صنع العالم الحديث: (ثانيًا) البروتستانتية
كان مارتن لوثر راهبًا أوغسطيًّا. وبين مارتن لوثر وأوغسطين ملاءمة في الصلة العقائدية، وإن لم تكن في هذه الملاءمة بطبيعة الحال علاقة سببية. وقد رأينا أن عمل القديس أغسطس الذي شغل حياته كلها قد جعله مِن عُمُد الكنيسة الكاثوليكية، بيد أن شخصيته — بالرغم من ذلك — تنطوي على ذلك الجهد الصوفي الذي يهدف إلى الكمال، والذي كان دائمًا يقدِّم المشكلات للأفراد الأقل قداسة الذين تقع على عواتقهم إدارة الأمور في هذه الدنيا. وليست الحركة البروتستانتية — بمعنًى من معانيها الهامة — سوى مظهر آخر لِما بينَّا بالتحليل من قبلُ أنه التوتر المسيحي الشديد بين هذه الدنيا والدار الآخرة، أو بين الواقعي والمثالي. ولسنا بحاجة نحن المحدثين إلى أن نذكر بأن لوثر وكالفن وزوينجلي كانوا يتزعمون حركاتٍ تختلف اختلافًا شديدًا في هدفها وتنظيمها عن محاولات العصور الوسطى لإصلاح الشعائر الدينية القائمة. وذلك لسبب واحد وهو أنهم نجحوا في إقامة الكنائس، وقد أخفق وايكليف وهس من قبلُ في إقامتها. ونستطيع من ناحية أخرى أن نقول إن الكنيسة الكاثوليكية لم تستأنسهم أو تمتصهم كما فعلت ﺑ «الإخوان الفقراء».
ولسنا بحاجة إلى التذكير بالدور الذي لعبته النُّظم الاقتصادية، والقومية، وشخصيات الزعماء، في التفريق بين الثورة البروتستانتية وحركات الإصلاح في العصور الوسطى. بل ربما كنا في حاجة إلى التذكير بأن البروتستانتية — مهما بلغت من العمق مشكلاتها الاقتصادية والسياسية — قد اكتسبت قلوب الناس وأفئدتهم برجوعها إلى التقاليد المسيحية. وحتى من الناحية الشكلية يَصدُق هذا القول، وليس الشكل البتة من الأمور التي ليست بذات أهمية. وقد أصر المصلحون البروتستانت جميعًا على أنهم لم يكونوا مجددين، وإنما كانوا يرجعون إلى يسوع والكنيسة الأولى، وهي الكنيسة المسيحية «الحق».
وقد كان احتذاؤهم — باعتباره عملًا يراه المشاهِد المحايد — يختلف جد الاختلاف عن احتذاء القديس فرانسيس. وإذا كانت البروتستانتية هي مجرد مظهر من مظاهر جهد المسيحية في الارتفاع بطبيعة الإنسان البدائية، فيجب أن نذكِّر أنفسنا بأن هناك طرائق عدة تظهر فيها هذه الطبيعة البدائية، وطرائق عدة لمحاولة الارتفاع بها. ويجب أن نسأل أنفسنا عما كان جديدًا في بروتستانتية أوائل القرن السادس عشر — جديدًا بالرغم من أن صانعيه كانوا يحسبونه قديمًا. وعناصر الجدة هذه تسير بنا شوطًا بعيدًا نحو تفسير السبب في أن طوائف البروتستانتية أمسَوا كنائس طائفية بدلًا من أن يكونوا مجرد جماعات متزندقة تحيا حياة خفية على أية صورة من الصور، كما كان اللولارد والهوسيت.
ولكنا يجب أن نسجل أولًا أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ذاتها كانت تخضع في القرن الرابع عشر — وفي القرن الخامس عشر خاصة — للضغط من فترة القلاقل التي كانت في ذلك الحين تشير إلى تدهور ثقافة العصور الوسطى. وكما أن مباني الكنيسة قد أخذت كثرة الألوان الزاهية عن الطراز الغوطي الذي زاد في نضجه، فكذلك اتجهت حياة الكنيسة اتجاهًا أكثر دنيوية، وأشد انحلالًا، وفقدت ذلك الاتزان الدقيق الذي ساد في عصر أكويناس؛ فقد غالى المدرسيون في جدلهم الفارغ، وتنوَّعت نُظُم الأديرة، وزاد عدد رجال الدين الذين ليسوا من الدين في شيء، أو على الأقل باتوا أقوى ظهورًا على مسرح الحياة. ونستطيع بصفة عامة أن نقول إنه ليس هناك أي نظام من النظم يبلغ من السوء مبلغ ما يصوره خصومه — وبخاصة إذا كانوا ناجحين في حملتهم. فالنظام القديم في فرنسا لم يكن من السوء كما يصوِّره رجال الثورة الفرنسية. ولم يكن جورج الثالث بتاتًا ذلك الحاكم المستبد الذي يرسم الثوار الأمريكيون صورته. ولم تبلغ كنيسة البابا إسكندر السادس (رودريجو بورجيا) البتة من سوء الخُلق ما بلغ ذلك البابا المفتري، ولم تكن البتة تلك الحمأة من المظالم كما تصوِّرها الدعاية البروتستانتية. إن التاريخ — كصحفنا اليوم — يحب العناوين الكبرى. ولكن العادي الذي لا يستحق الرواية في الصحف يوجد بالرغم من هذا. وكم من قسيس أو راهب هادئ في القرن الخامس عشر عاش عيشة مسيحية كما عاش أسلافه في القرن الثالث عشر.
وبالرغم من هذا فقد كان هناك في الواقع تدهور في المستوى العام للحياة المسيحية والنُّظم المسيحية — وتدهور أكيد في قممها — في السنوات الأخيرة من العصور الوسطى. وقد بُذلت الجهود لانتشال الحياة من هذا التدهور؛ فكانت هناك الثورات العلنية التي سبقت لوثر، وبخاصة ثورة وايكليف في إنجلترا، وهس في بوهيميا. وإنك لتجد كثيرًا من الآراء، وكثيرًا من طرق التنظيم التي لجأ إليها البروتستانت المتأخرون كامنة في هذه الحركات. وهنا تجد من غير شك ما يسميه المؤرخ — في غير دقة — ﺑ «المؤثرات». ألم يعترف لوثر نفسه — كارهًا — بفضل هس عليه؟
ويجب أن نذكر ثانيًا حركة إصلاح الكنيسة من داخلها بالوسائل التي نسميها اليوم دستورية، وهي الحركة التي قامت بها المجالس الدينية في القرن الخامس عشر، والتي تمخضت عن كتابات كثيرة يقدِّرها مؤرخ الفكر السياسي قدْرًا كبيرًا. وكان هؤلاء المفكرون من رجال الدين في الفترة الأخيرة من العصور الوسطى، ويمثلهم جين جرسون، لا يزالون يعملون في إطار من أفكار العصور الوسطى. وتستطيع أن تستمد من جرسون شيئًا يشبه أن يكون مشورة مقننة لدستور مختلط، تمتزج فيه عناصر الملكية، بالأرستقراطية، بالديمقراطية المعتدلة. وقد كانت هذه المشورة المقننة جذابة دائمًا للمعتدلين العقلاء من الرجال، من أرسطو إلى منتسكيو والإنجليز لعهد فكتوريا. وقد كان جرسون وزملاؤه يؤمنون إيمانًا علميًّا كاملًا «فيما ينبغي أن يكون» في غير إسراف، وبالعقيدة الوسيطة الكاملة بأن الله قد قدَّر الإدارة الصحيحة للكون في جلاءٍ لا يعجز أي رجل معقول أن يدركه. ولما كان أعضاء الحركة الدينية يجتمعون في الواقع في مجالس تصطدم اصطدامًا عنيفًا بالبابوات، فإنهم بذلك قد أدَّوا واجبهم نحو تمهيد الطريق لحركة الإصلاح الديني. إنهم لم يفلحوا في إخضاع البابا لهيئة من رجال الدين تشبه المجلس النيابي، ولكنهم تحدَّوا القوة النامية للبيروقراطية الرومانية. غير أن ألفاظهم، واتجاهاتهم، كان ينقصها المرارة والعنف والرجوع صراحةً إلى ميول الجماهير كما كان لوثر. كانت تنقصهم الدفعة الثورية التي تميَّز بها كالفن، وكانت تنقصهم اللمسة القوية الواقعية — التي نألفها اليوم — كما كان ميكافيلي. ولا نريد بهذا أن نقول إن جرسون وزملاءه كانوا إلى العصور الوسطى أقرب منهم إلى العصر الحديث، وإنما نريد أن نقول إنهم كانوا أمثلة لتلك الظاهرة الغريبة الدائمة، وجود المثالي والمصلح المعتدل، رجل الألفاظ الرقيقة.
ولا مراء في أن الألفاظ يمكن أن تكون لها آثار عملية في هذا العالم — عالم العلاقات الإنسانية. وهي لا تنقلب إلى أعمال وحدها، وفي ذلك تشبه الغاز في آلة الاحتراق الداخلي الذي لا يتفجر وحده. وقد أبيت (في الفصل الأول) أن أنساق بشدة إلى شكل الجدل المعاصر الذي ليس من ورائه جدوى: أقصد الجدل في أيهما أسبق البيضة أو الكتكوت — أي الجدل في التفسير الاقتصادي للتاريخ. وليست بنا حاجة إلى التساؤل عما إذا كانت الآراء البروتستانتية هي التي أدت إلى التغيرات الاقتصادية، أم إن التغيرات الاقتصادية هي التي أدت إلى الأفكار البروتستانتية؟! وأود أن أحذِّر القارئ بأن الإصلاح البروتستانتي هو أحد الميادين الكبرى للعراك في الجدل بشأن الحتمية الاقتصادية، وأنا في هذا الكتاب آخذ بوجهة النظر التي ترى أن التغيرات الاقتصادية، التغيرات في الطريقة التي يؤدي بها الناس في المجتمع الغربي أعمالهم اليومية، عنصر هام في النظام الاجتماعي بأسْره الذي أفلح فيه الإصلاح البروتستانتي. هذه التغيرات — إذا استعرنا المصطلحات الطبية التي تستحق رجوع القارئ إلى المعاجم — جانب من المرض (سندروم) لا نعرف أسبابه معرفة كاملة. إن التغيرات الخطيرة، كتلك التي تترتب على تحويل الاقتصاد الإقطاعي المكتفي بذاته إلى اقتصاد نقدي يقوم على تجارة واسعة، تغيرات تتوقَّع أن تصاحبها وتعقبها تغيرات خطيرة في جميع ميادين الحياة البشرية. إننا لا نتوقع أن تُصطحب هذه التغيرات بالضرورة بإصلاح بروتستانتي، أو أن يعقبها مثل هذا الإصلاح، كما حدث فعلًا؛ فإن تغيرات مشابهة في أنواع بسيطة من الاقتصاد غير الأوروبي في الأزمنة الحديثة — في اليابان مثلًا — لم يصاحبها إصلاح بروتستانتي، وإنما صاحبتها تغيرات مختلفة أخرى.
إن أبسط تفسير اقتصادي للثورة البروتستانتية — يسبق ماركس بفترة طويلة — وربما عبَّر عنه تعبيرًا قويًّا الثائر الإنجليزي وليام كوبت، الذي عاش في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. يقول هذا التفسير إن الكنيسة الكاثوليكية في كل مكان قد أثرت ثراء عريضًا خلال العصور الدينية الوسيطة من تبرعات الواهبين الأغنياء الذين كانوا يتوقون إلى أن يضمنوا لأنفسهم مكانة في السماء، وقد تطلَّع الملوك والأمراء وأتباعهم من الطبقات الحاكمة ممن كانوا باختصار في حاجةٍ ملحة إلى المال، إلى هذه الثروة، وحقدوا على أصحابها، فاغتنموا الآراء المجردة التي جاء بها لوثر ورفقاؤه في العمل، واتخذوها وسيلة لكي يبرهنوا للعالم أن اغتصاب أموال رجال الكنيسة أمرٌ لا غبار عليه. وكانوا مَدينين دينًا عظيمًا للطبقة الجديدة من التجار والممولين، فتمكنوا من سد جانب من الدَّين من الأراضي والملكيات الأخرى التي استولوا عليها من الكنيسة. وهكذا نشأت طبقة حاكمة جديدة جشعة في المال، وعنها خرج الرأسماليون في العصر الحديث.
وهذا التفسير كله ينطبق تمام الانطباق على التجربة الإنجليزية. أما في ألمانيا فقد كان الأمراء أصحاب الأراضي هم المنتفعين الأساسيين من تجريد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية من أملاكها. وفي فرنسا — حيث لَعِب الإصلاح الديني دورًا هامًّا وإن لم يكن دور الظافرين — لم تكن المغامرات الاقتصادية بكل هذا الوضوح، وليس هناك — فوق ذلك — دليل على أن الطبقات الحاكمة في أكثر أنحاء أوروبا التي بقيت كاثوليكية كانت أقلَّ جشعًا أو أقل احتياجًا إلى المال من تلك الأنحاء التي تحولت إلى البروتستانتية؛ فقد كان الأمراء الإيطاليون في حاجةٍ إلى المال كما كان الألمان. وحتى التاج الإسباني قد شهد ثروة العالم الجديد وهي تتسرب، وعانى أزمة مالية حادة. ومن الجلي أننا بحاجة إلى تفسير أدق. وقد أمدنا به الماركسيون.
