الفصل الأول

مدخل

لست أهدف في هذا الكتاب إلى تقديم رسمٍ تخطيطيٍّ مفصَّل للمستقبل، بل بالأحرى إلى استكشاف العملية الجارية لتدويل التعدُّدية الثقافية، والتعرُّف على التحديات والخيارات الصعبة التي تُثيرُها أمامنا.

المؤلف

شَهِدنا في الأربعين سنةً الأخيرة ثورةً حقيقيةً في جميع أنحاء العالم في العلاقات بين الدول والأقليَّات العرقية؛ فلقد بدأَت تختفي النماذجُ القديمة للدولة القومية ذات النسيج المتماثل والمنسجم، كما ازدادَت المُنازَعات حولها وراحت تحلُّ محلَّها نماذجُ من التعدُّدية الثقافية للدولة والمواطَنة، وقد انعكَس ذلك، على سبيل المثال، في التبنِّي الواسع الانتشار للتكيُّف الثقافي والديني عند الجماعات المهاجرة، وقبولِ حق استقلال الأراضي واللغة للأقليَّات القومية، والاعترافات بمطالبِ البلاد وحقِّها في الحكم الذاتي بالنسبة إلى الشعوب الأصلية.

وكثيرًا ما كان هذا التغيُّر نتيجةً للعمليات السياسية المحلية التي تنشأ داخليًّا. وبعد فترة المنازَعات والمفاوَضات الداخلية، واستجابةً لتحرُّكٍ مكثَّف من بعض الأقليَّات، انتهى عددٌ من البلدان إلى أن النماذج القديمة لم تعُد تتناسَب مع ظروفها التاريخية والسكانية الخاصة.

ولقد كان لهذا التغيُّر التدريجي بُعدٌ دولي، كما كانت هناك منظماتٌ دوليةٌ بين الحكومات تشجِّع الدول، وربما تضغَط عليها في بعض الأحيان، لكي تتبنَّى منظور التعدُّدية الثقافية أكثر مما تفعل. وسوف تجد الحكومات — التي هي على استعداد للنظر في مسألة تبنِّي المواطَنة المتعددة الثقافات — «طابورًا» طويلًا من المنظمات الدولية على استعدادٍ لتقديم العَون والمهارات الفنية، والخبرة، والدعم المالي، في حين أن الدول التي تمسَّكَت بالنظم القديمة في التماثُل والتجانُس والاستبعاد وجدَت نفسَها خاضعةً للرقابة الدولية والنقد والجزاء. باختصار نحن نُشاهِد الآن ازديادًا في تدويل علاقة الأقلية بالدولة. كما نُشاهِد انتشارًا عاميًّا لفكرة التعدُّدية الثقافية كإطارٍ جديد لإصلاح هذه العلاقة.

وفي استطاعتنا أن نفرِّق بين مستويَين لفكرة التعدُّدية الثقافية تصبح الفكرة عندهما عالمية أو كونية. أولًا، هناك انتشارٌ كَوني للخطاب السياسي للتعدُّدية الثقافية، هناك مجموعةٌ منتشرةٌ من الأفكار حول أهمية التكيُّف مع الاختلاف والتنوع تناولَتها شبكاتٌ دولية غير حكومية، ويتناولها العلماء والباحثون، وواضعو الخطط السياسية. والواقع أن في أي يوم من أيام السنة، وفي أي مكان من أرجاء العالم، نجد أن هناك ندوةً تُعقد أو تقريرًا يُنشر يستهدف إذاعة أفكارٍ عن التعدُّدية الثقافية وممارستها. وهذه الأنشطة كثيرًا ما تتضمَّن الاشتراك في معرفة «أفضل الممارسات» في البلدان المختلفة، وبناء شبكاتٍ تتجاوز الحدود الإقليمية من الخبراء، والدعاة، والمبدعين، وخلق مناطقَ آمنةٍ للحديث في موضوعاتٍ حسَّاسة من الناحية السياسية ولتدريب المربِّين المحليين والبيروقراطيين، والمنظمات غير الحكومية والعاملين في أجهزة الإعلام على تحدِّيات تكيُّف السكان مع التعدُّدية الثقافية ومع التعدُّد العِرقي.

ثانيًا، هناك تقنين للتعدُّدية الثقافية في مجموعة من القواعد الدولية القانونية (أو شبه القانونية) تتجسَّد في إعلاناتٍ لحقوق الأقلية، ولقد شَهدَت السنوات الخمسَ عشرةَ الأخيرة بصفةٍ خاصةٍ تكثيفًا للجهود وتنميةً للمعايير الدولية لحقوق الأقليات على الصعيدَين المحلي والكوني. أما من الناحية الكونية أو العالمية فقد تبنَّت الأمم المتحدة في العام ١٩٩٢م إعلانًا بشأن حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية أو عِرقية أو دينية أو لغوية، كما ناقشَت مسوَّدةً لإعلان حقوق الشعوب الأصلية، وهناك منظماتٌ دوليةٌ أخرى بين الحكومات، مثل: «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونسكو UNESCO) ومنظمة العمل الدولية والبنك الدولي، طوَّرَت بدَورها قواعدَ ومعاييرَ جديدة بشأن حقوق الأقليات، وحقوق الشعوب الأصلية. كما كانت هناك أيضًا مسوَّداتُ إعلانات أعدَّتها منظَّمات المستوى المحلي، وذلك مثل إطار الاتفاق الذي أعدَّه المجلس الأوروبي في العام ١٩٩٥م لحماية الأقليات أو مسوَّدة إعلان حقوق الشعوب الأصلية التي أعدَّتها منظمة الدول الأمريكية في العام ١٩٩٧م، ومُعظَم هذه الاتفاقات والإعلانات لا يُمكِن في الواقع، تنفيذها من الناحية القضائية، أعني أن الأفراد والجماعات لا يُمكِنهم الذهاب إلى أي محكمةٍ دوليةٍ لإرغام حكوماتهم على السير طبقًا لهذه القواعد. غير أنَّه لبعض هذه القواعد جوانبُ لاذعة أو قارصة؛ فالدول بالتدريج تُراقِب وتبيِّن كيف يُمكِن لها أن تسير سيرًا حسنًا يتفق مع هذه القواعد، والفشَل في تحقيق هذا التوافُق لا تكون نتيجتُه الخضوع للنقد فقط، وإنما لعواقبَ ملموسةٍ في بعض الحالات.
وإذا كان المستوى الأول يتضمَّن انتشار مجموعة من المُثل العليا وأفضل الممارسات التي لا بد من أن تتطلع إليها جميع الدول، فإن المستوى الثاني يحتوي على تقنين مجموعة من الحد الأدنى من المعايير التي لا تقع تحتها دول قط. وهذه العمليات المزدوجة لانتشار فكرة التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات قد أعادت بطريقةٍ أساسيةٍ تشكيل التصوُّرات والمفاهيم التقليدية لسيادة الدولة، والقومية، والمواطنة مما يدعم النظام العالمي للدول القومية. ولا يُدهِشنا أن نجدها تُبدي قَدْرًا ملحوظًا من القلَق والمقاومة؛ لأن الانتشار العالمي لفكرة التعدُّدية الثقافية كان، ولا يزال، محل نزاعٍ عميق. ومع ذلك، فعلى الرغم من مغزى هذه الاتجاهات والمقاوَمات التي أبدَتها، لم تكن هناك دراسةٌ أكاديمية، للأسف، بشأن الانتشار الدولي لفكرة التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليَّات.١ ولقد أجهدَت الألفاظ التي صيغَت بها هذه الإعلاناتُ والاتفاقاتُ الدولية المحامين الدوليين في تحليل العبارات كلمةً كلمة،٢ لكننا لا نعرف شيئًا عن القوى الاجتماعية التي أنتجَت هذه الاتجاهاتِ أو فوائدها ومخاطرها، أو بدائلها التي رفضَتها أو حجمها. وترتكز هذه الاتجاهاتُ على بعض المزاعم حول «المشكلة» التي أثارَتْها العِرقية والسياسة العرقِية، وحول «الحلول» المناسبة، غير أن هذه المزاعم نادرًا ما تكون صريحةً واضحة، دَعْ عنك أن يكون من الممكن أن نُدافِع عنها.
وهدفي من هذا الكتاب هو التعرُّف على بعض الإحراجات الأخلاقية Dilemmas٣ والتعقيدات السياسية التي تُثيرها هذه الجهودُ الدولية لنشر التعدُّدية الثقافية، وأعتقد أن هذه التطوُّرات تقدُّمية في باطنها؛ فهي من ناحية تَعِد بحماية بعض الجماعات الضعيفة في العالم الحديث من الظلم الجسيم الذي يَحيق بها. لم تكن حال الأقليَّات العِرقية جيدةً تحت نظام وستفاليا Westphalia٤ لسيادة الدولة القومية؛ حيث تُوجَّه الخطط المختلفة نحو التماثُل واستبعاد الأقليات باسم بناء «دولة قوية متجانسة»، ولقد أغمض المجتمع الدولي عينَه تاريخيًّا عن هذه المظالم، لكنَّ هناك في يومنا الراهن التزامًا متناميًا لعلاج هذا الموقف، ويتقبَّل المجتمع الدولي على نحوٍ متزايدٍ أن دراسة الأقليَّات هي موضعُ اهتمامٍ دولي مشروع وقانوني، وينبغي أن تخضع للمعايير الدولية. وكحدٍّ أدنى فإن هذه المعايير المتطوِّرة تضع حدودًا للوسائل التي تستطيع الدولة الوستفالية القومية أن تستخدمها لمتابعة رؤيتها للانسجام القومي. غير أن هذه القواعد تقدِّم أيضًا — على الأقل ضمنيًّا — رؤيةً بديلة للدولة الوستفالية التي ترى التنوُّع على أنه واقعٌ حقيقي ودائم ويحدِّد سمة نظام الحكم، والتي تنظر إلى التسامح على أنه قيمةٌ أساسية. إذا نظرنا إليه في هذا الضوء فإن الاتجاه نحو انتشار نماذج التعدُّدية الثقافية يُعَد أمرًا مرغوبًا فيه.
وفضلًا عن ذلك فإن التصور الجزئي للثقافات المتعدِّدة الذي طوَّرَته المنظمات الدولية هو فيما أعتقدُ امتدادٌ تقدمي من الناحية الأخلاقية لمعايير الحقوق الإنسانية القائمة. وهناك أمثلةٌ كثيرة في جميع أنحاء العالم تَستَشهِد فيها النخبة المحلية بحقوق الأقلية وبلغة التعدُّدية الثقافية لكي يستمرَّ تفاوُت العِرق والطائفة (أو الطبقة المغلَقة Caste)، أو لجعل التراث والممارسات الثقافية الظالمة أمرًا مشروعًا.٥ غير أن المنظَّمات الدولية كانت حريصةً على تجنُّب أمثال هذه التصوُّرات القمعية غير الليبرالية لفكرة التعدُّدية الثقافية. إن الخطابات السياسية والمعايير المشروعة للتعدُّدية الثقافية، التي دفَع بها القانون الدولي والمنظمات الدولية، هي تطوُّرٌ طبيعي ومنطقي لمعايير حقوق الإنسان العالمية، وهي تعمل داخل ضوابطِ تلك المعايير. وبهذا المعنى، فإنها تعمل على تعميق وتدعيم ثورةٍ واسعةٍ لحقوق الإنسان.
ولا يُوافِق الناس جميعًا على ذلك؛ إذ ينظُر بعضُ النقاد إلى الحركة العامة لنشر التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات على أنها خيانةٌ للمثل العليا الأساسية للمجتمع الدولي، «إيلين فينكلكروت» على سبيل المثال يرى أن احتضان الأمم المتحدة فكرة التعدُّدية الثقافية تضمَن التخلي عن الفكرة الكلية العامة لعصر التنوير لمصلحة النسبية الثقافية:
«لقد تأسَّسَت الأمم المتحدة لإشاعة المُثل العليا الكلية لعصر التنوير الأوروبي، ولكنها الآن تُدافِع عن الأحكام العرقية المبتسَرة، معتقدةً أن للشعوب والأمم والثقافات حقًّا يُجاوِز حقوق الإنسان، ترفض جماعة التعدُّدية الثقافية القيم الليبرالية باعتبارها عنصرية، في حين أنها تُناصِر الشوفينية Chaivinism الضيِّقة المتزمِّتة لكل ثقافةٍ للأقلية» (فينكلكروت ١٩٨٨م).

