المنبع الهليني
وصلت إلينا كتابات كلاسيكية، أو قديمة، أو إغريقية، يرجع تاريخها على وجه التقريب إلى ما بين عام ۷٥۰ق.م، وعام ۱۰۰۰ ميلادية، تشمل مجال التفكير الذي قام به الناس في ميادين المعرفة اللاتراكمية. وقد عبَّر الفلاسفة الإغريق، ومراقبو الطبيعة البشرية منهم، والمؤرخون الإغريق، ورجال الأدب، في صورةٍ من الصور، عن كل ضروب الخبرة الفكرية والعاطفية تقريبًا التي عرفها أهل الغرب ووضعوا لها الأسماء. وقد يبدو هذا القول مبالغًا فيه، وهو ليس بطبيعة الحال إنكارًا للقوة، والوزن، والجمال والحكمة، والابتكار، بشتَّى المعاني مما تم إنجازه في العصور الوسطى أو الحديثة في هذه الميادين.
وتستطيع أن تلمس صحة هذا الزعم في أي ميدان تقريبًا؛ ففي الأدب مارس الإغريق كلَّ ما نعرف من أشكال، بما فيه شيء يقرب جدًّا من الرواية، في النهاية. وقد بلغوا في الملحمة خاصة، وفي الشعر الغنائي والشعر التمثيلي، وفي التاريخ، مستوياتٍ لم نستطِع بعدُ أن نتخطاها، بل لم نستطع أن نبلغها كما يرى بعضهم. وفي الفلسفة طرحت مدارسهم كل المشكلات الكبرى — الكينونة والصيرورة، والواحد والمتعدد، والجسم والعقل والروح والحالة — وقدَّموا لها حلولًا كبرى. وكان من بين الفلاسفة الإغريق: المثاليون، والماديون، والعقليون، والوجدانيون، والمؤمنون بالتعدُّد، والمتشككون، والساخطون والنسبيون، وأصحاب المذهب التجريدي. أما التصوير فلم تصلنا منه أصول. وقد كان التدهور في أكثر وجوه الحضارة — الذي أعقب انهيار العالم الإغريقي الروماني — عظيمًا، إلى درجةِ أن الناس لم يستطيعوا أن يُعنَوا بهذه الصور، أو على الأقل لم يفعلوا ذلك. وهناك شكٌّ في أن فن التصوير عند الإغريق بلغ من العظمة ما بلغه فنُّ النحت أو العمارة. ولا يخامرنا شك في عظمة الفنَّين الأخيرين اللذين أمكن أن يصلا إلينا، وإن يكن في صورة ناقصة في أكثر الأحيان، لصلابة المادة التي صُنعتا منها. وأخيرًا في ميدان العلوم والمعرفة التراكمية طوَّر الإغريق إلى درجةٍ رفيعةٍ الجانبَ النظري من الرياضيات وعلم الفلك، وقاموا بعملٍ قيِّم في علم الطبيعة وفي الطب. وقد بنَوا في ذلك إلى حدٍّ ما، على ما تم من قبلُ في مصر وفي بلاد النهرين. ثم بنى الرومان، إلى حدٍّ ما، على ما أنجزه الإغريق، وبلغوا مستويات رفيعة في الهندسة. أما في الحياة السياسية والاقتصادية فقد بلغت الثقافة في هذا الصدد درجة عظيمة من التعقيد. كان هؤلاء الناس، في عبارة موجزة، قومًا «متمدنين» مدنيةً كاملة.
وفي الحق لقد بلغت هذه الحضارة القديمة مكانة عالية، حتى إن الكتَّاب والمفكرين، في فرنسا وفي إنجلترا، لم يستطيعوا إلا حوالي عام ۱۷۰۰ ميلادية أن يفكروا في إمكان أن يقتربوا — وهم المحدَثون — من الإغريق والرومان ككتَّاب وفنانين وعلماء — أو كأشخاص متمدنين، في إيجاز. ولكن مكانة «القديم» بهذا المعنى كادت تختفي من أمريكا في منتصف القرن العشرين؛ ففي التربية العامة فقدَ الكلاسيكيون حتى أعمالهم الرجعية، ولم تَعُد اليونانية تُدرَّس في المدارس الثانوية. وبقيت اللاتينية ولا تكاد تعدو الدراسة الشكلية الخفيفة.
وبالرغم من أن كثيرًا من الأمريكان المتعلمين في جهل تام بالعمل الذي كان له في وقت من الأوقات معنًى عظيم، فإن أعمال اليونان ما زالت تكوِّن جانبًا رئيسيًّا من المحصول الأساسي لثقافتنا، وليس من قبيل الحذلقة، أو حتى من قبيل العامة العلمية، أن يرجع علماؤنا في السيكولوجيا — بعد كثير من علماء العلوم الإنسانية والأدباء — إلى الإغريق. وإذا كان علماء السيكولوجيا قد أخذوا عن المصادر الإغريقية «عقدة أوديب»، والعقدة النرجسية (أو حب الذات)، والفوبيا (الحب الجنوني) والمانيا (التهوس)؛ إذا كانوا قد فعلوا ذلك فلأن الميثولوجيا (الأساطير) عند اليونان هي في الواقع من الكنوز المذهلة فيما يتعلق بالملاحظات الواقعية — والخيالية في غير المعنى الرومانتيكي — عن سلوك الإنسان وآماله، وطبيعته البشرية المعهودة التي لا ينضب لها مَعين. وليست الأساطير النوردية أو الكلتية إذا قُورنت بالأساطير الإغريقية إلا أمرًا تافهًا، ضئيلًا، ساذجًا، فيما يتعلق بالطبيعة البشرية. إننا لا نعرف أنفسنا حق المعرفة إذا لم نعرف شيئًا إطلاقًا عن الإغريق. كما أن التجربة اليونانية الرومانية في الحضارة كانت كاملة من بعض النواحي. وهي تعرض — كما يذكِّرنا بذلك فلاسفة التاريخ — شيئًا يشبه الدورة الكاملة، من الشباب إلى الكهولة إلى الموت، أو من الربيع إلى الشتاء. لها بداية كما أن لها نهاية.
وأخيرًا، ترعرعت الديانة المسيحية في هذه الحضارة، وليس من شك في أن للمسيحية أصولًا يهودية تخرج كثيرًا عن نطاق التأثير الإغريقي، ولكنها في نموها ونظامها كانت جزءًا لا يتجزأ من العالم اليوناني الروماني في السنوات القلائل الماضية في الحياة العملية لتلك الحضارة. ولا نستطيع أن نفهم المسيحية اليوم إلا إن فهمناها في ذلك الحين.
إن أصول الإغريق غير مسطورة في التاريخ، ولكنها تنعكس واضحة في الأساطير والخرافات الإغريقية وفي الآثار الباقية. ومن الواضح أن الشعوب التي تتكلم الإغريقية جاءت من الخارج، من الشمال من حوض الدانوب، أو حتى أبعد من ذلك شمالًا. وهم ينتسبون من ناحية اللغة على الأقل إلى الجرمان والكلت والسلاف. وقد هبط هؤلاء الإغريق — أو الهلينيون كما يسمُّون أنفسهم — في موجاتٍ متلاحقة، كان آخرها الموجة الدورية التي أتمَّت زحفها في فترة تاريخية معينة عند بداية الألف السنة الأولى قبل المسيح — أو هبطوا على ثقافة وطنية سابقة نسميها اليوم «المنوانية». ويكاد يكون من المؤكد أن الهلينيين والمنوانيين قد امتزجوا عنصريًّا وثقافيًّا، مع سيادة الهلينيين، ومع هبوط المستويات الثقافية، الذي يصاحب غزو شعب أقل حضارة لشعبٍ أعلى حضارة؛ لأن المنوانيين كانت لهم حضارة رفيعة، كما تدل على ذلك آثارهم في النحت والعمارة. ومن هذا العهد المظلم برز الإغريق بوضوحٍ في القرن الثامن قبل الميلاد، تجارًا ومحاربين — كما كانوا من قبل — وفنانين سابقين، بل ومفكرين أيضًا فيما يبدو، ومنظمين ذلك النظام الإغريقي المشهور الذي يُعرف بالمدن الحكومية ذات السيادة التي تحكم نفسها بنفسها. وفي المدينة الحكومية نشأت ثقافة الإغريق الكلاسيكية. وكان حجم أثينا والأرض التي تجاورها أتيكا، في القرن الخامس قبل الميلاد — وهو قرن عظَمَتها — يبلغ مبلغ مدينة أمريكية متواضعة في العصر الحاضر، سكانها لا يجاوزون مائتي ألف نسمة.
إن ألف العام من مدنية البحر المتوسط الكلاسيكية تقدِّم إلينا شيئًا لا نستطيع إهماله — فرصة نشاهد فيها نوعًا من تجربة مجموعة من الآراء التي ما برحت جزءًا من حياتنا اليومية. وربما كنا نسلك سلوكنا الراهن بسبب ما فعلته أجيالٌ كثيرة جدًّا من أسلافنا باعتبارهم أشخاصًا من قبْل التاريخ، أكثر مما نسلك هذا السلوك بسبب ما فعلته الأجيال القليلة نسبيًّا من أسلافنا باعتبارهم أعضاء في ثقافة البحر المتوسط الكلاسيكية هذه. فالأجسام البشرية، من الكبد إلى المخ، كانت في أساسها منذ ألفين وخمسمائة عام كما هي اليوم، كما أن كثيرًا من عاداتنا العقلية، وعواطفنا، وحاجاتنا السيكولوجية، قد تكوَّن بغير شك قبل أن يكون للإغريق ذكر بوقت طويل، غير أن التاريخ لا يروي لنا إلا القليل من هذه الأمور، وبالأخص تاريخ الفكر؛ فتاريخ الفكر الغربي يبدأ في الواقع إلى حد كبير بالإغريق، لأنهم كانوا أول مَن استخدم العقل بطريقة جديدة تَلفت النظر. وقد خلَّف الإغريق أول سجل ثابت شامل في مجتمعنا الغربي لنوع التفكير الذي تقوم به في حياتنا بقدْر كبير (وإن كان أحيانًا ضد ما نهوى). وليست هناك كلمة جيدة، خالية من الغموض، لهذا اللون من التفكير. ولْنطلق عليه في بساطة اسم «التفكير الموضوعي».
ولم يكن الإغريق أول شعب مفكر، بل ولم يكونوا أول مَن فكَّر تفكيرًا علميًّا؛ فقد استخدم المساحون المصريون، وراصدو النجوم الكلدانيون، الرياضيات. ومِن ثَمَّ فقد فكَّروا تفكيرًا علميًّا. ولكن الإغريق فكَّروا أولًا في مجال الخبرة الإنسانية كلها؛ بل لقد فكر الإغريق في كيفية سلوكهم. وربما حاول كل إنسان أن يفعل ما فعل الإغريق بالتفكير — أي هيَّأ نفسه للكون الغريب، المحير، والمعادي أحيانًا، الذي ليس بالتأكيد هو ذاته، والذي يسير فيما يبدو في أغلب الأحيان غير آبه به، والذي يظهر أن له إرادة، وقوة، وغرضًا، لا يتفق وأغراضه في كثير من الأحيان، وربما كان البوشمان في أستراليا، والإيروكوا، والكالموك، وسائر الشعوب الأخرى، يفكرون في هذه الأمور، ولو عرفنا فعلًا كيف تعمل عقولهم استطعنا أن نفهمهم. ولكن ما نود أن ننبه إليه هو أن بعض الإغريق — في وقتٍ قد يرجع إلى العصر العظيم — قاموا بهذا التفكير «على طريقتنا»، وفكَّرت عقولهم كما نفكر.
أما أسلافهم البدائيون فلم يفكروا بطريقتنا؛ فقد استمعوا إلى الرعد، وشاهدوا البرق، ونالهم الخوف، وأدركوا قَطعًا أن البرق أو الرعد ليسا من البشر، لكن لا بد أن يكونا من الأحياء — فكل شيء عند بعض البدائيين حي. ولذا فقد انتهَوا إلى الإيمان بأن كائنًا شديد القوى، أسمَوه الإله زيوس، يلوِّح بصواعقه الشيطانية خلال السماء ويسبب كل هذا الاضطراب، وظنُّوا أنه يلوِّح بها أحيانًا في وجه الآلهة الأخرى، وأحيانًا يلوِّح بها لمجرد إظهار غضبه، وأحيانًا أخرى — بطبيعة الحال — يلوِّح بها في وجه الإنسان الفاني، فيُلحِق به الموت. ويعتقد الإغريقي الطيب — أو يأمل — أنه لو أدَّى لزيوس الاحترام الواجب فإن الإله لا يصيبه بالصواعق. وحتى في قلب أيام الثقافة الأثينية العظيمة، كان الرجل العادي يعتقد في زيوس وصواعقه.
ويُلاحَظ أن الإغريق الأوائل «فسَّروا» الصواعق، وفسَّروا كل شيء تقريبًا بأنه من صنْع الآلهة، أو الأرواح، أو الجن، أو العمالقة، أو ذلك النوع من الإنسان الراقي الذي أطلقوا عليه اسم الأبطال. غير أن بعض الإغريق — ولسنا ندري متى أو أين انتهَوا إلى أن أمورًا كثيرة تجري في الكون دون أن يقربها أيُّ إله من الآلهة؛ فاعتقدوا — على سبيل المثال — أن الجو يصنع نفسه بنفسه، ولم يعرفوا الكثير عن الكهرباء، ولم يعرفوا بالتأكيد ما يكفي لأن يربط الأمثلة البسيطة من المغناطيسية التي لاحظوها بأي شيء يبلغ في قوَّته قوة الرعد والبرق. ولكننا نستطيع أن نقول إنهم اعتقدوا أن الصواعق ظواهر طبيعية، تخضع للتفسير العلمي المعقول.
ويصوِّر أرستوفان في مسرحية «السُّحب»، التي مُثِّلت لأول مرة في عام ٤٢٣ قبل الميلاد، الصراع بين التفسير القديم الخارق للطبيعة والتفسير الحديث الطبيعي. وبالرغم من المجون والهزل المقصود — الذي يعرض فيه مؤلِّف المسرحية القضية العلمية — تستطيع أن تدرك أن بعض الأثينيين كانوا يعتقدون نظرية جوية لها قيمتها، تقول بأن الرياح تسير من مناطق الضغط العالي إلى مناطق الضغط المنخفض. وقد صُعق أرستوفان — أو لعله تظاهر بالذهول ليؤثِّر في جمهور المستمعين — لهذه الآراء المختلفة، وهو يترك فينا أثرًا بأن نظرية زيوس القديمة هي الأصح، ولكن بالرغم من السخافات التي يجريها على لسان الفيلسوف سقراط — وهو عنده مثال المفكر الجديد — تستطيع أن تلمس العقل الإغريقي وهو يعمل جاهدًا في تفسير ظاهرة الجو.
