وسوف أناقِش بعضَ هذه المعايير والآليات بالتفصيل فيما بعدُ، غير أن المهمة الأولى
هي
استكشافُ الافتراض الكامن: لماذا كانت دراسة الأقليات من الموضوعات التي تنال «اهتمامًا
دوليًّا مشروعًا؟»، لماذا لا تكون علاقة الدولة بالأقليات «شأنًا داخليًّا تمامًا»،
مسألةً محليةً تُحل وفقًا لتراث كل دولة وأولويَّاتها؟ سوف يذهب بعض الناس — بالطبع —
إلى أنه ينبغي ألا تكون هناك حدود — أيًّا كانت — بشأن الكيفية التي تُعامِل بها الدول
الأقليات، وحتى قبلَ موجةِ معايير حقوق الأقليات، كان هناك تحريمٌ للانتهاكات الخطيرة
لحقوق الأقليات مثل الإبادة الجماعية، والتطهير العِرقي، والتفرقة العنصرية، ولكن لو
أن
بلدًا ما طبَّق الحدَّ الأدنى من هذه المعايير، فلماذا يكون هناك اهتمامٌ دوليٌّ مشروع
بمعاييرَ إضافيةٍ لحقوق الأقليات؟ لماذا يُعنَى المجتمع الدولي بما إذا كانت الدول
تتبنَّى نماذجَ للأممية أو المواطنة لاستيعاب الأقليات وللتعدُّدية الثقافية؟
وما غيَّره الزمن هو الطريقة التي تُدرَك بها «مشكلة الأقليات»، والعلاجات
المُقترَحة. نحن في حاجةٍ إلى فَهم هذه التغيُّرات إذا ما أردنا أن نفهَم الأنشطة
الحالية للمجتمع الدولي، والمُعضِلات التي أقحَم نفسَه فيها. وكما سوف نرى، فإن التراث
التاريخي يشكِّل كيفية مواجهة الصراعات المُعاصِرة.
الاستقرار فيما بعد الحرب
بالنسبة إلى العقود القليلة الأولى من القرن العشرين كان يُنظَر إلى «مشكلة
الأقليات» في البداية على أنها قضيةُ الأقليات الانضمامية. وبانقسام إمبراطورية
هابسبرغ
Habsburg٤ والإمبراطوريتَين الروسية
٥ والعثمانية
٦ إلى عددٍ من البلدان المستقلة حديثًا، تركَّزَت «مشكلة الأقليات» على
أولئك الناسِ الذين انتهَوا إلى «الجانب الخاطئ» من الحدود الدولية، من الهنغاريين
الذين وجدوا أنفسَهم يعيشون في رومانيا، أو الألمانيين الذين وجدوا أنفسَهم يعيشون
في بولندا.
واستجابةً لهذه المشكلة عُقدَت معاهداتٌ ثنائية، لضمان الحماية المتبادَلة
للقوميات التي تعيش معًا في دولٍ متجاورة؛ فقد وافقَت ألمانيا، على سبيل المثال،
على منح بعض الحقوق والامتيازات للسلالات البولندية التي تعيش داخل حدودها، ما دامت
بولندا توفِّر حقوقًا متبادَلةً للسلالات الألمانية التي تعيش في بولندا. ثم امتد
نظام المعاهدات لحماية الأقليات، وأعطى ضماناتٍ أكثر على أساسٍ دوليٍّ قانوني، في
ظل عصبة الأمم.
غير أن هذا النظام رُفض على نحوٍ قاطعٍ بعد الحرب العالمية الثانية؛ لأنه، من
ناحية، لا يحمي سوى الأقلية ذات القرابة في دولةٍ مجاورةٍ تهتم بها. وفضلًا عن ذلك
فإن تلك المعاهَدات حملَت في طياتها إمكان استغلالها لتقويض الاستقرار؛ ذلك أنه
حيثما تُوجَد هذه القرابات في الدول فإنها تلجأ إلى المعاهَدة لتبرير غزو الدول
الأضعف أو التدخُّل في شئونها؛ فلقد برَّرَت ألمانيا النازية، على سبيل المثال،
غزوها لبولندا وتشيكوسلوفاكيا على أساس أن هذَين البلَدين قد انتهكا معًا اتفاقية
حقوق السلالات الألمانية التي تعيش على أرضهما.
وعندما طُرحَت أسسٌ لبناء نظامٍ دوليٍّ جديدٍ بعد الحرب العالمية الثانية ظهرَت
مقاربةٌ بديلة، وقد تمثَّلَت هذه المقاربة الجديدة في استبدال الحقوق الإنسانية
الشاملة بالحقوق الخاصة بالأقلية. وبدلًا من الحماية المباشرة للجماعات الضعيفة من
خلال الحقوق الخاصة بأعضاء جماعاتٍ معيَّنة تحمي الأقليات بطريقةٍ غير مباشرة، عن
طريق ضمان الحقوق السياسية والمدنية الأساسية لجميع الأفراد، بغَض النظر عن
عُضويتهم في الجماعة، والحقوق الإنسانية الأساسية مثل حرية التعبير، والتجمُّع،
والضمير، وعلى حين أنها تُنسَب إلى الأفراد فإنها قد مُورسَت في المجتمع مع آخرين،
ومن ثم قدَّمَت حماية لحياة جماعة الأقلية. حيثما كانت هذه الحقوق الإنسانية
الفردية محميةً تمامًا، فلن نحتاج بعد ذلك إلى حقوقٍ خاصةٍ للأقليات. ولقد اقتبس
أينيس كلود الفكرة الموجودة هنا بطريقةٍ لطيفة:
إن الاتجاه العام لحركات الترويج لحقوق الإنسان، فيما بعد الحرب تمثَّل
في إدراج مشكلة الأقليات القومية تحت المشكلة الأوسع لضمان الحقوق الفردية
الأساسية لجميع الأفراد، من دون الرجوع إلى عُضويتها في الجماعات العِرقية.
ولقد كان الافتراضُ الرائد أن أعضاء الأقليات القومية ليسوا في حاجةٍ إلى،
ولا يستحقون، أو لا يُمكِن منحُهم حقوقًا ذات طابعٍ خاص. لقد طرح مبدأ حقوق
الإنسان بديلًا لمفهوم حقوق الأقليات. مع إشارةٍ قويةٍ إلى أن الأقليات
التي يتمتَّع أعضاؤها بمساواةٍ فرديةٍ في المعاملة لا يحقُّ لها المطالبة
بتسهيلاتٍ للحفاظ على خصوصيتها العِرقية. (كلود، ١٩٥٥م، ص٢١١).
وباختصار، فإن فكرة «حقوق الأقليات» نفسها أصبحَت معيبةً بعد الحرب العالمية
الثانية، على أساس أنها غيرُ ضروريةٍ ومزعومة للاستقرار في آنٍ معًا. وخلال بضع
سنواتٍ قليلةٍ اختفت حقوق الأقليات فعليًّا من قاموس المفردات الدولية. أو كما
صوَّرها «جوزيف كونز»
Josef Kunz في عبارةٍ شهيرةٍ
في العام ١٩٥٤م:
«في أواخر الحرب العالمية الأولى كانت الحمايةُ الدولية للأقليات «موضةً»
عظيمة: وفرة من المعاهَدات، والمؤتَمَرات وناشطي عصبة الأمم، وكمٌّ هائلٌ
من الكتابات. أما الآن، فقد عفَّى الزمنُ على هذه «الموضة» تقريبًا، واليوم
أصبح الزيُّ الذي يرتديه المحامي الدولي هو «حقوق الإنسان» (كونز، ١٩٥٤م،
ص٢٨٢).
ونتيجةً لذلك لم تعُد هناك إشاراتٌ إلى حقوق الأقليات لا في ميثاق الأمم المتحدة،
ولا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام ١٩٤٨م.
٧ وهذا الصمت تكرَّرَت نُسخٌ منه في المواثيق الإقليمية لحقوق الإنسان،
سواء في أوروبا (مثلًا الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في العام ١٩٥٠م)،
والأميركتَين (مثل الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان وواجباته في العام ١٩٤٨م، أو
الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في العام ١٩٦٩م، أو في أفريقيا (مثل الميثاق
الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب في العام ١٩٨١م).
إن بناء نظامٍ شاملٍ لحقوق الإنسان تحت مظلة الأمم المتحدة هو أحد الإنجازات
الأخلاقية الضخمة في القرن العشرين، الذي ألهمَه وتابع إنجازَه حالمون مثاليون، وقد
التزَم بمحاربة التعصُّب والتمييز الذي سمَّم العلاقاتِ العِرقية في جميع أنحاء
العالم (غليندون ٢٠٠١م). لكن بالنسبة إلى قضايا الأقلية، فإن استبدال حقوق الأقليات
المستهدفة بحقوق الإنسان العالمية فيما بعد الحرب لم يكُن فقط، وربما لم يكن بداية،
نتيجةً لمثاليةٍ أخلاقية، أو رغبة جادَّة في العثور على وسائلَ بديلةٍ لحماية
الأقليات، بل عكَس أيضًا رغبةً في السيطرة على الأقليات وإضعافها. وكما لاحظ كلود،
فقد خلَق تلاعُب النازية بنظام عصبة الأمم لحماية الأقليات، وتعاوُن الأقليات
الألمانية «ردَّ فعلٍ قويًّا ضد مفهوم الحماية الدولية [للأقليات] … ولقد كانت
الحقيقة الثابتة هي أن رجال الدولة، مدعومين برأيٍ عامٍّ متأثِّر، بعمق، بغَدر
المطالبين باسترداد الأرض من الانضماميين والأقليات الخائنة، كانوا يُعِدُّون
للتقليص من، وليس التوسُّع في، حقوق الأقليات» (كلود، ١٩٩٥م، ص٥٧، ٦٩، ٨١). أما
بالنسبة إلى رجال الدولة بعد الحرب فقد كان من الضروري أن يعثُروا على منهجٍ قادرٍ
على إضعاف قدرة الأقليات على تحدي سلطة الدولة، سواء محليًّا أو دوليًّا (جاكسون
بريس، ١٩٩٨م، ص٤٣). ويعني ذلك إنكار حق الأقليات بأي موقفٍ دولي، وكذلك تقويض
الأساس المؤسَّساتي الداخلي الذي عزَّز وجود الأقليات تاريخيًّا كمجتمعاتٍ مترابطةٍ
ومنظَّمة تتنافس على سلطة الدولة. ويبدو أن منظور حقوق الإنسان يفي بالغرض؛ فهو
يحمي أعضاء الجماعة من الأقليات بوصفهم أفرادًا، لكنه لا يحمي مؤسَّساتهم؛ ومن ثَم
فهو يُضعِفهم كممثِّلين للجماعة.
لقد كان مفهومًا تمامًا في أوروبا — خلال تلك الفترة — أن منظور حقوق الإنسان لا
يُعطي الأقلياتِ ما يحتاجون إليه للمحافظة على لغاتهم وثقافاتهم، مثل الحق في
استخدام لغتهم في المؤسَّسات العامة (كالمدارس، والمحاكم، ووسائل الإعلام العامة)،
أو أن يُمارِسوا شكلًا من أشكال الاستقلال الذاتي المحلي أو الإقليمي. ومن دون حقوق
الأقليات تلك، فإن المجتمعات القديمة منذ قرون، والثقافات الإقليمية، سوف تكون
عاجزةً عن مقاومة بناء الأمة وسياسات الاستيعاب لدولةٍ أكبر. يرى بعضُ الناس حقيقة
أن معايير حقوق الإنسان لم تستطع حمايةَ الأقليات من هذه النتيجة الاستيعابية
الطويلة المدى، وهو أمرٌ مؤسف، لكنَّ آخرين رأَوا أن ذلك كان في الواقع فضيلةً
مهمة. ولقد أظهرَت تجربة عصبة الأمم أن احتياجات الأقليات لا بد من أن تخضع للمصلحة
الكبرى ﻟ «تحقيق الأمن للدولة الوطنية والاستقرار لمؤسساتها، حتى لو كان ذلك على
حساب طمس ثقافات الأقلية، وفرض الانسجام على جميع السكان» (كلود، ١٩٥٥م، ص٨٠ و٨١).
