أشكال التعدُّدية الثقافية الليبرالية
«إن التعدُّدية الثقافية الليبرالية، على نحو ما تطوَّرَت في الغرب، هي نتاجُ صراعاتٍ عديدةٍ من أنواعٍ مختلفةٍ من الجماعات العِرقية الثقافية، تتحرَّك من خلال مساراتٍ قانونيةٍ وإداريةٍ مُختلِفة، وليست كفاحًا موحَّدًا باسم التنوُّع.»
ليس هناك تعريفٌ عالميٌّ مقبولٌ بشكلٍ عام ﻟ «التعددية الثقافية الليبرالية»، وأي محاولةٍ لتقديم تعريفٍ واحدٍ يحتوي على جميع أشكالها المختلفة، سوف يكون على الأرجح غامضًا للغاية بحيث لا يكون مفيدًا. ويُمكِننا القول، على سبيل المثال، إن التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي وجهة النظر التي تذهب إلى أن الدول لا ينبغي عليها أن تُسانِد فقط المجموعة المألوفة من الحقوق الاجتماعية والسياسية والمدنية للمواطَنة التي تحميها كلُّ الديمقراطيات الليبرالية الدستورية، ولكن ينبغي عليها كذلك تبنِّي حقوقِ الجماعاتِ الخاصةِ المختلفة أو السياسات التي تهدفُ إلى الاعتراف والتكيُّف مع الهُويات والتطلُّعات المتميِّزة للجماعات العِرقية الثقافية. وهذا التعريف عادلٌ فيما يذهب إليه، لكنه لا يقدِّم لنا الكثير.
والمنظور المفيد أكثر لفهم منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية، هو أن نفهم ما الذي جاءت هذه التعدُّدية الثقافية استجابةً له، أو ما الذي كانت هي ردَّ فعلٍ ضدَّه؛ فجميع الصراعات من أجل التعدُّدية الثقافية تشترك في رفضٍ عامٍّ للنماذج المبكِّرة للدولة القومية المتوحِّدة المتجانسة. ولكي نفهَم فكرةَ الديمقراطية الليبرالية ذات الثقافات المتعدِّدة، فإننا نحتاج في البداية إلى فهم ذلك النموذج الأقدم للدولة القومية المتجانسة، ولماذا رُفضَت.
لقد كانت معظم الدول في جميع أنحاء العالم، حتى وقتٍ قريب، تتطلع إلى هذه الدولة القومية. ولقد كانت الدولة في هذا النموذج ترى ضمنيًّا (وفي بعض الأحيان علنيًّا) على أنها ملكيةُ الجماعة القومية السائدة، والتي تستخدم الدولة لإبراز هُويتها، ولغتها، وتاريخها، وثقافتها، وآدابها، وأساطيرها، ودياناتها، وما إلى ذلك، والتي تُعرف الدولة بأنها تعبيرٌ عن القومية.
وليس ثمَّة شيءٌ «طبيعي» بالنسبة إلى هذه الدولة القومية. وقِلةٌ قليلةٌ من البلدان في جميع أنحاء العالم هي التي كانت من الناحية التاريخية ذات قوميةٍ واحدة (أيسلندا، والبرتغال، والكوريتان هي الأمثلة التي كثيرًا ما يُستشهَد بها). وفي معظم البلدان، فإن هذا المثل الأعلى (أو هذا الوهم) للدولة المتجانسة كان على الدولة أن تُقيمَه بهمة ونشاط من خلال سياسات بناء القومية التي تشجِّع الهُوية القومية المفضَّلة، بينما تقهر أي هوياتٍ بديلة. ولقد استُخدمَت السياسات العامة لدعم وتعزيز لغةٍ قوميةٍ مشتركة، وتاريخٍ قومي، وأساطيرَ قومية، وأبطالٍ قوميين، ورموزٍ قومية، وأدبٍ قومي، ونظامِ تعليمٍ قومي، ووسائلِ إعلامٍ قومية، ونظامٍ عسكريٍّ قومي، وفي بعض الحالات ديانة قومية وما إلى ذلك. والجماعات التي قاومَت هذه السياسات القومية، لم تكن عُرضةً للتجريد من القوة السياسية فقط، بل أيضًا للتمييز الاقتصادي وأشكالٍ مختلفة من «الهندسة الديموغرافية» (مثل الضغط على أعضاء الجماعة لتشتيتهم، أو دعم استيطان أعضاء الجماعة المُسيطِرة في أرض مجموعة الأقليات أو السكان الأصليين). وهذه السياسات وغيرها كانت تستهدف بناء المَثَل الأعلى للدولة القومية.
-
تبنِّي قوانين اللغة الرسمية والتي تعترف بلغة المجموعة المسيطرة على أنها اللغة القومية الرسمية الوحيدة، وهذا يتطلب أن تكون اللغة الوحيدة المستخدَمة في المصالح الحكومية، والمحاكم، وفي الخدمات العامة، والجيش، والتعليم العالي … إلخ.
-
بناء نظامٍ قوميٍّ للتعليم الإلزامي يقدِّم مناهجَ نموذجيةً تُركِّز على تعليم لغة أدب/تاريخ الجماعة المُسيطِرة (التي يُعاد تعريفها بأنها اللغة القومية والأدب القومي والتعليم القومي … إلخ).
-
مركزية القوة السياسية، واستبعاد أشكال السيادة/الحكم الذاتي التي تمتَّعَت بها جماعاتُ الأقليات تاريخيًّا، بحيث تُتخَذ كل القرارات المهمة في منتدى تشكُّل المجموعة المُسيطِرة أغلبيته.
-
نشر لغة المجموعة المُسيطِرة وثقافتها من خلال المؤسَّسات الثقافية القومية، بما في ذلك وسائل الإعلام القومية والمتاحف العامة.
