الفصل الثالث

أشكال التعدُّدية الثقافية الليبرالية

«إن التعدُّدية الثقافية الليبرالية، على نحو ما تطوَّرَت في الغرب، هي نتاجُ صراعاتٍ عديدةٍ من أنواعٍ مختلفةٍ من الجماعات العِرقية الثقافية، تتحرَّك من خلال مساراتٍ قانونيةٍ وإداريةٍ مُختلِفة، وليست كفاحًا موحَّدًا باسم التنوُّع.»

المؤلف

ليس هناك تعريفٌ عالميٌّ مقبولٌ بشكلٍ عام ﻟ «التعددية الثقافية الليبرالية»، وأي محاولةٍ لتقديم تعريفٍ واحدٍ يحتوي على جميع أشكالها المختلفة، سوف يكون على الأرجح غامضًا للغاية بحيث لا يكون مفيدًا. ويُمكِننا القول، على سبيل المثال، إن التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي وجهة النظر التي تذهب إلى أن الدول لا ينبغي عليها أن تُسانِد فقط المجموعة المألوفة من الحقوق الاجتماعية والسياسية والمدنية للمواطَنة التي تحميها كلُّ الديمقراطيات الليبرالية الدستورية، ولكن ينبغي عليها كذلك تبنِّي حقوقِ الجماعاتِ الخاصةِ المختلفة أو السياسات التي تهدفُ إلى الاعتراف والتكيُّف مع الهُويات والتطلُّعات المتميِّزة للجماعات العِرقية الثقافية. وهذا التعريف عادلٌ فيما يذهب إليه، لكنه لا يقدِّم لنا الكثير.

والمنظور المفيد أكثر لفهم منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية، هو أن نفهم ما الذي جاءت هذه التعدُّدية الثقافية استجابةً له، أو ما الذي كانت هي ردَّ فعلٍ ضدَّه؛ فجميع الصراعات من أجل التعدُّدية الثقافية تشترك في رفضٍ عامٍّ للنماذج المبكِّرة للدولة القومية المتوحِّدة المتجانسة. ولكي نفهَم فكرةَ الديمقراطية الليبرالية ذات الثقافات المتعدِّدة، فإننا نحتاج في البداية إلى فهم ذلك النموذج الأقدم للدولة القومية المتجانسة، ولماذا رُفضَت.

لقد كانت معظم الدول في جميع أنحاء العالم، حتى وقتٍ قريب، تتطلع إلى هذه الدولة القومية. ولقد كانت الدولة في هذا النموذج ترى ضمنيًّا (وفي بعض الأحيان علنيًّا) على أنها ملكيةُ الجماعة القومية السائدة، والتي تستخدم الدولة لإبراز هُويتها، ولغتها، وتاريخها، وثقافتها، وآدابها، وأساطيرها، ودياناتها، وما إلى ذلك، والتي تُعرف الدولة بأنها تعبيرٌ عن القومية.

(ولقد كانت هذه الجماعة السائدة هي عادةً جماعةُ الأغلبية، غير أن الأقلية تكون أحيانًا قادرةً على فرض السيادة، مثل البيض في جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، في ظل نظام التفرقة العنصرية أو الصفوة المخلوطة النسب١ في بعض بلدان أمريكا اللاتينية). وأي شخص لا ينتمي إلى هذه المجموعة القومية المُسيطِرة لا بد أن يخضع إما للاستيعاب وإما للإقصاء.٢

وليس ثمَّة شيءٌ «طبيعي» بالنسبة إلى هذه الدولة القومية. وقِلةٌ قليلةٌ من البلدان في جميع أنحاء العالم هي التي كانت من الناحية التاريخية ذات قوميةٍ واحدة (أيسلندا، والبرتغال، والكوريتان هي الأمثلة التي كثيرًا ما يُستشهَد بها). وفي معظم البلدان، فإن هذا المثل الأعلى (أو هذا الوهم) للدولة المتجانسة كان على الدولة أن تُقيمَه بهمة ونشاط من خلال سياسات بناء القومية التي تشجِّع الهُوية القومية المفضَّلة، بينما تقهر أي هوياتٍ بديلة. ولقد استُخدمَت السياسات العامة لدعم وتعزيز لغةٍ قوميةٍ مشتركة، وتاريخٍ قومي، وأساطيرَ قومية، وأبطالٍ قوميين، ورموزٍ قومية، وأدبٍ قومي، ونظامِ تعليمٍ قومي، ووسائلِ إعلامٍ قومية، ونظامٍ عسكريٍّ قومي، وفي بعض الحالات ديانة قومية وما إلى ذلك. والجماعات التي قاومَت هذه السياسات القومية، لم تكن عُرضةً للتجريد من القوة السياسية فقط، بل أيضًا للتمييز الاقتصادي وأشكالٍ مختلفة من «الهندسة الديموغرافية» (مثل الضغط على أعضاء الجماعة لتشتيتهم، أو دعم استيطان أعضاء الجماعة المُسيطِرة في أرض مجموعة الأقليات أو السكان الأصليين). وهذه السياسات وغيرها كانت تستهدف بناء المَثَل الأعلى للدولة القومية.

إن الطابع الدقيق لسياسات بناء الدولة القومية تلك قد تنوَّع من بلدٍ إلى آخر، ومن إقليمٍ إلى آخر. ولقد كان هناك في معظم البلدان الغربية مجموعةٌ قوميةٌ عرقيةٌ واحدةٌ مسيطرة، تشكِّل أغلبيةً واضحةً من السكان (على سبيل المثال اليونانيون في اليونان، والقشطاليون Castilians٣ في إسبانيا … إلخ)، واستخدمَت سياسات بناء الدولة القومية لفرض لغة وثقافة المجموعة المسيطرة على بقية السكان. وكانت بعضُ السياسات المتبنَّاة لتحقيق هذا الهدف تشمل:
  • تبنِّي قوانين اللغة الرسمية والتي تعترف بلغة المجموعة المسيطرة على أنها اللغة القومية الرسمية الوحيدة، وهذا يتطلب أن تكون اللغة الوحيدة المستخدَمة في المصالح الحكومية، والمحاكم، وفي الخدمات العامة، والجيش، والتعليم العالي … إلخ.

  • بناء نظامٍ قوميٍّ للتعليم الإلزامي يقدِّم مناهجَ نموذجيةً تُركِّز على تعليم لغة أدب/تاريخ الجماعة المُسيطِرة (التي يُعاد تعريفها بأنها اللغة القومية والأدب القومي والتعليم القومي … إلخ).

  • مركزية القوة السياسية، واستبعاد أشكال السيادة/الحكم الذاتي التي تمتَّعَت بها جماعاتُ الأقليات تاريخيًّا، بحيث تُتخَذ كل القرارات المهمة في منتدى تشكُّل المجموعة المُسيطِرة أغلبيته.

  • نشر لغة المجموعة المُسيطِرة وثقافتها من خلال المؤسَّسات الثقافية القومية، بما في ذلك وسائل الإعلام القومية والمتاحف العامة.

  • تبنِّي رموز الدولة والاحتفال بتاريخ الجماعة المُسيطِرة، وأبطالها، وثقافتها، وينعكس ذلك في اختيار الإجازات القومية وتسمية الشوارع والأبنية والجبال … وما إلى ذلك.

  • إنشاء نظامٍ قانونيٍّ وقضائيٍّ موحَّد، يعمل من خلال لغة المجموعة المُسيطِرة ويستخدم تراثها القانوني، مع إلغاء أي نظامٍ سابقٍ استخدمَته جماعاتُ الأقلية.

  • تبنِّي سياسات الاستيطان التي تشجِّع أعضاء الجماعة القومية المُسيطِرة على الاستقرار في مناطقَ أقامت فيها تاريخيًّا مجموعاتٌ من الأقليات، وذلك لكي يتغلَّبوا على الأقليات حتى في أرضهم الأصلية.

  • تبنِّي سياسات الهجرة التي تتطلَّب معرفةً ﺑ «اللغة والتاريخ القوميين» كشرطٍ للحصول على المواطنة، والتي تُعطي أفضليةً للمهاجرين الذين يشتركون في اللغة، والدين، أو الثقافة مع الجماعة السائدة.

  • الاستيلاء على الأراضي والغابات وأماكن صيد الأسماك التي كانت تملكُها مجموعاتُ الأقلية والسكانُ الأصليون، وإعلانها مصادر «قومية» للثروة، واستخدامها لمصلحة الأمة.

وهذه مجرَّد عيِّنة من السياسات التي تتبنَّاها الدول الغربية: في استطاعة المرء أن يُوسِّع القائمة بسرعة.٤ لكن النتيجة المستهدَفة من هذه السياسات واضحة؛ أن تتركز كل القوى السياسية والشرعية في المجالس التي تُسيطِر عليها جماعات الأغلبية؛ لكي تتميَّز لغةُ المجموعة وثقافتُها في جميع المؤسسات العامة، التي تنتشر عندئذٍ في أرجاء الدولة، بحيث تجعل لغة الأقلية وثقافتها مطموسةً وغير مرئية في المحيط العام. وهناك سياساتٌ مماثلة تم تبنِّيها في بلاد ما بعد الشيوعية (مثل رومانيا، وكرواتيا)، وفي معظم دول ما بعد الاستعمار، وحيث تُوجَد جماعةٌ عِرقية مسيطرة (مثل ماليزيا، وتايلند، وسريلانكا، وإثيوبيا والسودان). والموقف في دول ما بعد الاستعمار مختلفٌ بعضَ الشيء حيث لا تُوجَد جماعةٌ مفردةٌ تشكِّل أغلبيةً عددية. وفي مثل هذه الحالات. فإن اللغة السابقة للاستعمار كثيرًا ما تُختار لكي تكون هي اللغة القومية الرسمية، ويشكِّل التراث القانوني الاستعماري أساس النظام القانوني القومي، وتستبعدُ كل لغات السكان الأصليين وتُراثهم الشرعي. ومع ذلك، وحتى في هذه البلدان، فإن سياسات بناء الدولة القومية تعمل على إنشاء ثقافةٍ قوميةٍ متجانسة، وتُدعم عن طريق مركزية القوة، وتأميم النظام القانوني، ونظام التعليم، وتطوير وسائل الإعلام القومية، والإجازات القومية وما إلى ذلك.
ومن الصعب المغالاة في قابلية سياسات بناء القومية للانتشار. عندما تنخرط الدول بطريقةٍ دورية بأشكالٍ خبيثة أو دخيلة لبناء الدولة القومية، فكثيرًا ما يكون هناك دعايةٌ واحتجاجٌ عالميان، غير أن الأشكال اليومية لبناء الدولة القومية — ما أسماه بيليغ Billig ﺑ «القومية التافهة»، التي تصطبغ فيها المؤسسات العامة والأماكن العامة بصبغة الهوية القومية الخاصة — كثيرًا ما لا يلحظُها أو يُشير إليها أحد (١٩٩٥م، Billig). ولقد أصبحَت سياساتُ بناء الدولة القومية منتشرةً في الحياة الحديثة، حتى إن معظم الناس يستطيعون بالكاد ملاحظتها.

الواقع أن كل الديمقراطيات الغربية كانت اتبعَت هذا المثَل الأعلى للتجانس القومي في وقتٍ من الأوقات، على نحو ما فعلَت في الواقع كلُّ بلدان ما بعد الشيوعية، وما بعد الاستعمار. وكما سأناقِش أدناه، فقد تخلى عددٌ من الديمقراطيات الغربية عن هذا الهدف لمصلحة نموذجٍ تعدُّدي للدولة. غير أن كل ديمقراطيةٍ غربيةٍ سعت في الواقع في وقتٍ من الأوقات إلى تعريف نفسها بأنها دولةٌ واحدةُ القومية. والاستثناء الوحيد الذي أعرفه لهذا النموذج في الغرب هو سويسرا؛ إذ لم تحاول سويسرا قط إنشاء لغةٍ قوميةٍ واحدةٍ في نطاق الدولة؛ ومن ثَم فقد قبلَت باستمرار وجود الأقليات التي تتحدث الفرنسية والإيطالية، كجماعاتٍ لغويةٍ متميزة في المستقبل اللامحدود. غير أن جميع الأنظمة الغربية الأخرى — بما في ذلك بعض الأنظمة الشديدة التنوُّع، والتي تُفاخِر الآن بتنوُّعها، مثل كندا — كانت تستهدف بشكلٍ أو بآخرَ تقريرَ لغةٍ قومية وثقافةٍ قومية.

