي في نيويورك. وهم على اختلاف أشد في آمالهم. والظاهر أن باريتو، الذي سوف نلتقي به بعد قليل، كان عند وفاته في عام ١٩٢٣م قليل الأمل في أن يستخدم الناس معرفة بالعلوم الاجتماعية أفضل للنهوض بالخير في هذه الدنيا. ومن المحتمل أن الباحثين في العلوم الاجتماعية من الأمريكيين المعاصرين الذين تأثروا باللامعقول (بالرغم من أنهم قد لا يحبون وصمة اللامعقول هذه)، ومن بينهم كلايد كلكهون من جامعة هارفارد وإسكندر ليتون من جامعة كورنيل، يعتقدون — طبقًا للتقاليد الأمريكية الطيبة — أن المعرفة الجديدة سوف تُستخدم لأغراض طيبة على وجه العموم — وأن العلوم الاجتماعية سوف تُستخدم للنهوض بالعمل الطيب في المجتمع وبصحة هذا المجتمع، كما استُخدمت علوم الطب في النهوض بصحة البدن.
اللامعقولية المعاصرة
ذكرنا من قبلُ كيف أن العلماء الطبيعيين من أمثال نيوتن ودارون كانوا روادًا في مجال العلوم الاجتماعية. وإنما تأتي الريادة في عصرنا من البيولوجيا والسيكولوجيا. وربما كان أقوى أصحاب الأمر من حيث التأثير في الدراسات الاجتماعية هما بافلوف وفرويد، وكلاهما من علماء النفس الذين درسوا الفسيولوجيا وغيرها من العلوم البيولوجية. وأرجو أن تلاحظوا أننا لا نبحث هنا في معنى دراساتهما المهنية في حدودِ ما صارت إليه في الوقت الحاضر مهنتاهما من تخصُّص شديد، وإنما نحن نبحث في تأثيرهما في تيارات الفكر الأعم بين قوم من أصحاب الدراسات المتنوعة التي تتعلق بالشئون الإنسانية.
وموضوع بافلوف أبسط الموضوعين، إن ما بلغ العالم الخارجي من معامل هذا العالم الروسي الذي قدَّرت استقلاله حكومتا قيصر والسوفيت على السواء هو هذه العبارة الشهيرة: «فعل الشرط المنعكس». إن كلاب بافلوف مألوفة إلفَّ أي حيوان آخر يدخل في تجارب المعامل. وأكثرنا يعرف كيف يسيل لعابها توقعًا للطعام عند مجرد الإشارة إليه، وذلك بعد تكرار إطعامها عند إشارة معينة كالجرس مثلًا. إن الاستجابة الطبيعية — أي الاستجابة التي لم تُدرَّب — بسيل اللعاب لا تتأتَّى عامة إلا عندما يُقدَّم الطعام للكلب فعلًا. غير أن بافلوف حصل على نفس الاستجابة بطريقةٍ مصطنعة بإشارة لم تكن لها عند الكلب بالتأكيد رائحة الطعام أو منظره. والنتيجة هي قيام الدليل الواضح على أن التدريب (الاشتراط، أو التكيف) يمكن أن يؤدي إلى استجابات آلية عند الحيوان، وهي استجابات شبيهة أساسًا بنوع الاستجابات الآلية التي يُولد بها الحيوان. إن أفعال الشرط المنعكسة كسيل اللعاب عند إشارةٍ ما هي بعينها كالانعكاسات الطبيعية كسيل اللعاب عندما نقدِّم للحيوان قطعة من اللحم المحمر الجميل.
ومعنى هذا للباحثين في العلوم الاجتماعية في خطوط عريضة هو هذا: إن أفكار القرن الثامن عشر عن قوة البيئة (التدريب أو التعليم) من ذلك النوع الذي عبَّر عنه روبرت أوين في وضوحٍ شديد كما جاء في الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب عند الكلام على إيمان المستنير، قد تأيدت إلى حدٍّ ما، بمعنى أن البيئة يمكن علاجها بحيث تكسب الكائنات العضوية استجابات جديدة. غير أن الكائن العضوي — وهذه لطمة شديدة لتفاؤل القرن الثامن عشر — بعدما يخضع لهذا التدريب يستوعب النتائج كأنها من أثرِ الوراثة، لا البيئة، فيصبح التغيُّر الجديد أمرًا جد عسير، بل ومستحيلًا في بعض الحالات. وقد حاول بافلوف — بعد تدريب بعض كلابه — أن يخلط في إشاراته، فكان يخيب رجاء الكلاب ويربكها بمنع الطعام عند الإشارة التي كانت دائمًا إيذانًا بتقديم الطعام إليها، وهكذا حتى نجح في خلق أعراض تشبه ما يكون في الكائنات البشرية على شكل نورستانيا أو مرض عقلي.
إن الباحث الحَذِر في العلوم الاجتماعية لا يأخذ بطبيعة الحال أفعال بافلوف الشرطية المنعكسة ويطبِّقها على كل ضروب السلوك البشري تطبيقًا أعمى؛ فهو لا يفترض مثلًا أن الرجل من فيرمونت الذي يصوِّت للجمهوريين يسلك تمامًا سلوك الكلب الذي يسيل لعابه عندما يُدَقُّ له جرسٌ ألِفَ سَمْع رنينه؛ فحتى في فيرمونت ربما لا يكون التصويت للجمهوريين فعلًا شرطيًّا معاكسًا. غير أن الباحث الحَذِر في العلوم الاجتماعية يقول بأن الآراء التي تشبه الأفعال الشرطية المنعكسة تلقي ضوءًا على جانب كبير من السلوك البشري الذي تحدِّده العادة. ويرى اللاعقلي أن عمل بافلوف دليل جديد على أن جانبًا كبيرًا جدًّا من سلوكنا لا يخضع — بل ولا يتأثر كثيرًا — لما يدور في تلافيف المخ.
أما فرويد فهو أشد تعقيدًا من بافلوف — بل هو من أعقد الشخصيات في تاريخ الفكر في الغرب. كان عالمًا نشأ على عقيدة المحترف البسيط في عالم مادي يختفي فيه عنصر ما فوق الطبيعة، وعنده احتقار العالم لكل الآراء الميتافيزيقية — ما خلا الميتافيزيقيات الإيجابية الثابتة في العلم الحديث التقليدي. ومجموع عمله مركَّب يحيِّر الألباب من العلوم الطبيعية والميتافيزيقيات المتشائمة التي تكاد تكون مسيحية. وفي كتابٍ بهذا الحجم لا نستطيع أن نبحث بحثًا صحيحًا في أمور فرويد المعقدة. ثم إن عمله — كعمل جميع المفكرين من واضعي النُّظم — يبدو مختلفا جدًّا للغرباء عنه والمؤمنين به الصادقين. لقد اخترع طريقة لمعالجة أنواع معينة من العجز البشري تُعَدُّ عادةً انهيارًا عقليًّا، أو عصبيًّا، أو نورستانيًّا، أو ما إلى ذلك. وتُدعى هذه الطريقة التحليل النفساني، ويجب أن نميز بينها وبين معالجة الأمراض العقلية بالطريقة التقليدية، التي يقوم بها عادة أطباء ذوو دربة خاصة، كالمختصين في الأمراض العصبية، مما نسميه بالطب النفساني والتحليل النفساني على طريقة فرويد لا يزال يُعَدُّ في أكثر الأحيان هرطقة، أو عقيدة طائفة متحمسة، وذلك بالرغم من أنه كجزء من علوم الطب أفضل في سمعته في عام ١٩٥٠م في أوساط الأطباء التقليديين مما كان يَعُدُّه المرء ممكنًا منذ بضع عشرات من السنين فقط. ويصدُق هذا بصفة خاصة حينما امتدت الآراء التي طوَّرها فرويد في علاج الأمراض العقلية — كما مدَّها فرويد بنفسه في أخريات حياته — إلى أكثر ميادين العلوم الاجتماعية. وأخيرًا فإن مما يزيد دراسة فرويد عسرًا أنه كان دائمًا يُدخِل التعديل حتى على أفكاره الأساسية، حتى بات من الخطر أن تأخذ نظامه في أي وقت بعينه على أنه نظام كامل.