-
تبنِّي رموز الدولة والاحتفال بتاريخ الجماعة المُسيطِرة، وأبطالها، وثقافتها، وينعكس ذلك في اختيار الإجازات القومية وتسمية الشوارع والأبنية والجبال … وما إلى ذلك.
-
إنشاء نظامٍ قانونيٍّ وقضائيٍّ موحَّد، يعمل من خلال لغة المجموعة المُسيطِرة ويستخدم تراثها القانوني، مع إلغاء أي نظامٍ سابقٍ استخدمَته جماعاتُ الأقلية.
-
تبنِّي سياسات الاستيطان التي تشجِّع أعضاء الجماعة القومية المُسيطِرة على الاستقرار في مناطقَ أقامت فيها تاريخيًّا مجموعاتٌ من الأقليات، وذلك لكي يتغلَّبوا على الأقليات حتى في أرضهم الأصلية.
-
تبنِّي سياسات الهجرة التي تتطلَّب معرفةً ﺑ «اللغة والتاريخ القوميين» كشرطٍ للحصول على المواطنة، والتي تُعطي أفضليةً للمهاجرين الذين يشتركون في اللغة، والدين، أو الثقافة مع الجماعة السائدة.
-
الاستيلاء على الأراضي والغابات وأماكن صيد الأسماك التي كانت تملكُها مجموعاتُ الأقلية والسكانُ الأصليون، وإعلانها مصادر «قومية» للثروة، واستخدامها لمصلحة الأمة.
الواقع أن كل الديمقراطيات الغربية كانت اتبعَت هذا المثَل الأعلى للتجانس القومي في وقتٍ من الأوقات، على نحو ما فعلَت في الواقع كلُّ بلدان ما بعد الشيوعية، وما بعد الاستعمار. وكما سأناقِش أدناه، فقد تخلى عددٌ من الديمقراطيات الغربية عن هذا الهدف لمصلحة نموذجٍ تعدُّدي للدولة. غير أن كل ديمقراطيةٍ غربيةٍ سعت في الواقع في وقتٍ من الأوقات إلى تعريف نفسها بأنها دولةٌ واحدةُ القومية. والاستثناء الوحيد الذي أعرفه لهذا النموذج في الغرب هو سويسرا؛ إذ لم تحاول سويسرا قط إنشاء لغةٍ قوميةٍ واحدةٍ في نطاق الدولة؛ ومن ثَم فقد قبلَت باستمرار وجود الأقليات التي تتحدث الفرنسية والإيطالية، كجماعاتٍ لغويةٍ متميزة في المستقبل اللامحدود. غير أن جميع الأنظمة الغربية الأخرى — بما في ذلك بعض الأنظمة الشديدة التنوُّع، والتي تُفاخِر الآن بتنوُّعها، مثل كندا — كانت تستهدف بشكلٍ أو بآخرَ تقريرَ لغةٍ قومية وثقافةٍ قومية.
وقد كان لتَبنِّي هذا النموذج، وما يصاحبه من سياساتٍ وتبريراتٍ كامنة، نتائجُ مهمة على الجماعات الثانوية. يُوجَد داخل نطاقِ مُعظَم الدول كثيرٌ من الجماعات ذات اللغة الخاصة، والتاريخ الخاص، والثقافة والأبطال والرموز الخاصة، وكثيرًا ما تُستبعَد مثل تلك الجماعات تمامًا بسبب عملية بناء الدولة القومية، أو يتم تضمينُها فقط مقابل ثمن القبول بالاستيعاب ووضعية الطبقة الثانية موصومة بالأيديولوجيات العنصرية والعِرقية التي تُستخدَم عادةً لتبرير بناء الدولة القومية. والواقع أن الأقليات غالبًا ما تكون الهدفَ الأول لهذه السياسات، ما دامت هي العقبة الكبرى أمام هدف (أو أسطورة) الدولة القومية المتحدة؛ ومن ثَم فهي الأكثر حاجةً إلى «التأميم». وقد كانت النتيجة مع مرور الزمن هي خلقُ أشكالٍ مضاعَفة وراسخة لاستبعاد وتبعية الأقليات، وغالبًا ما جمعَت التهميش السياسي، مع الإجحاف الاقتصادي، والسيطرة الثقافية.
- أولًا: تتضمَّن الدولة المتعددة الثقافات نبذًا للفكرة القديمة التي تقول إن الدولة ملكٌ لجماعةٍ قوميةٍ مفردة. وبدلًا من ذلك لا بد للدولة أن تُرى على أنها تنتمي إلى جميع المواطنين على حدٍّ سواء.
- ثانيًا: ونتيجةً لذلك، فإن الدولة المتعدِّدة الثقافات تنبذ أيَّ سياسةٍ لبناء الدولة القومية، تضُم أو تستبعد أعضاءَ جماعة الأقليات أو الجماعات غير المُسيطِرة. وإنما تقبل بدلًا من ذلك أن يكون الأفرادُ قادرين على الوصول إلى مؤسَّسات الدولة، وأن يتعاملوا كمواطنين متساوين بالكامل في الحياة السياسية، من دون أن يُضطَروا إلى إخفاء أو إنكار هُويتهم الثقافية العِرقية؛ فالدولة تقبل التزامًا بالاعتراف والتكيُّف مع تاريخ ولغة وثقافة الجماعات غير المُسيطِرة على نحو ما تفعل مع الجماعة المُسيطِرة.
- ثالثًا: تعترف الدولة المتعدِّدة الثقافات بالظُّلم التاريخي الذي وقع على جماعة الأقليات غير المُسيطِرة بسبب سياسة الاستيعاب والاستبعاد، وتُظهِر استعدادَها لتقديم نوع من العلاج أو التعويض وتصحيح الأوضاع.