ولقد قُدم مجالٌ واسع من المبرِّرات التاريخية لهذا السعي وراء التجانُس القومي. ولقد قيل في بعضِ السياقاتِ إن الدولة بحاجةٍ إلى أن تكون أكثر اتحادًا لكي تُدافع عن نفسها ضد الأعداء في الداخل والخارج بشكلٍ فعَّال، أو لتبني التضامن المدني المطلوب لدولة الرفاه، أو أن الدولة المتحدة ثقافيًّا تسهُل إدارتها، وسوف تكونُ لديها سوقٌ للعمل أكثر فاعلية. غير أن هذه الألوان دعمَتْها عادةً أيديولوجياتٌ عنصرية وعرقية أكَّدَت أن كلًّا من لغة وثقافة مجموعة الأقليات والسكان الأصليين متخلِّفة ومتدنية، إن لم تكونا بربريتَين، ولا تستحق الاحترام أو الحماية. وهناك تنوُّعٌ منتشرٌ عَبْر الزمان والمكان لطريقة غزل هذه الحجج الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية الجغرافية ونسجها معًا، غير أن العناصر نفسها تُعاد وتتكرَّر في الحكايات التي ترويها الجماعات المُسيطِرة لكي تُبرِّر مشروعاتها في التجانُس القومي (٢٠٠٣م Smith).

وقد كان لتَبنِّي هذا النموذج، وما يصاحبه من سياساتٍ وتبريراتٍ كامنة، نتائجُ مهمة على الجماعات الثانوية. يُوجَد داخل نطاقِ مُعظَم الدول كثيرٌ من الجماعات ذات اللغة الخاصة، والتاريخ الخاص، والثقافة والأبطال والرموز الخاصة، وكثيرًا ما تُستبعَد مثل تلك الجماعات تمامًا بسبب عملية بناء الدولة القومية، أو يتم تضمينُها فقط مقابل ثمن القبول بالاستيعاب ووضعية الطبقة الثانية موصومة بالأيديولوجيات العنصرية والعِرقية التي تُستخدَم عادةً لتبرير بناء الدولة القومية. والواقع أن الأقليات غالبًا ما تكون الهدفَ الأول لهذه السياسات، ما دامت هي العقبة الكبرى أمام هدف (أو أسطورة) الدولة القومية المتحدة؛ ومن ثَم فهي الأكثر حاجةً إلى «التأميم». وقد كانت النتيجة مع مرور الزمن هي خلقُ أشكالٍ مضاعَفة وراسخة لاستبعاد وتبعية الأقليات، وغالبًا ما جمعَت التهميش السياسي، مع الإجحاف الاقتصادي، والسيطرة الثقافية.

ونتيجةً لذلك عارضَت جماعاتٌ ثانويةٌ متنوِّعة هذه المحاولة لإنشاء دولٍ قوميةٍ متجانسة، وتبنَّت بالمقابل نموذجًا أكثر تعدُّدية للدولة.٥ فما هو شكل الدولة المتعدِّدة الثقافات؟ تختلف التفصيلاتُ الدقيقةُ من بلدٍ إلى بلد، لأسبابٍ سوف أناقشها فيما بعدُ؛ إذ تختلفُ أنواع الإصلاحات التي يحتاج إليها الأمريكيون من أصلٍ أفريقي في الولايات المتحدة بشكلٍ هائلٍ عن الإصلاحات التي يحتاج إليها السكان الأصليون-الماوريون Maori في نيوزيلندا أو التي يحتاج إليها المهاجرون الصينيون في كندا. مع ذلك فهناك بعضُ المبادئ العامة المشتركة بين هذه الألوان المختلفة من الكفاح من أجل دولةٍ متعدِّدةِ الثقافات:
  • أولًا: تتضمَّن الدولة المتعددة الثقافات نبذًا للفكرة القديمة التي تقول إن الدولة ملكٌ لجماعةٍ قوميةٍ مفردة. وبدلًا من ذلك لا بد للدولة أن تُرى على أنها تنتمي إلى جميع المواطنين على حدٍّ سواء.
  • ثانيًا: ونتيجةً لذلك، فإن الدولة المتعدِّدة الثقافات تنبذ أيَّ سياسةٍ لبناء الدولة القومية، تضُم أو تستبعد أعضاءَ جماعة الأقليات أو الجماعات غير المُسيطِرة. وإنما تقبل بدلًا من ذلك أن يكون الأفرادُ قادرين على الوصول إلى مؤسَّسات الدولة، وأن يتعاملوا كمواطنين متساوين بالكامل في الحياة السياسية، من دون أن يُضطَروا إلى إخفاء أو إنكار هُويتهم الثقافية العِرقية؛ فالدولة تقبل التزامًا بالاعتراف والتكيُّف مع تاريخ ولغة وثقافة الجماعات غير المُسيطِرة على نحو ما تفعل مع الجماعة المُسيطِرة.
  • ثالثًا: تعترف الدولة المتعدِّدة الثقافات بالظُّلم التاريخي الذي وقع على جماعة الأقليات غير المُسيطِرة بسبب سياسة الاستيعاب والاستبعاد، وتُظهِر استعدادَها لتقديم نوع من العلاج أو التعويض وتصحيح الأوضاع.

وهذه الأفكارُ الثلاثُ المترابطة التي تنبذ فكرة الدولة التابعة لجماعةٍ مسيطرة، لتحلَّ محلَّ سياسات بناء الدولة القومية الإقصائية أو الاستيعابية سياسة الاعتراف، والتكيُّف والإقرار بالظلم التاريخي، وتقديم تعويضات عن هذا الظلم — هي أفكارٌ شائعةٌ بالنسبة إلى جميع الكفاحات العالمية الحقيقية من أجل «التعدُّدية الثقافية».

أنواع من التعدُّدية الثقافية الليبرالية

هذه النقاط حول القواسم المشتركة مجردةٌ غاية التجريد، وما إن ننظر في تفاصيلِ بلدانٍ معينة، حتى تنبثق اختلافاتٌ هائلة؛ فالطريقة المحدَّدة التي ترغب جماعة الأقليات أن يتم من خلالها الاعترافُ بها والتعاملُ معها، أو التي يُعالَج بها الظلم التاريخي، تختلف اختلافًا كبيرًا من بلد إلى بلد، كما تختلف بين الأقليات المختلفة داخل البلد الواحد.

سوف يكونُ من المستحيل أن نقدِّم نظرةً شاملةً عن الأشكال المختلفة التي يُمكِن أن تتخذها التعدُّدية الثقافية، لكن دعونا نركِّز، من أجل الإيضاح، على ثلاثة اتجاهاتٍ عامةٍ داخل الديمقراطيات الغربية:

أولًا: السكان الأصليون

يختص الاتجاه الأول بمعاملة السكان الأصليين، كما هي الحال مع الهنود والأنويين في كندا، والسكان الأصليين في أستراليا، والماوريين Maori في نيوزيلندا، والساميين Sami في اسكندنافيا، والأنويت في غرينلاند Greenland،٦ وقبائل الهنود في الولايات المتحدة. ولقد كان لجميع هذه البلاد في الماضي هدفُ توقُّعٍ واحد، وهو أن يختفي السكان الأصليون في النهاية كمجتمعاتٍ متميزةٍ نتيجةً للوفاة أو التزاوج بين عناصر أو طوائف أو قبائلَ مختلفة أو نتيجةً للاستيعاب. ولقد تم تبنِّي عددٍ من السياسات للإسراع في هذه العملية، كتجريدِ السكان الأصليين من أرضهم، وتضييقِ ممارسة ثقافاتهم التقليدية ولغاتهم ودياناتهم، وتقويض مؤسَّساتهم للحكم الذاتي.٧

غير أن هناك انقلابًا هائلًا في هذه السياسات بدأ من أوائل سبعينيات القرن الماضي. اليوم تقبل جميعُ البلاد التي ذكَرتُها آنفًا، على الأقل من حيث المبدأ، فكرةَ أن السكان الأصليين سوف يبقَون حتى مستقبلٍ غيرِ منظور كمجتمعاتٍ متميِّزة داخل نطاقِ بلدٍ أوسع، ولا بد أن تتحقق لهم قضايا الأرض، والحقوق الثقافية، وحقوق الحكم الذاتي، وهي أمورٌ يحتاجون إليها للحفاظ على أنفسهم كمجتمعاتٍ متميِّزة.

لنأخذ بعين الاعتبار التأكيدَ الدستوريَّ لحقوق السكان الأصليين في الدستور الكندي في العام ١٩٨٢م، بالإضافة إلى تأسيس لجنة لحقوق الأرض والتوقيع على معاهداتٍ جديدة، وكذلك إحياء حقوق المعاهدة من خلال معاهدة «ويتانغي … Waitangi» في نيوزيلندا، والاعتراف بحقوق الأرض للسكان الأصليين في أستراليا في قرار «مابو Mabo»، وإنشاء برلمانات للساميين في اسكندنافيا، وتكوين «الحكم المحلي» للأنويت في جزيرة «غرين» غرينلاند، وقوانين وقضايا المحاكم التي تؤيِّد حق تقرير المصير بالنسبة إلى القبائل الهندية الأمريكية. هناك في جميع هذه البلدان عمليةٌ تدريجية، وإن كانت حقيقيةً لإلغاء الاستعمار؛ حيث يستعيد السكان الأصليون حقوقَهم الخاصة بأرضهم، ومعاييرهم الشرعية، وحكمهم الذاتي (هفنمان، ١٩٩٩م، Havenmann).
وسوف أُطلِق على هذه العملية اسم التحوُّل تجاه منظورٍ أقرب للتعدُّدية الثقافية، وعلى الرغم من أن هذا المصطلح لا يستخدمه السكان الأصليون أنفسهم، فهم يفضِّلون استخدام مصطلحات، تقرير المصير، ومعاهَدات الحقوق، والأصالة والتأصيل، لأسبابٍ سوف نكشف عنها في الفصل السابع. ولقد طوَّرنا أنا وزميلي كيث بانتغ فهرسَ سياساتِ التعدُّدية الثقافية الذي يُحاوِل قياس مدى التحوُّل (انظر: بانتغ وكيمليكا، ٢٠٠٦م). قدَّمنا أولًا قائمةً بسياساتٍ محدَّدة يُمكِن أن تُؤخَذ على أنها تمثِّل أو ترمُز إلى منظور التعدُّدية الثقافية الجديد. وفي حالة السكان الأصليين فإن هذه القائمة تشمل الخطَط التسع التالية:
  • (١)

    الاعتراف بحقوق الأرض وسندات الملكية.

  • (٢)

    الاعتراف بحق الحكم الذاتي.

  • (٣)

    تأييد المعاهدات التاريخية و/أو التوقيع على معاهَداتٍ جديدة.

  • (٤)

    الاعتراف بالحقوق الثقافية (اللغة، والصيد البري والبحري).

  • (٥)

    الاعتراف بالقانون المُتعارَف عليه.

  • (٦)

    ضمان حق التمثيل والاستشارة في الحكومة المركزية.

  • (٧)

    التصديق الدستوري والقانوني على المكانة المتميِّزة للسكان الأصليين.

  • (٨)

    التأييد والتصديق على الوسائل الدولية حول حقوق السكان الأصليين.

  • (٩)

    التصرُّف الإيجابي لأعضاء جماعة السكان الأصليين.

حاولنا بعد ذلك تحديد أيٍّ من هذه السياسات كانت قوية وفي أيٍّ من الديمقراطيات الغربية في الفترة من ١٩٨٠م إلى ٢٠٠٠م، وعلى هذا الأساس صنَّفنا البلدان إلى ثلاثِ فئات:
  • (١)

    تلك البلدان التي تحوَّلَت بشكلٍ حاسمٍ تجاه المنظور المتعدِّد الثقافات، عن طريق تبنِّي ستٍّ أو أكثَر من السياسات التسع.

  • (٢)

    تلك البلدان التي قامت بتحوُّلٍ أكثر تواضعًا ولكنه متميِّز، عن طريق تبنِّي من ثلاث إلى خمسِ سياساتٍ من السياسات التسع.

  • (٣)
    تلك البلدان التي تحوَّلَت بالكاد إلى هذا الاتجاه، إن كانت قد تحوَّلَت على الإطلاق، باثنتَين أو أقلَّ من هذه السياسات. ولقد انتهَينا إلى أننا نستطيع أن نصنِّف أربعًا من الديمقراطيات الغربية التسع ذات السكان الأصليين على أنها متعدِّدة الثقافات تمامًا (كندا، والدنمارك، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة)، وثلاثٌ منها كانت متعدِّدة الثقافات بطريقةٍ معتدلة (أستراليا، وفنلندا، والنرويج)، واثنتان فقط قامتا، بالكاد، بهذا التحوُّل (اليابان والسويد).٨ ونحن نُسلِّم بأن هذه الطريقة فجَّة لمحاولة قياس مدى تبنِّي هذه الأنظمة الديمقراطية الغربية لمنظور التعدُّدية الثقافية بالنسبة إلى السكان الأصليين، ولكن تُشير بعض الإشارات إلى اتجاهٍ مُنتَشِرْ وإن كان متقلبًا.

