أصول التعددية الثقافية الليبرالية المصادر والشروط المسبقة
«تسليمًا بالاختلافات العميقة بين التأويلات الليبرالية والمحافظة التعددية الثقافية، فمن المهم تحديد أي هذين الاتجاهين يدعم في الواقع التحولات الحديثة نحو التعددية الثقافية في الغرب.»
إحدى المشكلات هي أن كثيرًا من الكتابات التي كُتبَت في هذا الموضوع تعاني «القومية المنهجية» (٢٠٠٢م، ويمر وغليك شيلر). عند تفسير ظهور سياسات التعدُّدية الثقافية يميل الشُّرَّاح والمفسِّرون إلى التركيز على بلدٍ معيَّن، ثم اعتمادًا على الوقائع التي تخُص ذلك البلد، مثل شخصيةٍ معيَّنة، أو بعض الأحداث الكبرى، واستراتيجيات منظمات وأحزابٍ سياسيةٍ معينة، وطبيعة النظام الانتخابي، وما إلى ذلك. ولا شك في أن هذه العوامل مهمة في تفسير تفصيلات الحالة الجزئية الخاصة، لكن لا نكاد نعترف بالطبيعة النافذة في الاتجاه نحو التعدُّدية الثقافية حتى يبدو واضحًا أن التفسير الرئيسي يكمُن في القوى والديناميكيات الموجودة في كثيرٍ من الديمقراطيات الغربية، وليست عواملَ خاصةً ببلدانٍ معيَّنة. ولا بد أن تكون هناك أسبابٌ كامنة تفسِّر لنا لماذا يتحرَّك مثل هذا العدد الكبير من الديمقراطيات الغربية في اتجاهاتٍ مماثلة، برغم اختلاف أنظمتها الحزبية والانتخابية. لكي نبسط الأمر، نحن في حاجة إلى أن نفسِّر في آنٍ واحد لماذا أصبح هذا الكمُّ الكبير من جماعات الأقليات حازمًا أكثر في مطالباته الحقوقية؟ ولماذا أصبح هذا الكمُّ الكبيرُ من البلاد على استعداد لتقبُّل هذه المطالبات؟
ولستُ أعتقد أن لدينا فهمًا واضحًا لمثل هذه الأسباب الكامنة. لكني سوف أحاوِل في هذا الفصل أن أتعرَّف على العوامل التي جعلَت الاتجاه نحو تكيُّفٍ أعظم مع التنوُّع الثقافي العِرقي ممكنًا، بل ربما ضروريًّا، في الغرب.
وسوف أبدأ بالعامل الأيديولوجي الأكثر أهمية، وعلى وجه التحديد ظهور ثقافة حقوق الإنسان وما نتَج عنها من نقضٍ لشرعية السلطات العِرقية والعنصرية. كما سوف أحاوِل أن أبيِّن أن المُثُل العليا لحقوق الإنسان لم تُساعِد في إلهامِ وتبريرِ قضايا التعدُّدية الثقافية فقط، لكنها أثَّرَت كذلك بقوة في الطريقة التي تشكَّلَت بها هذه القضايا، بتوجيهها وتشذيبها لكي تتوافقَ مع قيم ومعايير حقوق الإنسان الدولية.
وفي ذلك مفارقةٌ واضحة. كما رأينا في الفصل الثاني، عندما بدأ تقنين معايير حقوق الإنسان من قِبل الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كان يُنظر إليها تحديدًا على أنها بديلٌ للنظام الداخلي للحرب فيما يتعلق بحقوق الأقليات، بحيث تجعل الأخيرة غير ضرورية. ولعشرات السنين بعد الحرب العالمية الثانية انتشرَت فكرة أن حقوق الإنسان حلَّت محل حقوق الأقليات. غير أن ثورة حقوق الإنسان أطلقَت مجموعةً من الأفكار المتعلقة بالمساواة العِرقية والعنصرية، ومجموعةً من الحركات السياسية الرافضة للهيراركية العِرقية والعنصرية، ما أدى بصورةٍ طبيعيةٍ إلى الكفاح المعاصر من أجل التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات. وعلى خلاف الأفكار التي سادت في أثناء الحرب عن حماية الأقليات، فإن حقوق الأقليات في هذا الكفاح المعاصر مغزولة بشكلٍ متين بالمُثُل العليا لحقوق الإنسان. لقد أثبت النموذج الناتج عن التعدُّدية الثقافية أنه وعاءٌ جاذبٌ لتحويل العلاقات التاريخية للهيراركية والعداء إلى علاقات مواطنةٍ ديمقراطية.
لكن المثَل الأعلى الأخلاقي الجاذب والقوي، نادرًا ما يكون كافيًا لتكوين إجماعٍ حول إصلاحاتٍ سياسيةٍ محدَّدة، ومن ثَم فسوف أنظر كذلك في بعض المبرِّرات الأكثر فطنةً واستراتيجية، التي جعلَت الجماعات والدول المُسيطِرة على استعداد لدعم أو على الأقل القبول بتبنِّي إصلاحات التعدُّدية الثقافية. وذلك يشمل تغيُّراتٍ في وضع الأمن السياسي الجغرافي في الديمقراطيات الغربية، وتغيُّراتٍ في طبيعة الاقتصاد العالمي.
وليس ثمَّة طريقةٌ لتحديد الوزن الحقيقي للمبرِّرات المبدئية لتبنِّي التعدُّدية الثقافية، إذا ما قُورنَت بالمبرِّرات الأكثر استراتيجية. ولكني أعتقد أن كلًّا منهما في الواقع مارس دورًا حيويًّا في ظهور التعدُّدية الثقافية في الغرب، وأن كلًّا منهما ضروري ومهم لتقييم الآمال من أجل انتشارها حول العالم.
ثورة حقوق الإنسان بوصفها إلهامًا
العامل الأول الذي يحتاج إلى أن ننظر فيه هو ثورة حقوق الإنسان. إن المُثُل العليا لحقوق الإنسان هي ما ألهَم وقيَّد في الوقت نفسه تبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية. والواقع أن الاتجاه نحو التعدُّدية الثقافية الليبرالية لا يُمكِن فهمُه إلا على أنه مرحلةٌ جديدةٌ في العمل التدريجي لتحقيق منطق حقوق الإنسان، لا سيما منطق مساواة البشر، كأفراد وشعوب في آنٍ معًا.