كانت هناك أولًا — طبقًا للتفسير الماركسي — سلسلةً كاملة من التغيرات المادية الاقتصادية (ودعنا في هذه الآونة لا نسأل عن السبب في هذه التغيرات العنصرية) تعزِّز الاقتصاد التجاري الجديد، ويدير هذا الاقتصاد الجديد — أو يفيد منه على الأقل — رجال المال، والتجار، وهم طلائع طبقة تهدف إلى الشهرة أو النفوذ، هي طبقة البرجوازية. ولم يكن بوسع هؤلاء الرجال أن يتعايشوا مع الطبقة الحاكمة الإقطاعية القديمة، التي حددت عاداتهم العقلية والبدنية مراكزهم كأعيانٍ يملكون الأراضي. والطبقة الإقطاعية القديمة تفرض الضريبة على التاجر، وتحط من شأنه، وتخدعه وتعاون الكنيسة على محاولة فرض تلك الآراء الطبقية التي تدعو إلى اعتدال الأسعار، وتحريم الربح باسم الربا، وكل اتجاهات العصور الوسطى إزاء التجارة مما سبق لنا تحليله عند الكلام على نظريات العصور الوسطى في العلاقات الإنسانية. ولم يكن التاجر الجديد يريد إلا أن يشتري في أرخص الأسواق ويبيع في أغلاها. ولم يكن يريد أن يكون لعماله أبًا أو حاميًا. إنه لم يُرِد بالنسبة إليهم إلا أن يكون صاحب العمل. وقد بدرت بالفعل حوالي عام ١٥٠٠م بادرة التاجر الحديث بصورة ملموسة. ومن الطبيعي أن يستغل البروتستانتية ضد كنيسة تحاول أن تفرض طرقًا اقتصادية تناقض مصالحه، ومن الطبيعي أن تنجح البروتستانتية في أجزاء من أوروبا حيث كان التجار الجدد، وأن تفشل حيث لم يصيبوا نجاحًا. وكانت إنجلترا المتقدِّمة وهولندا مثلًا تعتنق البروتستانتية، في حين لبثت إسبانيا ونابلي المتخلفة كاثوليكية.
وقد أضاف العالم الاجتماعي الجرماني المشهور ماكس وبر قوة جديدة إلى التفسير الاقتصادي. إن وبر يقبل جانبًا من التفسير الماركسي وبخاصة تأكيده للنضال الطبقي، واعتناق الطبقة الوسطى الناشئة للبروتستانتية. غير أنه يزعم أن النظرة البروتستانتية إلى الحياة، وأن المُثُل البروتستانتية الخلقية، لم تَرُق لمحبي المال الجشعين لمجرد كونها تبريرًا لسلب أملاك الكنيسة الكاثوليكية (وهي نظرية كوبت)، بل إن هذه الآراء البروتستانتية — في زعمه — هي أنني شكلت أولئك الذين اعتنقوها وأهلتهم لجمع المال، وكوَّنت منهم الطبقة الوسطى التي نعرفها جميعًا. إن فكرة لوثر بأن كل أمرئ له عمل يفرضه عليه الإله، وأن أداء هذا العمل من إرادة الله، هذه الفكرة عاونت على تكوين النظريات الأخلاقية التي آمن بها التاجر الحديث. غير أن كالفن في الواقع هو الذي كان المصدر الحقيقي لهذه النظريات الخلقية. وفي البلدان الكالفنية تم في هذه القرون الأولى ادخار رأس المال الذي موَّل الثورة الصناعية فيما بعد. إن الكالفنية لم تبشِّر بكرامة العمل فحسب، بل أصرت عليه؛ لأن الشيطان يترقب الأيدي العاطلة، والعمل جزء من دين الإنسان للإله القوي الجبار. وكان النجاح في العمل دليلًا على رضى الرحمن، والربح بطبيعة الحال مشروعًا. ومِن ثَمَّ فإن الكالفني يَجِدُّ ويجتهد ويكوِّن الدخل. أما من ناحية الإنفاق فالكالفنية لا تشجِّع البذخ، أو التظاهر، أو الرياضة، أو زينة الكنائس — أو هي بإيجاز لا تشجع الصرف إلا في ضرورات الحياة الفاضلة المتينة. ولما كان الدخل يزيد على الإنفاق فالكالفني يدخر. وهذا الادخار هو رأس المال الذي يعود إلى التجارة. وهكذا يصبح الكالفني رأسماليًّا، رجلًا ثريًّا، ولكنه يدخل الجنة كذلك، وهو فوق ذلك سعيد كل السعادة لأن النبيل الذي استغرق في الديون والذي كان يتكبر عليه ويؤذي شعوره من قبلُ لم يمسِ فقيرًا فحسب، وإنما كُتب عليه الجحيم كذلك لأنه ليس بالكالفني.
لقد ابتذلت في العبارتين الأخيرتين نظرية وبر إلى حدٍّ ما، ولكني عرضتها عرضًا واضحًا في خطوطها العريضة. إن الحجج التي تُساق — على وجه الإجمال — لتفسير نشأة البروتستانتية ونموها تفسيرًا اقتصاديًّا مقنعة للغاية. غير أن هناك أمرًا آخر غير ذلك ضروريًّا. إن الأعراض الاقتصادية — حتى مع ما أُضيف إليها اجتماعيًّا وسيكولوجيًّا بصورة خفية — لا تدل على الظاهرة المرضية دلالة كافية. ولو كان ارتباط البروتستانتية والرأسمالية — فوق ذلك — ارتباطًا قويًّا، لتطابقا في كل العصور، حتى تنطبق خريطة أوروبا التي تبين مراكز البنوك والتجارة الجديدة الغنية على الخريطة التي تصور نمو البروتستانتية. في حين أن مثل هذا التطابق لم يحدث قط، حتى بعد عام ١٨٠٠م، عندما مالت البروتستانتية والتصنيع إلى التطابق الجغرافي. وفي أوائل العصر الحديث، قبل الانفجار اللوثري، كانت المراكز الكبرى للاقتصاد الحديث — ميلان وفلورنسة وأوجزبرج والأراضي المنخفضة — في مناطق لم تتأثر إلا قليلًا بالحركات السابقة للبروتستانتية. كما أن شمالي إيطاليا ووسطها، وبلاد الشمال الكاثوليكية، وبلاد الراين، وشمالي فرنسا الكاثوليكي استمرت بعد لوثر خلال القرن السادس عشر كله رائدة للاقتصاد الجديد، وليس من شك في أن الكالفنية عاونت على الإبقاء على الروح الرأسمالية وتقويتها، غير أن القواعد الخلقية الكالفنية للنظام الرأسمالي لا تفسر البتة نجاح الحركة البروتستانتية. وليست هذه القواعد إلا مصدرًا واحدًا من مصادر نجاح البروتستانتية.
وثمة مصدر آخر، هو ذلك المركَّب من العادات والمصالح والمشاعر التي نسميها القومية، وهي أحد الدوافع القوية في العالم الحديث. والقومية موضوعٌ سوف أعود إليه. وإنما يكفي هنا أن نشير إلى أن مكانة القومية في الإصلاح البروتستانتي يمكن أن تدرس من ناحيتين: قومية الفئات الحاكمة، وقومية الجماهير الكبرى.
ويستطيع المرء أن يسخر سخرية شديدة من دوافع مبدعي البروتستانتية كما فعل هنري الثامن في إنجلترا. كان هنري على طريقة أهل زمانه الذين أخذوا حديثًا بمذهب العقل — يتطلع إلى أن يكون رجلًا كاملًا من جميع الوجوه، باحثًا ورياضيًّا ورجلًا من رجال السياسة ومِن ثَمَّ ألَّف (أو ألَّف له كاتب مجهول) دفاعًا عن الكاثوليكية يَرُدُّ به على رسالة لوثر الحديثة عن «أسر الكنيسة البابلي»، وكافأه البابا بمنحه لقبًا رسميًّا هو «المدافع عن الدين». ثم شرع يقطع صلاته بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية وأنشأ ما أضحى فيما بعدُ «كنيسة إنجلترا» وهي أسقفية بروتستانتية. وفي خلال هذا التحول، تحوَّل كثير من الثروة الضخمة التي كانت تملكها الكنيسة الرومانية في إنجلترا إلى هبات للنبلاء والأعيان الجدد من أسرة تيودور الملكية. وأمسى هنري نفسه رأس الكنيسة الإنجليزية، وكأنه بابا في حدود معينة. وحدث مثل ذلك في تواريخ عشرات من الإمارات الجرمانية.
ولكنا ينبغي — مع ذلك — أن نحذر من الأخذ بالدوافع الاقتصادية الضيقة؛ فإن هؤلاء الحكام وأتباعهم لم يكونوا يهدفون إلى ملء جيوبهم فحسب، وإنما كانوا كذلك يمهِّدون السبيل للدولة البيروقراطية الحديثة، ويستبعدون مزايا رجال الدين، وأحكام الشريعة، وما كانت الكنيسة الكاثوليكية تزعمه في موقفٍ معيَّن من تحررها تحرُّرًا مطلقًا من الرقابة العلمانية، هؤلاء الحكام البروتستانت الجدد كانوا يسعون إلى بناء كنائس يمكن أن تقوم بمثابة بوليس الآداب في الدولة. ولكن إذا كان النفوذ والثراء كلاهما في خطر بالنسبة لهؤلاء الحكام، فلماذا لم تكن كذلك ضمائرهم؟ إن أمثال هنري الثامن، أو فيليب هس الجرماني الذي وقف إلى جانب لوثر، كانوا وطنيين مخلصين يعتقدون فعلًا أن الإيطاليين الفاسدين كانوا يستغلون أرواح مواطنيهم كما يستغلون أبدانهم. والظاهر أن وطنيتهم كانت تتفق اتفاقًا تامًّا مع مصالحهم الدنيوية حتى إنا لنميل إلى إسقاطها من حسابنا. في حين أن جون هودج وزميله الجرماني رجل الشارع لم يحققا من حملتهما على البابوية سوى إرضاء عواطفهما. ولذا فنحن نحس إحساسًا غامضًا بإخلاصهما. غير أنه من المؤكد أن المرء يمكن أن يكون على عقيدة حتى في حالات كسبه.
إن عامة الشعب أشبعت عواطفها قطعًا، والبروتستانتية في إنجلترا واسكتلندا وهولندا وألمانيا خاصة كانت تنطبق تمام الانطباق على الشعور بالقومية في تلك البلاد. وإنك لتلمس في رسائل لوثر — وبخاصة فيما كُتب منها بالألمانية — ومن أكثر ما كُتب عن الصراع القائم، حب ألمانيا والثناء عليها، وكراهية «الأجانب» واحتقارهم — والأجانب هنا هم الإيطاليون — ذلك الحب الذي استمعنا إليه أجيالًا عديدة.
«لأن روما هي أكبر لص وسارق ظهر — أو سيظهر — على وجه الأرض … لقد خدعنا نحن الألمان المساكين. خلقنا الله لنكون سادة، ولكنا أُرغمنا على أن نحني رءوسنا تحت نيْر الحكام الظالمين … وقد آن أن يكفَّ الشعب التيوتوني عن أن يكون ألعوبة في أيدي رجال الدين من الرومان.»
وهذه النغمة عينها تسمعها في بلادٍ بروتستانتية أخرى، وإن تكن أقل من ذلك عجيجًا. وقد أخذت بعض البلدان فيما بعد، وعلى سبيل الدفاع، تطابق بين الوطنية والكاثوليكية. ولا شك في صدق هذا الاتجاه لدى القوميات التي خضعت لغيرها، كالإرلنديين والبولنديين. بيْد أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية قد احتفظت دائمًا بتنظيم عالمي، تنظيم له كثير من صفات سلطة الدولة. أما البروتستانتية فلم تحقِّق قطُّ في أي وقت من الأوقات مثل هذا التنظيم. ولم تكن اجتماعاتها الدولية سوى اجتماع طوائف، أو مؤتمرات، أو هيئات، ليست لها أية صفة من صفات «السيادة» أو حتى السلطة. وهكذا ترون أن البروتستانتية كانت تتفق وأشكالًا معينة من الكيان الوطني، ولم تتفق مطلقًا وأي كيان عالمي حقيقي.
إذن فلقد وجدت البروتستانتية في القرن السادس عشر كثيرًا من مصادر القوة التي كانت تنقص حركات الإصلاح السابقة. ثم إن البروتستانتية في القرن السادس عشر قد اتخذت — فوق كل شيء — أشكالًا عدة، وشكَّلت نفسها طبقًا لكثير من المواقف المحسوسة المتنوعة في كثير من أجزاء الغرب، حتى إنه ليشق علينا أن نفسِّر نجاحها بسبب واحد. وكانت بعض مبادئها، وبعض طرق الحياة التي تدعو إليها، مبادئ وطرقًا تيسِّر لرجل الأعمال الحديث البرجوازي وسائل العيش. إن البروتستانتية تَدين بعض الدَّين للرأسمالية. وهناك مبادئ أخرى يسَّرت للحكام وتابعيهم أن يضاعفوا من ثرائهم ونفوذهم. غير أن البروتستانتية تَدين بعض الدَّين لدوافع اقتصادية وسياسية أكثر بساطة وقِدَمًا. البروتستانتية جاءت لتعزز اللغة الشائعة، والثقافة الشائعة، والسلوك الشائع للجماعات المحلية التي نسميها الأمم، وهي الجماعات المحلية التي اتخذت صبغتها الخاصة حتى في القرن الثالث عشر. ثم اختلفت البروتستانتية مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية اختلافًا واضحًا ناجحًا، وهي الكنيسة التي كانت لها متاعبها الخاصة التي عانت منها قرونًا عديدة، كما كانت لها حركاتها التي قامت بها المجالس الدينية، وأسرها البابلي، وكان فيها المثقفون الساخطون، وأصحاب السِّير الناجحة البسطاء، وقادتها الدنيويون البارزون، وربما لم يكن لوثر أقوى من وايكليف أو هس. ومن المؤكد أن خصومه أضعف من خصومهما.
ونحن نتساءل — إذا أخذنا بهذا التفسير — ما الذي حدث للحركة البروتستانتية من حيث صحتها، وتقدُّمها، وحداثتها، وديمقراطيتها؟ أليس الإصلاح البروتستانتي أحد معالم التاريخ في الغرب؟ ثم ألم ينضم البروتستانت — فوق هذا — إلى جانب الحرية الفردية، والحكم الذاتي الديمقراطي، في حين أن الكاثوليك قد انضموا إلى جانب التسلط، والامتياز؟ أَوَلم يكن البروتستانت لذلك حديثين، والكاثوليك متأخرين منتمين إلى العصور الوسطى؟
إن هذه الأسئلة توحي بعنصر ينقص ما قدَّمنا من تحليل المصادر البروتستانتية، وأحد هذه المصادر الحية الخصبة القدرة الإنسانية الدائمة على التأثر بالمُثُل الخلقية العليا. إن أكثر الحركات البروتستانتية قد استغلت هذه القوى البشرية الهائلة، كما استغلت قوًى أخرى يحب الواقعيون والمتشائمون أن يركِّزوا اهتمامهم فيها، في حين أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية لم تبذل جهدًا ناجحًا محكمًا لاستغلال هذه القوى المعنوية، وذلك لفترة كانت قاضية على قضية الوحدة الدينية في الغرب. ولما بذلت الكنيسة مِثل هذا الجهد على أيدي القديس أجناشيوس لويولا والإصلاح الكاثوليكي كان ذلك بعد أن فات الأوان للاحتفاظ بالوحدة الدينية الغربية.