ثانيًا: قوميات الأقليات والجماعات الثانوية

يتعلق الاتجاهُ الثاني بمعاملة الجماعات «القومية» الثانوية، مثل الكوبيك Quebecois في كندا، والاسكتلنديين والويلزيين في بريطانيا والكاتالونيين Catalans والباسيك في إسبانيا، والفلمنكيين Flemish في بلجيكا، والأقليات التي تتحدَّث الألمانية في جنوب تيرول Tyrol في إيطاليا، والبورتريكو في الولايات المتحدة٩ وفي جميع هذه الحالات، نجد مجموعةً إقليميةً متميِّزة تتصوَّر نفسها أمةً داخل دولةٍ أكبر، وتتحرَّك خلف الأحزاب السياسية القومية لكي تحقِّق الاعتراف بكيانها كأمة، إما في شكل دولةٍ مستقلة وإما من خلال حكمٍ ذاتيٍّ إقليميٍّ داخل الدولة الكبرى. لقد حاولَت جميعُ البلاد التي سبق ذكرها في الماضي أن تكبتَ التعبير عن قوميات الجماعات الثانوية، فإذا كانت هناك جماعةٌ إقليميةٌ لديها الإحساس بأن لها قوميةً متميزةً فإن ذلك كان يُرى تهديدًا للدولة، ويُشكِّك في الحق المشروع للدولة في أن تحكُم كلَّ أرضها وجميعَ سكانها. ولقد بُذلَت جهودٌ متعددة ومختلفة لتقويضِ أي إحساسٍ بقوميةٍ متميزة، وكثيرًا ما استُخدمَت الأدواتُ نفسُها التي كانت تُستخدَم ضد السكان الأصليين، على سبيل المثال، تضييق حقوق لغة الأقليات، وإلغاء الأشكال التقليدية للحكم الذاتي الإقليمي، وتشجيع أعضاء الجماعة المُسيطِرة على الاستيطان في الأرض الأم لجماعة الأقليات حتى يفوقوهم عددًا ولو على أرضهم التقليدية.
ومع ذلك فقد حدث انقلابٌ مأساوي في الطريقة التي تتعامل بها الدول الغربية مع القوميات الثانوية. وفي يومنا الراهن نجد أن جميع البلدان التي ذكَرتُها آنفًا قبلَت المبدأ القائل إن الهُويات القومية الثانوية سوف تستمر في المستقبل غير المنظور. وإنه لا بد من احتواء إحساسهم بقوميتهم وتطلعاتهم القومية بطريقةٍ أو بأخرى. ولقد اتخذ هذا الاحتواء شكلًا يمكن أن نسمِّيه «الفدرالية المتعدِّدة القوميات واللغات»؛ أي التي تخلق اتحادًا أو ما يُشبِه الاتحاد، تُشكِّل من خلاله مجموعةُ الأقلية أغلبيةً محلية، ويُمكِن بذلك ممارسة أشكالٍ مؤثِّرة من الحكم الذاتي،١٠ وفضلًا عن ذلك فإن لغة الجماعة يُعترَف بها على أنها لغةٌ رسميةٌ للدولة على الأقل داخل وحدتهم الاتحادية الثانوية، وربما خلال البلد بأسْره.
وفي بداية القرن العشرين تبنَّت سويسرا وكندا وحدهما هذا المزيج من الحكم الذاتي الإقليمي وحالة اللغة الرسمية للجماعات القومية الثانوية. ومن ذلك الوقت ذهبَت كل الأنظمة الديمقراطية الغربية التي تشتمل على حركاتٍ قوميةٍ للجماعات الثانوية في هذا الاتجاه. وتشمل القائمة تبنِّي الحكم الذاتي لسكان مجموعة جزر الند١١ الذين يتحدثون اللغة السويدية في فنلندا بعد الحرب العالمية الأولى، والحكم الذاتي لجنوب تيرول Tyrol وبورتريكو بعد الحرب العالمية الثانية، والحكم الذاتي لاتحاد مقاطعات كاتالونيا Catalonia والباسيك Basque في إسبانيا في سبعينيات القرن الماضي والفلاندر Flander١٢ في ثمانينيات القرن الماضي، وحديثًا جدًّا التحول الذي حدث في إسكتلندا وويلز في تسعينيات القرن الماضي.

والواقع أننا لو حصرنا انتباهنا في الأقليات القومية الكبيرة والمتمركزة إقليميًّا لوجدنا أن هذا الاتجاه الآن ضروري وشامل في الغرب؛ فقد تحقق لكل الجماعات التي يزيد تَعدادها على ٢٥٠ ألف نسمة، والتي أبدت رغبةً في حكم نفسها، ما أرادته في الغرب اليوم، كما حدث بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من الجماعات الصغيرة (مثل الأقلية الألمانية في بلجيكا).

ذلك إذن، هو الاتجاه الكبير المهم؛ التحول من كبت القوميات الثانوية إلى احتوائها من خلال الحكم الذاتي الإقليمي وحقوق اللغة الرسمية. لقد كانت فرنسا هي وحدها الاستثناء من هذا الاتجاه من بين الديمقراطيات الغربية ذات الأقليات القومية الكبيرة نسبيًّا، في رفضِها منحَ الحكم الذاتي للجماعة القومية الرئيسية في كورسيكا Corsica. وحتى هنا، فقد أُخِذ حديثًا بتشريعٍ يمنَح الحكم الذاتي ﻟ «كورسيكا»، غير أنه أُحبِط عن طريقِ حُكمٍ مثيرٍ للجدل من المحكمة الدستورية.

هناك بعض الاستثناءات الممكنة الأخرى، فمن الصعب تصنيف أيرلندا الشمالية، ما دام الكاثوليك هم بالفعل أقليةٌ قومية، لكنهم ليسوا متمركزين إقليميًّا؛ ومن ثَم فإن نموذج الفدرالية المتعددة القوميات ليس متوافرًا. وحتى هنا نجد حركةً واضحةً في اتجاه اعترافٍ أكبر بقومية الأقليات. ولقد تبنَّت أيرلندا الشمالية حديثًا اتفاقية سلامٍ تمنح بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ الكاثوليك عددًا من الضمانات بصدد تمثيلهم، والاعتراف بهُويتهم بالنسبة إلى القوميات المُشارِكة في أيرلندا.

هناك حالةٌ معقَّدةٌ أخرى في هولندا؛ حيث لا تملك أقليةُ الفريزيان Frisian١٣ الكبيرة الحجم نسبيًّا الحكم الذاتي الإقليمي أو حقوق اللغة، وعلى الرغم من أن ذلك يرجع، إلى حدٍّ كبير، إلى أن الجماعة (وهي الوحيدة بين الأقليات القومية الكبيرة نسبيًّا في الغرب) لم تتحرَّك في الواقع مع المسار القومي لتُطالِب بحقوقها. وليس من الواضح ما إذا كانت هولندا سوف ترفض مثل هذه المطالب لو اتضح أن معظم الفريزيانيين Fisians سوف يدعمونها.١٤

من بين دول الغرب، ربما كانت اليونان هي الدولة الوحيدة التي ظلت تُعارِض بقوة وبشكلٍ أيديولوجيٍّ الاعترافَ الرسميَّ بالجماعات القومية الثانوية؛ حيث نجد الأقلية المقدونية الكبيرة الحجم نسبيًّا تملأ أرضها التقليدية.

وأنا هنا مرةً أخرى أُطلِق على هذا الوضع اسمَ التحوُّل نحو منظور «التعدُّدية الثقافية» … للجماعات القومية الثانوية، على الرغم من أن هذا المصطلح نادرًا ما تستخدمه هذه الجماعات نفسها، فهي تفضِّل لغة القومية، وتقرير المصير، والفدرالية، والمشاركة في السلطة. ولقياس مدى هذا التحوُّل حدَّدتُ مع بانتنغ Banting السياسات الست التالية بوصفها ترمز إلى منظور التعدُّدية الثقافية للجماعات القومية الثانوية:
  • (١)

    الحكم الذاتي الإقليمي الاتحادي أو شبه الاتحادي.

  • (٢)

    مكانة اللغة الرسمية، سواء إقليميًّا أو قوميًّا.

  • (٣)

    ضمانات التمثيل في الحكومة المركزية أو المحاكم الدستورية.

  • (٤)

    التمويل العام للجامعات والمدارس ووسائل الإعلام التي تعتمد لغة الأقلية.

  • (٥)

    التأييد الدستوري أو البرلماني للتعدُّدية الثقافية.

  • (٦)

    منح الشخصية الدولية (مثلًا السماح للمناطق الثانوية بالاشتراك في الهيئات الدولية أو التوقيع على المعاهدات أو أن يكون لها فريقٌ أولمبي).

ومن بين الأنظمة الديمقراطية الغربية الأحدَ عشرَ التي تحتوي على أقلياتٍ قوميةٍ كبيرة الحجم نسبيًّا (أكثر من ١٠٠ ألف نسمة)، توصَّلنا إلى أن ثمانيةً منها تحرَّكت في هذا الاتجاه، خمسة منها تحرَّكَت بقوة، وثلاثة كانت أكثر توسُّطًا. أما البلاد التي تبنَّت التعدُّدية الثقافية بشكلٍ قوي فهي بلجيكا، وكندا، وفنلندا، وإسبانيا، وسويسرا، والبلدان التي تبنَّت التعدُّدية الثقافية على نحوٍ متوسطٍ هي إيطاليا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، على حين أن البلدان الثلاثة التي قاوَمَت هي فرنسا، واليونان، واليابان. وهنا مرةً أخرى نجد توجُّهًا واضحًا، لكن مع تنوُّعاتٍ مهمةٍ في عمقه ومداه.

ثالثًا: الجماعات المهاجرة

هناك توجُّهٌ ثالثٌ يتعلق بالتعامل مع الجماعات المهاجرة. وأهم بلدان الهجرة من الناحية التاريخية (أستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة) اتخذَت منهج الاستيعاب بالنسبة إلى الهجرة. كما كان هناك تشجيعٌ للمهاجرين، وتوقُّع أن يستوعبهم المجتمع القائم بالفعل، على أمل أنه بمرور الوقت سوف يصعُب تمييزهم عن المواطنين الأصليين في حديثهم، وملبسهم، وتسليتهم، وأنماط تصويتهم الانتخابي، وطريقة حياتهم بشكلٍ عام. وأيُّ جماعة تُرى عاجزةً عن هذا التمثيل أو الاستيعاب الثقافي تُحرم من الهجرة في المقام الأول، ومن أن يصبحوا مواطنين. ولقد انعكس ذلك في القوانين التي استبعدَت الأفارقة والآسيويين من دخول بلدان المهجر هذه لفترةٍ طويلة في القرن العشرين، أو من التجنيس.

لكن منذ أواخر ستينيات القرن الماضي رأينا تغيرًا قويًّا في هذا المنهج؛ فقد كان هناك تغيُّران مرتبطان؛ الأول تبنِّي معايير الحياد العنصري، بحيث يتزايد عدد المهاجرين إلى هذه البلدان من مجتمعاتٍ غير أوروبية (وغالبًا غير مسيحية)، الثاني تبنِّي تصوُّر للتكامُل، يميل أكثر نحو «التعدُّدية الثقافية»، وهو تصوُّر نتوقَّع من خلاله أن كثيرًا من المهاجرين سوف يعبِّرون بوضوح وبفخر عن هُويتهم العِرقية، ويقبلون الالتزامات من جانب المؤسسات العامة (مثل: الشرطة والمدارس، وأجهزة الإعلام، والمتاحف … إلخ) للتكيُّف مع هذه الهُويات العِرقية.