أما فيما يتعلق بالهيراركية العنصرية والعِرقية، ففي استطاعتنا أن نتعرَّف على تسَلسُل لهذه الحركات. كان أولها التحرُّر من الاستعمار من نحو العام ١٩٤٨م وحتى العام ١٩٦٦م، بعض البلدان الغربية التي وقَّعَت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم تكن تعتقد أن التصديق على مبدأ مساواة الشعوب سيتطلب منها التخلي عن مستعمراتها (مثل: فرنسا، وإسبانيا، والبرتغال). غير أن هذا الموقف لم يكن قابلًا للاستمرار، فأصبحَت الرابطة بين المساواة والتحرُّر من الاستعمار واضحةً في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٥١٤ لسنة ١٩٦٠م، بشأن التحرُّر من الاستعمار.
وبالتالي، فقد ألهم نضالُ الأمريكيين الأفارقة من أجل الحقوق المدنية الجماعاتِ الثقافيةَ العِرقية الخاضعة تاريخيًّا في جميع أنحاء العالم أن تتخذ أساليبَها الخاصَّة للكفاح ضد الحضور الباقي للهيراركيات العِرقية والعنصرية. وفي استطاعتنا أن نرى ذلك في الطريقة التي تَبنَّى بها السكان الأصليون مقولة «القوة الحمراء»، أو في الطريقة التي كانت تُطلِق بها الأقليات القومية (مثل الكيوبيكيين في كندا، والكاثوليك في أيرلندا الشمالية) على نفسها اسم «الزنوج البيض» (فالييريز، ١٩٧١م)، أو الطريقة التي تَبنَّى بها المهاجرون الكاريبيون إلى المملكة المتحدة خطابَ واستراتيجياتِ الأمريكيين السود القانونية. ولقد تأثَّرَت جميعُ هذه الحركات بعُمقٍ بالأفكار الأمريكية عن ليبرالية الحقوق المدنية، والتزامها بالدفاع عن المساواة للأقليات المظلومة والموصومة.
ومع ذلك، مع انتشار ليبرالية الحقوق المدنية، كان لا بُد من تبنِّي التحديات الفعلية التي تُواجِه أنواعًا مختلفةً من الأقليات في جميع أنحاء العالم؛ فبالنسبة إلى المنظِّرين الأمريكيين، فقد كان تفسير أفكار مثل «الحقوق المدنية» و«المساواة» من خلال منظور معارضة التفرقة بصفةٍ عامة، ومحاربة التفرِقة العنصرية بصفةٍ خاصة. أما بالنسبة لأغلبية المنظِّرين الأمريكيين فإن نوعية الحقوق التي لا بد لليبرالية الحقوق المدنية من الدفاع عنها هي من ثمَ حقوق المواطنة التي لا تمايُز فيها داخل الدولة المدنية، التي تعلو على الفوارق العِرقية والعنصرية والدينية.
وفي اعتقادي أن النضال من أجل حقوقِ الأقلياتِ المختلفةِ لا بد من فهمِه على أنه تكيُّفٌ محليٌّ مع ليبرالية الحقوق المدنية، وهو بالتالي مرحلةٌ جديدةٌ في الكشف عن ثَورة حقوق الإنسان. وكما أن التحرُّر من الاستعمار ألهَم النضال من أجل إلغاء التفرقة العنصرية، كذلك فإن إلغاء التفرقة العنصرية ألهَم النضال من أجل حقوق الأقليات والتعدُّدية الثقافية. وهذه المرحلة الثالثة ألهمَتها ليبرالية الحقوق المدنية الخاصة بالمرحلة الثانية (وكذلك النضال للتحرُّر من الاستعمار في المرحلة الأولى)، وتشترك معها في الالتزام بالنضال ضد الهيراركية العِرقية والعنصرية، وتسعى إلى تطبيق هذا الالتزام بفاعليةٍ أكثر على النطاق الفعلي للاستبعاد والوصمات والمظالم الموجودة في الديمقراطيات الغربية، قلةٌ من البلدان التي وقَّعَت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، توقَّعَت أن المصادقة على مبدأ المساواة بين الشعوب ستتطلب قبولَ معايير التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات. غير أن هذا الموقف كذلك أصبح غيرَ قابلٍ للاستمرار، وأصبَحَت الرابطة بين المساواة والتعدُّدية الثقافية صريحةً وواضحةً في إعلان الأمم المتحدة في العام ١٩٩٢م لحقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية أو عِرقية أو دينية أو لغوية.
في كل تلك المراحل الثلاث من النضال ضد الهيراركية العِرقية والعنصرية، لم تكن للتغيير في القانون الدولي ذي التأثير الضئيل في حياة معظم الناس اليومية أهميةٌ في حد ذاته. إن التغيُّر الحقيقي هو ما حدَث في وعي الناس؛ حيث يُطالِب أعضاءُ الجماعاتِ الثانويةِ الخاضعة تاريخيًّا اليوم بالمساواة، يطالبون بها بوصفها حقًّا لهم؛ فهم يعتقدون أنهم يستحقون المساواة، وأنهم يستحقونها الآن، وليس في مستقبلٍ بعيدٍ غيرِ منظور.
ثورة حقوق الإنسان بوصفها قيدًا
وثورة حقوق الإنسان مهمة من ناحيةٍ أخرى؛ فهي تقيِّد، كما أنها تُلهِم السعي إلى التعدُّدية الثقافية، ووظيفة التقييد تلك تُساعِد في تفسير السبب الذي جعل الدول والجماعات المُسيطِرة على استعدادٍ أكثر لقَبول قضايا ومطالبِ الأقلية؛ إذ ليس من المتوقَّع أن تقبَل الدول الأشكالَ القويةَ من حقوق الأقلية، ما دامت تخشى أن يؤدي هذا القَبول إلى جُزر من الطغيانِ المحليِّ داخل حدود الدولة الديمقراطية؛ فاحتمال ظفَر إصلاحات التعدُّدية الثقافية بدعمٍ شعبيٍّ يعتمد — بشكلٍ قوي — على الثقة بأن هذه الإصلاحات لن تُعرِّض حقوق الإنسان والقيم الليبرالية الديمقراطية للخطر، من هنا كانت لثورة لحقوق الإنسانية وظيفتان؛ فلو كانت ساعدَت في إلهام الأقليات للدفع بالتعدُّدية الثقافية، فمن الصواب — كذلك — أن نقول إن ثورة حقوق الإنسان حدَّدَت الطريقة التي صاغت بها الأقلياتُ حقوقَها. والواقع أن ثورةَ حقوق الإنسان سلاحٌ ذو حدَّين؛ فهي من ناحيةٍ خلقَت مساحةً سياسيةً للجماعات العِرقية الثقافية لمعارضة الهيراركيات الموروثة. لكنها من ناحيةٍ أخرى تُلزِم الجماعاتِ بأن تطرح قضاياها بلغةٍ محدَّدةٍ جدًّا، هي لغةُ حقوق الإنسان، ليبرالية الحقوق المدنية، والدستورية الديمقراطية، مع ضمان المساواة بين الجنسَين، والحرية الدينية، وعدم التفرقة العنصرية، وحقوق المثليين، وما إلى ذلك. وفي استطاعة قادة الأقليات أن يلجئوا إلى المُثُل العليا للتعدُّدية الثقافية الليبرالية لتحدِّي استبعادهم التاريخي، وتبعيَّتهم التاريخية، غير أن هذه المُثُل ذاتها تفرضُ عليهم واجبًا هو العدل، والتسامُح والاشتمال.