ولما كانت البروتستانتية هجومًا على النُّظم القائمة، فإن بعض الألفاظ التي كانت تستخدمها كانت تلك الألفاظ التي تُستخدم لمقاومة السلطان، وكان جانب من مناشدتها يتجه نحو الفرد، حقوقه وحريته، وضد السلطة. لقد ناشد لوثر الإيمان الكامن في صدر الفرد مبتدئًا بالأعمال الطيبة التي يفرضها أصحاب النفوذ. إن هناك اتفاقًا بين مناشدة البروتستانت للفرد (لأن الناس في ذلك الحين لم يتحدثوا عن الفردية) وبين مناشدة الفردية في القرن التاسع عشر. وقد ذكرنا من قبلُ — فوق ذلك — أن البروتستانتية قد كانت فعلًا في تطورها عونًا على المبادئ الفردية للتاجر الرأسمالي. وعاونت على تحطيم المركَّب الإقطاعي الوسيط في السياسة، ومهَّدت الطريق للدولة البيروقراطية الملكية ذات الكفاية والخطوط المستوية.
إن محاولة فهم أسباب نجاح أو إخفاق البروتستانتية (على أية صورة من صورها وفي شتى أشكالها) ضد الكاثوليكية فهمًا محدَّدًا بمساحات أرضية محدودة، نوعٌ من المرانة الجذابة في العلوم الاجتماعية التي لم تبلغ بعدُ حدَّ النضج. إن كل العوامل المتباينة التي تعرضنا لها لها أثرها في كل حالة من الحالات، بل إن هناك كذلك عوامل أخرى. ومن الواضح أنه ليس لدينا مقياس دقيق نقيس به. فلا نستطيع مثلًا أن نقول إن كل الشقراوات اعتنقن البروتستانتية، وإن كل السمراوات بقين كاثوليكيات. إن أهل الشمال لم يقبلوا البروتستانتية جميعًا، وكذلك لم ينبذها أهل الجنوب جميعًا. ولم تكن الشعوب الجرمانية كلها بروتستانتية، كما لم تكن الشعوب اللاتينية كلها كاثوليكية. ولا نستطيع أن نقول إن أصحاب المشروعات وأصحاب الأعمال انقلبوا بروتستانت، وإن المزارعين والفلاحين لبثوا جميعًا كاثوليكًا.
ومع ذلك فإن بعض العوامل أهم من بعض. وعندي أن الأمثلة المحسوسة في إنجلترا وإيرلندا وفرنسا والأراضي المنخفضة والولايات الجرمانية تدل على أن البروتستانتية تنتشر عندما تطابق الشعور القومي السائد، وتفشل عندما لا تطابقه؛ فقد كان للبروتستانتية في فرنسا مثلًا قوة عظمى في القرن السادس عشر. وكان كالفن نفسه رجلًا فرنسيًّا. وبالرغم من الآراء الأمريكية الشائعة عن الخلق القومي الفرنسي، فإن الفرنسيين يُعَدون من البيوريتان الطيبين كغيرهم. غير أن التاج الفرنسي، وهو بؤرة الوطنية الفرنسية، لم يجنِ شيئًا له أهمية من انفصاله عن روما؛ فقد كان له من قبلُ بالفعل استقلال عظيم. إن أكثر الفرنسيين لم يطابق بين الفرنسية والبروتستانتية، كما أن أكثر الجرمان الشماليين قد طابقوا بين البروتستانتية والجرمانية. والواقع أن فرنسا في أواخر الحرب الأهلية في القرن السادس عشر، وأقصد أكثر أوساط الفرنسيين، قد طابقوا بين البروتستانتية والخيانة لفرنسا. ثم إن الكالفنية كان معناها الوطنية للهولنديين، ومقاومة الكالفنية — أو الإخلاص للعقيدة الكاثوليكية — كان معناها الوطنية لتلك الأقاليم الجنوبية من البلاد المنخفضة، التي لم تُهضم بعدُ — بل كانت منافسة لبقية الأقاليم — وهذه الأقاليم الجنوبية هي التي أمست بلجيكا الحديثة المستقلة. وأقول عرَضًا إن هذه المباينة بين هولندا البروتستانتية وبلجيكا الكاثوليكية مباينة تشوق أصحاب النظرية الحتمية الاقتصادية البسطاء، وتغريهم ببحثها؛ لأن هذه المساحات الصغيرة المتجاورة كانت من المراكز التجارية والصناعية لعدة قرون، أي إن اقتصادياتها كانت في إيجازٍ على تشابه شديد.
وهناك هوة عميقة بين بروتستانتية القرن السادس عشر وفردية القرن التاسع عشر عند الأمريكان الذين ألَّفوا الكتب الدراسية التي تعادل بين الحركتين. إن أولئك الرجال الذين ابتدعوا البروتستانتية، وبخاصة لوثر وكالفن، لم يكونوا في الواقع حديثين في روحهم (وأنا لا أستخدم لفظ «الحديث» في هذا الكتاب للقدح أو الثناء، وإنما لأشير إلى صفات الثقافة الغربية منذ عام ١٧٠٠م على وجه التقريب) وهم بالتأكيد لم يؤمنوا بالحرية. إن البروتستانتية يمكن — إذا نظرنا إليها من الناحية التاريخية — أن تبدو وسيطة جدًّا في ملامحها. والبروتستانتية — وهي تُعَدُّ بحق أحدَ العوامل التي صنعت العالم الحديث — قد تحولت تقريبًا إلى حركة حديثة بالرغم عنها وبالرغم عن قادتها. لقد كانت البروتستانتية في طبيعتها وأهدافها محاولة وسيطة أخيرة، ومحاولة مسيحية محض عظيمة وأخيرة، لتبرير تصرُّف الإله في الإنسان بطريقة عملية.
طبيعة البروتستانتية
هنالك في الواقع صور متعددة للبروتستانتية؛ فإن العبادات عند الكنيسة الكبرى الأسقفية لا تشترك إلا في القليل مع العبادات عند الموحدين المتزمتين، أو المؤسسين الأوائل. وسوف نحاول بعد قليل أن نصنِّف أنواع البروتستانتية المختلفة كما ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولكنا نستطيع مع ذلك أن نضفي على البروتستانتية بوجه عام صفة واحدة. إن أكثر أوجه الخلاف سلبية، غير أن هذه الصفة إيجابية.
إن حركة البروتستانتية تشفُّ عن شكلٍ معيَّن من أشكال الجذب أو التناقض الذي سبقت لنا الإشارة إليه في صورة الثقافة الغربية الأخرى. كانت البروتستانتية ثورة على سلطة قائمة تمتلك الصفات الخارجية لأي سلطان (كالتنظيم، والقوانين، والطقوس والتقاليد). وقد ناشدت البروتستانتية الناس «ألا يعتقدوا في ذلك أو يطيعوا»، بل ناشدتهم في الواقع — وفي حماسة — أن يعتقدوا في أمورٍ أفضل وأن يطيعوا رجالًا أفضل، وقوانين أفضل. وقد أصر أكثر دعاتها نجاحًا، لوثر وكالفن، على أن ما دعَوا الناس إلى اعتقاده، وإلى طاعته، هو مسيحية يسوع الصادقة، ولم يكن بدعة مستحدثة، وليس هناك بروتستانتي في السنوات الأولى يستطيع أن ينكر حقيقة العصيان، وهو عصيان على كل فرد أن يقرر القيام به. وقد عرض لوثر قضية العصيان صراحة في أخطر عبارات التعبير عنها، وكان رجل عمل يتصف بعدم المبالاة بالاتساق الفلسفي، وهو نوع من عدم المبالاة يبدو للرجل المنطقي ضربًا من ضروب الغباء.
وما دام القسيس البابوي يقف عقبة بين الإنسان وربه — كما يقول لوثر في دعواه — فلنتخلص من أي شيء قد يقف مرة أخرى عقبة في وجوهنا. وليكن كل فرد قسيس نفسه. ومن الزعم الباطل أن نفترض أن الله، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، يرضى عن قيام مثل هذه الوسيلة البشرية البسيطة — أعني الكنيسة — لتتدخل في العلاقة بينه وبين مخلوقاته. ثم إن الله قد أوضح نواياه في الكتاب المقدس، الذي يستطيع كل امرئ أن يطالعه بنفسه دون وساطة القسس. وسوف أعود بعد لحظة إلى بعض ما يترتب دينيًّا على هذه الدعوى اللوثرية الشهيرة الموجهة إلى ضمير الفرد. أما من الناحيتين السياسية والخلقية فقد كان لوثر الذي يبشر بهذه الآراء إنما يبشر بالفوضى؛ إذ كان ينصح كل إنسان أن يصغي إلى شيء في نفسه وأن يهمل كل ما كان خارج نفسه — كالقانون، والعادات والتقاليد، وميراث العصور الوسطى من المسيحية. غير أن لوثر كان في الواقع ينصح المرء أن يصغي إلى نداء ضميره، وقلبه، وجرمانيته، وروحه كلها، وهو يعتقد اعتقادًا جازمًا ساذجًا إنسانيًّا إلى أبعد غاية أن هذا النداء يتفق كل الاتفاق مع ما كان ضمير لوثر نفسه، وقلبه، وجرمانيته، وكل روحه، لا يكفُّ عن دعوته إليه (وما أكثر الأمور التي تبلغ بها البساطة في هذه الدنيا حد بلبلة الخواطر). إن لوثر قد ناشد الرجال الأحرار لأنه كان يعتقد أن كلًّا منهم لوثر — على صورة مصغرة هادئة، وهي وإن لم تكن موهوبة إلا أنها تشبه لوثر على كل حال. ولما تبيَّن له أثناء ثورة الفلاحين أن الرجال الأحرار إنما كانوا يريدون أمورًا أخرى تختلف عما يريده كل الاختلاف — فهم يريدون المساواة الاجتماعية والاقتصادية، ويريدون النعيم على هذه الأرض عاجلًا، يريدون في شئون العلاقة الجنسية شيئًا أكثر من مجرد قيام القسيس بمراسم الزواج بل يريدون الكثير مما لم يحب لهم أن يريدوه — لما تبين له ذلك أمدهم — طوعًا — بنوع من الوساطة بين الله وهؤلاء القوم البائسين. أمدهم بالكنيسة اللوثرية، وهي الكنيسة التي لها قوانينها الخاصة، ومعتقداتها، وأساقفتها، وقسيسوها، ومذهبها العملي الخاص فيما يتعلق بالعمل الطيب. وكان لوثر يرى أن الإقناع بالعقيدة لا يمكن أن يبرر الحركة التي تدعو إلى عدم الإيمان بالتعميد أو التقيد بالقواعد الخلقية الدينية. وإذن فإن الثورة على السلطان قد انتهت بلوثر إلى إقامة سلطاته هو نفسه.
وربما أثارت — أو حيَّرت على الأقل — الفقرات السابقة كثيرًا من البروتستانت في السنوات الأولى؛ فهم لم ينظروا إلى حركتهم باعتبارها محاولة لتحرير الناس حتى يستطيعوا بطريقةٍ ما أن ينسجوا من جديد مصير حياتهم من مصادرهم الباطنية الخاصة. إنما نظروا إلى الحركة التي قاموا بها على أنها محاولة لرد الناس إلى السلطة الحق، وإلى السيد الحق، إلى الله. إن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قد قلبت كلمة الله، ولكن هذه الكلمة لحسن الحظ ميسورة، ويمكن أن تُترجم إلى اللغات الأوروبية الحية. ولما كان الإنجيل ميسورًا باللغة القومية فإن القسيس لم يَعُد صاحب الاحتكار الذي كان له عندما لم تكن هناك سوى الترجمة اللاتينية. وقد عمل كبار المصلحين — وايكليف وهس ولوثر وكالفن — على نشر الإنجيل بلغاتهم على نطاق واسع، وأمكن للمطبعة في القرن السادس عشر أن تُخرِج الإنجيل بأعداد تكفي الجماهير، وأمسى بوسع كل امرئ أن يكون بين يديه كتاب مقدس. ومِن ثَمَّ بات الإنجيل هو السلطة الحقيقية التي لا تقبل الجدل؛ فهو من كلام الله وليس من كلام الإنسان.
إن أولئك الذين لا يزالون يعتقدون أن قراءة الإنجيل هي حل لمشكلة الحرية والسلطة أقلية نرعاها فنسميها «طائفة المؤسسين». وأما من وجهة النظر التي اتخذناها عن عمد في هذا الكتاب فإن الإنجيل ليس بالتأكيد هو ما يعنيه أكثر الناس بالسلطة (أو المرجع) فإنك إن دخلت في جدل حول عدد سكان مدينة نيويورك في التعداد الأخير وجدت المرجع في عشرات من أمهات الكتب، ولكنك إن دخلت في جدل حول المعنى الحقيقي ﻟ «العشاء الأخير» استطعت أن تعزِّز حجتك من الإنجيل، ولكنك بالتأكيد لا تجد للمشكلة حلًّا نهائيًّا، وربما وجد الناس في الإنجيل — مع تبسيط الأمور تبسيطًا شديدًا — ضالتهم المنشودة. وقد دفع رجوع البروتستانت إلى الإنجيل البحث عن الكلمة النهائية خطوة واحدة إلى الوراء، فإن «شخصًا ما» لا بد أن يقول ما يعنيه الإنجيل في نقطةٍ ما، و«شخصًا ما» لا بد أن يقوم بما يشبه الأعمال التي كان يؤديها الآباء، والشرائع والكنيسة الرومانية منذ زمان بعيد. إن الإنجيل لا يمدنا بالمرجع، إنما يمدنا به مفسروه. وإذن فالمستقل برأيه يجد نفسه مرة أخرى تابعًا لغيره في الرأي.
