مقدمة

«قد يكونُ من المفيد دراسة وتوثيق أوضاع الأقليَّات بصورةٍ متكاملةٍ كوسيلة لتقدير حَجمِها الحقيقي، والبحث عن وسائلَ لحل مُشكلاتِها، أو على الأقل تقليصِ المعاناة التي يُواجهُها كثيرٌ من أفراد تلك الأقليَّات.»

المترجم
كانت هيمنة الدول بعضِها على بعضٍ في القرن التاسعَ عشَر مرتبطةً بالاستعمار، ومن ثَم بالقوة العسكرية، ثم تحوَّلَت في القرنِ العشرينَ إلى الهيمنة الاقتصادية، وهي الآن في القرن الحادي والعشرين تُطِل برأسها من خلال الثقافة. غير أن مصطلح الثقافة لا يُستخدَم في كتابنا الحالي بمعنى الفنون والآداب فقط، بل يعتمد اعتمادًا كبيرًا على التعريف الذي قدَّمه عالِم الأنثروبولوجيا «سير إدوارد تايلور» (١٨٣٢–١٩١٧م) في كتابه «الثقافة البدائية» الصادر في العام ١٨٧١م، الذي يُشير فيه إلى أن لفظ الثقافة يعني الكيان المركَّب الذي ينتقل اجتماعيًّا من جيل إلى جيل، ويتكوَّن من المعرفة، واللغة، والمعتقدات الدينية. والفنون، والأخلاق، والعادات والعرف، والتقاليد، والقانون … إلخ. وإذا كانت الهيمنة الآن للثقافة الغربية، فإن من فلاسفة السياسة في الغرب من يتصدَّى لهذا الغول الجديد الذي يسعَى إلى التهام الآخرين، ومعظمُهم من الأقليَّات الكثيرة التي يزخَر بها العالم؛ فالقارات الخمس تحتوي على أقليَّاتٍ عرقية، ودينية، وطائفية وسياسية من كل نوع، وإن كانت تتفاوت في درجة التماسُك والتنظيم والقدرة المالية والوعي بالذات والنشاط السياسي، وقد يكونُ من المفيد دراسة وتوثيق أوضاع الأقليات بصورةٍ متكاملةٍ كوسيلة لتقدير حَجمِها الحقيقي، والبحث عن وسائلَ لحلِّ مُشكلاتِها، أو على الأقل تقليصِ المعاناة التي يُواجهُها كثيرٌ من أفراد تلك الأقليَّات.١ فلقد كشفَت إحصاءات اليونسكو بشأن الواقع اللغوي في العالم أنه يُوجَد في عالمنا الراهن نحو ٦ آلاف لغة، غير أن المفارقة الغريبة أن نحو ٩٦٪ من سكان العالم يتحدثون ٤٪ فقط من تلك الآلاف الستة من اللغات. وإذا كان بعض علماء الأنثروبولوجيا يذهبون إلى أنه في جزيرة غينيا الجديدة ما يقرُب من ٧٠٠ لغة، فإن مئاتٍ منها آخذةٌ في الانقراض! لقد كان ستيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣م) — وهو من أعظم فلاسفة السياسة في القرن التاسع عشر — يعتقد أن الجماعاتِ الثقافيةَ الصغيرةَ تتخلى عن ثقافتها الموروثة، لكي تنضم إلى ثقافة الأمم الأقوى،٢ أما فلاسفة السياسة الآن فهم أكثَرُ إنصافًا من «مل»؛ إذ تراهم يُدافِعون عن الأقليات في جميع أنحاء العالم ويطالبون بحقوقهم — كما يسعَون إلى الاعتراف بالتعدُّدية الثقافية وما يتفرَّع عنها من «حقوق للأقليات» — وهي حقوقٌ تُؤثِّر بدَورها في مفهوم العدالة والمساواة، ومن ثَم في التطبيق الصحيح للديمقراطية.
وهذا الكتاب الذي نقدِّمه اليوم عن «التعددية الثقافية» يهمُّ القارئَ العربي، على وجه الخصوص، لندرة ما يُكتَب عن هذا الموضوع باللغة العربية من ناحية، ولأنه يُناقِش من ناحيةٍ أخرى «حقوق الأقليَّات» على اختلاف أنواعها التي لم نهتمَّ بها، وربما لأننا لم نفرُغْ بعدُ من السعي وراء حقوق الأغلبية حتى نتَّجه إلى الأقلية! أما مؤلِّف هذا الكتاب فهو ويل كيمليكا Will Kymlicka فيلسوفٌ كَندي وأستاذ الفلسفة السياسية بكندا، اشتُهر بمؤلفاته وأبحاثه عن التعدُّدية الثقافية. أمَّا كتابنا الحالي «أوديسا التعددية الثقافية» (ولقد آثَرنا أن نُبقي على كلمة «أوديسا» فلا نجعلها ملحمةً مثلًا لكي نُبقي على عنوان المؤلف كما هو، على أن نشرحه).
و «الأوديسا Odyssey» هي الملحمة الثانية الكبرى التي كتَبَها «هوميروس» شاعر اليونان العظيم، وكانت الملحمة الأولى هي «الإلياذة Iliad» التي تصوِّر حرب طروادة التي انتهَت بانتصار اليونانيين وتدمير طروادة، وبعد هذا الانتصار عاد اليونانيون إلى بلادهم ماعدا أوديسيوس Odysseus، أو هو باللاتينية أوليس Ulysses، أو هكذا كان الرومان ينطقون اسمه، وهو يعني باليونانية «ابن الغضب»، فلم يُسمح له بالعودة إلى بلده لأنه كان قد أهان إلَه البحر «بوزيدون Poseidon»، فصمَّم الإله على ألا يعود إلى بلده قبل عَشْر سنوات يقضيها بين أمواج البحر وأحداث الشاطئ، ولقد روى «هوميروس» في الأوديسا مغامرات أوديسيوس وما لَقِيه — ومن معه من البحَّارة — من أهوالٍ إلى أن عادوا إلى وطنهم.٣ والمؤلِّف هنا يستخدم اسم ملحمة هوميروس ليُخبِرنا منذ البداية أنه سيعرض علينا ملحمةً عن التعدُّدية الثقافية «تُشبِه ملحمة هوميروس القديمة التي روى فيها مغامرات أوديسيوس».٤