والواقع أن وثائق الأمم المتحدة واضحةٌ فيما يتعلَّق بمعايير التعدُّدية الثقافية، ولا يُمكِن أن تُستخدَم بطريقةٍ تُجاوِز حقوقَ الرجل (أو المرأة). يذهب الإعلان العالمي لليونسكو، بشأن التنوُّع الثقافي، إلى أنه «لا يجوز لأحد أن يلجأ إلى التنوُّع الثقافي لانتهاك حقوق الإنسان التي يضمنها القانون الدولي أو لكي يَحدَّ من مجالها» (المادة ٤). كما يذهب إعلان الأمم المتحدة حول حقوق الأقليات إلى أن أي حقوق أو واجباتٍ مُعترَفٍ بها في هذا الإعلان «لن تحجُب تمتُّع جميع الأشخاص بحقوق الإنسان والحريات الإنسانية المعترف بها عالميًّا» (المادة ٨ «٢»). ويذهب اتفاق منظمة العمل الدولية حول حقوق الشعوب الأصلية إلى أنه لا بُد من احترام حق الشعب الأصلي في تدعيم ممارساته الثقافية «ما دامت لا تتعارض مع الحقوق الأساسية التي حدَّدها النظام القومي القانوني وحقوق الإنسان المعترف بها عالميًّا» (المادة ٨ «٢»). كما يذهب المجلس الأوروبي الذي وضع إطار اتفاقية حقوق الأقليات القومية إلى أن الاتفاقية لا بد من أن تفسر بطريقة تتناسب مع الاتفاقية الأوروبية حول حقوق الإنسان (المادة ٢٣). والواقع أن أي اتفاق أو إعلان دولي لهذه الأمور يشير إلى الملاحظة نفسها، فحقوق الأقليات والشعوب الأصلية هي جزء لا يتجزأ من الإطار العام للحقوق الإنسانية الأوسع، وهي تعمل داخل حدودها.

لقد أساء نقد فينكلكروت أساسًا فهم كل من دوافع المنظمات الدولية للاهتمام بهذا المجال، كما أساء فهم مضمون حقوق الأقليات. إن الخطابات والقواعد الدولية المنبثقة عن ذلك كله — كما سوف أبين فيما بعد — هي أساسًا ليبرالية الطابع، وهي بذلك تتسق بصفة عامة مع نظريات «التعددية الثقافية الليبرالية» التي طورتها النظريات السياسية الغربية الحديثة، حيث تفهم التعددية الثقافية على أنها مفهوم يرشده ويضبطه في آنٍ معًا الالتزام السياسي بمبادئ الحرية الفردية والمساواة.٦
وإذا كنتُ قد دافعتُ عن المثَل الأعلى للتعددية الثقافية في كتبي — لا سيما الكتاب الذي كتبتُه في العام ١٩٩٥م بعنوان «مواطنة التعدُّدية الثقافية: نظرية ليبرالية عن حقوق الأقليات»٧ — فقد ذهلتُ من الطريقة التي أفاد بها هذا الكتاب كثيرًا من المنظمات الدولية، وأميل إلى الاعتقاد بأن انتشاره الكوني أمرٌ مفيدٌ ومرغوبٌ فيه. والواقع أنني أشعُر بسعادةٍ غامرةٍ لأنني كنتُ بمنزلة جندي مشاة في هذه العملية. بينما كان كتابي المبكِّر يركِّز على المفارقات المحلية داخل الديمقراطيات الغربية، فقد طُلب مني آنذاك أن أناقش الصلة بين هذه الأفكار من أجل صياغة معاييرَ دوليةٍ لحقوق الأقليات والانتشار العالمي لنماذج التعدُّدية الثقافية وأفضل ممارساتها. ولقد أنفقتُ قَدْرًا كبيرًا من عملي في العقود الماضية في الاشتراك في الندوات ومراقبة الجماعات في هذه الموضوعات فيما يقرُب من اثنتَي عشرةَ دولة، من إثيوبيا إلى أستونيا ومن سورية إلى سريلانكا، ومن المكسيك إلى مولدوفا. ونتيجةً لذلك فقد تابعتُ من كثَب العمليات التي يتم من خلالها تداوُل مجموعة من المفاهيم والخطابات في جميع أنحاء العالم — أولًا (وليس حصريًّا) من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب — وانتشارها عَبْر الأوساط الأكاديمية، والمجتمع المدني، والبيروقراطية تحت مراقبة، وبمساعدة المنظمات الدولية.٨

بينما لا أزال متفائلًا بشأن هذا الاتجاه العام، فإن ارتباكي بشأن الطريقة التي تتكشَّف بها هذه العمليات في ازدياد، كما أنني متشكِّك في اتجاه تلك العمليات، أو الاتجاه الذي يجب أن تسلكه. ولقد واجهَت محاولاتُ تدويل نزعة التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات حقلَ ألغامٍ حقيقيًّا ممتلئًا بخليطٍ مضطربٍ من التصوُّرات والمفاهيم، والإحراجات الأخلاقية، والنتائج غير المقصودة، والتناقُضات القانونية والتلاعُبات السياسية، ولا يتضح ما إذا كانت هناك خريطةُ طريقٍ للإبحار وسط هذه العقبات. وعندما واجهَت الجهود الدولية هذه العقبات وصلَت في بعض الأحيان إلى نهايتها، وفي أحيانٍ أخرى انحرفَت عن الطريق القويمة. ولستُ أهدف في هذا الكتاب إلى تقديم حلولٍ سحريةٍ لتخطي جميع هذه الصعاب — ففي اعتقادي أن بعضها على الأقل، غير قابل للحل في المستقبل المنظور — بل أن أتعرَّف بوضوحٍ أكثر على التحديات التي تُثيرها الشِّراك المنصوبة أمامنا لو أننا تجاهلناها.

سوف أناقش عددًا من هذه المشكلات طوال هذا الكتاب، وهي تقع بصفةٍ عامةٍ تحت عناوين ثلاثة. أولًا: هناك مشكلة الفئات Categories، فهل الهدف هو قواعدُ ومعاييرُ يُمكِن أن تنطبق على جميع الأقليات، أم أن الهدف هو صياغةُ قواعدَ مختلفةٍ لأنواعٍ متعددةٍ من الأقليات. مثلًا، وضع قواعد مختلفة للجماعات المهاجرة والأقليات القومية والشعوب الأصلية. لقد تبادَلَت المنظمات المختلفة الأدوار بين هذَين الخيارَين اللذَين سوف أطلِق عليهما المقاربة «العامة» والمقاربة «الهادفة»، وليس ذلك في حد ذاته مشكلةً بالضرورة، ما دام أيُّ تصوُّرٍ معقولٍ لمفهوم التعددية الثقافية الليبرالية سوف يشمل في الأغلب توليفةً من المبادئ العامة والهادفة، أو الغرضية، ولكن الطريقة التي يتم من خلالها تحديد وتمييز الفئات الهادفة، كما أعتقد، تعسُّفية وغير مبرَّرة. وترتكز القواعد الدولية الحالية حصريًّا على ثلاث فئات هي: الأقليات، والأقليات القومية، والشعوب الأصلية، وليس في استطاعة هذه الفئات أن تعمل العمل المطلوب منها. ثانيًا: هناك مشكلة الظروف والترتيب بالتعاقب، بديهيٌّ أن التعدُّدية الثقافية الليبرالية يسهُل تبنِّيها من قِبل أنظمةٍ ديمقراطية؛ حيث يكون القانون وحقوق الإنسان مصونَين، أما في البلاد التي لا تُوجَد فيها هذه القواعد الأساسية للديمقراطية الليبرالية، فقد تكون في حاجة إلى توافُر مستوًى معيَّن من الديمقراطية الليبرالية قبل أن يكون هناك أي معنًى للدفع نحو التطبيق الشامل للتعددية الثقافية الليبرالية. ومع ذلك فإن مشكلة الصراع العِرقي العنيف، والحاجة إلى العثور على طرقٍ للتعايش العِرقي غالبًا ما تكونان أكثر ضراوةً في البلدان ذات الديمقراطيات الضعيفة. أيكون الهدف عندئذٍ هو صياغة قواعد تطبِّق عالمًا يتحقَّق فيه مستوًى معيَّن من الديمقراطية، أم يكون الهدف هو كبح الصراع العِرقي أو حله في الدول ذات المستويات المتفاوتة من الديمقراطية؟

لقد تناوبَت المنظمات الدولية بين هذَين المنظورَين، أحيانًا بإقرارها ﻟ «أعلى المعايير» لحماية الأقليات في المجتمعات الديمقراطية الحرة، وأحيانًا بإقرار الحد الأدنى من قواعد التعايش العِرقي التي يمكن أن نتوقَّعها في أي بلد. ومرةً أخرى ليست هذه مشكلةً ملازمة؛ فأي منظورٍ معقول لحكم التنوع العِرقي سوف يحتاج إلى الجمع بين المُثُل العُليا الطويلة الأمد والتوصيات البرغماتية القصيرة الأمد. غير أن الطريقة المحدَّدة التي جمعَت بها هذه المُثُل، فيما أعتقد، ليست متماسكة وقد تكون غير منتجة.

ويعكس عجز المجتمع الدولي عن مواجهة مشكلتَي الفئات والظروف معضلة ثالثة أكثر عمقًا: هي العلاقة بين العدالة والأمن تتضمن القواعد والمعايير الدولية على صورةٍ واعدةٍ للمستقبل، حيث يعترف بالأقليات العِرقية والسكان الأصليين على أنهم ممثِّلون شرعيون، وشركاءُ متساوون في الحكم في المجتمعات الديمقراطية. غير أن هذه الرغبة المتفائلة لخلق مساحةٍ أوسعَ لسياسة التعدُّدية الثقافية الديمقراطية تشوبها مخاوفُ قوية من أن السياسات العِرقية كثيرًا جدًّا ما تكون قوةً مزعزعةً للاستقرار، تُضعِف الديمقراطية والتنمية، وبالتالي لا بد من احتوائها، فهل الهدف هو أن نفتح المجال لسياسات التعددية الثقافية الديمقراطية النابضة بالحياة، أم أن الهدف هو كبتُ واحتواء الحَرَاك العِرقي المُزعزِع للاستقرار؟ تتناوب المنظمات الدولية بين هذَين المنظورَين كما يجب، ما دام المنظوران كلاهما يمثِّلان جوانب من الواقع المعقَّد للسياسات العِرقية المعاصرة. ولكن كثيرًا ما أزاحت المخاوف الأمنية اعتبارات العدالة، مشوِّهةً بذلك القراراتِ الخاصةَ بكلٍّ من الفئات والظروف، فجاءت النتائج مسيئةً لا إلى العدالة فقط، بل إلى الأمن كذلك، وهنا المفارقة.