وليس معنى هذا أن المفكرين المجددين كانوا ضد الدين، أو أنهم كانوا ماديين. نعم كان بعضهم كذلك، كما كان كثير من المفكرين الإغريق والرومان المتأخرين بتعبيرنا في الوقت الحاضر عقليين كاملين. ولكن العقل عند الإغريق في العصر العظيم كان أداةً جديدة مثيرة يستخدمونها في كل التجارب البشرية بما فيها التجربة البشرية التي تتعلق بالأمور المقدسة. ويستطيع المرء على أكثر تقدير أن يقول إن الإغريق الأوائل استخدموا العقل في ثقة وفي مجالٍ فسيح، وأنهم كانوا يحبون نسج النظريات، وأنهم لم يحسنوا ذلك الضرب من جمع الحقائق البطيء وملاحظتها واختبارها الذي يستخدمه العلم الحديث. وقد جمع الإغريق فيما بعدُ كثيرًا من الحقائق في البحث والعلم، وقلَّ من الناس منذ ذلك الحين مَن جمع من الحقائق أكثر مما فعل أرسطو.
وجدير بنا أن نسير في هذه المسألة — مسألة الطريقة التي كان يعمل بها العقل الإغريقي — شوطًا أبعدَ من ذلك قليلًا. وتواجهنا في هذه المرحلة مشكلتان فلسفيتان على الأقل غاية في القِدَم: مشكلة التعميم، ومشكلة المتشابه وغير المتشابه التي ترتبط بها.
وقد قلت — أولًا — منذ حين «الطريقة التي يعمل بها العقل الإغريقي»، ولكن هل كان هناك عقل إغريقي؟ ألم يكن هناك الملايين من أفراد الإغريق، لكلٍّ عقله الخاص؟ في أي جمجمة محسوسة يستقر هذا «العقل الإغريقي» العجيب؟ وسنعود بشكل جدِّي إلى هذه المشكلة — مشكلة التعميم — حينما نصل إلى أوروبا في العصور الوسطى، حينما احتلت بين المثقفين مكانة مركزية، أما هنا فيكفينا أن نلاحظ أن هناك آراء جانبية حول المشكلة، وهناك وسائل نتجنب بها الحكم بأنه كانت هناك عقول إغريقية بقدْر ما كان هناك من إغريق، ووسائل نتجنب بها الحكم بوجود عقل إغريقي واحد، هو اللب أو النمط في كل التفكير الإغريقي (وهو حكم أشدُّ سخفًا من سابقه في نظر الأمريكي العادي).
ويقع حل المشكلة في هذه العبارة المألوفة «رأيه الخاص»، وذلك أن «كلًّا منَّا» يحب بطبيعة الحال أن يعتقد أن له رأيًا خاصًّا. ولكن هل نعتقد حقًّا أن لكل أمريكي من المائة المليون البالغين رأيًا خاصًّا؟ وهل تمتلئ الملايين العديدة من هذه العقول في أكثر الأحيان بنفس الرأي، بالأفكار التي تُصاغ على صورةٍ واحدة بالراديو والصحف، وهوليوود والمدرسة، والكنيسة وكل العوامل التي تلعب بعقولنا؟ وهناك من غير شك العصاة، والمنشقون، والذين «يخالفون» عن عَمْد — وإن يكن حتى هؤلاء يتجمعون في طوائفَ صغيرة تشترك في كثير من الآراء. والواقع أن قولنا: «العقل الإغريقي»، و«العقل الأمريكي» مفيد؛ لأنه يقابل واقع الخبرة العادية.
ويمكن أن يُساء استخدام أمثال هذه العبارات بالمبالغة في تبسيطها، وتجميدها، وتهوين العلاقة بينها وبين الواقع. ولكنَّا لا نستغني عنها في مرحلة النمو العقلي التي بلغناها نحن المحدثين.
فلْنسلِّم إذن بأن هناك عقلًا إغريقيًّا، وأن هذا العقل يعمل في كثير من الأحيان بنفس الطريقة التي يعمل بها العقل الأمريكي. ولكن أليست كل العقول — كالعقل الصيني، وعقل البوشمان — أقرب إلى التشابه منها إلى الاختلاف؟ إن أمامنا هنا وجهًا خاصًّا من أوجه المشكلة المنطقية التي تعرَّضنا لها فيما سبق على عَجَل. وكحلٍّ عملي — مرة أخرى — نقول إن بين الجنس البشري، والمجموعات البشرية، أوجهًا من التشابه وأوجهًا أخرى من الخلاف، وإن من واجبنا أن نحاول وصف الجانبين، وربما كان آمن — على سبيل المثال — أن نقول إن أجهزة الهضم في الكائنات البشرية متشابهة، وإن الخلاف في أدائها وظائفها خلافٌ بين فرد وآخر، وليس خلافًا بين جماعة وأخرى، وإن يكن هذا الخلاف عظيمًا ويرجع إلى أسباب معقَّدة. ويمكن بعبارة أخرى أن نقول إنك قد تستطيع أن تقسِّم الناس قسمين: أصحاب الهضم الجيد وأصحاب الهضم السيئ، إلا أن الأفراد في كل مجموعة لا يكادون يشتركون في شيء. وإذن فهذه ليست بالمجموعات الحقيقية، من ذلك النوع الذي يَدرُسه المؤرخون وعلماء الاجتماع.
والكائنات البشرية — من ناحية أخرى — تختلف اختلافًا بينًا في لون البشرة. ويمكن تقسيم كل الكائنات البشرية في نوعٍ من أنواع الطيف اللوني، كل لون فيه يدخل في غيره، من الأسود الفاحم إلى ناصع البياض — وإن يكن من العسير جمْع الحقائق التجريبية التي تتعلَّق بهذا التقسيم؛ فالخلافات الفردية إذن لها أهميتها القصوى. ومع ذلك فالمجموعات — من الرجل الأبيض، إلى الرجل الأصفر، إلى الرجل الأسود — لها أهمية أكبر. هذه المجموعات، أو هذه العناصر، ليست كما يظن الجاهلون أو المتعصبون، «لكن لا يُنكر أنها من حقائق الحياة». وربما كان بين الصيني المتوسط، والأمريكي المتوسط، والأفريقي الزنجي المتوسط — إذا جمعنا كل الصفات البشرية وكل ضروب نشاط الإنسان — من التشابه أكثر مما بينهم من الخلاف. ولكنهم يختلفون في لون البشرة، وعلى هذا الخلاف قامت أهمية كبرى في العلاقات الإنسانية.
وإذا تحدثنا عن أوجه الخلاف وأوجه الشبه بين عقول الناس، كان أمامنا بالتأكيد مجموعة من المشكلات ليست أقل تعقيدًا من مشكلات اختلاف اللون. والفروق الفردية هنا عظيمة جدًّا، وهي تتقاطع بشكل واضح مع حدود المجموعات، من حيث القومية، والطبقة، واللون، وما شابه ذلك، وإذا قصدنا بالعقل ما يقصده الفسيولوجيون ﺑ «الذهن»، فإن الخلافات الفردية تكون واضحة. وإذا قصدنا «عقل الجماعة»، فهناك فعلًا مجموعات تشترك في الرأي، والعاطفة، والعادات العقلية، التي تختلف من الآراء والعواطف، والعادات العقلية للمجموعات الأخرى. وليس من شك في صدق ذلك إذا نحن حكمنا «بثمار» النشاط العقلي. فإن مقطوعة من هومر حتى في الترجمة إلى الإنجليزية تختلف عن أي مقطوعة من العهد القديم العبري أو من كتاب الموتى المصري. والتمثال الإغريقي لا يشبه التمثال الهندي القديم، والمعبد اليوناني لا يشبه ناطحة السحاب الأمريكية.
فإذا قلنا إن الإغريق هم أول مَن استخدم التفكير الموضوعي بطريقةٍ معينة، وإن الإغريق عاشوا في جوٍّ عقلي يشبه جوَّنا العقلي في كثير من الوجوه، ويختلف كل الاختلاف عن تفكير جيرانهم، إذا قلنا ذلك فنحن نصدر حكمًا عامًّا جدًّا من نوع الأحكام التي لا مناص لنا من إصدارها في مثل هذه الأمور، إن الكيموي يمتلك من طرق التحليل ما يمكِّنه من التحديد، والوزن، والقياس بدقة بالغة، فيستطيع أن ينبئك من أي الوجوه يشبه مركَّب مركَّبًا آخر، ومن أي الوجوه يختلف المركَّبان. ولا يستطيع دارس البشر أن ينبئك إن كان الناس عامة إلى الخلاف أقرب منهم إلى التشابه؛ فالناس مركَّبات معقدة أشد تعقيد.
وبالطبع كان هناك من الإغريق القدامى مَن لم يفكر تفكيرًا منطقيًّا — وسوف نلتقي ببعضهم. كان هناك من الإغريق القدامى مَن كانوا بمزاجهم على الأقل يطمئنون في فلسطين أو الهند أو الولايات المتحدة في العصر الحديث. وكل ما نستطيع أن نذكره هنا ونحن آمنون هو أن مجال نشاط العقل الإغريقي فسيح جدًّا، وفي داخل هذا المجال معيار، أو نمط، أو طريقة من طرق التفكير المميزة أسميناها التفكير المنطقي، وهي نصف التفكير الشكلي الإغريقي (أو الفلسفة) كما تصف الثقافة العامة الأوسع التي نظنُّها إغريقية خاصة بالإغريق.
التفكير الإغريقي الشكل
- المثال الأول: تلك الكتابات التي تُعزى إلى أبقراط، وهو من
علماء الطبيعة في القرن الخامس. وقد ترك أبقراط أو
تلاميذه وصفاتٍ طبية لأمراض فردية محسوسة يمكن أن
تكون حتى اليوم نافعة. وهو لم يتخطَّ مرحلة
الشيطان أو رجل الطب في التفكير في الأمراض فحسب،
وإنما تخطَّى كذلك المرحلة التالية، مرحلة
النظريات العامة الساذجة الطموحة — عن الأمراض —
كأن يدمى المريض دائمًا للتخفيف من الحمَّى، وأن
يتناول في كل حالة «شربة» مسهلة. إنما كان يحصل
على الحقائق مباشرةً، حتى يستطيع أن يتعرف المرض
في المرة الثانية، ولا يخلط بينه وبين الأمراض
الأخرى التي تبدي أعراضًا مشابهة وإن لم تكن
مطابقة.
وليس هذا بالعمل الهين. وقد كان أبقراط يدرك أنه يعرف القليل عن الأمراض، ولكنه أراد أن يعرف هذا القليل معرفة جيدة منظمة. وكان يؤمن بأن الطبيعة تميل إلى أن تعيد في المريض التوازن الذي نسميه الصحة. وكان يتشكك في الأدوية، وبخاصة تلك التي ترتبط بالنظريات الكبرى عن الصحة والمرض. ومِن ثَمَّ فقد كان الغرض الأول عنده كطبيب هو «ألا يغيِّر» وأن يريح المريض، وأن يمكِّن الطبيعة من أن تقوم بعملها العلاجي. وقد ظن بعض معاصريه أنه بغير قلب؛ تهمه دراسة الأمراض أكثر مما يهمه علاجها. غير أن أبقراط ظفر بالتقدير فيما بعد، باعتباره المؤسس الحقيقي لعلم الطب، وحتى عصرنا الحاضر يردِّد أطباؤنا قَسَم المهنة المشهور «يمين أبقراط»، وإن يكن هذا القسم هو بالتأكيد مِن وضْع عهد متأخر.
- والمثال الثاني: هو المؤرخ ثيوسيديد، الذي اقترب من كتابة التاريخ بطريقة علمية كما فعل أي مؤرخ آخر. فإن ثيوسيديد — كأبقراط، الذي ربما أخذ «ثيوسيديد» عنه العلم — يكتب نوعًا من التقارير الطبية. إنه يحاول أن يبين ما جرى فعلًا خلال حرب بلبونيز بين أثينا وإسبرطة، حينما ثارت عواطف الناس إلى درجةٍ تكاد تكون مَرَضية. لم تكن عنده نظريات ضخمة عن تاريخ البشر، ولم يكن لديه أمل في علاج شرور الحرب. ولم ينضم إلى جانب أثينا أو جانب إسبرطة، وإن يكن قد تولَّى القيادة من قبلُ في جيش أثينا. ولم يهتم بالحكايات، أو الفضائح، أو حوادث التاريخ المثيرة للخيال، وإن تكن لديه أفكار عن الحق والباطل — أو قل إن شئت أهواء. وهو يؤثِر بوضوح النظام، والهدوء، ومزايا الحياة الاجتماعية، على العصيان، والمنافسة القوية، وأسباب القلق، والقسوة، والعنف. ولكنه لم يكن واعظًا، إنما كان يلاحظ ويراجع ما دُوِّن عن النضال الدرامي بين كائنات بشرية معينة، ويحتفظ بهذا التدوين حتى يكون الخلف أحكم في العلاقات البشرية.
غير أن ميدان المعرفة العظيم الذي أوضحه الإغريق لأنفسهم في تلك القرون الأولى لم يكن في العلوم، إنما كان في الفلسفة. وكلية الفلسفة ذاتها إغريقية، وتعني بالحرف: «حب الحكمة» أو: «حب المعرفة»، وقد أصبح لها فيما بعدُ معنًى فني عند الإغريق المتأخرين يقرب من معناها في أذهاننا، وهو: محاولة الإجابة عن المشكلات الكبرى التي ذكرناها من قبل. وقد تساءل الإغريق عن كل هذه المشكلات الكبرى، وأجابوا عنها جميعًا، وبالرغم من أن بعض الناس قد أدخل في هذه الأسئلة والإجابات تحويرًا طفيفًا منذ عهد الإغريق، إلا أن المعاصرين من الفلاسفة لا يزالون يسيرون على الأرض التي تجادل فوقها الإغريق. وإذا كانت الفلسفة معرفةً تراكمية، فهي ليست تراكمية كعلم الطبيعة، ولا يزال الفلاسفة يختلفون في كل شيء إلا في بعض طرائقهم في التفكير، في حين أن علماء الطبيعة متفقون في لب الموضوع. ولا يسلِّم الفلاسفة بطبيعة الحال — إلا إذا استثنينا المنطقيين الوضعيين في الوضع الحاضر — بأن موضوعهم تنقصه طرق اختبار صحة ما يصلون إليه من نتائج. إلا أن معاييرهم — كما يقولون — في تحديد الصدق «تختلف» عن معايير العلماء. وهم يزعمون أن موضوعهم قد تقدَّم كما تقدَّم المنطق أو الرياضة.