وبالطبع، فحقيقة أن جماعات الأقلية تطرح قضاياها بلغة حقوق الإنسان والدستورية الليبرالية لا تكفي وحدها لتوليد الثقة بأن هذه القيم سوف يُتمسَّك بها، وربما يكون استخدام هذه اللغة مجرد طريقةٍ استراتيجيةٍ يجري تبنِّيها فقط للاستهلاك العام؛ فربما أراد القادة التقليديون لجماعة الأقلية أن يُعارِضوا تبعيَّتَهم للجماعة المُسيطِرة، في حين يبقى لديهم الأمل أن يظلوا محتفظين بسيطرتهِم على النساء، والأقلياتِ الدينية، والمهاجرين، وجماعاتِ الطوائف الدنيا.
- (١)
وجود آليةٍ قانونيةٍ قويةٍ لحماية حقوق الإنسان.
- (٢)
وجود إجماعٍ على القيم الديمقراطية الليبرالية يخترق الخطوط العِرقية.
وإذا ذكرنا ذلك بطريقةٍ مبسَّطة، قلنا إنه ليس ثمَّة مجالٌ قانوني للأقليات لكي يتخلَّوا عن معايير حقوق الإنسان باسم التعدُّدية الثقافية، وبالنسبة إلى معظم الأقليات، ليس ثمَّة رغبة في أن يفعلوا ذلك.
هذا الدَّور المزدوج لحقوق الإنسان — كعامل إلهام وعامل مقيد في آن معًا — كان محوريًّا لتمكين قَبول وتبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية؛ فقد جعل قضايا الأقليات المظلومة تاريخيًّا مشروعة، مع ذلك أكَّد لأعضاء الجماعة المُسيطِرة أنه بغَض النظر عن الطريقة التي يُحلُّ بها الجدَل حول حقوق الأقليات، فإن حقوق الإنسان الأساسية ستبقى مصونة.
وبهذه الطريقة يمكن أن نفهم التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب بوصفها عمليةً في اتجاه «المواطنة»، برطانة علم الاجتماع. ومن الناحية التاريخية فإن التنوُّع الثقافي العِرقي والديني قد اتسم بعددٍ من الروابط غير الديمقراطية وغير الليبرالية — بما في ذلك علاقات القاهر والمقهور والمستعمِر والمستعمَر، والمستوطنين والسكان الأصليين، والعنصريين وغير العنصريين، والمنحرفين والطبيعيين (أسوياء)، والحلفاء والأعداء، والمتمدينين والمتخلفين، والسادة والعبيد. وتمثَّلَت مهمة جميع الديمقراطيات الليبرالية في تحويل هذه القائمة من العلاقات غير المتحضرة إلى علاقاتٍ خاصة بالمواطنة الديمقراطية الليبرالية، بالنسبة إلى العلاقات الرأسية بين أعضاء الأقليات والدولة، وكذلك العلاقات الأفقية بين أعضاء الجماعات المختلفة.
وفي رأيي أن قَبول التعدُّدية الثقافية في الغرب وجاذبيتها كنموذجٍ يمكن أن ينتشر في العالم، يرتبط ارتباطًا أساسيًّا بعملية المواطنة هذه. والفكرة التي تقول إن التعدُّدية الثقافية يُمكِن أن تخدم كوعاءٍ فعَّال لخلق وتقوية علاقات المواطنة الديمقراطية الليبرالية في الدول المتعدِّدة العِرقيات هي موضعُ نزاع. والواقع أن معظم الشُّرَّاح الذين كتبوا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانوا سيرفضون هذه الفكرة، خشية أن تؤدي — ببساطة — إلى توليد علاقات العداء أو الهيراركية. ولكن لدينا الآن أربعون سنةً من الخبرة في الغرب، مع نماذجَ متعدِّدة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية. وعلى نحو ما سوف أناقِش الموضوع في الفصل القادم، فإن هناك شواهدَ متناميةً على أن هذه النماذج يُمكِنها — في الواقع — القيام بهذه الوظيفة.
التعدُّدية الثقافية والتحرُّر
يجب ألا يكون التفسير الذي قدَّمتُه حتى الآن مفاجئًا؛ إن مضمون ما قلتُه هو أن الديمقراطية في الغرب تبنَّت تصوُّرًا ديمقراطيًّا ليبراليًّا للتعدُّدية الثقافية، ومن المؤكَّد أن ذلك هو ما يتوقَّعه المرء، مما يحجُب أي دليلٍ واضحٍ على العكس. ومما تجدُر ملاحظتُه أن قلةً من المعلِّقين كانوا على استعدادٍ لتأمل إمكان أن تكون التعدُّدية الثقافية ظاهرةً ديمقراطيةً ليبرالية، ومقدار الطاقة الذهنية التي بُذلَت للعثور على أو ابتكار أي عددٍ من التفسيرات البديلة للأسس العقلية والدوافع الأخلاقية من ورائها.
وكما لاحظتُ من قبلُ، فقد ذهب بعض المعلقين إلى أن فكرة التعدُّدية الثقافية نفسها تُعارِض منطق الديمقراطية الليبرالية، وأن التحوُّل نحو الاعتراف بحقوق الجماعات المختلفة يمثِّل ردَّ فعل ضد التحرُّر وحقوق الإنسان. ومن هذا المنظور، فإن المرحلتَين الأوليَين من صراع ما بعد الحرب الهيراركية العِرقية والعنصرية — التحرر من الاستعمار وإلغاء التفرقة العنصرية — قد أُلهِمتا بليبرالية عصر التنوير، غير أن المرحلة الثالثة تمثِّل انحرافًا، وردَّ فعلٍ ضد ليبرالية الحقوق المدنية.