ومثل هذه التبعية هي المصير العام لكل الثائرين في هذا العالم، إذا هم عاشوا بعد نشوب الثورة. وقد كان من السهل دائمًا من الناحية العملية للثائرين السياسيين، بل والثائرين الاقتصاديين، أن يعيدوا بناء سلطة من السلطات تَحُلُّ محل السلطة التي ثاروا عليها، وسرعان ما جعلت فرنسا اليعقوبية وروسيا البلشفية الطاعة أمرًا له قدْره واحترامه. غير أن الثورة البروتستانتية — لسببٍ ما، وربما كان ذلك في الحق بسبب الطموح السامق إلى الحقيقة الأبدية التي يعالجها الفلاسفة ورجال الدين — لم تحيَ قطُّ حياة ناجحة على مستوًى أسفل من أصولها الثورية. فأبقت نشأتها المتوترة إلى حد كبير حية، على الأقل في حدودها وفي أعماقها؛ فهي لم تُرِد للناس أن يلتمسوا التبرير إلا في إيمانهم، وهي لم تَرَ أحدًا سوى الأحرار من الناس، ولكنها أرادت كذلك عالمًا نظاميًّا مرتبًا. غير أن ذلك معناه من وجهة النظر الكاثوليكية — كما عبَّر عن ذلك بوسيه مثلًا — أن البروتستانتية تولد دائمًا مذاهب جديدة، وتحتج على المحتجين الأوائل وأنها تتحول بذلك إلى عالمٍ لا نهاية له، وأن البروتستانتية لا يمكن أن تقوم لها وحدة لأنها لا تستند إلى مبدأ له الكلمة النهائية. ويمكن أن نعبِّر عن ذلك بصيغةٍ أكثر تقديرًا للبروتستانتية فنقول إنها الوارث الحقيقي لفكرة السعي إلى تحقيق كمالٍ سماوي على الأرض، وهو السعي الذي عبَّرت عنه المسيحية في العصور الوسطى بالعزلة الصوفية، وبالحروب الصليبية، وبإصلاح الأديرة؛ أي بالهرطقة الأبدية. أو قُل إن البروتستانتية كانت هي الوريثة الحقيقية حتى جاء عصر التنوير ببشير آخر أقربَ إلى هذه الدنيا.
لأن العقائد البروتستانتية الكبرى قبِلت العقيدة المسيحية القديمة في الخطيئة الأولى — وهذا حكمٌ عامٌّ سلبيٌّ مبدئي. وقد بالغ كالفن — كما نعلم — في تصوير الجانب المظلم من النظرة الكاثوليكية إلى الإنسان الحيواني، والكالفنية المتطرفة شديدة التشاؤم فيما يتعلق بقدرة الإنسان على أن يحيا حياة طيبة في هذه الدنيا، وليس مذهب لوثر الذي يقوم على أساس التبرير بالإيمان إثباتًا بأن الناس يُولدون طيبين، وأنهم يستطيعون باتباعهم رغباتهم الطبيعية أن يعثروا على خيرِ مرشد لهم في الحياة، وقد تمسَّك لوثر — حتى في أكثر لحظاته فوضوية، في نضاله الأول ضد روما — بمبدأ ضَعف الإنسان الطبيعي. وإنما هو الله الذي يَهِب الإنسان الإيمان، وهو الذي لا «يخلقه»، وهو الذي «يحفظ» الخير له. وإنك لتجد في هامش البروتستانتية — بين بعض الطوائف الهمجية — بوادر المذهب اللاحق الذي جاء ينادي بالخير الطبيعي عند الإنسان. وإنك لتجد كذلك بين مَن نسميهم «المتحللين من قواعد الأخلاق الدينية» نوعًا من الفوضى الواضحة؛ فهم يؤمنون بأنه ليس هناك قانون، أو حُكم، أو طقوس، يقيد الروح البشرية في الفرد، ما دامت كل أمثال هذه القوانين، والأحكام، والطقوس، ليست إلا صيَغًا ثابتة تَحُدُّ من نشاط الروح البشري الذي يتنوع تنوعًا لا نهاية له. ونستطيع أن نربط ما بين «الثورة على قواعد الأخلاق الدينية» وبين الأفكار التي أعقبتها بشأن الخير الطبيعي عند الإنسان، ولكن «الثائرين على الأخلاق الدينية» أنفسهم يتحدثون بلغة الدين المسيحية. وهذا الروح البشري الذي لا يمكن عدلًا أن نحبسه هو كذلك الروح المقدس، هو إله مشخص يؤدي عمله في هذه الدنيا.
ويأتي بعد ذلك بوضوح حكم سلبي آخر؛ ذلك أن البروتستانتية لم تكن في تلك القرون حركة عقلية بأي معنًى من المعاني البعيدة؛ فإن العقليين المتأخرين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر زعموا أن البروتستانتية أمهم، أو إذا استخدمنا استعارة أخرى أقل حدة، قلنا إنهم زعموا أن البروتستانتية كانت هي الطرف الدقيق في الإسفين الذي أخذ يتغلغل في الإنسانية فيحللها من «الخرافة» الكاثوليكية. ونحن نصطدم هنا بصعوبات التعاريف؛ فإن أنت آمنت بأن الحد من عبادة القديسين وعبادة مريم العذراء، وأن الإقلال من الطقوس، وزيادة الاهتمام بالموعظة، وتحوير الدور الذي تلعبه الموسيقى والفنون الزخرفية تحويرًا شديدًا أو حتى إلغاءه إلغاء تامًّا، وأقللت تبعًا لذلك من علوم الدين — وإن أنت حكمت بأن تنفيذ ذلك مما يوحي به العقل، فالبروتستانتية إذن — إذا قُورنت بالكاثوليكية — حركة عقلية. بيد أن كثيرًا من هذه التغيرات لم يحدث إلا في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، عندما كان من الواضح جدًّا أن الحركة العقلية كان لها في الكنائس البروتستانتية من الأثر ما لم يكن لها في الكنائس الكاثوليكية. وإن أنت عُدْت إلى القرن السادس عشر ذاته واطلعت على الجدل الديني الذي دار في ذلك الحين لتعذر عليك أن تحس أنك في محيط عقلي.
إن ملايين السياح قد شهدوا البقعة السوداء على حوائط قلعة وارتبرج حيث ألقى لوثر بالمِحبرة على الشيطان. وليس في هذا ما يثير الشك روحانيًّا؛ فقد كان لوثر يعتقد فيما يجاوز الطبيعة في ثباتٍ لا يقل عن ثبات أي أوغسطيني أكثر منه إخلاصًا. وكان الإله الجبار عند كالفن أمرًا حقيقيًّا كما كان يهوه الذي كثيرًا ما يذكره. وقد قاومت البروتستانتية الأولى النظرية العلمية الجديدة التي تتعلق بصلاتِ الأرض والشمس، كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية، ولنفس الأسباب تقريبًا. وللمؤسسين البروتستانت الأمريكان المحدثين الذين لا يثقون في الجيولوجيا أو البيولوجيا جذور ثابتة في القرن السادس عشر. وإذا كان البروتستانت (مع وجود بعض الاستثناءات كما هي الحال مع الإنجيليين) قد كفوا عن اعتقادهم في القديسين، فقد استمرت عقيدتهم في الشيطان، وفي الساحرات، وفي كل جيوش الظلام. والواقع أن البروتستانتية قد أحيت معنى المعجزة واللامعقول، بمقدار ما كانت البروتستانتية تعني عند الفرد تجديدَ المشاعر الدينية العميقة، والابتعاد عما ربما كان يُعَد شكلية مطمئنة في الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى.
ولم تكن البروتستانتية الأولى — من ناحية ثالثة — متسامحة. ولم يبشر البروتستانت الأوائل بالتسامح الديني أو يمارسوه. ومن الحق — من الناحية التاريخية — أن ممارسة التسامح الديني قد تطورت أولًا في البلدان البروتستانتية، وبخاصة في إنجلترا. إن شكل التسامح الشديد الذي يرى أن التسامح الديني إنما نشأ لأن المذاهب الكثيرة قد ملَّت التقاتل أو حتى الجدل فيما بينها، وأن رجال السياسة العمليين الذين لا يعتقدون إنما استطاعوا أن يتلاءموا مع المذاهب المنهوكة التي لم تَعُد تحترق بنار الحماسة، وأن النظريات والمُثُل التي تتعلق بالتسامح الديني لم يكن لها البتة شأن بالعملية كلها — إن هذا الشكل لم يَعُد يكفي، وفيه إجحاف بالنسبة إلى الجماعات الدينية الصادقة من أمثال «الصحابة» الذين كانوا يرون أن التسامح خيرٌ إيجابي، وفيه كذلك إجحاف بالنسبة إلى مئات الكتَّاب والعمال من جميع النِّحَل من المؤمنين وغير المؤمنين، أولئك الذين جاءوا في هذه القرون التي اتسمت بميسم الجهاد والنضال لكي يدافعوا عن التسامح الديني باعتباره هدفًا مطلوبًا لذاته. إن التسامح الديني لم يكن هدف لوثر، أو كالفن، أو غيرهما من المكافحين البارزين الناجحين في سبيل قضية أحسوا أنها فوق التجريب وفوق الشك، ومِن ثَمَّ — بطبيعة الحال — فوق ذلك الجبن أو التراخي الذي يسميه الناس التسامح، نعم إن الدفاع عن التسامح الديني باعتباره خيرًا خلقيًّا قد طرأ فعلًا لبعض الأفراد حتى في السنوات الأولى من الإصلاح الديني، ولكن هذا الدفاع كان يَصدُر عن الشخصيات ذات الأهمية الثانوية. وكان هناك بين الإنسانيين الأوائل ميل نحو التسامح، ونحو التعقُّل، بل ونحو التشكك. ومع ذلك فإن كثيرًا من الإنسانيين كان يتميز بأكثر من مجرد مس من الاندفاع نحو الكمال الذي كانت تنطوي عليه البروتستانتية، وكثيرًا منهم، كأرازمس نفسه، كان يفتقر إلى الشجاعة وإلى دوافع العمل في سبيل التسامح الحق.
ولم تَعُد بي حاجةٌ بعد سرد هذه الأحكام السلبية إلى القول بأن البروتستانتية الأولى لم تكن ديمقراطية بالمعنى الأمريكي التقليدي الحديث، وما أكثر ما كُتب عن العلاقة بين الحركة البروتستانتية ونمو الديمقراطية الغربية الحديثة. ويتوقف الكثير — بطبيعة الحال — على تعريف الديمقراطية؛ فإذا أنت أكدْت أهمية الحرية الفردية في الديمقراطية، فإن لوثر وكالفن لم يكونا قطْعًا من الديمقراطيين؛ لأن كليهما لم يعتقد أن المرء يجب من الناحية العملية أن يُترك حرًّا في ارتكاب الخطيئة (ارجع إلى الفصل التالي عن أشكال البروتستانتية). وإن أنت رأيت أن المساواة في الديمقراطية هي نقطة الارتكاز وليست حرية الفرد، اتضح لك بصورة أقوى أن الجماعات البروتستانتية الكبرى لم تكن ديمقراطية؛ فإن جماعة الكالفنيين الممتازين الصغيرة، من القديسين، والظافرين بالخلاص، كانت من أشد الجماعات تمسُّكًا بالأرستقراطية المانعة. وقلَّ من الاتجاهات ما يقل ديمقراطية عن البيوريتان الإنجليز الذين قيل لهم إن أولئك الذين كُتب عليهم الجحيم لهم على الأقل أن يستمتعوا ببعض الملذات في هذه الدنيا، فأجابوا بأن مسلكهم يفوح بالروائح الكريهة في أنوف المؤمنين. أما عن اللوثرية فإن تحكُّمها بالرأي وميولها الأرستقراطية قد اتضحت كثيرًا بعد ثورة الفلاحين. وكانت كنيستها في أوائل أمرها ملائمة لطبقة الأرستقراط البروسيين، ولكني أعود فأكرر أن كثيرًا من العوامل التي أدَّت إلى الديمقراطية الحديثة قد جاء عن البروتستانتية الأولى، وإن لم يكن عن غير قصد.
وللأحكام التي سبقت استثناءات، كما أن لكل حكم علم تاريخي استثناء؛ فإن الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر — ولا أعني «الثورة المجيدة» التي نشبت في عام ١٦٨٩م، وإنما أعني الثورة العظمى التي نشبت في الأربعينيات من القرن السابع عشر — كانت من المصادر الرئيسية للديمقراطية الحديثة؛ ذلك أن الحركات اليسارية في الثورة كانت تجمع بصورة مذهلة بين الأفكار والآمال الدينية والسياسية والاقتصادية؛ فكانت هناك طوائف تؤمن بالعصر الذهبي بعد عودة المسيح، وطوائف تدعو إلى تحلل المسيحية من القواعد الخلقية، وهناك طوائف أكثر كالفنية من كالفن. وهناك جماعات مثل جماعة «دعاة المساواة» التي تهدف إلى الحرية السياسية بمعنًى يقرُب جدًّا من معناها الحديث عندنا، بل إن الجماعات الكبرى، مثل البرزبتيريان، والمستقلين (الداعين إلى تكوين الجمعيات الخاصة) كانت في هجومها على الملوك والأساقفة تدعو إلى سيادة البرلمان، وإلى احترام حقوق الإنسان، والدستور، وإلى كثير من الجانب التنظيمي للديمقراطية. وإنك لتجد — فوق ذلك — بين كثير من هذه الجماعات آراء ديمقراطية عن المساواة، وعن عدم الثقة ديمقراطيًّا في سلطة تكون قراراتها فوق رقابة الشعب بأسْره. إننا نعرف اليوم حق المعرفة أن روح القادة الذين أقاموا المصلحة البيوريتانية المشتركة في خليج ماساشوستس لم تكن ديمقراطية. كما أن الحكومة التي أسَّسها ونثروب ورفاقه كانت حكومة الصفوة والقديسين. ولكن حتى في ماساشوستس سرعان ما نمت روح المقاومة لهذه الأوليجاركية. وإنك لتجد في روجر وليامز زعيمًا بروتستانتيًّا — بالمعنى الكامل في القرن السابع عشر — كان في الواقع كذلك ديمقراطيًّا فوق كل شيء.
ولكني يجب أن أكرر القول — بالنظرة العامة التي تراها الأحكام السلبية — إن البروتستانت في عهد الإصلاح الديني لم يكونوا ديمقراطيين في روحهم.