لقد اتخذَت المنظماتُ الدولية قراراتٍ حول هذه المسائل جميعًا كان لها مغزًى في لحظةٍ معيَّنة من الزمن، كاستجابةٍ برغماتيةٍ للتحديات المباشرة، غير أن النتيجة المتراكمة خلقَت بنيةً للمعايير الدولية غير قابلة للاستمرار على المدى الطويل. وليس ثمَّة حلولٌ بسيطة وسهلة لأيٍّ من هذه المُعضِلات، ولو أن هذه المقاربات الحالية قد ضحَّت بالعدالة من أجل برغماتيةٍ قصيرة الأمد، فإن بعض البدائل المقترحة تشكِّل مخاطرةً عاليةً جدًّا على السلم والأمن، والطريقة المثلى للتقدم ليست واضحةً تمامًا. وهي ريبةٌ يعزِّزها الغيابُ الفعلي لأي مناقشةٍ أكاديميةٍ جادَّة حول هذه الموضوعات.٩

غير أن الواضح هو أن الوضع القائم غير قابل للاستمرار. والواقع أن المثالب قد ظهرت بالفعل. ولو أننا أردنا أن نحتفظ بتجربة تدويل التعددية الثقافية وحقوق الأقليات، فإننا نحتاج إلى التفكير طويلًا وبعمق في الأهداف التي نحاول أن نبلغها في هذه التجربة والمخاطر المستحقة لهذه المحاولة.

إن تدويل التعددية الثقافية موضوع ضخم ومتشعب، ولا أتطلع إلى تغطيته من جميع جوانبه؛ ومن ثَم فأنا بحاجة إلى قول بضعِ كلماتٍ عن النقطة الأساسية لما أطرحُه. وإلى تحديد بعض المصطلحات الأساسية، فيما يتعلق بكلٍّ من التدويل و«التعدُّدية الثقافية». لقد تحدَّثتُ بالفعل بطريقةٍ فَضفَاضةٍ عن «الممثلين الدوليين». وعن «الشبكات الدولية»، و«المنظَّمَات الدولية»، بل حتى عن «المجتمع الدولي»، وقد يَعجَب القُراء ويتساءلون: ما الذي تشير إليه هذه المصطلَحات السديمية الغائمة؟ إن محوري الرئيسي في هذا الكتاب يدور حول المنظمات الدولية ما بين الحكومات (أو اختصارًا IOs)١٠ التي أقامتها معاهدات بين دول العالم القومية، إما على المستوى الدولي (مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، ومنظمة العمل الدولية)، وإما على المستوى الإقليمي (مثل منظمة الولايات الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي)، المفوَّضة للحديث والعمل بالنيابة عن دولها الأعضاء. إن قرار هذه المنظَّمات الدولية لصياغة المقاييس والمعايير الخاصة بالتنوُّع العرقي، مستخدمة سياسة العصا والجزَرة (الترغيب والترهيب) لتنمية وتشجيع نماذجَ معيَّنة لحكم التنوُّع، هو قرار مصيري، كما أعتقد، ويؤدي إلى ظهور المفارقات والمعضِلات التي ذكرتها للتو.
وبالطبع حتى لو أن هذه المنظمات تسعى إلى صياغة المقاييس والمعايير في هذا المجال، فسوف يظل هناك كثير من القنوات غير الرسمية سوف تنتشر بواسطتها أنماط من التعددية الثقافية في جميع أنحاء العالم (IOs)، وبدعم هذه المنظمات أو من دون دعمها، فإن الممثِّلين المختلفين في كل بلد سوف يُمعِنون النظر في تجربة البلدان الأخرى باحثين عن أفكارٍ مناسبة، وحلفاءَ محتمَلين بطرقٍ مدروسةٍ دراسةً جيدةً في أدبيات «نقل السياسة» (مثلًا ويلاند ٢٠٠٥م، ستون ٢٠٠٤م. دولوتز ومارش ١٩٩٥م، جيمس ولودج ٢٠٠٣م). غير أن واقع المنظمات الدولية (IOs) كمتحدثٍ بلسان «المجتمع الدولي» تفويضًا لوضع «معايير دولية» يُثير المخاطر الأخلاقية والسياسية.

يمثِّل الادعاء بأن هذه المنظَّمات تتحدَّث بلسان «المجتمع الدولي» إشكالية، والواقع أن مصطلح «المجتمع الدولي» هو اسمٌ على غير مسمًّى، بقَدْر ما ستحضر صورة عن عالَم تسودُه الصداقة بين الدول بناءً على الاحترام المتبادَل والقيم المشتركة. والواقع أن نظام العالم يتسم بانقساماتٍ أيديولوجية، وبعلاقات الشك والريبة وانعدام الثقة والخصومة المتبادَلة، إن لم يكُن الاستغلال، مدعومًا بواسطة التفاوت الخطير من حيث القوة والتأثير. وقد يزعُم قادةُ الأمم المتحدة أنهم يتحدَّثون بلسان «نحن الشعب» (الأمم المتحدة العام ٢٠٠٠م) ويعكسون إجماعَ شعوب العالم ومجتمعاته. غير أن الأغلبية العظمى من شعوب العالَم ليس لها سوى القليل — وربما لا شيء — في تشكيلِ سياساتِ الأمم المتحدة. تعكسُ أنشطةُ الأمم المتحدة وخطَطُها اللاتماثل في القوى الدولية، مميزةً آراءَ ومصالحَ الغرب. ولا شك في أن ذلك صحيحٌ في مجال التعددية الثقافية؛ حيث نجد أن المعايير والمقاييس قد تشكَّلَت — إلى حدٍّ كبيرٍ جدًّا — من التجارب والخبرات الغربية، مع مساهمةٍ ضئيلةٍ من بقية أنحاء العالم. وكما سنرى فإن المعايير التي تقدَّمَت باسم «المجتمع الدولي» قد تمَّت مقاومتُها ورفضُها في أجزاءٍ كثيرةٍ من العالم، بوصفها تعكس — ببساطة — تحيُّزات الغرب وهمومه.

ولقد أدى هذا اللاتماثل الدولي ببعض المعلِّقين إلى القول إن علينا أن نستبدل الحديث عن «المجتمع الدولي» بالحديث عن «القوى الغربية»، أو حتى «الهيمنة الأمريكية». ومن وجهة النظر هذه فإن المنظمَّات الدولية تكونُ أساسًا وسائلَ لتقدم المصالح السياسية الجغرافية للدول الغربية الأكثر قوة، وليست آلياتٍ لتوحيد وتنمية القيم المشتركة لشعوب العالم؛ ومن ثَم فإن نشرها للتعدُّدية الثقافية هو جزء من «دهاء العقلية الاستعمارية» (انظر بورديو، وكوانت ١٩٩٩م). لكن إن كان من السذاجة افتراضُ أن المعايير التي تبنَّتها التعدُّدية الثقافية تعكسُ ضربًا من الإجماع الدولي الأصيل، فمن الخطأ كذلك أن نتعامل معها بوصفها مجرد تعبير عن الهيمنة الغربية؛ فالدول الغربية ذاتها منقسمة بعمق بشأن جدارة المعايير الدولية لحقوق الأقلية، كما أنها لا تسيطر باستمرار على الطريقة التي تتطور بها هذه المعايير؛ فمثلًا، عندما جاء دور التصويت على مسوَّدة إعلان حقوق السكان الأصليين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يوليو ٢٠٠٦م، تبنَّته ودعمَته الدول النامية في مقابل اعتراض كثيرٍ من البلدان الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، وكندا، ونيوزيلندا، وأستراليا.١١
على حين أن خطَط المنظَّمات الدولية لتنمية وتشجيع التعدُّدية الثقافية لا تعكس قيم «المجتمع الدولي» المتحد،١٢ ولا هي ببساطة تحسب حساب الخطة الأجنبية لدولةٍ مهيمنة أو لتكتلٍ قوي. والواقع أن المنظمات الدولية كثيرًا ما طوَّرَت هذه المعايير لأسبابها الداخلية الخاصة، لتحقيق خطَطها وأجندتها المؤسسية. وفي كثيرٍ من الحالات أعطت الدول الأعضاء القوية السلطة والتشجيع لعمل شيءٍ ما بالنسبة إلى التنوُّع العرقي، وكثيرًا ما تكون استجابةً لبعض الأحداث أو الأزمات الدولية الخطيرة (مثل أزمة دول البلقان في أوائل تسعينيات القرن الماضي).١٣ لكن ما انتهَوا إليه بصدد التنوُّع لم يكن مُقدَّرًا سلَفًا، ولم يكن من الضروري أن يحاولوا صياغةَ معاييرَ ومقاييسَ معيَّنة، أو أن تستخدم هذه المقاييسُ المقولاتِ والمفاهيمَ التي انبثقَت حديثًا. إن المنظَّمات الدولية مقيَّدة بواقعٍ سياسيٍّ جغرافيٍّ أوسع، ولكن داخل هذه القيود، هناك مساحةٌ مهمة للتجاوب مع مسائل التنوُّع العِرقي وفقًا لمنطق المنظَّمة المؤسَّسي. ولقد انعكس ذلك في اختلاف الطريقة التي نظَرَت المنظمات المختلفة بها إلى التنوُّع العِرقي؛ فمنظور البنك الدولي إلى التنوُّع العِرقي يختلف، مثلًا، عن منظور اليونسكو، الذي يختلف من ناحيةٍ أخرى عن منظور «منظمة العمل الدولية»، على الرغم من أنها جميعًا مدينةٌ للمجموعةِ نفسِها من الدول الأعضاء القوية. وبينما اتخذَت كل تلك المنظمات خطوةً أكبر باتجاه مساندة التعدُّدية الثقافية، فإنها تدرك مشكلة التنوُّع العِرقي بطرقٍ مختلفة، ومن هنا فهي تقدِّم حلولًا مختلفة تعكس مراسيمها المؤسَّسية المختلفة وثقافتها البيروقراطية.

في دراسةٍ حديثةٍ لميشيل بارنت، ومارثا فينمور، أظهَرَت أن الاستقلال الذاتي للمنظَّمات الدولية كان دائمًا موضع تقديرٍ بخسٍ من العلماء المعلِّقين الذين يعالجون سياساتها على أنها ببساطةٍ نتيجةٌ للمفاوضات بين الدول الأعضاء القوية (بارنت ومارث فينمور ٢٠٠٤م). وهذه الخطَط، في الواقع، كثيرًا ما تكون نتيجةً للصراعات داخل المنظَّمة ذاتها بمحاولة فريق العمل إعطاءَ معنًى لتفويضهم، والدفاع عن ملعبهم، والدفع بوظائفهم ومُثُلهم العليا إلى الأمام. ولم تُساعِد المنظَّمات الدولية فقط في تحديد الحلول المقبولة لمشكلات العالم، لكنها تُساعِد أيضًا في تحديد وتعريف هذه المشكلات في أول الأمر، عن طريق تشكيل إطارٍ مفاهيميٍّ لوصف الموضوعات وتحديد المخاطر والفرص.

