العصور الوسطى (ثانيًا)
هناك فكرة شائعة بأن العصور الوسطى — وأعني بها ألف العام كلها التي تقع بين نهاية الثقافة الإغريقية الرومانية والنهضة — لم تُضِف شيئًا إلى مجموعة المعرفة التراكمية التي نسميها العلوم. وهذا الرأي خاطئ؛ فنحن نعرف اليوم بأن الأسس الاجتماعية، والاقتصادية، بل والعقلية، للعلم الحديث في الغرب، قد وُضعت في العصور الوسطى. ومنذ القرن الثاني عشر مهَّد ظهور المدن والتجارة، ونمو طبقة مغامرة من أصحاب المشروعات التجارية الراغبين في تحسين الوسائل التقنية، كما مهَّد جمع رأس المال الذي يسمح بالإسهام في هذا التحسين، كل ذلك مهَّد للظروف الاجتماعية التي يمكن أن يرقى فيها العلم. ومن الناحية العقلية كانت العادات الفكرية تستند إلى دراسة المنطق، والرياضيات، والآداب، وهذه العادات بعدما اتجهت نحو المدركات الحسية المألوفة، تحولت تدريجًا إلى العلم الحديث.
وفي الحق أن الرأي الذي يقول بأن العصور الوسطى لم تكن عصورًا علمية، بل إنها كانت عصورًا ضد العلم، له أساس من الواقع. وقلَّ من هذه الآراء واسعة الانتشار، أو المكررة، ما كان «كله» خطأ. وكثير من كبار المفكرين في العصور الوسطى كتبوا قدْرًا كبيرًا بأسلوب يناقض تمامًا ما نَعُدُّه أسلوب العلم. وكان روح العصر — بمعنًى ما — لا يؤدي إلى التفكير العلمي الرسمي. ولكنا هنا — كما ينبغي لنا في أكثر المشكلات المعقدة من هذا القبيل — يجب أن نحتاط من ناحيتين؛ فإن مجال الرأي الواقعي كله، ومداه في موضوع معين، يجب التثبت فيه بقدْر الإمكان، ويجب أن نحاول معرفةَ ما يعمل ومعرفة ما يُقال ويُكتب على السواء. ومثل هذه الدراسة تبيِّن لنا أن عملًا نافعًا كثيرًا على المستوى التأملي أو الفلسفي قد تم في العلوم في أواخر العصور الوسطى، بل وإن أكثر من ذلك قد تم على المستوى العلمي للتكنولوجيا والاختراع.
إن التطرف في الاتجاه نحو العالم الآخر لا يتفق البتة والعلوم، بل ولا يتفق والمعرفة، وتستطيع تأييدًا للرأي القائل بأن العلم كان ميتًا موتًا كاملًا في العصور الوسطى أن تسوق عدة نصوص، كالنص الشائع المنقول عن سنت أمبروز، وهو: «إن البحث في طبيعة الأرض ومركزها لا يعيننا في أملنا في الحياة الأخرى.» وتستطيع أن تجد حشدًا من المعادين للعقل، والمتصوفين، والرجعيين من كل الصنوف في هذه السنوات. ولكنك تستطيع أيضًا أن تجد عددًا من هؤلاء في أية فترة من فترات التاريخ الغربي، حتى عصرنا هذا. والواقع أن العلوم الطبيعية لم تبلغ القمة في قيمتها العقلية إلا خلال الأجيال القليلة الماضية. والمسألة دائمًا هي مسألة توازن بين النظريات المتعارضة. وكانت القيمة الكبرى في أواخر العصور الوسطى تعطي لنوع المعرفة الذي نسميه «المدرسية». وليست المدرسية ضد العقل بأية حال من الأحوال. إنما هي في الواقع مصدر من مصادر العلم الحديث.
ومن المؤكد حقًّا أن «المدرسية» في العصور الوسيطة كانت في جملتها تختلف اختلافًا تامًّا عن العلم الحديث؛ فالمدرسية تركز اهتمامها في الاستنباط من المبادئ التي تأخذها بالنقل. أما العلم فيركز اهتمامه في التجربة لاختبارِ ما يُعَدُّ حجة في نوعها (أي النظريات السابقة في موضوع معين). ولكن أرجو ألا تنحازوا في الرأي كما انحاز أتباع بيكون الذين أنكروا المدرسيين. وليس العلم كله «استقراء»، وليس البتة جمع واقعة إلى واقعة حتى تفرخ الوقائع بالمعجزة تفسيرها. العلم استنباطي إلى حدٍّ ما، وهو بهذه الصفة يَدين بالكثير لتنقيب المدرسين. وهنالك في الواقع تلك الفئة التي ترى المدرسية الوسيطة بداية النهاية للعقيدة الصوفية الصادقة، أو بداية لذلك الجهد الحديث المضني — في ظنهم — ﻟ «فهم» الكون الذي سار شوطًا بعيدًا ربما يمكن الإنسان «اليوم» من أن يهدم على الأقل كونه الخاص.
كان التقديس العقلي في العصور الوسطى للكلمة المنقولة عقبة في سبيل نمو العلم أشد من طرق التفكير الاستنباطية لدى الرجل من أبناء تلك العصور. وربما كانت «عادة» الاعتقاد بأن الكلمة المكتوبة الثابتة حجة حتى في وجه الإدراك العام، ثابتة في أصلها عن قبول المسيحيين للإنجيل باعتباره كلمة الله، غير أن التسليم بالإنجيل أساسًا كان في العصور الوسطى عقبة في طريق التجربة العلمية أخف من كتب أرسطو والأدب الكلاسيكي القديم الذي وصل إليها. وقد مالت العصور الوسطى إلى الأخذ بكلمة أرسطو، وكلمة بلايني — وهو مؤرخ طبيعي روماني شديد التصديق — وكلمة جالن — وهو طبيب مجيد ولكنه ربما كان نظريًّا أكثر مما ينبغي — وذلك خاصة في كلِّ ما يتعلق بما نسميه اليوم علم البيولوجيا (علم الأحياء).
وكانت العصور الوسطى — فوق ذلك — زمنًا ذاع فيه التصديق الشديد بين الناس إلى درجة الاعتقاد في الخرافة كما يبدو لنا. ومهما يكن من شيء فقد كان القرن الثالث عشر قريبًا جدًّا من العصور المظلمة. وكان على المفكرين في العصور الوسطى أن يكافحوا لانتشال الحقيقة من أعماق الجهل. ومع ذلك فإن التصديق والخرافة — بل والقبول المطلق لحجة منقولة معينة في شئون قد تكون هذه الحجة فيها على خطأ أو غير ذات صلة بالموضوع — لم تختفِ البتة من المجتمع الغربي الحديث. وقد تجد في أية مكتبة شعبية في أمريكا كتبًا في التنجيم، ثم لماذا تكون ممثِّلة السينما حجة في تأثير تدخين السجاير على الحلق؟ وكذلك تظهر ثعابين البحر في الصحف بانتظام شديد.
ومن الحق أن البيولوجيين المحترفين يرجِّحون عدم وجود ثعابين البحر أو السمكة الخرافية ذات القرن. ومن الحق أن كثيرًا من المتعلمين في العصور الوسطى اعتقدوا فيما يبدو أن أمثال هذه المخلوقات — بل وأغرب منها — موجودة. أي إن بعض أنواع العقائد التي نجدها اليوم مناقضة لتجاربنا كان يؤمن بها في العصور الوسطى أفرادٌ من مرتبة اجتماعية وعقلية عالية جدًّا. وقد نشأ هؤلاء العقليون في العصور الوسطى في ثقافة حية مسيحية تؤمن بوجود الله، وهذه الثقافة وضعت حدًّا بين الطبيعي وما فوق الطبيعي في مستوًى أدنى بكثير — بمقياس التجربة العادية — مما يمكن أن يكون عليها مستوانا، اللهم إلا إذا نال أحدنا تربية استثنائية حقًّا. ولم يكن ظهور «العلامات» (على الأيدي والأعقاب في المواضع التي سُمِّر فيها المسيح فوق الصليب) في قديس مثل فرانسيس الأسيسي مما يحتاج إلى دليل لإثبات الحقيقة أو إلى نظرية لإثبات إمكان حدوثها؛ فإن الكاثوليكيين المخلصين اليوم يسعدون جدًّا لو عثروا على تفسير طبي لهذه الظاهرة، ولقد حاول بعضهم فعلًا إيجاد مثل هذا التفسير.
هذا القبول التام للمعجزة لم يكن ليؤدي إلى الدراسة الوئيدة الصابرة للحوادث الطبيعية التي لا تقع فيها مفاجآت معجزة. غير أن العقبة الأكبر في طريق العلم التجريبي في العصور الوسطى كانت تتمثل في مجموعة المحرمات التي كانت تحول دون دراسة تشريح الإنسان — ومع ذلك فإن هذه المحرمات كانت تفوق هذه الدراسة ولا تحول دونها في أخريات القرون الوسطى. هذه المحرمات — وهي اجتماعية بمقدارِ ما هي دينية — حالت دون تشريح الجسم البشري؛ فإن العقيدة المسيحية التي تؤمن إيمانًا ثابتًا بمبدأ بعث الإنسان بجسده لم تكن لتسمح بتقليع الجسم الذي لا بد أن يظهر أمام خالقه في يوم من الأيام. ومع ذلك فإن جانبًا كبيرًا مما قد نسميه ونحن عابسون التجربة في جثث الموتى التي كانت تُجرى في مدارس الطب الشهيرة في العصور الوسطى، كمدرسة ساليرنو في إيطاليا ومنتبلير في فرنسا — بالإضافة إلى ما أنجزه القدامى والعرب في هذا الميدان — وضع الأساس العريض الذي أُقيم عليه فيما بعدُ العلم التجريبي.
يجب إذن أن نسلِّم بأن العلم التجريبي في العصور الوسطى في جميع الميادين — وبخاصة علوم الحياة — واجه عقبات كثيرة: السيادة الشاملة نسبيًّا للإيمان بعالم آخر إيمانًا يزدري الاهتمام العلمي بشئون هذه الدنيا، وعادة التفكير الاستنباطي الذي لا يميل إلى الاعتراف بضرورة اختبار سلسلة التفكير — بين الحين والحين — بالرجوع إلى ما يسميه العالم «الوقائع»، وتقديس الكلمة القديمة المنقولة بغير نقد وتصديق شديد، أو — بتعبير سلبي — اختفاء ذلك الضرب من التشكك الذي يراه العالم ضروريًّا، وقبول المعجزة قبولًا شديدًا يضعِف من دراسة الواقع المألوف، وهي دراسة تُعَد من أساسيات العلوم، وأخيرًا قبول الواقع المألوف باعتباره عملًا إلهيًّا معجزًا، ومِن ثَمَّ فهو غير مفهوم في حقيقته بالتعبير العلمي. وبرغم هذه العقبات كلها فقد كان ما أنجزته العصور الوسطى التي استغرقت ألف عام من الناحية العلمية عملًا عظيمًا جدًّا.
إن أبرز إنجازات العصور الوسطى في العلوم الرسمية كان في هذا الميدان، ميدان الرياضة الاستنباطي، الذي كانت بعض العقبات التي ذكرناها بالنسبة إليه أقل في أهميتها بكثير منها في الميادين التجريبية. وبالرغم من ذلك فقد حدث تقدُّم محدَّد في كثير من العلوم الرسمية الأخرى قبل نهاية القرن الخامس العشر بوقت طويل، وهو القرن الذي يعيِّن عادة بداية العصور الحديثة. ويكاد كلٌّ منا يعرف اسم روجر بيكون، وهو راهب بريطاني عاش في القرن الثالث عشر، يسبق عمله في الإطراء على الاستقراء والتجربة عملَ سميه المشهور فرانسيس بيكون الذي جاء بعده بأكثر من ثلاثة قرون. ولم يكن روجر بيكون العالم الوحيد في العصور الوسطى، ولم يلاقِ اضطهادًا بسبب آرائه. وفي حياته الطويلة التي امتدت ثمانين عامًا أسهم في الحياة العقلية في عصره، وهي الحياة التي كانت تعني آنئذٍ، كما تعني اليوم، الانحياز إلى أحد الجانبين في المشكلات الكبرى. ومن الواضح أن بيكون كان اسميًّا أو تجريبيًّا بشكلٍ ما، يعارض الواقعيين أو المثاليين، ولكنه لم يكن زنديقًا، ولم يكن ماديًّا متخفيًا، وكثير من الآمال التي عقدها على طريقة التجربة كان يتجه نحو زيادة توضيح حقائق الديانة المسيحية، ومع ذلك فظاهره ولا شك حديث، أو ربما كان بريطانيًّا فحسب، يقول: «هناك ثلاث طرق يظن الناس أنهم يستطيعون بها أن يحصلوا على معرفة الأشياء، وهي: النقل، والتعليل، والتجربة. والطريقة الأخيرة وحدها من بين الطرق الثلاث هي الفعالة التي تستطيع أن تجلب للعقل الطمأنينة.»
وكان يُظن في وقتٍ ما أن روجر بيكون كان شخصية فذة في تفكير العصور الوسطى. غير أن البحوث التي قام بها رجال من أمثال ك.ﻫ. هاسكنز، ولين ثورندايك، وجورج سارتون، ألقت مرة أخرى الضوء على عمل أجيال من العلماء الصابرين في العصور الوسطى، من الباحثين المنكبِّين على ترجمة البحوث العربية في الرياضيات أو الفلك إلى الكيماويين الذين، وإن كانوا في الحق يرمون إلى هدفٍ لا يتفق والأغراض الصحيحة للعلم الحديث، إلا أنهم كانوا برغم ذلك ينشئون في داخل مجموعتهم الفريدة البدايات الحقيقية لتعرُّف الكيميا. والكيميا القديمة كانت بحثًا غير منظم، إن لم يكن مظلمًا، ولكنه أمسى علمًا من العلوم. ومن هوامش العلوم أيضًا في العصور الوسطى الصيد بالباز، وهي معرفة أُقيمت لتحسين طرق هذا الضرب الأرستقراطي من الصيد، ولكنها أدت إلى جانب كبير من البحث الدقيق المنهجي في أحد الميادين التي خاضها علماء الطيور فيما بعد.
وتؤدي بنا معرفة الصيد بالباز إلى مواجهة إحدى الحقائق الكبرى عن نمو العلم الحديث، وهي حقيقة كثيرًا ما غفلنا عنها في هذه الأيام؛ فقد ألِفنا — وبخاصة منذ الحرب الأخيرة — الظن بأن العلم البحت هو منبع، أو أصل، التغير التكنولوجي الحقيقي. إننا نتفق على أن الخبرة الصناعية الأمريكية كانت ضرورية لإنتاج القنبلة الذرية، ولكنا مع ذلك نرفع من شأن علماء الطبيعة النظريين في إنتاج القنبلة. والموقف — من الوجهة التاريخية — معكوس في العصور الوسطى وفي أوائل العصور الحديثة؛ فقد كان العلماء النظريون هم التابعين، الذين يسيرون في إثر العمال العمليين، وأصحاب الحرف، وأصحاب المهن، ورجال الصناعة الناشئين، وأصحاب الضِّياع الذين يبذلون الجهد في سبيل تحسين تربية الماشية. لا ينبغي لنا بطبيعة الحال أن ننظر إلى العلاقة بين العلم البحت والحاجات العملية كأنها تلك العلاقة المحيرة بين البيضة والكتكوت. فإن أحدهما يبعث على الآخر في كل حين. والمهم هو أن التكنولوجيا (أو الجانب العملي) في العصور القديمة كانت تبعث في كل خطوة تقريبًا على العلم البحت. أما اليوم فالعلم البحت يمكن أن يغذي نفسه وأن يتقدم بنفسه دون أن يكون لا تراكميًّا، وبغير الرجوع دائمًا — مع ذلك — إلى التكنولوجيين.