ولقد اختلَف المعلقون حول الطبيعة الدقيقة لهذا الانحراف، فالواقع أن الكتابات الأكاديمية حافلةٌ بالنظريات الخيالية المختلفة حول كيف وأين انطلقَت التعدُّدية الثقافية من التراث الليبرالي، فذهب بعضُهم إلى أن التعدُّدية الثقافية قامت على ردِّ فعلٍ ثقافي نسبي ضد الليبرالية، تضرب بجذورها في الرومانسية الألمانية في القرن التاسعَ عشَر، ويرى فينكيلكروت، على سبيل المثال، أن المرحلتَين الأوليَين قد تم تصوُّرهما تحت رعاية ديدرو وفولتير أو كوندروسيه، في حين أن المرحلة الثالثة قادتها شوفينية هيردر وشبنغلر وتفكيرهما النسبي (فينكيلكروت، ١٩٨٨م، ص٥٤ وص٦٤). بينما ذهب آخرون إلى أن التعدُّدية الثقافية تقوم على رفض ما بعد الحداثة والتفكيكية لليبرالية، هو رفض يضرب بجذوره في المذهب الشكي عند نيتشه. ويرى ريتشارد كابوتو، على سبيل المثال «أن أنصار التعدُّدية الثقافية اتجهوا إلى قبول رفض نيتشه للعقلانية مع فكرتها عن الحقيقة الكلية والعدالة الشاملة» (كابوتو، ٢٠٠١م، ص١٦٤).
وعلى حين أن هذه التأويلات مألوفة في الكتابات الأكاديمية فإنني، ببساطة، لا أعتقد أن هناك دليلًا عليها يُمكِن تصديقُه، على الأقل داخل الديمقراطيات الغربية، لقد قرأتُ حرفيًّا المئات من البحوث والوثائق السياسية التي كتبها مشاركون مختلفون في شبكات السياسة حول التعدُّدية الثقافية — والحكومات، وجماعات الدفاع المحترِفة، والمنظمات الخيرية — وكذلك القوانين الناتجة عن ذلك وقضايا المحاكم، ولم أجد مناقشةً واحدةً تُعبِّر عن أي تعاطُف مع شبنغلر أو نيتشه صراحةً أو ضمنًا.
وعلى ذلك ففي استطاعتنا أن نجد في المناقشات العامة تفسيرًا آخر للطريقة التي تشعَّبَت بها التعدُّدية الثقافية عن الليبرالية؛ فقد قيل إن التعدُّدية الثقافية تدور حول «الثقافة»، والثقافة (على الأقل في سياق الجماعات العِرقية) تدور أساسًا حول «التراث» الموروث عن الأجداد؛ ولذلك فإن التكيُّف مع التنوُّع الثقافي هو أساسًا ضربٌ من المحافظة على «طُرق الحياة الموروثة». ويُمكِن تطوير تلك الفكرة الأساسية بطرقٍ شتَّى. ويذهب أحد الأشكال المألوفة إلى أنه على حين أن بعضَ درجاتِ التغيُّر الثقافي لا مندوحة عنها، فهناك ممارساتٌ معيَّنة حيوية ﻟ «أصالة» أو «استقامة» الثقافة، التي تنبغي حمايتُها من التغيُّر. ولقد قيل إن هذه الممارسات «الأصلية» أساسيةٌ لهُوية الجماعة؛ ومن ثَم فهي أساسية لهُوية أعضائها من الأفراد. ويُعتقد أن هذه الرابطة بين الثقافة والهُوية تكون قويةً بصفةٍ خاصة إذا ما كانت الممارسة الثقافية «تقليدية» — أي مغروسة بعمق في تاريخ الشعب، وليست فقط نتيجة لتبنٍّ حديث، أو مؤثِّراتٍ خارجية. ومن هذا المنظور، فإن الحقوق الثقافية وسياسات الاشتمال الثقافي تبدو أنها تستهدف أولًا وحصريًّا حمايةَ مثلِ هذه الممارسات الثقافية الأصلية من ضغوط التغيير.
من هذا المنظور، تُؤَوَّل قضايا التعدُّدية الثقافية من خلال مجموعة من الأفكار التي ترتبط بالأصالة الثقافية وهُوية الجماعة، وتُفسَّر «الثقافة» عادةً من خلال مجموعةٍ من الممارسات المُنفصِلة، وتُفضَّل الممارساتُ «التقليدية» و«الأصيلة»، ويُقال إن هذه الممارساتِ أساسيةٌ لهُوية الجماعة، ومن ثَم لهُوية الأعضاء الأفراد؛ وبالتالي لا بد من التكيُّفِ معها وحمايتِها عن طريق سياسات التعدُّدية الثقافية.
وهكذا يتباين التصوُّر الليبرالي للتعدُّدية الثقافية مع التصوُّر التقليدي؛ فلكلٍّ منهما أهدافٌ ومبرِّراتٌ مختلفة.
- (١) يفترض التصوُّر التقليدي أن الممارسات التقليدية التي تعترف بها الدولة «أزلية» و«أصلية» في الواقع، وقد أوضحَت الدراسات مرارًا أن ما تُسمى الممارسات التقليدية هي حديثةٌ إلى حدٍّ ما، وكثيرًا ما تكون هي نفسُها نتاجَ تغيُّراتٍ ثقافيةٍ متبادَلةٍ مبكِّرة، بل إنها في بعض الأحيان «مختلَقة» من «الصفوة» لجعل موقفِها مشروعًا.١٣ وهكذا نجد أن أفكار «الأصالة الثقافية» أو «النقاء الثقافي» كثيرًا ما تكون ساذجةً من الناحية الأنثروبولوجية، كما أنها خطرةٌ أيضًا من الناحية السياسية؛ فهي تعني أن هناك شيئًا شاذًّا غير مألوف وغير مقبول بصدَد التطوُّر الثقافي والمؤثِّرات بين الثقافات، بينما هي تغيُّراتٌ ومؤثِّراتٌ عاديةٌ وضروريةٌ وأساسيةٌ لمسار التطوُّر الإنساني. إن الحالةَ العاديةَ للنشاطِ الإنسانيِّ هي التي يكونُ فيها تهجينٌ ثقافي، وليس نقاءً ثقافيًّا، ولا يُمكِن الإبقاءُ على أوهام النقاء الثقافي إلا عن طريق الجماعات بطريقةٍ مصطنَعة من التفاعُل مع العالَم الأكبر، وعن طريق غَرس الخوفِ الرُّهابي من الآخرين (انظر: ولدرون، العام ١٩٩٥م. وكوان وآخرين، ٢٠٠١م).١٤
- (٢)
يزعم التصوُّر التقليدي أن هناك طريقًا موضوعيًّا أو طريقًا محايدًا لتحديد أي ممارسات الجماعة تكونُ «أصيلة». والواقع أن هذه مسألة محل نزاعٍ سياسي داخل الجماعة ذاتها. وكثيرًا ما تكون الصفوة المحافِظة داخل الجماعة هي التي تدَّعي أن لها سلطةَ التفرقة بين ما هو تقليدي وما هو أصيل، وهي بذلك تَكبِت وتقمَع مطالب التغيير التي يُنادِي بها المصلحون داخل الجماعة؛ فالممارَسات التي قد تكون من الناحية التاريخية متغيرة، ومتطورة ومتنازعًا عليها، واختيارية وضرورية للانتماء إلى الجماعة، فقد أعلنَت الصفوة المحافِظة أنها «مقدَّسة»، وأنها مسألةٌ خاصةٌ بالالتزام الديني أو الثقافي. إن تفسير التعدُّدية الثقافية على أنها حمايةُ الممارسات التقليدية أو الأصيلة، كان له تأثيرٌ مُجزٍ للصفوة المحافظة؛ فقد أعطى السلطة لأولئك الذين زعَموا أنهم حُرَّاس التقاليد القديمة، ما يعني أن أولئك الذين يرغبون في تحدِّي هذه التقاليد لن يكونوا أعضاءً حقيقيين أو مناسبين في الجماعة (باريل، ٢٠٠٠م). وبهذا المعنى فإن التفسير المحافِظ للتعدُّدية الثقافية قد يُوصَف بدقةٍ أكثر، لا لكونه مانحًا للحقوق الثقافية للشعب، بل كفارضٍ للواجبات الثقافية — أي واجب المرء للمحافظة على ثقافته، سواء أكان المرء يرغب في ذلك أم لا — ومن ثَم كتضييقٍ وليس توسيعًا لحرية الفرد.