ولقد حدث هذان التغيُّران المزدوجان، بدرجاتٍ مختلفة، في كل بلدان المهجر التقليدية. ولقد تحوَّلَت جميع هذه البلاد من سياسات الدخول والتجنيس التمييزية إلى سياسات الحياد العنصري. كما تحوَّلَت كلها من مفهوم التكامل الاستيعابي إلى مفهومٍ أقربَ إلى التعدُّدية الثقافية، وهناك اختلافاتٌ مهمة بشأن كيف حدث هذا التحوُّل رسميًّا إلى التعدُّدية الثقافية. ولقد تميَّز هذا التحوُّل في كندا وأستراليا ونيوزيلندا بإعلان خطةٍ رسميةٍ للتعدُّدية الثقافية من قِبل الحكومة المركزية. لكننا نستطيع أن نرى على أرض الواقع تغيُّراتٍ مماثلةً حتى في الولايات المتحدة؛ فالولايات المتحدة ليست لها سياسةٌ رسمية تجاه التعدُّدية الثقافية على المستوى الفدرالي؛ لكن إذا نظرنا إلى مستوياتٍ أدنى من المستوى الحكومي، مثل مستوى الولايات أو المدن، فإننا كثيرًا ما نجد نطاقًا واسعًا لسياسات التعدُّدية الثقافية، فإذا ما نظرنا إلى مستوى سياسة الولايات تجاه المقرَّرات الدراسية والمناهج التعليمية أو إلى مستوى سياسة المدينة، على سبيل المثال، بالنسبة إلى الشرطة، والمستشفيات، فإننا كثيرًا ما نجد أنها لا يمكن أن تتميَّز عما هو متَّبع في القطاعات والمدن في كندا أو أستراليا، التي تتعامل مع قضايا التنوُّع الثقافي العِرقي للمهاجرين؛ فكما هي الحال في كندا، تمتلك الولايات المتحدة برامجَ للتنوُّع خاصةً بها و/أو موظفين مُنصِفين. وعلى حد تعبير «نيثان غليزر» نحن جميعًا الآن من أنصار التعدُّدية الثقافية (١٩٩٧م … Glazer)، على الرغم من أن ذلك قد يقلِّل من أهمية التنوُّع الملحوظ عَبْر مدن الولايات المتحدة وولاياتها فيما يخص التزامها بسياسات التعدُّدية الثقافية.١٥
وقُل مثل ذلك في بريطانيا؛ فعلى حين أنه ليس ثمَّة سياسةٌ قومية للتعدُّدية الثقافية، فإننا نجد أن كثيرًا من الأفكار نفسها والمبادئ الأساسية تُتابَع من خلال سياسة «علاقات العِرق»١٦ ولقد قبلَت جميع هذه البلدان التغيير المزدوج نفسه، بتبنِّي سياسات دخولٍ وتجنيسٍ محايدة عِرقيًّا، وفرض واجب التكيُّف مع التنوُّع الثقافي العِرقي المهاجر على المؤسسات العامة — على الرغم من أن درجة الاعتراف الرسمي بهذا التنوُّع الأخير تختلف من بلد إلى بلد.
وينطبق هذا التوجه أولًا على بلدان المَهجَر التي تعترف قانونًا بالمهاجرين بوصفهم مقيمين دائمين ومواطنين في المستقبل. ومن بين هذه الدول نجد أن الاستثناء الرئيسي هو فرنسا، التي تُبقي على مفهوم الاستيعاب للمواطنية في الجمهورية الفرنسية.١٧ غير أن الأمر مختلفٌ في البلدان التي لا تعترف قانونًا بالمهاجرين، كما هي الحال في معظم دول شمال أوروبا. قد تضُم هذه الدول عددًا كبيرًا من الأجانب، في صورة مهاجرين اقتصاديين غير شرعيين، لاجئين، أو عمالٍ زائرين، غير أن هذه المجموعات لم تُقبَل كجزء من سياسة الهجرة المقصودة. وما حدث هو أن بعضَ هذه البلاد قد تبنَّت أيضًا جوانبَ من منظور «التعدُّدية الثقافية» (مثل السويد وهولندا)، غير أن هذا التوجُّه بالتحوُّل من الاستيعاب إلى التعدُّدية الثقافية كان له، بصفةٍ عامة، حضورٌ قوي في داخل بلاد المهجر.
فما هي السياسات المحددة التي تعكس هذا التحوُّل في المنهج؟ لقد حدَّدتُ مع بانتنغ السياسات الثماني التالية على أنها أكثر الصور الرمزية شيوعًا وعمومية للتعدُّدية الثقافية بالمهجر:
  • (١)

    التأكيد الدستوري والشرعي والبرلماني للتعدُّدية الثقافية، على المستوى المركزي و/أو المستويَين الإقليمي والمحلي.

  • (٢)
    تبني التعددية الثقافية في المقرَّرات الدراسية.١٨
  • (٣)

    اشتمال التمثيل على الحساسية العِرقية في السياسات الرسمية لوسائل الإعلام أو الترخيص لأجهزة الإعلام.

  • (٤)

    الإعفاء من ارتداء زيٍّ رسمي، أو التشريع بالإغلاق يوم الأحد (سواء بالقانون أو بحكم المحكمة).

  • (٥)

    السماح بالجنسية المزدوجة.

  • (٦)

    تمويل منظَّمات الجماعة العِرقية لتدعيم الأنشطة الثقافية.

  • (٧)

    تمويل نُظم التعليم الثنائية اللغة أو تعليم اللغة الأم.

  • (٨)
    السلوك الإيجابي تجاه المجموعات المهاجِرة المتضرِّرة.١٩

ومن ثَم حاولنا تحديدَ أيٍّ من البلاد قد تحوَّلَت باتجاه هذه السياسات، سواء كان تحوُّلًا قويًّا (عن طريق تبنِّي ست أو أكثر من هذه السياسات الثماني)، أو تحولًا متوسطًا معتدلًا عن طريق تبنِّي من ثلاث إلى خمس من السياسات الثماني). ووجدنا أن كلًّا من البلدان التقليدية الأربعة للهجرة قامت بهذا التحوُّل، بعضُها بشكلٍ قوي (أستراليا واليابان)، وبعضها الآخر بشكلٍ متوسط (نيوزيلندا والولايات المتحدة). غير أننا إذا ما نظرنا إلى ما وراء هذه البلدان التقليدية للهجرة، فإن الديمقراطيات السبع عشرة المتبقِّية في دراستنا تقدِّم لنا صورةً مختلفة؛ فليس منها ما تحوَّل بقوة نحو «التعدُّدية الثقافية»، وإن أربعةً منها فقط قد تحولت تحولًا متوسطًا (بلجيكا وهولندا والسويد والمملكة المتحدة)، على حين أن الأغلبية العظمي كانت تُقاوِم الاتجاه بشدة (أستراليا والدنمارك وفنلندا وفرنسا وألمانيا واليونان وأيرلندا وإيطاليا واليابان والنرويج والبرتغال وإسبانيا وسويسرا).

وهكذا فإن التحوُّل تجاه التعدُّدية الثقافية في هذا السياق من الواضح أنه مثار نزاعٍ أكثر منه في حالة السكان الأصليين، أو في حالة الجماعات القومية الثانوية. وعلى حين أن أغلبية الدول الغربية قامت بتحوُّلٍ ما سواء كان قويًّا أو متوسطًا تجاه منظور التعدُّدية الثقافية بالنسبة إلى الأقليات «القديمة»، فإن الدليل على هذا التحوُّل كان أكثر اضطرابًا بالنسبة إلى الجماعات المهاجرة. في حين أن هناك اتجاهًا واضحًا نحو منظورٍ أقربَ للتعدُّدية الثقافية في حالة بلدان المهجر التقليدية في العالم الجديد، وهو منظور رُفض على نطاقٍ واسع في أماكن أخرى، وهناك حالاتٌ متعدِّدة من «التراجع» عن التعدُّدية الثقافية، سوف أعود إليها في الفصل القادم.

لا ينبغي أن نندهش من أن فكرة التعدُّدية الثقافية بالنسبة إلى جماعات الهجرة ليس لها جذور خارج البلاد التي هي موطنٌ تقليديٌّ للهجرة. بعد كل شيء، فإن فكرة تبنِّي مفهوم التعدُّدية الثقافية بالنسبة إلى المواطنة تفترض مقدمًا أن القادمين الجدد هم في الواقع «مواطنون» بدلًا من أن يكونوا «ضيوفًا» أو «زوارًا» أو «أجانب»، مع ذلك فقد كانت هذه المسألةُ موضعَ نزاعٍ في كثيرٍ من دول القارة الأوروبية، حتى وقتٍ قريب. كما ذكرتُ من قبلُ، فالمهاجرون إلى أوروبا بعد الحرب لم يكن يُنظَر إليهم على أنهم مقيمون دائمون ولا على أنهم مواطنون في المستقبل في ظل سياسةٍ واضحةٍ للهجرة، لكنهم دخلوا البلاد في ظل كثيرٍ من الأشكال الأخرى؛ فبعض المهاجرين دخلوا البلاد بطريقةٍ غيرِ مشروعة (كما فعل الناس من شمال أفريقيا بالنسبة إلى إيطاليا)، وآخرون كانوا يبحثون عن مأوًى مثل الكوسوفيين في سويسرا، وآخرون كطلبة أو عمالٍ زائرين جدَّدوا (أو تجاوزوا) تأشيرة الدخول (مثل الأتراك في ألمانيا)، فعندما دخل هؤلاء الناس إلى تلك البلدان لم يتصوَّر أحد أنهم سيكونون مواطنين في المستقبل أو أنهم سيُقيمون فترةً طويلة، والواقع أنه ما كان يُمكِن أن يُسمَح لهم بالدخول في المرة الأولى لو نُظِر إليهم على أنهم سيقيمون إقامةً دائمة أو على أنهم سيكونون مواطنين في المستقبل. ومع ذلك أيًّا ما كانت التوقعات الأولى والقوانين الرسمية فقد استقروا في البلاد في نهاية الأمر، بطريقةٍ شبهِ دائمة. ومن حيث المبدأ، وإلى حدٍّ ما من خلال الممارسة، يواجه بعض هؤلاء المهاجرين التهديد بالترحيل إذا ما علمَت السلطاتُ بأمره، أو إذا أدينوا بارتكاب جريمةٍ ما، وعلى الرغم من ذلك فهم يشكِّلون جماعات كبيرة الحجم نسبيًّا في بعض البلاد، وينخرطون في أحد أشكال العمل الشرعي أو غير الشرعي، ويتزوِّجون، ويشكِّلون أُسرًا. ولقد استعار «والتز» مصطلحات من اليونان القديمة وأطلق على هؤلاء الجماعات اسم الميتكس Metics،٢٠ أي: المقيمون «الطويلو الأجل» الذين يُستبعَدون مع ذلك من المدينة (والتز، ١٩٨٣م).
إن مسألة تبنِّي التعدُّدية الثقافية لا تظهر حتى تنتقل تلك الجماعاتُ من فئة الأجانب المؤقَّتين إلى فئة المقيمين الدائمين والمواطنين،٢١ وهو ما سعَت إليه في الواقع عديد من هذه الجماعات. لكن الانتقال لم يكن أمرًا سهل الحدوث؛ فبعض البلاد ليست لديها بنيةٌ تحتية أو طريقةٌ لدمج المهاجرين؛ ومن ثَم فقد قاومَت قَبول كونَها الآن في الواقع «بلاد مهجر»، فضلًا عن ذلك فإن عديدًا من هؤلاء «الميتكس» (الغرباء) إما أنهم انتهَكوا القانون بدخولهم البلاد (هجرة غير شرعية، فهم مهاجرون غير شرعيين)، وإما أنهم نقَضوا وعدَهم بالعَودة إلى بلادهم الأصلية (الطلاب، والعمال الزائرون، والباحثون عن ملجأ)، ومن ثَم لا يُنظَر إليهم على أنهم يستحقون أن يُمنَحوا حق «المواطنة» (الجنسية). فضلًا عن ذلك، فالبلاد التي لم يكن لديها في البداية تقليدٌ بشأن استقبال الوافدين الجدد، كثيرًا ما تكون لديها كراهيةٌ للأجانب، فهي تنظر إليهم على أنهم تهديدٌ كامن للأمن، وعلى أنهم خَوَنة لا ولاء لهم، أو أنهم «غرباء» عن هذه البلاد ولا يمكن تغييرهم. في هذه البلاد، التي تُعَدُّ النمسا وسويسرا أمثلةً مشهورة لها، لم تكن السياسة الرسمية للدولة تحاول أن تجعل الغرباء Metics متكاملين أو مندمجين مع المجتمع القومي، بل تعمل على أن يغادروا البلاد وأن يعودوا إلى وطنهم إما بطردهم أو بإرادتهم الحرة. وباختصار، كان الأمل أنه إذا حُرِم هؤلاء الغرباء من الحصول على حق المواطنة (الجنسية) فلن يكون أمامهم سوى الإقامة الشرعية المحفوفة بالمخاطر في البلاد، وإذا ما تم التنبيه عليهم باستمرار أن وطنهم هو بلادهم الأصلية، بلد المنشأ، وأنهم ليس مرغوبًا فيهم كأعضاء في المجتمع، فإنهم في النهاية سوف يعودون إلى موطنهم الأصلي.
لكن يتزايد الاعتراف بأن هذا المنهج غير ناجح؛ فليس هناك احتمالٌ أن الغرباء الذين قضَوا سنواتٍ طويلةً في بلدٍ ما يرجعون إلى وطنهم حتى ولو كان وضعُهم الشرعي في المجتمع محفوفًا بالمخاطر، ويصدُق ذلك بصفةٍ خاصةٍ لو أن الميتكس Metics تزوَّجوا وأنجبوا في البلد الذي اختاروه. وعند هذه النقطة، فإن بلدَهم الجديد، وليس البلد الأصلي (بلد المنشأ)، هو الذي سيُصبِح وطنهم. والواقع أنه سيكون الوطن الوحيد الذي يعرفُه أطفالهم وأحفادُهم. وبمجرد أن يستقروا ويطيب لهم المقام ويُكوِّنوا أُسرًا وعائلاتٍ وينجبوا أطفالًا فلا شيء سوى الطرد يمكن أن يعود بهم إلى بلادهم الأصلية.