إن التطور الحديث للمعايير والمقاييس الدولية فيما يتعلق بالتنوُّع العِرقي يزوِّدنا بكثيرٍ من الأمثلة على هذه الدينامية. وأحد الأمثلة التي سوف أناقشها بشيءٍ من التفصيل في الفصل السابع هو التغيُّرات الدرامية في الطريقة المختلفة التي تفهم بها المنظمات الدولية فئة «السكان الأصليين»، وفي الطريقة التي يميِّزون بها — أو لا يميِّزون — حقوقَ السكانِ الأصليين عن الأنواعِ الأخرى من الجماعات العِرقية الثقافية. وعلى قَدْر ما أستطيع أن أقول، فإن تلك القرارات تعكس أولويات المنظَّمات الدولية وإجراءاتها الداخلية، أكثر من إملاءات الدول الأعضاء القوية. والواقع يبدو أن للمنظمات الدولية استقلالًا ذاتيًّا ملحوظًا في تحديد موقفها من المُعضِلات الثلاث — التي تحدَّثتُ عنها فيما سبق — أعني كيف نصنِّف الأقليات وكيف نجمع الحقوق العامة والحقوق المستهدَفة، وكيف نجمع بين درء الصراع القصير الأمد مع المُثل العليا الطويلة الأمد، وكيف تتكامل الآمال لعدالةٍ أعظمَ مع مخاوفِ انعدامِ الأمان. ولا يُوجَد قرار من هذه القرارات مُقدَّر سَلفًا بواسطة قُوًى خارج المنظمات المحترَمة؛ فهي تنبثق من الطريقة التي تُحلِّل بها المنظماتُ الدوليةُ نفسُها مشكلةَ التنوُّع العِرقي وتحدِّد الحلول المُمكِنة لها.

وأنا أعتقد أن المنظَّمات الدولية، لسوء الحظ، كثيرًا ما مارست استقلالها الذاتي بطريقةٍ حبسَتها في ألغازٍ أخلاقية وغاياتٍ سياسية ميتة؛ مما عقَّد آمالها من أجل الانتشار العالمي للتعدُّدية الثقافية الليبرالية. وهذا ما سوف أذهبُ إليه في هذا الكتاب. ولا أريد أن أبالغ في مساحة هذا الاستقلال الذاتي. إذا سلمنا بالتفاوتِ العميقِ والتطاحُن في النظام العالمي، فإن هناك حدودًا بنيويةً للمدى الذي تستطيع فيه المنظمات الدولية أن تخدمَ كقنواتٍ من أجل التغيُّر التقدُّمي، بما في ذلك موضوعات التنوُّع العِرقي. لكن المنظمات الدولية تؤثِّر داخل هذه الحدود في الممثِّلين الدوليِّين، بقَدْرٍ كافٍ من الاستقلال الذاتي للقيام بمساهمةٍ ذاتِ مغزًى، جيدة أو سيئة، للطريقة التي تُفهم بها موضوعات التنوُّع العِرقي وتُحَل في جميع أنحاء العالم.

في حين أنني أتحدَّث عن المنظَّمات الدولية ما بينَ الحكوماتِ على أنها محورٌ أوَّليٌّ لدراسة تدويل التعدُّدية الثقافية، فإن هذه المنظَّمات لا تتخذ قراراتِها منفردة؛ إذ الواقع أن لديها عادةً فريقَ عملٍ صغيرًا ذا خبراتٍ في المجالات ذات الصلة؛ وبالتالي فإن مجهوداتها في التعرُّف على المعايير وتطويرها قد اعتَمدَت بشكلٍ كبيرٍ على مشاركة الممثلين الآخرين؛ فقد جنَّدَت المنظماتُ الدوليةُ الأكاديميين ومراكزَ الأبحاث، والمؤسَّسات الخيرية، وجماعاتِ الدفاعِ المحترفة، ليجلسوا في فِرقٍ كاستشاريين يصوغون أوراقَ العمل ويعملون كشركاءَ في مشاريعَ وبرامجَ مترابطة.١٤ ولقد خلقَت هذه الروابط ما أطلق عليه كوفي عنان اسم «شبكات السياسة الدولية» (الأمم المتحدة العام ٢٠٠٠م)، التي تركَّزَت حول «المنظمات الدولية» (IOs)، لكنها امتدَّت إلى الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني، وعملَت على مجموعةٍ مشتركةٍ من المشكلات ذاتِ مجموعةٍ مشتركةٍ من الافتراضات والأهداف. والواقع أننا كثيرًا ما نجد صعوبةً في تمييز الترابُط والاعتماد المتبادلَين بين هذه الشبكات. إن جميع الفواصل ما بين ممثِّلي المنظمات غير الحكومية (NGO) والأكاديميين والبيروقراطيين الدوليين تنهار عندما ننظُر إلى الأفراد المشاركين. وتتحرَّك الصفوة بين هذه الأدوار بسهولةٍ مدهشةٍ (أو تتولاها في وقتٍ واحد). ولقد أظهر نيكولاس غيلهوت (Nicolas Guilhot) في دراسته بشأن «صُنَّاع الديمقراطية» في الولايات المتحدة أن الصفوة تتحرَّك بحريةٍ في الأوساط الأكاديمية والمنظمات الخيرية والوكالات الحكومية ومجالس المنظَّمات غير الحكومية (غيلهوت ٢٠٠٥م، قارن مع ديزلي وغارث ٢٠٠٢م). وعلى ما أعلم لم يقُم أحد بدراسةٍ مماثلةٍ عن صياغة الشعب لسياسات دعم التعدُّدية الثقافية على المستوى الدولي، ولكن الدلائل تشير إلى نموذجٍ مماثلٍ تدُور فيه الصفوة بين أنواعٍ مختلفةٍ من الممثلين الدوليين، من الوسط الأكاديمي، والمجتمع المدني إلى المنظمات الدولية والعكس.

وباختصار، في استطاعتنا أن ننظر إلى «المنظَّمات الدولية» على أنها العمودُ الفِقْري لشبكةٍ أكبر من الممثِّلين الذين جُنِّدوا (أو تطوعوا) في مشروع صياغة معاييرَ ومقاييسَ خاصة بحكم التنوُّع العِرقي. ولو أن «المنظمات الدولية» تعثَّرَت في جهودها — لو أنها أخطأَت في تناول مشكلات الفئات والظروف — فإن جزءًا من التفسير على الأقل هو أنها تلقَّت نصائحَ خاطئةً من شبكة الأوساط الأكاديمية والمؤيِّدين، والمتبرِّعين لها. أو ربما تلقَّت نصائحَ قصيرةَ النظر تركِّز بصفةٍ خاصةٍ على التحديات المباشرة من دون أن تهتَم كثيرًا بالأهداف التي وُضِعَت والتحمُّل البعيد المدى.

وأضيف بسرعة أنني عُرضةٌ لهذا النقد؛ فما لم أكن عضوًا يحمل بطاقةَ عضويةٍ في شبكات السياسة الدولية تلك، فأنا على الأقل مرافقٌ جوَّال، وأحد الدوافع التي دفعَتْني إلى تأليف هذا الكتاب هو الشك المتزايد بشأن كيف يُمكِن لي أو لغيري من الأكاديميين الآخرين أن نُسهِم على نحوٍ أفضل في هذه الجهود الدولية؟! لقد وجدتُ نفسي أكتُم أسئلةً صعبةً عن الأهداف والاستمرارية البعيدة المدى للهيكل المُنبثِق من معاييرِ ومقاييسِ حقوق الأقليات. وفي الاجتماعات وورش العمل المختلفة التي التحَقتُ بها. كثيرًا ما شعَرتُ باتفاقٍ صامتٍ لتجاهُل الفيل تحت المنضدة (أي تجاهُل مشكلاتٍ أعظمَ مستترة!).

والواقع أنني ما زلتُ مترددًا في إظهار ما أشعُر به من قلق، بما أن الوقت لا يُبشِّر بالخير للمدافعين عن تدويل التعدُّدية الثقافية. وكما سنرى في الفصل الثاني، فقد كان مصادفةً إلى حدٍّ ما أن مهَّدَت المنظَّماتُ الدوليةُ الطريقَ لصياغة المعايير والمقاييس المتعلقة بالتنوُّع العِرقي، وهناك كثيرون ممن سيُرحِّبون بأي عُذرٍ لإلغاء هذه التجربة. وبعد فترةٍ مبدئيةٍ من التفاؤل بالأمل في تقويةٍ دائمةٍ للنظام الدولي لحقوق الأقليات، فإن معظم المدافعين لا يأملون الآن إلا في المحافظة على الوضع الراهن، أيًّا كانت حدودُه وعيوبُه. وهم يخشَون أن تؤدي مطالبة «المنظَّمات الدولية» بمراجعة أهدافها وافتراضاتها — فيما يتعلق بالمعايير والمقاييس — إلى إضعافها لا تقويتها،١٥ والوضع الراهن في هذه الزاوية هو أفضلُ ما يُمكِن أن نصلَ إليه على الأقل في المستقبل المنظور، ويَنبغي علينا أن نعمل من أجل زيادة التحسينات ضمن الوضع الحالي بدلًا من العودة إلى المناقشات حول التصنيفات والمفاهيم المُستخدَمة.

وها أنا أشارِكُكُم تشاؤمي حول احتمال إعادة تفكيرٍ جذرية للإطار الدولي لحقوق الأقليات. ولو أنني اعتقدتُ أن الوضعَ الراهنَ قابلٌ للاستمرار، فربما احتفظتُ بمخاوفي لنفسي. إن إطارَ المعايير والمقاييس السائدَ قد ساعَد بلا شكٍّ بعضَ الجماعاتِ التي كانت مهمَّشة تاريخيًّا، أجدَرُها بالذكر السكان الأصليون في أمريكا اللاتينية، كما ساعد عمومًا في إجازةِ إقامةِ الدعاوى من قِبل الجماعات العِرقية، باعتبارها جزءًا طبيعيًّا وشرعيًّا من السياسات الديمقراطية، ولا تُعَدُّ هذه إنجازاتٍ بغير قيمة، بل تستحقُّ الدفاعَ عنها. لكن يزدادُ اقتناعي بأن الوضعَ الراهنَ غيرُ قابلٍ للاستمرار، وأننا نحتاجُ إلى البَدْء في التفكير في كيفية الاستجابة عندما تَظهَر التصدُّعات.

وهكذا عندما أناقش تدويل التعددية الثقافية، فإنني أركِّز أولًا على «المنظَّمات الدولية» التي صاغت المعاييرَ والمقاييسَ في مجال التنوُّعات العِرقية، وثانيًا على شبكات السياسة العالمية التي تُساعِد «المنظَّمات الدولية» في هذه المحاولة. تملكُ تلك المنظَّمات تفويضًا للحديث نيابةً عن الدول الأعضاء، وهي بذلك تُمثِّل المجتمع الدولي. وإذا كان من السذاجة أن نأخُذ هذا الادِّعاء بمعناه الظاهري، فمن الخطأ أيضًا أن نتجاهلَ أهميَّتَه. ووفقًا لمصطلحات جيفري شيكل (Jeffray Checkel)، فإن «المنظَّمات الدولية» هي «صانعة معايير»، ويُفترَض أن تكون الدول حول العالم «متلقيةً للمعايير» (شيكل ١٩٩٩م)، وهذه العلاقة هي المفتاح لفهم مفارقات السياسة الدولية الجديدة للتنوُّع.

وهناك توضيحٌ آخر يتعلق باستخدامي لمصطلح «التعدُّدية الثقافية»، وادِّعائي أن «المنظَّمات الدولية» منخرطةٌ في «تعزيز التعدُّدية الثقافية». وأنا أستخدم مصطلح «التعدُّدية الثقافية» كمصطلحٍ شامل يغَطي مساحةً واسعةً من السياسات التي تستهدفُ توفيرَ مستوًى معيَّن من الاعتراف العام، ومساندة المجموعات العِرقية الثقافية غير المسيطرة، سواء كانت هذه الجماعاتُ أقلياتٍ «جديدة» (كالمهاجرين واللاجئين) أو أقلياتٍ قديمة (كالأقليات المُستقرَّة تاريخيًّا والسكان الأصليين). وهذا يغَطي أنواعًا مختلفةً من السياسات لأنواعٍ مختلفةٍ من الأقليات، ويدور جزءٌ كبيرٌ من هذا الكتاب حول فحص الكيفية التي تُواجِه بها المعاييرُ الدوليةُ هذه الاختلافات. إن ما هو مشتركٌ بينها جميعًا هو أنها تُجاوِز حمايةَ الحقوقِ المدنية والسياسية المكفولة لجميع الأفراد في دولةٍ ديمقراطيةٍ ليبرالية، لتمتد إلى مستوًى ما من الاعتراف العام ومساندة الأقليات العِرقية الثقافية في الحفاظ على هُويَّاتها والتعبير عنها وعن ممارساتها المميزة.