وباختصارٍ فقد كانت مصلحة الدولة العليا (Raison d
Etat)، بقَدْر ما كان المبدأ الأخلاقي، هي ما حسَم رفضَ تقاليد
ما قبل الحرب حول حقوق الأقليات.
إحياء حقوق الأقليات
أيًّا ما كان الأساس المنطقي الكامن وراء معارضة فكرة المعايير الدولية لحقوق
الأقليات، فقد سيطَرَت هذه الفكرة معظم الأربعين سنةً الماضية، برغم المحاولات
الدورية التي كانت تقوم بها بعضُ البلدان (لا سيما الكتلة السوفييتية)، لإحيائها.
ومع ذلك، فابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي بدأَت المواقف تتغيَّر، ولقد سارت هذه
التغيُّرات على المستوى الدولي داخل الأمم المتحدة في خطَّين؛ الأول يتعلق بوضع
السكان الأصليين بصفةٍ خاصة، ويختص الثاني بالأقليات بصفةٍ عامة.
ولنبدأ بالخط الأول الخاص بالسكان الأصليين، الذين كان لهم — بمعنًى ما — وضعٌ
فريد باستمرار داخل القانون الدولي.
٨ وحتى في أَوْج معارضة فترة ما بعد الحرب لأي فكرة عن حقوق الأقليات
الخاصة، بقي شيءٌ من الاعتراف بالوضع الخاص للسكان الأصليين. ولقد انعكس ذلك — على
سبيل المثال — في اتفاقية منظمة العمل الدولية ١٠٧ حول «حماية دمج السكان الأصليين
والقبائل»، التي جرى تبنِّيها في العام ١٩٥٧م. وهذا هو أوضحُ استثناءٍ لقاعدة ما
بعد الحرب بعدم اعتراف القانون الدولي بأي حقوق استنادًا إلى عضوية الجماعة. غير
أنه كان الاستثناء الذي أثبَت القاعدة. ولقد صادق الاتفاقُ على تدابيرَ معيَّنةٍ
خاصةٍ بالسكان الأصليين، لكن فقط كحمايةٍ أبويةٍ مؤقَّتة للسكان الضعاف الذين
يعجزون عن تحمُّل قسوة الحياة الحديثة، إلى أن يُصبِحوا قادرين على الوقوف على
أقدامهم كمواطنين قوميين متساوين غير متميزين. فمثلًا، ينُص البند الرقم ٣ في
الاتفاقية على:
- (١)
ما دامت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للسكان الأصليين
وسكان القبائل تمنعُهم من التمتُّع بمزايا القوانين العامة في البلاد
التي ينتمون إليها فسوف تُطبَّق تدابيرُ خاصة لحماية المؤسَّسات
والأشخاص والملكية والعمل بالنسبة إلى هؤلاء السكان.
- (٢)
سوف يُراعى ضمان أن تلك المعايير الخاصة للحماية:
ليس ثمَّة ما يُوحي بأن على الدول واجبَ الاعتراف بالسكان الأصليين كجماعاتٍ
تاريخية ومجتمعاتٍ تحكُم نفسها، أو لتكيِّف الوجود السابق لمؤسساتها الثقافية
والقانونية والمؤسسات السياسية والتقاليد. بل كل الهدف هو التشجيع على تكيُّف
وتجانُس السكان الأصليين مع المؤسَّسات الموجودة من قبلُ في الدولة الأم. وبهذا
المعنى فإنها تتناسب تمامًا مع معايير ما بعد الحرب الأرثوذكسية.
ومع ذلك ففي ثمانينيات القرن الماضي بدأَت المواقف تجاه السكان الأصليين تتغير.
وأصبحَت المقدِّمات الأبوية والاستيعابية في اتفاقية منظمة العمل الدولية في العام
١٩٥٧م مُحرِجة، وصدَر قرارٌ لإعادة صياغتها، أسفر عن اتفاقيةٍ جديدةٍ لمنظمة عملٍ
دولية عن السكان الأصليين أصبَح معمولًا بها في العام ١٩٨٩م (الاتفاقية الرقم ١٦٩).
وفي ديباجة هذه الاتفاقية الجديدة التي صيغَت بالتعاون مع الأمم المتحدة، ذهبَت
منظمة العمل الدولية إلى أنه قد آنَ الأوانُ لتبني معاييرَ دوليةٍ جديدة «من منظور
إزالة التوجُّه الاستيعابي للمعايير السابقة»، و«الاعتراف بتطلُّعات هؤلاء الناس
لممارسة التحكُّم في مؤسساتهم». وقد اشتملَت الاتفاقية الجديدة على ألوان من الحقوق
نُظر إليها على أنها خاصةٌ بالسكان الأصليين، بما في ذلك قضايا الأرض، وحقوق اللغة
والقانون المعتاد؛ أي القانون القائم على العُرف.
وربما كان ذلك هو المثل الواقعي الأول على معيارٍ دوليٍّ للتعدُّدية الثقافية في
فترة ما بعد الحرب، ولقد قُبل بغير لبسٍ المبدأ الإيجابي لحقوق الجماعات الخاصة
(٢٠٠٥ rodriguez-Pinero 2005). غير أنه سرعان ما
نُظر إلى هذه الاتفاقية على أنها صياغةٌ ناقصة وغير مُقنِعة لحقوق السكان الأصليين.
ومن هنا كان البحث في الأمم المتحدة من معيارٍ جديد. وهناك نصٌّ حاسمٌ في مسوَّدة
إعلان حقوق السكان الأصليين، الذي صيغ في العام ١٩٩٣م، وشقَّ طريقَه ببطء من خلال
حصوله على موافقة الدول، ولم تعُد مسوَّدة الإعلان تأكيدًا وتقوية لاتفاقية منظَّمة
العمل الدولية في الدفاع عن حقوق السكان الأصليين بخصوص الأرض واللغة والقانون
المعتاد (أي القائم على العُرف) فقط، بل أكَّدَت أيضًا أن السكان الأصليين لهم الحق
في تقرير المصير داخليًّا (أي في الحكم الذاتي الممتَد داخل حدود الدولة الواسعة،
برغم أنه ليس لهم الحق في «تقرير المصير خارجيًّا» أو في الانفصال عن
الدولة).
وأي إشارةٍ إلى تقرير المصير من المعروف أنها حسَّاسة في الأوساط الدولية، وحتى
إذا استُبعد الانفصال صراحة، وأنه ليس واضحًا ما إذا كانت، أو متى ستكون، مسوَّدة
الإعلان موضعَ اتفاق من الناحية الصورية في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وعلى
الرغم من ذلك، يمكن القولُ إن كل ما فعلَته هو أنها جعلَت ما هو ضمنيٌّ مُستَتِر في
اتفاقية منظمة العمل الدولية في العام ١٩٨٩م علنيًّا واضحًا، وسرعان ما نشرَت هذه
الأفكار المحورية داخل المجتمع الدولي، فسمعنا مثلًا أصداء مسوَّدة الإعلان في
معايير السكان الأصليين التي تبنَّاها برنامج الأمم المتحدة للإنماء
٩ والبنك الدولي
١٠ ولجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة
١١ ولجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري
١٢ واليونسكو
UNESCO١٣ والمؤتمرات الدولية الحديثة في الأمم المتحدة (مثلًا المؤتمر الدولي في
العام ١٩٩٣م حول حقوق الإنسان في فيينا، أو المؤتمر الدولي في العام ٢٠٠١م لمناهضة
العنصرية في دوربان
١٤Durban.
١٥
وفضلًا عن ذلك فقد أقامت الأمم المتحدة جسرًا من الأدوات الخاصة لمراقبة معالجة
حقوق السكان الأصليين، بما في ذلك إعلان العقد الدولي للسكان الأصليين منذ العام
١٩٩٥م حتى العام ٢٠٠٤م، وتعيين مقررٍ خاصٍّ لوضع حقوق الإنسان والحريات الأساسية
بالنسبة إلى السكان الأصليين في العام ٢٠٠١م، وتشكيل لجنةٍ دوليةٍ لدعم الجماعة في
مسائل السكان الأصليين في العام ٢٠٠٢م، وتشكيل منتدًى دائمٍ لمسائل السكان الأصليين
في العام ٢٠٠٣م.
وباختصار، فإننا نرى اتجاهًا واضحًا — في سياق السكان الأصليين — نحو الاعتراف
بضرورة بعض الحقوق المُستهدَفة، على الرغم من أن مضمون هذه الحقوق يظل موضوعَ نزاع،
لا سيما في علاقته بالمصادر الطبيعية والحكم السياسي. وكثيرًا ما يُقال إن هذا
الاتجاه «فريد في نوعه»، و«استثنائي»، هو شذوذ في النظام الدولي جرى تبنِّيه
استجابةً للحاجات الخاصة للسكان المنعزلين، من دون أي إشارة إلى معاملة الأقليات
بصفةٍ عامة. وفي وجهة النظر هذه نجد أن القواعدَ الأساسيةَ لفترة ما بعد الحرب،
التي تقوم على أساس الحقوق الإنسانية الشاملة أو العالمية بدلًا من حقوق الأقليات
الخاصة، ظلَّت كما هي من دون أن تتغيَّر بالنسبة إلى جميع الجماعات العرقية
الثقافية. هذا مفهومٌ يلقى أحيانًا مساندةً وتشجيعًا من السكان الأصليين أنفسِهم
والمدافعين عن مصالحِهم، الذين يؤكِّدون أن وضع السكان الأصليين ليس له أي علاقة
بقضايا «الأقليات»، وأن أيديولوجيا «الوطن الأصلي» لا علاقة لها بالنظريات الأكثر
عمومية عن «التعدُّدية الثقافية».
١٦
وصحيح تمامًا أن القبول السريع لفكرة حقوق السكان الأصليين يفسِّرها جزئيًّا أن
السكان الأصليين هم قلةٌ نسبيًّا وحالةٌ استثنائية إلى حدٍّ ما لا تُشكِّل سابقةً
للأقليات العِرقية الثقافية الأخرى.
١٧ غير أن الواقع أن التوجه نحو منهج تقبُّل الاختلاف لم يكن مقصورًا على
السكان الأصليين، بل كان هناك تطوُّرٌ مهمٌّ على خطٍّ آخرَ ركَّز على الأقليات
بصفةٍ عامة، ما غيَّر القواعد الأساسية للتعامل مع كل الجماعات العِرقية
الثقافية.
والنقطة المرجعية لهذا التغيُّر العام هي أحد شروط العهد الدولي للحقوق السياسية
والمدنية (
ICCPR) الذي أعلنَتْه الأمم المتحدة في
العام ١٩٦٦م، حيث يَرِد في البند الرقم ٢٧:
في الدول التي تُوجَد فيها أقلياتٌ عرقية، أو دينية أو لغوية، فإن
الأشخاص الذين ينتمون إلى مثل هذه الأقليات لا يُنكر حقهُّم في الاجتماع مع
الأعضاء الآخرين في جماعتهم، والاستمتاع بثقافتهم الخاصة، وممارسة طقوس
دينهم الخاص أو استخدام لغتهم الخاصة.