وبالرغم من أن أكثر ما دوَّنه فلاسفة اليونان حتى حوالي عام ٤٠٠ق.م لا يوجد إلا في صورة قصاصات، أو مقتبسات من هنا وهناك، أو روايات في الكتب التي وصلت إلينا، إلا أننا نعرف أن الإغريق قد ساروا شوطًا بعيدًا عندما جاء عصر أرسطو وأفلاطون، ولسنا في حاجة هنا إلا إلى أمثلة من المجال الفسيح الذي صالوا فيه.
كانت عندهم مدرسة في وقت باكر — هي مدرسة أهل أيونيا — تعتقد أن كل شيء قد تطور عن مادة أبسط، وهي المادة الأولى للدنيا، كالماء والهواء. والظاهر أن أحدهم — إنكسمندر — كان يعتقد أن الكائنات البشرية قد تطورت عن الأسماك. وكان هذا مجرد حدس؛ فإن هذا الفيلسوف الأيوني لم يسبق دارون في البحوث البيولوجية الطويلة الدقيقة، بل إن خصوم المزاج الفلسفي الإغريقي يقولون إنه مثال طيب للفيلسوف — رجل ذو أفكار ولكنه يَعدم الوسيلة التي يختبر بها صحة هذه الأفكار.
وثمَّة إغريقي آخر — هرقليطس — كان يعتقد أن كل شيء يتدفق، وأن الصيرورة هي الحقيقة الوحيدة. يقول إن هذا النهر الذي تنظر إليه والذي تطلق عليه اسمًا واحدًا ليس هو بعينه في أية لحظة من اللحظات. أما بارمنيدس فكان على نقيض مذهب هرقليطس تمامًا في التدفق؛ لأن التغيُّر عنده وهْم، والحقيقة كلٌّ واحدٌ عظيم، كامل، لا يتجزأ.
أما ديموقريطس — وهو مادي متطرف — فكان يعتقد أن كل شيء، بما في ذلك الإنسان وعقله وروحه، يتكوَّن من جزيئات صغيرة جدًّا لا تُرى ولا تتجزأ، يسميها: الذرات. وأرجو أن تلحظوا هنا أن هذه نظرية فلسفية، وليست تفكيرًا سابقًا لعلم الطبيعة الحديث. أما فيثاغورس — الذي كان رياضيًّا أيضًا — والذي ارتبط اسمه دائمًا بالنظرية التي تقول بأن المربع المُنشَأ على الوتر في مثلث قائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين، أما فيثاغورس كفيلسوف فكان دائمًا في الجانب غير المادي، أو الروحي. كان يعتقد في الأرواح غير المادية وفي صورة من صور الميتافيزيقيا، هي تناسخ الأرواح.
وقد افتتن الإغريق بهذه القدرة التي مارسوها آخرًا، القدرة على التعليل، فتابعوها في متاهة المنطق الصرف، بل في أركان هذا المنطق وزواياه. وقد اشتهرت في هذا الباب مشكلة السلحفاة والأرنب، التي ذكرها أول الأمر زينو الذي ينتمي إلى مدرسة إليا، وباتت — بالطبع — مجرد اختبار للذهن. وهذه هي المشكلة: إذا سلَّمنا بأن أخيل — أسرع الرجال عدوًا — يجري بسرعة تساوي عشرة أمثال سرعة السلحفاة، وأنه قد وضع السلحفاة في موضعٍ يسبقه بعشر أقدام، فإن أخيل لن يلحق بها. لماذا؟ ذلك أن أخيل إذا تقدَّم عشر أقدام تقدمت السلحفاة قدمًا، وإذا تقدَّم أخيل القدم التالية، تقدمت السلحفاة عُشر القدم — وهكذا إلى الأبد، سوف يفصل بينهما دائمًا جزء من البوصة.
وهناك أيضًا لغز الكذاب الذي يُعزى إلى رجل اسمه يوبليديز من مجارا. يقول أبيمنديز الكريتي: «كل أهل كريت كذابون.» ولكن أبيمنديز نفسه الذي يقول بهذا كريتي، فهو إذن كذاب؛ ومِن ثَمَّ فإن قوله ليس بصحيح. ومِن ثَمَّ فإن أهل كريت ليسوا بالكذابين ومِن ثَمَّ … وهكذا.
ولكن حتى واضعو الألغاز كانوا يقومون بشيء أكثر من اللعب بأداة جديدة؛ كشفوا أن العادة والإدراك العام تضلِّل في بعض الأحيان، وأن الأشياء ليست دائمًا كما تبدو، وأن التفسير المعقول أو العلمي للظواهر يناقض أحيانًا الانطباعات الحسية. ونعتقد أن زينو كان يعرف أن أخيل في هذا العالم الواقعي يسبق السلحفاة في لمح البصر، ولكنه كان أيضًا يعرف أن الآراء التي يكوِّنها المرء بالإدراك العام عن الزمان والمكان والحركة لم تكن هي الكلمة النهائية في هذه الأمور. إن عالم الطبيعة الحديث يقول إن بحوث زينو في العلاقات بين المكان والزمان تؤدي إلى طريقٍ ضيِّق مغلق. بيْد أنها — برغم ذلك — كانت مكتشفاتٍ في مجالاتٍ مجهولة، تشير إلى العقل الإغريقي القلق المتطلع.
وكذلك لم يَقُم هذا النشاط الذهني في عزلة منفصلة؛ فإن فلاسفة الإغريق في تلك القرون الأولى كانوا بالتأكيد هم مَن نسميهم اليوم بالمثقفين، غير أنه يبدو أنهم كانوا أسرع إلى الاختلاط مع مواطنيهم في الأماكن العامة من المثقفين في العالم الحديث. وهم لم يردوا بأية حال من الأحوال كل زملائهم من المواطنين إلى الفلسفة، وسنرى في الفصل المقبل أن كثيرًا من آرائهم في الدين والأخلاق سبقت رجل الشارع بمدًى فسيح. ويظهر النزاع بين الآراء الجديدة والوسائل القديمة في وضوح عند أول فيلسوف نعلم عنه الشيء الكثير، وأعني به سقراط، وهو رجل ظل اسمه ما ينيف على ألفي عام رمزًا للبحث الفلسفي.
كان سقراط مواطنًا أثينيًّا، مهنته قطع الأحجار، وطبيعته طبيعة المعلم الواعظ الذي لا ينفك عن التعليم. ولا نعرفه بما كتب بنفسه فحسب — فقد كان محدِّثًا ولم يكن كاتبًا — وإنما نعرفه أساسًا مما كتب اثنان من تلاميذه: أفلاطون الفيلسوف، وزنوفون المؤرِّخ. وقد أحبَّه تلاميذه. أما بقية أهل أثينا فقد ساورتهم فيه مشاعرُ مختلطة، وقد اعتاد أن يجر زملاءه المواطنين إلى البحث الفلسفي ويحثهم عليه، وكان يشبِّه نفسه بذبابة الماشية، هدفه أن يلدغ زملاءه فيخرجهم عن اقتناعهم ورضاهم بالطرق التقليدية، كما يخرجهم عن عدم المبالاة والتراخي إزاء ما في هذه الدنيا من شرور. ذلك أن سقراط كان وليد الحركة الفكرية الجديدة التي شكَّت في التقاليد، والمظاهر، والمسلَّمات، وبحثت عما يفضلها. ومهما يكن من شيء فقد كان رجل الأخلاق أقرب منه إلى الميتافيزيقي. وقد وقف متحديًا عمالقة أثينا على أساس خلقي.
وآراء سقراط الأساسية عن الحق والباطل هي في صميمها آراء أكثر المذاهب الخلقية الكبرى، بما فيها «القاعدة الذهبية» و«المُثُل الطيبة» لم يحب الكذب، أو الغش، أو السرقة، أو القسوة في ميدان الآلهة التي نشأ هو ومواطنوه على العقيدة فيها (آلهة ما نسميه اليوم ﺑ «الأساطير اليونانية») فقد كانت تكذب، وتغش، وتسرق بل وتفعل ما هو أسوأ من ذلك. وهذه الأفعال الخبيثة عند الإنسان، فكيف تكون طيبة في إله؟ واعتقد سقراط أن في باطنه أشياء خيرًا من هذه؛ أشياء يحدِّثها عن ضميره، أشياء أفضل من هذه الحكايات التي تعلَّمها في صباه، وعليه أن يتَّبع ضميره، ولا يتبع التقاليد. ورأى أن «المعرفة هي الفضيلة»، وأنك إذا عرفت الطيب «فعلًا»، فلن تستطيع أن تفعل الخبيث. والتقاليد القديمة، والوسائل القديمة المتراخية لم تكن — في اعتقاده — معرفة، إنما كانت جهالة.
وقد يجذب سقراط مواطنًا أثينيًّا في السوق العامة في أثينا، ويأخذ معه في الحديث، ويسأله في براءة: «ألست تعتقد أن زيوس يحيا حياة طيبة؟» فيجيبه الآخر: «بالتأكيد.»
– وهل تعتقد أن زيوس خلَّف من بعده أطفالًا من امرأة من عالم الفناء؟
– نعم لقد فعل، وقد نشأ محدثه على حكاياتٍ تُروى عن حب زيوس لليدا، وداناي، ويوروبا، وكثيراتٍ غيرهن، وكان يعرف كل شيء عن أبنائه الأبطال.
– وهل تعتقد إذن أن زيوس قد ارتكب الخطيئة؟
(ولم يشأ المواطن المأخوذ أن يوجِّه إليه السؤال في هذه الصيغة، غير أن سقراط يسوقه في يسرٍ إلى أن يقول: «نعم.» لأن زيوس على كل حال قد تزوج من الإلهة هيرا.)
– وهل تعتقد أن الزنا خطيئة؟
وهنا يخضع المسكين لسقراط؛ فليس من نتائج سقراط مفر: إذا كان زيوس يرتكب الخطيئة فهو ليس طيبًا، ومِن ثَمَّ فهو ليس بالإله. أو إذا كان زيوس إلهًا، فهو طيب، ولذلك فهو لا يرتكب الزنا.
والرواية السابقة هي من غير شك تبسيط للطريقة السقراطية، ولكنها ترينا ما كان يعارض فيه الأثينيون عند سقراط؛ فقد أزعجهم، وشك في الآلهة القدامى، وبدا للأثينيين المحافظين على القديم كأنه اخترع من عنده آلهة أخرى، ولكنهم احتملوه طويلًا. ولما بلغ الشيخوخة كانت أثينا في بؤرة التدهور الذي أعقب هزيمتها أمام إسبرطة، وبدسيسة سياسة لا نعرف تفصيلها، وقعَ سقراط فريسة للاتهام، وحُوكم، لِما بدا حقًّا لخصومه أنه إلحاد، وحرية في الكلام تنطوي على الخيانة، وإفساد الشباب. وأدانه القضاة الذين حاكموه بأغلبية يسيرة في الأصوات، وآثر أن يموت على أن يُنفى من البلاد. ويُعَدُّ بحقٍّ شهيدًا لقضية حرية الكلام، ومِن ثَمَّ فقد استشهد في سبيل الديمقراطية والتقدُّم. ولكن قبل أن نحكم على أولئك الذين حكموا عليه، يجب أن نسأل أنفسنا أولًا: هل نحب الذباب الذي يلدغ؟
وقد طوَّر فلاسفة الإغريق فيما بعدُ كلَّ ما تعرَّض له مَن سبقوهم، وهذبوا آراءهم، وكوَّنوا المدارس التي تشمل كل ألوان الفلسفة بتفصيلها. غير أن الخطوط العريضة قد اتضحت حتى في تلك الأيام الأولى من القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
وقد فصل الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس ذات مرة فصلًا اشتهر ببساطته وقوَّته بين الفلاسفة أصحاب «العقول المرنة» والفلاسفة أصحاب «العقول الجامدة». وربما كان من الأوضح للقارئ أن يميز بين فلاسفة «العالم الآخر» وفلاسفة «هذا العالم». ونعني ﺑ «هذا العالم» عالمَ الحواس والإدراك العام (وربما العلوم أيضًا) وﺑ «العالم الآخر» كلَّ ما «لا» يتضح للحواس العارية والإدراك العام.
وهذا التقسيم إلى نوعين، إلى الضأن والماعز، كغيره من التقسيمات الساذجة لا تنفع في الواقع في البحث الدقيق، ولكنها تمدُّنا بشيء تقريبي سهل المنال. وقد أمدَّنا الإغريق الأوائل بمثال طيب من أمثلة الفلاسفة ذوي العقول المرنة، هو أفلاطون، كما سوف نرى. كما أمدُّونا بعدد آخر أقل شهرة ولكنهم أمثلة كافية للفيلسوف ذي العقل الجامد. كما أمدونا في أشهرِ فلاسفتهم أرسطو برجلٍ حاول جاهدًا أن يصول في المجالين، وأن يكون مرنًا وجامدًا في آن. ويجب أن نحلِّل — في إيجاز وبطريقة عامة غير فنية — الاتجاه الأساسي لكل نمط من هذه الأنماط الفلسفية الثلاثة. وأود أن أنبِّه القارئ مرة أخرى إلى أن كثيرين من الفلاسفة المحترفين — وربما كان أكثرهم — يشكون في صحة تقسيم جيمس الذي يميز به العقل المرن والعقل الجامد. والواقع أن المسطحات المتغيرة التي صيغ فيها مثل هذا التقسيم — كالاسمي والواقعي، أو الواقعي والمثالي (وقد تقلب معنى لفظ «الواقعي» فيما بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر)، والتجريبي والعقلي — تدل بتناوبها في التاريخ على أن الفلاسفة قد حاولوا أن يتحاشوا هذه المشكلة أو أن يتجاوزوا عنها. غير أن مشكلة التمييز بين النوعين لا تزال قائمة بالنسبة إلى الخارجين عن دائرة الفلسفة. وكثير من الأحكام على الفلاسفة المحترفين في هذا الكتاب هي من وجهة نظر الفيلسوف المحترف واقعة تحت عناوين خاطئة، كالأحكام التي سوف نصدرها — مثلًا — على أفلاطون وأرسطو. والقارئ الذي يود أن يكون منصفًا يجب أن يقسِّم بنفسه الفلاسفة. ويستطيع أن يبدأ بداية طيبة ﺑ «جمهورية أفلاطون» و«الأخلاق عند نيقوماخوس» و«السياسة» لأرسطو.