وقد أرشد فرويد الكثيرين في دراسة السلوك البشري، ممن لم يعرفوا شيئًا — أو عرفوا القليل — عن التحليل النفساني، وهيكله الخارجي الميتافيزيقي. وأمست السيكولوجيا في هذا القرن حقًّا هي العِلم العصري، كما أضحى المتعلمون يستخدمون في حديثهم المصطلحات السيكولوجية كما كان رواد «الصالونات» في القرن الثامن عشر يتحدثون عن قوانين الفيزياء والفلك التي اكتشفها نيوتن. وكثير من هذه العملة السهلة الحديثة التي يتبادلها الناس في الحديث قد سكَّها فرويد بنفسه من قبل، مثل اللبيدو (الطاقة الحيوية)، وعقدة أوديب، والإحساس الجنسي عند الأطفال، والتسامي وربما كانت أسهل هذه العملات — وأعني بها عقدة النقص — من صياغة أحد تلاميذه، آدلر، الذي اختلف مع أستاذه فيما بعد، وأقام فرعه النفساني المستقل.
ويهمنا هنا — طبقًا للقاعدة التي سرنا عليها في هذا الكتاب — ذلك الجانب من آراء فرويد الذي انتشر بين الطبقات المثقفة أكثرَ مما تهمنا دلالة هذه الآراء المهنية في علم النفس وفي الطب، ويكفينا لهذا الغرض تخطيط عام جدًّا لآرائه الأساسية في نحو عام ١٩٢٠م. يرى فرويد أن ما يسير الناس هو مجموعة كاملة من «الدوافع» التي سمَّاها «اللبيدو» — أو الطاقة الحيوية — في أول الأمر، وربط بينها وبين الرغبات الجنسية التي أُطلق عليها فيما بعدُ اسم «أيد» — أو مجموعة الدوافع الغرزية — ثم خفَّف قليلًا من ناحية الجنس فيها. و«الأيد» في الكائن البشري هو جزء من اللاشعور. وهو يرغَب، ويدفع الفرد إلى العمل. غير أن مسلك الكائن البشري كله يرتبط بجزأين آخرين من النفس البشرية، هما «الإيجو» أو الذات، و«السوبريجو» أو الذات العليا. ومما يُغضِب العلماء الطبيعيين التقليديين كثيرًا أنه ليست هناك طريقة لتحديد موضع «الأيد» و«الإيجو» و«السوبريجو» في المخ البشري، أو في أي مكان آخر في جسم الإنسان؛ فليس هناك قطُّ مَن «شهِد» جزءًا من «الأيد»، حتى تحت المنظار المكبِّر. والواقع أن فرويد لم يكن في هذا الصدد — على الأقل — يرتكب إثمًا في حق العلم الصحيح — فإن معيار الاختبار لهذه الآراء ليس إمكان إدراكها كجزء من تجارب الاستقبال البشرية التي تعينها الآلات، وإنما معيار اختبارها هو صلاحيتها للعمل، وهل يمكِّننا استخدامها من فهْم السلوك البشري فهمًا أفضل.
إن «الذات» كلها، أو كلها تقريبًا، جزء من الحياة العقلية الواعية عند الإنسان، ولكنها ليست نشاطًا منطقيًّا بحتًا. هي حكم أو حاكم، وراعية لمصالح الكائن العضوي ككل، والفيصل في الرغبات المتضاربة التي تصدر عن «الأيد» في الشعور. وبعض هذه الرغبات — وبخاصة إن بدت للذات من النوع الذي يَحُطُّ من قدْر الإنسان يكبت بواسطة الذات، ولكنه يبقى ناشطًا في «الأيد» اللاشعوري، بعضها «يتسامى»، ويتحول مثلًا من هدف جنسي إلى فن أو شعر أو أشخاص حاكمين. وتتضمن «الذات العليا» بعض العناصر التي تدخل في أفعال الشرط المنعكسة. وفي هذه الذات العليا تؤثِّر في أعمال الفرد الأفكار التي تعلَّمها عن الحق والباطل، عن الطريقة «الصحيحة» في السلوك، والآراء «الصحيحة» التي يتمسك بها. إن الذات العليا لا شعورية إلى حدٍّ ما، يتشبع الفرد منذ الطفولة بأوامرها بحيث لا تسير في العملية المنطقية، فلا تجابهه بمشكلات تتطلب هذا العمل أو ذاك. أما الذات فتشبه إلى حدٍّ ما ضمير الفرد اللامسيحي. في حين أن الذات العليا أشبه ما تكون بالضمير الاجتماعي أو الجماعي الذي يؤثِّر في الفرد ظاهرًا وباطنًا. الذات تتوسَّط بين «الأيد» والعالم الخارجي ذي «الواقع» المادي، في حين أن الذات العليا تتوسط بين «الأيد» والعالم الخارجي من جانب المثل و«الأمور العليا» التي نَسب إليها أخيرًا فرويد — وهو راغم — نوعًا من الواقع الموضوعي.
و«الأيد» و«الإيجو» و«السوبريجو» تتضافر في الفرد السليم لكي تجعله على وعي بحقائق بيئته، ولكي تمكِّنه من تكييف سلوكه طبقًا لهذه الحقائق، حتى يمسي بوجه الإجمال رجلًا سعيدًا ومواطنًا صالحًا. وفي الشخص العصبي تتراجع الرغبات التي تكبحها سلبية «الذات» أو «الذات العليا» إلى اللاشعور؛ حيث تواصل الحياة وقوة الاندفاع كما تفعل الرغبات. وهي التي تكون مادة الأحلام. وتظهر متنكرة (وإن تكن غير متسامية تساميًا صحيحًا) في كل أنواع الأفعال التي لا تسير كما يسير السلوك العادي المألوف — تظهر في المخاوف المتسلطة، وفي الانسحاب من المسئوليات العادية، وفي الهموم والأشجان، وفي كل أنواع السلوك التي نسميها اليوم «عصبية». وهذه الرغبات المكبوحة مستقرة في اللاشعور، والشخص العصبي لا يعرف حقًّا ما يريد.
وفكرة فرويد الأساسية في العلاج النفساني — وهذه الفكرة هي التي تجعلنا نَعُدُّه من أبناء حركة التنوير — يمكن تلخيصها في أنها طريقة متشعبة عسيرة (باهظة النفقات) يتعلم بها المريض أن يعرف ما يريد حقًّا. وكان فرويد يعتقد بصفة أخص أن الكبت الأول؛ أي الإرجاع الأول لبعض الرغبات إلى «الأيد»، هو مصدر الشر، أو هو «الجرح» (تروما) الذي يصيب نفسية الفرد. وهذا الجرح في ظنه يرجع إلى عهد الطفولة. ويرتبط أيضًا بهذه الحقيقة: وهي أن الرغبات الجنسية المبكرة عند الطفل لا تلقى البتة قبولًا في ثقافتنا، وأن ذاته وذاته العليا كلتيهما يتعلمان بشيء من العنف أنهما لا يصح أن يسمحا بمثل هذا السلوك، وحتى إذا لم تكن هناك واقعة مفردة بسيطة ترجع إلى عهد الطفولة يمكن أن تُعَدَّ منشأ لصعوبة من الصعوبات يلاقيها الفرد في حياته المقبلة، فإن فرويد يعتقد أن السنوات الأولى هي دائمًا ذات أهمية قصوى، ولكن كيف يبعث الفرد هذه الأمور المنسية؟ لا يكون ذلك إلا بعملية طويلة من «الترابط الحر» الذي يجعل الفرد يتجول في ذكرياته الماضية يومًا بعد يوم، عالم التحليل النفساني إلى جانبه يلاحظ الدلائل الدقيقة وهي تظهر وسط الذكريات المتدفقة، وبمعونة الأحلام، حاضرها وماضيها.