وهذه الأفكارُ الثلاثُ المترابطة التي تنبذ فكرة الدولة التابعة لجماعةٍ مسيطرة، لتحلَّ محلَّ سياسات بناء الدولة القومية الإقصائية أو الاستيعابية سياسة الاعتراف، والتكيُّف والإقرار بالظلم التاريخي، وتقديم تعويضات عن هذا الظلم — هي أفكارٌ شائعةٌ بالنسبة إلى جميع الكفاحات العالمية الحقيقية من أجل «التعدُّدية الثقافية».
أنواع من التعدُّدية الثقافية الليبرالية
هذه النقاط حول القواسم المشتركة مجردةٌ غاية التجريد، وما إن ننظر في تفاصيلِ بلدانٍ معينة، حتى تنبثق اختلافاتٌ هائلة؛ فالطريقة المحدَّدة التي ترغب جماعة الأقليات أن يتم من خلالها الاعترافُ بها والتعاملُ معها، أو التي يُعالَج بها الظلم التاريخي، تختلف اختلافًا كبيرًا من بلد إلى بلد، كما تختلف بين الأقليات المختلفة داخل البلد الواحد.
سوف يكونُ من المستحيل أن نقدِّم نظرةً شاملةً عن الأشكال المختلفة التي يُمكِن أن تتخذها التعدُّدية الثقافية، لكن دعونا نركِّز، من أجل الإيضاح، على ثلاثة اتجاهاتٍ عامةٍ داخل الديمقراطيات الغربية:
أولًا: السكان الأصليون
غير أن هناك انقلابًا هائلًا في هذه السياسات بدأ من أوائل سبعينيات القرن الماضي. اليوم تقبل جميعُ البلاد التي ذكَرتُها آنفًا، على الأقل من حيث المبدأ، فكرةَ أن السكان الأصليين سوف يبقَون حتى مستقبلٍ غيرِ منظور كمجتمعاتٍ متميِّزة داخل نطاقِ بلدٍ أوسع، ولا بد أن تتحقق لهم قضايا الأرض، والحقوق الثقافية، وحقوق الحكم الذاتي، وهي أمورٌ يحتاجون إليها للحفاظ على أنفسهم كمجتمعاتٍ متميِّزة.
- (١)
الاعتراف بحقوق الأرض وسندات الملكية.
- (٢)
الاعتراف بحق الحكم الذاتي.
- (٣)
تأييد المعاهدات التاريخية و/أو التوقيع على معاهَداتٍ جديدة.
- (٤)
الاعتراف بالحقوق الثقافية (اللغة، والصيد البري والبحري).
- (٥)
الاعتراف بالقانون المُتعارَف عليه.
- (٦)
ضمان حق التمثيل والاستشارة في الحكومة المركزية.
- (٧)
التصديق الدستوري والقانوني على المكانة المتميِّزة للسكان الأصليين.
- (٨)
التأييد والتصديق على الوسائل الدولية حول حقوق السكان الأصليين.
- (٩)
التصرُّف الإيجابي لأعضاء جماعة السكان الأصليين.
- (١)
تلك البلدان التي تحوَّلَت بشكلٍ حاسمٍ تجاه المنظور المتعدِّد الثقافات، عن طريق تبنِّي ستٍّ أو أكثَر من السياسات التسع.
- (٢)
تلك البلدان التي قامت بتحوُّلٍ أكثر تواضعًا ولكنه متميِّز، عن طريق تبنِّي من ثلاث إلى خمسِ سياساتٍ من السياسات التسع.
- (٣) تلك البلدان التي تحوَّلَت بالكاد إلى هذا الاتجاه، إن كانت قد تحوَّلَت على الإطلاق، باثنتَين أو أقلَّ من هذه السياسات. ولقد انتهَينا إلى أننا نستطيع أن نصنِّف أربعًا من الديمقراطيات الغربية التسع ذات السكان الأصليين على أنها متعدِّدة الثقافات تمامًا (كندا، والدنمارك، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة)، وثلاثٌ منها كانت متعدِّدة الثقافات بطريقةٍ معتدلة (أستراليا، وفنلندا، والنرويج)، واثنتان فقط قامتا، بالكاد، بهذا التحوُّل (اليابان والسويد).٨ ونحن نُسلِّم بأن هذه الطريقة فجَّة لمحاولة قياس مدى تبنِّي هذه الأنظمة الديمقراطية الغربية لمنظور التعدُّدية الثقافية بالنسبة إلى السكان الأصليين، ولكن تُشير بعض الإشارات إلى اتجاهٍ مُنتَشِرْ وإن كان متقلبًا.
ثانيًا: قوميات الأقليات والجماعات الثانوية
والواقع أننا لو حصرنا انتباهنا في الأقليات القومية الكبيرة والمتمركزة إقليميًّا لوجدنا أن هذا الاتجاه الآن ضروري وشامل في الغرب؛ فقد تحقق لكل الجماعات التي يزيد تَعدادها على ٢٥٠ ألف نسمة، والتي أبدت رغبةً في حكم نفسها، ما أرادته في الغرب اليوم، كما حدث بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من الجماعات الصغيرة (مثل الأقلية الألمانية في بلجيكا).
هناك بعض الاستثناءات الممكنة الأخرى، فمن الصعب تصنيف أيرلندا الشمالية، ما دام الكاثوليك هم بالفعل أقليةٌ قومية، لكنهم ليسوا متمركزين إقليميًّا؛ ومن ثَم فإن نموذج الفدرالية المتعددة القوميات ليس متوافرًا. وحتى هنا نجد حركةً واضحةً في اتجاه اعترافٍ أكبر بقومية الأقليات. ولقد تبنَّت أيرلندا الشمالية حديثًا اتفاقية سلامٍ تمنح بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ الكاثوليك عددًا من الضمانات بصدد تمثيلهم، والاعتراف بهُويتهم بالنسبة إلى القوميات المُشارِكة في أيرلندا.