ويمكن الحكم على أهمية أفلاطون في الفلسفة بما لاحظه ألفرد نورث هوايتهد من أن الفلسفة الغربية كلها منذ أفلاطون ليست إلا سلسلة من التعليقات على ما كتب أفلاطون، ولا تتفق هذه التعليقات بأية حال، حتى فيما قصد إليه أفلاطون. ويزداد الأمر اضطرابًا لأن أفلاطون كتب محاوراتٍ يتقدَّم فيها المتحدثون بوجهات نظرهم، ويتفقون، ويختلفون، ويواصلون البحث عن الحقيقة طبقًا للطريقة التي عُرفت منذ ذلك الحين ﺑ «الجدلية» ولا يظهر أفلاطون نفسه كمتحدث، وإن كنا قد ألِفْنا أن نفترض — وبخاصة في «الجمهورية» ومحاورات أفلاطون الأخرى أيام نضجه — أنه يتحدث على لسان سقراط، وحتى أولئك الذين يسلِّمون بأن أفلاطون لم يكن مجرد رواية، وإنما كان مفكِّرًا أصيلًا، يختلفون كثيرًا في تفسيرهم؛ بعضهم يجعله جامدَ العقل إلى حد بعيد، وبعضهم يجعله مرنَ العقل تمامًا.
ويكفينا للوفاء بأغراضنا كمؤرخين للفكر أن نلاحظ أن مؤلفات أفلاطون كنزٌ ثمين لا يزال الناس يغترفون منه، وأن تأثيره كان خلال العصور بوجه عام دفع الفكر الغربي نحو قطب «العالم الآخر». ولا نستطيع أن نعرض صورةً مفصلة لميتافيزيقا أفلاطون؛ أي لأكثر أفكاره العامة المجردة. ولكنه يُعرف في الميتافيزيقا بمذهب هام جدًّا، هو مذهب «الأفكار». وربما كان هذا المذهب محاولةً من أفلاطون أن يتجاوز التباين الشديد بين مذهب هرقليطس في التغيُّر ومذهب بارمنيدس في الدوام، وهي محاولة منه لأن يُوفِّق بين «الواحد» و«المتعدد» و«الكينونة» و«الصيرورة». وهو مذهب يشق تلخيصه في لغةٍ غير فنية. لكنك إن وجدت العرض الآتي غير مفهوم «بكليته»، فقد عرفت شيئًا له قيمته، وهو أنك لم تَعُد لدراسة الفلسفة (وكم من رجل ذكي أو امرأة ذكية ليس عنده هذا الاستعداد). أما إن وجدت العرض «كله» غير مقبول، فقد عرفت كذلك شيئًا له قيمته، وهو أنك لست مرن العقل، لست من المنتمين إلى «العالم الآخر».
يعتقد أفلاطون أن كل الأشياء التي نعرفها بخبرة الحواس، والتي نسميها، ليست سوى أشكال تقريبية ناقصة، من هذا العالم، للأشياء (أفكارًا كانت أو أشكالًا) المثالية، من العالم الآخر؛ أي إن جميع الخيول المعينة التي نراها صورٌ ناقصة للحصان المثالي السماوي. ولا يمكن — بطبيعة الحال — أن يكون هناك سوى حصان واحد كامل، أبدي لا يتغيَّر، ولا يرى أو يَحُسُّ بطريقةٍ أخرى، كما ترى أو تَحُسُّ الخيول الناقصة فوق هذه الأرض. «غير أن هناك علاقة بين الحصان الناقص، أو الواقعي، والحصان الكامل، أو المثالي.» ولن يكون لدينا شيء يشبه المعرفة إلا لأن الواقعي يعكس في صورةٍ معتمة، وفي محاولة التشبُّه، الشيء المثالي. ولاحظ أننا نقول: «الواقعي»، ولا نقول: «الحقيقي»؛ لأن المثاليين يرون أن «المثالي هو الحقيقي».
وترى بعض العقول أن هذه المثالية نظرة ثاقبة عميقة إلى شيء أبعد في الحقيقة من «حقيقة» اللمس، أو النظر، أو الحس السهلة، بل أبعد من «حقيقة» التفكير العلمي المنظَّم وهي أشق. وترى عقولٌ أخرى أن هذه المثالية هراء لا معنَى له — هراء محير. وقد بذل أفلاطون جهدًا جبارًا لكي يوضِّح مذهبه في الأفكار للمثقفين العاديين في مقالةٍ من أشهر ما كتب الناس جميعًا، وذلك في تشبيهه في «الجمهورية» بالمسجونين في الكهف.
يقول أفلاطون: تصوَّر مجموعة من المسجونين مكبَّلين في الأغلال في أحد الكهوف بحيث لا يستطيعون الحركة، ظهورهم نحو الضوء الذي يتسلل خلال باب الكهف، وهم لا يرون مصدر الضوء، ولا يرون ما يجري في العالم الخارجي، وكلُّ ما يرونه هو الانعكاس على الحائط الذي يجابهونه. ماذا يعرفون حقيقة عن ضوء الشمس والعالم الخارجي؟ لا شيء سوى الانعكاسات المعتمة الناقصة! وما يعتقد المسجونون — وهم قوم عاديون مثلي ومثلك — أنه العالم الحقيقي؛ العالم الذي نأكل فيه، ونشرب، وننام، ونجاهد، ونحب، ونعيش، ليس في الواقع إلا ظلًّا. ولو أن أحد المسجونين استطاع مصادفة أن يهرب ويرى العالم على حقيقته — عالم ضوء الشمس الإلهي — ثم عاد وحاول أن يقصَّ على زملائه المسجونين شيئًا مما رأى، للاقى مشقة كبرى في أن يحمل زملاءه المسجونين (الذين لا يستطيع فكَّ أغلالهم) على أن يفقهوا ما يقول. سيكون في الواقع مثل أفلاطون رجلًا يحاول أن يشرح لمواطنيه مذهبه في الأفكار.
وقد كان أفلاطون نفسه على دراية تامة بإحدى المشكلات التي عانى منها فلاسفة العالم الآخر، كان لا بد له أن يستخدم «الألفاظ»، مضافًا بعضها إلى بعض في صيغة نحوية لغوية، لكي يحاول أن ينقل إلى زملائه هذه المعرفة بالحقيقة الصادقة، أو وصفها؛ لأنه كان يرى أن هذا العالم الآخر هو وحده العالم الحقيقي. ولكن الألفاظ ليست إلا ضوضاء تصدر عن حلوق بشرية، والنمو ليس إلا ترتيبًا يتم في الأجهزة العصبية المركزية البشرية. واللفظ والنمو كلاهما ملوَّث تلويثًا كاملًا بما في هذه الدنيا من أصوات وأضواء وروائح. ومن المستحيل أن نستعمل لفظ «الحصان» بغير هذا التلويث. وحتى «فكرة» المخترع عن مخترَعه ليست عند صاحب العقل الجامد إلا «مزيجًا» من الخبرات المتقطعة عن موضوع معيَّن من هذه الدنيا المحسوسة فعلًا.
ولفظ «الله» هو عند أكثر الأفراد العاديين اللفظ الذي يمكن أن يقترب جدًّا من البعد عن تلويث الحواس. وبالرغم من هذا نجد أن أحدث الديانات الوحدانية العظيمة — اليهودية والمسيحية والإسلام — كان حتمًا عليها دائمًا أن تكافح ميل المؤمنين إلى تصور الإله شخصًا ملتحيًا حليمًا، وإن يكن رهيبًا (والكلية العلمية التي تعبِّر عن هذا المَيل الأنثروبومورفزم، أو نسبة صفات الإنسان إلى الله). وبالرغم من أنه من الواضح جدًّا أن أفلاطون سار شوطًا بعيدًا جدًّا — في لحظاتٍ على الأقل — نحو الإنكار الكامل لحقيقة عالم الحس — أو في لغةٍ إيجابية نحو انعدام الذات الكامل الصوفي في تأمُّل «الواحد»، و«الكامل» و«الطيب»، فإن جانبًا كاملًا من نشاطه، وكتاباته، يتصل اتصالًا وثيقًا بمشكلات هذه الدنيا، دنيا الحواس. وفي الحق أن أفلاطون — حتى في ميتافيزيقياته — لا يقف، دائمًا الموقف الذي يتخيَّله المرء من تشبيهه المشهور — تشبيه الكهف: الذي يرى فيه أن هذا العالم الناقص — عالم الحواس — إنما هو وهمٌ من الأوهام؛ أي إنه لا وجود له.
وبهذا نبلغ في الواقع إحدى المشكلات الكبرى التي عذَّبت العقل البشري — عذَّبته فعلًا في حالة الأفراد الحساسين. ويمكن وصفُ هذه المشكلة في إيجاز كما يلي: إننا نَحُسُّ — وبعضنا على الأقل «يعرف» — أن هناك كائنًا «واحدًا» كاملًا لا يتغيَّر، إلهًا كاملًا، يجاوز تمامًا تلك الكائنات التافهة الناقصة التي تعيش وتموت. ولكن كيف ولماذا يسمح — بل يخلق — هذا الإله الكامل ذلك النقص؟ كيف يوجد الوثبة من «الواحد» إلى «المتعدد»، من «غير المتغير» إلى «المتغير»، من الخير إلى الشر؟ أو لماذا وضع الله الأغلال في أولئك المسجونين في الكهف من أول الأمر؟ هناك جواب منطقي ذكرناه آنفًا: وهو أن هذا العالم الناقص غير حقيقي، غير موجود، وهذا جواب قلما يَرِد في تاريخ الفكر الغربي. وإنما الجواب في الغرب دائمًا هو وجه من الأوجه المختلفة لحُجَّةٍ واحدة أساسية، يمكن أن نوردها في هذه العبارة: أن «الواحد الكامل» لا يمكن أن يبلغ تمام الكمال وغايته إلا إذا استطاع هذا الكمال أن يواجه حالة النقص، برغم ما في ذلك من تناقض، أو أن هذا «الواحد الكامل» لا يمكن في الواقع أن يكون كاملًا في عالمٍ ثابتٍ ثباتًا كاملًا. ومِن ثَمَّ صدر النقص عن الكمال، وعلى هذا النقص أن يجاهد دائمًا نحو بلوغ الكمال. وهناك من الأدلة ما يثبت أن أفلاطون برَّر نفسه ميتافيزيقيًّا بمثل هذا الأسلوب — وليس من شك في أن الأفلاطونيين قد فعلوا ذلك.
ولكنا نستطيع عند هذه النقطة أن ننتقل من أفلاطون الميتافيزيقي إلى أفلاطون الأخلاقي والمفكِّر السياسي. ومهما نبالغ في تفسير ميتافيزيقيات أفلاطون التي تؤدي إلى الإنكار الكامل لحقيقة هذا العالم؛ فقد كان الرجل بالتأكيد من تلك الطائفة التي تريد أن تسلك الكائنات البشرية في هذه الدنيا مسلكًا خاصًّا. كان مثاليًّا، لا بالمعنى الميتافيزيقي فحسب، وإنما بمعنًى أشدَّ منه وضوحًا للأمريكيين، بالمعنى الاصطلاحي العملي، الدنيوي. وهنا أيضًا سنعالج في إيجاز أفكارًا بالغة التعقيد شغلت على الدوام عقول رجال الفكر خمسة وعشرين قرنًا.
وكما أن المفسِّرين يختلفون في درجة «الصورة الميتافيزيقية للعالم الآخر» التي ينسبونها إلى أفلاطون، فهم يختلفون أيضًا في الدرجة التي يرفعونه إليها كرجلٍ صاحبِ نفوذٍ أخلاقي وسياسي — أو بعبارة معاصرة لا تضلِّل كثيرًا رجلًا دكتاتورًا متسلطًا من جميع الوجوه. وإذا رسمت خطًّا متدرجًا يسير من الدفاع عن أقصى حرية للأفراد إلى الدفاع عن أقصى تسلُّط عليهم، كان حتمًا عليك أن تضع أفلاطون في نصف الخط الذي يبتعد عن الحرية. ومما له دلالته أن المدافعين عن الحرية من أمثال توماس جفرسن وﻫ. ج. ولز، يمقتون كتابات أفلاطون السياسية مقتًا شديدًا. ومن العسير أن تقرأ أشهر مؤلفاته الذي يتميز به عادة أكثر من أي عمل آخر، وأعني «الجمهورية»، ولا تضعه على هذا الخط قريبًا جدًّا من السلطة المطلقة.
نشأ أفلاطون شابًّا حساسًا ذكيًّا من أسرة كريمة في أثينا بعدما هُزِمت هزيمةً منكَرة في حربها ضد إسبرطة وحلفائها. وكان الرأي الشائع بين المثقفين الأثينيين أن يعزوا هذه الهزيمة إلى عيوب الحكومة والمجتمع الأثيني الديمقراطي. ثم إن أثينا كانت — فوق ذلك — وسط سلسلة من الأزمات، الروحية والمادية، كما سوف نرى في الفصل القادم. ومن الواضح أن أفلاطون ثار ضد هذه البيئة، التي وجدها خسيسة، عنيفة، لا تُطاق. وفي مقابل أثينا هذه الناقصة التي عرفها صور في «الجمهورية» دولة كاملة، وهي أفضل تجسيد دنيوي لفكرة العدالة.
وليست هذه الدولة ديمقراطية. وليس للجماهير الضخمة الكادحة — وهم إحدى طبقاتها الثلاث — صوتٌ في إدارتها. إنهم ينتمون، وهم بمثابة المَعِدة من الجسد. وثمَّة طبقة أصغر منها، وهي طبقة المحاربين، تُدرَّب على حياة الجندية؛ لأن العالم المثالي عند أفلاطون لا يتوافر فيه السلام العالمي. ويتصف هؤلاء المحاربون بالشجاعة، وهم بمثابة القلب، وأخيرًا هناك مجموعة صغيرة جدًّا من ولاة الأمر، ينشئون منذ طفولتهم على أداء هذا الواجب، وهم الذين يرشدون الدولة إلى مصيرها، تتوافر لديهم الفضيلة والذكاء، وهم بمثابة الرأس. وهم يحكمون لأنهم يَصلحون فعلًا للحكم، لا لأنهم استطاعوا أن يقنعوا العامة الجاهلة أنهم يَصلحون للحكم، وعلى رأسهم الملك الفيلسوف، وهو أصلحهم جميعًا.