١٨
وعندما كُتبَت مسوَّدة ذلك البند في الأصل، فإنها لم تقصد بالضرورة تقديم أي
حقوقٍ خاصةٍ للأقليات، مقابل إعادة تأكيد الالتزام بحقوق الإنسان الشاملة، بل إنه
يُمكِن أن يُفهَم على أنه دعوةٌ للدول إلى ضمان حصول أعضاء جماعات الأقليات على
الحريات المدنية نفسِها التي يملكُها غيرُهم من المواطنين، لا سيما حرية الكلام،
وحرية الاجتماع، وحرية الضمير. ومن هنا، يُمكِن النظر إليه على أنه، جوهريًّا، شرطٌ
لعدم التفرقة، وبهذا المعنى فقد نُسخ في القوانين الدولية لحقوق الإنسان التي
تُحرِّم التفرقة في الحريات المدنية على أساس الجِنس أو العِرق.
١٩
غير أنه كما حدَث في سياق السكان الأصليين، فقد بدأَت المواقف تجاه حقوق الأقليات
تتغيَّر ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، كما أُعيد بالتدريج تفسيرُ المادة الرقم
٢٧ لتشملَ الحقوق الإيجابية للأقليات. ويرجع ذلك من ناحية إلى بعض فقهاء القانون
المبدعين في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة؛ ففي شرحهم العام على المادة
٢٧، المحرَّرة في العام ١٩٩٤م، يذهبون إلى أن المادة لا تفرض فقط واجبَ عدمِ
التفرقة لحماية الحريات المدنية، بل أيضًا قد تتطلب تبنِّي «تدابير إيجابية» لتمكين
الأقلية وتهيئتها لممارسة هذا الحق بالاستمتاع بثقافتها،
٢٠ ولقد أعادت الجمعية العامة للأمم المتحدة تأييد هذه الفكرة في العام
١٩٩٢م، عندما تبنَّت إعلانًا لحقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية، أو
عرقية، أو دينية أو لغوية. وتؤكِّد ديباجة هذا الإعلان أنه يستلهم المادة الرقم ٢٧
ثم يُعيد ببراعةٍ صياغةَ العبارات الرئيسية ليوضِّح أنها تفرض التزاماتٍ إيجابيةً
تمكِّن الأقليات من الاستمتاع بثقافتهم، وليس ببساطةٍ الواجب السلبي لاحترام
الحريات المدنية بطريقةٍ لا تفرقة فيها.
٢١
ولقد انعكس هذا التغيُّر بعد ذلك في خلق مؤسَّساتٍ وإجراءاتٍ مختلفةٍ خاصةٍ
بالأقليات، مثل إنشاء جماعةِ عملٍ للأقليات تابعةٍ للأمم المتحدة في العام ١٩٩٥م،
برعاية لجنةٍ فرعيةٍ من حقوق الإنسان التابعة للجنة حقوق الإنسان، وتعيين خبيرٍ
مستقلٍّ من الأمم المتحدة لموضوع الأقليات في العام ٢٠٠٥م. يعكس ذلك الاعتراف أن
هناك حاجةً إلى استكمال معاييرَ تقليديةٍ غيرِ تمييزية لحقوق الإنسان على أن
تتضمَّن شروطًا خاصةً بالأقليات.
وباختصار، نحن نرى تطوُّراتٍ على طريقَين منفصلَين في الأمم المتحدة: فهناك طريق
ﻟ «الأقليات» بصفةٍ عامةٍ يقوم أساسًا على «حق الاستمتاع بثقافة المرء»، وطريقٌ
منفصل ﻟ «السكان الأصليين» يقوم أساسًا على حق تقرير المصير (الداخلي). ويُعاوِد
هذا التمييزُ الظهورَ من جديد في كثيرٍ من الوثائق الدولية الحديثة. وسوف أعود
مراتٍ كثيرةً إلى هذا التمييز المهمِّ المعقَّد، المستمد من طرقٍ مختلفةٍ لأغراضٍ
مختلفةٍ بوساطة منظَّماتٍ دوليةٍ مختلفة. لكن النقطة الأساسية في الطريقَين، حتى
هذه اللحظة هي أن هناك حاجةً متزايدةً إلى قبول بعض البنود التي تستهدف بصفةٍ خاصةٍ
حاجاتِ وتطلُّعات الجماعات العِرقية الثقافية.
وهذا القبول المتزايد لحقوق الأقليات ليس مقصورًا على الأمم المتحدة؛ فقد رأينا
كذلك تطوُّراتٍ مهمةً على المستوى الإقليمي خلال الفترة الزمنية نفسها تقريبًا،
وتحديدًا في أوروبا، التي تجتاح أجزاءً كبيرةً منها اليوم موجةُ ردودِ أفعالٍ
معادية للمهاجرين؛ ولذلك قد لا تبدو بيئةً مناسبةً لتطوُّر المعايير الدولية
لتقبُّل الاختلافات. لكن من المألوف في السياق الأوروبي التفرقة بين «الأقلية
التاريخية»، المستقرة تقليديًّا في بلدٍ ما، وبين «الأقليات الجديدة» أو
«المهاجرين». وتشمل فئة الأقليات التاريخية في أوروبا بعض الجماعات التي يُنظر
إليها على أنها «سكان أصليون» (من أمثال الساميين
Sami في تشيكوسلوفاكيا)، وكذلك الأقليات
القومية الأخرى التي استقرَّت منذ زمنٍ بعيد، وذلك مثل العِرق الجرماني في بولندا،
أو الاسكتلنديِّين في بريطانيا. ولقد حدثَت التطورات المهمَّة فيما يتعلق بهذه
«الأقليات القومية التاريخية» بالنسبة إلى المعايير الأوروبية الشاملة في
أوروبا.
٢٢
لقد طُرحَت فكرةُ ميثاقِ حقوقِ الأقليات للأقليات التاريخية لأول مرة في البرلمان
الأوروبي في ثمانينيات القرن الماضي، من دون نجاحٍ في حسمها (توغنبرغ
Toggenburg، ٢٠٠٤م، ص٥). لكن منذ العام ١٩٩٠م،
تولَّت ثلاثٌ من أقوى المنظَّمات الأوروبية الحكومية القضية، ووضعَت التزاماتٍ
ثابتةً لحقوق الأقليات، وهي تحديدًا: المجلس الأوروبي، وهو الجسم الرئيسي لدعم حقوق
الإنسان والديمقراطية في أوروبا، ثم الاتحاد الأوروبي، وهو موطن التكامُل الاقتصادي
الأوروبي، وأخيرًا المنظمة الأوروبية للأمن والتعاون
(OSCE)، وهي منظمةٌ أمنيةٌ أنشِئَت في الأصل
لنزعِ فتيلِ التوتُّرات خلال الحرب الباردة، وهي الآن تركِّز بصفةٍ عامةٍ على صيانة
السلام ومنع الصراع.
لقد كانت منظَّمة الأمن والتعاون أول هيئةٍ أوروبيةٍ تُصدِر إعلانًا عن حقوق
الأقليات، وذلك في وثيقة كوبنهاغن في العام ١٩٩٠م، ووثيقة جنيف في العام ١٩٩١م.
ولقد أنشأَت أيضًا منصب المندوب السامي للأقليات القومية في العام ١٩٩٣م، وطوَّرَت
سلسلةً من التوصيات ذات العلاقة بحقوق الأقليات في مجال التعليم (١٩٩٦م)، واللغة في
العام ١٩٩٨م، والمشاركة الفعالة (١٩٩٩م)، والإذاعة (٢٠٠٣م).
٢٣
ولما كان المجلس الأوروبي قد تأسَّس في جانبٍ منه على هذه المعايير للمنظَّمة
الأوروبية للتعاون والأمن، فقد تبنَّى ميثاقًا أوروبيًّا للغات الأقلية واللغات
الإقليمية في العام ١٩٩٢م، واتفاقيةً إطاريةً لحماية الأقليات القومية في العام
١٩٩٥م، وشكلَت بالتالي لجنة استشارية لمراقبة تطبيقها، و«لجنة من الخبراء في
الموضوعات المتعلقة بحماية الأقليات القومية».
٢٤
ولقد أعلن الاتحاد الأوروبي من جانبه، في العام ١٩٩٣م، أن احترامَ حقوقِ الأقليات
كان أحد «معايير الانضمام» التي يتعيَّن على الدول (لا سيما دول ما بعد الشيوعية)
الإيفاءُ بها إذا ما أرادت الانضمام إلى الاتحاد، كما أصدَر سلسلةً من التقارير
السنوية لتقييم أداء الدول المرشَّحة في موضوع حقوق الأقليات. وفي العام ١٩٩٤م
أصدَر برلمانُ الاتحاد الأوروبي أيضًا قرارًا بشأن الأقليات اللغوية، والثقافية في
المجتمع الأوروبي، كما أُنشئَت الإدارة الأوروبية للغات الأقل استخدامًا
(
EBLUL). وفي العام ٢٠٠٤م أُدرجَت حقوقُ
الأقليات كواحدةٍ من القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي في المادة الرقم ٢ في مسوَّدة
الدستور (المنحوسة). ولقد تبنَّى الاتحاد الأوروبي أيضًا إعفاءاتٍ واستثناءاتٍ
خاصةً للسكان الساميين الأصليين داخل الاتحاد، وأعلن أن احترام حقوق السكان
الأصليين سوف يكونُ أحدَ الشروط لحصول الدول النامية على مساعدات الاتحاد
الأوروبي.
٢٥
بينما شهدَت أوروبا معظَم التطورات النشطة على المستوى الإقليمي، فقد كانت هناك
تطوراتٌ أيضًا في مناطقَ أخرى في الأمريكتَين. فكتبَت اللجنة الأمريكية لحقوق
الإنسان مسوَّدة إعلانٍ مقترحٍ بشأن حقوق السكان الأصليين في العام ١٩٩٧م، ويعمل
بنك التنمية الأمريكي على خطة عملٍ بشأن السكان الأصليين. وفي أفريقيا صادقَت
اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب على فكرة كتابة مسوَّدة إعلان حقوق السكان
الأصليين في العام ٢٠٠٣م. وفي آسيا تبنَّى بنك التنمية الآسيوي رؤيةً إقليميةً
لمعايير البنك الدولي حول السكان الأصليين في العام ١٩٩٨م.
وفي استطاعتي أن أواصلَ لعدة صفحاتٍ أسرُد فيها قائمةً بجميع المنظَّمات الدولية
المشتركة في هذا المجال، وأن أحصُر جماعات العمل والوكالات، والإعلانات،
والاتفاقيات التي أوجدَتها. وسوف أناقِش تفاصيلَ بعضِ هذه الجماعات، فيما بعدُ في
هذا الكتاب، وبعض الألغاز المفاهيمية والعقبات السياسية التي اعترضَت طريقها. لكنني
آمل أن ما قلناه يكفي ليعطينا لمحةً عن حجم ووتيرة هذه التغيُّرات. لقد ظلَّت قضية
حقوق الأقليات مخفيةً تمامًا داخل المجتمع الدولي. لكنها عادت إلى الظهور من جديد
في ثمانينيات القرن الماضي، ووصلَت إلى القمة في أجندة الأمم المتحدة، والأجندة
الأوروبية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، ما أدى إلى فَورة في الدراسات
والمفاوضات والمسوَّدات التي أصبحَت نتائجها بالتدريج موحَّدةً مؤسساتيًّا ومنتشرةً
حول العالم طوال الخمسَ عشرةَ سنةً الماضية.