ولو أردنا سرد الاختراعات والتحسينات التي تمَّت في العصور الوسطى لكانت القائمة طويلة جدًّا، ويمثل هذه المخترعات أحسن تمثيل اختراعٌ قديم من إنتاج العصور المظلمة، وأقصد به رباطًا للرقبة خاصًّا بالحصان. وهي حيلة بسيطة، ولكنها لم تكن معروفة للإغريق والرومان؛ فباستعمال هذا الرباط الطري الذي ينزلق على رأس الحصان، كان من الممكن استخدام قوة الجذب التي لدى الحصان بأسرها دون إجهاد قصبته الهوائية. وكذلك استعمال الأنجلو ساكسون في بريطانيا محراثًا أفضل من المحراث الذي كان يستخدمه أسلافهم من البريطانيين الرومانيين، فأمكنهم بذلك لأول مرة أن يحرثوا الأرض الخصبة الغنية في الوديان. وإلى الرهبان الذين اشتغلوا بقطْع الغابات وتجفيف المستنقعات يرجع الفضل في كثير من أسباب التقدُّم الفني. كما مهَّد صناع المعادن الطريق للدراسة الرسمية لعلوم التعدين والفلزات. وكذلك تحسنت على أيدي الأوروبيين صناعة الورق التي أخذوها عن الشرق بفضل العرب. ولما حل القرن الخامس عشر كان من الممكن صناعة الورق الصحيح من الخرق والكتان بثَمَن بخس. فلما اختُرعت الطباعة في القرن الأخير من القرون الوسطى (أو لمَّا أخذت أوروبا الطباعة من الصينيين) سرعان ما أمست الكتب المطبوعة رخيصة، أو أرخص على الأقل وأكثر عددًا مما كانت المخطوطات اليدوية في أي وقت سبق.
وليس من شك في أن الكتب المطبوعة لا غنَى عنها للعلم الحديث. ولكن العلاقة بين هؤلاء الصناع في العصور الوسطى والعلم الحديث ربما كانت أوضح في صناعة الساعات. إن قياس الزمن قياسًا دقيقًا ضروري لأي عالم من علماء الطبيعة. ولا جدال في أن الإسكندريين كانوا يستخدمون لأغراضهم مقاييس للزمن تفي بالمطلوب. وقد عادت العصور المظلمة كلية إلى المزولة والساعة المائية، ولما حلَّ القرن الثالث عشر أضحت صناعة الساعات حرفة معروفة، وقد نهضت بإنتاجها حتى أمست الساعات، والدقائق، والثواني في القرن الرابع عشر ممكنة القياس. وازيَّنت أخيرًا بعض الكنائس وقاعات المدن بالساعات المعقدة؛ ساعات تترنح فيها بعض الأشكال الصغيرة وتدق الساعات التي تدل على الزمن، وساعات تبيِّن أوقات السنة، وغيرها. وكان العمال الذين يصنعون هذه الآلات المعقدة هم الأسلاف الحقيقيين للعمال الدقيقين في العصر الحديث.
وربما كانت البوصلة من بين الصناعات الدقيقة في ذلك الوقت أوسعها انتشارًا. وليس من شك في أنها كانت تُستخدم قبل قيام كولمبس برحلته البحرية بنحو قرن، وهي رحلة ربما لم يكن بوسعه أن ينجزها لولا هذه الآلة الدقيقة. ولكني لست أرى جدوى من سياق المثال في أثر المثال؛ فالنقطة الهامة لمؤرخ الفكر هي أنا نجد في العصور الوسطى منذ القرن الثالث عشر — أي منذ الازدهار الكامل للمدرسية التي يُقال لنا عنها أحيانًا أنها طرَفُ النقيض للاتجاه الحديث — روح العمل المادي، والرغبة في تجربة الطرائق الجديدة، والشغف بالسيطرة على الطبيعة. أي إننا نجد — في عبارة موجزة — الأرض التي منها نبت العلم الحديث.
ثقافة العصور الوسطى
لقد أكدتُ من قبلُ — وربما كنت مبالغًا في تأكيدي — أن العصور الوسطى لم تكن مجرد فجوة بين قمتين من الثقافة الإغريقية الرومانية من ناحية وثقافتنا من ناحية أخرى. إنما كانت العصور الوسطى فترة من فترات الازدهار في ثقافتنا الغربية لها قيمتها الذاتية، مرتبطة بما سبقها وما لحِقها، ولكنها مع ذلك كلٌّ يستطيع مؤرخ الحضارة أن يحاول فهمه ووصفه. ولم تكن هذه الفترة أكثر استقرارًا من أية فترة أخرى، ولم تكن البتة بسيطة، ومن سوء الحظ أن المرء لا يجد مفرًّا من أن يصدر بشأنها أحكامًا عامة انطباعية وهي كلُّ ما يستطيع العقل البشري أن يلم به في مثل هذه الأمور.
واللفظة التي ينتهي إليها المرء دائمًا إن عاجلًا أو آجلًا عند البحث في العصور الوسطى هي «الوحدة». في تلك السنوات كانت ثقافتنا الغربية في الواقع واحدة، عندما كان هناك مجتمع مسيحي واحد، يرتبط فيه الروحاني بالدنيوي بصورة لا تتجزأ، حيث لا توجد مذاهب دينية معارضة، أو قوميات متنافسة. ويتضح من الفصل السابق أن هذا الوصف للثقافة الوسيطة ينطبق على وجه العموم على الحضارة المتنوعة نظريًّا أكثر مما ينطبق عليها من الناحية العملية. والتصريح بوحدة المسيحية هذه من الناحية النظرية من الحقائق التي تهمنا عند محاولة فهم العصور الوسطى؛ فنحن نعرف على الأقل ما كان يريده رجال الفكر. ومن المحتمل أن تحدَّ وحدة المسيحية الغربية المزعومة — إلى درجةٍ ما — من الانقسامات والمنازعات التي امتلأت بها الحياة في العصور الوسطى عندما بلغت أوجها في القرن الثالث عشر.
ومن المؤكد أنه كان هناك تنوُّع خصب داخل هذه الحدود. ويحب العاشق الصادق للعصور الوسطى أن يعتقد أن الناس لاتفاقهم في الأساسيات — أساسيات النظرة المسيحية إلى الكون — يستطيعون أن يهضموا تلك الفروق المحلية الخلابة التي تجعل العصور الوسطى جذابة للمحدثين الذين يملون النُّظم الموحدة في حضارة آلية على نطاق واسع. وفي هذا لا يسعنا إلا أن نقول إننا لسنا على دراية كافية بعلم الاجتماع كي نحكم إذا كان المبدأ الأساسي الذي تتضمنه هذه العبارة صادقًا أو غير صادق — وأعني بالعبارة أن الاتفاق المزعوم على المبادئ الدينية يسمح للأفراد بحرية التنوع الفردي في مجال فسيح. إننا في الواقع لا نستطيع أن نكون على ثقة من أن المقارنة بين التوحيد الحديث والتنوع الوسيط مقارنة صحيحة تعبِّر عن حقائق واقعة دقيقة.
ومن الحق أن الناس في فرنسا الوسيطة — على سبيل المثال — الذين كانوا يقطنون أودية متجاورة ربما كانت لهم لهجات تبلغ من الخلاف فيما بينها حدًّا يستحيل معه التفاهم المتبادل، وأن الناس جميعًا في فرنسا الحديثة في نفس هذه الأودية يتكلمون الفرنسية الصحيحة مع فروق يسيرة على أكثر تقدير في النبرات. وربما كان لكل وادٍ في فرنسا الوسيطة نظامه الخاص في الأوزان والمقاييس، في حين أن هذه الأودية تستخدم اليوم مقياسًا واحدًا مقننًا يعتبر مثالًا طيبًا للتقنين، وأعني به النظام العشري، ومع ذلك فإن التنوع يوجد اليوم كذلك، بالرغم من إنذار المثقفين لنا الذين يعلنون أننا جميعًا سوف ندفع بالوسائل الشمولية الحديثة بحيث نصبح أنماطًا موحدة، وأننا قد أمسينا بالفعل أناسًا آليين أو نماذج على صورة واحدة. وربما كان مدى التنوع في الشخصية والمزاج أوسع — في الواقع — في المجتمع الحديث منه في العصور الوسطى؛ فالكائنات البشرية تصر على التنوُّع ما دامت فرصة الاختيار تُتاح لهم. والواقع أن الثقافة الحديثة — إن كانت قد ضيقت فرصة الاختيار في اللهجات والمقاييس، وفي أمور مادية كثيرة أخرى — إلا أنها ضاعفت الفرصة بذلك التنوع الفذ في الأشياء والخدمات التي تيسر لنا، وكذلك التنوع في «الأهداف» (وإن كان فلاسفتنا لا يتفقون جميعًا في هذا الرأي) وفي أشكال الحياة الطيبة.
ومهما يكن من أمر فإنا نستطيع أن نقنع أنفسنا بالحكم الظاهر بأن النوع صفة من الصفات البارزة في ثقافة العصور الوسطى. وإذا كانت اللاتينية قد بقيت لغة العلم، فقد نمت منذ القرن الثاني عشر آداب في عدد من اللغات الشائعة، أو اللغات المحلية، التي أصبحت فيما بعدُ لغات أوروبا الحديثة. وإذا كانت الكنائس الكبرى قد بُنيت على طراز أسميناه منذ ذلك الحين بالطراز «الغوطي»؛ فقد اختلف هذا الطراز اختلافًا كبيرًا من إقليم إلى إقليم بحيث لا يخطئ المرء التمييز بين الغوطي في جزيرة فرنسا والغوطي في الأراضي المنخفضة أو في إنجلترا، وحتى الفروسية، المَثَل الأعلى لأسلوب الحياة في الطبقات العليا في العصور الوسطى في الغرب لم تكن هي بعينها تمامًا في كل أنحاء أوروبا، بالرغم من تطلعها إلى الوحدة وارتفاعها بالتأكيد فوق المستوى الإقليمي. والواقع أن الإقطاع والفروسية لم يكونا عامَّين موحدين في الطبقات العليا في الغرب بدرجةٍ أكبر مما كانت عليه المُثُل وأسلوب الحياة بين «النبلاء» في أوائل العصر الحديث، وهي المُثُل والأساليب التي كانت أساسًا — كالفروسية — فرنسية في وحيها.
ولم تكن الأوجه الجغرافية المختلفة في ثقافة العصور الوسطى هي بعينها الانقسام الحديث إلى قوميات. إن هذه القوميات، وبخاصة فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، وألمانيا وإيطاليا (من الناحية الثقافية على الأقل، إن لم يكن من الناحية السياسية) قد برزت بروزًا واضحًا من العصور الوسطى. بل إن هناك نوعًا من «القومية» — يستحق الدرس — في كثير من الأوجه في حياة العصور الوسطى، كتلك القومية التي تظهر في عالم الجامعات، أو معاهد الدراسة التي تبدو على الجملة في ظاهرها عالمية تمامًا. كان بعض الجامعات — وبخاصة الجامعة الشهيرة في باريس — تنظَّم في شكل مجموعات طبقًا لجنسية الطلاب. وما إن حل عام ١٣٠٠م حتى كان لأكثر اللغات الحديثة الهامة بدايات على الأقل في آدابها تتجاوز المستوى الشعبي البحت. وكان أكثر الكتابات الجدية — الفلسفة (وتشمل «الفلسفة الطبيعية»، وهو الاسم الذي كان يُطلق على العلوم)، وعلوم الدين، والنظريات السياسية، والعمل العلمي عامة — باللاتينية، حتى أواخر القرن السابع عشر. وحتى في هذه المجالات كانت الحاجة إلى مخاطبة الناس — كما هي الحال في حركات الإصلاح في القرنين الرابع عشر والخامس عشر — تدعو إلى قدْر كبير من الكتابة الجادة باللغة القومية.
والواقع أن الطباعة قد جاءت بعدما انتهى احتكار رجال الدين للكلمة المكتوبة، ولصناعة المخطوطات التي كانت تعادل ما نسميه اليوم بالنشر، بنحو قرنين أو ثلاثة قرون. وقد كتب اثنان من أكبر الشخصيات في أدبنا الغربي، وهما دانتي وشوسر، بالإيطالية والإنجليزية قبل ظهور الكتاب المطبوع بزمن طويل. وقد نُشرت مؤلفاتهما بنفس الطريقة التي نُشرت بها مؤلفات فرجيل وهوراس من قبل. ولم يتعفَّف النساخون عن عمل مجموعات من «فابليو»، وهو ذلك النَّظم الفرنسي الشائع الذي يستحق أن يُسمَّى بالأدب الشعبي. وبالطبع قد دُوِّن شعر البطولة التقليدي، شعر الطبقات العليا — وأشهره «أغاني رولان» الفرنسية — في شكل مخطوطات، كما دُوِّنت أناشيد الرحالة فيما بعد. وكانت المؤلفات الموسوعية للرهبان العلماء، والسجلات، والتواريخ التي جمعوها في عناء شديد، كثيرًا ما تحتوي على تفصيلات محسوسة للعقائد والعادات الشائعة.
وإذن فنحن بهذا كله نعرف جانبًا كبيرًا من الآراء والمشاعر التي كانت تجول في خواطر كل أنواع البشر من رجال ونساء في العصور الوسطى، وبخاصة في القرون القلائل الأخيرة منها. لدينا مجموعة من المصادر أشمل مما لدينا عن الإغريق والرومان. وما زلنا بالضرورة نعرف القدْر الأكبر عن الطبقات العليا وطبقات المتعلمين؛ إذ لم تظهر الطباعة بعد، دع عنك الصحف والمجلات والإحصاء كما يقوم به معهد جالوب. غير أن المختصين بدراسة الماضي لبثوا أجيالًا عدة ينقبون في مراكز الوثائق والمكتبات، يجمعون وينشرون كل جذاذة تسجل شيئًا عن العصور الوسطى مما يستطيعون الاستيلاء عليه.
وتمتد جذور الفروسية إلى تكوين الطبقة الحاكمة الإقطاعية خلال العصور المظلمة. وقد كانت طبقة من ملاك الأراضي، محاربين محترفين، وظلوا قرونًا يمثلون وحدهم قوة الشرطة والقوة الحربية في المجتمع. وطبقًا لنظام تمليك الأراضي الإقطاعي الذي يقسم الأراضي إلى دوائر، كان أصحاب الأراضي هؤلاء ينخرطون بطريقةٍ معينة في نظام للسلطة ينتهي بالملك أو الإمبراطور. غير أن سلسلة النفوذ كثيرًا ما كانت غير واضحة؛ فكان جانب كبير من المبادأة، وجانب كبير من الاستقلال في العمل، يترك للأفراد في هذه الطبقة العليا. والواقع أن نوعًا من المساواة الأساسية كان يسود دائمًا داخل الطبقة بالرغم من الفوارق العظمى في الثراء والسلطان. كان الفارس فارسًا، كما أصبح فيما بعد الرجل المهذب (جنتلمان) رجلًا مهذبًا.
وكانت هذه الطبقة الإقطاعية تعيش على القتال الذي ينشب عادة فيما بينهم، وكانت هناك بطبيعة الحال الحروب الصليبية ضد المسلمين، وضد الزنادقة الذين ظهروا فيما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر جنوبي فرنسا والذين اضطُهدوا لنقدهم مفاسد رجال الدين، وضد الوثنيين من السلاف. ثم ظهرت صورة من الحروب الوطنية التي تشبه حروبنا — وبخاصة في حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا. كما كانت هناك حملات تأديبية ضد النبلاء الذين جاوزوا بالفعل حدودهم وأصبحوا قطَّاعًا للطرق صراحة. وبرغم هذا فمن الحق أن كثيرًا من الحروب الإقطاعية كانت حروبًا خاصة بين قومٍ ليس بوسعهم أن يؤدوا إلا قليلًا من العمل سوى القتال، والذين كانوا ينتهزون الفرص الاستثنائية للقتال. وتحت هذه الظروف كان لا بد لموازنة الميول الفوضوية تدريجًا، ثم التغلب عليها في الموازنة، وذلك عن طريق مجموعة من القواعد والقيود وأنواع السلوك النبيل يفرضها الناس على أنفسهم طوعًا. ولما حل القرن الخامس عشر لم يَعُد قتال الفروسية أشد خطرًا من أي لهو عنيف. والواقع أن ما حدث في الفروسية يشبه على وجه التقريب ما حدث لكرة القدم في أمريكا من عهدها الأول عندما كانت مشاجرة وشغبًا إلى أن أصبحت اليوم لعبة لها قواعدها.