ولا نستطيع بطبيعة الحال أن نحاول هنا وصفًا مفصلًا لطرائق فرويد في العلاج النفساني، وإنما ينبغي أن تكون هذه النقطة واضحة: وهي أن فرويد كان يعتقد أن الفرد عبارة عن مجموعة من الأفكار والرغبات المضطربة التي لا يمكن أن يكون لها معنًى إلا بعد مشقة كبرى. ولكن بعدما يتمكن المحلل النفساني بعد البحث الطويل من إظهار الفرد على «السبب» في مسلكه الذي سلك، يكفُّ الفرد عندئذٍ عن السلوك السيئ، الذي لا يجديه ولا يجدي رفاقه نفعًا. وأرجو أن تلاحظوا أن فرويد لم يقف موقف روسو القديم البريء الذي يرى أن السبيل التي نتجنب بها الصعاب هي أن تجعل كل فرد يتبع منذ الطفولة رغباته، وأن نجعل «الأيد» يملي عليه أعماله، ما دامت المتاعب كلها تنشأ عن الكبت الأول. نعم إن فرويد وأتباعه يميلون إلى أن يكونوا «متسامحين» في تربية الطفل، ويميلون إلى العطف على تحقيق أكبر قسط من الحرية للفرد في المجتمع بقدْر ما يمكن. والظاهر أن فرويد نفسه لم يرضَ قطُّ عن محتوى أكثر «ذواتنا العليا»، عن «الأمور السامية» في التقاليد الغربية. إلا أن أتباع فرويد لا يدفعون عن الاستهتار في الشهوات، ولا يريدون للمرء أن يكون عبدًا لشهواته الساذجة، وهم ليسوا في أكثر الحالات من الشواذ الذين ينادون بعدم التقيُّد بالأخلاق الدينية. إنهم أطباء مدرَّبون، يحاولون أن يخلصوا لمعايير المهنة الدقيقة، ويحاولون أن يروا الناس على حقيقتهم.
لقد كانت مساهمة فرويد في اللامعقولية المعاصرة كبيرة حقًّا. وإذا ضممنا عمله إلى عمل بافلوف وكثير غيرهم من علماء السيكولوجيا والفسيولوجيا، وجدنا أن ما قاموا به يؤكد بشدة نسبة الأعمال البشرية التي لا تلعب فيها أداة الفكر التقليدية — بمسمياتها المختلفة عند أرسطو والمسيحيين ولوك وكتاب الموسوعة، بل وعند نيومان الذي يقول بوجود حس استنتاجي عند الإنسان — دورًا ما، أو تلعب فيها دورًا صغيرًا، ويرى اللاعقليون أن العمل نتيجة الاستجابات الآلية، طبيعية كانت أو مشروطة، من كل أنواع الدوافع والحوافز، والتقاليد، والعادات الاجتماعية، بل والمبادئ الدينية والميتافيزيقية التي تمسي بالتربية الأولى والتكييف المبكر جزءًا من طريقة الفرد في الاستجابة إلى حاجته إلى إصدار قرار من القرارات. إن الفكر التعليلي عند الفرد — كما يرى اللاعقليون — يساوي بالنسبة إلى بقية حياته نسبة أقل من الجزء اليسير من الجبل الثلجي الذي يُرى فوق الماء إذا قيس إلى كتلة الجبل كلها. إن «كمية» التعقل في الحياة البشرية، وليس مجرد «وجود» هذا التعقل، هي إذن النقطة التي يختلف فيها اللاعقليون وأولئك الذين يعارضون التعقل. إن ممارسة جانب كبير من السياسة الأمريكية، وكثير من نواحي الحياة الأمريكية لا عقلي — والإعلان مثال واضح لذلك.
إن جذور وفروع هذه النظرة — التي ترى أن مكان أداة الفكر الحقيقي الوظيفي في مجموع نواحي النشاط البشري فوق الأرض محدود — يمكن تتبعها في كثير من مجالات الفكر الحديث — ولنذكر أننا في هذا لا نبتهج لضآلة هذا المكان ولا نرثي لها. إن الجذور الهامة ترجع إلى ما فعل المفكرون الاجتماعيون بداروين؛ إذ قد اتضح أننا لو آمنا — بوجه عام — بأن ما أكسب الناس هذه النتائج الطيبة في تنازع البقاء هو ذهنه، فإن أكثر الحالات المحسوسة تشير إلى أن صاحب العقل لم يكن بأية حال من الأحوال هو المبرَّز في تنازع البقاء.
وقد كان والتر باجهوت — الكاتب الإنجليزي الذي يُعَدُّ كتابه «الطبيعة والسياسة» الذي نُشر في عام ١٦٨٩م من المحاولات الأولى للاسترشاد بمبادئ داروين في دراسة شئون الإنسان — من أوائل كتَّاب القرن التاسع — الذين عالجوا الإنسان باعتباره «سياسيًّا وأخلاقيًّا» — الذين تناولوا هذا الموضوع، ومن أكثرهم تشويقًا. وكان الأجدر به أن يجعل عنوان كتابه «البيولوجيا والسياسة»، ولم يستخدم باجهوت «الفيزياء» إلا بمعنى «العلوم الطبيعية». قال باجهوت إن المرحلة الأولى في بناء الحضارة من مجرد الهمجية كانت حالة من حالات صلابة القانون والنظام في كل أمر من الأمور — ولا أعني دكتاتورية شخصية، وإنما أعني دكتاتورية ما أسماه باجهوت «قالب العادة». إن تلك الجماعة التي تملك أفضل نظام، أو أثبت قالب من قوالب العادات هي الجماعة التي تفوز في النهاية في معمعان منافسة الجماعات. غير أن العقل المبتكر يلعب دورًا أوضح في المرحلة التالية. في هذه المرحلة تصدر أفكار جديدة تمكِّن الجماعة من مواجهة البيئة بطريقة أفضل. وأخيرًا يأتي دور «الحكم بالمناقشة» وهو من طوابع العصر الحديث.
وكل ذلك قد يشبه النظرة التقليدية الفكتورية التي ترى أن التقدُّم يسير في خط واحد. غير أن باجهوت يحرص على الإصرار على أن المجتمع الناجح — حتى بعد تحطيم «قالب العادة» بالأفكار الجديدة — لا يزال يحتفظ بقدْر كبير من الصفات القديمة التي لا تنطبق على العقل، وإلا تدهور. والواقع أنه قد وجد تفسيرًا لنجاح الديمقراطية البرلمانية، وهو أمر كان في عصره من المتناقضات، وهو بالنسبة إلينا مثال نموذجي من أمثلة اللامعقولية، فقال: إن المشكلة الكبرى لحضارة من الحضارات التي يُنشئها الجنس البشري هي أن الكائنات البشرية حيوانات قلقة، غير مقيدة، تريد دائمًا أن «تقوم بعملٍ ما»، وأن الفضيلة الكبرى للحكم بالمناقشة هي أنه «يؤجل» العمل، ويستغرق وقتًا طويلًا في الجدل والمناقشة، وبذلك يوفر الوقت لعمل الطبيعة العلاجي. وبنفس هذه الطريقة قرَّر باجهوت أن مشكلة الفرنسيين هي أنهم مبالغون في التعقل، مغرقون في الأفكار، بحيث يتعذر عليهم تحقيق استقرار سياسي كافٍ. ووجد أن الإنجليز في جملتهم يستطيعون أن يقاوموا إغراء الاستغراق في التفكير المجرد، وأن لديهم الغباء اللازم لكي يجعل الديمقراطية طريقة عملية.