غير أن الملحمة الحالية «أوديسا التعدُّدية الثقافية» لها عدةُ مِيزاتٍ أساسية نُوجِزها فيما يلي:

  • أولًا: أنها تُحدِّثنا عن أحدث الموضوعات التي تشغل بالَ فلاسفة السياسة في العالم في وقتنا الراهن؛ فلم يكن أفلاطون أو أرسطو قديمًا، ولا القدِّيس أوغسطين أو توما الأكويني في العصر الوسيط، ولا مكيافلِّي ولا توماس هوبز حديثًا … إلخ، لم يكن عمالقة الفكر السياسي قديمًا ووسيطًا وحديثًا يهتمُّون بشيءٍ اسمُه «التعدُّدية الثقافية»؛ فهو موضوعٌ حديثٌ تمامًا في الفلسفة السياسية، ومن هنا فقد كان المؤلِّف على حقٍّ تمامًا في قوله — في مدخل الكتاب — إننا قد شَهِدنا في الأربعينَ سنةً الماضية ثورةً حقيقيةً في جميع أنحاء العالم في العلاقات بين الدول، لدرجة أن الدولة القومية القديمة ذات الثقافة الواحدة بدأَت تتلاشى ليحلَّ محلَّها التكيُّف الثقافي والديني عند الجماعات المهاجرة … إلخ. وانتهى عددٌ من البلدان إلى أن النماذج القديمة لم تعُد تتناسَب مع ظروفها التاريخية والسكانية! وهذا يعني أن الكتاب يعرض علينا موضوعًا جديدًا كل الجدَّة لم تعرفه الفلسفةُ السياسية من قبلُ!
  • ثانيًا: مِيزةٌ ثانية لهذا البحث وهي هذا القَدْر الهائل من ثقافة المؤلف الذي يكشف عنه هذا الكتاب، وربما تمثَّل جانبٌ منه في هذا العدَد الضخم من المراجع التي يُشير إليها المؤلِّف (أكثر من ثلاثمائة مرجع) ويجدُها القارئ في نهاية الكتاب، ومعظمها صدر حديثًا مما يُدلِّل على تتبُّع المؤلِّف لكل ما يصدُر في موضوع اهتمامه، فضلًا عن أن صاحب هذا الكتاب عالِم، بكل ما تحملُه الكلمة من معنًى؛ فهو غزير الإنتاج، كما أن كثيرًا من مؤلَّفاته تُترجَم إلى عدَد من لغات العالم.
  • ثالثًا: لا يكشف كتابنا الحالي عن فيلسوف «نظري» خالص يهتم بإقامة نظريةٍ خاصةٍ عن حقوق الأقليات أو التعدُّدية الثقافية فقط، بل هو باحثٌ يصقل أفكاره عن طريق المناقشات والمناظرات والندوات، ويمزج النظر بالعمل؛ ومن ثَم فهو يقبل كثيرًا من الدعوات لإلقاء محاضرات والاشتراك في الندوات، والمساهمة في مؤتمرات و«ورش العمل» على نحوِ ما يتضح من الشكر الذي وجَّهه إلى كثيرٍ من الهيئات والمؤسَّسات والأفراد، ولقد حصل من هذه المجالات جميعًا على كثيرٍ من الخبرات التي صقلَت أفكاره بشأن هذه الموضوعات العامة، سواء بالنسبة إلى التعدُّدية الثقافية أو حقوق الأقليات؛ إذ جعلَته يتمكَّن من كتابة «أوديسا التعددية الثقافية»، وجعلَته يُبحِر في مياه الثقافات المنوَّعة ليتعرَّف على الأقليَّات في كثيرٍ من المجتمعات.