وقد كانت هذه الفئة المقاتلة حتى في أيامها الأولى — كما كان يؤكد أفرادها تأكيدًا شديدًا — مسيحيين، ويكاد المرء يرى في عنف حياتها الشديد شيئًا يشبه ما نسميه العصابات. ومن المؤكد أن الكونت الفرنسي في القرن العاشر كان أقرب إلى أن يكون فردًا في عصابة منه إلى أن يكون الفارس الكامل المهذب كما يصوره عشاق العصور الوسطى في العهد الحديث. ولم يكن يعرف الكتابة والقراءة، ويجيد في شبابه المهارات اللازمة لركوب الخيل، والمبارزة بالسيف، وما شابه ذلك. وكان بوسعه أن يَكِل إلى حشمه وكتَّابه الإدارة والحكم، والتعامل مع الأفراد الذين لا بد للطبقة الحاكمة عادة من الاتصال بهم للاحتفاظ بنفوذها، كان بوسعه هذا، وكثيرًا ما كان يفعله. وأقول في إيجازٍ إن وقت فراغه كان طويلًا، وكانت لديه فرص كثيرة لكي يفكر فيما يلحقه من إهانة، ولكي ينتقم، ويحتفظ بسمعته، التي كان يسميها شرفه وكرامته. وكان من الجائز أن تصيبه نوبات من الغضب الذي لا يُكبح جماحه — بل إني لأظن أنه كان أحيانًا يفتعل هذه النوبات — ومن الممكن أن يرتكب في ثورة الغضب، القتل، والبتر، والغواية، وأن يخالف أكثر التعاليم التي لم تكفَّ المسيحية قطُّ عن أن تضعها أمام عينيه.
ولكنه كان يؤمن بالمسيحية، وكان قوي العقيدة في السماء وبخاصة في الجحيم، وكان له ضمير، ولم يكن في الأغلب ضميرًا سيئًا. وهذا التشاؤم الساخر الذي كثيرًا ما تلمسه في أمريكا الحديثة يبلغ أشد مواطن الزلل إذا افترض وجود مثل هذا التشاؤم في طبقة حاكمة كطبقة الحكم في العصور الوسطى؛ ذلك أن الفارس الذي يستسلم لميوله يدرك تمام الإدراك أنه أذنب، وقد يبالغ في إظهار الندم. وقد يحمل الصليب، ويرهن كل ما يملك لكي يلتحق بحرب صليبية في الأرض المقدسة، وقد يقدِّم إلى الكنيسة مِلكًا له قيمته أو يوصي لها به. والواقع أن الكنيسة خلال هذه الفترة التي امتدت لألف عام جمعت من أصحاب الضمائر السيئة كما جمعت من أصحاب الضمائر الطيبة هِبات ضخمة من السلع الدنيوية مما جعلها قوة اقتصادية كبرى. وما زال هناك مَن يعتقد أن الإصلاح البروتستانتي كان في أساسه حركة اقتصادية، وهي نهب الكنيسة على أيدي فئة جديدة من النبلاء اللصوص الذين ليست لديهم ضمائر البتة.
بيد أنه من الخطأ أن نَحسَب الفروسية حتى في بدايتها مجرد مجموعة من الرياضيين لا تخضع لنظام، ارتفعت بطريقةٍ ما إلى مراكز لها نفوذ اقتصادي وسياسي، ولا يمسكها عند حدٍّ أدنى من مستويات السلوك إلا الخوف من نار الجحيم. وإني أحذِّر قراء هذا الكتاب تحذيرًا شديدًا من الخطر الذي ينجم عن اعتبار أية قطعة أدبية وصفًا دقيقًا لطريقة سلوك الناس فعلًا. ومع ذلك فمن العبث أن نحسَب أن الأدب ليست له بالحياة الواقعة علاقة، أو أن علاقته بها علاقة سلبية محض؛ فقد تجسَّد الجانب المثالي من الفروسية الأوروبية الأولى في سلسلة من الملاحم، لعل أشهرها وأشدها تمثيلًا لها «أغاني رولان»، وقد روت هذه القصيدة، التي تعالج شخصية شرلمان التاريخية في القرن التاسع، أجيالٌ من الشعراء الذين كانوا يتنقلون من قلعة إلى قلعة لإقامة حفلات الترفيه، ولم تتخذ صورة مكتوبة إلا في وقت متأخر نسبيًّا في العصور الوسطى. وإذن فلقد كانت الشعر الشعبي عند الطبقة العليا، وهي تبيِّن على وجه التأكيد تقريبًا كيف كانت طبقة النبلاء في الغرب قديمًا تحب أن تنظر إلى نفسها.
وما بَرِح شرلمان وأبطاله كما تصورهم هذه القصيدة (وكذلك الملك آرثر وفرسانه كما تصورهم قصائد أخرى ترجع إلى نفس الأصول تقريبًا) رياضيين، ولكنهم ظرفاء، سذج، لا يتقاضون إعانات مالية، يلعبون دورهم منصفين حتى مع الوثنيين، يحبون الله والإمبراطور بروح المدرسة القديمة. وإن كنت تحسب هذه المقارنة لغوًا من القول في غير موضعه، وآثرت أن ترى «أغاني رولان» في عرضٍ دقيق لأحد عشاقها فاقرأ الصفحات القلائل الأولى من «مونت سنت مايكل وتشارتر» لهنري آدم. هنا تجد هذا الرجل المثقف من إنجلترا الجديدة، المجهد، الممرور، ينصرف مرتاحًا من عالمه الحديث المجنون المنحرف (كما أحسَّه) إلى هذا العالم الغض، البسيط، القوي، عالم الكرامة الرجولية، والعمل الرجولي، والآراء اليقينية الرجولية. ولكن لا تندفع في انسياقك، وارجع كذلك إلى صفحات قلائل — أيًّا كانت — من الراهب المؤرخ لعهد الفرنجة، وأعني به جريجوري التوري، فإن حياة الفرنجة كما يصوِّرها جريجوري أشبه بالحياة ممثلة في حبة دواء أمريكية مركزة، أو هي على الأقل في شدتها ولا تكاد تتفوق عليها في قيمتها. وهنا نلتقي مرة أخرى بالتباين بين الواقعي والمثالي؛ ذلك التباين الأبدي — البشري — الذي ظهر في العصور الوسطى.
ومهما يكن من أمرٍ فمما لا شك فيه أن الفروسية الأوروبية كأسلوب من أساليب الحياة بدأت عقيدة مبسطة عند الرجال المقاتلين، ثم تطورت — كما تطوَّر أكثر ما ينتمي إلى العصور الوسطى — إلى أفضل حالاتها زهاء القرن الثالث عشر، حينئذٍ أصبح لها قانون للعمل معقد، قانون يحسُن أن يرتبط بتلك السلسلة الطويلة المتشابكة من العلاقات الشخصية التي رفعت مجتمع العصور الوسطى إلى أوجه. أقصد في إيجاز أنها باتت أقرب إلى أن تكون نظامًا من نُظُم العلاقات البشرية، نظامًا مجربًا متزنًا، أو طريقة من طرق أداء العمل في هذه الدنيا. وهي — بهذا المعنى — تظهر في أحسن حالاتها في مذكرات سيير دي جوانفيل، الرفيق الصليبي للملك لويس التاسع المقدس، ملك فرنسا. وكانت عند جوانفيل بصورة واضحة تلك الفضائل التقليدية الإقطاعية، الولاء لمَلِكه، والإيمان المطلق في المسيحية الكاثوليكية، وفوق هذا وذاك صفحة البراءة الرياضية التي حاولنا أن ننقلها إلى القارئ فيما سبق. ولم يكن جوانفيل من غير المثقفين فحسب، بل إنه لم يكن كذلك مفكرًا على مستوًى مرتفع ويقاتل مع رفاقه كما تدربوا على القتال. ومن الواضح أنه لم يكن البتة مبتكرًا، ولم يألف قطُّ أن ينظر إلى العالم باعتباره متغيرًا، ولم يألف بالتأكيد أن ينظر إليه باعتباره متقدِّمًا. وكان جوانفيل من ناحيةٍ أخرى بشكل واضح أيضًا رجلًا معقولًا عمليًّا، يُحسِن معاملة زملائه، لا تظهر فيه البتة تلك الصفات الخلابة التي أصر الرومانتيكيون في القرن التاسع عشر على وجودها في العصور الوسطى. تجد عنده — كما تجد عند أكويناس في ميدان آخر — إحساسًا بالتوازن، يناقض تمامًا ما تعلمناه في كثير من الأحيان عن العصور الوسطى.
وقد خدم جوانفيل في حرب صليبية مع لويس التاسع، الذي لُقِّب فيما بعد بسنت لويس. وكان يقدس ذكرى الملك الذي قال عنه: «إنه كان يحب الحق إلى درجةٍ تجعله حتى عندما يتعامل مع العرب لا يرتد عن كلمته.» غير أن لويس المقدس لم يستطِع أن يسوق هذا الشاب معه إلى الفضيلة المطلقة التي تتعلق بالعالم الآخر. وفي عبارة مشهورة يحدثنا كيف أن الملك استقبل راهبين، وشرع يحدثه عن الدين قائلًا:
«قال الملك: إني أسألك الآن أيهما تفضِّل: أن تكون أبرص، أو أن ترتكب ذنبًا بشريًّا؟ وأجبته — وأنا ذلك الرجل الذي لم يكذب عليه قطُّ — إني أُوثر أن أرتكب ثلاثين ذنبًا بشريًّا على أن أكون أبرص. ولما رحل الراهبان، استدعاني منفردًا، وأجلسني عند قدميه، ثم قال لي: ماذا قلت لي منذ لحظة؟ وذكرت له أني ما زلت أقول نفس القول. فقال لي: لقد كنت تتكلم كالمجنون؛ لأنه ينبغي لك أن تعرف أنه ليس هناك أبرص أقبح من رجل يرتكب إثمًا بشريًّا؛ لأن الروح في حالة ارتكابها الإثم البشري تكون كالشيطان، ولذلك فلا يمكن أن يوجد أبرص في مثل هذا القبح. ومن الحق في الواقع أن الرجل عندما يموت يُشفى جسده من البَرَص، ولكن الرجل الذي ارتكب إثمًا بشريًّا لا يعرف عندما يموت إن كان في حياته قد ندم ندمًا يجعل الله يعفو عنه. ولذلك وجب عليه في الواقع أن يخشى دوام هذا النوع من البَرَص معه ما دام الله في فردوسه. ومِن ثَمَّ فإني أرجوك رجاء حارًّا أن تُعوِّد قلبك من أجل محبة الله ومحبتي أن يؤثر إصابة بدنك بأي شر من الشرور بسبب البَرَص أو غيره من الأمراض على أن يحتل روحك إثم بشري.»
وكان الاتزان — كما هي الحال دائمًا في تاريخ الغرب — وجيزًا غير ثابت. كانت الفروسية أسلوبًا من أساليب العيش يتأثر سريعًا بالمبالغة. ولم تأخذ البتة صفة الشيخوخة الموقرة. وسرعان ما حلت بثقافة الفروسية هذه، التي لم تتحلَّ بفضيلة الشيخوخة، تلك الشكلية، وذلك التقليد الأعمى، وجمود الدم في شرايين الفكرة المستحدثة، مما يلحق بكل ثقافات الغرب، وما تعلق بهذه الثقافات. ومن الواضح ومما يلفت النظر أن القتال الذي ربما كان فيما سبق مبرِّرًا لوجود طبقة إقطاعية مميزة، كما يفسر وجودها كذلك، من الواضح أن هذا القتال بدأ بظهور الجيوش المحترفة المأجورة الحديثة في القرن الرابع عشر يتحول إلى لهوٍ صريح. وبهذه الصفة تحوَّل إلى مباراة مملة شديدة التعقيد، تُعرف في الفروسية بالمبارزة. وأخذت قواعد هذه المبارزة تزداد تعقيدًا، وأسلحة الدفاع تشتد قوة، حتى لم يكن أحد في النهاية يُصاب بأذًى بدني، بالرغم من وقوع الحوادث.
ولم تكن نظرة الفروسية إلى الحب والنساء — حتى في أشد عهود الفروسية اتزانًا — إعزازًا للفكرة التي يمليها العقل؛ إن كان هناك في مثل هذه الأمور عقل.
إننا كلما ازددنا في القرن العشرين علمًا بالشعوب غير الغربية أدركنا أن ما نسميه — وهي أفضل تسمية — بتقاليد الحب الخيالي، إنما هو في كثير من نواحيه من خصائص مجتمعنا وحده؛ فإن الصينيين والهنود وشعوبًا كثيرة أخرى لا تشترك معنا فيه. وهذه التقاليد — حتى في الغرب — أبعدُ ما تكون عن الثبات، وربما كانت اليوم سريعة التغير، ولكنها تقاليد معقدة، عميقة الجذور، لها صور محلية متعددة، وكثير من الأصول المعقدة. والمسيحية قطْعًا أصل من هذه الأصول.
وهناك أصل آخر له أهميته القصوى يتمثل في الصور المختلفة التي أدخلتها الفروسية في العصور الوسطى. ولا نستطيع اليوم حتى أن نقرأ عبارة معتدلة عن مُثُل الحب الرقيق ووسائله كما وردت في «قصة الفارس» لشوسر، دون أن ينتابنا شعور غريب. في هذه القصيدة يقع رجل وابن عمه، وهما بالامون وأركيت، وهما فارسان من طيبة وقعا في الحرب في أسرِ دوق أثينا (ولم تهتم العصور الوسطى كثيرًا بالدقة التاريخية) في حب أميلي الحسناء، التي لا يكادان أن يلمحاها من داخل السجن. وفي خلال سنوات عدة قضياها في السجن وخارجه، ينشب بين ابن العم — بالرغم من ارتباطهما بصلة الدم وشرف الفروسية — نزاع مميت على أميلي، ويحدث كل هذا دون أن يتعرفا إليها، ودون استجابة منها.
وتعلم الفتاة أخيرًا بالتنازع على حبها، ولكنها — كما يصور الشاعر — تدعو ديانا في الليلة السابقة للمبارزة العظمى بين بالامون وأركيت التي ينظمها الشاعر في نهاية الأمر، فتقول:
ويَزِل حصان أركيت في وثبته، ويموت الرجل من جراحه. ويحظى بالعذراء بالامون.
هذه قصة خيالية معتدلة. ويسخر شوسر في قصة أخرى من «قصص كانتربري» عنوانها «نظم سير توباز»، وهو هنا يتهكم على الخيال الأدبي. وهو حتى في «قصة الفارس» لا يعدو أن يكون ساخرًا في شعره من حقيقة الحب الرقيق. وكان غيره أقل منه ارتباطًا بهذه الأرض. ومِن ثَم فإن العشاق في خيال العصور الوسطى كانوا يكابدون كلَّ ما يمكن تصوره من أهوال ومحن، ويسترسلون في صفوف مختلفة مجردة، بل ميتافيزقية، من ضروب الصراع الذي يمكن أن ينشب بين الواجب، والشرف، والحب، ويتمسكون بالفضيلة كما يتمسك الشهيد المسيحي بعقيدته. وفي صورة غامضة باهتة يتوقع المرء أن تكون وراء هذا كله فكرةٌ ما عن الاتصال الجنسي. ولكن ربما يكون الأمر كذلك — وربما لا يقحم هذه الفكرة إلا عصرنا الفرويدي. ومع ذلك فمن الإنصاف أن نقول إن الفروسية بذلت جهدًا جادًّا وناجحًا في أغلب الأحيان لتتحكم في ظاهرة من ظواهر النشاط البشرى، تسيل — في الطبقة المتميزة خاصة — إلى ألا تخضع للتحكم، وإلى أن تنتهي إلى نوعٍ من الفوضى التي تقضي على النظام الذي تحتاج إليه مثل هذه الطبقة. كانت الفروسية تتضمن بحكم نظامها تساميًا حقًّا بدوافع غاية في القوة — تساميًا يحس الكثيرون ممن لا يكتفون ببث الرعب في النفوس أنه معدوم في الغرب الحديث.