كثيرٌ من الإعلانات والمؤتمرات التي تبنَّتها «المنظَّمات الدولية»، وكذلك قوائمها الخاصة بالتوصيات وأفضل الممارسات، تدعَم التعدُّدية الثقافية بهذا المعنى. وعلى حين أنها تؤكِّد المبدأ القائل إنه لا يجوز التمييز بين الأفراد بناءً على جِنسهم وعِرقهم، فإنهم يُجاوِزون ذلك لتشجيع السياسات التي تقدِّم حمايةً إيجابيةً تعزيزًا للتنوُّع الثقافي العِرقي. ولو أن «المنظمات الدولية» أرادت ببساطةٍ أن تؤكِّد من جديدٍ مبدأ عدم التمييز، فلن تكون ثمَّة حاجةٌ إلى إصدار إعلاناتٍ جديدةٍ أو عقد مؤتمراتٍ جديدة، ما دام هذا المبدأ قد استقَر بالفعل في العديد من الوسائل الدولية، منذ إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام ١٩٤٨م، إلى الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في العام ١٩٦٦م. وما تُضِيفُه الإعلاناتُ والاتفاقياتُ الجديدة هو ضربٌ من الاعتراف الإيجابي أو الدعم والمساندة للتنوُّع الثقافي العِرقي، الذي يصنَّفها ﮐ «متعدِّدةٍ ثقافيًّا» وَفْق تعريفي لهذا اللفظ.

وأنا أعترف بأن «المنظَّمات الدولية» نادرًا ما تستخدم مصطلح «التعدُّدية الثقافية» في نصوص معاييرها وقواعدها، لكنها تستخدم مصطلحاتٍ أخرى مثل «حماية وتعزيز التنوُّع الثقافي»، «حماية وتعزيز لغات الأقليات واللغات المحلية»، «حماية وتدعيم حقوق الأفراد الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية»، وكذلك واجب «الاعتراف ومساندة وتدعيم وتعزيز دَوْر السكان الأصليين»، أو «تمكين السكان الأصليين ومجتمعاتهم» … إلى آخره، وكل هذه أمثلةٌ لمصطلَح التعدُّدية الثقافية كما أستخدمه، حتى لو لم تستخدمه «المنظَّمات الدولية».

أحد الأسباب وراء عدم استخدام المنظمات الدولية لمصطلح «التعدُّدية الثقافية» هو ما يحملُه من دلالاتٍ محدودةٍ في كثير من البلدان؛ ففي أوروبا، على سبيل المثال، كثيرًا ما نراه كمصطلحٍ خاصٍّ بالعالَم الجديد ولا يغَطي الأفكار الأوروبية القديمة عن «حماية الأقليات». وحتى داخل العالَم الجديد، لا يُستخدم مصطلح «التعدُّدية الثقافية» إلا في سياق الجماعات المهاجرة، بحيث لا يغَطي السياسات نحو السكان الأصليين. ويصدُق ذلك على كلٍّ من نيوزيلندا وكندا. أما في أمريكا اللاتينية فإن مصطلح التعدُّدية الثقافية (وكذلك مصطلح الكثرة الثقافية) يُستخدَم، على العكس، في الأعم الأغلب، حصريًّا، للإشارة إلى دعاوى السكان الأصليين، بدلًا من الإشارة إلى جماعات المهاجرين.

وإذا ما قدَّمنا هذه الألوانَ المختلفةَ من الفهم ﻟ «التعدُّدية الثقافية»، فإننا نُغامِر بالوقوع في سوء الفهم إذا ما استخدمناه كمصطلحٍ شامل، وسوف يكون من الأفضل أن نجد مصطلحًا أكثر اتساعًا وشمولًا. ولِسُوء الطالع، فإن جميع المصطلحات سوف تصطدم بهذه المشكلة؛ فبعض الشعوب — على سبيل المثال — تستخدم مصطلح «حقوق الأقلية» ليُغَطي دعاوى كل الجماعات العِرقية الثقافية التي ليست لها سيادة، سواء كانت جديدةً أو قديمة (كما فعلتُ أنا نفسي في مرحلةِ أعمالٍ مبكِّرة). ولقد ثبت أن هذا المُصطلَح مُتنازَع عليه؛ فمن ناحية لا يُمكِن إدراجُ جميع السياسات التي تدفَعُها وتُعزِّزها «المنظَّمات الدولية» تحت لغة «الحقوق». وفضلًا عن ذلك، فمصطلح «الأقليات» مصطلحٌ إشكالي؛ ففي بعض البلدان، مثل المملكة المتحدة، نجد أن مصطلح الأقليات لا يُستخدَم إلا للإشارة إلى الجماعات المُهاجِرة ولا يُطلَق على الجماعاتِ الأقدَم في التاريخ، في اسكتلندا وويلز مثلًا. وفي النمسا، بالمقابل، يُستخدَم مصطلح «الأقليات» عادةً للإشارة إلى جماعاتٍ مستقرةٍ من الناحية التاريخية مثل السلوفينيين (Slovenes)، لا إلى الجماعات المستقرة حديثًا. ويرفُض السكان الأصليون في كثيرٍ من البلاد مصطلحَ «الأقليات»، ويُفضِّلون مصطلَح الشعب أو الأمة، لأسبابٍ سوف أناقشها فيما بعدُ.

وقد اقترح باحثون آخرون بدائلَ أخرى تصلُح مصطلحاتٍ شاملةً تستطيع أن تُغطِّي القضايا التي أثارَتْها الأنواعُ المختلفة من التنوُّع الثقافي العرقي، مثل «سياسات التنوُّع» و«الحقوق الثقافية» و«حقوق الجماعة» و«حقوق المجتمع» و«المواطنة المتميِّزة» و«الكثرة الدستورية» و«الكثرة الليبرالية» إن شئنا أن نذكُر بضعةَ أسماءٍ فقط، وتُعاني جميع هذه المصطلحاتِ من إمكان إساءة فهمها، وهو ما لن أعرضه هنا، وعلى أي حال فهي أقلُّ استخدامًا من قِبل المنظَّمات الدولية من «التعدُّدية الثقافية». وعلى ذلك، ففي غياب البديل المقبول بصفةٍ عامة، فإنني سوف أتمسَّك بمصطلح «التعدُّدية الثقافية»، على الرغم من قصوره. لكني آمل أن يضع القارئُ في ذهنه أنني أستخدم المصطلَح فقط على سبيل الاختزال لمفهومٍ شاملٍ يغَطي مساحةً واسعةً جدًّا من السياسات التي تبنَّتها وطالبَت بها أنواعٌ مختلفة من الجماعات الثقافية العِرقية، بما في ذلك «الأقليات» و«المهاجرون»، و«الجماعات الوطنية» و«السكان الأصليون».

والواقع أن المنظَّمات الدولية نفسها ينتهي بها الأمر أحيانًا إلى استخدام مصطلَح التعدُّدية الثقافية بهذه الطريقة نفسها. عندما أرادت مجموعةُ عملٍ من الأمم المتحدة مهتمةٌ بالأقليات أن تستكشفَ مضامينَ معاييرِ الأمم المتحدة ومقاييسها للأنواع المختلفة للجماعات العِرقية الثقافية في أفريقيا، نظَّمَت سلسلةٌ من ورش العمل سُمِّيَت باسم «التعدُّدية الثقافية في أفريقيا»١٦ وبالمثل عندما صدَر تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية حول التنوُّع الثقافي، نظرَت إلى الجماعات المهاجرة والجماعات القومية، والسكان الأصليين، ولخصَت توصياتها على شكل دعوةٍ إلى «ديمقراطية التعدُّدية الثقافية» (UNHDR 2004) في هذه الحالات، وفي غيرها من الحالات الأخرى استَخدَمَت المنظماتُ الدولية مصطلحَ «التعدُّدية الثقافية» لبطاقةٍ شاملةٍ تندمج فيها السياساتُ الخاصة الموجَّهة إلى أنواعٍ مختلفةٍ من جماعات الأقليات، وهو استخدامٌ سأسير عليه في هذا الكتاب.

أما بالنسبة إلى أولئك الذين يكرهون مصطلح «التعدُّدية الثقافية» ويُفضِّلون عليه مصطلحًا آخر مثل «حقوق الأقليات»، «سياسات التنوُّع»، «التداخُل الثقافي»، «الحقوق الثقافية»، أو «المواطنة المتميِّزة» فلهم حرية استبداله بأيٍّ منها كما يريدون، فلا شيء مهمًّا يتوقَّف على التسمية. وإنما الشيء المهم الذي قد يكون خلافيًّا أكثر هو ادعائي أن المنظمات الدولية تعزِّز بطريقةٍ متميِّزة شكلًا متحرِّرًا من أشكال التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات. وأنا لا أعني بذلك فقط أن هذه المعايير تعمل داخل الالتزامات بمعايير حقوق الإنسان — بأن «لا يلجأ أحدٌ إلى التنوُّع الثقافي لينتهكَ حقوقَ الإنسان التي يضمنُها القانون الدولي»، وفق كلمات «اليونسكو» التي اقتبسناها من قبلُ — لكن أيضًا أن هذه المعايير مُستلهَمة من قيم الحرية والمساواة والديمقراطية الليبرالية؛ فالتعدُّدية الثقافية الليبرالية ترتكز على افتراضِ أن سياسات الاعتراف ومساندة التنوُّع العِرقي يُمكِن أن «توسِّع الحريةَ البشرية» و«تُقوِّي الحقوقَ الإنسانية»، وتُقلِّل من الهيراركية العِرقية والعنصرية وتُعمِّق الديمقراطية.

كان ذلك الافتراض مركزيًّا بالنسبة إلى الطريقة التي صاغت بها المنظمات الدولية معاييرَها ومقاييسَها. وللتأكُّد، كما سوف نرى، فقد كان للمنظمات الدولية دوافعُ برغماتية أكثر لأن تقوم ﺑ «شيءٍ ما» بصدد قضايا التنوُّع العِرقي، لكن من دون إيمانٍ بمُثل التعدُّدية الثقافية الليبرالية، ما كان لهم أن يتبنَّوا المقاييسَ المحدَّدة التي تبنَّوها، وربما ما كان لهم أن يتبنَّوا أي معاييرَ أو مقاييسَ على الإطلاق، ولتبنَّوا بدلًا من ذلك أدواتٍ أكثَر مرونةً لكل حالة من حالات منع وحل الصراع العِرقي.

وأنا أعتقد أن تبنِّي التعدُّدية الثقافية يُمكِن — في الواقع — أن يُسهِم في تنمية الحرية والمساواة والديمقراطية، كما سوف أناقِش في الفصلَين الرابع والخامس فيما بعدُ. غير أن همزة الوصل بين التعدُّدية الثقافية، وهذه القيم الكامنة ليست أمرًا بسيطًا أو خاليًا من المخاطر؛ فكثيرٌ من ذلك يعتمد على الظروف الأساسية وطبيعة الجماعات العِرقية ذات العلاقة، ونوع السياسات قيد البحث. ولكي تكون المعايير والمقاييس الدولية مؤثِّرة فلا بد لها من أن تعكسَ وأن تعترفَ بهذا التعقيد. وهذا بدَورِه يتطلَّب أن نُعالِج المُعضِلات التي سبق أن ذكرتُها حول طبيعة التصنيفات التي نستخدمُها وشروط وتبعات حقوق الأقليات، والعلاقة بين العدالة والأمن.