بقي أن نختم هذه المقدِّمة بالإشارة إلى نوعٍ آخر من الأقليات هو الذي يفرزه النظام الديمقراطي (وهو أقليةٌ سياسية وليس ثقافية، لكنه مهمٌّ للغاية) وقد أشار إليه فيلسوفان من فلاسفة السياسة عند دراستهما للنظام السياسي الديمقراطي، فأشارا إلى طغيان الأغلبية في السياسة الديمقراطية وطمس معالم وحقوق الأقلية، وذلك من أخطر عيوب الديمقراطية، أما الفيلسوف الأول من هذَين الفيلسوفَين فهو المفكِّر الفرنسي الشهير «ألكسيس دي توكفيل A. De Toqueville» (١٨٠٥–١٨٥٩م) الذي كان أوَّل مَن لفَت الأذهان إلى طغيان الأغلبية، ومن ثَم طمس معالم الأقلية أو على الأقل إهمال حقوقها — وذلك في كتابه المهم: «الديمقراطية في أمريكا» الذي صدر الجزء الأول منه في العام ١٨٣٥م، والجزء الثاني في العام ١٨٤٠م، كما تأثَّر به تأثُّرًا واضحًا الفيلسوف الإنجليزي الكبير جون ستيوارت مل. لكن مع ذلك كله يظل موضوع «حقوق الأقليات والتعددية الثقافية» موضوعًا فريدًا غيرَ مسبوق؛ لأن المفكِّرَين السابقَين اللذَين أشرنا إليهما كانا يُناقِشان عيوب الديمقراطية ويُشيران إلى تخوُّفهما من أن تضيع حقوق الأقلية السياسية في النظام الديمقراطي في غَمْرة حماسنا للأغلبية.٥

أودُّ في النهاية أن أشكر هيئة تحرير سلسلة عالم المعرفة لاختيارها هذا الكتابَ الشائق للترجمة.

واللهَ نسألُ أن يَهديَنا جميعًا سواء السبيل.

إمام عبد الفتاح إمام
يوليو ٢٠٠٩م
١  راجع أيضًا «موسوعة العلوم السياسية» التي أصدرَتها جامعة الكويت (١٩٩٣-١٩٩٤م)، (المحرِّران د. محمد محمود ربيع، ود. إسماعيل صبري مقلد)، المجلد الأول، ص٥٥٢.
٢  Routledge Encyclopedia of Philosophy 1998-Cart: Multiculturalism.
٣  طالِع القصة بشيءٍ من التفصيل في كتابنا «معجم ديانات وأساطير العالم»، المجلد الثالث، ص٤٨ وما بعدها، مكتبة مدبولي بالقاهرة، العام ١٩٩٦م.
٤  لاحظ أن اسم الملحمة «أوديسا» هو نفسُه مشتَق من اسم البطل أوديسيوس ملك أيتكا في الأساطير اليونانية، وهو زوج بنلوبي Penelope التي نقضَت غَزْلَها لكي تُبعِد عنها الخطَّاب في غيابه، راجع قصَّتها في كتابنا السابق، ص١١٣.
٥  راجع كتابنا «الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي»، الطبعة الرابعة، دار نهضة مصر، بالقاهرة، ص٢٨٣–٢٩٠، وقد صدرَت الطبعتان الأولى والثانية من هذا الكتاب في سلسلة عالم المعرفة في الكويت، في العام ١٩٩٣م، العدد رقم ١٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