- (٣) دعوى أنصار التراث بأن هناك حقًّا للمرء في محافظته على تراثه، فسَّرها البعض — أكثرهم شهرةً الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا (AAA)١٥ — بأنها تحُول دونَ فكرةِ عالميةِ حقوقِ الإنسان نفسها؛ إذ وَفقًا للتقرير الذي أرسلَته الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا إلى الأمم المتحدة في العام ١٩٤٧م، فإن هُويات الناس وشخصياتهم إنما تُدرَك من خلال ثقافاتهم، وعليه فلكُل فردٍ الحقُّ في أن يعيش وفقًا لتقاليده الخاصة، وهذا يعني أن فكرةَ الحكم على الثقافاتِ المحلية بواسطة معاييرَ عالميةٍ لحقوق الإنسان هي فكرةٌ غيرُ صحيحة (١٩٤٧م، AAA). وأخيرًا جدًّا صَرَف علماء الأنثروبولوجيا النظَر عن هذه النظرة الموغِلة في النسبية، وحاولوا التوفيقَ بين تدعيمِ الحقِّ في المحافظة على الثقافة مع تدعيمِ حقوقِ الإنسان العالمية.١٦ أما علماء الأنثروبولوجيا في يومنا الراهن فهم يميلون أكثر إلى قبول إمكان القول بأن بعضَ العادات الثقافية ظالمة، وأن حقوقَ الإنسان العالمية يُمكِن أن تُساعِد في رفع هذا الظلم. وعلى ذلك فنحن نجد علماء الأنثروبولوجيا يتحدَّثون عن «توازُن» الحقوقِ الإنسانية مع حقِّ المحافظة على الثقافة. غير أن ذلك لا يزال موقفًا خطرًا لو كان يعني ضرورة التضحية بحماية الحقوق الإنسانية أو المساومة عليها، ولكن ليس كثيرًا من أجل احتواءِ الممارساتِ التي تنتهكُ تلك المعايير.
- (٤) أما زعم أنصار التراث بأن احترامَ التراث الثقافي أساسي لاحترامِ هُوية المرء فهو يُستدعى ﮐ «البوق» لتجنُّب النقاش الديمقراطي، والقول إن ممارسةً ثقافيةً محدَّدة هي جزءٌ من «هُويتي» أحيانًا ما تكون طريقةً لدعوة الآخرين إلى دراسة ومناقشة قيمتها ومغزاها. غير أن هذا الزعمَ في سياقاتٍ أخرى، يُستدعَى كطريقةٍ لمنع هذا النقاش، بالتلميح إلى أن أي تساؤلٍ عن هذه الممارسة سوف يُفسَّر على أنه علامة على عدم احترامي كشخص. حيث تُقدَّم مزاعمُ الهُوية بهذه الطريقة، على أنها أبواقٌ غيرُ قابلة للتفاوض، تكون النتيجة هي تقليص إمكان الحوار الديمقراطي. وفي الدول المتعدِّدة العِرقيات حيث يكونُ هناك تراثٌ ثقافيٌّ متنوِّع وأحيانًا متنافس، فإننا نكون بحاجة إلى طريقةٍ للحديث عن ممارساتنا على نحوٍ متحضِّر، لمناقشة فوائدِها وتكلفتِها، وللتفكير في المصالحات العادلة والمشرِّفة عندما تتعارض هذه الممارسات.١٧
وباختصار، فإن تفسير التعدُّدية الثقافية على أنها الحقُّ في المحافظة على التراث الثقافي الأصيل يُثير عدة أخطارٍ كامنة؛ فهو قد يَكبِت علاقاتٍ بنَّاءة بين الثقافات (بأن يرفع من شأن النقاء الثقافي على التهجين الثقافي)، وقد يعمل على الحد من حرية الأفراد داخل الجماعات (بأن يرفع من شأن الصفوة المحافظة على المُصلِحين الداخليين)، كما يُمكِن استدعاؤها لإنكار وجود حقوق الإنسان العالمية، وقد تهدِّد مساحة النقاش المدني والتفاوض الديمقراطي حول الصراعات الثقافية.
تسليمًا بالاختلافات العميقة بين التأويلات الليبرالية والمُحافِظة للتعدُّدية الثقافية، فمن المهم تحديد أي من هذَين الاتجاهين يَدعَم في الواقع التحوُّلات الحديثة نحو التعدُّدية الثقافية في الغرب. في استطاعة المرء أن يجد أصداءً لكلٍّ من النظريتَين في المناقشات العامة، لكن أيهما يُمِدُّنا بإطار عمل سياسات التعدُّدية الثقافية المعاصرة؟
ولو أننا نظرنا إلى المسار الفعلي الذي تم من خلاله تبنِّي التعدُّدية الثقافية، لوجدنا صورةً مختلفة. والواقع أن كل المشاركين في تبنِّي إصلاحات التعدُّدية الثقافية في الغرب — من ناشطين سياسيين ومنظَّمات المجتمع المدني حرَّكَت هذه الإصلاحات، إلى القطاع العام الذي يدعَمها، إلى المشرِّعين الذين تبنَّوا هذه الإصلاحات، إلى الموظَّفين الذين كتبوا مسوَّدتَها وطبَّقوها، إلى القضاة الذين فسَّروها — استلهَموا المُثُل العليا لحقوق الإنسان وليبرالية الحقوق المدنية. ولقد رأى هؤلاء الممثِّلون إصلاحات التعدُّدية الثقافية كجزء من مسارٍ أوسعَ للتحرُّر السياسي والاجتماعي، وغُرسَت هذه الإصلاحات بشكلٍ قانونيٍّ ومؤسساتيٍّ داخل إطار عملٍ للحقوق الليبرالية.