من بين دول الغرب، ربما كانت اليونان هي الدولة الوحيدة التي ظلت تُعارِض بقوة وبشكلٍ أيديولوجيٍّ الاعترافَ الرسميَّ بالجماعات القومية الثانوية؛ حيث نجد الأقلية المقدونية الكبيرة الحجم نسبيًّا تملأ أرضها التقليدية.
- (١)
الحكم الذاتي الإقليمي الاتحادي أو شبه الاتحادي.
- (٢)
مكانة اللغة الرسمية، سواء إقليميًّا أو قوميًّا.
- (٣)
ضمانات التمثيل في الحكومة المركزية أو المحاكم الدستورية.
- (٤)
التمويل العام للجامعات والمدارس ووسائل الإعلام التي تعتمد لغة الأقلية.
- (٥)
التأييد الدستوري أو البرلماني للتعدُّدية الثقافية.
- (٦)
منح الشخصية الدولية (مثلًا السماح للمناطق الثانوية بالاشتراك في الهيئات الدولية أو التوقيع على المعاهدات أو أن يكون لها فريقٌ أولمبي).
ومن بين الأنظمة الديمقراطية الغربية الأحدَ عشرَ التي تحتوي على أقلياتٍ قوميةٍ كبيرة الحجم نسبيًّا (أكثر من ١٠٠ ألف نسمة)، توصَّلنا إلى أن ثمانيةً منها تحرَّكت في هذا الاتجاه، خمسة منها تحرَّكَت بقوة، وثلاثة كانت أكثر توسُّطًا. أما البلاد التي تبنَّت التعدُّدية الثقافية بشكلٍ قوي فهي بلجيكا، وكندا، وفنلندا، وإسبانيا، وسويسرا، والبلدان التي تبنَّت التعدُّدية الثقافية على نحوٍ متوسطٍ هي إيطاليا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، على حين أن البلدان الثلاثة التي قاوَمَت هي فرنسا، واليونان، واليابان. وهنا مرةً أخرى نجد توجُّهًا واضحًا، لكن مع تنوُّعاتٍ مهمةٍ في عمقه ومداه.
ثالثًا: الجماعات المهاجرة
هناك توجُّهٌ ثالثٌ يتعلق بالتعامل مع الجماعات المهاجرة. وأهم بلدان الهجرة من الناحية التاريخية (أستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة) اتخذَت منهج الاستيعاب بالنسبة إلى الهجرة. كما كان هناك تشجيعٌ للمهاجرين، وتوقُّع أن يستوعبهم المجتمع القائم بالفعل، على أمل أنه بمرور الوقت سوف يصعُب تمييزهم عن المواطنين الأصليين في حديثهم، وملبسهم، وتسليتهم، وأنماط تصويتهم الانتخابي، وطريقة حياتهم بشكلٍ عام. وأيُّ جماعة تُرى عاجزةً عن هذا التمثيل أو الاستيعاب الثقافي تُحرم من الهجرة في المقام الأول، ومن أن يصبحوا مواطنين. ولقد انعكس ذلك في القوانين التي استبعدَت الأفارقة والآسيويين من دخول بلدان المهجر هذه لفترةٍ طويلة في القرن العشرين، أو من التجنيس.
لكن منذ أواخر ستينيات القرن الماضي رأينا تغيرًا قويًّا في هذا المنهج؛ فقد كان هناك تغيُّران مرتبطان؛ الأول تبنِّي معايير الحياد العنصري، بحيث يتزايد عدد المهاجرين إلى هذه البلدان من مجتمعاتٍ غير أوروبية (وغالبًا غير مسيحية)، الثاني تبنِّي تصوُّر للتكامُل، يميل أكثر نحو «التعدُّدية الثقافية»، وهو تصوُّر نتوقَّع من خلاله أن كثيرًا من المهاجرين سوف يعبِّرون بوضوح وبفخر عن هُويتهم العِرقية، ويقبلون الالتزامات من جانب المؤسسات العامة (مثل: الشرطة والمدارس، وأجهزة الإعلام، والمتاحف … إلخ) للتكيُّف مع هذه الهُويات العِرقية.
- (١)
التأكيد الدستوري والشرعي والبرلماني للتعدُّدية الثقافية، على المستوى المركزي و/أو المستويَين الإقليمي والمحلي.
- (٢) تبني التعددية الثقافية في المقرَّرات الدراسية.١٨
- (٣)
اشتمال التمثيل على الحساسية العِرقية في السياسات الرسمية لوسائل الإعلام أو الترخيص لأجهزة الإعلام.
- (٤)
الإعفاء من ارتداء زيٍّ رسمي، أو التشريع بالإغلاق يوم الأحد (سواء بالقانون أو بحكم المحكمة).
- (٥)
السماح بالجنسية المزدوجة.
- (٦)
تمويل منظَّمات الجماعة العِرقية لتدعيم الأنشطة الثقافية.
- (٧)
تمويل نُظم التعليم الثنائية اللغة أو تعليم اللغة الأم.
- (٨) السلوك الإيجابي تجاه المجموعات المهاجِرة المتضرِّرة.١٩
ومن ثَم حاولنا تحديدَ أيٍّ من البلاد قد تحوَّلَت باتجاه هذه السياسات، سواء كان تحوُّلًا قويًّا (عن طريق تبنِّي ست أو أكثر من هذه السياسات الثماني)، أو تحولًا متوسطًا معتدلًا عن طريق تبنِّي من ثلاث إلى خمس من السياسات الثماني). ووجدنا أن كلًّا من البلدان التقليدية الأربعة للهجرة قامت بهذا التحوُّل، بعضُها بشكلٍ قوي (أستراليا واليابان)، وبعضها الآخر بشكلٍ متوسط (نيوزيلندا والولايات المتحدة). غير أننا إذا ما نظرنا إلى ما وراء هذه البلدان التقليدية للهجرة، فإن الديمقراطيات السبع عشرة المتبقِّية في دراستنا تقدِّم لنا صورةً مختلفة؛ فليس منها ما تحوَّل بقوة نحو «التعدُّدية الثقافية»، وإن أربعةً منها فقط قد تحولت تحولًا متوسطًا (بلجيكا وهولندا والسويد والمملكة المتحدة)، على حين أن الأغلبية العظمي كانت تُقاوِم الاتجاه بشدة (أستراليا والدنمارك وفنلندا وفرنسا وألمانيا واليونان وأيرلندا وإيطاليا واليابان والنرويج والبرتغال وإسبانيا وسويسرا).