وليس لطبقة الولاة عند أفلاطون حقُّ الأرستقراطية الموروث المألوف؛ فهو يدرك تمام الإدراك أن مثل هذه الأرستقراطيات مالت في الماضي نحو الانحلال من نواحٍ عدة، وهو يتخذ في عالمه المثالي احتياطاتٍ متنوعة لتحسين سلالة الولاة من الناحية العنصرية، كما يتخذ احتياطاتٍ دقيقة لتدريبهم على جميع الفضائل التي يرى أن الطبقة الحاكمة بحاجة إليها. وربما كان أفلاطون ديمقراطيًّا بمعنى الديمقراطية عند نابليون — لأنه كان يعتقد في انفساح المجال أمام المواهب — ولكنها دائمًا تلك المواهب التي يراها هو.
وهو يقترح لولاته نوعًا من الأرستقراطية الشيوعية الصارمة، تقوم إلى حدٍّ ما على ما كان يعتقد بعض الأثينيين المثقفين أنه نوع الحياة التي تحياها الطبقة الحاكمة في إسبرطة في أحسن أيامهم. كان يريد أن يلغي الأسرة بالنسبة إلى الولاة؛ لأن الأسرة عنده عشٌّ يحفز صاحبه نحو حب الذات، وهي بؤرة تتجمَّع فيها ضروبٌ من الولاء التي تصرف المرء عن الدولة وعن الفضيلة. وقد أُعطيت المرأة درجة كبيرة من الحرية، تدعو إلى الدهشة، ولا تتفق مع الآراء الأثينية الشائعة. وهي متساوية مع الرجل في كثير من الأمور؛ أي إن أفلاطون — بمعنًى ما — من دعاة النهضة النسائية.
أما الأطفال فهم أطفال المجتمع، يُنشِئهم المجتمع، ويُدرَّبون على اعتبارِ كلِّ مَن يكبرهم آباءً لهم. وهم ينشئون على التربية البدنية الإسبرطية، وعلى التربية العقلية التي صوَّرها أفلاطون بنفسه في العالم الآخر نقية إلى أبعد الحدود؛ فلا يُسمح لهم مثلًا بقراءة هومر، أو الشعر الغنائي؛ لأن مثل هذه القراءة تُبعِدهم عن الخشونة، وتمدُّهم بآراء مضللة عن الآلهة، وتفسدهم بوجه عام. ويلتمس أفلاطون المعاذير للشعر إلى حدٍّ ما، بل هو راغب عنه تقريبًا؛ فالشعر والفن هما عنده — على الأقل — نوع من الجهد الذي يجاوز عالم الإدراك الحسي الأسفل، الذي كان يمقته مقتًا شديدًا. والشعراء في طريقهم نحو المَثل الأعلى، ولكنهم ضلوا الطريق في مكانٍ ما، فانصرف عنهم. وكذلك حرَّم أفلاطون بعض أنواع الموسيقى على صغار الولاة — الموسيقى الناعمة المسترخية. أما الموسيقى الصارمة العسكرية فيُسمح لهم بها.
وكذلك كان المحاربون مجموعة منتقاة، تعلَّموا كثيرًا من فضائل الولاة، مع استثناء الفلاسفة منهم — وهو استثناء هام. أما المنتجون، وهم الغالبية العظمى، أو الرجال الذين يمثِّلون المَعِدة، فلم يُعِرهم أفلاطون في الواقع اهتمامه. لهم أن يتزوجوا وأن يعيشوا الحياة العائلية التقليدية. ولهم أن يأكلوا وأن يشربوا وأن يعملوا وأن يلعبوا، كما يشاءون، ما داموا يحتفظون بسير الدولة ولا يحاولون أن يؤثِّروا في سياستها. وعليهم على وجه الإجمال أن يحسنوا السلوك، وأن يعرفوا مكانتهم، ولكنهم لا يستطيعون في الواقع أن يَحيوا الحياة الطيبة.
لم يكن أفلاطون إذن ديمقراطيًّا، وهو لا يثق بذكاء الرجل المتوسط أو يحسن نيته. وهو يترك له نوعًا من الحرية الحيوانية في ازدراء — وهو الحرية التي يتمتَّع بها الحيوان الذي أحسن استئناسه. ولكنا يجب أن نلاحظ أن أفلاطون لا يقول بالحرية بمعنى الكلمة في الإدراك العام — الطبقة العليا؛ فالولاة ينشئون في الواقع على نظام صارم. ولا يكتسب محاربوه وولاتُه الفضائل اللازمة لمسئولياتهم بالتجربة، بالمحاولة والخطأ، أو بالتعرض الكامل للتنوُّع المذهل في هذه الدنيا، فهم في وقاية تامة بنفوذ كبارهم — وبنفوذ الملك الفيلسوف أفلاطون — من التعرُّض لاختيار سلوك دون آخر. وهم يُلقَّنون الرأي في صرامة، ولا يفكرون إلا في الأفكار السامية — وهو لا يكاد البتة أن يكون تفكيرًا عند أصحاب العقول الجامدة.
وليس من العسير أن نعلِّل سحر مدينة أفلاطون الفاضلة الذي كان له أثره في عقول الناس؛ فقد كان أولًا صاحب أسلوب جذاب، وكان شاعرًا. وفي كتاباته — حتى عند ترجمتها — سحرٌ قلَّ أن يتوافر في التأليف الفلسفي، كما أن عالمه الآخر — أو إن شئت فقُل تصوُّفه — كان دائمًا يجذب إليه الطبائع الحساسة، وسوف نرى كيف أمكن في يسرٍ لكثيرٍ مما كتب أفلاطون أن يشق طريقه إلى البناء العقلي للمسيحية في عهدها المتأخر، ولكن أفلاطون لم يكن مجرَّد هاربٍ من عالم الحواس؛ فقد أراد كمصلح، وكرجلٍ أخلاقي، أن يدفع هذا العالم المسكين دفعة كبيرة نحو الهدف المثالي، وكثيرًا ما انساق — في تقاليدنا الغربية — هذا الباحث عن الكمال إلى أن يحيا حياة ناقصة، يعلِّم فيها زملاءه الناقصين، ويحثهم بل ويهددهم، لكي يسيروا نحو الكمال الذي لم يستطيعوا أن يبلغوه. وكان على أفلاطون أن يعود إلى الكهف وأن يغمر المسجونين المغلولين بالضياء.
وربما لم يخلُ الكهف أيضًا من الجاذبية لأفلاطون؛ فقد شعر أفلاطون — ككثير من المسيحيين الذين جاءوا بعده — بفتنة هذا العالم — ولا نعني ما فيه من إشباع ساذج لرغبة الطعام والشراب والجنس التي تحسبها العامة مغريات هذه الدنيا، بمقدار ما تعني إشباعًا من درجةٍ أرقى للعقل والبدن؛ ذلك الإشباع الذي يخلق عالم الفنان. وقد كان أفلاطون أشعر من أن يتخلَّى عن هذا العالم بتاتًا. غير أن الشعر بالتأكيد لا يمكن إلا أن يَهُزَّ ثبات «الواحد» و«الخير» و«الكمال».
وأفلاطون هو أقدمُ الفلاسفة الإغريق الذين وصلت إلينا منهم مؤلفات كاملة؛ إذ ليس لدينا ممن سبقه من الفلاسفة — الذين نسميهم عادة بالفلاسفة السابقين لسقراط — إلا قصاصات، وأكثرها رواية عن الباحثين المتأخرين. وقد كانت هذه المادة المتجزئة موضعَ درس عميق من أجيال من الباحثين، فعرَّفتنا على الأقل أن أكثر ضروب التفكير الفلسفي ممثل فيها. ولكن ليس لدينا شيء كامل عن أي فيلسوف قديم ثابت القدم، باحث «في هذه الدنيا» جامد العقل. وربما كان ديمقريطس الذي ذكرنا عنه فيما سبق أنه «مخترع» الذرة ماديًّا من جميع وجوهه، ومِن ثَمَّ فهو — كأكثر الماديين — منكِر لإرادة الإنسان الحرة، ولكنا في الواقع لا نملك مجموعة متماسكة مما ذهب إليه ديمقريطس.
وربما كان خيرَ مَن نختار من الفلاسفة القدامى الذين بحثوا في «هذه الدنيا» هم السفسطائيين الذين ترعرعوا في القرن الخامس قبل الميلاد عندما بلغت الثقافة الإغريقية (أو الأثينية على الأصح) قمَّتها، وربما لم يكن السفسطائيون فلاسفةً خُلَّصًا، وإنما كانوا هواةً من المعلمين والمحاضرين، الذين يعلِّمون طلاب المعرفة — لقاءَ ما يتقاضون من أجر — كيف يستخدمون الأداة الجديدة التي أسميناها «التفكير المنطقي». ووقفوا موقفًا معينًا لا نجهله اليوم، فزعموا أن المشكلات الميتافيزيقية النهائية — مثل المشكلات التي كان يعالجها أفلاطون — لا يمكن حلُّها، ومن الخير ألا نتعرض لها. إنما ينبغي أن يتركز الذكاء البشري — كما يرون — في مشكلات الطبيعة البشرية والعلاقات الإنسانية؛ ﻓ «الإنسان معيار كل شيء». وكان عالم الحواس عندهم حقيقيًّا كل الحق، ويمكن — في ظنهم — أن تكون رغبات الناس في هذه الدنيا مرشدًا كافيًا.
وقد آمن بعضهم — على الأقل كما يروي خصومهم — بأن مقياس الفرد هو ما يستطيع الحصول عليه، أو بعبارة أخرى القوة هي الحق، وأن العدالة هي ما يقرره الأقوى. والأداة الجديدة، أداة الفكر الناقد المنطقي، هي في اعتبارهم آلة مدهشة في أيدي الأشخاص الطموحين الأذكياء، وقد كرَّسوا أنفسهم لإرشاد هؤلاء الأشخاص. واستطاع تلاميذهم أن يبرِّروا بالحجة مسيرهم نحو النجاح على حساب العامة المتمسكة — بتقاليدها — بالأخلاق، والتي يضيق أفقُها لذلك. وقد صوَّر أرستوفان السفسطائيين، الذين كان يمقتهم، في مسرحية «السُّحُب» وهم يعلِّمون شابًّا كيف يتحاشى دفْعَ ما عليه من ديون. وربما كانت للسفسطائيين رسالة سيئة؛ كانوا قومًا دنيويين كفلاسفة — وكغيرهم من هؤلاء — على شيء من السذاجة في دنيويتهم، كانوا أساتذة، يحاولون جاهدين ألا يكونوا محترفين، ولكنهم لم يكونوا دائمًا ناجحين.
وبقي أرسطو حيًّا في كثيرٍ من مؤلَّفاته. وهو ليس بالكاتب صاحب الأسلوب المصقول. ويعتقد كثير من الباحثين أن ما وصل إلينا ليس ما كُتب، وإنما هو مذكرات تلاميذه عن محاضراته، وهو يُعَدُّ أحيانًا على نقيض أفلاطون تمامًا، وقد تلقَّى عليه العلم في شبابه. وبالرغم من أن أرسطو لاحظ الفرق بينه وبين أستاذه وقام بتحليله — وبخاصة في موضوع الشيوعية الأرستقراطية في «الجمهورية» وفي موضوع المرأة — إلا أنه ليس في الواقع بالفيلسوف ذي العقل الجامد إذا قُورن بأفلاطون الفيلسوف ذي العقل المرن، وربما كان الأجدر — في الحقيقة — أن نضم أرسطو إلى طائفة أولئك الذين يجمعون، أو يؤلفون، أو يتوسطون بين المتطرفين من الجانبين: هذا العالم من ناحية، والعالم الآخر من ناحية أخرى. كان يهتم بكل أمر، وكانت لديه في الواقع غريزة الجامع، التي نسميها البحث عندما نطبِّقها على الأمور العقلية. وتشمل مؤلَّفاته شمولًا موسوعيًّا كل مجال المعرفة في عهده، من الميتافيزيقا، إلى النُّظم السياسية المقارنة، حتى البيولوجيا. ولكنه كان مع ذلك الفيلسوف، الرجل الذي يحاول أن يُخضِع كل شيء لنظام معيَّن، وأن يجد في الكون أغراضًا خلقية يمكن أن تُوضَع في مصافِّ الأمور التي لها قيمة موضوعية.
والنقطة الرئيسية في مذهبه هي في الواقع تفسيرٌ لمذهب أفلاطون في «الأفكار» بعد تعديله بعض شيء وصبغه بصبغة دنيوية. ويَعُدُّ أرسطو هذه المشكلة الميتافيزيقية الرئيسية مشكلة الشكل والموضوع (أو الصورة والمادة)، وليست المادة بطبيعتها في الواقع بغير حياة، ولكنها بغير هدف، سوى نوع من الإصرار الصامت والجهاد. أما الصورة — وهي في الواقع العقل، أو الروح، وهو يؤدي عمله في هذه الدنيا، فيحول المادة إلى شيء فيه حياة وله هدف — شيء تستطيع الكائنات البشرية أن تدركه، ويمكن أن يكافح في سبيل ما يسميه أفلاطون الفكرة. الصورة خلاقة، فعالة، هادفة، أما المادة فتتنقل أو تتجمع فحسب. ويكاد المرء يحس أن أرسطو يود أن يقول إن الصورة «شيء طيب»، وإن المادة «شيء خبيث». وهو يقول فعلًا إن الذَّكر صورة، وإن الأنثى مادة.
ومن الواضح أن «صورته» تقترب من «أفكار» أفلاطون، وأن «مادته» تقترب من عالم الانطباعات الحسية الذي يبدو أن أفلاطون كثيرًا ما يوشك أن يَعُدَّه غير حقيقي. غير أن أرسطو لا يشن الحرب قطُّ على المادة، فهو يقبلها، وهو كالعالم المغرَم بالتصنيف، والذي يفتنه تنوُّع المادة. وفي الحق أنه عندما يتعرض لتعريفٍ أوضح للحياة الطيبة يدنو تدريجًا من مكانةٍ لا تبتعد كثيرًا عن أفلاطون، أو عن بوذا، أو أي متصوف طيب. ونلمس ذلك في مذهبه المشهور الذي يُعرف ﺑ «البصيرة» أو التأمُّل الذي لا ينقطع في الله وهو المحرك الذي لا يتحرك. أو السبب النهائي. و«بصيرة» أرسطو هي من غير شك حالة عقلية تنتمي إلى حد كبير إلى العالم الآخر — وهي أيضًا حالة بدنية؛ لأن الحكيم لا يزال له جسم حتى في هذا الوجد الصوفي. وتُشبِّه كتب الدراسة هذه الحالة عادةً ﺑ «النرفانا» عند بوذا. غير أن أرسطو يعتقد في جلاء أنه لا يستطيع الاقتراب من مرحلة «البصيرة» إلا قلة نادرة من عقلاء الرجال. والجانب الأكبر مما كتب أرسطو عن العلاقات الإنسانية يحث على طريق وسط إغريقي إلى درجة قصوى في كل أمر من الأمور، بما في ذلك الاختيار بين مطالب الجسد ومطالب الروح. وسوف نرى بعد قليل أن وصايا أرسطو الخلقية للرجل المتوسط من أبناء الطبقة العليا في اليونان يمكن تلخيصها أحسن تلخيص في الحكمة العامة التي تقول «بعدم الإفراط في أي شيء»، وهي من الخصائص المميزة للآراء المقبولة عامة — وربما أيضًا للسلوك — في ذلك الحين. وهي وصايا إغريقية بمعنى قولنا إلى حد كبير إن حِكَمَ بنيامين فرانكلين الخلقيةَ أمريكيةٌ.