ومهما يكن من أمرٍ فإن تقليد الحب الرقيق قد طبع ثقافة الغرب بطابعه، ووضع المرأة على قاعدة مثالية تجد اليوم مشقة حتى في أن تتظاهر بملاءمتها. وفي النضال الأبدي بين هذا العالم والعالم الآخر المثالي الذي يُعَد بالتأكيد من حيث قوة أثره خصيصة من الخصائص الفذة في الثقافة الغربية، اتخذ الحب الجنسي — بفضل المسيحية والعصور الوسطى — جانبًا يميل إلى العالم الآخر. وأرجو ألا تخطئوا فهْم ما أقول؛ فحتى الإغريق القدامى قد عرفوا الحب بين الرجل والمرأة، وكذلك من الواضح أن شعوبًا كثيرة حديثة لم تأخذ بعدُ بالتقاليد الغربية كاملة. وقد عرفته، ولكنهم لم يعرفوا «الحب الخيالي» المستحيل الذي لا يرتبط بهذه الدنيا، الحب المثالي الذي لا يعرف الفراش، الحب الذي يتجاوز المحبة، بل إننا لا نعرف اليوم هذا الحب الخيالي كما عرفه أسلافنا في القرن التاسع عشر، ولكنه ترك أثره اللاواقعي فينا — وبخاصة في هوليوود.
وهناك أمور كثيرة أخرى تتعلق بالفروسية بعدما تدهورت أو زاد نضجها مما يستحق الالتفات إليه — من ذلك الضعف العاطفي الذي تحولت إليه فضيلة الفروسية التي تدعو إلى احترام الأدنى والضعيف ومنكود الحظ، ومن ذلك أن شدة التطلع إلى كلِّ ما هو عجيب قد نمَت حتى بدت الوحوش الخيالية أمرًا طبيعيًّا، ومن ذلك أن الفروسية أمست نوعًا من الحماية لشخص النبيل ضد نفوذ أصحاب الأموال والتجار وأرباب البنوك الآخذ في النمو. وليس بوسعنا هنا أن نتوسع في أكثر من نقطة إضافية أخرى، ربما كانت بالنسبة إلى الفروسية بأسرها أكثر أهمية من الدِّين والحب، وهي بالتأكيد أكثر أهمية بالنسبة إلى تدهور الفروسية، وأعني بها فكرة الشرف. فإذا كانت الفروسية الأولى تبدو في أساسها قانونًا يحاول أن يُخضِع الفرد للمجموعة، وإذا بدت كأنها في كثير من النواحي تجعل الرجل المقاتل عضوًا في فريق، إلا أنها — بالرغم من ذلك — تؤكد بشدة أهمية الفرد، على تباين في ذلك مع نظام إسبرطة. كان الفارس دائمًا على وعي شديد بشرفه، وبنفسه كفرد، وهو الحكم النهائي فيما يلائم وما لا يلائم كرامته. وفي السنوات الأخيرة من الفروسية كان كل أمر يتركز حول فكرة الشرف، وبات الفارس شخصًا حساسًا إلى درجة هستيرية، منقطع الصلة عن عالم القيم العادية، حتى تأهب في الواقع لذلك الوصف الذي صوَّره فيه سرفانتيس. وربما لم يكن من المصادفة أن الأمة التي غالت أرستقراطيتها في الشرف، وأعني بها أمة الإسبان، هي التي أخرجت في «دون كيشوت» كتابًا يُعَد في أكثر أنحاء العالم هجومًا قاتلًا على مُثُل الفروسية.
الفروسية هي إحدى تلك المركبات الكبرى — أو المجموعات — من الأفكار، والعواطف، والعادات — شأنها في ذلك شأن الرومانسية، أو الديمقراطية، أو الجماعية — التي تتحدى فينا الإدراك. ومن الطرق المفيدة في معالجة مثل هذا التحدي أن نوازن بين مركب من هذه المركبات ومركب آخر، بينهما شيء مشترك. والفروسية من غير شك تشترك مع المسيحية في شيءٍ ما، بل إن الفروسية الأولى هي إلى حدٍّ ما محاولة إلى مسح جماعة من المقاتلين الوثنيين البدائيين بمسحة المسيحية. وطقوس رسم الفروسية تكون جانبًا من طقوس المسيحية. والفارس كصليبي كثيرًا ما يكون الفارس في أحسن صورة له. والواقع أن الصليبيين قلما كانوا من القديسين — وربما بدا جوانفيل — ذلك الصليبي الذي التقينا به منذ حين — الرجل المثالي أقرب إلى الوثني منه إلى المسيحي. ومع ذلك فإن إحساس جوانفيل بالشرف والواجب، وضميره، وإدراكه بأنه قد يكون هناك من الناس قديسون، كل ذلك من مميزات المسيحية — المسيحية العملية، البطولية التي تُمارس كل يوم.
وحتى في الحدود المتطرفة من مثالية الفروسية، في الحب الرقيق وفي شرف الفارس، نستطيع أن نحس باللمسة المثالية، بالتجاوز عن المحسوس، وهو ما لم تتخلَّ عنه المسيحية قط. غير أنا إذا وضعنا الفروسية في الميزان وجدناها إحدى القوى الاجتماعية التي كانت تميل إلى هدم المسيحية. فإذا كان من الدوافع الكامنة في المسيحية محاولة إخضاع النفس، وإذا كان التواضع هو حقًّا من الأهداف الكبرى في الحياة المسيحية، فإن الفروسية إذن لم تكن مسيحية للغاية. الفروسية في أعلى درجات الإيثار فيها لا تزال تشير إلى ذات الفارس، وتجعل من المنافسة في سبيل الشرف وفي سبيل التظاهر عملًا يُعتبر من الفضائل الاجتماعية. وفي مستواها العادي تشحذ الذات في نضالها مع العالم. وفي تدهورها تمجِّد في شرف الفرد تركيزه في نفسه تركيزًا كثيرًا ما يكون هستيريًّا، وغرورًا يحمل صاحبه الهم، وهو غرور انحصر في الأغلب في طبقة المثقفين في الغرب. ولكن الفارس في عهد الفروسية المتأخر كان مثقفًا على كل حال. ألم يكن كذلك دون كيشوت؟
والخلاصة أن الفروسية كانت أسلوبًا من أساليب العيش في الطبقات العليا من الغرب في العصور الوسطى، تشبه إلى حدٍّ كبير ما كانت عليه الرواقية كأسلوب للحياة بين الطبقات العليا في العالم الإمبريالي الإغريقي الروماني. وبطبيعة الحال لم يكن البارون العادي شبيهًا بدون كيشوت، أو حتى ببلامون وأركيت إلا بمقدار ما كان الموظف الروماني العادي شبيهًا بزينو، الفيلسوف الرواقي. ومن أجل ذلك استعملنا عبارة «أسلوب من العيش»، في كلتا الحالتين. غير أن درجة التطرف — أو المثالية إن شئت — تؤثِّر في الرجل المتوسط بطريقةٍ ما من حيث السلوك البشري بين الجماهير؛ فكان الكونت أو البارون، ووكيله والرهبان المجدون والأساقفة الذين كانوا يدبرون جانبًا كبيرًا من حياة العصور الوسطى، يمثِّلون حتى في اتجاهاتهم العملية بعض الأهداف التي رسمتها الفروسية، كما تمثِّل الفروسية ذاتها بعض نواحي نشاطهم المألوفة. إن التباين بين النظري والعملي، بين إخلاص الفارس لربه، ولسيدته، ولواجبه، وانكبابه على القتال، والمقامرة، والصيد، وممارسة الحب، أو لما يزال في الحقيقة أشد ما ينكب عليه الرجل، هذا التباين كان يسري خلال الحياة كلها في العصور الوسطى. وفي هذه العصور كان الفارس في صراع مع ضميره في كثير من الأحيان كلما أدرك أن هذا التباين أمرٌ لا مفر منه. وفي هذه العصور كان الفارس في حركةٍ لا تستقر، مزهوًّا بفرديته، وهي صفة الكفاح التي يكاد أكثر المحدثين أن يحسها في العصور الوسطى، حتى عندما يصرون على أن تلك العصور كانت تتميز بالاستقرار والاتزان الهادئ.
ولا بد للمرء أن يقفز مباشرة من ثقافة الطبقات الحاكمة في العصور الوسطى إلى ثقافة الشعب. وليس من الحق أنه لم تكن هناك طبقة وسطى في العصور الوسيطة؛ فقد كان التجار، وأصحاب المشروعات، وأرباب البنوك، يتزايدون في العدد والأهمية وبخاصة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. غير أن أسلوب معيشتهم، وآراءهم، كانت تتشكل في بطء على صورةٍ تبتعد عن الطرق العامة التي كان يسلكها غير النبلاء، ويجدر بنا أن نؤجل إلى فصلٍ قادم تحليل ما كان يعنيه ظهور طبقة متوسطة حاكمة في تاريخنا الفكري.
كانت الأغلبية العظمى من السكان في الغرب في العصور الوسطى من الفلاحين. وكانت مدن التسويق الصغرى، بل والمدن القليلة الكبرى — ومنها باريس، ولندن، وفلورنسة — مساحات مدنية محاطة بالأسوار، تقع المزارع عند مداخلها. وكانت على صلات دائمة بالفلاحين المجاورين الذين كانوا يستمدون أكثر مواد غذائهم منهم. أما أرباب الحرف فكانوا يقطنون القرى أو المدن، وقد ينفقون نصف أوقاتهم في الزراعة. وإذن فقد كانت هذه الثقافة الشعبية بسيطة، ثابتة نسبيًّا، واضحة محددة المعالم، ينقصها ذلك التعقيد السطحي الغامض العجيب الذي نلمسه بين الجماهير الساذجة في مدننا الحديثة الكبرى، ولكنها لم تكن البتة ثقافة بريئة. والواقع أن المرء ليُدهش حين يطلع على القطع المنظومة الفرنسية وعلى غرائب الشواهد التي تشفُّ عن أحاسيس الجماهير في العصور الوسطى، من تلك الواقعية الصارمة الدنيوية، وذلك الإعجاب بالماكرين، وأولئك المخادعين الذين يغررون بالسذج من الناس، ومن التشكك في اللفظ الرقيق والمهن الرفيعة. إن هذه الصفة الريفية الدائمة في العصور الوسطى لا بد أن تذكر؛ فهي تشير مرة أخرى إلى حدود الرأي الذي يقول بأن العصور الوسطى تمثِّل أسلوبًا من العيش مسيحيًّا، ثابتًا، وقورًا.
لا بد أن نتوقع الكثير من الخشونة في هذه الثقافة، وقد كانت هذه الخشونة موجودة فعلًا. وحتى فيما خلَّفه شوسر نجد الألفاظ ذات المقطع الواحد التي يعرفها كل إنسان إلى جانب لغة المثقفين — على الأقل — عندما كان يجعل أحد العامة يتكلم. وكما كانت «قصة الفارس» لشوسر مرآة صقيلة تعكس الفروسية من بعض جوانبها، فكذلك كانت «قصة صاحب الطاحون» انعكاسًا أدبيًّا رائعًا لبعض جوانب الذوق الشعبي. إنها قصة عامة هزلية فاجرة، يستخفُّ فيها تمامًا بأروع أساليب الفولكلور بالزوج الغبي الغيور. إنها أبعد ما تكون عن المسيحية حتى إن المرء لا ينظر إليها قطُّ من حيث علاقتها بالمُثُل المسيحية. ولكنها موجودة مع ذلك، وصاحب الطاحون الذي يرويها في طريقه إلى معبد كانتربري كي يؤدي الصلاة كما يؤديها رفاقه، الفارس الرقيق، وقسيس أكسفورد الرحيم، وزوجة باث صاحبة القلب الحار، وصاحبة الدير التي تلمس فيها الخروج على المسيحية بصورة خفية، وغير هؤلاء من حجاج كانتربري الذين قد تجد اليوم نظراء لهم يتجمعون للقيام برحلة إلى «الحجر الأصفر».
والظاهر أن الخشونة والفحش من الصفات الدائمة تقريبًا في ثقافتنا الغربية. وهناك فيما يتعلق بمثل هذه الأمور كل صنوف مشكلات الذوق الشائقة. وربما كانت هناك في بعض العصور، كالعصور الوسطى، بساطة على طبيعتها مما لا يجده المرء عندما تختفي تقاليد التهذيب من الطبقات المحتشمة. وما كان مجرد خشونة في العصور الوسطى قد يصبح أدبًا بذيئًا في الأزمنة الحديثة. غير أن هذه المسائل شائكة، وليست لدينا البتة لحلها وسائل تجمعت على مر العصور. ومهما يكن من أمر فالظاهر أن المَيل نحو الفحش في الطبيعة البشرية ميل ثابت، لا يمكن لأية ثقافة مهما تعمقت في التفكير أن تمحوه، أو حتى أن تنجح في كبته.
وبعض هذه الفكاهة البذيئة كان يوجَّه إلى القسس ورجال الدين. وأقول مرة أخرى إننا إن أردنا صورة متزنة فلا بد لنا من أن نأخذ في الاعتبار ما يجب أن نسميه الحركة الشعبية المعادية لرجال الدين في العصور الوسطى. وهذا الميل المنتشر نسبيًّا لم يكن في العصور الوسطى في أغلب الأحيان ذلك البغض المرير الذي ظهر في القرن الثامن عشر، بل لقد كان في كثير من الأحيان فكهًا، بل وينم عن طبيعة طيبة، والظاهر أن بعضه كان يسر رجال الدين أنفسهم. ولا يزال زوار الكنائس الفرنسية التي شُيدت في العصور الوسطى يطلعون على نقوشٍ منحوتة في جوانب مقاعد المرتلين، أخذ فيها على ما يظهر النقاش حرية كاملة؛ لأن كثيرًا منها يعبِّر عن تفصيلات شخصية سارة في الحياة اليومية تبدو لنا — إلى حدٍّ ما — في غير موضعها في الكنيسة كما يرد كثيرًا في الأدب الشعبي الوسيط ذكر القسيس الجشع، والقسيس الفاسق، والقسيس المغرور الذي تشغله أمور الدنيا. وكذلك لا يعطينا شوسر صورة طيبة عن رجال الدين باستثناء قسيس أكسفورد، وقد كان شوسر يعرف بالتأكيد ما كان يدور في خَلَد العامة. كان رجال الدين يحملون عبء الضَّعف البشري كاملًا على عواتقهم.
ومع ذلك فلم يكن في كل هذا إلا قليل من المرارة، وإنما كان يرمي إلى إنزال القسيس إلى المستوى البشري العام. ولم يقصد إلى تحدي بناء المسيحية الفلسفي والديني — أي نظرتها الشاملة إلى الكون — كما قصد إلى تحديها في أيام فولتير وتوم بين. إن القطع المنظومة الفرنسية، والفلاحين وأرباب الحرف بكل تأكيد، لم يشكُّوا في وجود الله، أو في الحاجة إلى حضور القداس، بل ولا في مجموعة الخرافات المعقدة التي نمَت في المسيحية الشعبية في العصور الوسطى. وربما تلمس أحيانًا في هذا الاتجاه المعارض لرجال الدين في العصور الوسطى روح البغض للكنيسة باعتبارها مؤسسة غنية تستغل الفقير، وهو ما سوف نعود إليه بعد حين، ولكن المرء في أكثر الأحيان يحس أن الرجل في الحياة العامة في العصور الوسطى كان لا يثق بالقسيس إلا لأن القسيس بعزوبته، وفقره، وتواضعه، وبعبء مُثُله المسيحية كلها، كان يبدو إنكارًا للإنسانية العامة. وقد أخذ الرجل في العصور الوسطى عن تعاليم المسيحية شيئًا من عدم الثقة بإنسانيته العامة فحدَّ ذلك من فكاهته عندما كان يسمع بالفتاة التي هربت إلى الدير في سلة الغسيل. كان الرجل في العصور الوسطى ينظر إلى القسيس — وإن يكن من ناحية واحدة فقط من نواحي تفكيره — كما ينبغي فقط أن يكون، أو متخلفًا قليلًا في رجولته. ولكنه كان من ناحية أخرى من نواحي التفكير — ينظر إلى القسيس باعتباره وكيل الله على الأرض، يمثِّل الاحترام، والقوة، رجلًا يدعو إلى الإعجاب، رفيع الشأن على وجه العموم؛ فكان الرجل في العصور الوسطى باختصار يحس نحو القسيس والكنيسة ما يشبه الشعور الغامض الذي يحسه الأمريكي المتوسط نحو الأساتذة والتعليم.