وهكذا فإن التحوُّل تجاه التعدُّدية الثقافية في هذا السياق من الواضح أنه مثار نزاعٍ أكثر منه في حالة السكان الأصليين، أو في حالة الجماعات القومية الثانوية. وعلى حين أن أغلبية الدول الغربية قامت بتحوُّلٍ ما سواء كان قويًّا أو متوسطًا تجاه منظور التعدُّدية الثقافية بالنسبة إلى الأقليات «القديمة»، فإن الدليل على هذا التحوُّل كان أكثر اضطرابًا بالنسبة إلى الجماعات المهاجرة. في حين أن هناك اتجاهًا واضحًا نحو منظورٍ أقربَ للتعدُّدية الثقافية في حالة بلدان المهجر التقليدية في العالم الجديد، وهو منظور رُفض على نطاقٍ واسع في أماكن أخرى، وهناك حالاتٌ متعدِّدة من «التراجع» عن التعدُّدية الثقافية، سوف أعود إليها في الفصل القادم.
وهكذا فإن السياسة التي وُضِعت على أمل أن يعودوا إلى بلادهم طواعيةً هي سياسةٌ غير واقعية. فضلًا عن ذلك، فإن هذه السياسة تُعرِّض المجتمع الكبير للخطر؛ ذلك لأن النتيجة المحتمَلة لمثل هذه السياسة هي خلقُ طبقةٍ محرومةٍ من الحقوق السياسية على الدوام، طبقةٍ مغتربة، تُعرَف من الناحية العِرقية أو العنصرية بأنها طبقةٌ دنيا. وربما طوَّر الميتكس (الغرباء) ثقافةً ثانويةً معارضة يُنظَر من خلالها بحذَر إلى النجاح المتتابع في المؤسسات العامة. ويمكن أن تتضمَّن النتائجُ المحتمَلة خليطًا من الاغتراب السياسي، والجريمة، والأصولية الدينية بين الميتكس (الغرباء)، وبصفةٍ خاصةٍ في الجيل الثاني، ما يؤدي بدوره إلى زيادة التوتُّرات العنصرية، بل حتى إلى العنف في المجتمع.
وحتى نتجنَّب هذه النتائج، ظهر اتجاهٌ متزايد في الديمقراطيات الغربية، حتى في البلاد التي ليست موطنًا للهجرة، لتمكين الميتكس (الغرباء) من تنظيم وضعِهِم وتطبيعِ حالتهِم. أما أولئك الذين يبحثون عن ملجأ، والذين قُبلَت قضاياهم في اللجوء، فقد مُنحوا إقامةً دائمة واقتربوا من المواطنة (أو الجنسية)، ولا تُطلَب منهم العودة إلى بلادهم الأصلية، حتى ولو كان خطَر الاضطهاد قد زالَ عنهم. وكثيرًا ما يتمكَّن العمال الزائرون من تجديد تأشيرة الدخول أو الإقامة بعد انتهائها لكي يحصلوا على إقامةٍ دائمة. ويصدر عفو شامل بصورةٍ دوريةٍ للمهاجرين غير الشرعيين. وكنتيجةٍ لذلك، يُعامَل الغرباء المقيمون فترةً طويلةً على نحوٍ متزايدٍ كما لو أنهم قَدِموا في الأصل على أنهم مهاجرون بطريقةٍ مشروعةٍ أو قانونية، ويُسمَح لهم باتِّباعِ طريقِ المهاجر نحو التكامل والاندماج. وفي بعضِ الحالات تُراجع عملية التكامل لتقترب أكثر من التعدُّدية الثقافية. وتُعَد السويد الحالة البارزة هنا، بإعلانها العام ٢٠٠٦م، عامًا للتعدُّدية الثقافية، على الرغم من أن ذلك يبقى غيرَ شائعٍ خارج بلدان المهجر التقليدية.
ثلاثُ سماتٍ بارزة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية
أما بخصوص السكان الأصليين، والجماعات القومية الثانوية، والمهاجرين، فقد كان هناك تحوُّل، بعيدًا عن السياسات التاريخية للاستيعاب والاستبعاد، باتجاه منظورٍ أقرب إلى التعدُّدية الثقافية يعترف بالتنوُّع ويتكيَّف معه. وكما سنرى في الجزء الثالث، فإن كل اتجاه من هذه الاتجاهات، بدرجاتٍ مختلفة، قد شكَّل معاييرَ دوليةً بارزة، أقواها حالة السكان الأصليين، وبشكلٍ أكثر تواضُعًا فيما يتعلق بالجماعات القومية الثانوية، وبحدٍّ أدنى بالنسبة إلى جماعات المهاجرين. وسوف نكتشف أشكالًا متنوعةً لهذا التحوُّل خلال الكتاب، لكن هناك ثلاثُ نقاطٍ بالنسبة إلى أغراضنا المباشرة هي: أولًا: حول الفئات المختلفة من الأقليات، وثانيًا: حول مضمون الحقوق الممنوحة لهذه الأقليات، وثالثًا: حول العلاقات بين التعدُّدية الثقافية وبناء الأمة.