وإذا ضممت كل هذا بعضه إلى بعض: الاعتقاد القوي واسع المدى فيما فوق الطبيعة، الذي ربما زاد من قوَّته تركيزه على الثالوث المقدس وخصومه — أو على الأصح دعاته — الشياطين، وإحساس شديد بالخطيئة، واندفاع متجدد نحو المَثل الأعلى، وكراهية الطوائف الأخرى كراهية تنفي التسامح نظريًّا وعمليًّا، إذا ضممت كل هذا كان لك كلٌّ لا يشبه في الكثير البروتستانتية الأمريكية الثابتة المستقرة في القرن العشرين؛ بروتستانتية «معونة السيدات»، والكشافة، وعشاء الكنيسة، والتبشير الديني في أفريقيا، وكل صنوف الدعاوى الطيبة، من تحريم الخمر، إلى الحكومة العالمية. إنما كانت البروتستانتية الأولى اتجاهًا همجيًّا، غير مستأنس، كما كانت بالنسبة إلى المتعقل الهادئ، أو المثالي البريء، أمرًا منفرًا؛ ذلك لأن البروتستانت الأوائل كانوا لا يزالون يرون — كما كان يرى الناس في العصور الوسطى — عنفًا وأمورًا مريبة في عالمٍ يحكمه إله جبار، مبهم، لا تحده الإحصاءات أو العلوم أو الحس المشترك. بل إن البروتستانتي في القرن السادس عشر كان — بمقدارٍ ما كان الإله البروتستانتي أشد ظلامًا وإبهامًا من إله المدرسيين — يعيش في عالم أشد عنفًا وأكثر قلقًا من عالم الكاثوليك في القرن الثالث عشر. إن البروتستانتية الأولى جاءت لا لتقيم سلامًا، ولكن لتشهِرَ سيفًا. والسيف يؤدي إلى نتائج فظيعة دامية. في حين أن «الكشافة» و«معونة السيدات» لا تستخدم السلاح.
أشكال البروتستانتية
وليس التكرار في السطرين الأخيرين خطأ مطبعيًّا.
إن الباحث النظامي الذي يأخذ على عاتقه تصنيف الكنائس البروتستانتية لا يجد بين يديه معيارًا واحدًا يقيس به. والواقع أن العنوان الذي اخترناه لهذا الفصل من الكتاب — وهو «أشكال البروتستانتية» — قد يدل على نسق خاص لا يتفق والواقع، وذلك إن أخذنا الأشكال (وهي في الأصل الإنجليزي ألوان الطيف) بمعناها الحرفي. وتستطيع أن تصنِّف الجماعات البروتستانتية — على الأقل في بلد معين — طبقًا لقيمتها الاجتماعية، أو ثراء أعضائها، أو مقدار ابتعادهم الديني عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، أو درجة حماستها الإنجيلية، أو مدى قيامها على أسس الكتاب المقدس. وسوف نأخذ هنا الكنيستين الوطنيتين الكبيرتين، الأنجليكانية واللوثرية — وهما في عين الناقدين تتبعان أراستس؛ أي تُخضِعان القوى الدينية للقوى الدنيوية — مثالًا لليمينيين في البروتستانتية، والطوائف الكالفنية مثالًا للوسط العظيم، والطوائف الأشد ثورة مثالًا لليساريين. ويلاحظ أن «النظامية» تطورٌ تم في القرن الثامن عشر، لا نستطيع أن ندخله في حسابنا هنا.
وكانت النسبة إلى أراستس (الأيراستي) لفظة تدل على الكفاح، تثير الحماسة في الجدل عند آبائنا بالتأكيد كما تثيرنا اليوم لفظة «الاشتراكي». وهي باختصار ذلك المبدأ الذي ينتمي إلى رعاية رجل سويسري من رجال الدين (ولا أريد القارئ أن يخلط بينه وبين أرازمس ابن مدينة روتردام، ذلك الإنساني الهولندي). وقد دعا إلى ألا تَخرج الكنيسة عن أن تكون هيئة من الهيئات التابعة للدولة؛ فرجال الدين هم شرطة الآداب في الدولة، والوطنيون العلمانيون هم الذين يعادلون بين كلمة الله وكلمة الحكام.
إن الكنيسة الوطنية — بحكم انحصارها في تكوينها الزمني في دولة معينة أساسها الأمة — لا بد أن تكون أراستية إلى حدٍّ ما. والكنيسة الوطنية في إنجلترا لم تكن تحتكر الحياة الدينية في البلاد على أية صورة من الصور. وقد عارضتها من قديم حركاتٌ انفصالية قوية، وانقسمت في الداخل إلى جماعات «مرتفعة» كادت تكون كاثوليكية رومانية، وجماعات «منخفضة» تكاد تكون موحدة، مع وجود جماعة ضخمة بينهما في الوسط. وأقول في إيجازٍ إن كنيسة إنجلترا كانت مجموعات من المتناقضات الكنسية؛ هي كنيسة مفردة فيها تطلعات إلى الكاثوليكية (أو العالمية) وفيها تنوع فريد في الأفكار والميول. وحتى في هذه الحالة كانت كنيسة إنجلترا تبدو أراستية في أعين خصومها، وليس من شك في أنها كانت خلا القرون الأولى انعكاسًا لطريقة الحياة التي عاشها الأعيان المستجدون من الناس والطبقات المحافظة على وجه العموم، وقد كان لكنيسة إنجلترا في عشرات السنين القلائل من وجودها تاريخ عاصف من النجاح والفشل، خرجت منه في عهد إليزابث مثالًا كلاسيكيًّا لقدرة الإنجليز على التوفيق — أو إن شئت فقُل إنها زعمت أن بعض الصعاب ليس له وجود. وحتى في القرنين الأولين بعد لوثر — إذن — لم تكن كنيسة إنجلترا شيئًا بسيطًا، وإنما كانت عالمًا مصغرًا للعالم البروتستانتي. كانت الكنيسة الإنجليزية أساسًا كنيسةً بروتستانتية محافظة، تحترم السلطة المدنية إن لم تكن مسترقة لمبادئ أراستس، وكانت من الناحية الدينية ومن ناحية الطقوس قريبة من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تنقصها الحماسة البروتستانتية لتطهير هذه الدنيا، ولكنها أبقت مع ذلك تحت رقابتها المرنة — والتشبيه بالمرونة هنا دقيق إلى حدٍّ كبير؛ لأن العقل الأنجليكاني يمكن أن يُمَط — جيشًا جرارًا من العصاة المتحفزين الذين قد يلجئون إلى روما، أو إلى جنيف، أو مباشرة إلى السماء، وقد كان هؤلاء العصاة المتحفزون يتحولون إلى عصاة فعليين في أوقات مختلفة. غير أن الكنيسة عاشت مع ذلك، وهو أمر يحير أصحاب العقول المنطقية، ويسيء إلى دعاة الكمال الخلقي، ويَسرُّ أولئك المعجبين بالإنجليز اللاعقليين.
إن التاريخ المذهبي لكنيسة إنجلترا من قانون السيادة الذي صدر عام ١٥٣٤م حينما انفصل هنري عن روما، حتى قانون التسوية الذي أصدرته إليزابث في عام ١٥٥٩م، مثال فريد للجماهير البشرية التي تمر بسلسلة من أصول دينية يعارض بعضها بعضًا بقوة متعادلة. وليست هذه الظاهرة فذة أو مستحدثة في تاريخ العرب؛ حيث كان الناس في عصور التحول الاجتماعي والفكري يهيئون عقولهم، إذا لم يفتحوها تمامًا. وتُعَد التغيرات التي طرأت على تكوين الحزب الشيوعي الرسمي في عام ١٩٣٨م مثالًا تقليديًّا كلنا يعهده؛ فقد كان العضو المخلص في عام ١٩٤٠م لا بد أن يؤمن بفضل هتلر، وكان لا بد أن يؤمن بشره في عام ١٩٤١م، وهكذا في كثير من التحولات التي تحيِّر الألباب. ولكن الحزب كان مكوَّنًا من الصفوة، من جماعة صغيرة نسبيًّا حتى في روسيا. وقد تعرَّض رواد الكنيسة كلهم لهذه التقلبات في إنجلترا في القرن السادس عشر. وكان لا بد لنفس الرعية الوادعة العادية، رعية الملك، أن تقبل أولًا حلول هنري الثامن محل البابا، واستعمال الإنجليزية بدلًا من اللاتينية في صلوات الكنيسة، وتغيرات قليلة أخرى، أوضحها إمكان زواج القسس. وقد ضرب المَثل بالزواج الأسقف كرانمر، ذراع الملك اليمنى في هذه الأمور الخطيرة، وهو قسيس درس في الخارج، وعرف الإصلاح الجرماني معرفة أصيلة. ثم عرف الشعب المخلص بعد ذلك أن هنري حكم بأن كرانمر قد تجاوز حدوده. إن عدو لوثر، المدافع عن الدين، كان لا يريد أن يرى هذا الدين وهو ينهدم. إنه أراد أن يكون شعبه كاثوليكيًّا تحت هنري، لا تحب البابا. ولذلك فقد دفع هنري بشخصه في عام ١٥٣٩م إلى البرلمان المواد الست التي عُرفت ﺑ «السوط الدامي ذي الفروع الستة». وطبقًا للمادة الثالثة «لا يجوز للقسس الزواج، بعد أن يتولوا مناصبهم الدينية بحكم الشريعة كما كان يجوز لهم من قبل». وعاد الاعتراف الشفوي، وتأكَّد مذهب القربان المقدس.
ولم يكن ذلك سوى بداية. ولما مات هنري خلَفه ابنه الصغير إدوارد السادس. وقد نشأ الطفل على الطريقة البروتستانتية، وتوجَّهت الرعية الطيبة تحت حكمه القصير إلى كنيسةٍ تؤدي فيها الصلاة على الطريقة البروتستانتية الكاملة. وفي عام ١٥٥١م أسهم في اثنتين وأربعين مادة وضعها كرانمر ذاته، وحاول أن يوفِّق فيها بين الأطراف المتباعدة، ولكنه نبذ الكثير من المبادئ الكاثوليكية. وأباح للقسيس مرة أخرى أن يتزوج. ولكن إدوارد مات بغير خلَفٍ في عام ١٥٥٣م، فجاءت بعده أخته الكبرى ماري التي نشأت نشأة كاثوليكية. وبعد ماري التي عُرفت ﺑ «ماري الدامية» في الكتب الدراسية المتأخرة، عادت الأمة الإنجليزية كلها — شكلًا على الأقل — إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وحُكم على كرانمر بالإحراق، واستُشهد في سبيل قضيةٍ لا تقل كثيرًا في وضوحها عما يستحق الاستشهاد عادة. وارتدَّت الرعية الطيبة إلى عباداتها وصلواتها القديمة (وتُعرف باسم باترنستر وآف ماريا). غير أن ماري تُوفيت في عام ١٥٥٨م بعد جلوسها على العرش بخمس سنوات فقط، وخلفتها أختها الصغرى إليزابث، التي كُتبت لها حياة طويلة لم تُكتب لأخيها وأختها، واحتلت مكانة بعيدة في قلوب الإنجليز البروتستانت.
وكانت إليزابث بروتستانتية، وفي عهدها تم الاعتراف مرة أخرى بالكنيسة الوطنية، وصدر قانون للسادة جديد يضع التاج مكان البابا، كما صدر قانون تسوية يدعو إلى توحيد العبادة في جميع أنحاء المملكة. ووُضعت مجموعة أخرى من المواد التي تتعلق بالدين والمبادئ، وهي المواد التسع والثلاثون التي لا تزال ميثاق الكنيسة الإنجليزية. وارتدَّت الرعية المخلصة إلى الصلاة بالإنجليزية، وإلى أصول دينية تستبعد الأسرار المقدسة ولا تبقي إلا على القديسين الرسوليين أو القريبين من الإنجليز؛ أي إن الرعية أصبحت في الواقع أنجليكانية. وقد رأى أبناءُ هذا الجيلِ كرومويل يربط خيلَه في الكنيسة. نعم ربما رأَوا ذلك بيد أن الأزمة مع روما — على الأقل — قد انتهى عهدها.
إن الرعية المخلصة — ما لم تتحرر من المسئولية إلى حد البلاهة — يستحيل عليها أن تصدق الأمور المتناقضة التي تعترف بها، إن هي أطاعت أوامر الدِّين في تلك السنوات الخمس والعشرين المتقلبة. وهنا حالة تقليدية لمشكلة ستواجهنا إلى النهاية عندما نحاول أن نقدِّر أهمية الأفكار في العلاقات الاجتماعية إذا كان الفرد المؤمن من الرعية يأخذ مأخذ الجد المطلق كل الأفكار التي يتحتم عليه قبولها لطار صوبه، وربما آثر بطبعه اتجاهًا على اتجاه، وإنما كانت تنقصه الطاقة أو الشجاعة لأن يقوم بأي عمل؛ ولذا فإنه يعتقد ما يصادفه. وإذا كان الكثيرون من الناس يسلكون هذا السلوك، فمن المهم بالنسبة إلينا أن نفهم هذا السلوك. ربما كان لا يأبه بأية فكرة من هذه الأفكار، وربما توجَّه إلى الكنيسة كما يتوجه الناس إلى دار السينما، لمجرد أن يقوم بعملٍ ما. ومن الطبيعي أنه لم يكترث إن كان إدوارد أو ماري أو إليزابث صاحب التوجيه. وإذا كانت هناك كثرة من هذا القبيل فمن المهم أن نعرف ذلك. وربما لم يقف أكثر الناس هذا الموقف البسيط، وإنما لاءموا سلوكهم بطرقٍ خفية معقدة لا نستطيع أن ندرك كنهها. غير أن أمرًا واحدًا يتضح من هذه السنوات الخمس والعشرين من التاريخ الإنجليزي وحده: إن الكتل البشرية تستطيع أن تكيِّف نفسها للتغيرات التي تطرأ على الأفكار المجردة، والفلسفات، وأصول الدين، ولما بين هذه الأفكار من صراع، وهي تفعل ذلك بطرقٍ ليس بوسع المثالي المخلص صاحب الرأي الثابت أن يعللها، اللهم إلا إذا تخلى عن كونه مثاليًّا بالنسبة لإخوانه في الإنسانية.