وإنا لنضل كثيرًا إذا حسِبنا الجماهير في العصور الوسطى مجرَّد سائمة، ليس لها مُثُل عليا البتة. وقد بينا في وضوحٍ من قبل أن عامة الرجال والنساء من الجماهير في العصور الوسطى، كانت تشترك في ميراث المسيحية المشترك بالرغم من نقص تعليمها، والافتقار إلى الطباعة، وغير ذلك من الأجهزة الحديثة لنشر الثقافة. وكان هذا الميراث يدعو إلى العصيان إلى حدٍّ ما، كما كان جهدًا متجددًا لتحقيق جانب أكبر، على الأقل، من المُثُل المسيحية، في هذه الدنيا وفي هذا الزمن الذي نعيش فيه. وهذه المُثُل — كما ذكرنا من قبل — كانت ولا تزال معقدة متعددة الجوانب تعقيدَ الثقافة الغربية وتعدُّدَ جوانبها. وكان في كثير من الثورات الشعبية في العصور الوسطى، بل وخاصة في الحركات الدينية، مثل الفرنسيسكان، عنصرٌ مما نسميه اليوم الاشتراكية، أو الديمقراطية الاشتراكية. وبالطبع لم تكن الثورات الشعبية الوسيطة من وحي المُثُل الماركسية، إنما كان الثوار يريدون العودة إلى الفضيلة والبساطة المسيحية الأولى. وليس من نسبة الظواهر إلى غير زمانها إن نقول إن الناس في الغرب لأكثر من ألف عام ممن كانوا يسعون إلى تحقيق مساواة اقتصادية واجتماعية أكبر، ويحاولون أن يحطموا مجتمعًا من طبقاتٍ تتميز إحداها عن الأخرى — أولئك الثائرون الاجتماعيون في إيجاز — إن هؤلاء الناس كانوا يدعون إلى ما يعتبرونه التقاليد المسيحية الصادقة، وليس من شك في وجود عنصر المساواة في المسيحية التاريخية.
ومن الطبيعي أن يستخدم الناس في العصور الوسطى لغة الدين لتبرير ثورتهم. وأشهر ثورات العصور الوسطى في الشعوب التي تتكلم الإنجليزية تلك الحركة المتأخرة في القرن الرابع عشر التي ترتبط بوات تايلر، وأحد قادتها جون بول، أحد القسس، ولا يزال شعارها باقيًا في كتب التاريخ، وهو: «أين كان الرجل المهذب عندما كان آدم يحرث الأرض وحواء تنسج الثياب؟»
ولسنا بحاجة هنا إلى أن نشغل أنفسنا برواية تاريخ هذه الحركة أو تلك من الحركات الاجتماعية في العهد المتأخر من العصور الوسطى، مثل حركة جاكري في فرنسا، أو حرب الفلاحين في ألمانيا في عهد لوثر في القرن السادس عشر، التي يمكن أن تعتبر آخر هذه الحركات الوسيطة أو أولها في العصر الحديث. والواقع أن حرب الفلاحين أقرب إلى العصور الوسطى في كثير من النواحي منها إلى العصر الحديث. ولم تنجح إحدى هذه الحركات في الظاهر أمدًا طويلًا. وجميعها في نظر الباحث الاجتماعي في الثورات ثورات غير ناضجة. ولكنها مع ذلك شائقة بالنسبة إلى الضوء الذي تلقيه على فشل المجتمع الطبقي الذي ساد في العصور الوسطى، أو في أواخرها على الأقل، فشله في مقابلة حاجات الطبقات الدنيا، وهي تؤكد مرة أخرى العناصر الثورية الكامنة في العقيدة المسيحية، وهي أمثلة طيبة لانتشار الأفكار في مجتمع يجهل القراءة والكتابة نسبيًّا. وهي كذلك مليئة بالعنف والقسوة، من جانب الثوار والمدافعين عن النظام القائم الفائزين في نهاية الأمر، على السواء. ومن العسير أن تثبت أن قسوة الإنسان على الإنسان كانت أشد في إرهاب عام ١٧٩٤م منها في حركة جاكري في فرنسا في القرن الرابع عشر، كما كانت أشد من الفتك بالناس الذي حدث في الأربعينيات من القرن العشرين منها في حرب الفلاحين في العشرينيات من القرن السادس عشر في ألمانيا.
لم يوجد في تلك العصور رجل نظري أو أيديولوجي مفرد، لم يوجد شبيه لروسو، أو ماركس. بل كانت تلك الحقبة من التاريخ تستمد الكثير من أفكارها من المثقفين — قسسًا كانوا أم رهبانًا — الذين كانوا هم إلى حدٍّ ما قواد الحركة. ويصدُق هذا بصفة خاصة على رجلٍ مثل وايكليف في إنجلترا، وهو عالم مدرب، وأحد الرجال العديدين المعروفين باسم: «خاتمة العلماء»، وقد كتب في أواخر حياته مذكرات بالإنجليزية بدلًا من اللاتينية الأكاديمية، ونقل الإنجيل إلى الإنجليزية. ولكن حتى زعماء هذه العصور الأقل درجة في الثقافة كانوا على علم بالكثير من الميراث الثقافي الوسيط. والواقع أن هذه الحركات المتأخرة، كحركات الإصلاح الرومانتيكية القديمة، والزندقات الشائعة القديمة، وحركة البيوريتان في بيدمونت ودو فيني وبروفانس، وحركة الهرطقة التي سادت جنوبي فرنسا واضطُهد أصحابها لانتقادهم مفاسد الكنيسة، وما شابه هذه الحركات — كل هذه الحركات كان لا يزال يدور حول الدراما المسيحية العظمى، وكلها هرطقات مسيحية بمعنًى من المعاني. ومن المبالغة في تبسيط الأمور أن نقول إن الموجة الكبيرة الأولى من الهرطقة، موجة المعرفة الروحية، والآريين، وغيرهما، في القرنين الثاني والثالث، كانت في أساسها دينية وفلسفية، وإن الموجة الثانية من حركة الهرطقة الفرنسية التي ذكرناها إلى ثورة لوثر التي نجحت في النهاية كانت في أساسها اجتماعية واقتصادية. إنك لا تستطيع أن تقسِّم الحركات التي تقوم على أساس جميع الحاجات والقدرات البشرية تقسيمًا واضحًا كهذا. ولكن هذه الثورات التي نشبت في العصور الوسطى كانت برغم ذلك تتجه نحو هذه الدنيا بشكل واضح. إنها تستخدم ألفاظ الديانة المسيحية، وهي في بعض أشكالها تنم عن العقيدة الجازمة في ألف عام سعيدة وهي من العقائد المسيحية، ولكنها في أكثر الأحيان لا تتوقع ظهور المسيح فعلًا للمرة الثانية. إنها ترمي إلى إعادة توزيع الثروة في هذا العالم، وإلى إذلال الغني والمتكبر، وإلى تطوير العالم المنظم تنظيمًا بالغًا في العصور الوسطى على أساس الطبقات الاجتماعية تطويرًا أساسيًّا. وهي تفشل في غرضها الأساسي، وهو حل مشكلة الفقر، ولكنها تحطم المجتمع الإقطاعي — في غرب أوروبا على الأقل — شيئًا فشيئًا، وبمعونة ظهور اقتصاد أساسه العملة وظهور طبقة وسطى، كما سوف نرى في الفصل القادم.
وقد اتجه وايكليف وأتباعه، قسس «لولارد» الفقراء (ويُسمَّون أصحاب السِّر) رأسًا إلى الناس، وبقصد أو بغير قصد أثاروهم نحو ثورة الفلاحين. وقد أُخمدت الحركة باتحاد الطبقات القديمة صاحبة الامتياز أصحاب الثراء المحدثين. وليس هذا على أية حال هو النمط الوحيد لمثل هذه المحاولات الوسيطة للاتجاه نحو الناس. فإن من بين الحركات الشعبية الوسيطة الرائعة حركة الإخوان الفقراء في القرن الثالث عشر. وأذكر هنا مرة أخرى أن النُّظم الكبرى، نُظُم سنت فرانسيس وسنت دومينيك، إذا رُئيت من الخارج، ومن وجهة نظر المذهب الطبيعي التاريخي، تمثل نمطًا آخر من عمل الكنيسة في وجه القلق الشديد الذي استولى على الجماهير.
والنمط الذي نشير إليه كان في إيجاز وبساطة على هذه الصورة، كان التطور في الظروف الاجتماعية، وأي تدهور في النظام السائد والترتيب القائم، كحدوث الحرب والمجاعات والأمراض على غير انتظار، وحركات الاضطراب بين أعداد كبيرة من الناس (كما حدث في الحروب الصليبية) والتغيُّرات التكنولوجية التي تجعل طرق العيش العتيقة أمرًا مستحيلًا (كما حدث عند الانتقال من زراعة الحبوب إلى الرعي، أو عند ظهور المدن الكبرى المتخصصة في صناعة النسيج)؛ إن كانت أية مجموعة من التطورات من هذا القبيل تبصر المقلقلين والمضطربين من الناس، بل والذين لا يجدون قُوتَهم أحيانًا، بالهوة التي تقع بين المُثُل المسيحية والحياة الواقعة، ويتأثر بهذه الهوة تأثرًا بالغًا رجل موهوب، يكاد يكون دائمًا عضوًا في الطبقة المميزة بحكم مولده، ويقوم مرة أخرى بدور النبي والزعيم.
ولم تكن ثمَّة مندوحة عن أن يكون وحي مثل هذا الرجل في العصور الوسطى، وطريقة تفكيره، على غرار المسيحية؛ فكان ينادي بإحياء الروح المسيحية القديمة التي لا ترضى أن يبقى العالم في حمأة الشرور. كان يريد للمسيح أن يعود إلى الأرض مرة أخرى، لا بالمعنى الحرفي الساذج الذي آمنت به الأجيال المسيحية القلائل الأولى، التي كانت تتوقع أن ترى المسيح بلحمه ودمه، ولكن بمعنى أن يحاول الناس أن يعيشوا كما أراد لهم المسيح أن يعيشوا، وهو نفسه — إن كان مثل فرانسيس الأسيسي — يتخلَّى عن مركزه الدنيوي ويحذو حذو المسيح في فقره وازدرائه لهذا العالم، عالم الجسد. إنه يعيش مع الفقراء ويجمع حوله تلاميذه الذين ينقلون بدورهم كلمة الله إلى الفقراء والتعساء، ولا يثيرون فيهم الحقد ضد الأغنياء، ولا يحدثون ثورة اجتماعية من نوع الثورة التي نربطها نحن أبناء هذا العصر بالماركسية أو الشيوعية، ولكنهم يحدثون ثورة روحية فيهم وفي جميع الناس، ثورة تعود عليهم بطمأنينة النفس عن طريق اتحادهم مع الله. ويتخذه أكثر تلاميذه وأتباعه مثالًا، ويسير النظام الذي يؤسسه لفترةٍ ما طبقًا لمعاييره إلى حد كبير.
ومهما يكن من أمرٍ فإن الحد الفاصل بين الروح والجسد صعب التحديد، فكانت العامة تميل إلى الانجذاب نحو الغايات المادية في الثورة الاجتماعية، أو تميل إلى العودة إلى قبولهم نصيبهم من الدنيا. ولكن الزعماء اهتدَوا إلى وسائل أدق وأكثر تنوُّعًا للتوفيق مع هذه الدنيا. وكان سنت فرانسيس نفسه صوفيًّا لا يثق بتعليل العقل، يمقت كالمجددين عالم الكتب المنظم الذي يدعي ما لا قدرة له عليه، وأراد أن يأخذ الناس عنه نظامه لا تعوقهم الملكية المجسدة ولا تفسدهم الكتب. ومع ذلك فلم ينقضِ عام بعد وفاته حتى كان النظام الفرانسيسي قد جمع ثروة كبرى، وكان الفرانسيسكان يشتركون اشتراكًا كاملًا في عالم البحث في العصور الوسطى. وقد كان روجر بيكون، الذي التقينا به من قبلُ كشخصية كبرى في تاريخ العلم، فرانسيسكانيًّا من أكسفورد.
وأما النظام الآخر الفقير، نظام الدومينيكان، فأصوله أبعدُ عن روح الثورة النزيهة ضد نظام المجتمع القائم من الأصول التي رجع إليها سنت فرانسيس. أحس سنت دومينيك إحساسًا عميقًا بنكبة الجماهير، وثار ضد فشل الرعاة المكلَّفين برعاية الرعية، ولكنه كان هو وإخوانه منذ البداية أقلَّ تطرُّفًا في التمسك بالإنجيل. وقربوا الإنجيل إلى الناس بالمهارة والحماسة في الوعظ، وأخذوا شفاء نفوسهم مأخذ الجد. وقد رسموا هم أيضًا — كما فعل الفرنسيسكان — طريق التوفيق مع الدنيا، وتميزوا في السنوات الأخيرة بإخلاصهم العلمي لتاريخ الكنيسة.
وإذن فقد وُجد بين شعوب العرب في العصور الوسطى — وبخاصة في نهاية هذه العصور — موقفان من الصعب التوفيق بينهما وبين الفكرة التي ترى أن هذه الجماهير كانت رعية راضية في رعاية القسيس والمحارب: الأول سيل من الفكاهة الجافة، بلغت حد الوقاحة، الفكاهة التي يروق لها أن تشير إلى التباين بين النظرية الخيالية والأداء الدنيوي، والثاني سلسلة من الثورات الشعبية، مسيحية في وحيها، يتزعمها في الأغلب القسس والرهبان، تستهدف تحقيق شيء يشبه الشيوعية المسيحية هنا فوق هذه الأرض. وبرغم هذه القوى الهدامة فقد جلبت العصور الوسطى للإنسان في الغرب درجة من الاتزان الاجتماعي، ونوعًا من الأمن، يندُر أن تجده اليوم في الغرب.
وقد كان مجتمع القرية أو المدينة في أحسن أيام العصور الوسطى حقًّا مجتمعًا أقامت فيه التقاليد، يعززها سلطان الدين، شبكةً من الحقوق والواجبات المتبادلة، يستطيع كل امرئ — من الرقيق إلى السيد الإقطاعي — أن يجد ذلك الأمن الذي يأتي به العلم بأن لكل امرئ مكانته، أو وضعه، وسط مجموعة منظمة من قواعد السلوك تقوم على فكرة دقيقة عن الكون ومكانة الإنسان فيه. ولم يقرأ الفلاح بطبيعة الحال أكويناس. غير أن شيئًا من أكويناس، ومن فلسفة الكون كلها في العصور الوسطى، تحدَّر إلى الفلاح. وتستطيع أن ترى كيف أن هذا التوازن الاجتماعي قد اتبع تفصيلًا، من زراعة المحصول إلى توزيعه، ومن قواعد توريث الأرض إلى قواعد الحياة اليومية، وفي كتب ككتاب جورج هومان «القرويون الإنجليز في القرن الثاني عشر»، وكتاب مارك بوخ الذي جاء متأخرًا، وعنوانه «الصفات الأساسية لتاريخ الريف الفرنسي». ولم يكن هذا التوازن — كما عرفنا من قبل — كاملًا. وسرعان ما تحطَّم — بظهور ما نسميه اليوم الاقتصاد الرأسمالي وبكثير غير ذلك — مما نظنه حديثًا. وربما كانت أبسط الصيغ التي تعبِّر عن ذلك وأكثرها اعتدالًا هذه العبارة: كانت الحياة في العصور الوسطى للرجل العادي في الغرب أكثر أمنًا من الناحية النفسية، وأقل تنافسًا، من حياتنا اليوم، بالرغم من تعرُّضها للكثير مما نجد فيه مشقة وتعبًا. كانت حياة تكاد تخلو من الشك والارتياب الأساسي في الدين والأخلاق.