وفضلًا عن ذلك فإن هذا التغيُّر لم يكن محدودًا أو مقتصرًا على قطاعٍ صغير أو
بُعدٍ واحد في المجتمع الدولي. وربما لا يُدهِشنا أن تتعاطَف إحدى منظَّمات الأمم
المتحدة مثل اليونسكو
UNESCO التي مهمَّتُها
حماية التراث الثقافي للجنس البشري مع قضايا السكان الأصليين، والأقليات العِرقية
الثقافية الذين تَلْقي لغاتُهم وثقافاتُهم شيئًا من التهديد.
٢٦ غير أن خطاب التعدُّدية الثقافية وُجد أيضًا في هيئات الأمم المتحدة
التي ترتبط مهمَّتُها بحقوق الإنسان، وأوضاع العمل، والسلام والأمن، والتنمية،
والبيئة.
٢٧
ويُمكِن أن نرى ديناميةً مماثلةً في السياق الأوروبي. ولقد كان أوَّل من واجه
مسألةَ حقوقِ الأقليات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا
(OSCE)، التي مهمَّتُها الرسمية حمايةُ الأمن
والسلام. وقد تبنَّى أفكارها المجلس الأوروبي، الذي هو إحدى هيئات حقوق الإنسان،
كما تبنَّاها أيضًا الاتحاد الأوروبي، الذي كانت وظيفتُه في البداية تحقيق التكامل
الاقتصادي.
وباختصار، فإن أفكار التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات، التي ربما توقَّع المرء
عزلَهَا وإبعادَها إلى المحيط الخارجي والسطحي لمؤسَّسات المجتمع الدولي التي
تتعامل مع «الثقافة» و«التراث»، قد نفَذَت إلى مركز المؤسَّسات المرتبطة بالأمن
والتنمية وحقوق الإنسان. وهناك اختلافاتٌ مهمة في مدى التزام تلك المنظَّمات
المختلفة بأفكار حقوق الأقليات والسكان الأصليين، وكيف تفسِّرها وتفهَمها. وكما
سنرى، فقد كانت لهذه الاختلافات نتائجُ قويةٌ بالنسبة إلى الطريقة التي تطوَّرَت من
خلالها عولمة التعدُّدية الثقافية. لكني أعتقد أن من الإنصاف أن نقول إن دَور
المجتمع الدولي في تنمية ومساندة حقوق الأقليات والسكان الأصليين قد امتد بسرعةٍ
أكثر وباتساعٍ فاق توقُّعاتنا منذ عشرينَ سنةً خلَت.
من الخطابة إلى الفعل
ومع ذلك، يصعب قياس مغزى هذه التغيُّرات في العالم الواقعي؛ فلقد كان هناك — بغير
شك — تغيُّرٌ كبير في الخطاب من فترة ما بعد الحرب مباشرة، غير أن الالتزام الخطابي
بحقوق الأقليات والسكان الأصليين لم يكن دائمًا مقرونًا بالأفعال. ولقد اشتكى
المدافعون عن حقوق الأقليات، مرارًا، من أن المنظَّمات الدولية لم ترتفع إلى مستوى
التزاماتها المعلنة؛ فمثلًا، بينما تعلن الأمم المتحدة أن حقوق الأقليات ستؤدي
دورًا مُكملًا في تصوُّرها الجديد لمنع الصراع (الأمم المتحدة في العام ٢٠٠٤م)،
يستَمرُّ انقطاع الرابط عمليًّا بين فرع حقوق الأقلية التابع للأمم المتحدة في جنيف
وفرع منع الصراع في نيويورك (٢٠٠٤م MRG، ستاينر
٢٠٠٤م، تشسترمان ٢٠٠١م، تشابمان ٢٠٠٥م) وبالمثل، بينما أشار الإعلان الألفي للأمم
المتحدة إلى أهمية حقوق الأقليات لإنجاز أهداف التنمية الألفية
(MDG) — الخطة الطموحة لتقليص الفقر في العالم
إلى النصف بحلول العام ٢٠١٥م — فيبدو أنه لا يُوجَد أي آليةٍ لضمانِ أن تأخذ أنشطةُ
إعلانِ الألفية حقوقَ الأقلياتِ في عين الاعتبار (كوين، ٢٠٠٥م، ٢٠٠٥م
MRG).
وحتى عند تبنِّي خطَط العمل وآلياتِ المراقبةِ لدعم حقوق الأقليات والسكان
الأصليين، فإنها كثيرًا ما تكون غير فاعلة؛ فمثلًا، تعليمات البنك الدولي الرقم
٤,٢٠ تُوجِّه موظفي البنك نحو مسح المشروعات لمعرفة تأثيرها المُمكِن في السكان
الأصليين. غير أن البنك قد انتُقد على نطاقٍ واسعٍ لتجاهُله هذه التعليمات (غراي
١٩٩٨م، كنغسبري ١٩٩٩ب، سارفتي ٢٠٠٥م، ماكاي ٢٠٠٢م). والواقع أن المراجعة الداخلية
لحسابات البنك تُظهِر أن ما بين اﻟ ٨٩ مشروعًا؛ حيث وجب تطبيقُ التوجيهات، لم
تُطبَّق بصورةٍ «مُرضية» سوى في ٣٢ حالة. وأما في الحالات المتبقية فإما أنها لم
تُطبَّق على الإطلاق (٣٤ حالة)، أو أنها طُبِّقَت بطريقةٍ غير مُرضِية (٢٣ حالة)،
من دون تشخيصٍ سليمٍ للقضايا أو مشاركةٍ مُقنِعة للسكان الأصليين أنفسهم (البنك
الدولي في العام ٢٠٠٣م).
٢٨
وبالمثل، على حين أن الأمم المتحدة قد وضَعَت عددًا من الآليات لدعم حقوق
الأقليات، بما في ذلك «جماعة العمل من أجل الأقليات»، و«خبير مستقل في شئون
الأقليات»، فقد ذهب النقاد إلى أنها تُعاني سكَرات الموت البطيء بافتقارها إلى
التفويض اللازم أو مصادر التمويل المطلوبة لتحقيق تغييرٍ فعلي.
٢٩
وكما أشرتُ في بداية هذا الكتاب، فإن المجتمع الدولي، رفَض باستمرار أن يجعل
أيًّا من معايير حقوقِ الأقلياتِ مُلزِمةً قضائيًّا.
٣٠ وقد جُوبهَت الاقتراحاتُ لتحويل إعلان الأمم المتحدة لحقوق الأقليات
إلى اتفاقيةٍ ملزمةٍ قانونًا، أو دمجِ معاييرِ حقوق الأقليات الأوروبية مع
الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الملزمة قضائيًّا بالرفض دائمًا.
وبعد مواجهة هذه النماذج وغيرها من أمثلة الفصل بين البيانات الرسمية والممارسة
الفعلية يكون من المغري استنتاجُ أن الخطاب العالمي الجديد حول التعدُّدية الثقافية
وحقوق الأقليات ليس سوى زخرفةٍ برَّاقة تُخفِي وراءها ما كان يجري دائمًا، ومن
الصعب أن يُدهِشنا ذلك؛ فقبل كل شيء، المنظَّمات الدولية الحكومية ليست حَكَمًا أو
فيصلًا محايدًا في الصراعات بين الدول والأقليات. لقد كانت على وجه الدقة أنديةٌ
للدول، لأعضائها مصلحة في حمايةِ حقوقِ ومزايا تلك الدول. وكما سنرى في الفصلَين
السادس والسابع، لقد وجدَت الدول طرقًا مبتكرةً للتكيُّف مع المعايير الدولية
الجديدة، وإضعاف آلياتها الرقابية والتنفيذية لضمان أن الأقليات لن تقوى داخليًّا
في نضالها من أجل اكتساب حقوقٍ أعظم. قد يستنتج ساخرٌ أن جميع الأحاديث الدولية حول
حقوق الأقليات ليست سوى كميةٍ ضخمةٍ من الأصوات والانفعالات التي لا تعني شيئًا في
نهاية الأمر.
ومع ذلك … فالواقع أن الأمور لم تكن تجري كما كانت دائمًا؛ فقد تغيَّر بالفعل
شيءٌ ما. لقد أحدث تطوُّر المعايير والآليات الدولية فَرقًا، وربما فَرقًا عميقًا
وخطيرًا، وفي بعض الحالات كانت هذه النتائجُ واضحةً ومباشرة، وأكثر الأمثلة وضوحًا
يُوجَد في أوروبا؛ فقد كان لقرار الاتحاد الأوروبي بجعل احترام حقوق الأقليات أحدَ
مقاييسِ انضمامِ أي دولةٍ إلى الاتحاد تأثيرٌ واضح ومباشر في سياسات عددٍ من دول ما
بعد الشيوعية. وقد حفزَت «جزرة» الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كثيرًا من الدول
لتبنِّي سياساتٍ مؤيدةٍ للأقليات لم تكن لتظهرَ لولا ذلك،
٣١ وكذلك على الرغم من فتور الهمة التي طبَّق بها البنكُ الدوليُّ
توجيهاته العملية لضمان حقوق السكان الأصليين، فالواقع أن تلك التوجُّيهات قد أعطَت
للسكان الأصليين في بعض البلاد (لا سيما في أمريكا اللاتينية) درجةً من التصويت
والمشاركة لم يكن من الممكن أن يلقَوها بطريقةٍ أخرى (بريسك ٢٠٠٠م).
لكن سيكون من الخطأ التركيزُ حصريًّا على تلك الحالات التي أدَّت فيها الضغوطُ
الدوليةُ المباشرة إلى تغيُّر السياسات القومية، وذلك لأن تحركات المجتمع الدولي
غيَّرَت أيضًا سَيْر المناقشات المحلية حول السياسات العِرقية، ليس فقط بإعادتها
إلى صياغة مُفرَدات هذه المناقشات، بل أيضًا بتغيير المفاهيم حول أيٍّ من الجماعات
يحقُّ لها القيام بدَور الممثِّل الشرعي في تلك المناقشات. ببساطة، مارس المجتمع
الدولي دَورًا مهمًّا في تطبيع الحَرَاك السياسي العِرقي ومواجهة قضايا الأقلية
وجعلها عاديةً مألوفة.
في الماضي، كان يُنظر إلى الدول ذات الأقليات القوية ﮐ «استثناءات»، إن لم تكن
«انحرافات» عما تبدو عليه الدول «الطبيعية». خلال فترةٍ طويلةٍ من القرن العشرين
كانت فرنسا هي المثال الأكثر تأثيرًا للدولة الطبيعية — أعني أنها كانت دولةً
مركزيةً بدرجةٍ عاليةٍ ذات تصوُّرٍ غيرِ متمايزٍ للمواطنة الجمهورية ولغةٍ رسميةٍ
واحدة، ولا مجال لحقوق الأقليات في هذا النموذج — والواقع أن الحكومة الفرنسية
ومحكمتها الدستورية قد أكَّدَتا مرارًا أن من المستحيل أن نتصور أن تُوجَد
«الأقليات» في البلاد، ما دام أن لكل فرد — وَفْق التعريف — مواطنةً متطابقةً غير
متمايزة.