أولًا: كما تذهب هذه الدراسة المختصَرة فإن التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، تختلف اختلافًا كبيرًا من مجموعة إلى أخرى، أو إذا أردنا استخدام المصطلحات التي قدَّمتُها فيما سبق فهي مستهدفةٌ بشكلٍ كبير. إن التعدُّدية الثقافية الليبرالية تضمن مجموعةً معيَّنة من حقوق الأقليات لجميع الجماعات العِرقية الثقافية، لكنها تفصل كذلك عددًا من الفئات المستهدَفة من حقوق الأقليات. تختلف الفئاتُ الدقيقة من بلد إلى بلد، لكنها تقع تمامًا في النموذج الأساسي نفسه. والتفرقة الأكثر شيوعًا هي بين الأقليات «القديمة» التي استقرَّت على أرضها من قبل أن تصبح جزءًا من بلدٍ مستقلٍّ أوسَع، وأقلياتٍ «جديدة» دخلَت كمهاجرين، بعد أن نالت البلاد استقلالها القانوني. لكن داخل فئة الأقليات «القديمة» هناك تمييزٌ أبعد تمامًا يُوجَد بين جماعات السكان الأصليين وبين أقلياتٍ تاريخيةٍ أخرى كثيرًا ما يُطلَق عليها «أقليات قومية» أو يُطلَق عليها اسم «القوميات» بصفةٍ عامة.
بالطبع ليس كل البلدان لديها الأنواع الثلاثة من التنوُّع الثقافي العِرقي؛ فأستراليا، ونيوزيلندا، على سبيل المثال كان لديهما سكانٌ أصليون وجماعاتٌ عِرقية من المهاجرين، لكن لم يكن لديهما جماعاتٌ قوميةٌ ثقافيةٌ ثانوية. وفي المقابل، فإن بلجيكا وسويسرا وإسبانيا وبريطانيا لديها كلها قضايا متعلقة بالقومية الثانوية وبالهجرة لكن ليس لديها قضايا تتعلق بالسكان الأصليين. لكن في جميع هذه الحالات يظل إطار التعدُّدية الثقافية الليبرالية عبارةً عن جماعاتٍ مختلفة. بريطانيا على سبيل المثال تميِّز حقوق القومية الثانوية التاريخية (أهل اسكتلندا وأهل ويلز وأيرلندا) عن حقوق الأقليات المهاجرة.
ومن المدهش تمامًا أن نجد هذا القَدْر الضئيل من التفاعل بين هذه المسارات المختلفة. وعندما تشتعل الصراعات المختلفة بسبب التعدُّدية الثقافية، فمن المُحتمَل أن يحتدم النزاعُ كما يُحتمَل أن يتحقَّق التعاون؛ فقد يسعى المهاجرون، والأقليات القومية، والسكان الأصليون جميعًا إلى تحدي تبعيتهم التاريخية للجماعة المسيطرة، لكنهم قد لا يُسانِدون بالضرورة بعضُهم كفاح البعض؛ فقد لا يساند المهاجرون غريزيًّا مطالب السكان الأصليين والجماعات القومية الثانوية لحكمٍ ذاتيٍّ أكبر، وهذه الأقليات التاريخية بدورها قد لا تُسانِد غريزيًّا مطالب الجماعات المهاجرة من أجل المواطنة المتعدِّدة الثقافات (ميدا، وندشر ٢٠٠٤م). إن التعدُّدية الثقافية الليبرالية، على نحو ما تطوَّرَت في الغرب، هي نتاج صراعاتٍ عديدةٍ من أنواعٍ مختلفةٍ من الجماعات العِرقية الثقافية، تتحرَّك من خلال مساراتٍ قانونيةٍ وإداريةٍ مختلفة، وليست كفاحًا موحَّدًا باسم «التنوُّع».
وليس في استطاعتنا أن نأمل أن نفهم نظرية وتطبيق التعدُّدية الثقافية الليبرالية من دون أن نفهم طابع الجماعاتِ المستهدَفة المختلفة. وأي محاولةٍ لتوضيح التعدُّدية الثقافية الليبرالية كما لو كانت مسألة حقوقِ أقليةٍ عِرقيةٍ خالصةٍ محكومٌ عليها بالفشل. إن «منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية لا يُمكِن الإمساك به في صورة جميع الأقليات لها الحق في «س»»، أو أن جميع الأشخاص الذين ينتمون إلى الأقليات لهم الحق في «س»، لقد ناضلَت أنواعٌ كثيرة من الأقليات من أجل الأنواع المختلفة من حقوق الأقليات وظفِرَت بها. وهذا الهدف الذي يختلف من مجموعةٍ إلى أخرى هو المفتاح لفهم التحديات المتضمَّنة في تبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية وتلك المتضمَّنة في تقييم نجاحاتها وقصورها حتى اليوم. ولسوء الطالع، كما سنرى في الجزء الثالث، فإن المنظمات الدولية واجهَت صعوبةً في معرفة الطبيعة الهادفة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية، لأسبابٍ تتعلق بالمبدأ وبالمنفعة في وقتٍ واحد.