أمست الكنيسة اللوثرية هي الكنيسة الوطنية الثابتة في أكثر بقاع شمالي ألمانيا وسكنديناوة. وقد بدت للغريب — وبخاصة في بروسيا — مثالًا تقليديًّا للأخذ بمبدأ أراستس في تطرف شديد، يديرها حكام الدولة عن طريق رجال الدين الخاضعين، وتبث ذلك الإحساس الجرماني القوي بالاستمساك بالطاعة — وهي حقيقة أبعدُ ما تكون عن وصفها بأسطورة خلقتها دعاية الحلفاء في الحربين العالميتين. ولم تأخذ الكنيسة اللوثرية بالتقشف الكالفني بأكثر مما فعل الأنجليكان؛ فقد كانت دائمًا تشجع الموسيقى. كما احتفظت بطقوسٍ موقرة وبقدر كافٍ من الأصول الدينية الكاثوليكية يسمح ببقاء القربان المقدس معجزة، وليس مجرد ذكرى عاطفية معقولة للعشاء الأخير، وقد كان لوثر نفسه كالصخرة الجامدة في هذا الشأن، وكان يحب دائمًا أن يكون كالصخرة الجامدة. لقد قال المسيح: «هذا جسدي.» وليس الجسد مجرد رمز، ووجد نفسه مضطرًّا إلى أن ينبذ مبدأ الكاثوليكية الذي يقول بتحول النبيذ والخبز إلى دم المسيح ولحمه، ما دام هذا المبدأ يحتل مكانة بارزة في العقيدة الكاثوليكية. ونادى بمبدأ آخر من اختراعه هو الوجود الفعلي لدم المسيح ولحمه في العشاء الأخير. ودافع عن هذا الرأي بما نسميه الجدل المدرسي. إنه يضع لفظة جديدة مقطعها الأول معناه «الوجود العقلي» لتحل محل اللفظة القديمة التي يدل مقطعها الأول على «التحول». ومن العسير علينا أن نتابع تفكيره. ويكفي الرجل العادي الذي لا يريد أن يتعمق أن يدرك أن العناصر هي الخبز والنبيذ «مع» دم المسيح وجسده، «وكلاهما» طبيعي ومعجز، كلاهما «بالفعل» لا «في الظاهر» فحسب. والمذهب من بعض النواحي نموذج لمذهب التوفيق، وهو جهد فارغ للجمع بين المتناقضات، وبالرغم من ذلك فكم من رجل مات في سبيل «الوجود العقلي» ضد «التحول». كما مات من قبلُ قومٌ يؤمنون بأن الثالوث من مادة واحدة معارضين في ذلك القائلين بأن الأب والابن من مادة واحدة. وكما مات قوم في سبيل الديمقراطية ضد الدولة الشمولية.
والكالفنية هي مركز البروتستانتية. ولا يزال أسلوب الحياة الذي كان نتيجة لتأثير الكالفنية في هذه الدنيا عنصرًا بارزًا في ثقافة الغرب. وليس هناك لسوء الحظ طريق سهل واضح المعالم يؤدي إلى فهم الكالفنية. كان لها مؤسس، وكان لها كتاب عظيم هو «معاهد الديانة المسيحية» الذي نشره كالفن في عام ١٥٣٥م. ولكن مجرد قراءة هذا الكتاب يبصرك بالكالفنية بأقل مما يبصرك مجرد قراءة كتاب «رأس المال» بالماركسية. وقد نَمَت الكالفنية من الكتَّاب ومن جماعةٍ تخضع لحكم رجال الدين في جنيف حتى أصبحت ديانة عالمية، وذلك بجهد آلاف الرجال والنساء في مئات المجتمعات. ومهما اجتهد مؤرخ الفكر فإنه يجد أنه لا يستطيع أن يحيط بحركةٍ ارتبطت في كثير من النواحي بتاريخ الغرب منذ القرن السادس عشر.
وهناك مباينة واضحة بين لوثر الجرماني، سهل الإثارة، الرجل المتناقض، الذي لم ينشأ على تربية نظامية، وبين الفن الفرنسي، البارد، المنطقي، المنظم. وتستطيع أن تتوسع في شرح هذا التباين في كتاب، كما تستطيع ذلك بالنسبة إلى البارثنون في أثينا والكاتدرائية في شارتر. وإنما يجب عليك ألا تغفل عن أن كالفن أيضًا كان ثائرًا، رجلًا «يريد أن تتغير الأمور»؛ لأن كالفن أيضًا كان يرى أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية كانت تسيء التصرف في الناس، ولم تَعِش وفقًا لما أراد الله عندما أرسل يسوع إلى الأرض. كما كان كالفن كذلك يرى ضرورة البحث عن طريقٍ يؤدي إلى المسيحية الصادقة.
وقد وجد هذا الطريق — كما وجده الكثيرون غيره — فيما قام به القديس أوغسطين من أعمال؛ ذلك الطود الشامخ للأرثوذكسية. وليس هناك جدوى من محاولة تطبيق أية طريقة من طرق التحليل النفساني على كالفن، أو أن نبدأ — على الأقل — بعلم الاجتماع. وربما كان من الحق أن الكالفنية كما انتهت إليه كانت نظامًا من المعتقدات — الكونية والدينية والخلقية — يلائم كل الملاءمة الطبقة الوسطى الرأسمالية التجارية والصناعية. غير أن كالفن لم يتوفَّر على وضع هذا النظام لطبقةٍ وسطى كما توفَّر ماركس بطريقةٍ ما على وضع نظام لمن أسماهم البروليتاريا. وإنما وجَّه كالفن جهوده لكي يقدِّم للناس مرة أخرى كلمة الله الحق.
وكان إله كالفن يتصف بالصفات التقليدية للإله الأوحد — كان قادرًا على كل شيء، عليمًا بكل شيء، كله خير. غير أنه اتصف بكل هذه الصفات إلى درجة الكمال، إلى درجة غير إنسانية، حتى إن المرء لا يستطيع أن يتصور أنه يتسامح فيما يطلق عليه الناس صلفًا وغرورًا الإرادة الحرة. إن الله لا يقع خارج الزمان والمكان، ولكنه خالق الزمان والمكان، وخالق كلَّ ما يجري خلالهما، وهو على علم سابق مطلق كامل بكلِّ ما خلق. وليس للمرء أي اختيار فيما يفعل. وقد قدَّر الله كل شيء من قبل. وهو الذي دبَّر، أو أراد — إذا صح أن نستعمل هذه الألفاظ الإنسانية المحدودة في محاولة وصف أعمال «كائن» يسمو عنا كثيرًا نحن الديدان — سقوط آدم وما ترتب عليه. وقد يبدو تدبير سقوط آدم أمرًا لا يتفق وصفة الخير الكامل. ولكني أقول مرة أخرى إن من الادعاء الباطل أن نستخدم ألفاظنا الدودية في الحكم على أعمال الله. إن الله لا يمكن أن يفعل إلا الخير فيما يرى؛ لذلك فإن خطيئة آدم لا بد أن تكون — عند الله — خيرًا.
ومنذ خطيئة آدم لحقت بالناس اللعنة وكُتب عليهم عذاب جهنم. وليس من شك في أن هذه اللعنة نوع من العقوبة للإنسان على ادعاء الإنسان الذي يتمثل في عصيان آدم أولًا. وتذكرون أنه عصى أمر ربه الذي وجَّهه إليه صريحًا بألا يأكل من ثمرة شجرة المعرفة. ومن الحق أن آدم لم يستطِع أن يتحكم في نفسه، ما دام الله قد كتب عليه من قبل الغرور وهو الذي حرَّك أسنان آدم وهو يقرض التفاحة، وربما بدا أن الله في هذا لم يكن عادلًا ولو إلى درجة بسيطة. ولكني أقول مرة أخرى: إننا — من وجهة نظر كالفن — نقحم في تعسف شديد في التفسير رأينا في العدالة المبني على العقل البشري الضيق. إن الله «فوق» المنطق. والواقع أن الله هو الذي خلق المنطق كما خلق التفاحة.
ثم أرسل الله يسوع إلى الأرض لكي يأتي للقلة من السعداء بالخلاص عن طريق الاختيار. وأقول مرة أخرى إننا حينما نقول إن الله قد لان وقرَّر أن يعطي بعض بني آدم فرصة الخلاص إنما نتأثر إلى حدٍّ كبير بصفات البشر — أو الديدان. إنما كتب الله النعمة وما يترتب عليها من خلاصٍ لقلة صغيرة من الناس بدافعٍ من كمال ألوهيته وعن طريق يسوع. ولا يعلم إلا الله وحده مَن تكون هذه القلة، وليس من المستبعد أن يكون أكثرهم — أو كلهم — من الكالفنيين، وهم «الصفوة المختارة».
إن قدرية كالفن أقوى أثرًا وأشد صرامة من قدرية القديس أوغسطين. وقد رأينا أن أسقف هيبو قد حاول كثيرًا أن يعطي الناس حرية الإرادة، ويحتفظ لله بالقدَر. والظاهر أن كالفن لم يحس الحاجة إلى مثل هذا التنازل. ومع ذلك فإن المنطق لا يلين: إذا لم تكن لي أفكار أو رغبات خاصة، سوى ما كتب الله لي، فأنا إذن معذور عندما آخذ بالأفكار والرغبات كما ترد في حياتي. ومن المؤكد أن تلك الحالة من التوتر الخلقي التي أشير إليها ﺑ «مقاومة الإغراء» ليست واقعية. إن مقاومتي لما أريد أن أفعل مقاومة لله. فإن كنت أريد الفاحشة، فإن الله هو الذي أراد لي ذلك. وإذا كان لي خلاص، فإنما يرجع كله إلى نعمة الله. وليس لذلك الوهم الذي أسميه الضمير شأن بمسير الأمور، وإذن فمن حقي أن أرتكب الآثام بقلب مطمئن.
ولا أحسَب القارئ بحاجة إلى التذكير بأن كالفن لم يقف هذا الموقف. والكالفني في بعض المواضع يراوغ المنطق، ويقيم الضمير المسيحي الخلقي على أشده. ومن العدالة لكالفن أن نقول إن هذه النقطة هي بعينها أساسًا النقطة التي يفِرُّ عندها كل كبار المفكرين المسيحيين من الانعدام الخلقي الذي يرجع إلى القدرية الكاملة، إن قولك: «إنني أعلم أن كلَّ ما يمكن أن أفعله إنما أفعله لأن الله يريد ذلك.» هو في الواقع زعمٌ منك بأنك تدرك ما يريد الله، وإنك مساوٍ لله، ولست مجرد آلة عاجزة. إن الثقة بالخلاص هي أكبر آثام الكبرياء، وهي النقيض المباشر للتواضع الذي هو من أسس المسيحية المتينة. لقد كان المسيحيون العظماء يتصفون بهذا التواضع — بل لقد كان كالفن نفسه يتصف به. ولكنهم لم يكونوا متواضعين بالمعنى الشعبي للتواضع، وهو المعنى الذي يسوي بين التواضع والضَّعف، وهو ميل إلى الخضوع. كما كانوا في كثير من الأحيان ذوي عزم وسلطان.
وإذن فليس بوسعي أن أكون على ثقة بأن ما أريد فعله هو ما يريد فعله رجلُ اختاره الله ليكون من الصفوة، «وربما كان» ما أريد أن أفعله هو ما يريد أن يفعله رجل اختاره الله ليكون من الملعونين. وأرجو أن يلاحظ القارئ أنني حريص جد الحرص في لغتي، وربما قال أتباع كالفن المتأخرون المهملون إنه ليس بوسعي أن أثق بأن ما أريد أن أفعله هو ما يريدني الله أن أفعل — غير أن ذلك يعني أنني أستطيع أن أقاوم إرادة الله، وفي ذلك نقض للقدرية. ولمزيد من الإيضاح أقول: إني لا أستطيع أن «أقاوم» إرادة الله، ولكني لا أستطيع قطُّ — حتى إن كنت من الصفوة — أن «أعرف كل المعرفة» إرادة الله. والواقع أنني لو اعتقدت بأني أعرف إرادة الله فإنما يدل ذلك على أني ممن لحقتهم لعنة الله. ولكن قلَّ من الكالفنيين المتواضعين مَن كان لا يتناقض هنا. والكالفنية — «على المستوى العام»، بين العامة من أتباعها — لم تولد التواضع بصورة قاطعة.
إن الشاعر الاسكتلندي روبرت بيرنز في «دعاء القديس ويلي» يُجري على لسان الكالفني الأكبر ما يلي:
وبيرنز يعرض المبدأ في سخرية الفنان، ولكنه — برغم ذلك — مبدأ كالفني طيب. وبعد بضع فقرات من القصيدة نرى القديس ويلي يقتحم ذلك الكبرياء الروحاني — الذي لم يلمسه الخارجون وحدهم — عند الكالفنيين في مدى ثلاثة قرون، فيقول:
لقد أصبح الطريق إلى أخلاق الكالفنية الآن واضحًا، وهي الأخلاق التي أطلقت عليها الأجيال القليلة الأخيرة من المثقفين في أمريكا البيوريتانية متوهمين أنهم منها براء. إنني لا أستطيع — طبقًا لما يقول به البيوريتان — أن أعرف إرادة الله، ولكنه قدَّم إليَّ بعض الإشارات التي تدل على الطريق الذي يسلكه الفرد من صفوة الناس. وهذه الإشارات هي في كلماته أساسًا كما جاءت في الإنجيل. ومهما يكن من أمر فإن الكالفني — وقد نبذ الكنيسة الكاثوليكية التاريخية — لم ينبذ كلية تقليدًا مسيحيًّا أعم من ذلك، وهو الإيمان بالسلطان، وذلك بالإضافة إلى أن الشيوخ، وهم أصحاب السلطان في المجتمعات الكالفنية كانوا طبقًا للعقيدة الكالفنية على درجةٍ من الإلهام المؤكد بإرادة الله لم تكن لعامة الناس.
وقد أوضح الكتاب المقدس والتقاليد المسيحية — بتعزيز من رجال الدين وشيوخ الكنيسة — للبيوريتان إيضاحًا لا يترك مجالًا للشك أن البيوريتاني لو أراد فعلًا أن يرتكب الفاحشة فإن الله هو الذي يثير فيه الشهوة، ولكن عن طريق الشيطان، لا عن الله مباشرة بغير وسيط (وهذه اللغة ليست كالفنية، ولكنها واضحة). وهذه الشهوة هي من النوع الذي ينتاب أحد أولئك الذين لحقتهم لعنة الله. وهي من النوع الذي يسبب للبيوريتاني اهتمامًا بالغًا بمستقبل حياته — إذ ربما لا يظفر بالخلاص. وهي من النوع الذي يجدر به كبته كليةً إن أراد الخلاص فعلًا. وإن قُدِّر له الخلاص فعلًا مَلَك القدرة على كبت شهوته. إن الله الذي يستجيب للدعاء أو على الأقل لدعاء الكالفني — برغم قضائه الذي لا يُرد — يعين مَن يستعين به في درء الخطيئة.