كما أن نيتشه — الذي اتجه في وقتٍ ما نحو السوبرمان (الإنسان الراقي) وكتب في نثر شبيه بنثر الكتاب المقدس عن النبي زرادشت — هو بعينه نيتشه الذي كان في وقت آخر لا عقليًّا. حاول نيتشه أن يعرض ما أسماه «التاريخ الطبيعي للأخلاق» — وهو عبارة عن عرض سريع للطريقة التي يسلك بها الناس فعلًا وعلاقتها بالطريقة التي يرون أن من الواجب عليهم أن يسلكوا بها. وكالكثيرين غيره من أتباع مدرسته، ربما كان مبالغًا في الانحياز نحو التناقض بمعارضته للعقيدة العامة عند الناس بأن أعمالهم تترتب منطقيًّا على عقائدهم. وكان فوق ذلك عاجزًا عن الاستمرار في دراسته بطريقة منظمة، وكل عمله سلاسل من الحِكم، فأخرج كتابًا مطولًا عامًّا بطريقة غير عادية. وبرغم ذلك فإن نيتشه قد أكدَّ بشكل واضح نقطة أخرى من النقاط الرئيسية التي يثيرها اللاعقليون. وهي نقطة قد أثارها مكيافيلي نفسه من قبل. وتلك هي ملاحظة أن الناس كثيرًا ما يحققون أهدافًا تنفعهم وتنفع المجتمع بسيرهم طبقًا لأفكار خاطئة. يقول نيتشه:
«إنني لا أرى أن خطأ الرأي يؤدي بنا إلى الاعتراض عليه. وربما كانت لغتنا الجديدة هنا غريبة في مسمعها. إن المسألة هي إلى أي حدٍّ يمد الرأي في الحياة، ويحفظها، ويحفظ النوع، وربما يحفظ كذلك تربية النوع. وإني أميل أساسًا إلى الاعتقاد بأن أشد الآراء خطأ (التي تتعلق بها أحكام مركَّبة سابقة) هي أكثر الآراء لزومًا لنا، وأميل إلى الاعتقاد بأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون إدراكه للأوهام المنطقية، ودون مقارنة الواقع بالعالم «الخيالي»، عالم التجريد والثبات … وأميل إلى الاعتقاد بأن نبذ الآراء الخاطئة هو نبذ للحياة، وإنكار لها. «الاعتراف بعدم الصدق شرط من شروط الحياة»: ذلك معناه بالتأكيد تفنيد الأفكار التقليدية القيمة بطريقة خطرة. والفلسفة التي تجرؤ على هذا العمل تضع نفسها — بذلك — وحدها فوق الخير والشر.»
وبحلول القرن العشرين كان شيء من اللامعقول قد بدأ يلحق بالطبقات المفكرة، كما بدأ يتغلغل بصورة أقل وضوحًا في الوعي الشعبي. وكثير من وجهة النظر التي أطلقنا عليها هنا اسم اللامعقول هي في أصلها وجهة النظر عند الرجل «الراقي» الواعي بنفسه، وهو رجل بلغت به الحكمة أن يعلم خفة أثر الحكمة في هذه الدنيا، وهي وجهة نظر تتحول بسهولة إلى نوع من أنواع الكبرياء، وهو الشعور بأن الجماهير قطيع ونحن — القلة الحكمية — رعاة. وتسري هذه الفكرة عند نيتشه في كلِّ ما كتب، وهو أوضح مثال لهذا الاتجاه في موقف اللامعقولية الحديثة. غير أن هناك أيضًا اتجاهًا، يتميز في فرويد في نهاية الأمر، يؤكد أنه من الممكن لعامة الناس أن يعرفوا الحق عن أنفسهم، وهو حق أعقد كثيرًا من نظرة القرن الثامن عشر إلى الإنسان، وأن عامة الناس بمجرد معرفتها لهذا الحق تستطيع بنفسها أن تقوم بالتهيئة الضرورية لهذه الحقيقة التي بدت أخيرًا. وبمجرد ما يدرك الناس الصعوبات الجمة الواقعية في سبيل التفكير المستقيم فإنهم — طبقًا لهذه النظرة الأكثر ديمقراطية — يطرقون الطريق إلى التفكير المستقيم.
إن أكثر أوجه اللامعقولية المعاصرة شيوعًا يوضح لنا هذا الجانب توضيحًا كبيرًا. إن فلسفة «معاني الألفاظ» من بداية الكتَّاب الفلسفيين الغامضين المتعذرين من أمثال ألفريد كورزبسكي إلى أولئك الأدباء ذوي الأسلوب الرشيق من أمثال أ. أ. رتشاردز إلى مبسطي المعرفة الصرحاء من أمثال ستيوارت تشيز، قد سارت شوطًا بعيدًا، وبخاصة بين الشعوب التي تتكلم الإنجليزية. وهذه الفلسفة (السمانتيكس) هي علم المعاني، أو دراسة الطريقة التي تتفاهم بها الكائنات البشرية بعضهم مع بعض. إن فيلسوف المعاني يشير — على سبيل المثال — إلى أن ثلاثة من المشاهدين المختلفين قد يصفون أعمال رابعهم، أولهم بقوله إنه «خنزير»، والثاني بقوله إنه «عنيد» والثالث بقوله إنه «ثابت». والأعمال هي بعينها. أما الألفاظ التي يستعملها المشاهدون لوصف الأعمال فليست هي البتة بعينها. إنها تشير إلى مشاعر خاصة عند المشاهد، وهي توصِّل هذه المشاعر على أنها ليست تقريرًا موضوعيًّا. وإذن فالألفاظ مشحونة بالأحاسيس العاطفية، وليست مجرد علامات مثل س أو ص في علم الجبر. إن لفظة «الخنزير» تحمل معها الاستنكار الشديد، في حين أن لفظة «العنيد» أقل استنكارًا، وفي لفظة «ثابت» شيء من الموافقة. وإذا قلنا «مثابرًا» كنَّا في حدود ثقافتنا أكثر موافقة.
ثم إن هناك الكلمات الضخمة الفخمة التي تشتمل في ذاتها على كل أنواع الآمال والمخاوف البشرية المحيرة، حتى بات من العسير على المحللين المدققين أن يجدوا لها معاني محسوسة، بل إن المصلح المتحمس لهذه الفلسفة يقول إن الأمر مستحيل ولا يتعسر فحسب. إن مثل هذه الكلمات: «الحرية»، «الإخاء»، «المساواة»، ليس لها «مدلول» في لغة أصحاب هذه الفلسفة. فأنت لا تستطيع أن تؤدي العمل الذي يخرجها فتصبح منظورة أو ملموسة. إنها «بغير معنًى»، ويشير ستيوارت تشيز في كتابه «تعسُّف الألفاظ» إلى أننا كلما مِلْنا إلى استعمال عبارات ضخمة فخمة غامضة مثل «طريقة الحياة الديمقراطية» أو «الفردية الغربية» استطعنا في بساطة أن نستبدل بها لفظًا لا معنَى له مثل «بلا-بلا» ونقف عند هذا الحد. ونحن عند هذه الدرجة من التطرف نقترب بطبيعة الحال من الشكل السائد الحالي من أشكال الاتجاه الاسمي. ونحن الآن على أهبة النظر في انعكاس هذه اللامعقولية في الفلسفة الرسمية.
ويتخذ هذا الانعكاس شكلًا متناقضًا؛ فهي فلسفة تستبعد الفلسفة من دراساتنا. وقد طور شُراح هذه الفلسفة — الوضعيون المنطقيون — موقفهم، لا من العقيدة الساذجة، عقيدة بعض الوضعيين في القرن التاسع عشر في مجال الاستقراء والعلوم الطبيعية في عهد هربرت سبنسر، ولكن من المنطق القياسي والرياضيات، والآراء الحديثة عن المنهج العلمي. إن الوضعية المنطقية — في إيجاز شديد — تؤكد أن النوع الوحيد من المعرفة الصحيحة هو المعرفة التراكمية، وهو النوع الذي يجده المرء في العلوم الطبيعية. وهناك لهذا النوع من المعرفة طريقة، وهي الطريقة التي تطورت تدريجًا في ثقافتنا الغربية على أيدي علمائنا، الطريقة التي يستطيع المرء بواسطتها أن يختبر صدق أي حكم يُقال إنه من المعرفة. إنك تستطيع — على حد تعبير بردجمان — أن تجري على الحكم عملية — وقد تكون العملية أحيانًا طويلة شاقة تتطلب المعامل والبحث الميداني، وكثيرًا من الرياضيات ومن التفكير المنطقي العسير — ولكنها عملية تمكِّنك من اختبار صدق الحكم أو بطلانه.