وقد عاشت آراء أرسطو في السببية حياةً فلسفية طويلة — وهي تتفق تقريبًا مع آرائه عن الصورة والمادة — لأنها لا تزال حية في التوماسية الجديدة الكاثوليكية، ويجد أرسطو لكل أثر أربعة أسباب: مادي، وكفء، وصوري، ونهائي. السبب «المادي» هو المادة أو أجزاء التكوين — كاللحم والخضر والماء، والمدة اللازمة لسبك الطبخ. والسبب «الكفء» هو «الطباخ» أو «العامل»، والسبب «الصورة» هو «الطبيعة»، أو «الصفة»، أو «الصورة» بالمعنى الأفلاطوني الأرسطي المعروف؛ الذي يمكن أن يُقال فيه إن هناك «مثالًا» أو فكرة مثالية للطبخة. أما السبب «النهائي» فهو الغرض من الطبخ — أن يكون مغذِّيًا، مشبِعًا للحواس، منبِّهًا للشهية. وإنما هذه أمثلة محسوسة غير كريمة، ربما لا يوافق عليها أرسطو. وهي توحي بمشكلات كثيرة: فهل «الطباخ» مثلًا هو السبب «الكفء» الوحيد؟ أين البستاني الذي زرع الخضر؟ وكيف تستطيع أن تُوقِف سلسلة من الأسباب والمسببات؟ وهلم جرًّا.
ويضيف أرسطو إلى هذه الأسباب العادية الأربعة، ما يمكن أن يكون خامسًا — الله، السبب الأول، وهو غير مسبَّب، دفع السكون إلى مسيره المحير. وهذا هو الله الذي التقينا به من قبلُ عندما ذكرنا أنه موضوع التأمل في «البصيرة». وقد كانت لهذا الإله حياة طويلة باعتباره بداية ضرورية لسلسلة من الأسباب والمسببات التي لولاها لما كانت بداية، ولكنه لم يكن قطُّ إلهًا معبودًا بحرارة شديدة.
وأرسطو كذلك رجل يدعو إلى التوفيق، ويحاول أن يقارب بين الطرفين المتناقضين، في التفكير السياسي وفي كثير من غيره. ومما يميزه حقًّا أنه لم يكتب «جمهورية» عن دولة مثالية، وإنما قام بدراسات مقارنة دقيقة جدًّا عن العمل الواقعي للنظم الحكومية في مختلف المدن الحكومية الإغريقية، وهي دراسات من النوع الذي يألفه طلاب العلوم السياسية ونظم الحكم في أمريكا. ولم تصل إلينا هذه الدراسات، فيما خلا «دستور أثينا»، غير أن لدينا عنها آراء عامة مبنية عليها في كتابه «السياسة»، وهو لا يزال كتابًا يدرس بعناية فائقة.
وقد قدَّم إلينا أرسطو عبارة من أشهر العبارات في الكتابات السياسية، وتلك هي «أن الإنسان حيوان سياسي أو اجتماعي»، وكثير من السياسة ليس إلا توسُّعًا في هذه العبارة، أو جهدًا لعلمٍ اجتماعي في السياسة هو أيضًا مجموعة من القواعد الخلقية؛ فأرسطو، والرجل الأثيني المتعلم التقليدي — فيما نحسب — في التاريخ العظيم، يرى أن مثل هذه العبارة لهربرت سبنسر: «الفرد والدولة» لا معنَى لها؛ فالفرد عند أرسطو جزء لا يتجزأ من الجماعة التي نسميها الدولة، وليس بوسعه أن يحيا حياة طيبة إلا في داخل الدولة. غير أن أرسطو لم يؤمن بالحكومة الشاملة، أو بحُكم الاستبداد؛ فليس الفرد عنده مجرد واحد من رعية خاضعة لدولة تملك كل القوى؛ فالمواطن في الدولة الصحيحة له ما ألِفنا أن نسميه في النظريات السياسية حقوقًا. وليست الدولة وحدة، وإنما هي مجموعة أفراد؛ مجموعة فيها صراع خلقي، صراع يتضمن حقوق الأفراد.
ولم يكن أرسطو من دعاة المساواة؛ فهو يعتقد أن الرق طبيعي، وأن بعض الأفراد قد وُلدوا ليكونوا أرقاء. وقد سبق بفكره، إلى حدٍّ ما، ما أمسى فيما بعدُ النظريةَ العضوية في الدولة — بمعنى أن كل فرد يُولد لمكانةٍ ما، ولوضعٍ ما، وأن الدولة الطيبة هي تلك التي يكون لكل فرد فيها مكانته التي أرادتها له الطبيعة.
ويشغل أرسطو جانبًا كبيرًا من كتابه بتصنيف أنواع الحكومات القائمة ونقدها. وتحتوي «جمهورية» أفلاطون تصنيفًا للحكومات يتخذه أرسطو قاعدة له. والحقيقة التي تهمنا هي أن من هذا التصنيف اشتُقَّ كثير من مصطلحات النظريات السياسية، وكثير أيضًا من موضوعات الجدل السياسية، التي لا تزال قائمة حتى اليوم. يميز أرسطو بين ستة أنواع من الحكومات؛ ثلاثة منها مرغوب فيها، وثلاثة أخرى انتكاس لها. ولكل نوع من الأنواع الثلاثة الطيبة فضائله، ويمكن لكلِّ نوعٍ منها في الأحوال التي تلائمه أن يكون نوعًا طيبًا من الحكم، ويمكن لكل نوع منها أن ينحط إلى نوع سيئ جدًّا من الحكم.
والأنماط الستة هي: «الملكية»، وهي حكم رجل واحد متفوق، وانتكاسها «الاستبداد»، الذي يتحكم فيه الحاكم المفرد — الذي ليس في الواقع متفوقًا في فضائله — بسبب امتلاكه القوة. و«الأرستقراطية»، وهي حُكم الأقلية، ولكنها الأقلية الأحكم والأفضل، وانتكاسها «الأوليجاركية»، وهي أيضًا حُكم الأقلية، ولكنها ليست الأقلية الحكيمة، وإنما هي الأقلية صاحبة القوة، التي قد تعتمد قوَّتها على الثراء، أو السلاح، أو على قدرتها على تناول الآخرين. وهناك «البوليتيا» (أو الجمهورية الدستورية، وليست لهذه الكلمة ترجمة جيدة)، وهي دولة تقوم على حكم الشعب، والمساواة التقريبية، ولكنها دولةٌ كلُّ المواطنين فيها فضلاء. و«الديمقراطية» هي انتكاس البوليتيا، التي تحكم فيها الكثرة، وهم العامة، غير المدرَّبة، غير الفاضلة.
ويدرس أرسطو الطريقة التي ينقل فيها الشكل من هذه الأشكال إلى غيره، وهو بعبارة أخرى لا يقف عند حد الوصف الثابت لأشكال معينة من الحكم، وإنما يحاول ديناميكية الحكم. ثم إن أرسطو — كما لاحظنا عند الإشارة إلى اعترافه بإمكان وجود أشكال مختلفة من الحُكم — يهتم بإبراز العلاقات بين المُثُل والظروف الفعلية. ليس هناك شكل واحد كامل، وإنما هناك أشكال تطبَّق — تطبيقًا حسنًا أو سيئًا — على الحدود التي ترسمها الظروف. ومِن ثَمَّ فإن أرسطو هو — إلى حدٍّ ما — ما أسميناه فيما بعدُ بالنسبي، وكثير من هذا الجانب من تفكيره يلائم صاحب العقل الجامد، العالم، الرجل الذي يهمه أن يعرف الحدود الأرضية للجهد البشري في السياسة.
غير أن أرسطو ليس البتة جامدًا (دنيويًّا) بالمعنى الحديث؛ فما أبعده مثلًا عن أن يكون مكيافيليًّا، وما يسميه الديمقراطية يَعُدُّه انتكاسًا للبوليتيا الهادئة المتمسكة بالقانون، التي يتساوى فيها الناس ظاهرًا، دون مغالاة في المساواة. ولاحظ أن تمييزه بين الأشكال الطيبة والأشكال السيئة من الحكم هو أن للأولى «فضيلة» وفيها «خير»، وأن الثانية ليس لها إلا «القوة» و«الثراء» و«الأعداد»، وما إلى ذلك. ولم يكن أرسطو واقعيًّا بالتأكيد بالمعنى التقليدي الحديث للكلمة، ويكاد يحس إحساسًا قويًّا، كما أحس أفلاطون، أن مجرد النجاح فوق هذه الأرض لا يكفي، حتى في السياسة؛ فليس النجاح الدنيوي إلا بداية الإخفاق، ما لم يكن نجاحًا خلقيًّا، نجاحًا يتفق وخطة هذا الكون، أو الغرض منه.
وقد انصرف أرسطو — كما انصرف أفلاطون من قبل — عن العالم الجاف؛ عالم المدن الحكومية المتصارعة، عالم النضال الطبقي، عالم النجاح والإخفاق، إلى عالمٍ آخرَ أفضل، وأنقى، وأكثر استقرارًا. وهو ليس بالعالم غير الدنيوي الصارم كعالم الملك الفيلسوف عند أفلاطون، بل إن أرسطو في الواقع قد صُدم صدمةً قويةً من رأي أفلاطون في الاستغناء عن الأسرة، ومساواة المرأة بالرجل، إنما عالمه المثالي يبتعد قليلًا عن عالمنا — وعالمه — الواقعي. غير أن تلك الفجوة الصغيرة التي تفصل بيننا وبين عالمٍ أفضلَ تبدو للكثيرين شديدة العمق، ولم ينجح أرسطو قطُّ في تبيان الطريقة التي نعبُر بها هذه الفجوة.
ومن الواضح أن أرسطو لم يكن ماديًّا، بل إن فكرته عن الهدف (أو التليولوجي)، فكرته عن الحياة هنا فوق هذه الأرض من أنها جهاد نحو الأفضل، أو نضال الصورة في أن تتحكم في المادة — هذه الفكرة جذبت أجيالًا من المفكرين، واستخدمتها المسيحية دون تردُّد. كما أن مصطلحاته لم تُمحَ قطُّ من مجال الفلسفة. ويبدو لمؤسسي العلم الحديث في القرنين السادس عشر والسابع عشر، الذين تزعموا الثورة على سلطانه، أنه يستخدم منطقًا استنباطيًّا قاحلًا، لا يترك مجالًا للتجربة المثمرة والاستقراء. بيد أنه لم يفتقر إلى الإتباع، وقد يعيش طويلًا باعتباره وسيطًا عظيمًا بين الباحثين القلقين عن المثالي — أو الحقيقي.
الثقافة الكلاسيكية
ولقد أخرج الإغريق، وبخاصة إغريق أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، ثقافةً من هذه الثقافات، أو كلًّا من هذه الكليات التي تتكون من أجزاء عدة، وهي ثقافة ما فتئت تفتن المتعلمين من النساء والرجال، ولقد رأينا من قبلُ أن الإغريق في الفكر الفلسفي الشكلي وضعوا الأسس التي بنى عليها فلاسفة الغرب، ولم يتجاوزوها قطُّ. غير أن ثقافة الإغريق العظمى كانت تفوق كثيرًا الفلسفة الشكلية؛ فقد كانت — على الأقل للأقلية المثقفة — أسلوبًا من أساليب العيش.
وإنا لنحكم على هذه الثقافة العظيمة بآثارها — من عمارة، إلى نحت، إلى فنون صغرى، إلى أدب — التي بقيت أكثر من ألفي عام بالرغم مما نالها من إهمال ولَحِق بها من حروب، ومن أسباب البلى والاختلال من جميع الضروب. ومن الجائز أن أسباب البلى هذه قد عملت على أن تحفظ لنا الأفضل دون الأوسط. ومِن ثَمَّ فإن ما وصل إلينا من ثقافة الإغريق العظمى يَفضُل ما يمكن أن يكون مثالًا صادقًا لها. وربما لم يصل إلينا إلا أفضل الفن الإغريقي، ولم يصل إلينا أسوءُه أو المتوسط منه. وربما كان الأمر شبيهًا بما قد يحدث في عام ٤٠٠٠ بعد الميلاد عندما لا يجد الأثريون إلا تسجيلات عن بعض أعمال باخ وموزار وبراهمز، ولا يجدون أثرًا للموسيقى الخفيفة، أو الجاز، أو الأغاني الفردية الخفيفة. إنهم عندئذٍ لا يستطيعون الحكم على موسيقانا الغربية الحديثة. ومهما يكن من أمر فلا بد من التساؤل عما إذا كان من الممكن أن نحكم على مستويات المعيشة الأثينية بمستويات ما وصل إلينا من فنٍّ أثيني.
وسنحاول الإجابة عن هذا السؤال في الفصل القادم. وإنما ينبغي هنا أن نلاحظ أن تيارًا واضحًا جدًّا في التاريخ الثقافي في مجتمعنا الغربي يتبين في خلق أعمال فنية وفلسفية وعلمية كبرى على أيدي قلة صغيرة جدًّا من عباقرة الرجال والنساء الذين يعملون ويعيشون عادة وسط مجموعة مثقفة صغيرة نسبيًّا. وهناك — بالرغم من القطيعة الجزئية خلال العصور المظلمة — سلسلة متصلة الحلقات من هذا النوع من الثقافة من عهد اليونان حتى الوقت الحاضر. ويمكننا في صراحة أن نسمي هذه السلسلة: سلسلة الثقافة الرفيعة، وليست هي السلسلة الوحيدة التي تربطنا بالماضي، كما أنها ليست المادة الوحيدة لتاريخ الفكر، ولكنها لبُّ الموضوع الذي نحن بصدده.