•••

إن تجربة مساندة التعدُّدية الثقافية الليبرالية تجربةٌ حديثة؛ فمعظم الإعلانات والمؤثِّرات المتعلقة بها لم تظهر إلا منذ نحو عَشْر إلى خمسَ عشرةَ سنةً على الأكثر. وقد يكون من السابق لأوانه جدًّا أن نستخلص نتائجَ محدَّدة عن التجربة، وكيف سارت أو ما سوف تنتهي إليه. وأنا أعترف بأن بعضَ المخاوفِ التي أثيرها في هذا الكتاب هي مسائلُ نظريةٌ تأملية. وإن كنتُ أعتقد أنه قد مرَّ وقتٌ كافٍ يسمح لنا بإجراء بعض التقديرات الأولية. وهناك درسٌ واحد يُمكِن أن نستخلصَه بأمانٍ وهو أن التعدُّدية الثقافية الليبرالية قد برهنَت على أنها سلعةٌ يصعُب بيعُها.

والواقع الصعب هو أن المحاولات التي تقوم بها المنظمات الدولية لنشر المُثل العليا للتعدُّدية الثقافية الحرة بعيدًا عن الديمقراطيات الغربية قد حقَّقَت نجاحًا محدودًا حتى اليوم. ولم تَلقَ هذه المجهوداتُ خارجَ دائرة النشطاء والمثقَّفين سوى آذانٍ صمَّاء. وحتى في تلك الحالات القليلة؛ حيث بدا أن دول ما بعد الاستعمار وما بعد الشيوعية قد اتبعَت نصيحة «المنظَّمات الدولية» لتعديل وِجهتِها أكثر نحو التعدُّدية الثقافية، فنادرًا ما كان ذلك بسبب اقتناع قادة الدول بأهمية الحُجة التي تقدِّمها التعددية الثقافية الليبرالية، بل بالأحرى بسبب أن «المنظَّمات الدولية» قد حشدَت قوةً كافيةً لإلزام هؤلاء القادة بتبنِّي سياساتٍ لم يكونوا مقتنعين بها. ويصدُق ذلك بصفةٍ خاصةٍ على السياسات المسانِدة للأقليات التي تبنَّتها دولُ ما بعد الشيوعية تحت ضغط المنظَّمات الأوروبية. وعندما اعتمدَت المنظَّمات الدولية فقط على قوى الإقناع لدعم التعدُّدية الثقافية الليبرالية، فإنها فشلَت بصفةٍ عامة. ولم تظفَر بقوة دفعٍ إلا عندما ساند الإقناع التهديد بأن دول ما بعد الشيوعية لن تدخُل الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو (Nato) من دون الالتزام بمعايير حقوق الأقلية (Kelley 2004).

وكالعادة، هناك استثناءاتٌ لهذا التعميم؛ فقد لَقِيَت المساندةُ الدوليةُ لحقوق السكان الأصليين في بعض بلدان أمريكا اللاتينية نجاحًا أكثر، مع انتشار مُثل أنصار التعدُّدية الثقافية (أو الثقافة المُتبادَلة كما تُسمَّى غالبًا في تلك المنطقة) على نطاقٍ واسعٍ في ثقافات السياسة المحلية. غير أن التعدُّدية الثقافية قد استُقبِلَت، بصفةٍ عامة، بشكلٍ بارد.

ربما كان من المتوقَّع أن تلقى أفكارُ التعدُّدية الثقافية الليبرالية مقاومةً من النخبة، التي لا تريد مشاركة سلطاتها مع الأقليات. لكن ما يُثير الدهشة أكثر هو أن تَلقَى هذه الأفكارُ قليلًا من المسانَدة من المُعارَضة الليبرالية أو الديمقراطية أو الإصلاحية في كثيرٍ من دول ما بعد الشيوعية، ودول ما بعد الاستعمار، أو داخل تنظيمات المجتمع المدني التي يُفترَض فيها أن تكون مشتلًا للإصلاح التقدُّمي. وحتى تلك القوى الاجتماعية، المتوقع أن تكون حليفًا طبيعيًّا للمجتمع الدولي في هذا المجال، كثيرًا ما تكون فاترةً نحوه إن لم تكن عدائية،١٧ وافتراض أن التعدُّدية الثقافية ينبغي أن تُرى كجزءٍ داخليٍّ من مسارٍ أوسعَ في النظام التحرُّري والديمقراطية، لم يكن — ببساطة — مقبولًا على نطاقٍ واسعٍ في كثيرٍ من الدول.

إن أيَّ استراتيجيةٍ مقبولةٍ لنَشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية تحتاج إلى فهم مصادر هذا الشَّك والمقاومة. ولقد كانت أكثر الاستجابات شيوعًا، لسوء الطالع، لا سيما في الصحافة الشعبية، وأيضًا في بعض الأوساط الأكاديمية والدوائر السياسية، هي تلك التي أخضَعَت الموقفَ للتحليل الأخلاقي والسيكولوجي. فقد نُسبَت مقاومة التعدُّد الثقافي إلى إصرار هويَّات ما قبل الحداثة ومواقف النظم القَبلية (في أفريقيا وآسيا) أو إلى القومية العِرقية (في أوروبا ما بعد الشيوعية). والمُشكِلة من هذا المنظور أن كثيرًا من المجتمعات ينقصها التطوُّر السياسي للتعامُل البنَّاء مع مسائل التنوُّع؛ لهذا لا تستطيع تقديرَ جدارةِ نماذجِ التعدُّدية الثقافية التي انبثقَت داخل الأنظمة الديمقراطية «الناضجة»، ولعلاج هذه المشكلةِ البارزة، يلزَم تأسيسُ برامجَ تعليميةٍ لتعليم قيمة التسامُح في المدارس وأجهزة الإعلام، لابتكار ثقافةٍ متداخِلة، وحوارٍ دينيٍّ متبادَل، وفهمٍ متبادَل، وبعموميةٍ أكثَر للترويج لأفكار الحداثة (وما بعد الحداثة) بشأن الهويَّات المتعدِّدة والمتداخلة لتحلَّ محلَّ مفاهيمِ ما قبل الحداثة حول التضاد الثنائي الثابت بين اﻟ «نحن» و«الآخر».

ولا يُدهِشُنا أن هذه البرامج كثيرًا ما استقبلَها المستفيدون منها على أنها تعكس موقفًا أبويًّا متعاليًا تجاه المجتمعات والثقافات غير الغربية؛ ومن ثَم فقد استاءوا منها ورفَضوها. فضلًا عن ذلك، فهي لا تُعالِج المشكلةَ الحقيقية. إن معارضة التعدُّدية الثقافية الليبرالية ليست فقط نتيجةً للأحكام المُبتسَرة، والجهل، وكُره الأجانب. الواقع أن للتعدُّدية الثقافية أعباءً ومخاطرَ عديدة، وإن هذه الأعباء تتنوَّع تنوُّعًا هائلًا داخل المجتمعاتِ وبين بعضها والبعض؛ فالتعدُّدية الثقافية لا تتحدى، فقط، فَهمَ الشعوب التقليدي لهُويَّتها السياسية والثقافية، بل أيضًا مضامينها الكامنة لمسار العمل الديمقراطي، والتطوُّر الاقتصادي، واحترام حقوق الإنسان، بل حتى الأمن السياسي – الجغرافي؛ فالتعدُّدية الثقافية، في بعض الأزمنة والأماكن، يمكن أن تكون اختيارًا يحمل قَدْرًا كبيرًا من المخاطرة، وهذه المضامين، لا الارتباط غير المنطقي بهُويَّات ما قبل الحداثة، هي التي تدعَم معارضة التعدُّدية الثقافية الليبرالية في دول ما بعد الاستعمار وما بعد الشيوعية.

إن استراتيجيات المجتمع الدولي الحالية لنشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية لا تُعالِج تلك المخاوف بصورةٍ كافية. ونتيجةً لذلك، فإن كثيرًا من جوانب الخطاب السياسي والقواعد القانونية التي يُروِّج لها المجتمع الدولي يبدو ساذجًا وتعسُّفيًّا، بل خطرًا على كثير من الناس في دول ما بعد الاستعمار وما بعد الشيوعية، إن الحُجَج المعتادة للدفاع عن التعدُّدية الثقافية الليبرالية — أكثر بقليلٍ من تفاهاتٍ حول قيمة التنوُّع والتسامُح — لم ترتبط ببساطةٍ بإدراك الناس للأخطار والأعباء المُحتمَلة التي ينطوي عليها تنظيمُ علاقة الدولة بالأقليات.

إن أحد أسباب فشل المجتمع الدولي في معالجة هذه المخاوف بشأن مخاطر التعدُّدية الثقافية الليبرالية هو أنه لم يُوجِّه انتباهًا كافيًا إلى الطريقة التي عُولجَت بها تلك المخاوفُ في الغرب. وبقَدْر ما حصلَت التعدُّدية الثقافية على جذور «غير متساوية» في الغرب، لم يكن ذلك بسبب أن للغربيين قيمةً أخلاقيةً متميِّزة عن التسامُح، أو فهمًا متطورًا لطبيعة هُويتهم الثقافية والسياسية، بل بالأحرى، كما سنرى في الفصل الرابع، لأن مجموعةً من الظروف المواتية قد قلَّلَت من مخاطرها التعدُّدية الثقافية، مما سمح للأمم الغربية بأن تصوغَ سياساتٍ عرقيةً بطريقةٍ تتفق مع حمايةٍ وتنميةٍ قويةٍ للديمقراطية، والرخاء الاقتصادي، وحقوق الإنسان، والأمن الإقليمي. لا تخلو التعدُّدية الثقافية من المخاطر خلوًّا تامًّا، لكن حيثما تُوجَد هذه الظروف المواتية فإنها تصبح «مخاطرَ جميلة»، مخاطرَ معتدلة تُمكِن معالجتها، ويجدُر القيام بها من أجل مجتمعٍ أكثر إنصافًا وشمولًا.

إن تفسيرًا أكثر أمانة لأصول التعدُّدية الثقافية في الغرب — الذي لا يركِّز إلا بقَدْرٍ قليلٍ على الفضائل المدنية المزعومة أو على المواقف الناضجة، بينما يركِّز أكثر على الظروف العارضة — يساعدنا على نحوٍ أفضلَ على فهم العقبات التي تقف في سبيل انتشارها في العالم، وربما حدَّد طرقًا بنَّاءة للتغلُّب على هذه العقبات، ولا بد لمثل هذا التفسير من أن يساعدنا أيضًا على معالجة المعارضة الطويلة الأمد للتعدُّدية الثقافية في الغرب. بعد كل شيء، لا تزال بعض البلدان الأوروبية تنظر إلى التعدُّدية الثقافية الليبرالية باعتبارها مخاطرةً كبرى، على الأقل فيما يتعلق بأنواعٍ معيَّنة من التنوُّع العرقي، وقد خضَعَت لفترات من التراجع وردود الأفعال العنيفة، ويُوحي ذلك بأن ظهور صلابة التعدُّدية الثقافية الليبرالية هو دائمًا إنجازٌ عارضٌ وهشٌّ إلى حدٍّ ما. إن الحفاظ على الإرادة السياسية والمسانَدة الشعبية للتعدُّدية الثقافية الليبرالية، في الغرب أو في مكانٍ آخر، يعتمد على قُدرتنا على الانتباه الحريص إلى هذه المخاطر، الحقيقية أو المتصوَّرة، وعلى إيجادِ طريقةٍ لتخفيفها.