وللتأكُّد من ذلك، فإن الموجةَ المعاصرةَ لإصلاحات التعدُّدية الثقافية التي نشأَت أصلًا من ثورة حقوق الإنسان لا تُخبِرنا حتى الآن شيئًا عن نتائجها الفعلية، بما في ذلك النتائج غير المقصودة. وبمجرد أن تُوضَع بِنى السياسة للتعدُّدية الثقافية في مكانها، تبدأ الصفوة المُحافِظة غير الليبرالية أو أصحاب السلطة داخل المجتمعات المختلفة في محاولة السيطرة عليها، أو على الأقل التأثير في تطبيقها واتجاهها. وهذه ظاهرةٌ عامة فبمجرد أن تُصبِح السلطات الجديدة أو المصادر الجديدة متاحة، يظهَر التنافس لا محالةَ للسيطرة عليها؛ فعلى سبيل المثال، بمجرد أن تُصبِح الصناديق المالية للتعدُّدية الثقافية متاحة، وتنشأ اللجان الاستشارية، تسعى الصفوة المُحافِظة داخل الجماعات المهاجرة إلى الوصول إليها. وبمجرد أن تنشأ مؤسَّسَات الحكم الذاتي للسكان الأصليين أو جماعات القوميات الثانوية، يسعى المُحافِظون إلى استخدام هذه القوى الجديدة لحماية سلطتهم التقليدية. وهذا النوع من النزاع السياسي لا مندوحةَ عنه. والواقع أن عدم حدوثه ينتهك كل قانونٍ معروف في العلوم السياسية، بل من الممكن أن تكون سياسات التعدُّد الثقافي قد استُخدمَت دون قصد لتقوية أيادي الصفوة المُحافِظة ضد قوى الإصلاح الليبرالي داخل المجتمعات المختلفة.
إذن فالسؤال المهم الذي نحن في حاجة إلى أن نطرحه هو: إلى أي حدٍّ نجحَت الصفوة المحافظة أو السلطوية في الاستيلاء على هذه السياسات؟ وما طرقُ الوقاية الموجودة لتأمين حماية الأهداف والمُثُل العليا التحرُّرية الأصلية من الدمار؟ وسوف أعودُ إلى هذا السؤال في الفصل القادم عندما أناقِش كيفيةَ تقييم العملية الفعلية لسياسات التعدُّدية الثقافية واحتمالاتها المستقبلية.
لكن ما أركِّز عليه في هذا الفصل هو أصول سياسات التعدُّدية الثقافية، المبادئ المعيارية والائتلافات السياسية التي دعمَت تبنِّيها. وهنا لا بد لي أن أُصِر على أن الممثِّلين المشترِكين في تبنِّي التعدُّدية الثقافية في الديمقراطيات الغربية يرَونَ أنفسهم تعبيرًا وامتدادًا لثورة حقوق الإنسان، وليسوا ردَّ فعلٍ ضدها.
ومن الواضح أن ذلك تعميمٌ كاسح، وسيحتاج إلى اختبار حالةٍ بعد حالةٍ بالنسبة إلى جميع أنواع سياسات التعدُّدية الثقافية المُتنوِّعة والمُتبنَّاة للجماعات المختلفة في مختلف البلدان. لكن كخطوةٍ أولى، دعوني أركِّز على الحالة الكندية؛ حيث الارتباط بين التحرُّر والتعدُّدية الثقافية واضح بصفةٍ خاصة.
لنتأمل أسس الدعم السياسي للتعدُّدية الثقافية في كندا. لو أن التعدُّدية الثقافية عكسَت ردَّ فعلٍ ضد التحرُّرية، فلا بد لنا أن نتوقع أن نرى معسكرَين سياسيَّين يتنافسان؛ المعسكر الليبرالي لصالح الإصلاحات الليبرالية في مسائل المساواة الجنسية والإجهاض والطلاق وحقوق الشواذ، لتحرير الأفراد، ثم هناك المعسكر الثاني المُحافِظ الذي يقف في صالح التعدُّدية الثقافية المهاجرة، وحقوق السكان الأصليين، والاستقلال الذاتي للكيوبك، حتى يُمكِن حماية هذه المجتمعات من الإصلاحات التحرُّرية. والواقع أن الموقف في كندا هو العكس تمامًا.
لم يكن هناك (ولا تُوجَد الآن) أي درجةٍ ذاتِ مغزًى للدعم العام لأيٍّ من أشكال التعدُّدية الثقافية هذه بين المحافظين الثقافيين.
وبالطبع إن خسارة معركة منع هذه السياسات، لا تعني ببساطة اختفاء المحافظين البطريركيين؛ فهم يعملون على تجميع قُواهم لإيجاد طريقةٍ يستطيعون من خلالها استغلالَ الفرص التي أتاحتها لهم هذه السياسات؛ فالبروتستانتيون المحافظون في كندا، على سبيل المثال، الذين قاتلوا في البداية بضراوة لمنع التعدُّدية الثقافية في المدارس العامة لأنها تسلبُ المسيحيةَ وضعَها الممتاز، نجدهم الآن يُعيدون تجميعَ قُواهم، ليرَوا ما إذا كان في استطاعتهم أن يَلجَئوا إلى التعدُّدية الثقافية لاستعادةِ بعضٍ من المميزات المفقودة (ديفيز، ١٩٩٩م). غير أن هذا اللجوء الاستراتيجي إلى التعدُّدية الثقافية لا بد أن نميِّزه عن الدعم الخاص لتبنِّي السياسة، التي يُعارِضها المحافظون البطريركيون بقوة.
ولدينا من ناحيةٍ أخرى الجناحُ الليبراليُّ بين عامة الناس في كندا، الذي أصبح على نحوٍ متزايدٍ مؤيدًا للمساواة، ومعاديًا للسلطوية ومؤمنًا بالفردية. وكما هو متوقَّع، فهم يؤيِّدون بقوةٍ المساواةَ بين الجنسَين، وحقوقَ الشواذ، ولكنهم يتقبَّلون بشكلٍ مماثلٍ سياساتِ التعدُّدية الثقافية، ويرَونَ في مجموعتَي الإصلاح تعبيرًا عن منطقٍ واحدٍ لليبرالية الحقوق المدنية.