ولكن الشكوك التي تتعلق بالصفة المميزة لما نعرف عن ثقافة الإغريق العظمى يمكن أن تُوجَّه توجيهًا أفضل من ربطها بمسألة العلاقة بين الثقافة الرفيعة والثقافة الوضيعة. يمكننا أن نضع السؤال بطريقة مباشرة فنقول: ألم «يمجِّد» في الواقع الإنسانيون والمربون والكلاسيكيون في أوروبا وأمريكا منذ عهد النهضة أثينا لعهد بركليز أكثر مما ينبغي؟ ألم يأخذوا قليلًا من المباني، وقليلًا من التماثيل، وقليلًا من القصائد، وقليلًا من الأبطال، ويُنشئوا من كل ذلك صورة طيبة عن الماضي؟ وربما بالغ المعجبون في عصرنا الحديث باليونان القديمة في فضائل معشوقهم، كما يفعل العشَّاق دائمًا. ولكنك لست ملزَمًا بالأخذ بما يرون؛ فإن التصوير الشمسي والصحافة تمكِّن كل امرئ من أن يعرف شيئًا بطريقٍ يكاد يكون مباشرًا عن هذه اليونان التي افتتن بها رجال الغرب أمدًا طويلًا، وليست الأحكام العامة التالية إلا قليلًا من معالم الطريق التي تسترشد بها لكي تفهم بنفسك الإغريق.
وأول ما نلاحظه هو أن الثقافة الإغريقية في تقاليدنا الكلاسيكية هي ثقافة دنيوية إلى حد كبير، وكأن هؤلاء الفنانين، وكتَّاب المسرحية، والصنَّاع، والرياضيين، لم يروا لأول وهلة حياةً أخرى تستحق أن يهتم بها المرء أو يأمل فيها. ليس هناك نعيم أو جحيم، وربما ليس هنالك البتة شيء بعد الموت، أو لعل هناك على الأكثر نوعًا من المظهر الذي يسبق الحياة في الجنة؛ نوعًا لا يشبه هذه الأرض في خيرها أو شرها، أو في متعتها وإثارتها. وسوف نرى أن مشكلات الحياة الأخرى كانت مشكلات واقعية حقًّا لكثيرين جدًّا من الإغريق، حتى في عصر بركليز، ولكنَّ قليلًا من هذه المشاعر التي أحستها عامة الناس ما وجد سبيله إلى الثقافة العظمى. نعم إن أنتيجون قد أصرت على أن تؤدي شعائر الجناز على جثمان أخيها، وهي تقول فعلًا: «إن ولائي للموتى أعمق من ولائي للأحياء؛ ففي عالمهم سوف تكون سكناي إلى الأبد.» ولكن النقطة الرئيسية في المسرحية بأسرها هي مأساة أنتيجون في هذه الدنيا، «وليست مأساة روح أخيها».
هذه الحياة إذن في الثقافة العظمى هي المقصودة. وفي هذه الحياة ينبغي أن نتطلع إلى إشباع حاجاتنا البشرية الطبيعية — وهي بطبيعة الحال رغبات طبيعية بشرية. ومن الكلمة اليونانية للطبيعة «فيزيا» نشتق كلمتنا «فيزائي» — وهي كلمة ملائمة. وقد كانت الملذات الفيزائية (البدنية) والشهوات الفيزائية عند الإغريق في عهد الثقافة العظمى طبيعية جدًّا، وهي لذلك محترمة بطبيعة الحال؛ فالطعام، والشراب، وممارسة الجد، والنوم، واللعب، والرقص، والاستماع إلى الموسيقى، وعزف الموسيقى، وكتابة الشعر، واللغط، والتفلسف — كل ذلك كان عند الإغريق مما يستحق الأداء، ومما يستحق الإتقان.
وهذه صفة هامة: أن يستحق الأداء الإتقان. وكان الإغريق يميزون في جميع نواحي نشاطهم الفرْق بين الطيب والخبيث، والأفضل والأسوأ. ولم يفترضوا أن هذه الحاجات البشرية الطبيعية يمكن إشباعها بسهولة وبطريقة آلية، وذلك بأن يُسمح لكل فرد أن يؤدي دائمًا ما يجده أيسر من غيره. لم يعتقدوا ما يشبه فتح الصنبور وإتاحة الفرصة لرغباتهم أن تتدفق، بل على العكس من ذلك كانوا يعتقدون في التربية، والتدريب، وفي الحد من رغباتهم. وحكمتهم الشعبية (وهي دائمًا مصدر مفيد لمؤرخ الفكر) تقول: «لا إسراف.» وهي بداية طيبة لكي نفهم المبدأ الإغريقي العظيم الذي يقول بالحد. ولكن الرأي الكلاسيكي يرد فيما كتب أرسطو، وبخاصة في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس».
يقول أرسطو إن أسلوب العيش الصحيح هو أن نحقق مبدأ الاعتدال بين الكثرة والقلة. فأنت تحب الطعام — ولا بأس من ذلك؛ فالطبيعة قد أرادت لك ذلك. ولكنك إن أفرطت في الطعام سَمِنت، وأصبحت مدعاة للضحك، ولم تَعُد فاضلًا، وهبْ أنك تفكِّر كثيرًا في ازدياد وزنك حتى إنك لتفقد متعة الطعام، أو أنك ألقيت بالًا للفيتامينات والحديد وغير ذلك من آراء فيما يختص بالتغذية (والإغريق بطبيعة الحال لم يعرفوا عن الفيتامينات شيئًا)، أو أنك تحوَّلت إلى نباتي عن قصد، فإن الإغريق في كل هذه الحالات يقولون إنك تُهلِك نفسك من الجوع، وتَحرِم نفسك بحماقتك من الطيبات، وإنك تسير بنفسك نحو الهزال الممقوت، وإنك في الواقع مذنب ترتكب رذيلة الإمساك (لاحظ جيدًا أن الإمساك قد أصبح في بعض النظم الأخلاقية الشكلية في المسيحية فضيلة لا رذيلة، وأن التخمة باتت إحدى الخطايا البسيطة في المسيحية). وفيما بين التخمة والإمساك تقع فضيلة الطعام الطيب عند الإغريق.
وتستطيع أن تضرب بنفسك الأمثال المحسوسة لهذه القاعدة الخلفية الإغريقية. ولذا فإن الامتناع عن الاتصال الجنسي، والعزوبة، أمرٌ غير طبيعي عند الإغريق، أمرٌ فيه مبالغة، ومن ثَمَّ فهو غير فاضل. كما أن الفوضى في الحياة الجنسية، وتسلُّط الشهوة والاهتمام المفرط بالاتصال الجنسي، هي كذلك أمرٌ سيئ؛ ولذا فهو غير فاضل. والوسط الذهبي هنا، وفي غير ذلك من الشهوات، يقتضي السيطرة على النفس، والاتزان، والاعتدال، وكمثال أخير لذلك نقول إن الشجاعة فضيلةٌ من غير شك، وهي فضيلة طيبة للرجولة. والجبن — وهو الافتقار إلى الشجاعة — رذيلة شديدة الوضوح. ولكن المبالغة في الشجاعة هي كذلك رذيلة، نسميها عادة: التهوُّر، أو الاندفاع، وهي ليست صفة الرجل الشجاع، إنما هي صفة الرجل المتظاهر بالشجاعة.
وهذا المثل الأخير يمدنا بسرِّ الإحساس الذي كان ينتاب الإغريق القدامى في تلك المشكلة الأبدية للبشرية — مشكلة العلاقة بين الفرد والمجتمع الذي هو جزء منه. إن المتظاهر يفكر دائمًا في نفسه وفي الطريق التي تسوقه إلى مكانه تحت الأضواء، وهذه المبالغة في الاهتمام بالنفس كان الإغريق يمجونها؛ بل إنهم كانوا يحطون من شأن الفرد الذي يسعى أن يشق طريقه بغضِّ النظر عن زملائه في المدينة الحكومية، حتى إن اللفظ الذي كانوا يعبِّرون به عن «الخاص» هو نفس اللفظ الذي نعبِّر به نحن اليوم عن «الأبله».
وما كان للأثيني في العهد العظيم أن يدرك ما يعنيه كثير من الأمريكان من قولهم: «الفردية المستوحشة». وقد كانوا بالتأكيد يمجون مثل هذه الفردية. وكانت الثقافة الإغريقية العظمى — من ناحية أخرى — تقوم بالفعل على المنافسة بين الأفراد؛ فكان الرياضيون منهم يتبارون في الألعاب الأولمبية، وفي كثير غير ذلك. وشعراؤهم كذلك كانوا يتبارون في التشرُّف بأداء مآسيهم رسميًّا، وكانوا يمنحون جوائز خاصة — للأول والثاني والثالث. وكان الفرد الذي يقوم بعملٍ يستحق الأداء في نظر الإغريق، والذي يتقن هذا العمل إلى درجةٍ قصوى، يُشار إليه بالبنان ويلقى التكريم باعتباره فردًّا. ويتضح مما نعرف عن الحياة الأثينية في العصر العظيم أن الشخصية، والصفات الذاتية، بل ربما كذلك درجة يسيرة من الشذوذ، كانت مما ينال التقدير ويظفر بالتشجيع.
وهكذا نرى في مجالٍ آخر تلك الصفة التي تميَّز بها الإغريق، وهي محاولة بلوغ الوسط بين الإفراط والتفريط؛ فهم لم يريدوا مجتمعًا من الأفراد المتشابهين ولا مجتمعًا من الأفراد المختلفين، لم يريدوا أن يسلك الأفراد في المجتمع سلوك النمل أو النحل، في نظام، وبغير تفكير، ككثير من الأفراد الآليين — وإن يكن خصوم إسبرطة ظنُّوا أن الإسبرطيين قد اقتربوا من هذا الضرب من السلوك. وهم كذلك لم يريدوا أن يسلك الأفراد في المجتمع سلوك القطط، كل لنفسه، وكل يتفاخر بطريقته الخاصة، وكل على استعداد دائمًا لأن ينقضَّ على فريسته — وإن يكن خصوم أثينا ظنوا أن الأثينيين قد اقتربوا من هذا الضرب من السلوك. وإنما أرادوا أن يكون الرجال مواطنين وأفرادًا في وقت واحد، وأن يخضعوا للقوانين العامة والعادات العامة، على ألا يعيشوا عيشةً رتيبة تتحكم فيها العادة، وأن يكونوا كفريق اللاعبين الطيب، على أن يلمع كلٌّ منهم كنجم من النجوم، ومما لا شك فيه أنهم لم يبلغوا في أدائهم في كل حالة من الحالات المثل الذي ضربوه لأنفسهم.
وإنما بلغوا هذا المثل في أحسن الحالات فيما وصل إلينا من فنونهم، أو لعلهم فعلوا ذلك في شكل واضح جدًّا لنا بعد ألفي عام من عهدهم. وقد حاول النقاد قرونًا عدة أن يصفوا بالألفاظ ما حققه الإغريق كفنانين، فتحدثوا عن القياس، وعن الاتزان، والتحفُّظ، والانسجام، وعن السكون، والكرامة. وهم يستعملون صفاتٍ مثل: الهادئ، والمكتفي بذاته، والنظامي، والمتعلم، ولكن أكثرهم — برغم ذلك — يصرُّون أيضًا أن ذلك ليس معناه أن يكون الفن شكليًّا، لا حياة فيه، ولا عاطفة، وإنما معناه أن يكون عميقًا، متحركًا، نشطًا. ونستطيع أن نقول في كلية موجزة إن النقاد يعتقدون أن قلةً من نوابغ الإغريق على الأقل قد حققوا شيئًا يكاد يبلغ حد الكمال في الفن — وذلك هو الوسط الذهبي، وهو ليس مجرد التوسط، وليس مجرد التوفيق بين الطرفين، وإنما شيء — كالحياة ذاتها — يتجاوز «الإفراط»، كما يتجاوز «التفريط».
وإذا أنت نظرت إلى أمثلةٍ محسوسة من هذا الفن — ويحسن أن يكون ذلك بالموازنة مع أشكال الفن الأخرى غير الإغريقية — استطعت أن تحكم بنفسك، وبقي الإغريقي — بطبيعة الحال — مرموقًا منذ الحين، وأصبح يُعرف في مجتمعنا بالكلاسيكي. وقد ألِف النقاد أن يوازنوا بين هذا الفن الإغريقي وفن شعوب الشمال الذي جاء بعد ذلك، والذي يسمونه الرومانتيكي، وسوف نعود إلى هذه الثنائية في الكلاسيكي الرومانتيكي عندما نبلغ العصر الحديث، ويكفينا هنا أن نلاحظ أن الأعمال الفنية المحسوسة تختلف اختلافًا بينًا، مهما تحاول الكتب المدرسية أن تجعل هذا الخلاف من الأمور المجردة التي لا تَمتُّ إلى الواقع بِصلة.
انظر أولًا إلى معبد أثيني، ولْيكن البارثينون في أثينا، كما هو اليوم في أطلاله، وكما صوَّره الأثريون (في النماذج)، ثم انظر إلى كاتدرائية غوطية، ويَحسُن أن تكون فرنسية، ككاتدرائية شارتر أو أميان. ثم انظر إلى مركز روكفلر أو مبنى الأمباير ستيت في نيويورك، أو إلى أي بناء أمريكي شامخ. ثم فكِّر في عبارات النقاد التي أوردناها. إنك سوف تجد لها مغزًى. المعبد الإغريقي منتهٍ، في حين أن الكاتدرائية الغوطية وناطحة السحاب الأمريكية تبدوان كأنه قد تحتم عليهما أن تواصلا الصعود. وكأن المعبد الإغريقي — بالرغم من أعمدته الرأسية — يؤكد الأفقي، في حين أن الأبنية الغوطية والأمريكية تؤكد الرأسي قطعًا. الأول يبدو كأنه راضٍ ومرتبط بالأرض، وتبدو الأخرى طموحة منطلقة إلى السماء. الأول كالصندوق، والأخرى كالشجرة — أو الغابة.