إننا نعود إلى التقوى المسيحية، وإلى الأخلاق المسيحية، بأقوى تياراتها؛ فالكالفنية كأسلوب من أساليب العيش شكل من أشكال المسيحية المثالية، أو المسيحية التي تنتمي إلى العالم الآخر، وكثيرًا ما عاب عليها ناقدوها استبعادها بعض الناس، وهو ليس من المسيحية في شيء، كما عابوا عليها أن الصفوة لا تتجاوز أقلية صغرى. ومع ذلك فالكالفنية في الواقع تمثِّل محاولة لأن تمد إلى الحياة في هذه الدنيا شيئًا من المُثُل التي يئست الكنيسة الكاثوليكية التاريخية من زمان بعيد من مده إلى ما يجاوز رجال الدين في الأديرة وفي الحياة العامة. وكم من كالفني كان يتصف بالتأكيد بالكبرياء الروحاني، ولكنهم لم يكونوا بذلك كالفنيين أفضل من غيرهم. إن الكالفني لا يقبل أن يرتكب الآثمُ إثمَه طواعية إذا استطاع ذلك. وذلك بالرغم من أن المنطق الصارم يقول بأن الله قد أراد قطعًا للآثم أن يأثم. وحيثما كان الكالفنيون في الحكم كانوا يراقبون السلوك الذي يعدونه آثمًا، ويحرِّمونه، ويمنعونه، ويوقعون عليه العقوبات.
ومن الواضح في أذهانهم أنهم كانوا في هذا وكلاء الله، يقومون بما يفرضه الله عليهم، ومن الناحية العملية كان هؤلاء القوم — الذين يعتقدون اعتقادًا جازمًا في عجز الجهد البشري عن إحداث «أي تغيير» — من بين أولئك العاملين بحماسة شديدة في سبيل حث الناس على تغيير سلوكهم. وقد نجحوا في ذلك إلى درجة مذهلة. وعاونوا على قيام الثورة الصناعية وعلى خلق العالم الحديث.
إن الاتجاه المسيحي الذي أكده الكالفنيون في جلاء ووضوح هو الزهد، ومن اليسير أن يخطئ المرء فهم الزهد الكالفني أو أن يستخف به. إن الكالفني ليس بالمتصوف الذي يسعى إلى سحق الإدراك الحسي وإلى اعتزال هذه الدنيا، وإنما هو يسعى إلى أن يختار من بين شهواته الدنيوية تلك التي تقرِّبه من الخلاص، وإلى أن يكبت أو يحد من تلك التي لا تقربه. كان الكالفني يَعُدُّ الدنيا مكانًا جديًّا جدًّا في الواقع، الضحكُ فيه خروج على النظام، ويعتقد الكالفني أن هذه الدنيا بالنسبة لأكثرنا ليست إلا مدخلًا للجحيم والعذاب الأبدي. فإن أنت أحسست ذلك فعلًا فمن المحتمل ألا تبتهج كثيرًا. ويرى الكالفني أن أكثر المسرات التي يألفها الجنس البشري — الموسيقى الخفيفة، والرقص، والميسر، وفاخر الثياب، والشراب، وارتياد الملاعب وغيرها — هي ذلك النشاط الذي يحبه الشيطان، ولا أقول لا يحبه الله؛ لأن الله لا يقوم بأداء الأفعال البشرية فيحب أو لا يحب، ولكنه نشاط يَحُطُّ من قدْر تلك الجلالة الرهيبة على صورة من الصور.
ولم يرَ الكالفني — كما يرى بعض المسيحيين — أن الاتصال الجنسي إثم. وإنما كان شديد الإيمان بأنه إثم إذا انهمك المرء فيه خارج نطاق الزواج بزوجة واحدة، ذلك الزواج الذي يرتبط به شرعًا وتباركه الكنيسة. وإنك لتجد فيما كتب الكالفنيون الرأي الذي يقول بأن الهدف الذي يرمي إليه الإله من الاتصال الجنسي هو الاحتفاظ بالجنس البشري، وليس المتعة الحسية التي يشعر بها الطرفان. وإنما يشتد خطر هذه المتعة لأنها قد تؤدي إلى التمادي فيها خارج نطاق الزواج، وهو إثم من الآثام الكبرى. وإنما ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن البيوريتان، الذين كوَّنوا أسرًا ضخمة، وبخاصة في إنجلترا الجديدة، قد فعلوا ذلك بدافعٍ من إحساس بالواجب أليم. إن البيوريتاني لم يكن في الأغلب يتمسك بقتل شهوات الجسد بشكل قوي من أشكال تقاليد التزهد القديمة؛ فقد كان يحب أن يأكل طعامًا جيدًا، وأن ينام نومًا عميقًا، وأن يعيش في بيت مريح. والواقع أن من بين المآخذ التي أخذها بعض المثقفين الأحرار المحدثين على البيوريتان من آبائنا أنهم أهملوا الفنون الجميلة، والمتعة البدنية النبيلة، في سبيل النجاح التجاري المادي، وأسباب الراحة الدنيوية المبتذلة — أي إنهم كانوا بإيجاز أسلاف جورج بابت.
والكالفنية كذلك تضرب بشدة على نعمة مسيحية أخرى، وهي الفضيلة الخلقية؛ فقد كان الكالفني يتمسك بقانون أخلاقي سامٍ، يتغالى إلى حد التطرف في بعض اتجاهاته بدافع جديته في التفكير، ولكنه قانون لا يزال في أساسه يسير وفقًا لتقاليد جميع الديانات الكبرى. وبالرغم من — أو بسبب — إيمانه بالقدرية، كان يحاول دائمًا أن يعيش طبقًا لقانونه، كما يهمه أن يفعل كذلك غيره من الناس، وللاتجاهات الباطنية والظاهرية لهذا الجهد أهمية قصوى.
ومن المؤكد أن الكالفني كان يحس «الحرب الأهلية في صدره»، يحس النضال بين ما عُرف فيما بعد بالضمير البيوريتاني وأسباب الإغراء في هذه الدنيا. وهذه الفكرة التي ترى وجود جانب أسمى من الوعي البشري يمكنه — بل يجب عليه — أن يراقب وأن يكبح جماح دوافع الجانب الأسفل، قد تركت أثرًا قويًّا في الغرب، وهو أثر كانت تشتد قوَّته خاصة حيثما كانت الكالفنية هي النغمة السائدة. والظاهر أن روسو وفرويد لما يستطيعا أن يهزا بجد هذه الفكرة عن الدور الذي يلعبه الضمير — حتى في نفسيهما.
وهذه الفضيلة الخلقية — في اتجاهاتها الظاهرية — قد اتخذت أشكالًا عدة غير الحرمان الصريح المفروض بالقوة، وهو الحرمان الذي يبرزه نقاد البيوريتانية للحكم عليها. إن طريقة التحريم الصريح للرقص والتمثيل وما إلى ذلك موجودة قطعًا، وقد لجأ إليها الكالفنيون الأوائل بصورة طبيعية لأنهم — كما ذكرنا من قبل — لم يشغلوا أنفسهم، كما يشغل الديمقراطيون أنفسهم، بحرية الفرد. غير أن الكالفني كان يعتقد كذلك بالإغراء. فجعل الموعظة جانبًا أساسيًّا من عباداته. إنه لم يؤكد الهجوم على المذهب العقلي كما فعلت المسيحية من قبل، بل إن تأثير الكالفنية في نهاية الأمر كان دفع ما نسميه المذهب العقلي إلى الأمام، ولكن الكالفني في هذه السنوات الأولى لم يكن بكل تأكيد من العقليين؛ فهو يؤمن بنار الجحيم، وبالفوائد الخلقية للخوف من نار الجحيم، وهو يؤمن بالتحول العاطفي، وهو مبشر طيب، وإن لم يكن في أسمى قدراته بين الشعوب البدائية.
إن البيوريتانية — وهي لفظة ألِفنا نحن الأمريكيين أن نستخدمها استخدامًا مائعًا لا يرضى عنه علماء اللغة لتدل في إيجاز على أسلوب الحياة الكالفنية — مجموعة من مجموعات الآراء التي لا يمكن في الواقع أن تُحلل بالدقة الكيموية. إننا لا نستطيع أن نعرف البيوريتانية بالمعنى العلمي ﻟ «التعريف»، وقد حاولنا في شغف شديد أن نشير إلى بعض عناصر أسلوب الحياة البيوريتاني في القرنين الأولين من تاريخ البيوريتانية ولكنا لا نعدو مس الموضوع سطحيًّا، وحتى في هذه الحالة نجد مشكلة شاقة كبرى لا نستطيع إهمالها، وهي مشكلة الأوجه السياسية في الكالفنية ونتائجها.
أشرنا في فصل سابق إلى أن من أنواع التوتر في المسيحية ذلك التوتر القائم بين إحساسها بأهمية الفرد باعتباره روحًا خالدة، وحاجتها إلى التغلب على شخصية الفرد (أقصد أنانيته وشعوره بأهمية شخصه) إما بالخضوع لله وإما بالذوبان في المجتمع، أو بهما معًا، وإنا لنلمس شيئًا من هذا التوتر في الديمقراطية الحديثة باعتبارها أسلوبًا من أساليب العيش، أو باعتبارها مثلًا من المُثُل، وهو توتر نعبِّر عنه عادةً بالتوتر بين الحرية والمساواة. كلما زادت حرية الفرد، زادت المنافسة، وزاد أصحاب الربح العظيم وأصحاب الخسارة، وكلما زادت المساواة، ازداد الأمن، وزاد الحد من المضاربة، وقلَّت حرية الفرد.
وهذا التوتر قائم في الكالفنية في صورة معقدة بشكل خاص وذلك أن كالفن كان — كلوثر — مضطرًّا إلى الاعتراف بقدْر من الفردية لمجرد تمرده على الكنيسة القائمة. كان عليه أن يمحو سلطة الكنيسة الكاثوليكية في أذهان تابعيه. ولكي يحقق ذلك كان عليه أن يحثهم على الاستقلال في الفكر. وقد عاون هو وأتباعه — كما أشار إلى ذلك وبروتر ولتش وتوني وغيرهم — على تشجيع الفردية المتنافسة عند رجال الأعمال. إن نضال البيوريتاني مع ضميره كان نضال الفرد الواعي وعيًا كاملًا باكتفائه الذاتي، أو بعدم اكتفائه — وحتى شعور الكالفني بصغار الإنسان إزاء الإله الرهيب كان تعزيزًا لأهمية الفرد هنا في هذه الحياة، ولم يكن في ذلك أدنى تناقض — لأن الإنسان لا يمكن أن يبلغ الوعي بالله إلا كفرد، لا كواحد في مجموعة. وأخيرًا كان على الكالفنية خلال سنواتها الأولى أن تناضل ضد السلطة القائمة لمجرد حقها في البقاء كديانة فعالة، وهي لم تبلغ في فرنسا وإنجلترا وألمانيا في سنواتها الأولى ذلك النفوذ الذي بلغته في وقت مبكر في جنيف وبوسطن، وذلك الأمن الذي حققته في القرون المتأخرة حيثما كُتب لها البقاء. وكان يتحتم عليها أن تتحدى السلطة — ولقد كان كالفن نفسه صاحب السلطان في جنيف متحررًا أحيانًا وهو يزجي النصح لأتباعه في كل مكان.
فإن أنت ضممت هذا كله بعضه إلى بعض ربما آمنت بأن كالفن سبق ما صوَّره الدارونيون الاجتماعيون في القرن التاسع عشر على أنه الوضع الصحيح للإنسان، والمضاربة الكاملة الحرة للجميع في جميع مناحي الحياة، بحيث يتخلف الشيطان بحق في الصفوف. غير أن هذه النظرة خاطئة. ولا عليك إلا أن تغوص في الكالفنية العملية في جنيف في القرن السادس عشر أو في بوسطن في القرن السابع عشر لكي تلمس مجتمعًا إسبرطيًّا من بعض الوجوه في نظامه وجماعيته. كانت تحكم هذه المجتمعات من أعلى أقليةٌ من الفضلاء. ولم تكن هذه المجتمعات «ديمقراطيات» بمعنى الكلمة عندنا. لم تكن جماعات تمتد فيها الجماعية إلى السلع الاقتصادية، وإن يكن وجود الفقراء في كلتا الجماعتين من المسئوليات العامة — على الأقل لأن أخلاق الفقراء كانت بحاجة إلى رعاية. بل لقد كانت هذه الجماعات بمعنًى ما ذات أوضاع اجتماعية خاصة، كما يعرف كلُّ مَن درس التاريخ الاجتماعي القديم لإنجلترا الجديدة؛ فهناك — على سبيل المثال — قوائم قديمة لأسماء الطلبة في هارفارد مرتبة وفقًا لنوع من أنواع الوضع الاجتماعي، أو المرتبة الاجتماعية — مما لا نستطيع أن نفهمه فهمًا واضحًا. إننا نعلم أنها ليست مرتبة ترتيبًا أبجديًّا، أو وفقًا للتفوق في الدراسة، أو حتى طبقًا لدخل آبائهم.
غير أن الكالفنية في الميزان تميل نحو الديمقراطية، وربما كان النفوذ القاطع هنا هو لشكل نظام الحكم في الكنيسة، وسواء أكان شعبيًّا أم برسبتيريًّا فلقد كان على أية حال نظامًا يسمح لكل أعضاء الكنيسة من ذوي المكانة الاجتماعية الطيبة أن يشترك في الاجتماعات التي تتولى شئون الأبرشية، متحررة من سلطان الأساقفة أو أي سلطان آخر، علمانيًّا كان أو دينيًّا. وقد كانت ممارسة هذا النوع من الحكم في القرنين السادس عشر والسابع عشر في إنجلترا الجديدة أقرب إلى أن تكون ضربًا واضحًا من ضروب أوليجاركية «القديسين» منه إلى أن يكون ديمقراطية أساسها المساواة. غير أن التجربة الكالفنية — برغم ذلك — وقد طرقت في سنوات مقاومة إنشاء الكنائس، كانت لونًا من ألوان التدريب الذي ربما انتقل إلى الحكومة الديمقراطية، وأمد هذه الحكومة — في إنجلترا الجديدة على الأقل — بنوع من أنواع أدوات الحكم. بل ربما كانت عادة رجوع الكالفني إلى الإنجيل باعتباره كلمة الله المكتوبة هي التي أعدت الناس للرجوع إلى دستور مكتوب. غير أن هذا حكم من الأحكام العامة التي يشق على المرء التثبُّت من صحتها.