هذه التمييزات بين «الاعتراف» و«إعادة التوزيع» أو التمييز بين «الهُويات» و«المصالح» تمييزٌ مفيد لبعض أغراض التحليل، لكن ينبغي أن يكون واضحًا أن التعدُّدية الثقافية كما تطوَّرَت في الغرب لم تقتصر على مشكلات الاعتراف الرمزي أو سياسة الهوية؛ فالتعدُّدية الثقافية الليبرالية عالَجَت كذلك قضايا السلطة والموارد. ويتضح ذلك جليًّا فيما يتعلق بالأقليات القومية والسكان الأصليين؛ حيث يُعاد بناء الدول لكي تبتكر وحدات سياسية جديدة تمكِّن الأقلية من الحكم الذاتي. وبالنسبة إلى هذه الجماعات فإن الديمقراطيات الغربية ابتعدَت عن النماذج القديمة للوحدة، الوحدة المركزية للدولة القومية ورفضَت الأيديولوجيات القديمة للدولة الواحدة، والقومية الواحدة، واللغة الواحدة؛ فلقد أصبحت الدول الغربية التي تشتمل على السكان الأصليين والجماعات القومية الثانوية، أصبحَت دولًا متعدِّدة القوميات تعترف ﺑ «الحكم الذاتي» للشعوب والقوميات داخل حدود الدولة. وهذا الاعتراف عُبِّر عنه في عدد من حقوق الأقليات والسكان الأصليين التي تشتمل على الحكم الذاتي الإقليمي، ووضع اللغة الرسمية بالنسبة إلى الأقليات القومية، وقانون العادات والعُرف، وقضايا الأرض، والحكم الذاتي للسكان الأصليين.
في حالة المهاجرين ربما كانت التغيُّرات أقلَّ وضوحًا، ما دمنا لا نجد النوعَ نفسَه من انتقال المسئولية أو الاتحاد في سلطة الدولة للوحدات السياسية التي تحكُم الأقليات في الغرب، وسوف نجد أن عديدًا منها كان يقصد تعزيز الاقتراب من سلطة الدولة، والخدمات العامة، والفُرص الاقتصادية. يتضمَّن ذلك سياسات التحرُّك الإيجابي، وأساليب للمشاركة والاستشارة السياسية، وتنمية الرعاية الصحية، ونماذج تلَقِّي الخدمة الاجتماعية التي أخذوا بها لسد حاجات الأقليات.
فإذا ما أخذنا هذه الاتجاهات معًا، وجدنا أنها تمثِّل تحولًا شديدًا في العلاقة بين الدول والجماعات العِرقية. إن هذه التغيُّرات ليست رمزيةً خالصة. بل على العكس كثيرًا ما تتضمن إعادة توزيعٍ ذي مغزًى للمصادر الاقتصادية والسلطة السياسية — شيء قريب من المشاركة الحقيقية في السلطة — بالإضافة إلى أنها تمنحُ الجماعاتِ غيرَ المُسيطِرة تسهيلاتٍ للوصول إلى مؤسَّسات الدولة.
ولا ينبغي أن نندهش لهذا الارتباط بين الهُويات والمصالح داخل سياسة التعدُّدية الثقافية، ما دامت تعكسُ الطريقة التي ترتبط بها الهُويات والمصالح في سياسات بناء الدولة القومية، والتي جاءت التعدُّدية الثقافية كردٍّ عليها. والواقع أن عملية بناء الدولة القومية هي على الأصالة مثالٌ لسياسة الهُوية، لكنها كذلك تتعلق ببناء المؤسَّسات العامة بشأن تلك الهُوية إلى درجة أنها تُصبِح مصدرًا للفرص الاقتصادية وللسلطة السياسية وللمركز الاجتماعي. وللتعدُّدية الثقافية التطلُّع نفسه إلى الربط بين الهُويات والمصالح. وهي لا تعترف فقط بالهُويات الجزئية للأقلية، بل تسعى إلى تعديل الفرص الاقتصادية، والسلطات السياسية والوضع الاجتماعي المُتاح لأصحاب هذه الهُوية.
الطرق الدقيقة التي يجتمع بوساطتها الاعتراف ﺑ «الأقليات» بإعادة التوزيع، أو «الهوية» ﺑ «المصالح»، تختلف من إحدى سياسات التعدُّدية الثقافية إلى أخرى، ومن جماعةٍ إلى أخرى، ومن الخطأ معاملة التعدُّدية الثقافية على أنها مادةٌ خالصةٌ للاعتراف الرمزي، كما أن من الخطأ أيضًا معاملتَها على أنها شكلٌ مقنع خالص من الطبقية السياسية. في حين أنه من الشائع بالنسبة إلى الأقليات أن يعانوا الاستبعادَ السياسي والاقتصادي والثقافي في وقتٍ واحد، فإن الروابط بين الأشكال المختلفة لهذا الاستبعاد معقَّدة، وهو ما تسعى التعدُّدية الثقافية إلى تتبُّعه.
ومن ثَم فليس كل قضايا التعدُّدية تتضمَّن مطالب إعادة التوزيع الاقتصادي، وحتى في هذه الحالات لا تكون التعدُّدية الثقافية رمزية فقط — فلا تزال تتضمن قضايا السلطة السياسية والتمثيل السياسي (مثل مطالب الكاتالونيين في الحكم الذاتي) — ولكي تتأكَّد من ذلك، سوف نرى في الفصل القادم ممثلين سياسيين يودُّون ردَّ التعدُّدية الثقافية إلى رمزيةٍ محضة. وفي حالاتٍ كثيرة، كانت الصفوة السياسية وممثلو الحكومة يأملون، ويتوقَّعون، أن الإصلاحات التي تحدَّثنا عنها ستكون كافية. وربما كانوا يأملون أنه سوف يكفي أن تُوضَع بعض الكلمات من لغة الأقلية على عملة الدولة، على سبيل المثال، أو أن يُوضَع أحد رموز السكان الأصليين على طابع البريد لتُشبع تطلُّعات السكان الأصليين نحو «الاعتراف»، لكن أيًّا ما كانت النوايا الأصلية للحكومة فإن الجماعات غير المُسيطِرة استخدَمَت إصلاحات التعدُّدية الثقافية كزناد انطلاق للتفاوض بشكلٍ متميِّز من أجل تعزيز الوصول إلى الموارد العامة، والسلطات، والمراكز الحكومية.