ولا يفتقر هذا الفارق — بطبيعة الحال — إلى تفسير معقول أو طبيعي؛ أي إلى تفسيرٍ يحاول أن يلتمس السبب في المفارقة في شيءٍ هو في النهاية خارج عن إرادة الإنسان (أو مُثُله، أو آرائه، أو أهدافه، أو آماله). ويعتقد بعضهم أن خطوط المعبد الإغريقي يحددها مناخ البحر المتوسط الصافي، وأن خطوط المعبد الغوطي يحددها جو الشمال كثير الضباب، وهناك نظرية تقول بأن البنائين الإغريق إنما نقلوا إلى الحجر خطوط المباني الخشبية البسيطة للإغريق القدامى. وهناك نظرية تقول بأن الكاتدرائية الغوطية تضرب في الهواء لأن المدينة في العصور الوسطى كانت محدودة المساحة مسوَّرة بحيث لم تسمح لها بمساحة أفقية. ومن هذه النظرية اشتُقت النظرية الأخرى التي تفسِّر ناطحة السحاب الأمريكية بالمساحة المحدودة في جزيرة مانهاتن. وهناك نظرية أخرى تقول بأن شكل العبادة (سواء أكان طقوسيًّا أم كنائسيًّا) في الديانة الأولمبية الإغريقية وفي المسيحية الغربية هو الذي حدَّد أشكال المباني التي تُقام فيها، وهناك نظريات كثيرة أخرى.
وأكثرها له معنًى، ويعاوننا على الإدراك في النهاية. غير أنه ليست هناك واحدة منها تفسر كلَّ شيء، وبعضها — إذا أخذناه تفسيرًا وحيدًا لا يتفق وجميع الحقائق التي نعرفها. من ذلك أن المساحة التي تشملها مدينة إغريقية مسورة (الأكروبوليس) كانت على الأقل في ضيق المساحة التي تشملها مدينة العصور الوسطى. ومع ذلك فلم يشمخ المعبد الإغريقي إلى العلى، ولو سلَّمنا بأن البنائين الإغريق والمهندسين المعماريين التزموا التقاليد وكانوا ضعافًا في الهندسة، فإنه مما لا جدال فيه أنهم لو تطلعوا إلى الضخامة أو الشموخ لما افتقروا إلى «المهارة الفنية»، وإن هم افتقروا إلى المصادر الاقتصادية، التي تمكِّنهم من تنفيذها في صورة مبسطة. وقد استطاع المصريون من قبلهم أن يحققوا الضخامة في الأهرام، بوسيلة سهلة، وهي وضع الحجر فوق الحجر.
ولا مناص لنا من الحكم بأن الإغريق «أرادوا» ما بنَوا، كما أن الأمريكان «أرادوا» ناطحات السحاب؛ لأننا شيدناها فوق البراري الفسيحة، كما شيدناها فوق جزيرة مانهاتن المحدودة. إن الإغريق في عهد الثقافة العظمى لم يريدوا الضخم أو الضارب إلى السماء. ومهما تكن النظريات الطبيعية أو العقلية نافعة في تفسير بداية فنٍّ من الفنون، فيجب ألا ننسى — إذا أردنا أن نفهم تطور الفن كله — أن الآراء التي يعتنقها الناس بشأن الجميل، والنافع، المرغوب فيه، تعاون الفن على أن يبقى حيًّا ناميًا. وعند مرحلة معينة تتجسَّد هذه الأفكار، بل ويصيبها تحوير طفيف. والإغريق في عهد بركليز بنَوا ما بنَوا — إلى حدٍّ ما — لأنهم فكَّروا وأحسوا بطرقٍ معينة، ولأنهم رغبوا في أشياء بعينها.
وإنا لَنحُسُّ هذه التجربة ذاتها في فن النحت الإغريقي؛ انظر إلى الآلهة والإلاهات عند مدخل البارثينون، ثم انظر إلى القديسين عند الجبهة الغربية لكاتدرائية شارتر. هنا أيضًا تجد الإغريق مطمئنين، ممتلئين، أقوياء البنية، غير جزعين، في حين أن المسيحيين في العصر الوسيط كانوا هزيلين إلى حدٍّ ما، طموحين، يفيضون بإحساس رقيق غير دنيوي، أو بالزهد، أو بالتقشُّف، ويمكن هنا أن يُعبَّر عما نقول بصورة أوضح، عملٌ إغريقي تم فيما بعد، وقد جاوز الثقافة العظمى التي نحاول الآن أن نتفهمها. انظر إلى تمثال لاوكون وأبنائه الذين تهاجمهم الأفاعي، هذا التمثال الذي كثيرًا ما ننسخ صورًا منه، إنه عملٌ من أعمال القرن الذي جاء بعد الثقافة العظمى، وهو يدعو إلى الإعجاب. إن هذا العمل يخلو من الوقار، وهو لا يَمتُّ إلى الوسط الذهبي بِصلة. إن لاوكون وأبناءه يعانون بشكل واضح، أو بعبارة أرسطو، بشكل غير كريم. وفي هذا تطرُّف — وربما كان يصدُق على الحياة، ولكنه لا يصدُق على مثل الثقافة العظمى.
سيروا أيها العابرون وقولوا لأهل لاكيديمونيا إننا نرقد هنا طاعة لما أمروا.
وقد نَظَم ﻫ. ل. سيفر هذا المعنى في شعر إنجليزي ترجمته كالآتي:
ثم تحوَّل بفكرك نحو معركةٍ أخرى، ونحو قصيدة أخرى تخلدها:
القصيدة الأولى كلاسيكية، مقيدة، تقتصد في التعبير، والثانية رومانتيكية، تُطنِب في العبارة الأخيرة بقصد الإثارة. ولكن اعلم أن الإغريق كانوا يفخرون بترموبولي كما يفخر أي أمريكي (يانكي) بالقتال في كنكورد. ولا يتَّصف نَظْم سيمونيدس خاصة بالتواضع؛ فهو يفخر بطريقته كما يفخر إمرسون، ولا ينبغي كذلك أن نقول إن سيمونيدس شاعر مُجِيد، وإن إمرسون شاعرٌ مُسِفٌّ، أو عكس ذلك. وإنما هما شاعران مختلفان في ثقافتين مختلفتين.
وأسوق إليكم مثالًا أخيرًا في رأي ناقدٍ بلسانٍ آخر: كان الكاتب الإنجليزي ماثيو أرنولد في القرن التاسع عشر يلمس نغمة إغريقية أو كلاسيكية ونغمة أخرى كلتية أو رومانتيكية في تقاليد الأدب الإنجليزي، أو حتى في الشاعر الواحد. ووضح رأيه بمثال من أعمال كيتس. يقول أرنولد إن كيتس وهو يقول:
إنما يكتب وفقًا للتقاليد الإغريقية المعتمدة. في حين أنه عندما يقول:
وأنت قد تعجبك أو لا تعجبك بطبيعة الحال صفات الثقافة الإغريقية الكلاسيكية كما تبدو في فنها. وقد استبدل النقاد الهدامون مصطلحاتٍ هدامة بتلك التي استخدمناها في هذا الكتاب طبقًا للتقاليد؛ قالوا إن الفن الإغريقي والآداب الإغريقية شكلية أكثر مما ينبغي، ضحلة، محدودة، عقلية أكثر مما ينبغي، ثابتة، لا حياة فيها، تفتقر إلى تحسُّس الغامض وتنوُّع الجوانب في الوجود البشري — فهي أرستقراطية بالمعنى السيئ المتعالي. والواقع أن عاشقًا عظيمًا من عشاق اليونان القديمة هو جلبرت موري قد أشار إلى أن ما وصل إلينا من الثقافة الإغريقية إنما بقي عن طريق النقل الذي قام به البيزنطيون المتأخرون، والمسيحيون، والإنسانيون في عهد النهضة، ورجال التربية — أو الطوائف ذات الاحترام البالغ، في إيجاز — ومعنى ذلك بالتأكيد أن ما وصل إلينا هو مختارات من أعمال الإغريق لا تمثلهم تمثيلًا صادقًا. وربما كان في أثينا في القرن الخامس من المتطرفين، المتطلعين إلى السماء، الناقمين على الجحيم، ومن الشخصيات الرومانتيكية الجامحة أكثر مما سجله العرف، غير أن الحقيقة المحسوسة لا تزال قائمة تتمثل في المعابد والتماثيل كما تتمثَّل في الشعر والنثر. ولم يظهر بعدُ من النقاد الهدامين مَن يقول بأن الأثينيين في القرن الخامس كانوا ينظرون إلى البارثينون وفن النحت فيه كأنه من أعمال أرستقراطية غربية. ولا يزال من الإنصاف أن نقول إن أذواق أولئك الذين رسموا لنا معايير الثقافة العظمى كانت كلاسيكية ولم تكن رومانتيكية.
وتستطيع أن تدرك ما يرمي إليه النقاد الرومانتيكيون المعادون إذا تمثَّلت في ذهنك تمثال أفروديت — إلهة الحب — الذي وُجِد في جزيرة ميلوس ببحر إيجة، الذي نعرفه جميعًا باسمه اللاتيني الإيطالي «فينوس دي ميلو». وربما كان هذا التمثال هو أكثر التماثيل ألفًا في العالم أجمع، ولا تزال نِسَبه — كما يقولون — هي المقياس في «هوليوود» و«مدينة الأطلنطية» كمُثُل رفيعة على الأقل. ومع ذلك فإن أفروديت قلَّ أن تحرِّك إنسانًا إلى أبعد من الإعجاب. ومن العسير أن نفكِّر فيها من حيث علاقتها بالحب؛ فهي باردة جدًّا، حتى باعتبارها إلهة.
وقد يكون تمثال فينوس دي ميلو — بمعنًى ما — نوعًا من التوسُّط الذهبي الأرسطاطيلي بين طرفي الطول البالغ والقِصَر البالغ، والبدانة المفرطة والنحافة الزائدة، بل إن مقاييسها الكلاسيكية قد تكون متوسطًا حسابيًّا لمقاييس الملايين من أخواتها الأوروبيات. ولكن أمثال هذه النِّسَب في الأجسام الحية نادرة. إن فينوس دي ميلو هي أحد الأشياء التي يحسبها أرستقراطية حتى أكثرنا ديمقراطية. وكل الثقافة التي تحدَّثنا عنها هي أرستقراطية بكل جلاء.
هي أرستقراطية بمعنًى واضح، وبمعنًى بغيض لأكثر الأمريكان المحدثين؛ لأنها تستند في مبرراتها إلى أنه لا يستطيع حقًّا متابعة مُثُلها الرفيعة، ولا يستطيع حقًّا أن يحيا حياة طيبة، إلا أولئك الذين لا يتحتم عليهم العمل لكسْب العيش. وهنا أيضًا نجد أن أرسطو، الذي كان أحسن مَن يمثِّل مجتمعه من بعض نواحيه، بالرغم من أنه جاء متأخرًا في العصر العظيم للثقافة الإغريقية، خير شاهد على ما نقول. يعتقد أرسطو أن العمل اليدوي الشاق بل والاشتغال العام بالعمل، يمنع أولئك الذين يتحتم عليهم العمل من العيش عيشة طيبة، فإن أمثال هؤلاء الناس لا يجدون الوقت الذي يمكِّنهم من اكتساب التجارب العقلية والخلقية الضرورية للرجل الكامل. هؤلاء لا بد لهم من المبالغة في شيءٍ ما، أو الإفراط في عملٍ ما، ومِن ثَمَّ فإن أجسامهم لا تنمو نموًّا متسقًا. انظر إلى عضلات الحداد البارزة، وإلى عضلات الكاتب في الديوان أو المحاسب الضامرة. ويبدو أن أرسطو لم يُذهل بتاتًا من هذه الحالة، بل هو العكس من ذلك، كان يدافع عن الرق، باعتباره أمرًا طبيعيًّا وهو لذلك أمرٌ طيب. بعض الناس يُولد لكي يقوم بالعمل الذي لا بد للرفيق أن يؤديه، ومن الملائم أن يقوم به. وكذلك أحسَّ أفلاطون إحساسًا قويًّا أن الحياة الطيبة — أحسن حياة — ميسَّرة للقلة وحدها، ولم يكن أرسطو على اتفاقٍ دائمًا مع أفلاطون. ويتحدث أفلاطون في تشبيهٍ شهير له في «الجمهورية» عن ثلاثة أنواع من الرجال: رجال من الذهب (الآلهة، وهم الرأس)، ورجال من الفضة (وهم المحاربون، أو القلب)، ورجال من البرونز أو الحديد (وهم العمال، أو المِعَدة). ومن الطبيعي أن يكون رجال الذهب قلَّة لها مكانتها، وتستحق أن تكون في القمة.
كانت ثقافة اليونان في ذروة أيامها أرستقراطية؛ لأن معاييرها من النوع الذي يجده أكثر الرجال — في وضوح وجلاء — مستحيل المحاكاة في المعيشة؛ فليس من السهل — حتى على أولئك الذين ليست بهم حاجة إلى العمل من أجل العيش — أن يحقق المرء الوسط الذهبي في كل أمر من الأمور، وأن يربِّي الذوق السليم في كثير من الميادين، وأن يحيا حياة متزنة مختلفة الألوان. ولكن هذه الثقافة كانت كذلك أرستقراطية لسببٍ آخر، وربما كان أعمق من ذلك. كان الإغريقي في عهد الثقافة العظمى على استعدادٍ لأن يقبل العالم بطريقةٍ مشابهة لتلك التي يقبله بها العالم. كان يعمل بالمادة التي يستمدها من خبرته، ويحاول أن ينظمها حتى تشبع حواسه، ولكنه لم يحاول أن يجاوزها، إلا بالمعنى الذي تجاوز به فينوس دي ميلو هذا العالم؛ عالم الخبرة الحسية. لم يكن عنده أملٌ في خلوده الشخصي، أو عقيدة في إلهٍ يهتم بمصيره معنويًّا، أو مشاعر تقابل تمام المقابلة ما نفهمه من معنى الإحساس بالذنب، بالرغم مما كان لديه من آراء واضحة عن الحق والباطل.
وإذا أردنا أن نعبِّر عن ذلك تعبيرًا بسيطًا قلنا إنه ينشد السعادة فيما لديه من عالم الخبرة المحسوسة. وهو لا يستطيع أن يستعيض إحساسًا بإحساس، أو أن يسمو بمشاعره، ولا يستطيع أن يظفر باحترامه لنفسه بطريقةٍ غير الطريقة المباشرة، وهو لا يستطيع أن يكتسب القوة والعزاء من أكثر الوسائل التي تربطها بالدين. نعم كانت لديه وطنية المدينة الحكومية، في العصر العظيم، تسمو به، ولكنا سوف نرى بعد حين أن هذا المعين لم يشفِ غلته. قلَّ من الناس من يستطيع أن يبذل الجهد الروحي (وقد يكون بطبيعة الحال جهدًا غير موفَّق) الذي يتطلبه المرء لكي يقبل هذا العالم الصارم في بساطةٍ كما قَبِلَه الإغريق في عصرهم الذهبي.