تقويم ثقافة العصور الوسطى
إن المؤرخ الذي يحاول أن يصوغ أحكامًا عامة عن ظهور الثقافات وازدهارها وسقوطها (أو المجتمعات، أو الحضارات) يواجه في العصور الوسطى مشكلة خطيرة. إن التقسيم الشائع الذي يتخذه أمثال هؤلاء المؤرخين — أو فلاسفة التاريخ — في الأزمنة الحديثة هو تحديد ثقافة إغريقية لاتينية تمتد على وجه التقريب من الإغريق لعهد هومر إلى الرومان في القرن الخامس بعد الميلاد وثقافة غربية حديثة تبدأ في العصور المظلمة وتمتد إلى الحاضر (وهو الحاضر الذي يَعُدُّه الكثيرون منهم أيام التدهور الأخيرة في ثقافتنا). ويُعَدُّ أزولد شبنجلر الألماني مثالًا طيبًا في القرن العشرين لهؤلاء المؤرخين. يرى شبنجلر أن هذه الثقافات نوع من الكائنات العضوية لها عمر يبلغ نحو ألف عام، ولها طفولة، وشباب، وشيخوخة، أو ربيع، وصيف، وخريف، وشتاء. كان شبنجلر يرى أن الثقافة الإغريقية الرومانية ثقافة «أبولية»، وثقافتنا «فاوستية». غير أن هناك كثيرين، ومن بينهم المستر أرنولد توينبي، يرون القديم، أو الكلاسيكي، نوعًا من الثقافة، والغربي الحديث نوعًا آخر، ربما يتصل بالنوع الأول، ولكنها ثقافة منفصلة من حيث أهدافها — وذلك بالرغم من أن هؤلاء المؤرخين لا يقبلون كل آراء شبنجلر في عمر الثقافات وفي كثير غير ذلك. وإذا أخذنا بهذا الرأي كانت العصور المظلمة هي طفولة ثقافتنا الحديثة، والعصور الوسطى شبابها؛ أي إن العصور الوسطى — بعبارة أخرى — ليست ثقافة في حد ذاتها. في حين أن كثيرين ممن تعمقوا دراسة العصور الوسطى ومن بينهم أكثر عشاق هذه العصور من المحدثين، يرونها ثقافة في حد ذاتها — إن جاز هذا التعبير، وليست مجرد مقدمة لثقافتنا. وهم يرون أن العصور الوسطى قد بلغت أوجها في القرن الثالث عشر، ثم تدهورت في القرنين التاليين. وأولئك من بينهم الذين يمقتون العالم الحديث أشد المقت يحسَبون هذا التدهور مستمرًّا إلى الحاضر، ولا يرى المستر بتريم سوروكين — مثلًا — سوى نقطتين اثنتين ثقافيتين مرتفعتين في تاريخ العرب — أثينا في القرن الخامس، وغرب أوروبا في القرن الثالث عشر. ويضع غيرهم المحدثين في القمة، التي يميلون اليوم إلى أن يردوها إلى القرن التاسع عشر.
إن تنوُّع الصور الذي تتضمنه أية محاولة لقياس الارتفاع والانخفاض في حياة الجماعات البشرية معقد إلى درجةٍ يتعذر معها تحقيق الدقة أو حتى الاتفاق في دراسة هذه الصور. ومن الواضح أننا هنا نعالج المعرفة اللاتراكمية. غير أن الجماعات لها من ناحية أخرى ارتفاعها وانخفاضها. وإنكار هذه الحقيقة يجرد التاريخ من كل معنًى من المعاني.
ومن العقبات الأولية في دراسة المجتمع الغربي أن هذا المجتمع لم يكن قطُّ وحدة «سياسية»، اللهم إلا لفترة وجيزة في عهد الإمبراطورية الرومانية. كان هذا المجتمع ينقسم سياسيًّا إلى مجموعاتٍ مستقلة — هي المدن الحكومية، أو الولايات الإقطاعية، أو الدول القائمة على القوميات — وقد مرت بهذه الوحدات فتراتٌ من الازدهار والاندحار. ولما كانت روما في أوجها كانت أثينا مجرد مدينة جامعية. وكذلك إسبانيا هوت إلى مكانة تافهة بعدما بلغت القمة في القرن السادس عشر. وأي صحفي يشعر الآن بالحرية في وصف فرنسا بأنها دولة من الدرجة الثانية، بعد ما كانت في وقتٍ من الأوقات تُوصف بأنها «الأمة العظيمة». ثم إن تنوُّع النشاط البشري يشكل هنا مشكلة من المشكلات. ذلك أن «ازدهار» حضارةٍ ما ليس ثمرة زهرة واحدة، وإنما هو ثمرة كائن عضوي معقَّد. وقد تزدهر بعض أنواع النشاط البشري في مجتمعٍ معيَّن ويذبل غيرها، وقد يبدو نوع من أنوع النشاط أشد دلالة من غيره كناحية من نواحي الثقافة، وقد يزعم زاعم أن القمة الثقافية التي بلغتها إنجلترا الضئيلة لعهد إليزابث كانت أعلى من القمة التي تسنمتها بريطانيا الغنية القوية في أيام فكتوريا. وقد انتشر التقدُّم الاقتصادي والتكنولوجي الذي عرفه المجتمع الغربي انتشارًا واسعًا في القرنين الأخيرين، حتى لقد بات مستوى المعيشة في إسبانيا المنهارة في القرن العشرين أعلى منه بالتأكيد في إسبانيا لعهد سرفانتيس، ولوب دي فيجا، والكنكستادور. ويكاد الكل يُجمِع على أن القمة الثقافية في ألمانيا من باخ وكانت وجيته إلى الأعمال العلمية والدراسية العظمى التي قامت بها الجامعات الألمانية في القرن التاسع عشر، تسبق في تاريخها القمة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي بلغتها ألمانيا في عهد وليام الثاني أو هتلر.
وبهذا التحذير نُصْب أعيننا نستطيع أن نعود إلى المشكلة التي بدأنا بها. ومن الممكن أن نوفِّق بين الرأي القائل بأن العصور الوسطى كانت بداية، أو كانت فترة الشباب، بالنسبة إلى المجتمع الغربي الحديث والرأي الذي يقول بأن العصور الوسطى كانت في حد ذاتها قمة، وازدهارًا، ونوعًا من أنواع النضج، وذلك بالرغم من المبالغة البادية في هذا النوع من التقسيم التاريخي. وإذا أنت وجَّهت اهتمامك نحو التكامل السياسي والاقتصادي في الجماعات الفرعية الجغرافية في المجتمع الغربي (وأقصد بها القوميات) لاقيت نتيجتين واضحتين في تاريخنا — إحداهما — من التنوُّع الملموس في المدن الحكومية والقبائل والأمم حوالي عام ١٠٠٠ق.م، التي كانت في حالة بدائية من الناحية الاقتصادية، مستقلًّا بعضها عن بعض، إلى العالم الأوحد المتحد، الغني، المركَّب، في الإمبراطورية الرومانية. والنتيجة الثانية من الانحلال الإقطاعي المتطرف والبدائية الاقتصادية في العصور المظلمة، إلى الوقت الحاضر، حيث لا يوجد سوى سبعين وحدة مستقلة منفردة في العالم بأسره، وحيث بلغ التقدُّم الاقتصادي درجاتٍ لم تُعرف من قبل، وحيث تبدو عملية التكامل هذه للكثيرين خطوة في الطريق نحو الدولة العالمية. وإذا أنت وجَّهت اهتمامك إلى المشكلات الصغرى وتفصيلاتها الدقيقة، كتطور نُظُم التمثيل النيابي، أو نمو البنوك، أو التفكير العلمي، وجدت مستوًى منخفضًا يكاد يكون تصدعًا في العصور المظلمة، ووجدت بداياتٍ لا تخطئها في العصور الوسطى اتصل منها التقدُّم بصورةٍ ما حتى العهد الحاضر. وفي مثل هذا الضوء تبدو العصور الوسطى في وضوح شديد بداية للأشياء الحديثة.
وأما إذا أنت وجَّهت اهتمامك بقدْر المستطاع نحو الثقافة الوسيطة ﻛ «كل»؛ نحو ما أسميناه في ضَعف ﺑ «أسلوب العيش»، نحو الأفكار الوسيطة عن الحق والجمال ومكانة الإنسان في النظام العام، لمَا وسعك إلا أن تؤمن بشيء من الرأي القائل بأن العصور الوسطى تستحق باعتبارها درجة من درجات العيش أن تُوضع في مكانةٍ تغاير مكانة الدرجة التي بلغناها اليوم، وإن تكن وثيقة الصلة بها بشكل واضح. إنك لا تستطيع أن تقرأ دانتي، أو أكويناس، أو شوسر، أو أن تتطلع إلى كاتدرائية شارتر، أو حتى أن تدرس مصورًا مفصلًا لإقطاعية وسيطة قائمة بذاتها، دون أن تحس أنك في عالمٍ آخر. ومن الحق أن هذا العالم ربما بدا للرجل الأمريكي في القرن العشرين الذي يكلِّف نفسه مشقة العيش في هذا العالم وفي ذاك، عالمًا أشد اختلافًا من عالمه عن عالم أثينا في القرن الخامس.
وليس بوسعنا هنا إلا أن نشير إلى أحكام عامة عريضة عن هذا العالم الوسيط، وإلى نُبَذٍ عن ثقافة العصور الوسطى، وإلى دلالاتٍ معينة على ذوقها أو طعمها.
فهناك أولًا الوجود المباشر لما هو فوق الطبيعي، وقبول الإدراك العام له. وقد التقينا من قبل بهذا العنصر غير الطبيعي. وهناك في القرن العشرين الملايين من النساء والرجال الذين يؤمنون بالمسيحية إيمانًا صادقًا. وكثيرون منهم يشعرون بالإساءة الشديدة إذا نحن ذكرنا لهم أن إيمانهم أقلُّ ولو قليلًا في شدته عن إيمان أسلافهم في العصور الوسطى. ولكن المؤمنين اليوم قد أبعدوا عنهم حدود ما ليس بالطبيعي، وخضعت نواحٍ بأكملها من حياتهم الواعية للنظم التي نحسَبها طبيعية. إنهم قد يدعون الله أن يُنزِّل عليهم ماء من السماء، ولكنهم إلى جانب ذلك يقرءون النشرة الجوية التي يَعُدُّها المختصون بالأرصاد الذين لا يعتقدون — مهما تكن دياناتهم — بأن الله يتدخل تدخلًا مباشرًا في هبوب الرياح الباردة. وهناك أيضًا ملايين من الرجال والنساء في الوقت الحاضر، لا يدري إلا الله كم يبلغ عددهم، ممن لا يعتقدون خلود الروح البشري، ومِن ثَمَّ فإن فكرة النعيم والجحيم لا تعني لهم شيئًا، أو لعلها تصدم مشاعرهم فعلًا. وهناك عدد آخر أكبر من هذا بكثير ممن أصبح النعيم والجحيم بالنسبة إليهم أفكارًا غامضة حقًّا. إنهم يؤمنون بالخلود، والفردوس، والجحيم، ولكن باعتبارها أمورًا بعيدة، يمكن تأجيل التعرُّف الدقيق إليها إلى ما لا نهاية. وقد فقدت «النار» بصفة خاصة جذوتها بالنسبة إلى كثير من أبناء العصر الحديث. وباتت في رأيهم مكانًا للمذنبين المتميزين وحدهم، كما كانت النار عند الإغريق.
ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى أهل العصور الوسطى. كان الإله — كما أشرنا إلى ذلك من قبل — بالنسبة إليهم حقيقيًّا موجودًا كالجو بالنسبة إلينا، والجنة والنار لكل امرئ، أمرًا أكيدًا كضوء الشمس أو المطر. وكان رجال الفكر في العصور الوسطى في أكثر الأحيان يعتقدون أن الله يُحدِث الأشياء على هذه الأرض طبقًا لنُظُم معينة وُضعت أساسًا لصالح الإنسان — أي إن الكون في أساسه خلقي، ومِن ثَمَّ فإن أمورًا كثيرة معروفة ويمكن التنبؤ بها. كان إلههم إلهًا يُعتمد عليه، بمعنًى يشبه إلى حدٍّ ما ما يؤمن به العلماء المحدثون من أن الطبيعة يُعتمد عليها. وكانت الجماهير تشعر بشيء من هذا الإحساس بالانتظام على الأقل بالصورة التي نسميها الإدراك العام، وإلا لتعسَّر عليهم أن يعيشوا حياتهم اليومية. وقد شاع بين الجماهير في العصور الوسطى، بل وبين المثقفين، بالرغم من ذلك شعورٌ بعدم المعقولية، وعدم اليقين، و«المفاجأة» في الحياة في هذه الدنيا. ويظهر ذلك — على مستوًى واضح جدًّا — في سيادة ما نسميه اليوم الخرافة في العصور الوسطى. ولو تعمقنا قليلًا في آداب العصور الوسطى ظفرنا بمثالٍ لما نقول — كانوا يعتقدون أن البَيض الذي يُوضع يوم الجمعة اليتيمة ينفع في إطفاء النيران، وأن الجنيَّات تجعل اللبن حامضًا، وأن لمسة الملك تشفي من داء الخنازير … إلخ … إلخ. ومن الحق أن كثيرًا من هذه الخرافات لا يزال باقيًا، وأننا زدنا عليها بعضًا من عندنا. غير أن امتداد الخرافة في العصور الوسطى وعمقها تجعل الخرافة في عهدنا تبدو شيئًا تافهًا. وقد أحال انتشار العلوم بين العامة — على أقل تقدير — أكثر خرافاتنا إلى الجانب العاطفي المحض. من ذلك «لمْس الخشب» على سبيل المثال. ونحن لا نعتبر هذه الخرافات — كما كان يعتبرها أهل العصور الوسطى — تفسيرًا للظواهر، أو نظريات أساسية.
إن تأثير ما فوق الطبيعة (وليست الخرافة إلا جانبًا تافهًا غير كريم منها) واضحٌ في عملٍ ينبغي أن يتنبه إليه على الأقل أي فرد يحاول أن يفهم العصور الوسطى. ذلك أن الجحيم، والمطهِّر، والفردوس كانت بالنسبة إلى دانتي في «الكوميديا الإلهية» حقيقة، كما كانت لندن بالنسبة إلى دكنز. والجحيم — كما قيل مرات عديدة — هو أكثر الثلاثة محسوسية. كان دانتي شاعرًا عظيمًا، ولكنه كان كذلك سياسيًّا ممرورًا مبعدًا، رأى بلده فلورنسة وإيطاليا تسير في اتجاهٍ يثير حسه الخلقي. فألقى بخصومه في الجحيم — في كتابه — وكان ذلك عنده جزءًا طبيعيًّا من عملية الصراع، كما كانت الانفجارات المعنوية التي يقنع بها الرجل من أتباع تروتسكي في العصر الحديث. إن صفة الوهم، التي لا يستطيع أن يتحاشاها الرجل الحديث وهو يحاول أن يعالج ما ليس بالطبيعي، لم تكن ماثلة في «جحيم» دانتي. إنه يسوق قارئه إلى جحيمٍ يراها القارئ واقعية حتى إذا ما حاول أحد المصورين أن يرسمها بلون من عنده أزال عنها واقعيتها وجعلها أقل صدقًا. وينطبق ذلك بصفة خاصة على أشهر مصوري دانتي، جوستاف دوري الفنان الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر. ولم يفلح جوستاف إلا في أن يجعل جحيم دانتي «رومانسية» كما نقول، في حين أنها لم تكن كذلك.
إلا أن الكتَّاب الرومانسيين في القرن التاسع عشر — وهنا يقفز إلى الذهن والتر سكوت مباشرة — عثروا على شيء كانوا يبحثون عنه في القرون الوسطى، التي أعادوا إليها سُمْعتها الثقافية الطيبة، وذلك الشيء الذي عثروا عليه أفسدوه بالمبالغة، ولكنه موجود، وهو النغمة الثانية التي يرن صداها في ثقافة العصور الوسطى، وينبغي لنا أن ننبه إليها الأسماع. وهي وجه آخر من قبول العصور الوسطى لما ليس بالطبيعي كأنه طبيعي. إننا نحب أن نقول إن الصدق أغرب من الخيال. ولكنا نحن المحدثين لا نعني بهذا القول أن حياتنا اليومية مليئة بالعجائب وإنما نعني — على سبيل المثال — أن من بين مئات حالات القتل الواقعية التي تُقدَّم إلى محاكمنا لا توجد سوى حالة واحدة تنم عن درجة من الفساد البشري وعن الحيلة التي تفوق الخيال الذي نجده في أغرب القصص البوليسية. أما الغالبية العظمى من حوادث القتل الواقعية فلا تبلغ — كما نعلم — من التشويق مقدار ما تبلغه القصص الخيالية. إنها في الواقع أمور عادية في باب الجرائم. ولو عبَّرنا عن ذلك تعبيرًا عاديًّا، وأخذنا بنوعٍ من النظر الإحصائي الذي يقبله الإدراك العام — وهي النظرة التي تضع الأمثلة في خط بياني تقليدي يبين نسبة التوزيع — قلنا إن مائة في المائة هي في ندرتها كصفر في المائة، والكثرة العظمى تقع حول الخمسين في المائة.