إن الجناح الأيسر من الحركة البروتستانتية يتألف من عدد كبير من الطوائف المناضلة. وربما وصفناها باليسارية نظرًا لأنه لم يكن لإحداها من النفوذ ما يجعلها جماعة مستقرة ينطبق كيانها على كيان دولة عظمى. وحتى «الصحابة» وهي الطائفة التي تُعدُّ من كثير من الوجوه أكثر الطوائف نجاحًا، والتي كانت قطعًا من أكثرها إثارة للاهتمام — حتى هذه الطائفة بقيت دائمًا قليلة العدد. ويرى الكاتب الذي يريد أن يصنف الطوائف أنها لم تشترك مع غيرها إلا في القليل نسبيًّا اللهم إلا معارضتها للكنيسة القائمة معارضة مشتتة عامة، وضآلة عضويتها، وكثرة تنوعها. وتُعَدُّ إنجلترا في القرن السابع عشر من خير الأماكن التي يستطيع الأمريكي أن يدرسها فيه، لانعدام المشكلات اللغوية — وهي المشكلات التي تلابس اللاتينية أو الجرمانية؛ لأنا نعلم أن الرسائل التي لا تُحصى التي تتعلق بالنزاع الديني في القرن السابع عشر لم تُكتب بلغتنا في العصر الحاضر.
ولو أردنا أن نقدِّم قائمة كاملة بالطوائف لطال بنا الحديث؛ فقد كان هناك «الحفارون» — وهم شيوعيون إنجيليون بسطاء اعتادوا الحفر في بعض الساحات العامة، التي تشبه الحدائق العامة عندنا تقريبًا — بحجة أن الله قد أعطى الأرض للجميع. وهناك رجال «الملكية الخامسة» أو «المؤمنون بعصر ذهبي بعد ألف عام» الذين كانوا يعتقدون بأن الملكية الرابعة من الوحي الإنجيلي كانت تقترب من نهايتها، وأنه قد كُتب لهم الدخول في الملكية الخامسة أو الملكية الأخيرة. وكانوا ينقسمون إلى جماعة سلبية تعتقد أن الله هو الذي يتعهد بالعمل الذي يجعل نبوءته صادقة في الوقت الملائم، وجماعة إيجابية رأت ضرورة الخروج والعمل على تحقيق النبوءة بالعنف إن اقتضت ذلك الضرورة. وكانت هناك طائفة «التسوية» واسمها يشرح مذهبها، غير أن هذه الطائفة كانت سياسية أكثر منها دينية. وكان هناك أتباع ليودوفيك مجلتون، ذلك الحائط الملهم، وما زالت هذه الطائفة موجودة باسم «المجلتونيان»، وهو اسم يشق علينا أن نأخذه مأخذ الجد الصارم. وكان هناك البهمنيون، والبديليان، والكوبينيون، والسالمونيون، والحفارون، والتراسكيت، والتيرون، والفيلادلفيون، والكريستادلفيان، والصور المتعددة من المؤمنين بعودة المسيح والمؤمنين بتعميد البالغين وحدهم بالتغطيس، وسيادة أسماء الأعلام — أعني أسماء القادة أو الأنبياء في هذه الطوائف — يشير إلى أنهم يمثلون تشقق البروتستانتية في النهاية بحثًا عن نوع من أنواع السلطة النهائية.
وينتمي كثير من الطوائف بشكل واضح إلى ما كان يُسمَّى «حافة الجنون» أو هو يتجاوز هذه الحافة. ودراستها تشوق كثيرًا رجل الاجتماع وعالم النفس، الذي يجد منذ ثلاثمائة عام مضت أعراضًا لولا الدراسة لظنَّها من سمات العصر الحديث، ولمَا فهمها — لذلك — فهمًا صحيحًا. إن مجرد وجودها يُعَدُّ من علامات الانقلابات الاجتماعية الخطيرة. إن هؤلاء المتطرفين يواجهون المؤرخ — الذي يحاول أن يعالج الأمور الإنسانية معالجة موضوعية دون استياء أو حماسة — بمشكلة خطيرة؛ لأنهم يتصفون بالاستياء الشديد والحماسة الحارة. إنهم لا يتصفون بالاعتدال، يثيرون الشغب حتى يبلغ عنان السماء، ويمقتون الصفات التي يحاول المؤرخ الموضوعي أن ينميها في نفسه. إنه يتخيل أنه يستطيع أن يرى في جلاء ووضوح كيف أن التاريخ كان يسير سيرًا أكثر إرضاء للنفوس، وأكثر قبولًا، وأشد إنسانية، لولا هؤلاء المثيرون للقلاقل، والذين يطلبون المستحيل. إنه يستطيع أن يرى الجانب الذي لا يَسُرُّ فيهم — استعدادهم للاضطهاد (إذا هم ظفروا بمكانةٍ يستطيعون منها أن يضطهدوا الآخرين)، وتسلطهم (إذا هم ظفروا بمكانة ذات نفوذ) وتوهمهم العظمة والشموخ، وتركيزهم أفكارهم في ذواتهم، وعجزهم عن تقدير الوفرة المتنوعة من أساليب الحياة الطيبة التي يستطيع الناس أن يحيوها.
وبهذه الطريقة الميسورة من إلقاء اللوم على هؤلاء المتطرفين تفوت الرجل المعتدل عظمتهم، ويعجز عن إدراك نفعهم للمجتمع. وما أضعف الاستعارات الواضحة؛ فهؤلاء المثيرون للزوابع ليسوا في الواقع خميرة، أو كالذبابة التي تلدغ الخيل فتحثها على المسير، وليسوا طليعة المجتمع. إنهم أحيانًا كما تصورهم هذه الاستعارات، ولكنهم ليسوا كذلك في أكثر الأحيان. إنهم يذكروننا جميعًا — وإن كنا لا نلقي لهم بالًا في أكثر الأحيان. إن الإنسان لا يستغني في كرامةٍ عن حافز المثل الأعلى، وهو لا يستطيع أن يخلد إلى الراحة في أمان — حتى إن كانت راحة الموضوعية. كان مونتيني لا يقدِّر المتطرفين إلا قدْرًا يسيرًا شأنه في ذلك شأن أي إنسان؛ فكان بوسعه أن يقول عن مبالغات الثائرين:
«إنني لا أرى عملًا واحدًا، أو ثلاثة أعمال، أو مائة. وإنما أرى حالة من حالات الفناء التي يقبلها الناس عامة، وهي حالة غير طبيعية، وبخاصة من حيث عدم الإنسانية والخيانة، وهما عندي أسوأ الآثام، حتى إني لا أملك أن أفكر فيهم بغير فزع. وهم يثيرون فيَّ من العجب بمقدار ما في نفسي من كراهية. إن عمل هؤلاء الأشرار المتجمعين فيه من علامات قوة الروح وشدتها بمقدار ما فيه من زلل وخلل.»
ويبدو أن بعض هذه الطوائف الجامحة كان من المؤمنين إيمانًا مجردًا بعصر ذهبي يسود لألف عام — أي إنهم كانوا يَعِدون بالنعيم على الأرض، ولكن بغير لمسات محسوسة، أو بصورة محسوسة في غير موضعها تدل على رمزية ثورية مستمَدة في الأغلب من العهد القديم ومن السِّفر الأخير من العهد الجديد. غير أن الكثيرين منهم، والكثيرين من المعتدلين في حماستهم، كانوا كما سبق أن اتفقنا على تسميتهم اشتراكيين في غير تحديد. وهم يمثلون تلك الفئة التي تظهر في تاريخ الفكر الاشتراكي. اهتمامهم الأكبر بحل مشكلة الفقر — لا أغنياء، ولا فقراء، وإنما رجال طيبون يشتركون في ثروة هذا العالم كما أرادت لهم الطبيعة وكما أراد الله لهم. وكثيرون يصرون على أنهم إنما يعودون إلى الكنيسة الأولى، التي قالوا إنها كانت شيوعية. وهم جميعًا يستخدمون لغة الدين، حتى حينما يعالجون شئونًا اقتصادية. إنهم في الواقع لا يختلفون كثيرًا عن أسلافهم المتأخرين في العصور الوسطى. إنهم يعادون الكالفنية التقليدية — وإن كانوا يشتركون في بعض المُثُل الدينية والخلقية الكالفنية — وذلك لِما اتضح من أن الكالفنية لا تعتقد في اقتسام الثروة.
وليس من العجيب أن نجد أن بعض هذه الفئات الجماعية هي أيضًا فردية في أساسها، بل لقد تصل أحيانًا إلى درجة الفوضى. وقد بيَّنت من قبلُ أن الكائنات البشرية تستطيع فيما يظهر أن تعيش سعيدة وسط متناقضات منطقية متعددة. وللاشتراكيين في العصر الحديث دائمًا جناح فوضوي. ومهما يكن من أمر فإن من الأحكام العامة الصحيحة التي تربط هؤلاء البروتستانت المتطرفين الأولين ميلهم إلى ما كان يُسمَّى في ذلك الحين «التحلل من قواعد الدين الخلقية». فكان الفرد الذي يعتقد في هذا التحلُّل يسير في الاتجاه البروتستانتي الأساسي إلى حد التطرف الشديد، وهو التبرير بالإيمان ردًّا على القول بالتبرير بالعمل؛ فكان يرى أن القانون، والعادة، وأي أمر، إنما هو في الواقع «عمل»، ومِن ثَمَّ يجب إهماله اللهم إلا إذا دلَّه صوتُه الباطني على أن ما نُصَّ عنه صحيح — وهو لم يكن كذلك عادة في تلك الأيام المضطربة الأولى. الصوت الباطني هو كل ما يهم المرء. وبعض «المتحللين من قواعد الدين الخلقية» اتبعوا في الواقع من الناحية العملية المنطق الذي تعقبناه من قبل وقلنا إنه ينبثق عن قدرية مطلقة. وقد احتجوا بأنه إذا كان الصوت الباطني يقول لهم إنهم من الخالصين، فإن من الواضح إذن أن كلَّ ما يفعلونه من تقدير الله، ولا يعوق خلاصهم. وقد اتُّهِم الثوار — الذين ظفروا في وستفاليا في الأربعينيات من القرن السادس عشر بفترات قصيرة من النفوذ — من جانب خصومهم بكل أنواع الفسق والفجور. وبالرغم من أن المحافظين يتهمون المجددين دائمًا بالأخلاق الشخصية المنحلة — والجنسية خاصة — التي تصدم الشعور، إلا أنه مما لا شك فيه أن بعض «المتحللين من قواعد الدين الخلقية» قد تابعوا منطقهم في السلوك الذي يُعَدُّ عادةً فوق التبرير المنطقي.
وكما أشرت من قبل عند ذكر تكاثر صنوف الهرطقة في القرنين الثاني والثالث من المسيحية، إلى أن هذا التكاثر هو من بعض الوجوه علامة من علامات قوة الشباب، فكذلك كان تكاثر الطوائف البروتستانتية دليلًا على قوة شبابها، دليلًا على أن الناس يأخذون مأخذ الجد الصارم المثمر الأمل في حياة أفضل في هذه الدنيا، على الأقل كإعدادٍ واجبٍ وضروري لحياة كاملة في العالم الآخر. وقد كانت هذه الطوائف — وهي في الواقع هرطقات بروتستانتية، بالرغم من أن هذا التعبير قد يسيء إلى البروتستانتية التقليدية في العصر الحاضر — تشتمل على طاقة عارمة، حتى عندما كان هدفها يبدو كأنه النعيم الباطل.
واستقرت البروتستانتية بحلول عام ١٧٠٠م. روَّض عصيانها النجاح، وحتى الكالفنيون تم لهم الاستقرار أو ظفروا بالتسامح في كل مكان تقريبًا. ولم تتجمد البروتستانتية حتمًا أو تكتفِ بذاتها، بل إنها لا تزال تتصف بحماسة التبشير، وبخاصة فيما تقوم به من عمل وراء البحار، وهي لا تزال تضم إليها كثيرًا من المسيحيين المتحمسين، إلا أنها قد توقفت عن النضال ضد الكاثوليكية عدوها القديم، كما أن الكنيسة الكاثوليكية ذاتها قد استجمعت منذ منتصف القرن السادس عشر مصادر كبرى من القوى الروحية، وأصلحت من مفاسد دنيويتها ولامبالاتها، ومن الفساد الذي دبَّ في كثير من المواضع في الكنيسة في أواخر العصور الوسطى. كما أنها نسجت غزل الكاثوليكية نسيجًا قويًّا في «مجلس ترنت» دون أن تحور تحويرًا أساسيًّا في قواعدها الدينية أو في طقوسها وشعائرها وأعادت الكنيسة بعد بعثها غزو ألمانيا وشرقي أوروبا بقوة الروح لا بقوة السلاح. وبات من الواضح بعد حرب الثلاثين عامًا أن البروتستانتية لا يحتمل أن تكتسح بلادًا أخرى في أوروبا. ولم تَعُد البروتستانتية في أساسها وفي أشكالها التاريخية عقيدة مكافحة. بل إن الطوائف نفسها التي انشقت بعد عام ١٧٠٠م — ﻛ «أصحاب التقوى» في ألمانيا و«النظاميين» في إنجلترا وأمريكا — كانت في صميمها ما يمكن أن نسميه بغير تجنٍّ بالطوائف «المواسية»، وهي جماعات تهدف إلى أن يكون الفرد سعيدًا (بالطريقة المسيحية بطبيعة الحال) أكثر مما تهدف إلى غزو هذا العالم والعالم الآخر. وقد اتصف أصحاب التقوى والنظاميون بالعاطفة القوية، واتصف قادتها بالشجاعة النادرة والإخلاص. ولكنك لا تجد عند هذه الطوائف المثالية العاصفة والعنف الموجَّه الذي تلمسه في البروتستانتية الأولى. إن البحث عن الكمال في هذه الدنيا كان يتجه وجهة أخرى، كان يتجه إلى ما أمسى يُعرف ﺑ «التنوير».