وهكذا فإن السياسة التي وُضِعت على أمل أن يعودوا إلى بلادهم طواعيةً هي سياسةٌ غير واقعية. فضلًا عن ذلك، فإن هذه السياسة تُعرِّض المجتمع الكبير للخطر؛ ذلك لأن النتيجة المحتمَلة لمثل هذه السياسة هي خلقُ طبقةٍ محرومةٍ من الحقوق السياسية على الدوام، طبقةٍ مغتربة، تُعرَف من الناحية العِرقية أو العنصرية بأنها طبقةٌ دنيا. وربما طوَّر الميتكس (الغرباء) ثقافةً ثانويةً معارضة يُنظَر من خلالها بحذَر إلى النجاح المتتابع في المؤسسات العامة. ويمكن أن تتضمَّن النتائجُ المحتمَلة خليطًا من الاغتراب السياسي، والجريمة، والأصولية الدينية بين الميتكس (الغرباء)، وبصفةٍ خاصةٍ في الجيل الثاني، ما يؤدي بدوره إلى زيادة التوتُّرات العنصرية، بل حتى إلى العنف في المجتمع.

وحتى نتجنَّب هذه النتائج، ظهر اتجاهٌ متزايد في الديمقراطيات الغربية، حتى في البلاد التي ليست موطنًا للهجرة، لتمكين الميتكس (الغرباء) من تنظيم وضعِهِم وتطبيعِ حالتهِم. أما أولئك الذين يبحثون عن ملجأ، والذين قُبلَت قضاياهم في اللجوء، فقد مُنحوا إقامةً دائمة واقتربوا من المواطنة (أو الجنسية)، ولا تُطلَب منهم العودة إلى بلادهم الأصلية، حتى ولو كان خطَر الاضطهاد قد زالَ عنهم. وكثيرًا ما يتمكَّن العمال الزائرون من تجديد تأشيرة الدخول أو الإقامة بعد انتهائها لكي يحصلوا على إقامةٍ دائمة. ويصدر عفو شامل بصورةٍ دوريةٍ للمهاجرين غير الشرعيين. وكنتيجةٍ لذلك، يُعامَل الغرباء المقيمون فترةً طويلةً على نحوٍ متزايدٍ كما لو أنهم قَدِموا في الأصل على أنهم مهاجرون بطريقةٍ مشروعةٍ أو قانونية، ويُسمَح لهم باتِّباعِ طريقِ المهاجر نحو التكامل والاندماج. وفي بعضِ الحالات تُراجع عملية التكامل لتقترب أكثر من التعدُّدية الثقافية. وتُعَد السويد الحالة البارزة هنا، بإعلانها العام ٢٠٠٦م، عامًا للتعدُّدية الثقافية، على الرغم من أن ذلك يبقى غيرَ شائعٍ خارج بلدان المهجر التقليدية.

ثلاثُ سماتٍ بارزة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية

أما بخصوص السكان الأصليين، والجماعات القومية الثانوية، والمهاجرين، فقد كان هناك تحوُّل، بعيدًا عن السياسات التاريخية للاستيعاب والاستبعاد، باتجاه منظورٍ أقرب إلى التعدُّدية الثقافية يعترف بالتنوُّع ويتكيَّف معه. وكما سنرى في الجزء الثالث، فإن كل اتجاه من هذه الاتجاهات، بدرجاتٍ مختلفة، قد شكَّل معاييرَ دوليةً بارزة، أقواها حالة السكان الأصليين، وبشكلٍ أكثر تواضُعًا فيما يتعلق بالجماعات القومية الثانوية، وبحدٍّ أدنى بالنسبة إلى جماعات المهاجرين. وسوف نكتشف أشكالًا متنوعةً لهذا التحوُّل خلال الكتاب، لكن هناك ثلاثُ نقاطٍ بالنسبة إلى أغراضنا المباشرة هي: أولًا: حول الفئات المختلفة من الأقليات، وثانيًا: حول مضمون الحقوق الممنوحة لهذه الأقليات، وثالثًا: حول العلاقات بين التعدُّدية الثقافية وبناء الأمة.

أولًا: كما تذهب هذه الدراسة المختصَرة فإن التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، تختلف اختلافًا كبيرًا من مجموعة إلى أخرى، أو إذا أردنا استخدام المصطلحات التي قدَّمتُها فيما سبق فهي مستهدفةٌ بشكلٍ كبير. إن التعدُّدية الثقافية الليبرالية تضمن مجموعةً معيَّنة من حقوق الأقليات لجميع الجماعات العِرقية الثقافية، لكنها تفصل كذلك عددًا من الفئات المستهدَفة من حقوق الأقليات. تختلف الفئاتُ الدقيقة من بلد إلى بلد، لكنها تقع تمامًا في النموذج الأساسي نفسه. والتفرقة الأكثر شيوعًا هي بين الأقليات «القديمة» التي استقرَّت على أرضها من قبل أن تصبح جزءًا من بلدٍ مستقلٍّ أوسَع، وأقلياتٍ «جديدة» دخلَت كمهاجرين، بعد أن نالت البلاد استقلالها القانوني. لكن داخل فئة الأقليات «القديمة» هناك تمييزٌ أبعد تمامًا يُوجَد بين جماعات السكان الأصليين وبين أقلياتٍ تاريخيةٍ أخرى كثيرًا ما يُطلَق عليها «أقليات قومية» أو يُطلَق عليها اسم «القوميات» بصفةٍ عامة.

ونحن نرى هذا النموذج الثلاثي في ديمقراطياتٍ غربيةٍ متعدِّدة. فنلندا، على سبيل المثال، مَنحَت حقوقًا مختلفةً للساميين Sami بوصفهم السكان الأصليين، أكثر من السويديين الذين عبَروا الحدود، وهم أقلياتٌ قوميةٌ تقليدية، وجميع هذه الأقليات القديمة لديها مجموعةٌ من حقوق الأقلية تختلف عن الأقليات الجديدة التي تأسَّسَت عَبْر الهجرات الحديثة. وبالمثل تميِّز الدنمارك بين حقوق السكان الأصليين في غرينلاند وحقوق الأقلية القومية الألمانية التي عبَرَت الحدود، وتميَّز هؤلاء وهؤلاء عن المهاجرين الجدد.٢٢ كما تميِّز كندا بين حقوق السكان الأصليين (الهنود، والأنويت، والميتز) وحقوق المستوطنين الفرنسيين التاريخية في فرنسا الجديدة («الكوبيك» Quebec) الذين كان وجودُهم يسبق تاريخيًّا دخول المستعمرين الإنجليز إلى أمريكا الشمالية، وتميِّز هذَين النوعَين من الأقليات القديمة، عن حقوق التعدُّدية الثقافية التي مُنحَت للجماعات العِرقية التي شكلَتها الهجرة في البلاد، وفي الولايات المتحدة كان للسكان الأصليين من القبائل الهندية وضعٌ قانونيٌّ مختلفٌ عن المستوطنات الإسبانية التاريخية في بورتوريكو، التي غزاها الأمريكيون في العام ١٨٩٨م، ويتميز هذان معًا عن الوضع القانوني الذي نالته الجماعاتُ العِرقية المهاجرة.

بالطبع ليس كل البلدان لديها الأنواع الثلاثة من التنوُّع الثقافي العِرقي؛ فأستراليا، ونيوزيلندا، على سبيل المثال كان لديهما سكانٌ أصليون وجماعاتٌ عِرقية من المهاجرين، لكن لم يكن لديهما جماعاتٌ قوميةٌ ثقافيةٌ ثانوية. وفي المقابل، فإن بلجيكا وسويسرا وإسبانيا وبريطانيا لديها كلها قضايا متعلقة بالقومية الثانوية وبالهجرة لكن ليس لديها قضايا تتعلق بالسكان الأصليين. لكن في جميع هذه الحالات يظل إطار التعدُّدية الثقافية الليبرالية عبارةً عن جماعاتٍ مختلفة. بريطانيا على سبيل المثال تميِّز حقوق القومية الثانوية التاريخية (أهل اسكتلندا وأهل ويلز وأيرلندا) عن حقوق الأقليات المهاجرة.

والواقع أنني لا أعرف أي ديمقراطيةٍ غربيةٍ تعتمد فقط على حقوق الأقلية العِرقية العامة لكي تحكم التنوُّع الثقافي العِرقي من دون أي عنصر من عناصر حقوق الأقليات المُستهدَفة. فضلًا عن ذلك، فإن هذا العنصر المستهدَف ليس هامشيًّا أو سطحيًّا. بل على العكس، هو البنية التحتية بأسرها للتعدُّدية الثقافية الليبرالية وكثيرًا ما تُبنى حوله. وفي معظم البلاد نجد أن الأشكال المختلفة من التنوُّع الثقافي العِرقي تحكُمها تشريعاتٌ مختلفةٌ من القانون وتُديرُها أقسام الحكومة المختلفة باستخدام مفاهيمَ ومبادئَ مختلفة. أما السكان الأصليون، والجماعات القومية الثانوية، والمهاجرون فيُشكِّل كلٌّ منهم المسار السياسي الخاص به، وأحد أوجه التعدُّدية الثقافية الليبرالية وأكثرها إثارةً في الغرب هو كيف تُفصَل هذه المسارات المستهدفة عن مساراتٍ أخرى إداريًّا وقانونيًّا.٢٣ ويمكن للبلاد أن تتحرك — وهي تتحرك بالفعل — بسرعاتٍ مختلفة أتمَّ الاختلاف من خلال تلك المسارات المختلفة؛ فمن الممكن للبلد أن يشُق طريقه بسرعةٍ بأحد نماذج التعددُّية الثقافية، في حين أنه يمكن أن يتباطأ في نموذجٍ آخر. ولك أن تُقارِن السويد على سبيل المثال بجيرانها الشماليين، لقد ساندَت السويد بطريقةٍ غيرِ عادية التعدُّدية الثقافية للمهاجرين، لكنها قاومت بطريقة غير عادية أيضًا الحكم الذاتي للسكان الأصليين، كما أن سويسرا كانت نموذجًا للتكيُّف مع الأقليات القومية الثانوية من خلال حقوق اللغة الرسمية والحكم الذاتي الإقليمي، لكنها ربما كانت أكثَر البلاد إقصائيةً في أوروبا في معاملتها للمهاجرين؛ فمن الممكن أن يتقدم البلد من خلال مسارٍ ما، في حين يتراجع من خلال مسارٍ آخر.

ومن المدهش تمامًا أن نجد هذا القَدْر الضئيل من التفاعل بين هذه المسارات المختلفة. وعندما تشتعل الصراعات المختلفة بسبب التعدُّدية الثقافية، فمن المُحتمَل أن يحتدم النزاعُ كما يُحتمَل أن يتحقَّق التعاون؛ فقد يسعى المهاجرون، والأقليات القومية، والسكان الأصليون جميعًا إلى تحدي تبعيتهم التاريخية للجماعة المسيطرة، لكنهم قد لا يُسانِدون بالضرورة بعضُهم كفاح البعض؛ فقد لا يساند المهاجرون غريزيًّا مطالب السكان الأصليين والجماعات القومية الثانوية لحكمٍ ذاتيٍّ أكبر، وهذه الأقليات التاريخية بدورها قد لا تُسانِد غريزيًّا مطالب الجماعات المهاجرة من أجل المواطنة المتعدِّدة الثقافات (ميدا، وندشر ٢٠٠٤م). إن التعدُّدية الثقافية الليبرالية، على نحو ما تطوَّرَت في الغرب، هي نتاج صراعاتٍ عديدةٍ من أنواعٍ مختلفةٍ من الجماعات العِرقية الثقافية، تتحرَّك من خلال مساراتٍ قانونيةٍ وإداريةٍ مختلفة، وليست كفاحًا موحَّدًا باسم «التنوُّع».

وليس في استطاعتنا أن نأمل أن نفهم نظرية وتطبيق التعدُّدية الثقافية الليبرالية من دون أن نفهم طابع الجماعاتِ المستهدَفة المختلفة. وأي محاولةٍ لتوضيح التعدُّدية الثقافية الليبرالية كما لو كانت مسألة حقوقِ أقليةٍ عِرقيةٍ خالصةٍ محكومٌ عليها بالفشل. إن «منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية لا يُمكِن الإمساك به في صورة جميع الأقليات لها الحق في «س»»، أو أن جميع الأشخاص الذين ينتمون إلى الأقليات لهم الحق في «س»، لقد ناضلَت أنواعٌ كثيرة من الأقليات من أجل الأنواع المختلفة من حقوق الأقليات وظفِرَت بها. وهذا الهدف الذي يختلف من مجموعةٍ إلى أخرى هو المفتاح لفهم التحديات المتضمَّنة في تبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية وتلك المتضمَّنة في تقييم نجاحاتها وقصورها حتى اليوم. ولسوء الطالع، كما سنرى في الجزء الثالث، فإن المنظمات الدولية واجهَت صعوبةً في معرفة الطبيعة الهادفة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية، لأسبابٍ تتعلق بالمبدأ وبالمنفعة في وقتٍ واحد.