إن الناس في العصور الوسطى لم يكونوا ذوي عقول إحصائية. ونحن نبالغ في التناقض إذا قلنا إن الحالة النادرة — في تقدير الرجل في العصور الوسطى — هي في عموميتها كالحالة المعتادة. ولكنا لا نبالغ كثيرًا في التناقض إذا قلنا إن الحالة النادرة — في تقدير الرجل في العصور الوسطى — هي بالتعبير الإنساني، حالة «نمطية» تدل الإنسان — أو تفوق في دلالتها له — على الكيفية التي يسير عليها الكون، أكثر مما تدل على ذلك الحالة المعتادة. إن الرجل في العصور الوسطى لم يكن يجفل من الحالة المتطرفة، بل كان يتوقعها، ويبحث عنها، ويضعها في فنه صورة ملموسة، وعالم خيال (ولا نحسَب أنه كان يقر بأن هذا العالم مجرد عالم من الخيال) كان يموج بالأهوال والعجائب، وبالأبطال، والأشرار، وغرائب المخلوقات، والقديسين، الذين بلغوا حد الكمال. ولسببٍ ما ترسبت في عقولنا اليوم صور غرائب المخلوقات أكثر مما ترسبت صور القديسين. وعندنا أن جحيم دانتي أشد إقناعًا من فردوسه. ولو أن أولئك الذين تأثروا منا بتاريخ ثقافة العصور الوسطى استحضروا إلى أذهانهم عفوًا نوعًا من التماثيل المحسوسة من العصور الوسطى، لربما كان أقربها إلى الذهن الصنبور الذي نُحت على شكل رأس إنسان مفكِّر الذي تراه في نوتردام في باريس، والذي صُوِّر على آلاف بطاقات البريد.
وهذا الاندفاع في العصور الوسطى نحو التطرف، نحو الغريب أو نحو السامي، كثيرًا ما يُوصف بأنه سعي نحو اللانهائي، واللاغائي، وهو عزوف عن قبول الحدود الظاهرة لعالم الخبرة الحسية المادي. ويحب مؤرِّخو الثقافة المتفلسفون — ويصلح شبنجلر هنا مرة أخرى أن يكون لهم مثالًا محسوسًا — أن يبينوا وجه التباين بين المعبد الإغريقي والكاتدرائية الغوطية. المعبد الإغريقي مربع الشكل يقوم على أرضٍ صلبة، يقبل أبعاد الإنسان المألوفة، وشكله الأساسي لا يزيد في إشارته إلى البطولة وإلى التطلع إلى السماء عن الصندوق. في حين أن الكاتدرائية الغوطية تحلق إلى أعلى، وهي تتجاوز — بالمبتكرات الجريئة كالقبو المدبب والدعامات الطائرة — الحدود الرأسية التي نلمسها في المباني القديمة. وهي تحاول أن تنقل إلى الحجر تشوُّق النفوس في العصور الوسطى إلى اللانهائي. المعبد الإغريقي كعلم الهندسة، والكاتدرائية الغوطية كعلم الجبر. المعبد الإغريقي قابل للواقع، والكاتدرائية الغوطية تتطلع إلى البعيد. المعبد الإغريقي يبدو كأنه من صنْع الإنسان، أما الكاتدرائية الغوطية فتبدو من نمو الغابات.
هذه المباينات صحيحة في أساسها؛ ذلك أن المعبد الإغريقي والكاتدرائية الغوطية شيئان مختلفان جد الاختلاف. والخلاف تعبير — إلى حدٍّ ما — عن نظرتين إنسانيتين مختلفتين إلى الجمال والخير. وقد تزعم أن هناك أسبابًا مادية وفنية جعلت المهندسين المعماريين في العصور الوسطى يبنون على طريقة، والإغريق على طريقة أخرى — لاختلاف الحفلات الدينية التي تتطلب بناء معينًا، واختلاف الوسائل الهندسية الفنية التي تخلق مشكلات مختلفة. ولا ينفي ذلك أن الناس في العصور الوسطى كانوا يتطلبون شيئًا لم يتطلبه الإغريق. كانوا يتطلبون الارتفاع. وقد ألحَّ هذا الطلب على بناة كاتدرائية بوفيه في فرنسا حتى اضطروا إلى إقامة القبة المستحيلة نصف الدائرية ذات الأضلع الكثيرة الباقية حتى اليوم، وحاولوا أن ينشئوا برجًا أشد استحالة، ولكنه لسوء الحظ قد انهار، وكان انهياره أمرًا طبيعيًّا.
وتشبيه الغابة المشهورة — الذي ذكرناه — لا يخلو من التلميح إلى إحدى الحقائق. ولكنا نتجاوز التلميح إلى الإغراق في الخيال إذا قلنا إن أهل العصور الوسطى شيدوا ممرات كنائسهم شبيهة بممرات الغابات لأن أسلافهم من الجرمان والكلت نشئوا في غابة بدائية في المناخ الشمالي، في حين أن الإغريق لم يكن لديهم في بيئة البحر المتوسط هذا النمط. ولكن الكنيسة الغوطية في صورتها النهائية بالتأكيد، لا من حيث خطوط بنائها فحسب، ولكن من حيث تفصيلاتها الزخرفية كذلك — من أوراق الشجر في رءوسها، إلى الرسوم في قبابها، إلى التماثيل التي تبدو كأنها نابتة من البناء كله — أقول إن الكنيسة الغوطية على هذه الصورة تبدو أبسط في تخطيطها، وأكثر تلقائية، من بناء إغريقي، أو بناء من العصر الحديث.
ويقوِّي هذا الانطباع أنه قلَّ من الكاتدرائية الغوطية ما أُنشئ دفعة واحدة. إنما امتدت فترة تشييدها أجيالًا عدة، كلما توافر المال. وكان البناة في كل مرحلة يشيدون طبقًا للنموذج الغوطي الشائع في عهدهم (ونلاحظ هنا أن انتقاء نمط معيَّن من جَعْبة التاريخ، كالدوري، والغوطي، والاستعماري، والتبشيري، وما إلى ذلك، إنما ينحصر انحصارًا تامًّا في الأزمنة الحديثة. وحتى هذه الأزمنة كان الناس دائمًا يبنون على نمطهم المعاصر، كما يلبَسون ممثليهم دائمًا على طراز زمانهم. ولذلك فإن الكنيسة الغوطية التي يُغرم بها هواتها، مثل كاتدرائية شارتر في فرنسا لا تزال تحتفظ في سراديبها بالأقبية المستديرة التي أُقيمت على الطراز الرومانسي السابق للطراز الغوطي، تجد في جبهتها الغربية برجًا جنوبيًّا على الطراز الغوطي القديم البسيط الذي لا تتناوله الزخرفة إلا قليلًا، وبرجًا شماليًّا غنيًّا بزخرفته على طراز أحدث، وتجد في أمكنة أخرى تماثيل وأسقفًا للأبواب، ونوافذ وردية، صنعتها أيدٍ مختلفة كثيرة في عدة قرون، ومع ذلك فالبناء كل رائع، وليس صورة شائهة، وليست كذلك الغابة بطبيعة الحال).
وهذه النغمة الثانية من نغمات الثقافة الوسيطة — سمِّها إن شئت التلقائية، أو الخيال الخصب، أو البحث عن الشاذ، والغريب، والرومانس، أو السعي نحو اللانهائي، سمِّها هذا أو ذلك، فليست هناك عبارة واحدة يمكن أن تحيط بالحقيقة — هذه النغمة تلمسها في كل شيء وسيط. وقد اخترنا فن العمارة مثالًا لها، ولكنها توجد واضحة أيضًا في أدب العصور الوسطى الخصب. كان عقل دانتي بالنسبة إلى العصور الوسطى عقلًا منظمًا، وليس في أسلوبه شيء من التفكك والغرابة، والخصب التي نلمسها في قصص الفرسان الخيالية. ولكن أثر ملحمته في جملتها، إذا قُورن بأثر ملحمة أستاذه فرجيل أشبه بأثر الكاتدرائية الغوطية إذا قُورن بالمعبد الإغريقي، وحتى كتابه العظيم في السياسة، «الملكية» الذي ألَّفه باللاتينية، خليط من التعليل المنطقي والخيال إذا قُورن بالدقة المنطقية فيما كتب أرسطو.
وهناك نغمة ثالثة ترن في ثقافة العصور الوسطى لا تبعث مثل هذا السرور في المعجبين من المحدثين بمثل هذه الثقافة، وتلك هي كثرة حدوث العنف. فلم يكن القتل والموت المفاجئ أمرًا غير عادي للرجل في العصور الوسطى كما هما للرجل في العصر الحديث، ويجب أن نحذر هنا كما نحذر دائمًا في الأحكام العامة الكبرى — إن عاشق العصور الوسطى قد يرد علينا بأن الحرب الحديثة تفتك فتكًا ذريعًا لم تعرفه العصور الوسطى، وأن تاريخ العصور الوسطى لا يروي شيئًا أسوأ مما حدث في معسكرات الأسْر في الحرب الماضية. وهو مصيب بالطبع، ولكنه يجب أن يذكر إلى جانب ذلك نجاحنا الحديث في الطب وفي تموين أعداد ضخمة من السكان. وبرغم كل حروبنا المفزعة استطعنا أن نبقي حتى اللحظة الراهنة على عدد من السكان في الغرب أكبر منه في أي عهد سبق. بيد أن النقطة الأساسية التي نود أن نذكرها هي اختفاء الشعور بدوام الحياة البشرية دوامًا نسبيًّا في العصور الوسطى، بالرغم من الديانة المسيحية؛ فالناس في تلك العصور لم يتوقعوا أن تسير الحياة بغير مخاطرة، بل إنهم كانوا يرون يد الله عندما يصدرون قرارًا عنيفًا. ومن النُّظم الوسيطة المشهورة الحكم بالمبارزة، وهي طريقة كانت تقتصر على المنازعات التي تنشب بين طبقة الفرسان. كان النزاع في نهاية الأمر يُفضُّ بالمبارزة بين المتنازعين أو بين بطليهما. وكانت النتيجة تُعَدُّ تدخلًا مباشرًا من الله الذي يكتب الظفر للحق. وقد حلت النُّظم القضائية تدريجًا خلال العصور الوسطى محل هذه الطريقة، وأمست هذه النُّظم أساسًا لنظامنا الحاضر.
ولسنا بحاجة إلى الإفاضة في هذه النقطة؛ فإن الطبقات العليا، وريثة المقاتلين الخشنين في العصور المظلمة، حافظوا محافظة جيدة في ثقافة العصور الوسطى الأكثر تقدُّمًا على تقاليد العنف التي نشأ عليها آباؤهم. وقد رأينا كيف أن هذه التقاليد قد صيغت تدريجًا في الصورة الهزلية للعنف الذي اتصفت به الفروسية أخيرًا. وقد اشتركت الكنيسة مع الدول الدنيوية النامية في استبدال الإجراءات القانونية النظامية بالالتجاء إلى القوة، تدريجًا. كما أدَّى نمو التبادل التجاري إلى مزيدٍ من حماية التجارة والصناعة، حتى أمكن ترويض البارون قاطع الطريق. وحتى عندئذٍ جلبت المنازعات الاجتماعية الخطيرة في أواخر العصور الوسطى نوعًا جديدًا من العنف، وذلك بالإضافة إلى ما فرضته الأوبئة المريعة، كالموت الأسود في القرن الرابع عشر. وانشغل الأدب والفن فيما بعدُ — كما وصفهما وصفًا رائعًا هويزنجا في كتابه «زوال العصور الوسطى» — بظاهرة الموت.
وإذا نحن ضممنا هذا كله بعضه إلى بعض كان لنا كلٌّ لا يتفق تمام الاتفاق مع بعض ما ذكرناه آنفًا عن العصور الوسطى. إن النغمات التي بينَّاها يمكن أن تتلخص في أنها كانت إحساسًا شاملًا بما في الحياة من قلق وخلل، أو أنها «استنبات» لهاتين الصفتين. عندنا ثقافة لا تكاد تميز بين ما ليس بالطبيعي والطبيعي، ثقافة سذاجة في التصديق واعتقاد في الخرافة، ثقافة تصوُّف غير دنيوي وبدائية — وعنف دنيوي، ثقافة المتطرفات والمتناقضات، ثقافة تتذبذب دائمًا بين البحث عن الكأس المقدسة والبحث عن وجبة الطعام المقبلة. وما الرأي إذن في «الاعتدال» أو في «تجديد» أكويناس؟ أين صفة النضج التي جعلتنا نضع القرن الثالث عشر من بعض وجوهه مع القرن الخامس قبل الميلاد؟ يبدو أن ثقافة العصور الوسطى هذه كانت نوعًا من الطفولة، أو الشباب الصاخب، الذي يرمز له رمزًا ملائمًا تمثال الصنبور الذي نُحت على شكل رأس إنسان مفكر.
ولا بد لنا من الإبقاء على كثير من متناقضات العصور الوسطى، بل هي أبرز في وجودها منها في أية ثقافة أخرى؛ لأن الثقافات الإنسانية كلها تنطوي على عناصر متناقضة، عناصر لا تقوم على منطق واحد، ولكن العصور الوسطى تظهر في تاريخ الغرب كعصر من المتباينات شديدة الوضوح. ومن أقوى الصفات في ثقافة العصور الوسطى صفة التباين والتناقض التي بلغت أعلى درجة من الوضوح في التناقض بين المُثُل المسيحية العليا في ثقافتها الرسمية، والمدرسية والفروسية، و«الواقع الملطخ». ولما كانت العصور الوسطى في أوجها قد أخذت أسلوب الحياة المسيحية مأخذ الجد، بل أخذته مأخذًا حرفيًّا، فإن الخشونة، والعنف، والشذوذ، وكذلك «الرتابة» والركود في كثير من نواحي حياتهم اليومية، ترغمنا على التنبيه إليها.
وإذا كانت صفات النظر إلى العالم الآخر، واعتقاد ما ليس بالطبيعي، والسعي إلى اللانهائي، والعنف، والتباين بين المُثُل المسيحية والعمل الذي ليس كله مسيحيًّا، إذا كان لا بد من بقاء هذه الصفات، فلا بد لنا — مع هذا — من أن نُدخِل فيها تعديلات عديدة. فأولًا: بالرغم من أن جانبًا كبيرًا من ثقافة العصور الوسطى يبدو كأنه ثقافة عصر غير ناضج — ففيه التصديق، وحب التطرف، والصفات البهيجة كجدة الخيال، وانطلاق السرور، والبساطة التي أسرت لبَّ الرومانسيين المتأخرين — إلا أن الاعتقاد بأن ثقافة العصور الوسطى قد بلغت درجة حقيقية من النضج ليس اعتقادًا خاطئًا البتة، ويظهر هذا النضج واضحًا في أي شكل من أشكال الفن في العصور الوسطى تقريبًا. وربما اشتد اهتمامنا عند سرد تاريخ هذه العصور بالمعالجة التحليلية التي أهملت التطور الزمني لثقافة العصور الوسطى. إن العصور الوسطى لم تكن صورة موحدة البتة. كان لها شبابها، ومرحلتها البدائية التي نسميها العصور المظلمة. وقد ازدهرت في القرن الثالث عشر، وهو في نظر المدرسيين الجدد «أعظم العصور». ثم كان لها عصر انهيارها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
وإليكم بعض الأمثلة: كان لعالم «أغاني رولاند»، عالم القرن التاسع كما احتفظت به الملاحم، صفات الشباب، صفات البدائية. كان عالمًا بسيطًا جليلًا من أقوياء الرجال، يعرف كلٌّ منهم حق المعرفة لمن يعطي ولاءه. كان عالمًا بسيطًا من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، بقدْر ما نستطيع التوغل في هذه الأمور، ولكني لا أحسَب أن أحدًا عاقلًا يسمي العالَم الذي تصوره الكوميديا الإلهية لدانتي عالمًا بسيطًا شابًّا. كان دانتي — كما كان أكويناس — رجلًا ناضجًا يعيش في حضارة غاية في التعقيد. وإذا وصلنا إلى القرن الخامس عشر وجدنا شاعرًا مثل فرانسوا فيون، الذي نجد في إنتاجه وعيًا بعالمٍ بلغ سن الشيخوخة، كان فيون يعيش في العالم السفلي من باريس، التي تم تمدينها. وكتب عن المتسولين واللصوص، والعاهرات، ممن ليس لديهم ذرة من براءة. كان رجلًا مثقفًا في مجتمعٍ لم يَعُد معنَى المثقف فيه أن يكون بالضرورة قسيسًا، له — تبعًا لذلك — مركز ثابت في المجتمع. كان مثقفًا انحدر إلى أدنى السُّلم. وللفرنسيين تعبير أفضل من هذا، فهم يقولون ما معناه: «هبط من طبقته.» وإن حياة عملية كالتي عاشها فيون لم تكن ممكنة إلا في مجتمع أدركته الشيخوخة فعلًا.