باختصار، يتطلب النجاح الطويل المدى للانتشار العالمي للتعدُّدية الثقافية تفهمًا أكثر دقةً للظروف الاجتماعية والسياسية التي تَدعَم وتمكِّن نماذجَ مختلفةً من علاقة الدولة بالأقليات، وكيف تختلفُ هذه الظروف باختلاف الزمان والمكان. ويحتاجُ كُلٌّ من الخطاب السياسي للتعدُّدية الثقافية الليبرالية والمعايير القانونية الدولية لحقوق الأقليات إلى أن تتأسَّس على علمِ اجتماعٍ سياسيٍّ أكثَرَ واقعية. ومن المؤكَّد أن ذلك سوف يحتاج إلى تغيُّرات، ليست فقط في الطريقة التي تُوصَف بها التعدُّدية الثقافية الليبرالية ويُروَّج لها عالميًّا، بل أيضًا تغيُّرات في توقُّعاتنا بصدَد الأشكال والجوانب في التعدُّدية الثقافية الأصلية التي تتناسب مع الأجزاء المختلفة في العالم.

ويعتقد بعض المعلِّقين أن هذه الأنواع من التغيرات سوف تنبثق تلقائيًّا؛ فلم يظهر التزام المجتمع الدولي بالتنوُّع إلا حديثًا نسبيًّا، واستطاعتنا أن نرى بالفعل عملية «ملء الإطار» وهي تتم عندما يبدأ ممثِّلون مختلفون ومؤسَّساتٌ متنوِّعة في تعلُّم ما هي أنواع الخطاب والمعايير الفعَّالة وتحت أي ظرف، وعندما تظهر السوابقُ التي تملأ الثغَرات، وتحلُّ الالتباسات والغموض والتناقضات.١٨

غير أن رأيي الخاص هو أن هذه الصعوباتِ لن تحلَّ نفسها تلقائيًّا، وأي محاولةٍ لمعالجة هذه الصعوبات سوف تتطلب عددًا من القرارات الصعبة والخلافية المثيرة للجدل بشأن طبيعة وهدف سياسات التعدُّد الثقافي وحقوق الأقليات، ودَور المنظَّمات الدولية في حمايتها. وعلى حين أن عددًا كبيرًا من المنظَّمات الدولية قد تبنَّى خطابَ التعددية الثقافية، فإن هذا الخطاب المشترك يُخفي خلافاتٍ عميقةً حول طريقة ارتباط التنوُّع العِرقي بقضايا حقوق الإنسان، والدمقرطة والتنمية، وبالنظر إلى هذه الخلافات وانعدام فاعلية الخطابات والمعايير الموجودة، فإن التشخيصَ البعيد المدى قد لا يكون ملئًا للإطار، بل تفريغًا له، بانسحاب المنظَّمات الدولية عن مشروع تدويل التعدُّدية الثقافية. وكما سنرى فيما بعدُ هناك إشاراتٌ بالفعل إلى هذا الانسحاب.

ويُوحي ذلك بأننا عند نقطةٍ حرجةٍ من تطوُّر تدويل التعدُّدية الثقافية. ولو أردنا إنجاز القوى الكامنة التقدُّمية في هذه العملية، فإننا بحاجة إلى تجاوُز التفاهات حول قيمة «التنوُّع» و«التسامُح» وفحص الأسئلة الصعبة حول الطريقة التي ترتبط بها الجوانب المختلفة من التعدُّدية الثقافية بقضايا الدمقرطة، وحقوق الإنسان، والتنمية، والأمن الإقليمي، سواء في الغرب أو في أي مكانٍ آخر. وعلى هذا الأساس، قد نتمكَّن من التعرُّف على معايير وممارساتٍ أكثَرَ واقعيةً وأكثر اتساقًا للتعدُّدية الثقافية من أجل الانتشار العالمي. وإلا فمن المحتمل أن نُشاهِد التخلي التدريجي عن التجربة الجريئة والمذهلة أحيانًا، والتي استمرَّت خمسَ عشرةَ سنة، من أجل تدويل التعدُّدية الثقافية.

•••

لستُ أهدف في هذا الكتاب إلى تقديم رسمٍ تخطيطيٍّ مفصَّل للمستقبل، بل بالأحرى إلى استكشاف العملية الجارية لتدويل التعدُّدية الثقافية، والتعرُّف على التحديات والخيارات الصعبة التي تُثيرها أمامنا. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، سوف أبدأ في الفصل القادم بمناقشة الأسباب التي جعلَت المجتمع الدولي يهتمُّ هذا الاهتمام بمحاولة تشكيل علاقة الدولة بالأقليات، خصوصًا في فترة ما بعد الحرب الباردة. كما نرى أيضًا أن ذلك كان من ناحيةٍ نتيجةً للأخطار الناجمة عن النظرة التشاؤمية التي يُمكِن أن تفرضَها السياساتُ العِرقية على السلام والاستقرار في دول ما بعد الشيوعية ودول ما بعد الاستعمار، بمصاحبة نظرةٍ متفائلةٍ بالقَدْر ذاته عن الطريقة التي تُساعِد بها التعدُّدية الثقافية الليبرالية في تحقيق السلام وتطبيع السياسات العِرقية في كثير من بلدان الغرب. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الأفكار المختلفة عن «أفضل الممارسات» وعن «المعايير المشروعة» التي قد طوَّرها المجتمع الدولي في الخمسة عشر عامًا الماضية تعكس هذا الخليطَ غيرَ المستقر من الأمل والخوف.

في الباب الثاني، سوف أستكشِف الجانبَ المشرقَ من المعادلة، بالإفصاح عن منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية. عن طريق التعرُّف على الأشكال المختلفة التي اتخذَتها التعدُّدية الثقافية في الغرب، والدفاع عن وجهة النظر التي تقول إن سياسة التعدُّدية الثقافية قد ساعدَت — بغير شك — في تهدئة السياسات العِرقية، كما عمَّقَت الديمقراطيةَ ودعمَت حقوقَ الإنسان، ومع ذلك فإنني أذهب أيضًا إلى أن نَجاحَها من هذه الزاوية قد اعتمَد على عدد من الظروف الخاصة جدًّا المرتبطة بالصلابة الديمقراطية، وثورة حقوق الإنسان، والأمن الجغرافي السياسي. لقد ساعدَت طبيعةُ هذه الظروف الهشَّة الوَعْرة في تفسير اختلافات ما سُجل حول التعدُّدية الثقافية الليبرالية بالنسبة إلى الجماعات المختلفة في البلدان الغربية المختلفة.

وسوف أستكشف في الباب الثالث كيف حفزَت المخاوفُ من عدم استقرار الصراع العِرقي في دول ما بعد الشيوعية ودول ما بعد الاستعمار المنظماتِ الدوليةَ لتُصبِح أكثر انشغالًا بميدان علاقة الدولة بالأقليات، وبصفةٍ خاصةٍ للترويج للتعدُّدية الثقافية الليبرالية، ولقد كان من الواضح على الدوام أنَّ تفاصيلَ النماذجِ الغربية الخاصة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية لا يُمكِن ببساطة أن تُنقَل إلى بلدانٍ أخرى ذاتِ تواريخَ مختلفة، وديموغرافياتٍ مختلفة، وبِنًى دستورية مختلفة. ومن هنا، كانت مهمتنا هي محاولة التعرُّف على الجوانب الأكثر عموميةً للتعدُّدية الثقافية الليبرالية وما يكمُن وراءها من أخلاقياتٍ واستراتيجياتٍ ومبادئ، وعلى هذا الأساس نضَع دروسًا يمكن تعميمُها، وقد ثبت أن تلك مهمةٌ صعبة بشكلٍ غير عادي، وكثيرًا ما تعكس النتائج خليطًا ينطوي على مفارقة من التفاؤل والتشاؤم. ولقد قدَّم المجتمع الدولي في بعض الأحيان أمثلةً ساذجة، طوباوية في الأعم، لأخلاقيات التعدُّدية الثقافية الليبرالية تطلب من المواطنين ألا يخافوا من التنوُّع العِرقي. من ناحية أخرى، فإن ما يدفع المجتمع الدولي نفسه هو الخوف من عدم استقرار الصراع العِرقي، ولقد أثَّر ذلك في طريقة تحديد فئات الأقليات التي تستحقُّ أن تُطالِب لنفسها بأنواعٍ مختلفة من الحقوق، والظروف التي تستحق بموجبها أن تُطالِب بذلك. ولكي يمنع السياسات العِرقية من «الخروج عن السيطرة»، فقد حاول المجتمع الدولي أن يَحدَّ من الأشكال «الشرعية» للتعدُّدية الثقافية ويقيِّدها بطريقةٍ لا تعكس دائمًا، بل ربما تُناقض، مبادئ التعدُّدية الثقافية الليبرالية. ولقد كان ذلك إلى حدٍّ ما ضروريًّا ومناسبًا، نظرًا إلى أن الظروف التي مكَّنَت الغرب من تبنِّي التعدُّدية الثقافية لا تتوافَر حتى الآن في كثيرٍ من دول ما بعد الشيوعية، ودول ما بعد الاستعمار، غير أن النتائجَ غيرَ المقصودة كانت مقاربةً متناقضةً لتطبيق السياسات العِرقية، وأكَّدَت مطالبَ الأقليات وأحبطَتْها في الوقت نفسه، فخلَّفَت طوقَ نجاةٍ مملوءًا بالمتناقضات، والمعايير المزدوجة، والنتائج الضالة. وهذه بدورها تخلِّف الإحساس في كثيرٍ من دول العالم بأن الترويج الدولي للتعدُّدية الثقافية الليبرالية تنقُصه الأسُس المبدئية.

أستكشف هذه المسائلَ المُلغِزة في سياقَين رئيسيَّين؛ الأول المحاولة التي تقوم بها المنظَّمات الدولية لتطوير نماذجَ ومعاييرَ تتعلَّق بدراسة «الأقليات القومية» في أوروبا، لا سيما بواسطة المجلس الأوروبي ومنظَّمة الأمن والتعاون في أوروبا (الفصل السادس)، ومحاولة المنظَّمات الدولية لتطوير المعايير والمقاييس الخاصة بدراسة «السكان الأصليين» على المستوى الدولي، لا سيما بواسطة الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظَّمة العمل الدولية (الفصل السابع)، وسوف أناقِش في الحالتَين أن النجاحَ المبدئي في خطر بسبب الفشَل في تفهُّم المُعضِلات الكامنة حول التصنيفات والظروف والأهداف.

وأنتهي من ذلك كله إلى بعض الاقتراحات التجريبية بشأن الطرق لإعادة تصوُّر الانتشار العالمي للتعدُّدية الثقافية الليبرالية. ولست أعتقد أن هذه المشكلات يمكن حلُّها تمامًا، لكن يُمكِن التعامل معها بشكلٍ أكثر نجاحًا، من ناحية عن طريق إعادة التفكير في أدوار الممثِّلين الدوليين المختلفين في دعم التعدُّدية، ومن ناحيةٍ أخرى عن طريق إعادة التفكير في المضمون الجوهري للخطابات والمعايير التي يُروَّج لها؛ فنحن في حاجةٍ إلى تغييراتٍ في كلٍّ من الرسالة والرسل.