٣٢ كان هذا هو النموذج الذي تطلَّعَت إليه كثيرٌ من دول ما بعد الاستعمار
وما بعد الشيوعية، إلى حدٍّ ما؛ لأنه بدا الأكثر «حداثة». وبالمقارنة مع ذلك
النموذج للدولة، فقد كان يُنظَر إلى الدول المتعددة اللغات، و/أو تلك التي تعترف
بأشكالٍ متنوِّعة من الحكم الذاتي والتعدُّدية القانونية، على أنها شواذُّ
ومفارقاتٌ تاريخية.
أما في السنوات الأخيرة، فقد راجعَت المنظمات الدولية آراءها بشأن شكل الدولة
«الطبيعية» أو «الحديثة». والواقع أنها قلبَت الطاولاتِ بالمعنى الحرفي لهذه
الكلمة. وفي الخطاب الدولي المعاصر، نجد أن فكرة الدولة المركزية أو المتوحِّدة أو
المُتجانِسة تُوصَف على نحوٍ متنامٍ بأنها تنطوي على مفارقةٍ تاريخيةٍ في ردَّة إلى
القرن التاسعَ عشَر، وفي المقابل يُنظر إلى الدول المتعددة اللغات والمستويات، ذات
البناءات الداخلية المعقَّدة للاعتراف بالمناطق الإقليمية والأقليات وتمكينها، على
أنها تُمثِّل المنظور الأكثر حداثة «حداثة» حقًّا (أو حتى منظور ما بعد الحداثة).
والدول التي تمسَّكَت بشدة بالنموذج الوحدوي والمركزي القديم، والتي واصلَت إنكار
وجود الأقليات (كما هي الحال في فرنسا واليونان وتركيا واليابان)، تُوصَف على نحوٍ
متزايدٍ بأنها رجعية، عاجزة عن التعرُّف والتعامُل مع تعقيدات العالم الحديث
وتعدُّديته المتأصِّلة.
٣٣
واجهَت بعضُ البلدان مشقة التكيُّف نفسها مع هذا الواقع الجديد. عندما كانت
رومانيا تُناضِل لتبرير وجودها كدولةٍ مستقلة بعد انهيار إمبراطورية آل هابسبرغ،
وتمثَّلَت استراتيجيتُها الأساسية في تأكيد أنها أمةٌ متجانسة (تقريبًا)، مع
أقلياتٍ ضئيلةٍ غير ذات أهميةٍ سياسيًّا، وعندما عادت رومانيا واكتسبَت استقلالها
مع سقوط الكتلة السوفييتية، وسعَت إلى الانضمام من جديدٍ إلى أوروبا، عادت فأكَّدَت
خطابَ التجانُس هذا من دون أن تتبيَّن أن الزمن قد تغير/فإنكار وجود الأقليات، أو
معاملتهم على أنهم بلا قيمة من الناحية السياسية، يُنظر إليه اليوم كدليل على عدم
الأهلية للانضمام إلى نادي الديمقراطيات الليبرالية؛ ومن ثَم فقد تعلَّمَت رومانيا
بالتدريج، أنها لو أرادت أن تُعامَل كدولةٍ أوروبيةٍ «طبيعية» و«ناضجة»، فإن عليها
أن تعترفَ بالأقليات الموجودة على أراضيها، وأن تُعامِلَهم كعناصرَ أساسيةٍ وثابتة
في البلاد، بدلًا من اعتبارها انحرافاتٍ تاريخية أو بقعًا تلطِّخ فكرة الأمة
المتجانِسة المتوحِّدة.
وهذا التغيُّر في الخطاب الدولي عن ماهية الدولة الطبيعية ليس مجرد تغيُّرٍ
خطابي. إن له مضامينَ لمشروعية الأقليات كممثلين سياسيين، لقد كان يُنظر إلى فكرة
الحَرَاك السياسي العِرقي ذاتها في النموذج القديم، نظرةَ ارتياب، والواقع أنها لم
تكن مشروعةً في كثير من البلاد، سواء في الغرب أو في أي مكانٍ آخر؛ فالأحزاب
السياسية التي أُسِّسَت على أساسٍ عِرقي، أو التي شكَّكَت في وحدة الدولة ولغتها
الواحدة، كثيرًا ما كانت محظورة، كما هي الحال مع أشكالٍ أخرى من الحَرَاك السياسي
العِرقي، أما اليوم فيُنظر إلى المشاركة المرئية الفعلية للحركات السياسية العِرقية
وممثليها السياسيين كجزءٍ ملازمٍ وحقيقيٍّ للمجتمع الديمقراطي الحر.
ونصل هنا، في اعتقادي، إلى قلب المسألة، وما دمنا قد أحطنا رسميًّا بفكرة أن
الدولة «الطبيعية» و«الحديثة» هي تلك التي تعترف بحقوق الأقليات وحقوق السكان
الأصليين، فإن النتيجة الحتمية هي أن نُشرعِن محاولات الجماعات العِرقية الثقافية
للتحرُّك سياسيًّا للمطالبة بحقوقها. وحتى إذا لم يكن في نية المجتمع الدولي أن
يضغط مباشرةً على الدول لقبول القضايا الجزئية للأقلية — حتى إذا ما وُجدَت
المعايير الدولية على الورق فقط، ولم تخضع للرقابة الدولية أو الإلزام — فهي تسمح
بمجالٍ واسعٍ من الحَرَاك العِرقي السياسي. في الماضي، ربما كانت الدول تقمع
الحَرَاك السياسي العِرقي باعتباره «متطرفًا» و«خائنًا» و «منحرفًا» و«غير دستوري»،
أما اليوم ففي استطاعة الأقليات أن تزعُم أنها تسعى فقط إلى تطبيق المعايير الدولية
التي تعهَّدَت بها الدولة نفسها.
والواقعُ أن المجتمع الدولي يُشجِّع الجماعاتِ العِرقية على أن تتقدَّم بمطالبها
على أساس هذه المعايير الدولية. ولم تَتَبنَّ المنظَّمات الدولية الإعلاناتِ
الأخلاقيةَ فقط، بل أشاعت هذه المعايير في جميع أنحاء العالم، بترجمتها إلى اللغات
المختلفة، وتوزيعها مطبوعةً وعلى الإنترنت، وبالتضامُن مع الحكومات المتعاطفة
والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الخيرية، وقد رعت كذلك ورش العمل والأعمال
التدريبية لكي تفسِّر أصول وطبيعة هذه المعايير، ولكي تقترح كيف تستطيع الجماعاتُ
أن تلجأ إليها، ولكي تقدِّم أمثلة ﻟ «أفضل الممارسات» حولها، كما تمول الجماعات
لجذب أعضاء الأقليات وجماعات السكان الأصليين ليعملوا داخل المنظمات الدولية، ولكي
يتعلَّموا أكثر عن الطريقة التي يُمكِن أن يعملوا بها بفاعلية داخل النظام.
وباختصار، فإن وراء كل إعلان من هذه الإعلانات الدولية جهدًا حقيقيًّا للأنشطة
المساندة، التي تخلق شبكةً دوليةً من الناشطين والعلماء وصانعي القرار، لكل منهم
فائدةٌ معيَّنة في نشر ودعم هذه المعايير، ولا شيء من ذلك يتضمن بناء التزاماتٍ
قانونيةٍ «صعبة» يمكن للأقليات أن تسعى إلى تطبيقها في المحاكم الدولية ضد دولها،
غير أن هذه الأنشطة غيَّرَت توقُّعاتِ الناس وإحساسَهُم بالاستحقاق، ونشَرَت
المعرفة، ونمَّت المهارات، وبنَت الأحزاب والاتحادات، وبصورةٍ أكثَرَ عموميةً فقد
شرعنَت الجهود لتنظيم وتحريك الجماعات العِرقية التي يستحقُّ ممثلوها السياسيون
مقعدًا على الطاولة السياسية، سواء في السياسة المحلية أو في المحافل
الدولية.
وفيما يتعلق بذلك كله، فإن البيئة الدولية في يومنا الراهن تتعاطف مع مطالب
الأقليات أكثر مما كانت تفعل منذ ثلاثين أو أربعين عامًا مضت. والمجادلات حول ما
إذا كانت المعايير الدولية هي التزامات «حقيقية» أو أنها مجرد «بلاغة خطابية» ليست
سوى تصوُّراتٍ خاطئة؛ فالعلاقات بين الدول والأقليات ما زالت تحدِّدها بطريقةٍ
أساسيةٍ العملياتُ السياسية المحلية، مع قليلٍ من الضوابط الشاقة نسبيًّا من
القانون الدولي. لكن الطريقة التي تُصَاغ بها هذه العملياتُ السياسيةُ المحلية قد
تغيَّرَت بطريقةٍ مثيرة بوساطة البيئة الدولية الجديدة التي فضَحَت النماذج
الاستيعابية القديمة، في حين أنها شجَّعَت أنشطة حقوق الأقليات.
تفسير التغيير
ما الذي يفسِّر هذا التغيير في استطاعتنا أن نستبعد بسرعةٍ أحد التفسيرات، ويرى
بعض النقاد أن التغيير هو نتيجةٌ لزحف تأثير النسبية الثقافية التي جاء بها
الأنثروبولوجيون الثقافيون، أو منظِّرو ثقافة ما بعد الحداثة، التي رفضَت فكرة
المبادئ الأخلاقية الكلية. ويُفترَض أن يكون ذلك تفسيرًا لما تتعرَّض له تسويةُ ما
بعد الحرب التي اعتمدَت حصريًّا على حقوق الإنسان الشاملة من نزاعٍ باسم حقوق
الأقليات والسكان الأصليين (انظر مثلًا: فينكيلكروت، ١٩٨٨م؛ وكوان، ٢٠٠١م).
والواقع أنه بغَض النظر عن تحدي هذه الأفكار الكلية، فإن التبريرات التي
قدَّمَتها المنظمات الدولية لتبنِّي حقوق الأقلية تتسق مع هذه الأفكار نفسها؛ فما
تغيَّر ليس هو معتقدات الناس حول مشروعية المعايير الأخلاقية الكلية، بل بالأحرى
افتراضات الناس حول ما إذا كانت حقوقُ الأقليات تدفع إلى الأمام هذه المعايير
الكلية التي تعوقُها، وكما سبق أن رأينا فقد افترض مهندسو الأمم المتحدة والمنظمات
الإقليمية لما بعد الحرب أن حقوق الأقليات ليست فقط غير ضرورية لخلق نظامٍ عالميٍّ
جديد، بل هي في الواقع تقوِّض مثل هذا النظام. غير أنه في يومنا الراهن هناك تأكيد
أن تكيُّف التنوُّع العِرقي ليس فقط متسقًا مع، بل الواقع أنه شرطٌ مسبق للمحافظة
على نظامٍ دوليٍّ شرعي، والواقع أنه يتأكَّد على نحوٍ متزايدٍ أن جميع أهداف وقيم
المجتمع الدولي في نهاية الأمر — سواء أكانت حقوق الإنسان، أو السلام والأمن، أو
الديمقراطية أو التنمية الاقتصادية — تعتمد على الاعتراف بحقوق الأقليات وحقوق
السكان الأصليين.
فلنتأمل بعض الأمثلة القليلة التالية:
وفقًا لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فإن حقوق الأقليات هي شرطٌ مسبقٌ للسلام
والأمن:
«إن أفضل ما يخدم الأمن والاستقرار هو ضمان أن يتمتَّع الأشخاص الذين
ينتمون إلى الأقليات القومية بحقوقهم، وإن تحقيق الأمن والاستقرار
الدائمَين على هذه القارة ممكنٌ فقط في حال طُبِّق إعلانُ الأمم المتحدة
لحقوق الأقليات، والاتفاقية الإطارية تطبيقًا كاملًا لحماية الأقليات
القومية» (١٩٩٩م OSCE).