والنقطة الأساسية الثانية التي أودُّ تأكيدها تتعلق بسياقِ حقوقِ الأقليات الموجودة داخل التعدُّدية الثقافية الليبرالية الغربية. ولقد ناقش كثيرٌ من المعلِّقين التعدُّدية الثقافية كما لو كانت تركِّز منذ البداية على موضوعات الاعتراف الرمزي، ومن ثَم تنفصل عن الموضوعات المتعلقة بتوزيع الموارد المادية أو السلطة السياسية؛ فمن الشائع، على سبيل المثال، أن نقول إن التعدُّدية الثقافية تعكس «سياسة الاعتراف» مقابل «سياسة إعادة التوزيع»،٢٤ أو أن نقول إنها تسعى إلى «سياسة الهُوية» في مقابل «سياسة المصالح».

هذه التمييزات بين «الاعتراف» و«إعادة التوزيع» أو التمييز بين «الهُويات» و«المصالح» تمييزٌ مفيد لبعض أغراض التحليل، لكن ينبغي أن يكون واضحًا أن التعدُّدية الثقافية كما تطوَّرَت في الغرب لم تقتصر على مشكلات الاعتراف الرمزي أو سياسة الهوية؛ فالتعدُّدية الثقافية الليبرالية عالَجَت كذلك قضايا السلطة والموارد. ويتضح ذلك جليًّا فيما يتعلق بالأقليات القومية والسكان الأصليين؛ حيث يُعاد بناء الدول لكي تبتكر وحدات سياسية جديدة تمكِّن الأقلية من الحكم الذاتي. وبالنسبة إلى هذه الجماعات فإن الديمقراطيات الغربية ابتعدَت عن النماذج القديمة للوحدة، الوحدة المركزية للدولة القومية ورفضَت الأيديولوجيات القديمة للدولة الواحدة، والقومية الواحدة، واللغة الواحدة؛ فلقد أصبحت الدول الغربية التي تشتمل على السكان الأصليين والجماعات القومية الثانوية، أصبحَت دولًا متعدِّدة القوميات تعترف ﺑ «الحكم الذاتي» للشعوب والقوميات داخل حدود الدولة. وهذا الاعتراف عُبِّر عنه في عدد من حقوق الأقليات والسكان الأصليين التي تشتمل على الحكم الذاتي الإقليمي، ووضع اللغة الرسمية بالنسبة إلى الأقليات القومية، وقانون العادات والعُرف، وقضايا الأرض، والحكم الذاتي للسكان الأصليين.

في حالة المهاجرين ربما كانت التغيُّرات أقلَّ وضوحًا، ما دمنا لا نجد النوعَ نفسَه من انتقال المسئولية أو الاتحاد في سلطة الدولة للوحدات السياسية التي تحكُم الأقليات في الغرب، وسوف نجد أن عديدًا منها كان يقصد تعزيز الاقتراب من سلطة الدولة، والخدمات العامة، والفُرص الاقتصادية. يتضمَّن ذلك سياسات التحرُّك الإيجابي، وأساليب للمشاركة والاستشارة السياسية، وتنمية الرعاية الصحية، ونماذج تلَقِّي الخدمة الاجتماعية التي أخذوا بها لسد حاجات الأقليات.

فإذا ما أخذنا هذه الاتجاهات معًا، وجدنا أنها تمثِّل تحولًا شديدًا في العلاقة بين الدول والجماعات العِرقية. إن هذه التغيُّرات ليست رمزيةً خالصة. بل على العكس كثيرًا ما تتضمن إعادة توزيعٍ ذي مغزًى للمصادر الاقتصادية والسلطة السياسية — شيء قريب من المشاركة الحقيقية في السلطة — بالإضافة إلى أنها تمنحُ الجماعاتِ غيرَ المُسيطِرة تسهيلاتٍ للوصول إلى مؤسَّسات الدولة.

ولا ينبغي أن نندهش لهذا الارتباط بين الهُويات والمصالح داخل سياسة التعدُّدية الثقافية، ما دامت تعكسُ الطريقة التي ترتبط بها الهُويات والمصالح في سياسات بناء الدولة القومية، والتي جاءت التعدُّدية الثقافية كردٍّ عليها. والواقع أن عملية بناء الدولة القومية هي على الأصالة مثالٌ لسياسة الهُوية، لكنها كذلك تتعلق ببناء المؤسَّسات العامة بشأن تلك الهُوية إلى درجة أنها تُصبِح مصدرًا للفرص الاقتصادية وللسلطة السياسية وللمركز الاجتماعي. وللتعدُّدية الثقافية التطلُّع نفسه إلى الربط بين الهُويات والمصالح. وهي لا تعترف فقط بالهُويات الجزئية للأقلية، بل تسعى إلى تعديل الفرص الاقتصادية، والسلطات السياسية والوضع الاجتماعي المُتاح لأصحاب هذه الهُوية.

الطرق الدقيقة التي يجتمع بوساطتها الاعتراف ﺑ «الأقليات» بإعادة التوزيع، أو «الهوية» ﺑ «المصالح»، تختلف من إحدى سياسات التعدُّدية الثقافية إلى أخرى، ومن جماعةٍ إلى أخرى، ومن الخطأ معاملة التعدُّدية الثقافية على أنها مادةٌ خالصةٌ للاعتراف الرمزي، كما أن من الخطأ أيضًا معاملتَها على أنها شكلٌ مقنع خالص من الطبقية السياسية. في حين أنه من الشائع بالنسبة إلى الأقليات أن يعانوا الاستبعادَ السياسي والاقتصادي والثقافي في وقتٍ واحد، فإن الروابط بين الأشكال المختلفة لهذا الاستبعاد معقَّدة، وهو ما تسعى التعدُّدية الثقافية إلى تتبُّعه.

وتنحصر بعض الجماعات، مثل السكان الأصليين، بشكلٍ متفاوتٍ في مراكزَ اقتصاديةٍ ضعيفة، كما أنها مهمَّشة سياسيًّا، ويقلَّل من شأنها أو تُمنَع من التمثيل الثقافي، وتتناول مطالبهم الأشكال المتنوِّعة من التبعية. لكن هناك جماعات أخرى تجمع الاستبعاد الثقافي والسياسي مع المزايا الاقتصادية. والمثالُ الصارخُ على ذلك هو الأقليات الصينية في جنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، أو تايلند. وفي جميع هذه البلدان، تُشكِّل الأقلية الصينية نسبةً ضئيلةً من السكان لكنها غالبًا ما تملك جزءًا كبيرًا — ربما الجزء المسيطر — من الاقتصاد؛ ففي إندونيسيا على سبيل المثال، تُشكِّل الأقلية الصينية ٣٪ من تَعداد السكان، لكن تُقدَّر سيطرتُها على الاقتصاد الخاص بنحو ٧٠٪. وعلى الرغم من امتيازاتهم الاقتصادية، فإنهم يواجهون الاستبعاد الثقافي بصورةٍ حادة. وحتى وقتٍ قريب كان تعلُّم اللغة الصينية محظورًا، وكان ممنوعًا النشر باللغة الصينية، أو وضع أحرفٍ صينية على إعلانات المتاجر. وفي تايلند ضُغِط على الأقلية الصينية لاتخاذ ألقاب تايلندية. وبشكلٍ عامٍّ ما زالت الجالية الصينية تُعامَل في المنطقة على أنها «غريبة» لا تنتمي في الواقع إلى البلد، حتى لو كانوا يعيشون فيه منذ أجيالٍ عديدة، فهم لا يظهَرون في المجال العام، ومُستبعَدون من مراكز الدولة ومن رواياتهم القومية.٢٥
قد يبدو موضوع التجار المتميِّزين اقتصاديًّا والموصومين ثقافيًّا أشبه ﺑ «رأسمالية المقرَّبين» الموجودة في الأنظمة الاستبدادية. (تشو، ٢٠٠٣م؛ ريغز، ١٩٩٤م)، لكن هناك حالات كثيرة داخل الديمقراطيات الغربية القائمة لجماعاتٍ موصومةٍ ثقافيًّا من دون أن تُعاني الاستبعادَ الاقتصادي. المثليون جنسيًّا هم مثالٌ غير عِرقي على ذلك؛ حيث يتمتَّعون بمستوى دخلٍ وتعليمٍ مساوٍ للآخرين، غير أنهم يكونون هدفًا لكراهية غير المثليين. بعض المهاجرين المستقرِّين تمامًا أو الجماعات الدينية مثل الأمريكان العرب يتمتَّعون بمستوياتٍ أعلى من المتوسِّط من التعليم والدخل، لكنهم مهمَّشون أو موصومون ثقافيًّا؛ فلا دور لهم في الأماكن العامة، باستثناء تقديمهم في أجهزة الإعلام أو هوليوود على أنهم إرهابيون أو أصوليون، أو للنظر إلى أقليةٍ قوميةٍ ثانويةٍ من مثل الكاتالونيين (Catalans٢٦ فهم يتمتَّعون بنفس مستوى معيشة أغلبية السكان، بل أعلى بعضَ الشيء، ومع ذلك فهم يُعانون الاستبعادَ الثقافي؛ حيث تُوصَم لغتُهم وثقافتُهم بأنها منحطَّة ومتدنِّية، ومن هنا فقد استاءوا من الطريقة التي هُمِّشَت بها لغتُهم وثقافتُهم بوساطة الحكومة المركزية، وتحرَّكوا من أجل حكمٍ ذاتيٍّ إقليمي (أو حتى مستقل).٢٧

ومن ثَم فليس كل قضايا التعدُّدية تتضمَّن مطالب إعادة التوزيع الاقتصادي، وحتى في هذه الحالات لا تكون التعدُّدية الثقافية رمزية فقط — فلا تزال تتضمن قضايا السلطة السياسية والتمثيل السياسي (مثل مطالب الكاتالونيين في الحكم الذاتي) — ولكي تتأكَّد من ذلك، سوف نرى في الفصل القادم ممثلين سياسيين يودُّون ردَّ التعدُّدية الثقافية إلى رمزيةٍ محضة. وفي حالاتٍ كثيرة، كانت الصفوة السياسية وممثلو الحكومة يأملون، ويتوقَّعون، أن الإصلاحات التي تحدَّثنا عنها ستكون كافية. وربما كانوا يأملون أنه سوف يكفي أن تُوضَع بعض الكلمات من لغة الأقلية على عملة الدولة، على سبيل المثال، أو أن يُوضَع أحد رموز السكان الأصليين على طابع البريد لتُشبع تطلُّعات السكان الأصليين نحو «الاعتراف»، لكن أيًّا ما كانت النوايا الأصلية للحكومة فإن الجماعات غير المُسيطِرة استخدَمَت إصلاحات التعدُّدية الثقافية كزناد انطلاق للتفاوض بشكلٍ متميِّز من أجل تعزيز الوصول إلى الموارد العامة، والسلطات، والمراكز الحكومية.

وسوف أقيِّم نجاح هذه الصراعات من أجل الحصول على شكلٍ أكثر جوهريةً من التعدُّدية الثقافية في الفصل الخامس، أما الآن فإن النقطة الأساسية هي أن التعدُّدية الثقافية لا تتعلق في الأصل بالاعتراف بدلًا من إعادة التوزيع أو الهُويات بدلًا من المصالح؛ فأنواع السياسات التي ذكرناها في هذا الفصل تتعدى هذه التمييزات، لتُواجه قضايا الحقوق القانونية، وصُنع القرارات السياسية، والموارد الاقتصادية، والخدمات العامة، والواقع أن هذا هو السبب في أن التعدُّدية الثقافية في أشكالها المختلفة كانت مثارًا للجدل والنزاع في الغرب وفي بقية أنحاء العالم، ولن يكون لدينا الأمل في فهم هذه المنازعات لو أننا افترضنا مقدمًا أن التعدُّدية الثقافية تدور حول الرموز فقط.

وهناك سوءُ فهمٍ ثالث محتمَل يتعلق بالرابطة بين التعدُّدية الثقافية الليبرالية وبناء الدولة القومية، ولقد سبق أن ذكَرتُ أن التعدُّدية الثقافية، في جميع أشكالها المختلفة، تتضمَّن رفض النماذج القديمة للقومية المتجانسة. وربما افترضَ المرءُ أن التعدُّدية الثقافية والقومية من ألد الأعداء، وأنهما أيديولوجيتان متناقضتان، وأن مساندة إحداهما تستتبع نبذَ الأخرى، وبناءً على هذه النظرة فإن محصِّلة العلاقة بين سياسات التعدُّدية الثقافية وسياسات بناء الدولة القومية تكون صفرًا، إلى درجة أن التعدُّدية الثقافية لا يمكن أن تضرب بجذورها إلا في الدولة وفي المجتمع «ما بعد القومية». أما الواقع فهو أن هذا النوع من التعدُّدية الثقافية الذي انبثق في الغرب قد حوَّل بناء الدولة القومية لكنه لم يحلَّ محلَّها. ولقد واصلَت جميع البلاد الغربية تبنِّي عددٍ من السياسات لغَرس الهُويات القومية والولاءات، من ضمنها التعليم الإجباري للغة القومية والتاريخ والمؤسَّسات في المدارس، واختبارات اللغة للمواطنة، وتمويل أجهزة الإعلام القومية، والمتاحف، وانتشار الرموز الوطنية، والإعلام، والأناشيد الوطنية، والإجازات، هذا إذا شئنا أن نذكُر أمثلةً قليلةً فقط، ويصدُق ذلك على البلاد ذات التوجُّه القوي نحو التعدُّدية الثقافية في القائمة التي ذكرتُها من قبل، كما في البلاد التي قامت ببعض التحوُّل الطفيف — إذ كان هناك تحوُّل على الإطلاق — إلى الاتجاه نحو التعدُّدية الثقافية، وحيثما كان هناك تبنٍّ لسياسات التعدُّدية الثقافية، فإن هذا التحوُّل يعمل على استكمال وتشكيل سياسة بناء الدولة القومية بحيث لا تهمِّش الأخيرة الأقليات، على سبيل المثال، عن طريق ضمان ألا تعمل سياسة بناء الدولة القومية على استبعاد الغرباء Metics، وجماعات الطوائف العِرقية المغلَقة، أو الاستيعاب القوي للمهاجرين، أو تقويض الحكم الذاتي للأقليات القومية والسكان الأصليين في تلك البلاد الغربية التي تحرَّكَت بقوة في اتجاه التعدُّدية الثقافية، فإن المنظور الذي سوف يُنتَج من الأفضل أن نَصِفه بأنه منظورٌ تختلط فيه أقوى أشكال بناء الدولة القومية وتندمج مع أقوى أشكال حقوق الأقليات.