والوضعيون المنطقيون — في الأغلب — يستمدون أمثلتهم التوضيحية لنوع المعرفة المشروع من العلوم الطبيعية. ونستطيع أن نغيِّر طريقتهم وأن نجعل أنواع المعرفة المشروعة وغير المشروعة على السواء (كما يزعمون) علاقة على الأقل بذات الموضوع. فإن قلت «إن الناس جميعًا يؤمنون بالله» أمكنك أن تختبر هذا الحكم بوسائل معايير الرأي العام. تستطيع أن تطلق الناس يسألون كلَّ مَن يقابلون هذا السؤال: «هل تؤمن بالله؟» وبمجرد ما يجيب أحدهم بالنفي، فسوف يكون لديك برهان عملي على أن الحكم باطل. ولكنك إن قلت: «إن كل الناس يؤمنون حقًّا بالله في أعماق نفوسهم، برغم ما يقولون»، فأنت تتجاوز أي اختبار من اختبارات الرأي العام، وتتجاوز إمكان تطبيق اختبارات الوضعيين المنطقيين. وكذلك لا تستطيع أن تثبت علميًّا صحة هذا الحكم: «ليس هناك ملحدون في الخفاء.» وإن قلت: «إن الله موجود.» فأنت تلقي حُكمًا يقول الوضعي المنطقي إنه لا يمكن أن يدخل في باب «المعرفة». إنما أنت تجيب إجابة ميتافيزيقية عن سؤال ميتافيزيقي، وأنت تفعل ما فعل الناس منذ الإغريق. فأنت ما زلت تحصل على إجابات لا يمكن بأية حال من الأحوال قبولها من كل إنسان — وبخاصة من أصحاب التدريب الأخصائي في الفلسفة. إن الوضعي المنطقي يميل إلى اعتبار كل التفكير الفلسفي التقليدي، ذلك النوع من التفكير الذي يدخل في ميادين كالميتافيزيقا، والأخلاق، والنظريات السياسية، بل وأكثر ما في نظرية المعرفة، وكذلك المنطق الأرسطي البحت بطبيعة الحال، مضيعة كاملة للوقت. وهناك تشبيه يحبه كثير من الناس يوازن بين الفيلسوف التقليدي والسنجاب في قفص التعذيب.
إن الوضعيين المنطقيين هم أنفسهم مفكرون تجريديون إلى حدٍّ كبير، اهتمامهم الوضعي هو أساسًا الامتداد الحديث لطريقة العالم الرياضي في معالجة الأشياء التي تُسمَّى المنطق الرمزي. وكان بعضهم من أكثرهم براءة يأمل — عندما يبلغ بالمنطق الرمزي حد الكمال — أن يصبح الاتصال بالمنطق الرمزي مفهومًا كل الفهم من كل الكائنات البشرية، الذين لن يقوم بينهم بعدئذٍ نزاع، ما داموا لن يكابدوا الجهل وسوء التفاهم. غير أن الوضعيين المنطقيين اكتفَوا في أغلب الأحيان بتجاهل هذه الأمور ذات المعايير الأخلاقية والجمالية (أعني الحكم على القيم) لأنها لديهم «بغير معنًى». إنهم لم يعتقدوا في الواقع أن هناك فعلًا إجابات لهذه الأمثلة بمقدارِ ما هنالك من أفراد على وجه الأرض، وذلك لمجرد أن هذه الأسئلة ليست لها إجابات علمية. إنهم لم يكونوا من الناحية العملية في حياتهم متشائمين في الأخلاق أو قائلين بالعدم. وإنما اكتفَوا بأن يأخذوا القيم على أنها ليست مما يجدي فيها التفكير، وهي وجهة نظر يستاء منها أولئك الذين نشئوا وسط التقاليد الغربية السائدة، التي مالت إلى الإيمان بأن بعض الأحكام عن الأخلاق وموضوعات الجمال أصدق من غيرها، أو أن هذه الأحكام لها على الأقل معنًى أوسع من غيرها.
ومع ذلك فما دام اللامعقول — من صورته البسيطة إلى صورته المعقدة — يؤكد الدور العظيم الذي يلعبه اللاعقل في حياة الناس، فإن هناك إغراء دائمًا للاعقليين بألا يروا إلا الانتصار البيِّن للتفكير الموضوعي الذي نسميه العلوم الطبيعية. إن اللاعقلي — باعتباره وريثًا للجمود العقلي الذي ساد التقاليد الغربية أمدًا طويلًا — يخشى ذلك النوع من التفكير الذي دافع عنه نيومان وعدَّه من أثر القدرة على الاستنتاج. إنه يرى أن «كل» الرجال من أصحاب العقول السليمة الذين ينالون قدْرًا كافيًا من التعليم يمكن إقناعهم بصدق فروض خاصة في الطبيعة، ويرى أن «كل» الرجال من أصحاب العقول السليمة الذين ينالون قدْرًا كافيًا من التعليم لا يمكن قطُّ إقناعهم بأي فرض في الأدب الإنجليزي — فيما خلا بعض الأحكام الواقعية، مثل قولنا إن شيكسبير كتب مسرحيةً أطلق عليها اسم «روميو وجولييت». وحتى هنا نجد أولئك الذين يعتقدون أن فرانسيس بيكون هو الذي كتب المسرحية … ومع ذلك فإن القول بأن رأي أي فرد له قيمة رأي أي فرد آخر، وأن «وخز الإبر كالشعر» كما قال بنتام، وذلك في كل حكم من الأحكام ما عدا تلك الأحكام البسيطة التي يمكن التثبُّت من صحتها في الواقع، وما عدا تلك الأحكام العلمية الموحدة الثابتة — هذا القول هو ما يستاء منه أكثر الناس — حتى اللاعقليين منهم.
وقد ذكرنا من قبلُ مخرجًا من المخارج لهم فيما أشار إليه مكيافيلي ونيتشه من أن صدق هذه الأحكام على القيم قد لا يمكن إقراره عقليًّا، غير أن أهميتها في الحياة الاجتماعية في ثقافة من الثقافات هي مما يمكن إقراره. إن المجتمع الذي يعتقد في قوة تأثير طقوس دينية معينة لا تحتمل البتة تعليلًا علميًّا قد يستمد برغم ذلك قوة من مثل هذه العقيدة، ويروي باريتو مثالًا لذلك قصة أولئك الملاحين الإغريق في الأزمنة القديمة الذين كانوا يقدِّمون القرابين لبوزيدون، إله البحر، قبل أن يشرعوا في القيام برحلة بحرية خطرة. ونحن اليوم نميل فيما يتعلى بإله البحر هذا إلى الأخذ بحكم الوضعيين المنطقيين، الذي يقول بأنه ليس بالإمكان إقامة الدليل على وجوده. غير أن باريتو يقول إنه إذا كان من الواضح أن الملاحين — بتأثير اعتقادهم أنهم على وفاق مع بوزيدون — يجدفون في حماسة، ويحتفظون بنظام أفضل، ويتماسكون تماسكًا أشد وأقوى إذا ألمَّ بهم الخطر، إذن فمن الواضح أن الإيمان ببوزيدون كان نافعًا لهم، وكان صحيحًا بمعنًى ما.