هناك شعورٌ مماثل تجاه الدَّور الذي تُمارِسه حقوقُ الأقليات في تقليل الصراع
يُعبَّر عنه على المستوى العالمي عن طريق الأمم المتحدة:
«تتكرَّر معظم الصراعات في البلدان الفقيرة، لا سيما في تلك البلاد التي
تُحكم حكمًا سيئًا، والتي يُوجَد فيها تفاوتٌ صارخ بين الجماعات العِرقية
أو الدينية. وأفضل طريقة لمنع هذه الصراعات هي تعزيز تنمية اقتصادية
متوازنة وسليمة، بالإضافة إلى حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، والتنظيمات
السياسية التي تُمثَّل فيها كل الجماعات على قدم المساواة» (الأمم المتحدة،
٢٠٠٠م).
ووفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للإنماء وأهداف التنمية الألفية فيها، فإن حقوق
الأقليات والسكان الأصليين حيويةٌ لإنجاز التنمية وتقليل الفقر:
«غالبًا ما انتهت الجهود الخاصة باستيعاب السكان الأصليين بأن زادت
فقرَهم وحرمانَهم، أما حماية اللغات الخاصة وثقافتهم فقد كانت ذات اهتمامٍ
مركزي» (UNDP 88, P86, 2000).
«حيثما اقترنَت حالة الفقر بتصدُّعٍ دينيٍّ أو عرقيٍّ جاد، فالحل واضح،
وإن صعُب تنفيذه عمليًّا؛ دعم حقوق الإنسان، وحماية حقوق الأقليات،
والتأسيس لنُظمٍ سياسيةٍ تكون فيها كل الجماعات ممثَّلة» (الأمم المتحدة،
٢٠٠٠م، ص٤٥).
وقد عبَّرَت منظمة العمل الدولية عن مشاعرَ مماثلةٍ بشأن الدَّور الذي يُمارِسه
السكان الأصليون في تقليل الفقر:
«اتساع التفاوُت العِرقي في الدول التي تضم سكانًا أصليين وقبائل يكشف عن
أن سياسات مكافحة الفقر فَشِلَت في التغلُّب على ما يُواجِهونه من إقصاءٍ
اجتماعيٍّ واقتصادي، فلا بد للسياسات الاقتصادية والاجتماعية أن تعترف
بحاجات السكان الأصليين وأفراد القبائل، وحقوقهم وتطلُّعاتهم، وبما أنهم
سكانٌ متميزون فإن لهم حقوقًا خاصة (حقوق الجماعة) تشمل الحق في أن يكونوا
مختلفين وأن يتخذوا قراراتٍ مؤثِّرة في حياتهم ومستقبلهم [برامج لتخفيض
الفقر]، من المحتمل أكثر أن تواجه الأسباب الأساسية لإفقار السكان الأصليين
وسكان القبائل وإقصائهم اجتماعيًّا، حيث «أ» تعترف الأطر الشرعية بحقوق
السكان الأصليين، «ب» تطور المؤسسات والسياسات التي تحترم التنوُّع
وتتكيَّف معه، «ج» يتحرَّك السكان الأصليون وينتظمون من أجل «التغيُّر
السياسي» (توماي، ٢٠٠٥م، ص٥).
٣٤
وفقًا لليونسكو، حقوق الأقليات هي جانبٌ أساسيٌّ من حقوق الإنسان.
«الدفاع عن التنوُّع الثقافي هو أمرٌ أخلاقيٌّ لازم ولا ينفصل عن الكرامة
الإنسانية، وهو يتضمَّن التزامًا بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، لا سيما
الحقوق التي تخُص الأقليات والسكان الأصليين، والحقوق الثقافية هي جزءٌ
متكاملٌ مع حقوق الإنسان، التي هي عامَّة وشاملة ولا يمكن أن تنقسم، وذات
اعتمادٍ متبادل» (اليونسكو، الإعلان العالمي حول التنوُّع الثقافي،
٢٠٠١م).
وأخيرًا، فإن حقوق الأقليات، وفقًا لما تقوله منظمة الأمن والتعاون في أوروبا
(OSCE)، شرطٌ سابقٌ لتحقيق الديمقراطية:
«المشاركةُ الفعَّالة للأقليات القومية في الحياة العامة عاملٌ جوهريٌّ للسلام
والديمقراطية في المجتمع. إن التجربة في أوروبا وفي كل مكانٍ آخرَ قد بيَّنَت أن
الحكومات غالبًا ما تحتاج إلى إرساء تنظيماتٍ محدَّدة للأقليات القومية لكي تساندَ
هذه المشاركة» (منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ١٩٩٩م).
إن الأهداف الكلية الشاملة للأمم المتحدة في كل هذه التصريحات تظل خطوطًا مُرشِدة
لا جدال فيها، وليس ثمَّة حتى إشارة إلى النسبية الثقافية في أيٍّ من هذه التقارير،
أو أي انسحابٍ من الالتزام بالقيم الكلية العالمية. إن ما تغيَّر هو الافتراضاتُ
حول تأثير حقوق الأقليات في هذه الأهداف. وتؤكِّد المنظَّمات الدولية اليوم أن حقوق
الأقليات تَدعَم، ولا تكبِت، إنجاز التطلُّعات الكامنة في ميثاق الأمم
المتحدة.
وهذه كلُّها تصريحاتٌ مثيرة، يجدُر التوقُّف للتفكُّر فيها: هل صحيح أن الاعتراف
بحقوق الأقليات وبحقوق السكان الأصليين هو شرطٌ سابقٌ لتحقيق السلام، والتنمية،
والديمقراطية، وحقوق الإنسان؟ لو صح ذلك، فمن المؤكد أنه سوف يُساعِدنا في تفسير
ذلك الاحتضان السريع لحقوق الأقليات، وإن كنتُ أشُك في أن عددًا من العلماء سوف
يرتابون في مثل هذه الدعوة. للتأكُّد، فإن هناك بعض الدراسات الأكاديمية المهمة
التي تشير إلى وجود رابطةٍ قويةٍ بين حقوق الأقليات ونتائجَ مختلفةٍ مرغوبةٍ بما في
ذلك السلام والديمقراطية، وأشهر هذه النتائج هو المشروع الهائل «الأقليات في خطر»
(
MAR)
٣٥ الذي أداره روبرت غر (١٩٩٣م،
Gurr
٢٠٠٠م)، أكثر المحاولاتِ عُمقًا وشمولًا لفحص العلاقة بين سياسات الدولة تجاه
الأقليات ومخاطر الصراع والتداعي العنيف إحصائيًّا. وبعد فحص ٢٧٥ حالةً من صراعات
الأقليات مع الدولة، انتهى غر إلى أن «الاتجاهات العالمية القوية» نحو اعترافٍ
أكبَر بحقوق الأقليات قد قلَّلَت بالفعل «حدوث الصراعات السياسية العرقية الجديدة».
وقد أوصَى كذلك أن يواصل المجتمعُ الدولي ممارسةَ دَورٍ إيجابي في نَشْر هذه
الاتجاهات العالمية، وذلك يشمل «مواصلة الدعم الدولي لسياسة عدم التفرقة، والاعتراف
بحقوق الجماعة، وتدابير الحكم الذاتي» (غر، ٢٠٠٠م، ص٢١١). وقد أكَّدَت دراساتٌ
لاحقةٌ استُخدمَت في قاعدة بيانات
MAR هذه النتيجة
الأساسية (برميو ٢٠٠٢م، وسيدمان وآيرز في العام ٢٠٠١م، وسيدمان وآخرون ٢٠٠٢م). ولا
تُدهِشنا دراسة «أقليات في خطر» (
MAR) التي
اقتُبسَت من قِبل المنظَّمات الدولية على نطاقٍ واسعٍ لمساندة جهودها النشطة
المؤيِّدة لانتشار التعدُّدية الثقافية الليبرالية (انظر مثلًا
UNHDR 2004, MRG 2004 Chapman 2005).
لكن أسئلة أُثيرَت حول دراسة الأقليات (
MAR)
(فيرون ٢٠٠٠م، لتين ٢٠٠٠م)، وكثير من العلماء السياسيين المحترمين وعلماء الاجتماع
وعلماء الأنثروبولوجيا، الذين ذهبوا إلى أن تأثير حقوق الأقليات في السلام ونشر
الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان هو في أفضل الحالات عَرَضيٌّ بشكلٍ كبير،
والواقع أن البعض ذهب إلى أن الأثَر في ظروفٍ كثيرةٍ يحتمل أن يكون سلبيًّا (وسوف
أناقش هذه الحُجَج فيما بعدُ في الفصلَين السادس والسابع)، ومن المؤكَّد أننا لا
نملك شيئًا مثل البرهان الذي لا يقبل النقاش للقول إن مثل هذا النوعِ من الحقوقِ
لهذا النوعِ من الأقليات هو شرطٌ سابقٌ لتحقيق الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان،
لدفع التنمية الاقتصادية أو دعم السلام والاستقرار، وليس لدينا ذلك النوعُ من
الدراسات الذي يدرُس الدول طولًا وعرضًا ليؤكِّد أو يفنِّد هذه الافتراضات التي تظل
كلُّها قابلةً للنقاش والجدال بعُمق بين كتابات العلماء.
٣٦
فإذا سلَّمنا بهذا الارتياب، فلماذا استَنتجَت كثيرٌ من المنظمات الدولية أن حقوق
الأقليات والسكان الأصليين ضرورية لمتابعة مراسيمهم؟
٣٧ ولا يُوجد هنا جوابٌ بسيطٌ واحد، لا سيما إذا سلَّمنا بتنافُر
المؤسَّسات ذات الشأن. والطريقة التي جعلَت البنك الدولي مشتركًا في هذا الميدان
مختلفةٌ عن طريقة كلٍّ من اليونسكو والمجلس الأوروبي. وقد اعتمَدَت الأحداث التي
جعلَتنا نُعيد التفكير في قضايا الأقليات على الوضع الخاص بكل مؤسَّسة، وعلى ألوان
الضعفِ والحوافزِ في المؤسَّسات التي تخلُقها بنية المنظَّمة، وسوف نحتاج إلى كتابٍ
كاملٍ لتتبُّع كلٍّ من هذه الطرق.
لكن لو أننا رجَعْنا خطوةً إلى الوراء من هذه التفاصيل، فإنني أعتقدُ أننا نستطيع
أن نرى هذا التغيُّر نتيجةً لالتقاء عاملَين؛ الخوف من انتشار العنف العِرقي بعد
انهيار الشيوعية، والأمل في إمكان ظهورِ شكلٍ من أشكال التعدُّدية الثقافية
الديمقراطية الليبرالية الحية. دَعْنا نبدأ من الخوف، مع انهيار الكتلة الشيوعية
كان هناك تفاؤلٌ كبير في البداية بأن الديمقراطية الليبرالية سوف تبزُغ في أنحاء
العالم، وبدلًا من ذلك، فإن ما انبثَق في كثيرٍ من بلدان ما بعد الشيوعية كان
الصراع العِرقي العنيف، لا سيما في البلقان والقوقاز، وحلت محلَّ التوقُّعات
الشديدة التفاؤل بالإحلال السريع للديمقراطية الليبرالية محل الشيوعية توقعاتٌ
شديدةُ التشاؤم حول استبدالِ الشيوعيةِ بحربٍ عِرقية. وكانت هناك مخاوفُ من أن
ينتشر الصراع العِرقي العنيف من يوغوسلافيا إلى وسط أوروبا (لا سيما رومانيا
وسلوفاكيا حيث الأقليات المجرية الحرون)، وإلى البلطيق ووسط آسيا (مع أقلياتها
الروسية التي لا يُستهان بها)، مبتلعةً عالَمَ ما بعد الشيوعية بأَسْره.