ولذا فإن كلًّا من المعسكرَين عَمِل على افتراض أن التعدُّدية الثقافية هي جزءٌ متكامل وقسمٌ من عمليةٍ أكبر للتحرُّر — برغم أنها تختلف بالطبع في الطريقة التي تقيم بها هذه العملية الكبرى — والتغيُّرات التي تدعَم سياسات التعدُّدية الثقافية عَبْر الزمن تقتفي أثر التغيُّرات التي تدعَم قيم المساواة الليبرالية بشكلٍ عامٍّ (داسكو، ٢٠٠٥م).
ويُمكِن أن تتأكد الرابطة بين سياسات التحرُّر والتعدُّدية الثقافية بفحص الطريقة التي كُتبَت بها هذه السياسات قانونيًّا والطريقة التي فُرضَت بها قضائيًّا، وأحد الأشياء المُذهِلة بالنسبة إلى هذه السياسات هو كيف أنها ترتبطُ بطريقةٍ متينةٍ وصريحةٍ بالمعاييرِ الأوسعِ لحقوق الإنسان والدستورية الليبرالية، مفاهيميًّا ومؤسساتيًّا.
والواقع أنه تم توضيح هذه النقطة في البيان البرلماني الأصلي للعام ١٩٧١م حول التعدُّدية الثقافية في كندا، الذي أعلن أن «سياسة التعدُّدية الثقافية داخل إطار عملٍ ثنائي اللغة هي أساسًا الدعمُ الواعي لحرية الاختيار عند الفرد؛ فنحن أحرارٌ في أن نكون أنفسنا» (ترودو، ١٩٧١م، ٨٥٤٦).
ولقد كانت هذه الصيغ تستهدفُ إرشادًا للممثلين السياسيين ذوي العلاقة من ناشطي الأقليات ومن الموظَّفين إلى القضاة، أن التعدُّدية الثقافية لا بد أن تُفهَم على أنها سياسةٌ تستلهم المعايير الليبرالية. لم يُترك ذلك للمصادفة، أو لنية الممثلين السياسيين الحسنة. ولقد وُضِع قانونُ التعدُّدية الثقافية في إطار عمل المؤسَّسات الدستورية الديمقراطية الليبرالية؛ ومن ثَم فهو يخضع من الناحية القانونية لنفس القيود الدستورية لأي سياسةٍ فدراليةٍ أخرى. وأي عملٍ فدراليٍّ يُتخَذ باسم التعدُّدية الثقافية لا بد أن يحترم الوثيقة الكندية للحقوق والحريات، على نحوِ ما فسَّرَتها وأقرَّتها الهيئاتُ القضائية مثل لجنة حقوق الإنسان الكندية وكذلك المحكمة العليا.
وهذا بالطبع مجرد مثال من أحد البلاد، وربما كانت هناك جوانبُ أخرى من المنظور الكندي لا وجود لها في الديمقراطيات الغربية الأخرى. ومع ذلك فإنها حالةٌ مهمةٌ علينا أن نتدبَّرها؛ حيث إن كندا كانت أول بلدٍ يتبنَّى سياسة التعدُّدية الثقافية الرسمية، ولعبَت نتيجةً لذلك دورًا مهمًّا في تشكيل المفاهيم العالمية لما تكون عليه التعدُّدية الثقافية. وكما لاحظَت «ياسمين أبو لبن» فإن كندا يُنظر إليها في جميع أنحاء العالم على أنها البلد الذي تُوجَد فيه التعدُّدية الثقافية (أبو لبن، ٢٠٠٢م، ص٤٦٠) — حيث تُمارَس التعدُّدية الثقافية ممارسةً جيدة، وليست مجرد ممارسةٍ خطابية — وكثيرًا ما تُدرَّس الصيغُ الكندية على أنها نماذجُ أولية. فمثلًا الطريقة التي ترتبط بها التعدُّدية الثقافية بحقوق الإنسان في ديباجة قانون التعدُّدية الثقافية الكندية، استُنسخَت بطريقةٍ جوهريةٍ في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الأقليات في العام ١٩٩٢م — ففيهما معًا إصرارٌ على أن حقوق الأقليات قد تأسَّسَت على أساسِ معاييرِ حقوق الإنسان، وعلى ذلك ينبغي تفسيرُها على أنها امتدادٌ إضافي وتحقيق لهذه المعايير.
ومن الممكن أن نجد هذا النموذج الأساسي نفسه في ديمقراطياتٍ غربيةٍ أخرى تحرَّكَت في اتجاه منظور أكثر ميلًا إلى التعدُّدية الثقافية. والتعدُّدية الثقافية، بصفةٍ عامة، تبنَّتها الأحزابُ الديمقراطية الاجتماعية أو اليسار الليبرالي والائتلافات التي صادقَت على التحرُّر بشكلٍ عام، وقد كُتبَت مسوَّداتُ السياساتِ الناتجةِ بطريقةٍ أظهرَت بوضوحٍ أن أساسها يضربُ بجذوره في معايير حقوق الإنسان.
ومن المؤكَّد أن الثقة العامة في هذا «التوقُّع الليبرالي» تتفاوت عَبْر الزمن وعَبْر المجتمعات، وكانت هناك أوقاتٌ وأماكنُ تشكَّك فيها الناسُ في أن التعدُّدية الثقافية يمكن أن تضربَ بجذورها في الدستورية الليبرالية-الديمقراطية ومعايير حقوق الإنسان. وكما سنرى فإن هذا الشك يُساعِد في تفسيرِ بعضٍ من الاعتراضات القوية ضد التعدُّدية الثقافية التي ظهَرَت حديثًا، وبعضِ حالات «التراجع عن التعدُّدية الثقافية».
غير أن هذه الحالات تؤكِّد النقطةَ الأساسية، وهي أنه حيثما تم تبنِّي التعدُّدية الثقافية وتطبيقُها في الغرب، فإنها تكون نموذجًا ليبراليًّا للتعدُّدية الثقافية، يُدعَم باعتباره على اتساقٍ مع المُثُل العليا لحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية الليبرالية ومعززًا لها. وحيثما لا تُدرَك تلك الرابطة، سواء في علاقتها بالتعدُّدية الثقافية بصفةٍ عامةٍ أو في علاقتها بقضايا جماعة أقلية معيَّنة، فإن الدعم العام للتعدُّدية للثقافية ينخفض.
وباختصار، نحن نرى مستوياتٍ متأرجحةً من الإيمان العام بالتعدُّدية الثقافية الليبرالية عَبْر الغرب. لكن ما لا نراه، هو أي نوعٍ آخر من التعدُّدية الثقافية غير الليبرالية، سواء ضربَت بجذورها في محافظة «هيردر» الثقافية أو ما بعد حداثة «نيتشه»؛ فتعدُّدية نيتشه وهيردر موجودةٌ في الجامعات، لا سيما في بعض الأقسام الإنسانية، لكن ذلك ليس هو نوع التعدُّدية الثقافية التي شكَّلَت السياسة العامة في الغرب. إن التعدُّدية الثقافية الموجودة حقًّا في الغرب هي التعدُّدية الليبرالية.