ويمثِّل باريتو أفضل تمثيل اللاعقليين في القرن العشرين، وهو مهندس مدرَّب، ورياضي تحول أول الأمر إلى الاقتصاد ثم انصرف إلى علم الاجتماع، وبذل الجهد في بناء علم اجتماعي يمكن أن يُقارن بالعلوم الطبيعية. كان باريتو رجلًا إيطاليًّا أدَّى أكثر أعماله الإبداعية في سويسرا، ولكنه في سنواته الأخيرة قَبِل منصبًا تحت موسوليني، وبسبب هذا المنصب وبسبب كثير من مبادئه التي عبَّر عنها في كتابه «العقل والمجتمع» وُصم بالرجعية. وعُدَّ يمينيًّا، ووُصف بأنه «كارل ماركس للبورجوازية». كان — كأكثر اللاعقليين الصرحاء — باحثًا وعقليًّا واثقًا بنفسه، وكان يرتبط ارتباطًا عاطفيًّا بذلك النوع من المُثُل العليا التي بيَّنها جون مل في كتابه «عن الحرية»، فرأى أن عالمه يبتعد فيما يظهر شيئًا فشيئًا عن الحرية الفردية وقبول التنوُّع الشديد في السلوك البشري، ويبتعد عن السلام العالمي وحرية تنقل الأفراد والأفكار. فكان من بعض النواحي متحررًا (ليبراليًّا) زال عنه الوهم، يحاول أن يشرح لماذا فشل مبدأ التحرر، ويؤسفه هذا الفشل. وإن مجرد الاعتراف بأن مبدأ التحرر قد فشل، والإصرار على أن وقائع الحياة لا تسير كلها طبقًا لما ظن المتحرر وطبقًا لما أمل، إن مجرد هذا — بالنسبة إلى المتحرر المصلح التقليدي الذي تغمره الألفاظ والعقائد — كان — بطبيعة الحال خيانة من باريتو. وكان بارتو فوق ذلك مثيرًا جدًّا لغضب كثير من القراء، لأنه يصر في حماسة شديدة على أنه في الواقع أول شخص درس العلاقات الإنسانية بانعزال العالم الذي لا يتأثر بحرارة العاطفة، محتفظًا بأحكامه على القيم خارج عمله، أو مصرًّا في الواقع على أنه لا يُصدِر أحكامًا على القيم، وهو بطبيعة الحال لا يعيش على مقربة من هذه الأفكار التي باح بها. وإنك لتلمس في كل صفحة مما كتب أهواءه التي تنم عما يحب وما لا يحب، وإن اختلفت في كثير من الوجوه عن أهواء المتحرر المصلح، وأشد ما يبغض أولئك الذين أطلق عليهم اسم «دعاة الفضيلة»، أو المصلحين المتحمسين تحمسًا دينيًّا الذين يريدون بالتشريع، والشرطة، وربما كذلك بشيء من التربية، أن يمحوا من على وجه الأرض الشذوذ الجنسي، والمشروبات الروحية، والميسر، والرذائل الأخرى الأقل من هذه.
ويصدر باريتو كتابه «العقل والمجتمع» بمقالٍ ممل إلى حدٍّ ما ولكنه ليس البتة بعيدًا عن الموضوع، عن ماهية المنهج العلمي. ويسمي هذا المنهج «التجريبي المنطقي». ويسمي الأنواع الأخرى من النشاط العقلي البشري الواعي «التجريبية اللامنطقية». وأرجو أن تلاحظوا أنه لم يكتفِ باستعمال لفظة «المنطقي»؛ وذلك لأنه يؤمن بأن التفكير المنطقي ليس إلا مجموعة من القواعد لاستخدام العقل بطريقةٍ معينة، طريقة يمكن تطبيقها على مشكلات كمشكلة وجود التثليث أو «تحقيق الفكرة الكامنة» التي قال بها أرسطو، وعلى مشكلات كمشكلة التركيب الكيماوي لنوع من أنواع البروتين.
ويهتم باريتو كعالم اجتماعي أساسًا بمشكلة فصل المعقول (أو التجريبي المنطقي) عن اللامعقول (أو التجريبي اللامنطقي) في أعمال الناس. وقد وجد باريتو أن في سلوكنا الاجتماعي جزءًا يعبِّر عن ميول خاصة سمَّاها «الرواسب»، وجزء آخر يعبِّر عن ميول أخرى سمَّاها «الاشتقاق». ويلاحظ أن الرواسب والاشتقاق كليهما ليست عند باريتو دوافع أو بواعث أو شهوات أو لبيدو (طاقة حيوية) أو أي شيء مما يحاول السيكولوجي أن يحلله في السلوك البشري ويَعُدَّه نوعًا من أنواع الدوافع الحيوانية الخفية إلى العمل. إن باريتو يريد أن يفترض هذا الدافع، ويترك دراسته للسيكولوجي. أما ما يهمه كعالم اجتماعي فهو العمل الذي يعبِّر عنه باللفظ، والطقوس، والرموز، من أي نوع من الأنواع؛ فشراء الجوارب الصوفية للوقاية من الجو البارد — مثلًا — هو من هذا النوع من أنواع العمل. فإذا كانت تُشتَرى قصدًا للحصول على صِنف جيد بثَمنٍ يقدِر عليه الشاري، فذلك أمر معقول، أو عمل تجريبي منطقي يسير مع مصلحة الفاعل. أما إذا اشتراها بغض النظر عن الثمن عاشقٌ عاطفيٌّ لبلاد الإنجليز يشتري الجوارب الإنجليزية المستوردة كي يقوم بعملٍ يساعد به هذه البلاد، فلا بد إذن أن يكون هناك أمر آخر، شيء يهمله رجل الاقتصاد فيما يجمع من إحصاءات عن الأثمان، يدخل في العملية. وهذا الشيء الآخر هو مادة ما قام به باريتو من دراسة.
إن ذلك الجانب من العمل الذي قام به الملاحون الإغريق الذين أشرنا إليهم عندما قدَّموا لبوزيدون القرابين، ذلك الجانب الذي رأى في بوزيدون حاكم البحار، وصانع الزوابع ومهدِّئها، هذا الجانب هو عند باريتو «اشتقاق»؛ أي نظرية أو تفسير، منطقي عادة في شكله، ولكنه «لا تجريبي لا منطقي»، ولا يحتمل إثبات الصدق بوسائل العلوم الطبيعية. إن «الاشتقاق» أقرب إلى ما سمَّاه بيكون بالأوثان (أو الأوهام)، وبما نعرفه اليوم ﺑ «التبرير العقلي». ولكن باريتو يُكسِبها وصفًا أعقد وأكثر فائدة مما فعل بيكون. والحق أن تحليله — بالنسبة إلى أغراض علماء المعاني — من أفضل التحاليل لأشيع الطرق التي اتخذها العقل البشري للعمل في ميدان النظريات الاجتماعية والخلقية. والأمر واضح في ذهنه، إن هذا «الاشتقاق» ضئيل الأثر في السلوك العام للناس في المجتمع، ضئيل الأثر في التغير الاجتماعي، وما أسميناه في هذا الكتاب «نظرات كونية» يَعُدُّه باريتو في الأغلب نسيجًا من أنسجة الاشتقاق. وكان يرى أنه عديم الأثر أو قليل الأثر في سلوك أصحاب هذه النظرات. ومع ذلك فقد كان باريتو في حياته الوجدانية عاجزًا بشكل واضح عن أن يَعُدَّ هذه النظرات الكونية سواء، ليس منها ما يفضُل غيره، أو ما يقل عنه شأنًا؛ فكان يكره الاشتراكية كما كان يكره مسيحية العصور الوسطى. وكان هو نفسه يمثِّل بورجوازية القرن التاسع عشر أفضل تمثيل.