وما زلتُ مقتنعًا بأن التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي أفضلُ أمل لبناء مجتمعاتٍ عادلةٍ وشاملة حول العالم، وأن انتشارَها لا يُمكِن تحقيقُه من دون عونٍ من المنظَّمات الدولية؛ ولهذا السبب وحدَه علينا أن نتخذ خطوةً إلى الوراء لكي نتأكَّد من أن المجهوداتِ الهائلةِ التي بذلها المجتمع الدولي في هذا المجالِ خلال خمسَ عشرةَ سنةً ماضية لا تزال تسير في مَجْراها الصحيح.

١  انظر إلى الهامش رقم ٦ فيما بعدُ لمناقشةٍ أوسعَ للكيفية التي وقع بها هذا الموضوع خارج المجرى الرئيسي للآداب الأكاديمية التي تدور حول موضوعات «العُرف والسياسة العُرفية بصفةٍ عامة».
٢  انظر فيما يتعلق بالتحليل التفصيلي لهذه النصوص القانونية تورنبيري، ١٩٩١م و٢٠٠١م؛ ودينشتين، ١٩٩٢م؛ وهنراد، ٢٠٠٠م؛ والفردسون وفيرر، ١٩٩٨م؛ يورنغ وفوترل، ١٩٩٩م؛ وأكيرامارك، ١٩٩٧م؛ كمبر ويتلي، ١٩٩٩م؛ ويتلي، ٢٠٠٥م؛ هولنغ ٢٠٠٥م؛ ويلر، ٢٠٠٥م؛ ليرنر، ١٩٩١م؛ فيليبس وروساس، ١٩٩٥م؛ ريهمان، ٢٠٠٠م؛ ويلنغاما، ٢٠٠٠م؛ بنتاسوليا، ٢٠٠٢م؛ المجلس الأوروبي، ٢٠٠٤م؛ غايم، ٢٠٠١م؛ كروفورد، ١٩٩٨م؛ غانيا وزنثاكي، ٢٠٠٥م؛ ألستون، ٢٠٠١م؛ موسغزاف، ١٩٩٧م؛ أنايا، ١٩٩٦م؛ لام، ٢٠٠٠م؛ ليتشيرت، ٢٠٠٥م؛ ميجنخت، ٢٠٠١م؛ ثورنبيري واسنيمز، ٢٠٠٤م.
٣  الإحراجُ الأخلاقي: موقفٌ يجد فيه الإنسانُ نفسَه أمام طرفَين متقابلَين لا مناص له من اختيار أحدهما مع أنه لا يرضى بكلَيهما، وهو في المنطق ضربٌ من القياس المركَّب يُراد به إفحامُ الخصم. (المترجم)
٤  وستفاليا Westphalia: منطقة تاريخية في الجزء الشمالي الغربي من ألمانيا، كانت في القرن الثاني عشر دوقية، ثم جعل منها نابليون بونابرت في العام ١٨٠٠م مملكة ونصَّب عليها أخاه ملكًا، وهي تؤلِّف منذ العام ١٩٤٥م جزءًا من ألمانيا الغربية قبل هدم السور ثم ضم هذا الجزء وسقوط الاتحاد السوفييتي. (المترجم) والدولة الوستفالية مفهوم يُقصَد به سيادة الدولة القومية على أساس مبدأَين؛ الإقليمية، واستبعاد الأطراف الخارجية من هياكل السلطة المحلية. (المترجم)
٥  هناك الآن كتاباتٌ مُنتشِرة عن الطريقة التي يُمكِن أن تُستحضَر بها التعدُّدية الثقافية للحد من حقوق النساء وغيرهن من الأقليات المحلية الضعيفة، لمناقشةٍ مهمةٍ في هذا الموضوع، انظر كتاب أوكين ١٩٩٩م، شاكار ٢٠٠١م، أيزنبرغ وسبنرهاليف ٢٠٠٥م.
٦  راجع: سبنر، ١٩٩٤م Spinner. وراجع أيضًا تايلور، ١٩٩٣م Ch. Taylor، وأيضًا تامر، ١٩٩٣م Yael Tamir، راز، ١٩٩٤م Raz. ولنظرةٍ عامة راجع: كيمليكا Kymlicka 2001. الفصل الثاني.
٧  Multicultural Citizenship: A Liberal Theory of Minority Rights.
٨  وعلى حين أن تداول هذه المفاهيم لم يكن نسقيًّا، فإنه لم يكن موجَّهًا أيضًا؛ ذلك لأن المثقفين الهنود قد أثَّروا في تشكيل الخطاب الدولي المعاصر عن حقوق الأقليات الإنسانية، وكما أوضحَت أنانت Anant فقد كانوا نشِطين في الصناعة ولم يكونوا مجرد متلقِّين سلبيِّين للقواعد الدولية. انظر أنانت Anant 2003.
٩  هناك كتاباتٌ أكاديميةٌ مثيرةٌ حول معظم جوانب التنوع العِرقي والسياسات العِرقية، لكن من المدهش حقًّا أن تتناول بشكلٍ مباشرٍ المعضلات التي تُواجهُها المنظَّماتُ العالمية في صياغة القواعد والمعايير؛ فهناك مثلًا كتاباتٌ متطورة داخل النظرية السياسية المعيارية حول المُثل العليا لعدالة التعدُّدية الثقافية في الديمقراطيات الليبرالية الراسخة. لكنها لا تذكُر شيئًا حول محاولات تنظيم تلك القواعد. ولا كيف ينبغي أن تُعالج مشكلات الظروف والتعاقُب ومخاوف الأمن (انظر المؤلَّفات التي أشرنا إليها في الحاشية الرقم ١٠). وفي المقابل هناك كتاباتٌ مثيرةٌ تكشف عن الأسباب والحلول المُمكِنة للصراع العِرقي العنيف، بما في ذلك مسائل بناء السلام وإعادة البناء ما بعد الصراع (ولنظرةٍ شاملةٍ جديدة انظُر ويمر wimmer وآخرين ٢٠٠٤م) ولكنها لا تقول شيئًا عن كيفية عمل القواعد والمعايير الدولية لتتكامل هذه الاستراتيجياتُ القصيرة الأمد مع الأهداف الطويلة الأمد لعدالة التعدُّدية الثقافية. وفي مجال العلاقات الدولية بحَث قلةٌ من علماء السياسة مجهوداتِ المنظمات الدولية لضمان الامتثال لمعايير الأقلية، لكن التركيز لم يكن حول كيف تُصاغ هذه المعايير، بل كان التركيز بالأحرى على الوسائل التي تُستخدَم لتنميتهم وتشجيعهم — على سبيل المثال ما إذا كانت هذه المنظَّمات قد سعت إلى الإذعان من خلال التنشئة الاجتماعية أو عن طريق التكيُّف (انظر مثلًا: كيلي 200B, 2004A, Kelly). غير أن المعايير ذاتها تُؤخذ كما هي. وهناك بالطبع قانونٌ دوليٌّ ضخم عن حقوق الأقليات والسكان الأصليين أشير إليه في الحاشية الرقم ٩، غير أن هذا القانون منعزلٌ بصورةٍ لافتةٍ للنظر ومنفصلٌ تقريبًا تمامًا عن مناقشات النظرية السياسية المعيارية عن التعدُّدية الثقافية أو مناقشات علم الاجتماع للسياسة العِرقية (بالنسبة إلى استثناءٍ بارزٍ انظر نوب Knop 2000). ونتيجة لذلك فلا شيء من هذه الكتابات يُواجِه بطريقةٍ نسَقيَّةٍ المعضلاتِ المتضمَّنة في صياغة المعايير والمقاييس الدولية حول مسائل التنوُّع العِرقي.
١٠  Intergovernmental Organizations.
١١  كانت كندا من بين هذه الدول، العضو الوحيد الذي يحق له التصويت في مجلس حقوق الإنسان H, R, C، لكنَّها عبَّرَت عن معارضَتها باسم الدول الأربع.
١٢  هناك استثناءٌ ظاهرٌ هو إعلان حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية أو عِرقية أو دينية أو لغوية، الذي تمَّت الموافقة عليه بالإجماع من الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام ١٩٩٢م، لكن ربما يعكس ذلك عقم الإعلان.
١٣  دول البلقان هي ألبانيا، وبلغاريا، واليونان، ورومانيا، ويوغسلافيا كانت بينها تحالفاتٌ ومواثيقُ وحروبٌ مستمرة طوال القرن العشرين. (المترجم)
١٤  إن دَور المؤسساتِ الخيريةِ مثيرٌ للاهتمام على وجه الخصوص. على سبيل المثال، فإن برنامج البنك الدولي لمساعدة أقليات الغجر في أوروبا الشرقية هو مبادرةٌ مشتركة مع معهد جورج سورس، وجهود الأمم المتحدة لدعم السياسات المناهِضة للتمييز في أمريكا اللاتينية تموِّلها مؤسَّسة روكفلر، التي نشَرَت كذلك عمل اللجنة العليا للأقليات القومية التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا؛ وغير ذلك. وكما يقول أليستير بونيت، فإن هذه المؤسَّسَات قد أدَّت دَورًا مهمًّا في نشر النماذج الأمريكية للسياسات المناهضة للتمييز حول العالم (بونيت ٢٠٠٦م)، وكانت بالفعل نصيرًا فاعلًا أكثر من الحكومة الأمريكية ذاتها، وسيكون من المفيد وجود دراسةٍ منظَّمة عن الكيفية التي تُشكِّل بها المؤسَّسَاتُ قراراتِها في هذا المجال. وكما يشير المثال، ليس من المحتمل أن يوازن دَورها أي ميلٍ للمنظَّمات الدولية نحو تفضيل التجارب الغربية؛ فالواقع أن كل الأطراف في تلك الشبكة — بما فيها الخبراء الأكاديميون، والمنظَّمات غير الحكومية، والمؤسَّسات الخيرية — يُهيمِن عليها الغرب.
١٥  على سبيل المثال انظر الفصل الثاني، ص٤٦.
١٦  انظر على سبيل المثال «تقرير عن الورشة الثانية أن التعدُّدية الثقافية في أفريقيا» كيدل، مالي، ٨–١٣ يناير ٢٠٠١م. وانظر: جريدة اليونسكو الدولية عن جمعيات التعدُّدية الثقافية.
١٧  تعرف المنظَّمات غير الحكومية التي تعتمد على تمويلٍ خارجي أن استخدام الكلمات الرنَّانة، مثل التنوُّع والتسامُح، هو أمرٌ متوقَّع منها، وهي تلتزم بذلك. غير أن ذلك لا يُشير سوى إشارةٍ ضئيلةٍ إلى مواقفها الفعلية تجاه مسائل التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات. انظر ديتشيف ٢٠٠٤م، حول ظاهرة المنظمات غير الحكومية البلغارية وموظَّفي الحكومة الذين يدَّعون الالتزام بالتعدُّدية الثقافية من أجل المموِّلين الأجانب، بينما يحافظون على الأحادية الثقافية باعتبارها: الثقافة السائدة.
١٨  بالنسبة إلى تشبيه «ملء الإطار» ارجع إلى ويلر Weller ٢٠٠٣م، وهذا تفسير هويغي whiggish (نسبة إلى حزب الهويغ البريطاني) حول تطوُّر معايير حقوق الأقليات، وهو يَرِد في معظم المناقشات التي خاضَها المحامون الدوليون في هذه الموضوعات. انظر على سبيل المثال مناقشات هنرارد Henrard حول التآزُر المتنامي الدائم نحو مستوًى أقوى لحماية الأقليات بين معايير حقوق الإنسان وحقوق الأقليات (هنرارد ٢٠٠٥م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