وسوف أقيِّم نجاح هذه الصراعات من أجل الحصول على شكلٍ أكثر جوهريةً من التعدُّدية الثقافية في الفصل الخامس، أما الآن فإن النقطة الأساسية هي أن التعدُّدية الثقافية لا تتعلق في الأصل بالاعتراف بدلًا من إعادة التوزيع أو الهُويات بدلًا من المصالح؛ فأنواع السياسات التي ذكرناها في هذا الفصل تتعدى هذه التمييزات، لتُواجه قضايا الحقوق القانونية، وصُنع القرارات السياسية، والموارد الاقتصادية، والخدمات العامة، والواقع أن هذا هو السبب في أن التعدُّدية الثقافية في أشكالها المختلفة كانت مثارًا للجدل والنزاع في الغرب وفي بقية أنحاء العالم، ولن يكون لدينا الأمل في فهم هذه المنازعات لو أننا افترضنا مقدمًا أن التعدُّدية الثقافية تدور حول الرموز فقط.
لذلك، فإن تقديري لقوة التعدُّدية الثقافية في البلدان المختلفة لا يتتبَّع مدى رفضِ هذه البلدان لبناء الدولة القومية، وإنما يتتبَّع مدى تحوُّل عملية بناء القومية إلى اتجاهٍ أكثَر تعدُّدية. ومن هذه الزاوية، فإن تصوُّري للاختلافات بين التعدُّدية الثقافية «القوية» و«المتوسطة» و«الضعيفة» يختلف عن الطريقة التي تستخدم أحيانًا هذه المصطلحات، ويميِّز ديفيد ميلَّر على سبيل المثال بين الأشكال القوية والأشكال الضعيفة من التعدُّدية الثقافية؛ حيث أطلَق عليها «راديكالية» و«معتدلة». لكن من وجهة نظره فإن التعدُّدية الثقافية الراديكالية تتضمَّن الالتزام بالتكيُّف مع الأقليات من دون مُسانَدة الوحدة مع (أو الولاء ﻟ) المجتمع السياسي والدولة الكبرى (ميلَّر، ١٩٩٣م، الفصل الخامس، ٢٠٠٠م، ص١٠٥ و١٠٦، ٢٠٠٦م)، فهو يميِّز هذا الشكل من التعدُّدية المعتدلة الذي يجمع بين التعدُّدية الثقافية وبين سياسات بناء الدولة القومية التي تسعى إلى زرع الهُوية السياسية والولاء السياسي، فالتعدُّدية الثقافية المعتدلة في السياق البريطاني، على سبيل المثال، تفيد المواطنين بأن هناك طرقًا شرعيةً مختلفة لكي يكون المرءُ بريطانيًّا، وأن كونك بريطانيًّا لا يتناقَض مع التعبير العام، والتكيُّف مع الهُويات الأخرى بما في ذلك «كونك مسلمًا» أو «كونك اسكتلنديًّا»، في حين أن التعدُّدية الثقافية الراديكالية تُعفِي أو تعوق الأقليات عن تبنِّي هذه الهُوية السياسية ذات العِرقية الشاملة والتناسُق العالي.
باختصار، فإن التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي ظاهرةٌ أكثر تعقيدًا مما يعرفُه كثيرٌ من الناس، وهي ليست مبدأً واحدًا أو سياسةً واحدة، وإنما هي مظلَّة لأساليبَ تختلف بشكلٍ كبيرٍ من مجموعة إلى أخرى. وكل واحدٍ من هذه الأساليب هو نفسُه متعدِّد الأبعاد، فهو يدمج عناصرَ اقتصاديةً وسياسية وثقافية معًا بطرقٍ مختلفة، ولكلٍّ منها أيضًا حلقاته المعقَّدة بسياسات وتطبيقات بناء الدولة القومية، وهناك ميلٌ طبيعي إلى تبسيط هذا التعقيد وردِّ التعدُّدية الثقافية إلى مبدأ أو بُعدٍ واحد، كما لو كانت المسألةُ كلُّها تدور حول «حماية التراث الثقافي المعرَّض للخطر»، أو ﻟ «تصحيح أوضاع الهُويات الموصومة»، أو ﻟ «رفض القومية»، لكننا في حاجة إلى تجنُّب هذه الافتراضات السابقة المبسَّطة، ولكي نفحَص، بذهنٍ مفتوحٍ أكثر، الطريقة التي ظهرَت من خلالها هذه السياسات المختلفة، وما الذي كانت تنوي إنجازه، وكيف تُطبَّق من الناحية العملية.
•••
لقد حاولتُ في هذا الفصل أن ألخِّص بعض الأشكال الرئيسية للتعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، ولم أوضِّح برغم ذلك كيف هي «حرة» (ليبرالية) بأي معنًى بعيدًا عن كونها ظهرَت داخل إطار عمل الديمقراطيات الليبرالية الغربية، ولتوضيح ذلك فإن الأمر يتطلَّب فحصَ طبيعة الحَرَاكِ الذي أظهر هذه الإصلاحات، والتأثيرات الفعلية (مقصودة وغير مقصودة) الناتجة من تبنِّيها، وهذا هو هدفي في الفصلَين القادمَين.
لقد ذهب المدافعون عن هذه الإصلاحات إلى أنها تحتاج إلى التغلُّب على أشكال الاستبعاد والوصمات المتأصِّلة، ومساعدة الديمقراطيات الغربية لتصبح أكثر حرية، وأكثر عدالة، بل أن تكون مجتمعاتٍ أكثَر ديمقراطية، وعلى أساس هذا الفهم أعلنَت المنظمات الدولية نظريات «وأفضل الممارسات العملية» للتعدُّدية الثقافية الحرة كنموذجٍ للبلدان الأخرى، وإني لآملُ أن أبيِّن أنه مع وجود قواعدَ جيدةٍ للدفاع عن الفهم المتفائل بشأن آثار التعدُّدية الثقافية الليبرالية فإن هناك أيضًا أسسًا للتردُّد بشأن إمكان تصديرها إلى الدول الأخرى.