أما ما يحرِّك الناس في المجتمع، ويجعل بينهم تماسكًا في المجتمع، فهو «الرواسب» كما يقول باريتو. وهذه الرواسب ليس فيها إلا النزر اليسير من المعقول، وإن تكن مصوغة عادةً في شكل منطقي. وهي تعبير عن عواطف كامنة في الناس، ثابتة نسبيًّا، تعبير لا بد عادة من فصله عن الجزء الذي يقع فعلًا في دائرة الاشتقاق، الذي قد يتغيَّر كثيرًا وبسرعة. ولْنعُد إلى مثال الملاحين الإغريق الملحدين، ونوازن بينهم وبين مجموعة من الملاحين الإغريق المسيحيين بعد ذلك ببضعة قرون، يصلون، ويوقدون الشموع، ويقدِّمون النذور لمريم العذراء قبل إبحارهم. إن الاشتقاق هو تفسير ما يفعله بوزيدون والعذراء على التوالي، ويختلف الاشتقاق الأول عن الاشتقاق الثاني. ويعتقد المؤمن بالعذراء أن أسلافه الملحدين كانوا على خطأ أكيد. أما الرواسب فهي الحاجة إلى الحصول على المعونة السماوية والطمأنينة المقدسة في عمل شاق، وأداء طقوس معينة تؤكد لمن يؤديها هذه المعونة وتلك الطمأنينة؛ فالرواسب تكاد تكون هي بعينها عند المجموعتين من الملاحين. الوثنيون منهم والمسيحيون على السواء لديهم نفس الحاجات الاجتماعية والسيكولوجية، وهم يشبعونها بطرقٍ شديدة التشابه، وإن اختلف تفسير ما يعملون اختلافًا شديدًا من الناحية الفكرية (أو العقلية).
وآراء باريتو التي تتعلق بالرواسب أكثر أصالة من آرائه في الاشتقاق، وأشق في تفسيرها. وتصنيفه الفعلي للرواسب والتحليل المفصل للطريقة التي تؤثِّر بها في المجتمع الإنساني لا تبلغ قطُّ ما بلغه الاشتقاق من الجودة. غير أن هناك نوعين أساسيين من أنواع الرواسب التي يميزها يبرزان في وضوح، ويعاونان على تشكيلِ ما لا بد أن نسميه فلسفته للتاريخ، ونظرته الكونية الصادقة وإن تكن محدودة — وذلك بالرغم من أن هذه الفلسفة لا تجريبية لا منطقية. وهذان هما أولًا رواسب «الكليات الثابتة»، ويعني بها الميول التي يتميز بها الرجال الذين يحبون الطرق النظامية، والمرانة الثابتة، والعادة والتقاليد، الرجال الذين يشبهون الإسبرطيين، أو الأسود. وثانيًا رواسب «غريزة المجموعات»، ويعني بها الميول التي يتميز بها الرجال الذين يحبون الجديد والمغامرة، الذين يبتكرون الوسائل الجديدة لأداء الأعمال، الذين يميلون إلى التحلل من القديم، المجرِّبين، الذين لا يُصدمون بسهولة، الذين يمقتون النظام، كالأثينيين، أو الثعالب. غير أن الناس كأفرادٍ يتميزون بكل أنواع الخلط بين هذين النوعين وغيرهما من الرواسب (وهي عند باريتو في المرتبة الثانية)، وهو خلط في غاية التناقض من الناحية المنطقية. ولكن الناس في المجتمعات التي تضم أفرادًا عديدين، أولئك الناس الذين يتأثرون إلى حدٍّ كبير بأحد هذين الاتجاهين الأساسيين من اتجاهات الرواسب، هم الذين يميلون إلى فرض اتجاههم، وهم الذين يميزون مجتمعهم، وقد كان باريتو — كأكثر فلاسفة التاريخ — أبعد ما يكون عن الوضوح في بيان كيفية تحوُّل مجتمع محافظ تسوده رواسب «الكليات الثابتة» إلى نوع آخر من المجتمعات. غير أن من المؤكد أنه كانت لديه فكرة عن صورة ذهنية عن ذبذبة البندول، أو اختلاف الدقات، صورة ذهنية عن الصراع بين «الفكرة» و«ضدها»، وإن تكن هذه الموازنة ربما أغضبت باريتو.
كان القرن التاسع عشر في الغرب في ذهن باريتو مجتمعًا ربما لعبت فيه رواسب «غريزة المجموعات» أكبر دور تستطيع أن تلعبه في أي مجتمع بشري. كان القرن التاسع عشر قرن منافسة بين الأفراد الممتلئين بالأفكار الجديدة، والابتكارات، والمشروعات، المقتنعين بأن الوسائل القديمة سيئة، وأن الجدة هي أعظم ما يكافح من أجله الإنسان على حساب أي شيء آخر. كان مجتمعًا لا يخضع للاتزان بشكل واضح، وكان لا بد له من الاتجاه نحو النوع الآخر من الرواسب، نحو «الكليات الثابتة»، نحو مجتمع تتوافر فيه زيادة في الضمان ونقص في التنافس، وزيادة في النظام ونقص في الحريات، وزيادة في التوحيد ونقص في التنوع. كان لا بد له من السير في الطريق الذي نسلكه في القرن العشرين.
والرأي الأخير عند باريتو هو هذا التوازن في المجتمع، التوازن الذي يختل على الدوام على الأقل في المجتمع الغربي، ولكنه يتجدد على الدوام بنوع من «العلاج الطبيعي» الذي لا يستطيع أن يبطل فعله أي طبيب اجتماعي أو مخطط للمجتمع. غير أن باريتو لا يستبعد كلية إمكان استطاعة الكائنات البشرية بالتفكير تعديلَ الأوضاع الاجتماعية في بعض الأمور الهينة هنا وهناك، بطريقةٍ تجعل ما يخططونه يتحول إلى واقع. بيد أن الفكرة التي أصر على تأكيدها في كتابه هي أن التغير في السلوك البشري إجمالًا في شئون الناس يجب أن يتميز عن التغير في أفكار الناس وفي مُثُلهم. ولما كان الإنسان كما نعرفه، ولما كانت رواسب «غريزة المجموعات» في ثقافتنا الغربية واسعة الانتشار، فلا مناص من حدوث التعديل في كثير من ميادين الاهتمامات البشرية. إن الطراز الجديد وكلَّ ما يترتب عليه في شئون التجارة يمكن أن يُقال عنه إنه تغير من أجل التغير. غير أن باريتو كان يرى أن هناك أيضًا مستوًى من السلوك البشري التغيُّرُ فيه بطيء حقًّا. يكاد يبلغ في بطئه ذلك التغير الذي يدرسه علماء الجيولوجيا وعلماء التطور وهذا التغير أهم في الإشارة إليه عند باريتو لمجرد أن المصلحين، أو المتحررين أو «دعاة الفضيلة»، أو المخططين المتفائلين لا يرونه.
إن مستوى السلوك البشري الذي يحدث التغيرُ فيه ببطء شديد في الواقع هو مستوى «الرواسب». ولا يستطيع الزعيم السياسي الماهر — على أحسن تقدير في رأي باريتو — إلا أن يعالج الاشتقاق بطريقةٍ تجعل بعض الرواسب غير فعالة، وتنشط بعضها الآخر. إنه لا يستطيع أن يستحدث رواسب جديدة أو أن يهدم رواسب قديمة، وهو لا يجعل التفتيش الحكومي على اللحم — على سبيل المثال — فعالًا بمجرد مناشدته الناس إحساسهم بالمسئولية المدنية، أو بمجرد الحجة العقلية من النوع الذي عرفه القرن التاسع عشر، وإنما كذلك بالدعاية، وبالعمل الأدبي الذي يشبه «الغابة» لمؤلفه أبتون سنكلير، وبأن يجعل أكبر عدد ممكن من الناس «يشعر بالخوف» من أنه سوف يأكل لحمًا قذرًا لم يخضع للتفتيش، ويموت ٦٦٣ من تسمم الطعام ما لم تقم الحكومة بالتفتيش. ومن الواضح أن أولئك الذين يوجهون الإعلان في أمريكا هم من أتباع باريتو وإن لم يعرفوا ذلك.