٣٨ وبعد تدهوُر الأوضاع في الصومال والسودان، والإبادة الجماعية في
رواندا، اتضح أن هذه المشكلة لم تكن مقتصرةً على أوروبا في مرحلة ما بعد الشيوعية،
لكنها بالأحرى أثَّرَت في كثيرٍ من بلدان العالم النامي.
٣٩ لقد أدرك دانيل موينهان — وقد كان سفيرًا سابقًا للولايات المتحدة في
الأمم المتحدة — روح العصر عندما كتب يقول: «لم تعُد الأمم تميل فيما يبدو إلى
الدخول في الحرب بعضها مع بعض، في حين أن الجماعات العِرقية يُقاتل بعضُها بعضًا
طوال الوقت» (موينهان، ١٩٩٣م،
Moynihan).
ولم تكن هذه الصراعات تُرى على أنها كارثةٌ إنسانيةٌ بالنسبة إلى الشعب داخل بلدٍ
ما فقط، بل لما لها من مضاعفاتٍ دوليةٍ خطيرة، تمثَّلَت في صورة أعدادٍ ضخمةٍ من
اللاجئين الذين تدفَّقوا إلى دول الجوار وأحدَثوا فيها اضطراباتٍ كثيرة، فضلًا عن
ذلك فإن الحروب المدنية العِرقية كثيرًا ما تخلق جيوبًا من الخارجين عن القانون،
سرعان ما تُصبِح مأوًى لتهريب السلاح والمخدِّرات، أو مخابئَ للجماعات الإرهابية
(باريس، ٢٠٠١م، ٢٠٠٤م).
٤٠ ونتيجةً لذلك، أصبح الصراع العِرقي يُرى كتهديدٍ خطيرٍ للسلام والأمن
العالميَّين، وربما بالفعل كتهديدٍ رئيسي؛ حيث تراجَع التهديد بالحرب بين القوى
العظمى، وقد برَز شعورٌ قوي بأن المجتمع الدولي يحتاج إلى أن يفعل شيئًا لمساعدة
الدول في السيطرة على هذا «الظهور الوحشي للصراع العِرقي الطائفي» (روبرتز، ١٩٩٤م،
ص٦). وإذا سلَّمنا بهذا التجمُّع للعوامل الإنسانية والجغرافية-السياسية، فإن
تعامُل المجتمع الدولي مع هذه الصراعات باعتبارها شئونًا داخليةً خالصة لن يكون
قاسيًا فقط، إنما أحمق (كولير، ٢٠٠٣م، ص١١).
وهكذا نجد أن العامل الأول الكامن وراء المبادرات الدولية في هذا المجال هو رؤيةٌ
تشاؤمية، بل ومرعبة للسياسات العِرقية كمهدِّد للسلام، والديمقراطية، والتنمية.
ولقد كان هذا الإدراك، جزئيًّا، ردَّ فعلٍ للمآسي التي انكشفَت في يوغوسلافيا
ورواندا، لكنها دُعمَت بموجةٍ من دراسات علم الاجتماع التي يبدو أنها اقترحَت أن
التنافُر العِرقي كان «مشكلة» ذات أبعادٍ متعدِّدة؛ إذ يبدو أن الدراسات قد أظهَرَت
— على سبيل المثال — أن البلدان التي كانت تُعاني تنافرًا عِرقيًّا كبيرًا من
المرجَّح أن تكون أقل ديمقراطية، بنُموٍّ اقتصاديٍّ أضعف، ومستوياتٍ أدنى من
الإنفاق الاجتماعي لمساعدة المحتاجين.
٤١ وهكذا، بدا أن الحالات الأكثر وضوحًا للحروب المدنية العِرقية ليست سوى
الطرَف المرئي لمجموعةٍ أكبر كثيرًا من الأمراض المرتبطة ﺑ «تنوُّعٍ عِرقي واسع
للغاية» أو «سياساتٍ عِرقيةٍ واسعة للغاية».
غير أن العامل الثاني هو العكس، وتحديدًا انبثاق أشكالٍ سليمة وحميدة في ظاهرها
من السياسات العِرقية داخل الديمقراطيات الغربية. على نحو ما سنرى في الفصل الثالث،
فقد عانى الغرب إحياءاته العِرقية في ستينيات القرن الماضي، مع تصاعدٍ مثيرٍ في
الحَراك السياسي العِرقي من قِبل جماعاتٍ مختلفة، بما في ذلك الجماعات المهاجرة،
والجماعات القومية (مثل الاسكتلنديين والكتالونيين والكيوبيكيين)، والسكان
الأصليين.
٤٢ وكما هي الحال في أوروبا في فترة ما بعد الشيوعية، فإن هذا الإحياء
العِرقي الغربي كان في البداية يخشاه كثيرٌ من السكان بوصفه تقويضًا كامنًا
وتهديدًا للديمقراطية الليبرالية. وهذه المخاوف كانت ترجع من ناحيةٍ إلى الذكريات
الطويلة الأمد للفشل في نظام حماية الأقليات، كما ترجع من ناحيةٍ أخرى إلى أن بعض
الظواهر المبدئية لهذا الإحياء العِرقي في أواخر ستينيات القرن الماضي وأوائل
السبعينيات قد استلهمَت في الواقع الأيديولوجيات الماركسية والفوضوية التي أيَّدَت
الانقلاباتِ العنيفةَ على الدولة.
٤٣
لكن بحلول أوائل تسعينيات القرن الماضي، كانت هناك مساحةٌ واسعةٌ من الإحساس
بالتفاؤل (برغم أنه لم يكن إحساسًا عالميًّا) بأن هذه المخاوف مُبالَغٌ فيها، وأن
البلاد الغربية قد وجدَت طريقًا آمنًا لاحتواء الحَراك السياسي العِرقي داخل حدود
السياسة الديمقراطية الليبرالية السلمية.
وفي استطاعتنا في الواقع أن نذهب أبعد من ذلك، لقد ذهب كثيرٌ من الناس إلى أن
الحَراك العِرقي في الغرب لم يكن مقيدًا فقط بقواعد الديمقراطية الليبرالية وحقوق
الإنسان، إنما هو في الواقع يستلهم القيم الليبرالية، والمُثل العليا لحقوق
الإنسان، وبهذه النظرة فإن السياسة العِرقية في الغرب لا تهدِّد الديمقراطية، إنما
هي على العكس تعمِّق ظاهرة الديمقراطية؛ حيث تحدَّت الجماعاتُ المحرومة، تاريخيًّا،
وصَماتِها الثقافيةَ وتغييبَها، وهي على حقٍّ في ذلك، للحصول على المساواة وعلى
حريةٍ أكبر. إن ظهورَ مؤسَّسة السياسات العِرقية، مثل ظهور الحركة النسوية وحركة
الشواذ، هو تجلٍّ وتوطيدٌ لعمليةٍ أوسعَ من التحرر الديمقراطي وليس تهديدًا
لها.
لقد وضحَت تلك النظرةُ التفاؤلية للسياسات العِرقية في الغرب مع النظريات الجديدة
ﻟ «التعدُّدية الثقافية الليبرالية» التي انبثقَت لأول مرة في أواخر ثمانينيات
وأوائل تسعينيات القرن الماضي.
٤٤ ويرى أنصار التعدُّدية الثقافية الليبرالية أن سياسات الأقليات من
الجماعات المتمايزة التي انبثقَت في الغرب منذ ستينيات القرن الماضي تستحق في
الواقع دعمَنا ومساندتَنا، بل والاحتفالَ بها. ويصدُق ذلك على الاستقلال الإقليمي
وحقوق اللغة التي تمَّ تبنِّيها للجماعات القومية، ولسياسات التعدُّدية الثقافية
التي تم تبنِّيها للمهاجرين، ولقضايا الأرض وحقوق الحكم الذاتي التي أخذ بها السكان
الأصليون، وتعاون الجميع في بناء مجتمعٍ ديمقراطيٍّ أشدَّ إنصافًا وأكثَر شمولًا؛
ومن ثَم لا بد من أن يُرى كجزء من المجتمع الديمقراطي الحر.
وعلى ذلك، فقد شَهدَت أوائل تسعينيات القرن الماضي تشاؤمًا عميقًا حول السياسات
العِرقية في دول ما بعد الاستعمار وما بعد الشيوعية، وتفاؤلًا عميقًا بالقَدْر
نفسِه حول السياسات العِرقية في الغرب. ولقد تشكَّلَت مواقفُ واتجاهاتُ وأنشطةُ
المجتمع الدولي بخصوص علاقة الدولة بالأقليات بوساطة هذَين المنظورَين معًا. لقد
أعطى الخوفُ الغيبيُّ من الصراع العِرقي اللولبي دافعًا وزخمًا للمجتمع الدولي لكي
يتدخل، بينما أعطى الأمل في شكلٍ ديمقراطيٍّ ليبرالي من التعدُّدية الثقافية
أفكارًا ملهمة وإحساسًا بالاتجاه الأخلاقي. هذان العاملان (وليس احتضانًا مفاجئًا
للنسبية الثقافية) هما اللذان ساعدا في تفسير كثافة الجهود الدولية في هذا المجال
من العام ١٩٩٠م حتى العام ١٩٩٥م، عندما تطوَّرَت بالفعل جميعُ وسائلِ حقوق الأقليات
الإقليمية والعالمية الرئيسية.
ومن المهم أن نُكرِّر أن هذَين العاملَين معًا ضروريان لإنتاج مبادراتٍ دوليةٍ
كالتي رأيناها، ومن دون الإحساس بالخطر المُحدِق، ولم يكن في استطاعة المنظَّمات
الدولية أن تتغلَّب على تردُّد الدول المعتاد في التصديق على التدخُّل الدولي في
علاقة الدولة بالأقليات، لكن من دون الاعتقاد في مَثلٍ أعلى لعدالة التعدُّدية
الثقافية، فإن الخوف من الصراع كان يمكن أن يؤدي بسهولة إلى أنواعٍ مختلفة من
المبادرات الدولية؛ فعلى سبيل المثال أدت المخاوفُ من العنف العِرقي بعد الحرب
العالمية الأولى بكثيرٍ من الشعوب إلى دعم التجزئة والتقسيم (لتمكين كل جماعةٍ
عِرقية من تشكيل دولتها الخاصة كلما أمكن)، أو نقل السكان (مثلًا نقل اليونانيين من
تركيا إلى اليونان، وكذلك نقل العِرق التركي من اليونان إلى تركيا). وبعد الحرب
العالمية الثانية أدَّت مخاوفُ مماثلةٌ إلى نوبةٍ أخرى من التطهير العِرقي؛ حيث
أرغم العِرق الألماني على الخروج من تشيكوسلوفاكيا وبولندا وبلدان أخرى. وبعضُ
الناس في يومنا الراهن يذهبون إلى أنه ينبغي على المجتمع الدولي أن ينظر في هذَين
الخيارَين؛ التقسيم أو نقل السكان، على الأقل كملجأٍ أخير (انظر مثلًا: كاوفمان،
١٩٩٦م، ١٩٩٨م). لكن في أوائل تسعينيات القرن الماضي التزم المجتمع الدولي بشدة
بوجهة النظر التي تقول إنه من الممكن، ومن المرغوب فيه، أن نبني ديمقراطيةً ذات
ثقافةٍ متعدِّدة (ماناس، ١٩٩٦م)، وكانت الاستجابة محاولة لصياغة معاييرَ لحقوق
الأقليات والسكان الأصليين تساعد في بناء التعدُّدية الثقافية الليبرالية.