وهذه الدورة من الشباب إلى الشيخوخة تظهر على أوضح صورة في فن بناء الكنائس في العصور الوسطى؛ فهذا الفن في بدايته يتبين في الأقواس المستديرة الرومانسية الثقيلة في الفترة الأولى من العصور الوسطى. وباختراع القوس المدبَّب يبدأ الفن الغوطي الصحيح. وفن البناء الغوطي في عهده الأول — الذي يَعُدُّه بعضهم اليوم ذروة هذا الفن — بسيطٌ نسبيًّا. وهو يقنع بتسقيفٍ أخفَّ وأعلى من الرومانسي، وهو تسقيف لا يجاهد فيما يبدو في سبيل الارتفاع. والنحت فيه طبيعي رشيق، خاضع لخطوط البناء. وتماثيله قد أُعدَّت كذلك بمهارة لتقابل هدف المهندس المعماري. وأحسنها — كتلك التي تراها مثلًا في الجبهة الغربية في شارتر — تتميز بتلك الصفة التي يطلق عليها مؤرخو الفن البدائي، وهي صفة تجدها كذلك في النحت الأثيني قبيل عصر فيدياس العظيم. ولا تزال زخرفة النوافذ بسيطة، وربما كانت هذه الزخرفة في الحجر أيسر علامة يستدل بها الرجل العادي على فترة غوطية معينة. ويأخذ الطراز تدريجًا في التعقيد وفي زيادة الزخرفة. وهناك فترة متوسطة ناضجة يستخدم فيها مهندسو العمارة الدعامات السامقة وغيرها من الحِيَل استخدامًا جريئًا يمكِّنهم من طبع المشاهد بأثر الارتفاع العظيم، ومن نشْر الضوء في كنائسهم من عدة نوافذ. إن فن النحت يبلغ كمًّا لا يختلف عن واقعية الإغريق، ولكنها واقعية سامية أخرى لا تجد فيها أثرًا من التحريف البدائي لأعضاء الجسم الإنساني. على هذه الصورة نجد — على سبيل المثال — التماثيل في كاتدرائيات أميان وريمز. هنا نجد كذلك زخرفة النوافذ أكثر حرية، وأشد انطلاقًا، وأكثر زينة.
ولما تَحُلُّ القرون الأخيرة في العصور الوسطى نجد زيادة في النضج، وهو دليل على أن طراز البناء قد أدركته الشيخوخة؛ فهناك جهاد نحو بلوغ ارتفاع مستحيل — وبخاصة في فرنسا — وهو ارتفاع يجلب الكوارث، كما حدث عند سقوط البرج المركزي في بوفيه. كما أن الزخرفة، داخل البناء وخارجه، تخرج عن سلطان اليد، حتى إنك لتجد الجبهات الغربية — كجبهة روان — مزخرفة كأنها كعكة العرس. ولم تَعُد العذراء تبتسم ابتسامًا طبيعيًّا، وإنما ابتسامتها تفوق الوصف. وهنا أيضًا نجد الطبيعي محرفًا، ولكنه تحريف ميلودرامي، وليس تحريفًا بسيطًا كما كان في العصر البدائي. أو قُل إن التحريف كان «واقعيًّا»، وتبدو العذراء شبيهة بفتاة ريفية جذابة. وزخرفة الحجر في النوافذ، التي توحي إيماء مركبًّا باللهب، هي بداية الصفة التي كانت تُسمَّى في فرنسا خاصة بالفترة «الملتهبة» من الفن الغوطي المتأخر. وهذه الصفة — الملتهب، أو الزاهي — أدَّت بهذه الطريقة إلى الإيحاء بالمبالغة في التعقيد وفي التظاهر. أما في إنجلترا فإن الغوطي المتأخر لم يحذُ حذو النماذج الفرنسية في تطلعها إلى الارتفاع الشاهق. وأولئك الذين يعتقدون أن الإنجليز معتدلون بالوراثة يحبون أن يقولوا إن من خصائص المهندسين المعماريين الإنجليز ألا يحاولوا قطُّ بناء القباب والأبراج الشاهقة كما فعل الفرنسيون. ولكن الفن الغوطي الإنجليزي — مع ذلك — ينم عن المبالغة التي يتصف بها الطراز الفني بعدما يستنفد أغراضه. ونحن نجد زخرفة النوافذ — في هذا الفن الغوطي الإنجليزي في نهاية عهده — تتأثر بالخطوط الرأسية، بدلًا من تأثرها باللهب، وتُسمَّى ﺑ «العمودية». وهكذا نجد أن العمودية الإنجليزية في زخرفتها متأثرة أشد التأثر بفكرة الارتفاع، وهي تعبِّر عنه في زخرفة النوافذ وفي قباب المباني.
وكذلك يستطيع المرء أن يلمس في كثير من أوجه الحياة الثقافية الأخرى في أواخر العصور الوسطى هبوطًا عن ذلك الاتزان والنضج مما اتصفت به في أوائلها. وحتى في التفكير الفلسفي الشكلي، بدأت المدرسية — بعدما بلغت أوجها في القرن الثالث عشر تتخلَّى عن اعتدال أكويناس، وتنسج حججها في منطقٍ يفتت الشعرة مما أعطى خصومها الإنسانيين في عهد النهضة أسلحةً ماضية للهجوم عليها. وقد لاحظنا من قبلُ كيف أن الفروسية في تدهورها أمست سلسلة من الأعمال منفصلة عن الحياة الجديدة من حولها.
بقيت مشكلة أقل خطورة مما قد تبدو لأول وهلة؛ ذكرنا أن العصور الوسطى وبخاصة في عهدها العظيم كانت مجتمعًا به من الأوضاع ما يكفل للفرد فيها مكانة مطمئنة، مجتمعًا يعرف المرء فيه واجباته، وحقوقه، و«جذوره». كان الإنسان في العصر الوسيط — على نقيض مجتمعنا الحديث المتنافس — كما بينا من قبل على هدوء من العقل، لا يجده أكثرنا نحن أبناء هذا العصر الحديث، ومع ذلك فإن مميزات العصور الوسطى كما حاولنا أن نلخصها توحي بأي شيء إلا الاتزان، والاعتدال، والطمأنينة. ذلك أن الإنسان في العهد الوسيط يبدو في الظاهر غير مطمئن إلى درجةٍ لا تُحتمل، وهو يكافح في سبيل اللانهائي، وما يفوق الوصف، ويتوقع المعجز كما توقَّع المستقر بالإحصاء، ويعيش في عصر العنف والموت المفاجئ، لا يتحرر قطُّ من خوف المجاعة والمرض، ولا يحتمي حماية كافية بما لا يزيد إلا قليلًا على العادات والمشاعر الدينية من إساءة السلطات الإقطاعية لاستخدام النفوذ.
ويخفف من حدة هذا التناقض ثلاثة اعتبارات؛ الأول: أن الاتزان الذي لمسناه في الحياة الوسيطة لم يبلغ ذروته إلا في فترة وجيزة، عندما بلغت ثقافة العصور الوسطى أوجها في القرن الثاني عشر، والثالث عشر، وأوائل الرابع عشر. وحتى آنئذٍ كان هناك قدْر كافٍ من العنف وعدم الاطمئنان، ولكنه لم يكن عنفًا وتغيُّرًا على درجة من سعة الانتشار كالتي نجدها في القرن الخامس عشر، الذي كان زمنًا من المتاعب للإنسان في الغرب بصورة واضحة.
والاعتبار الثاني: أن تلك العبارة التي استعملناها آنفًا، وهي «ما لا يزيد إلا قليلًا على العادات والمشاعر الدينية» تحرِّف الأمور تحريفًا حديثًا مضلِّلًا. وأقول هنا مرة أخرى إن العادات والمشاعر الدينية كانت لها قوة تفوق في شدتها كثيرًا ما نستطيع نحن المحدثين أن ندركه. انظر إلى العلاقة بين السيد الإقطاعي والرقيق، إذا اعتدى السيد على الرقيق بالضرب، أو أغوى ابنته، أو استولى على ما يملك من أرض، فلم يكن هناك في أكثر الغرب الوسيط محاكم، أو قوة للشرطة، أو تنظيم مدني، يستطيع الرقيق أن يلجأ إليها لرد حقه، لم يكن هناك «دستور»، ولم يكن هناك «قانون يكفل الحقوق» بالمعنى الحديث. وحتى «الميثاق الأعظم» في إنجلترا الذي أُعلن في عام ١٢١٥م لم يكن في الواقع وثيقة قانونية لحماية الرجل العادي. بيد أن أكثر السادة لم يعتدوا في الأغلب بالضرب على الرقيق، أو يغووا بناتهم، أو يسلبوهم عيشَهم. وهناك مجموعة بسيطة واحدة من الحقائق تثبت ذلك، وتدحض الفكرة الشائعة بأن العصور الوسطى كانت فوضى من الفقر والمظالم تحرَّر منها الغرب بطريقة غير مفهومة إلى حدٍّ ما بالنهضة والإصلاح الديني؛ فقد أخذت حالة الفلاح الأوروبي في الغرب تتحسن باطراد منذ القرن الحادي عشر، بالرغم من الحروب الخاصة، ومن الأوبئة، والمجاعات، وحماية التجارة حماية ناقصة، وذلك على الأقل حتى انتهاء الاقتصاد الإقطاعي الذي كان يقوم نسبيًّا على الاكتفاء الذاتي، عندما بدأ الانتقال من هذا الاقتصاد يتمخض عن القلق الحديث الذي يرتبط بالإنتاج من أجل البيع بالمال. إن الرقيق في فرنسا وفي إنجلترا بلغوا بالتدريج مرحلة الأحرار، لا عن طريق قانون يكفل التحرير الشامل كما حدث في روسيا في القرن التاسع عشر، ولكن عن طريق التأثير البطيء للتطورات الاقتصادية والقضائية التي مكَّنت الرقيق الأوروبي في الغرب أساسًا من «اكتساب» حرياتهم. وما كان لهم أن يستطيعوا ذلك في مجتمع فوضوي دون قوة القانون والعادة الثابتة، أو في مجتمع طبقي ثابت ثبوتًا مطلقًا، بطبيعة الحال.
وأخيرًا، وأهم مما سبق وإن يكن أشق ما يكون علينا إدراكه، أقول إن الاطمئنان في حياة العصور الوسطى كان أمرًا يختلف جد الاختلاف عما نفهمه من الاطمئنان في منتصف القرن العشرين؛ فقد كان الفرد في العصور الوسطى لا يطمئن إلى نوعٍ من الحياة فوق الأرض كذلك الذي نَعُدُّه منحة أُعطيت لنا. لم يكن يتوقع ما عندنا من أسباب الراحة المادية أو أسباب الترف، ولم يتوقع أن يتجنب الجدري بالتطعيم، ولم يكن يتوقع الطرق الجيدة، ولم يكن يتوقع — بإيجاز — ألوفًا من الأشياء التي نسلِّم بها. كان يألف حياة شاقة (كما نظنها)، وكان يألف العنف والقلق. ولم يؤدِّ به شيء في فلسفته — وأنا أستخدم الفلسفة هنا بمعنى الاسترشاد، حتى بالنسبة إلى الرجل العادي — إلى أن يتوقع إمكان أن تكون حياته على الأرض مختلفة فعلًا عما كانت عليه دائمًا. ولا تعني أمثال هذه العقائد أن الإنسان الوسيط لم يتوقع شيئًا ما، وأنه لم يكن قطُّ ساخطًا؛ فإن عشرة الزوجة المتمردة كانت لا تَسُرُّ في القرن الثالث عشر كما لا تَسُرُّ في القرن العشرين.
ولكن الزوج في القرن الثالث عشر من أي طبقة من المجتمع كان لم يكن يحلم بمحاولة طلاق زوجته بسبب «القسوة المعنوية»، أو في الواقع لأي سبب آخر — وهذا هو لب الموضوع. كان الزواج عنده يُبرم في السماء، حتى إن كان إبرامه ناقصًا. وقد جعل الله الزواج أمرًا لا ينحل. وكذلك كانت الحال في أوجه كثيرة أخرى من الحياة الإنسانية، مما نميل إلى أن نَعُدَّه من النُّظم التي يستطيع الإنسان أن يعقدها أو يَحُلها بإرادته الخاصة، وتحت مسئوليته الخاصة. كانت حياة الفرد في العصور الوسطى في كثير من جوانبها تخرج من يديه، وهي بين يدَي الله الذي ينفذ إرادته عن طريق المجتمع. ونعود إلى تلك الحقيقة التي ليس منها مفر، وهي تغلغل النظرة المسيحية في الحياة في العصور الوسطى. ولم تكن النظرة المسيحية عندما بلغت كمالها بالجهاد الروحاني — وذلك بالرغم من أن العصور الوسطى قد أفسحت كذلك مجالًا طبيعيًّا لا نفسحه له اليوم — ولكنها النظرة المسيحية التي تتمثل في قبولها العالمَ باعتباره مكانًا للامتحان، وللعمل الشاق والأحزان للنفس الإنسانية. ولم تَرِد العبارة الآتية المشهورة على لسان دانتي عرَضًا:
«في إرادته سلامنا. وهذه الإرادة هي المحيط الذي يتجه نحو كل شيء مما تخلقه أو مما تصنعه الطبيعة.»
ولا مِراء في أن وعد المسيحي بالخلاص في حياة أخرى للرجل — أو المرأة — الذي يعيش في هذه الدنيا طبقًا لتعاليم الكنيسة يساعد على تفسير تأثير المسيحية في نفوس الناس في العصور الوسطى. أما الاعتقاد بأن الدِّين أفيون فهو من خلْق العقل الحديث الذي يرى — أو يأمل — ألا تكون الآلام من طبيعة الأمور. والمسيحية للرجل في العصر الوسيط لم تَعِد بحياة أفضل في عالم آخر فحسب، إنما أكسبت حياة العنف القلقة هذه، وحياة الجهاد، والنقص، والحاجة في الدنيا، معنًى وحدودًا وأهدافًا، أوشكت أن تسد الفجوة عند أكثر الناس بين ما لديهم وما يحتاجون إليه. كان الرجل في العصر الوسيط أقرب منَّا إلى «الاستسلام» لعالمٍ لا يستطيع أن يغيره كثيرًا. كان يشعر بالطمأنينة وسط ما نَعُدُّه نحن انعدام الطمأنينة: العنف، والحاجات المادية، والمشقة، بل والمخاوف التي تتولد عن الجهل بما نَعُدُّه ظواهر طبيعية. وإنما كان يحس هذه الطمأنينة لأنه كان يدرك ضعفه إدراكا قويًّا. ولم يكن يخجل من ضعفه، ولم يكن هذا الضعف يزعجه. إنه لم يكن خطأه، ولم يكن، من الناحية الإنسانية، خطأ أي فرد آخر — ومن المؤكد أن أحدًا لم يستطِع أن يخرج على الدِّين إلى حدِّ أن يعزو إلى الله الخطأ. كان الرجل في العصر الوسيط «يحس» الحق في العبارة التالية التي جرت على لسان أحد الفلاسفة المتأخرين، وأعني به ليبنتز، ولم تعد عنده أن تكون مجرد تعبير فكري لا ينم البتة عن الإخلاص، وتلك العبارة هي أن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة. إنه ليس بالعالم السعيد، وليس بالعالم القانع؛ لأنه إن كان كذلك لاحتل الناس مكانة الله بغير حق. إنه في بساطةٍ عالمُ الله.