لذلك، فإن تقديري لقوة التعدُّدية الثقافية في البلدان المختلفة لا يتتبَّع مدى رفضِ هذه البلدان لبناء الدولة القومية، وإنما يتتبَّع مدى تحوُّل عملية بناء القومية إلى اتجاهٍ أكثَر تعدُّدية. ومن هذه الزاوية، فإن تصوُّري للاختلافات بين التعدُّدية الثقافية «القوية» و«المتوسطة» و«الضعيفة» يختلف عن الطريقة التي تستخدم أحيانًا هذه المصطلحات، ويميِّز ديفيد ميلَّر على سبيل المثال بين الأشكال القوية والأشكال الضعيفة من التعدُّدية الثقافية؛ حيث أطلَق عليها «راديكالية» و«معتدلة». لكن من وجهة نظره فإن التعدُّدية الثقافية الراديكالية تتضمَّن الالتزام بالتكيُّف مع الأقليات من دون مُسانَدة الوحدة مع (أو الولاء ﻟ) المجتمع السياسي والدولة الكبرى (ميلَّر، ١٩٩٣م، الفصل الخامس، ٢٠٠٠م، ص١٠٥ و١٠٦، ٢٠٠٦م)، فهو يميِّز هذا الشكل من التعدُّدية المعتدلة الذي يجمع بين التعدُّدية الثقافية وبين سياسات بناء الدولة القومية التي تسعى إلى زرع الهُوية السياسية والولاء السياسي، فالتعدُّدية الثقافية المعتدلة في السياق البريطاني، على سبيل المثال، تفيد المواطنين بأن هناك طرقًا شرعيةً مختلفة لكي يكون المرءُ بريطانيًّا، وأن كونك بريطانيًّا لا يتناقَض مع التعبير العام، والتكيُّف مع الهُويات الأخرى بما في ذلك «كونك مسلمًا» أو «كونك اسكتلنديًّا»، في حين أن التعدُّدية الثقافية الراديكالية تُعفِي أو تعوق الأقليات عن تبنِّي هذه الهُوية السياسية ذات العِرقية الشاملة والتناسُق العالي.

هذه التَّفرِقة بين التعدُّدية الثقافية المُعتدِلة والراديكالية (المُتطرِّفة) ربما تكونُ مفيدةً بالنسبة إلى بعض الأغراض التحليلية، لكن جميع الأشكال التعدُّدية الثقافية الموجودة في الواقع في الديمقراطيات الغربية تُعتبَر «مُعتدِلة» بالمعنى الذي ذكره ميلَّر، وتعمل على تحويلِ شكلِ بناء الدولة القومية بدلًا من رفضِه، فلم يحدُث أن تخلَّت ديمقراطيةٌ غربية عن سياساتِ بناءِ الدولة القومية، سواء في مجال اللغات الرسمية أو المناهج الأساسية في المدارس، ومتطلبات الحصول على الجنسية، ورموز الدولة، وأجهزة الإعلام وما إلى ذلك، غير أن سياساتِ بناءِ الدولةِ القوميةِ قد تم تأهيلُها وتحويلُها بوساطة سياساتِ التعدُّدية الثقافية وذلك بدرجاتٍ مختلفةٍ في البلدان المختلفة.٢٨
لذلك، فإن ما نراه في «العالم الواقعي للديمقراطية الليبرالية» هو جدلٌ معقَّد لبناء الدولة القومية (مطالب الدولة بالنسبة إلى الأقليات) وحقوق الأقلية (مطالب الأقلية بالنسبة إلى الدولة)، وليس الخيار بين القومية والتعدُّدية الثقافية، بل بين مجموعة من السياساتِ المختلفةِ التي تجمَع بين الطموحات الثابتة والحاجات العملية إلى بناء الدولة القومية والمطالب الثابتة بشكلٍ مساوٍ للتكيُّف مع التنوُّع.٢٩

باختصار، فإن التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي ظاهرةٌ أكثر تعقيدًا مما يعرفُه كثيرٌ من الناس، وهي ليست مبدأً واحدًا أو سياسةً واحدة، وإنما هي مظلَّة لأساليبَ تختلف بشكلٍ كبيرٍ من مجموعة إلى أخرى. وكل واحدٍ من هذه الأساليب هو نفسُه متعدِّد الأبعاد، فهو يدمج عناصرَ اقتصاديةً وسياسية وثقافية معًا بطرقٍ مختلفة، ولكلٍّ منها أيضًا حلقاته المعقَّدة بسياسات وتطبيقات بناء الدولة القومية، وهناك ميلٌ طبيعي إلى تبسيط هذا التعقيد وردِّ التعدُّدية الثقافية إلى مبدأ أو بُعدٍ واحد، كما لو كانت المسألةُ كلُّها تدور حول «حماية التراث الثقافي المعرَّض للخطر»، أو ﻟ «تصحيح أوضاع الهُويات الموصومة»، أو ﻟ «رفض القومية»، لكننا في حاجة إلى تجنُّب هذه الافتراضات السابقة المبسَّطة، ولكي نفحَص، بذهنٍ مفتوحٍ أكثر، الطريقة التي ظهرَت من خلالها هذه السياسات المختلفة، وما الذي كانت تنوي إنجازه، وكيف تُطبَّق من الناحية العملية.

•••

لقد حاولتُ في هذا الفصل أن ألخِّص بعض الأشكال الرئيسية للتعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، ولم أوضِّح برغم ذلك كيف هي «حرة» (ليبرالية) بأي معنًى بعيدًا عن كونها ظهرَت داخل إطار عمل الديمقراطيات الليبرالية الغربية، ولتوضيح ذلك فإن الأمر يتطلَّب فحصَ طبيعة الحَرَاكِ الذي أظهر هذه الإصلاحات، والتأثيرات الفعلية (مقصودة وغير مقصودة) الناتجة من تبنِّيها، وهذا هو هدفي في الفصلَين القادمَين.

لقد ذهب المدافعون عن هذه الإصلاحات إلى أنها تحتاج إلى التغلُّب على أشكال الاستبعاد والوصمات المتأصِّلة، ومساعدة الديمقراطيات الغربية لتصبح أكثر حرية، وأكثر عدالة، بل أن تكون مجتمعاتٍ أكثَر ديمقراطية، وعلى أساس هذا الفهم أعلنَت المنظمات الدولية نظريات «وأفضل الممارسات العملية» للتعدُّدية الثقافية الحرة كنموذجٍ للبلدان الأخرى، وإني لآملُ أن أبيِّن أنه مع وجود قواعدَ جيدةٍ للدفاع عن الفهم المتفائل بشأن آثار التعدُّدية الثقافية الليبرالية فإن هناك أيضًا أسسًا للتردُّد بشأن إمكان تصديرها إلى الدول الأخرى.