والتوقيت مهمٌّ هنا؛ فكلٌّ من المخاوف الغيبية والتفاؤل المُحتفَى به قد ضعُف إلى
حدٍّ ما منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي. أما الآن فقلَّة من الناس يخشَون أن
ينفجر العنفُ العِرقي في وسط أوروبا أو في البلطيق، ولقد أظهَرَت الدراسات الحديثة
أن العنف العِرقي في دول ما بعد الاستعمار كان أقلَّ بكثيرٍ من أن يكون شائعًا،
وأكثر صعوبةً من أن يُثار أو يُحرَّض عليه مما افترض المعلِّقون في فترةٍ سابقة
(فيرون ولايتن، ١٩٩٦م، ٢٠٠٣م؛ ويونغ، ٢٠٠٢م).
٤٥ وهناك مسائلُ أخرى تُرى الآن على أنها تهديداتٌ أكثر جدية للسلام
والأمن الدوليَّين، من الإرهاب إلى الإيدز والفقر العالمي. كما أن البحوث الأكثر
حداثةً قد أثارت تساؤلاتٍ حول الادعاءات السابقة بأن التنافُر العِرقي، بما هو
كذلك، يُعَد عائقًا للديمقراطية، وحقوق الإنسان، والنمو الاقتصادي، أو رخاء الدولة
عمومًا.
٤٦
وعلى العكس، لقد أسقَط البرعمُ زهرة التعدُّد الثقافي الليبرالي الغربي، على
الأقل بخصوص الجماعات المهاجرة في بعض البلاد. هناك فكرةٌ منتشرةٌ انتشارًا واسعًا
في أوروبا الغربية تقول إن التعدُّدية الثقافية قد «ذهبَت أبعدَ مما يجب» في سياق
المهاجرين المسلمين، كما كانت هناك إعادةُ تأكيد للخطَط الاستيعابية والسياسات
الإقصائية. لم تواجه بنودُ حقوقِ الأقليات للجماعات القومية وللسكان الأصليين، في
المقابل، أيَّ تراجع جاد في أيٍّ من الديمقراطية الغربية، حتى بالنسبة إلى أولئك
الذين ظلوا مؤيدين لإصلاحات التعدُّدية الثقافية في الغرب فقد أثاروا الشكوك حول ما
إذا كان يمكن تطبيقُها في مناطقَ أخرى من العالم.
ونتيجةً لذلك، تراخت جهودُ المجتمع الدولي في صياغة معاييرَ جديدة وآلياتٍ جديدة،
وقلَّ الإحساس بالحاجة إلى تجنُّب منع الكوارث، وقلَّت الثقة بأننا نعرف المَثَل
الأعلى الذي نستهدف تحقيقه. لقد وُضعَت الخطَط الطموحة السابقة لتقوية المعايير
الدولية — على سبيل المثال بتقويةِ تفويضِ الهيئات الدولية المختلفة التي تُراقِب
حقوق الأقليات — قَيد الانتظار. والواقع أن معظم الناس يعتقدون أنه إذا كان على
المجتمع الدولي أن يُعيدَ النظر في هذه الانتدابات في يومنا الراهن، فمن المحتمل أن
تكون النتيجة إضعافها بدلًا من تقويتها.
وعلى سبيل المثال فقد سحَب المدافعون آمالهم الأولى بتحويل إعلان حقوق الإنسان
الذي أصدرته الأمم المتحدة في العام ١٩٩٢م عن حقوق الأقليات إلى اتفاقيةٍ
مُلزِمة،
٤٧ أو تحويل الاتفاقية الإطارية للمجلس الأوروبي حول الأقليات إلى خَصْمٍ
قانونيٍّ في الاتفاق الأوروبي حول حقوق الإنسان، أو استئنافِ تفويضِ المندوب السامي
لمنظمة الأمن والتعاون حول الأقليات القومية لتوسيع رقعة أنشطته. وفي كل حالة،
يعتقد كثيرٌ من النشطاء والمدافعين أن النتيجة لا بد من أن تكون انقراضَ المكاسب
التي تحقَّقَت في البداية في الفترة الحاسمة من العام ١٩٩٠م حتى العام
١٩٩٥م.
ومع ذلك، وبرغم بعض المحاولات لتخفيض النفقات، فإن البناء الهندسي الدولي لحقوق
الأقليات وحقوق السكان الأصليين ظل كما هو، بل إنه في الواقع أصبح مزروعًا
مؤسساتيًّا، وفضلًا عن ذلك فعلى حين أن مشاعر الحماس والإلحاح قد انحسَرَت، فإن
القضايا الكامنة ظلت كما هي بلا تغيير. والواقع أن الصراع العِرقي قد يُحدِث كوارثَ
إنسانيةً ويُهدِّد السلام والاستقرار العالميَّين، وذلك يجعل التعامل مع الأقليات
قضيةً مشروعةً في مُحيط الاهتمامات العالمية. وفضلًا عن ذلك فإن ممارسات التعدُّدية
الثقافية الحرة في الغرب تُظهِر لنا أن التنوُّع العِرقي يُمكِن معالجتُه بطريقةٍ
تتَّسِق مع قيم الحقوق الإنسانية والديمقراطية. وبهذا المعنى فمن المناسب والواقع
أنه مسألةٌ ضرورية، أن يؤثِّر الأمران؛ الخوف من العنف العِرقي، والأمل في
التعدُّدية الثقافية الليبرالية في المجتمع الدولي.
ومع ذلك فما هو أقل وضوحًا هو ما إذا كانت الجهود الدولية السائدة قد جُمعَت مع
هذَين المؤثِّرَين بطريقةٍ صحيحة. وأحيانًا يبدو الافتراض الكامن على أن الأخير هو
حلٌّ للأول، أعني أن التعدُّدية الثقافية يُمكِن أن تُزوِّدنا بالأساس لمواجهة
مشكلة الصراع العِرقي في دول ما بعد الشيوعية، وما بعد الاستعمار. لكن ليس من
الواضح أن الاثنَين مرتبطان بهذه الطريقة المباشرة، أو ينبغي أن يكونا كذلك؛ فبعد
كل شيء، فإن المنظورَين يتطوَّران منفصلَين تمامًا أحدهما عن الآخر. ولقد ركَّز
منظِّرو التعدُّدية الثقافية الليبرالية جهودَهم بصفةٍ خاصةٍ على المناقشات داخل
الديمقراطيات الغربية، وقليلٌ منهم، إن وجد، اقترَح أن النماذج الغربية يمكن نقلُها
إلى دول ما بعد الاستعمار. والعكس، قِلَّة من الباحثين في الصراع العِرقي في العالم
النامي ذهبوا إلى أن النماذج الغربية للتعدُّدية الثقافية هي الحل. كلا الخطابَيْن
كان مؤثِّرًا في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لكنهما كانا يعملان في منطقتَين
منفصلتَين مع قَدْرٍ ضئيلٍ من الاتصال.
ليس واضحًا تمامًا كيف أو متى ظهرت الفكرة لأول مرة التي تقول إن على المجتمع
الدولي أن يلجأ إلى التعدُّدية الثقافية الليبرالية الغربية عند التفكير في الطريقة
التي يتعامل بها مع العلاقات العِرقية في دول ما بعد الشيوعية ودول ما بعد
الاستعمار. وعلى قَدْرٍ ما، أستطيع أن أقول إن هذه الفكرة، فيما يبدو، انبثقَت داخل
المنظمات الدولية نفسها، بطريقةٍ غيرِ شعورية. الطبيعة تكره الفراغ، وربما لم يكن
ثمَّة مفرٌّ من أن تستدعي الخطاب التفاؤلي للتعدُّدية الثقافية الليبرالية ليحدث
توازنًا مع الخطاب التشاؤمي الخاص بالصراع العِرقي الذي يقوِّض الأسس، فإذا سلَّمنا
بما نُدرِكه من إلحاحٍ للموقف في أوائل تسعينيات القرن الماضي، فلن يكون ثمَّة وقتٌ
للمناقشة المنظَّمة حول مدى توافُق التعدُّدية الثقافية الليبرالية حقًّا مع دول ما
بعد الاستعمار ودول ما بعد الشيوعية.
٤٨
لكني أعتقد أنه آن الأوان للقيام بمثل هذه المناقشة. وكما أشرتُ فيما سبق فإن
المحاولاتِ لنَشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية حول العالم لا تسير سيرًا حسنًا.
وينبغي ألا يُدهِشَنا ذلك إذا تذكَّرنا ما نعرفه عن الصعوبة العامة في نقل مؤسسات
التعدَّدية الثقافية الليبرالية، وإذا سلَّمنا بأن التعدُّدية الثقافية هي جانبٌ من
أعظم الجوانب المسبِّبة للنزاع في السياسة الديمقراطية الليبرالية المعاصرة، فإذا
ما أرادت الاستراتيجيات مسانَدة التعدُّدية الثقافية وأن تحظى بأي فرصةٍ للنجاح،
فإننا نحتاج إلى أن نكون أكثر وعيًا بالنسبة إلى الآمال والمخاوف — معًا — التي
تدفَع وتحرِّك الجهود الدولية، ونكون أكثر حَذَرًا في الطريقة التي نربط بها بين
الاثنَين.
وسوف تتَّجه بقية الكتاب إلى تزويدنا بالخطوات الأولى في عملية إعادة التفكير
هذه. وسوف أستكشف في الجزء الثاني المنطق والشروط المسبقة للتعدُّدية الثقافية في
الغرب، مع التركيز بصفةٍ خاصةٍ على الأشكال المتميِّزة التي تتخذها، والظروف التي
تمكنها وتجبرها، وفي الجزء الثالث سوف أفحص الطريقة التي حاول بها المجتمع الدولي
أن يدعم التعدُّدية الثقافية الليبرالية في دول ما بعد الشيوعية ودول ما بعد
الاستعمار. وسوف أذهب أحيانًا إلى أن المجتمع قد ذهب بعيدًا في الأمل في الطريقة
التي دعم بها الشكل الديمقراطي الليبرالي من التعدُّدية الثقافية، متجاهلًا الظروف
التي جعلَتها منظورًا حيويًّا، لكن في أحيانٍ أخرى فإننا نجد مخاوفَ عميقةً كامنةً
ومستقرةً عن الصراع العِرقي الهدَّام أدت بالمجتمع الدولي إلى تعديل وتحديد معايير
حقوق الأقلية بطرقٍ غامضةٍ وملتبِسةٍ ومتناقضة، بل وحتى غيرِ ديمقراطية. إن التفاؤل
الساذج يتنازَع مع المخاوف المشوهة، على ما سنرى، قدْرًا كبيرًا من العمل، ويظل
بحاجة إلى أن يتم لفهم الطريقة التي نستطيع من خلالها أن نجعل آمالَنا ومخاوفَنا
بصدد السياسة العِرقية تصل إلى نوعٍ من الإطار الواقعي المتماسك.