إن الزعيم العاقل كما يراه باريتو لا بد له من أن يقرأ حكمة بيكون الشهيرة التي يقول فيها: «إنك لا تسيطر على الطبيعة إلا إذا أطعتها.» وفَهِم منها «أن الإنسان لا يسيطر على الطبيعة (البشرية) إلا إذا أطاعها» — أو على الأقل وضعها في اعتباره؛ فلا ينبغي لنا أن نتوقع من الكائنات البشرية أن تكون غير محبة لذاتها، عاقلة، مكرسة ذواتها للصالح العام، رفيقة، حكيمة. ولا ينبغي لنا — فوق كل ذلك — أن نتوقع أننا نستطيع بأي نظام من النُّظم، أو بأي معاهدة أو ميثاق، أن نجعلهم كذلك. غير أن باريتو يتجاوز هذه النظرة قليلًا، فهو يقول إن التخطيط خطر، إلا إن كان من أجل غايات محدودة ومحسوسة دائمًا. إن باريتو الذي يبدأ من علوم الرياضة والهندسة، وبعداوة حقيقية للمسيحية، يقترب جدًّا في هذا الموضوع المعين من بيرك المسيحي؛ فهو يرى أن التغير الضخم الطموح المشرع لا يحتمل فقط ألا يحقق النتائج التي خطَّط لها المخططون، وإنما يحتمل أن يؤدي إلى نتائج لا يمكن التنبؤ بها وربما كانت منحوسة. وربما كان باريتو ينعم النظر في مصير المادة الثامنة عشرة من قانون الإصلاح، فهي لم تؤدِّ إلى الامتناع عن تعاطي الخمور في الولايات المتحدة، بل عاونت على إظهار عادات أحدث في الشراب غير مرغوب فيها، من نواحٍ عدة — فعاونت مثلًا على أن تجعل المشروبات الروحية شرابًا محترمًا عند النساء من الطبقة الوسطى. وحتى تزداد معرفتنا بالعلوم الاجتماعية أرى أن أفضل ما نعمله هو أن نركن إلى ما يصمه العقلي الناشئ في شيء من التعالي بالجانب «اللاعقلي» في الطبيعة البشرية. ويجب أن نعتقد أن العادات المتأصلة في الجنس البشري، حتى لو كان ذلك بمعايير التطور، هي أنفع للبقاء من منطق المصلحين الذي ليس في موضعه.
إن جانبًا كبيرًا من اللامعقول الحديث ينتشر في الواقع انتشارًا واسعًا في الثقافة الغربية، وبالرغم من أنه قد لا يكون مستساغًا للذوق الديمقراطي المتفائل. وحتى «علوم المعاني» قد امتدت إلى الوعي العام، وامتدت بالتأكيد إلى صورٍ يشق على كورزبسكي نفسه أن يتعرَّف إليها. وقد سمعنا جميعًا عن التبرير، والدعاية، وعما في اللغة من غموض وعجز. ويطرق سمعنا كل يوم أننا لكي ننجح في هذه الحياة لا بد لنا من التدرُّب على المهارة في معاملة الناس، ويجب أن نكتسب الأصدقاء عمدًا، ونؤثِّر في الناس بحيَلٍ غير حيلة المنطق. ويعلم خبراء الدعاية أن أحد العوامل التي لا بد لهم من أن يحسُبوا حسابها وعي الجمهور وعدم ثقته بالدعاية، وهو ما يعبِّر عنه الفرنسيون بقوة — وفي شيء من التشاؤم المر — بعبارة «حشو المخ».
لقد نشأنا في صراحة معادين لمشكلة العلاقة بين اللامعقول وتقاليدنا الديمقراطية، وطريقة معيشتنا، ونظرتنا إلى الكون. إن الديمقراطية كما تم نضجها في القرن الثامن عشر عقدت الأمل على التغيُّر السريع الشامل نحو السعادة العالمية في هذه الدنيا التي تتحقق بتعليم الناس أجمعين على استخدام قواهم المفكرة الطبيعية — أو على الأقل بتخويل السلطة لجماعة مستنيرة من المخططين السياسيين الذين يستطيعون أن يبتكروا النُّظم التي تتحقق فيها السعادة للناس أجمعين، وأن يديروا هذه النُّظم. وينادي اللامعقول إزاء هذه المعتقدات الديمقراطية بالإيمان بأن الناس لا يهتدون بعقولهم، تحت أفضل نظام من نُظم التعليم، ولا يمكن أن يهتدوا، وأن البواعث، والعادات، وأفعال الشرط المنعكسة التي ترشدهم في أكثر الأحيان لا يمكن أن تتغير بسرعة، وأن في طبيعة الإنسان — باختصار — شيئًا يجعلهم يسلكون في المستقبل القريب سلوكًا لا يختلف كثيرًا عن طريقة سلوكهم بها في الماضي، وأن هذا الشيء سوف يستمر معهم. ويظهر أن هاتين المجموعتين من المعتقدات، المجموعة الديمقراطية، ومجموعة اللامعقول، لا يتفقان بالطبيعة. وكثير من الهجمات اليسارية واليمينية التي تعرضنا لها في الفصل السابق تبدو بالمقارنة أقرب نسبيًّا إلى الديمقراطية، وأقرب إلى أن تكون امتدادًا أو تعديلًا لها. غير أن موقف باريتو — مثلًا — يبدو في كثير من الأحيان نقيضًا متطرفًا كما يبدو موقف ميستر، ولا يجدينا — مثله — اليوم كثيرًا.
ومع ذلك فإن جراهام والاس كما ذكرنا كان يعطف على ما نسميه الديمقراطية، وسار مع اللاعقليين بعض الطريق. كما أن أحد المدافعين بحرارة عن جميع أنواع القضايا الديمقراطية — وهو ستيوارت تشيس — قد تأثَّر كثيرًا باللامعقول. وكذلك اضطُر كل الباحثين في العلوم الاجتماعية في ثقافتنا — إذا استثنينا أشدهم لينًا وأكثرهم مثالية — إلى التراجع عن تعقل القرن الثامن عشر، والأخذ عن حركة اللامعقول. ويشق على أكثرنا أن يقرأ ما كتب باريتو — وميكافيلي، وبيكون، ولاروشفوكو، وغيرهم من «الواقعيين» — في الطبيعة البشرية والشئون الإنسانية — دون أن نحس أن كثيرًا مما يقولون صادق جدًّا.
وهنا نعود — بطبيعة الحال — إلى التباين الأبدي، إلى التوتر الأبدي، الذي كان قويًّا جدًّا في الثقافة الغربية، بين هذا العالم والعالم الآخر، بين الواقعي والمثالي، بين العملي والمطلوب. إن اللاعقليين يَشُدُّون الديمقراطية نحو الطرَف الأول من كل زوج من هذه الأزواج. ومع ذلك فإن تأكيد وقائع الحياة، و«الحقيقة المحددة» لا يعني بالضرورة أن تأخذ بالنتيجة التي تقول إن التحسن في الظروف الواقعية ليس ممكنًا. والحق أن الواقعيين في التقاليد الغربية (الواقعيين بالمعنى الحديث، الذي يختلف اختلافًا يريك العقل عن معنى «الواقعية» في العصور الوسطى كما عرفناها في الفصل السادس عند الكلام عن العلوم الدينية والفلسفة في العصور الوسطى) كانوا مصلحين أخلاقيين، بل ومتفائلين، أكثر مما كانت تلك الفئة اليائسة من طبيعة الإنسان. وهم قلما يسعدهم ذكر الظروف السيئة التي يصرون على وجودها، وعلى واقعيتها؛ فالواقعي والمثالي ليسا — كما كررنا القول في هذا الكتاب — خصمين بالطبيعة إنما هما مترابطان. ولا يكون أحدهما خطرًا على المجتمع إلا عندما ينفصلان ويتجه كلٌّ منهما وجهته في تجاهل للعنصر الآخر. ومن المشكلات الكبرى التي نواجهها اليوم تساؤلنا عما إذا كان من الممكن للديمقراطيين المخلصين أن يقبلوا الواقع، الذي يلفت اللاعقليون أنظارهم إليه دون أن يفقدوا إيمانهم بإمكان تحسين هذا الواقع.