١  الشخص المخلوط النسب ربما يكون من أصل أوروبي أو زنجي، أو من أصلٍ أوروبيٍّ ويسكُن أمريكا اللاتينية أو جزر الهند الغربية. (المترجم)
٢  قد يتخذ الإقصاء صورًا مختلفة، منها مثلًا الاستبعاد من مناصب السلطة داخل الدولة (كإنكار حق التصويت مثلًا أو التجريد من السلطة السياسية)، أو قد تعني حرفيًّا الطرد من البلاد، من خلال فرضِ قيودٍ عنصريةٍ على الهجرة، أو من خلال التطهير العِرقي.
٣  في الأصل القشطالية … Castile إقليم وسط إسبانيا نشأَت فيه مملكةٌ مسيحية في القرن العاشر للميلاد (ولفظ قشطالة يعني أرضَ الصحون) ونشَأَت فيها لغةٌ قوميةٌ خاصة. (المترجم)
٤  لتفصيلاتٍ أكثر بشأن أهداف ومناهج ووسائل بناء الدولة القومية، انظر: نورمان، ٢٠٠٦م، الفصل الثاني.
٥  لم يكن هذا الكفاح باستمرار من أجل «التعدُّدية الثقافية»، وربما رفضَت بعضُ هذه المجموعات هذا المصطلح، ولأسباب سوف نُناقِشها فيما بعدُ، وكثيرًا ما كان الكفاح من أجل الدولة باسم الدولة «المتعددة القوميات» أو مُثلٍ عليا متنوِّعة ﻟ «المشاركة» و«الفدرالية» و«الحقوق التاريخية» أو ببساطة «الديمقراطية».
٦  كبرى جزر العالم (بعد أستراليا)، وتقع في المحيط الأطلسي تجاه ساحل كندا الشمالي الشرقي. (المترجم)
٧  للاطلاع على التشابُهات والاختلافات في سياسات استيعاب السكان الأصليين في دول العالم الجديد الاستعمارية، انظر: أرميتاج، ١٩٩٥م.
٨  بالنسبة إلى تفصيلاتٍ أكثر حول الطريقة التي وصلنا بها إلى هذه النتائج وما تتضمَّنه من تعقيدات ومضاعفات انظر: بانتغ وكيمليكا، ٢٠٠٦م، الفصل الثاني.
٩  ويُمكِن أن نضَعَ في اعتبارنا هنا الأقليةَ الفرنسية والإيطالية التي تعيش في سويسرا، على الرغم من أن مجادلات حول ما إذا كانوا يحملون «وعيًا قوميًّا»، وحقيقة أنهم لم يُظهِروا ذلك «الوعي القومي»، قد ترجع جزئيًّا إلى سبب أنهم (وبخلاف الأقليات القومية الأخرى في الغرب) لم يحتاجوا إلى تحرُّك المسار القومي من أجل تحقيق الحكم الذاتي الإقليمي ومكانة اللغة الرسمية، إن لم تكن الحكومة الاتحادية والنظم المتعدِّد اللغات جزءًا من شروطها الأولى للدخول في الدولة السويسرية، فإنني أشك في أنها كانت ستُظهِر مثل هذا النوع من الحَرَاك السياسي القومي الذي نراه في أرجاء أخرى في الغرب. (المؤلِّف)
١٠  في إسبانيا، وبلجيكا، وكندا، وسويسرا تحقَّق بالفعل الحكم الذاتي الإقليمي للأقليات القومية من خلال جعل الدولة فدرالية، أما المملكة المتحدة فإنها، على العكس، لم تجعل الدولةً كلها فدرالية أو اتحادية، وإنما ابتكَرَت أشكالًا شبه اتحادية للحكم الذاتي الإقليمي لأهل اسكتلندا وويلز، ويُوجَد نظام حكم ذاتي شبه اتحادي مشابه للسويديين في فنلندا، والألمان في جنوب تيرول Tyrol، وأيضًا البورايريكو في الولايات المتحدة، ولقد استخدمت مصطلح «الفدرالية المتعدِّدة القوميات» لتغطية كلا الشكلَين من أشكال الحكم الذاتي، الاتحادية وشبه الاتحادية. ومن المهم أن نميِّز هذا الشكل من الاتحادية المتعددة القوميات عن بقية الأنظمة الاتحادية؛ حيث لا تكون الوحدات الثانوية الداخلية مصمَّمة لتمكين الأقلية من الحكم الذاتي، مثل النظام الاتحادي في الولايات المتحدة، وألمانيا وأستراليا، والبرازيل؛ ففي هذه البلاد، لم تكن أي من الوحدات المتحدة الثانوية مصمَّمة لتمكين الأقلية القومية من ممارسة الحكم الذاتي في أرضهم التقليدية، على الرغم من أن ذلك كان ممكنًا في الحالة الأمريكية، والواقع أن الحدود، في الحالة الأمريكية، وُضعَت بشكلٍ متعمَّد بطريقة تمنع إمكان وجود سيطرة للأقلية، ومن أجل مزيدٍ حول الفروقات بين الاتحاد المتعدد القوميات والأشكال الأخرى من الاتحاد، انظر: كيمليكا، ٢٠٠١م، الفصل الخامس.
١١  مجموعة جرز فنلندية قرب الساحل السويدي أكبرها جزيرة الند Aland. (المترجم)
١٢  الفلاندر: منطقة يقطنها الفلامنكيون، الذين يشكِّلون الأمة البلجيكية المعاصرة والذين يبلغ عددهم ستة ملايين نسمة. (المترجم)
١٣  الفريزيان Frisians شعوبٌ جرمانيةٌ تقطن جزر فريزيا في هولندا وفي بعض الأجزاء الشمالية من ألمانيا. وهم يتحدثون لغةً وثيقةَ الصلة باللغة الإنجليزية تُعرَف باللغة الفريزية. (المترجم)
١٤  من المناسب تمامًا، من وجهةِ نظرٍ ديمقراطيةٍ ليبرالية، أن نؤكِّد أن مطالبَ الأقلياتِ في الحكم الذاتي سوف تُقبَل فقط عندما تكون لديها ما يدعمها دعمًا أصيلًا، على نحو ما ينعكس على سبيل المثال في المساندة القوية للسياسيين وللأحزاب السياسية، التي تعمل من أجل ذلك، كما يبيِّن مثال الفريزيان، لا تتحرك كل الأقليات القومية في هذه الطريق؛ فالأقليات القومية لا تدخل العالم بوعيٍ قوميٍّ كامل التشكيل؛ فقد بناه الممثلون السياسيون الذين يسعَون إلى إقناع عددٍ كافٍ من أعضائها بأنه تُحرِّكُهم قوًى سياسية تصبو إلى إقناع عددٍ منهم بجدوى التحرك السياسي كأقليةٍ قومية من أجل أهدافٍ قومية. غير أن هذه المحاولة لتوليد وعيٍ قومي بين أعضاء الأقلية، فشلَت في حالة الفريزيين. مع أن الفريزيين، من وجهة النظر التاريخية، لديهم أحقيةٌ لكي يكونوا متميِّزين كأي جماعةٍ عِرقية أخرى في أوروبا. مع ذلك فإن محاولات النخبة من الفريزيين لإقناع الشعب الفريزي المنحدر من أصلٍ فريزي، أو الناس الذين يعيشون في أرض فريزيا التاريخية، بأنه يجب عليهم أن يساندوا الأهداف السياسية القومية، قد باءت بالفشل على نحوٍ متكرر، وهو فشلٌ يُمكِن قَبولُه تمامًا من وجهة نظر ليبرالية. وربما كان للأقليات القومية حقٌّ في المطالبة بحكمٍ ذاتيٍّ إقليمي، لكنه من المؤكَّد أنه ليس من الواجب أن يفعلوا ذلك، إن ما يحدِّد مطالبة الأقلية القومية بالحكم الذاتي الإقليمي أو عدم مطالبتها به هو رغباتُ أغلبية أعضائها، كما تتم صياغتُها والتعبير عنها، من خلال المناظرة والجدل الديمقراطي، وحيثما نجح هذا الحَرَاك، فإن الاتجاه الواضح في الغرب يميل نحو التكيُّف مع دعاوى الحكم الذاتي الإقليمي واللغة الرسمية.
١٥  انظر أيضًا (جوبكي Joppke 2002) الذي يشير إلى بلادٍ كثيرةٍ قد تكيَّفَت مع قضايا التنوُّع من دون أن يكون ذلك مكتوبًا على جبين الدولة (جوبكي، ٢٠٠٢م، ص٢٥٠)، ولقد قضى الخبراء في قضايا الهجرة والتكامل على نحوٍ متكرر على التناقُض الأسطوري بين «القدَر الأمريكي» الذي تذوب فيه الفوارق والفسيفساء الكندية، على الرغم من أن الأسطورة ما زالت موجودة في خيال العامة، ومن أجل مزيدٍ من المعلومات عن التنوُّع في سياسات التعدُّدية الثقافية على مستوى الولاية داخل الولايات المتحدة انظر هيرو وبروز في العام ٢٠٠٦م.
١٦  لمزيد من المعلومات عن النموذج البريطاني عن التعددية الثقافية من خلال العلاقات العرقية، انظر فافيل ٢٠٠١م، لجنة مستقبل التعدُّد العِرقي في بريطانيا العام ٢٠٠٠م، حقوق الدخول إلى بريطانيا تُبقي على درجة من المَيل العِرقي، كما يتضح من مناظرة حول ما إذا كان ﻟ «الرعايا البريطانيين» في هونغ كونغ الحق في الإقامة في المملكة المتحدة نفسها.
١٧  الدليل على ذلك رفض السماح للفتيات المسلمات بارتداء الحجاب في المدارس العامة.
١٨  الدليلُ على ذلك رفضُ السماح للفتيات المسلمات بارتداء الحجاب في المدارس العامة.
١٩  ليست كل أشكال التعليم التي تدرس «ثقافة المهاجرين» تدخل في خانة «تعليم التعدُّدية الثقافية»؛ ففي ألمانيا، على سبيل المثال، وُضعَت ترتيباتٌ تربويةٌ خاصة من أجل أبناء العمال الأتراك الزائرين بهدف إعدادهم للعودة إلى «وطنهم» (حتى لو كانوا في الحقيقة قد وُلِدوا في ألمانيا، على اعتبار أنهم لا ينتمون في الواقع إلى ألمانيا، وهذا النوع من «التعليم التحضيري» يختلف بوضوحٍ عما نفهمه بشكلٍ نموذجي عن تعليم «التعدُّدية الثقافية»، ولا يُعد من سياسات «التعدُّدية الثقافية» كما سبق أن ذكَرنا، سياسات التعدُّدية الثقافية هي تلك التي تسعى إلى الاعتراف أو التكيُّف مع التنوُّع العِرقي كواقع في المجتمع، وليست السياسات التي تسعى إلى تشجيع المجموعات العِرقية على الرحيل.
٢٠  مشتقة من الكلمة اليونانية (Metoikos)، وهي مؤلَّفة من مقطعَين يونانيَّين؛ الأول Meta ما وراء، والثاني Oikos الإقامة أو السكنى، وكانت تُطلَق على الغريب المقيم في المدينة اليونانية ويكون له بعض مزايا المواطنة. (المترجم)
٢١  اقترح بعض المحلَّفين إضافةَ سياسةٍ تاسعة — وعلى وجه التحديد سياسة الاعتراف بعددٍ كبيرٍ من المهاجرين واعتبارهم مقيمين دائمين ومواطنين في المستقبل — بينما رأى بعضُ الناس أن سياسةً مؤيدةً للهجرة هي في ذاتها شكلٌ من أشكال التعدُّدية الثقافية، على اعتبار أن البلد الذي لديه استعداد للتكيُّف من التنوُّع هو وحده الذي سيعترف بالمهاجرين كمواطنين في المستقبل، غير أن العلاقة بين سياسة الهجرة والتعدُّدية الثقافية معقَّدة، بعض نقَّاد التعدُّدية الثقافية، وهذه وجهةُ نظرٍ ظلَّت قائمةً لفترةٍ طويلةٍ بين المدافعين عن الحريات، في المقابل «تعتمد مسانَدة التعدُّدية الثقافية في بعض البلاد على الحد من أعداد المهاجرين الجدد الذين سوف يستفيدون من هذه السياسات»، وكثيرًا ما تكون تلك هي الحال في بريطانيا؛ فسياسة شبه التعدُّدية الثقافية التي تبنَّتها في سبعينيات القرن الماضي (تحت عنوان «علاقات العِرق») كانت جزءًا من عَقدٍ خاطبَت من خلاله الحكومة البريطانيين بقولها: «إننا سوف نُغلِق الباب في وجه المهاجرين الجدد، لكننا نتوقع منكم أن تتقبلوا وتتكيَّفوا مع المهاجرين من البحر الكاريبي وجنوب آسيا الذين وصَلوا فعلًا.» كان يُنظر إلى إعادة فتح الباب للمهاجرين على أنه مقوِّض للمسانَدة الضعيفة لسياسات التعدُّدية الثقافية، ونرى علاقةً معقَّدةً مماثلة بين سياسات التعدُّدية الثقافية وسياسة قبول اللاجئين (كيت، ٢٠٠٥م)، لم يكن الأمر كذلك على الدوام، كما تشهد المعاملة القاسية للاجئين في أستراليا، إذا ما قُورِنَت بالتسامح مع اللاجئين في ألمانيا (في السابق)، على الرغم من أن الأولى بلدٌ مؤيدٌ للتعدُّدية الثقافية والأخيرة ليست كذلك، والسياسات التي تسمح بدخول الناس كمهاجرين أو كلاجئين معهم بمجرد قبولهم، تُظهِر قضايا متميِّزة تمامًا، وأنا أركِّز على السياسات التي تخُص معاملةَ جماعاتِ المهاجرين الموجودة بالفعل على أرضِ الدولة، مثل السياسات الثماني التي ذكرناها أعلاه.
٢٢  كما أشرتُ في الهامش الرقم ١٢، فإن شكلًا شبيهًا بالتعدُّدية الثقافية يتم أحيانًا تبنِّيه بالنسبة إلى الميتكس (Metics)، على افتراض أن تشجيعَ جماعةٍ ما للمحافظة على لغتهم وثقافتهم سوف يجعل احتمالَ عودتهم إلى بلدهم الأصلي أكبر، لكن هذا الشكل التجهيزي للتعدُّدية الثقافية هو على النقيض من فكرة المواطنية المتعدِّدة الثقافات التي تطوَّرَت في بلاد المهجر التقليدية.
٢٣  لمزيد من التفاصيل عن كيف ميَّزَت البلدانُ الشمالية الأربعة بين هذه الفئات الثلاث الأصلية من السكان الأصليين، والأقليات القومية، والمهاجرين، انظر هانيكينن Hannikainen 1996.
٢٤  في حالة كندا، على سبيل المثال، فإن المفاهيم الرئيسية المستخدمة في توضيح ومناقشة قضايا داخل مسار السكان الأصليين، تتضمَّن معاهدة الحقوق وحقوق السكان الأصليين وقانون العُرف والعادات وحقوق الملكية الخاصة الفريدة والوديعة الائتمانية والحكم الذاتي وتقرير المصير والمفاهيم الرئيسية المستخدمة في توضيح ومناقشة القضايا داخل المسار الفرنسي-الكندي، تشمل ثنائية اللغة والثنائية والفدرالية (اللاتماثلية) والمجتمع المتمايز والقومية، والمفاهيم الرئيسية المستخدمة في مسار الهجرة تشمل التعدُّدية الثقافية والمواطنة والاستيعاب والتسامُح والعِرق والتنوُّع والاحتواء. ولمناقشةٍ تفصيليةٍ أكثر للانفصال السياسي والقانون بين هذه المسارات والصوامع (Silos) في كندا، راجع كيمليكا، العام ٢٠٠٧م.
٢٥  من أجل اقتباس إيضاحي مأثور عن هذه التفرقة انظر فريزر (Fraser 2000, 1998, 1995).
٢٦  سكان كاتالوتنا (Catalonia)، منطقة على شكل مثلَّث تشغل الزاوية الشمالية الشرقية من إسبانيا وتُتاخِم فرنسا شمالًا وتُطِل على البحر المتوسط شرقًا. (المترجم)
٢٧  في حالة إندونيسيا على سبيل المثال نجد أن الصينيين لا يظهرون في أماكن السلطة ولا يمثِّلون التاريخ القومي ولا في النصب التذكارية الرئيسية للاستقلال، أو مجمع تامان ميني (Taman Mini) الذي يُلقي الضوء على ثقافات البلد، ولكي تحصُل على نظرةٍ عامةٍ على وضع الصينيين في جنوب شرق آسيا انظر: هو، ٢٠٠٠م.
٢٨  من أجل تفنيدِ النظرةِ الشائعةِ بأن هذه الحركاتِ ردُّ فعلٍ لتخلُّفٍ اقتصادي، انظر Connor 1999.
٢٩  الواقع أنه في سياق الجماعات القومية الثانوية والسكان الأصليين، فإننا يُمكِن أن نقول إن التعدُّدية الثقافية قد ضاعفَت بالفعل مشروعات بناء الدولة القومية عن طريق الاعتراف بوجود هذه «القوميات الداخلية» ومنحها سلطات الحكم الذاتي، وتُمكِّنهم التعدُّدية الثقافية الليبرالية من تبنِّي مشروعات بناء الدولة القومية (الثانوية) والتي تخضع للقيود نفسها والمواصفات المطلوبة لحماية «الأقليات الداخلية» في نطاق الحكم الذاتي، وإذا أردتَ مناقشةً أوسع عن كيف تُمكِّن التعدُّدية الثقافية وتُفيد هذه المشروعات الخاصة ببناء الدولة القومية على مستوى الدولة والمستويات الثانوية، انظر: كيمليكا، ٢٠٠١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