عود إلى السياسة
الرواية التي ذكرتُها حتى الآن عن نشأة التعدُّدية الثقافية الليبرالية بوصفها إحدى مراحل تطوُّر حقوق الإنسان هي جزءٌ مهم من القصة ولكنه ليس كل القصة؛ فلقد بدأتُ بها لأن هذا الاتجاه لا يُمكِن تفسيرُه من دون فهمٍ لهذه الروابط. وعلى سبيل المثال، فإن «براين باري» بدأ نقدَه المؤثِّر للتعدُّدية الثقافية بقوله إنه أُصِيبَ بالحيرة من تبنِّي سياسات التعدُّدية الثقافية في الغرب (باري، ٢٠٠١م). ومن السهل أن نفهم حَيْرتَه، ما دام قد بدأ من افتراضِ أن هذه السياسات تضرب بجذورها في الرفض النسبي لليبرالية، وسوف يكون حقًّا من الصعب أن تفهم سبب تخلِّي الديمقراطيات الغربية الليبرالية عن قيمها وقواعدها الدستورية لكي تتبنَّى مثل هذه السياسات، أو كيف يُمكِن لهذه السياسات أن تنبثقَ من العملية السياسية. ولكن، لو كنا على استعدادٍ لتأمُّل إمكان تعدُّديةٍ ثقافيةٍ تضرب بجذورها في حقوق الإنسان، وأننا إذا ما نظرنا إلى الروابط القانونية، والسياسية بين الاثنَين، فإن نشأة التعدُّدية الثقافية الليبرالية تصبح مفهومةً أكثر.
وباختصار، فإن حكاية مصير السياسات العِرقية في الغرب، أو القصة التي رويتُها حتى الآن تخلو إلى حدٍّ غريبٍ من السياسات الواقعية. والمنطق المعياري خلف قضايا التعدُّدية الثقافية مهم، لكننا بحاجة إلى روايةٍ أكثَرَ ثراءً عن الطريقة التي انتشَرَت بها هذه القضايا، وعن النزاعِ والمفاوضاتِ في سياسات العالم الواقعي المُضطرِبة في الديمقراطيات الغربية المعاصرة.
لكننا نستطيع مع ذلك أن نسوقَ بعضَ الملاحظات العامة عن بعض العوامل السياسية التي دعمَت التوجُّه نحو التعدُّدية الثقافية؛ إما عن طريق تسهيل التحريك السياسي لجماعات الأقلية، وإما بتقليل المعارضة السياسية لقضاياهم.
الشرط الأول الذي مكَّن الحَراكَ الفعَّال للأقليات هو، بالطبع، الديمقراطية نفسها؛ فالديمقراطية وثيقةُ الصلة بالموضوع لعدة أسباب؛ ففي أبسط المستويات، نجد أن تماسُك الديمقراطية يحدُّ من قُدرة الصَّفْوة على سحق الحركات السياسية للجماعات العِرقية. وفي كثيرٍ من البلاد في أنحاء العالم، تحظُر الصفوةُ الحركاتِ السياسيةَ للجماعات العِرقية، أو تستأجر العصاباتِ والميليشياتِ لضربِ قادة هذه الجماعات العِرقية أو قتلهِم أو رشوة الشرطة والقضاة لسجنهم. والخوف من مثل هذا النوع من القمع كثيرًا ما يمنع الجماعاتِ غير المُسيطِرة من الإعلان حتى عن أبسط مطالبها؛ فالالتزام بالصمت، هو الخيار الأسلم للأقليات في كثيرٍ من الدول.
أما في الديمقراطيات الراسخة؛ حيث تكون الديمقراطية هي اللعبة الوحيدة المتاحة، فلا خيار سوى السماحِ للجماعات العِرقية بالحَراك السياسي، وتقديم مطالبها على الملأ. ونتيجةً لذلك فإن خوفَ أعضاء الجماعات العِرقية من الكلام يزول بالتدريج. وقد يفشَلون في النقاش السياسي، لكنهم لا يخشَون القتل، أو السجن، أو الفصل من العمل لمجرد المحاولة.
إن انعدامَ الخوف، هذا، مرتبطٌ بالوعي الحقوقي الجديد المشتق من ثورة حقوق الإنسان، وهو الذي يفسِّر صخَب السياسات العِرقية في الديمقراطيات الغربية المعاصرة.
وفضلًا عن ذلك، فإن الديمقراطية تتضمَّن توفيرَ كثيرٍ من المداخل العملية لصنع القرار، فإذا ما أُحبطَت جماعة في مرحلةٍ ما من قِبل حكومةٍ غيرِ متعاطفة، ففي استطاعتها أن تُتابِع قضاياها على مستوًى آخر. وحتى لو فاز حزبٌ سياسي، غير متعاطف، بالسلطة على المستوى المركزي، وأراد أن يقلِّص حقوقَ الجماعاتِ غير المُسيطِرة، ففي استطاعة هذه الجماعات أن تغيِّر مِحورَها إلى المستوى الإقليمي، أو حتى إلى المستوى المحلي. وحتى إذا ما سُدَّت جميع هذه المستويات، ففي استطاعتهم متابعةُ قضاياهم من خلال المحاكم، بل حتى من خلال الضغوط الدولية. هذا هو ما تدور حوله الديمقراطية؛ مداخلُ كثيرة ومتغيِّرة للسلطة.
التركيبة السكانية هي عاملٌ آخر ذو علاقة في الماضي كانت كثير من الحكومات تأمل أو تتوقع أن الجماعات العِرقية غير المُسيطِرة ستختفي ببساطة من خلال الوفاة أو الاحتواء أو التزاوج. ومِن الواضحِ الآن أن ذلك لن يحدُث بسبب ارتفاع نسبة المواليد، وأن السكان الأصليين هم أسرعُ الفئاتِ نموًّا في كثيرٍ من البلاد التي يُوجَدون فيها. وتزداد النسبة المئوية للمهاجرين من السكان بسرعةٍ في معظم البلاد الغربية، ويتفق معظم المعلِّقين على أنه ستكون هناك حاجةٌ إلى مهاجرينَ أكثر في المستقبل ليعوِّضوا نسبة المواليد المنخفضة وشيخوخة السكان. والجماعاتُ القوميةُ الثانوية في الغرب تنمو هي الأخرى بأعدادٍ ثابتة، وإن ظلَّت نسبتُها إلى عدد السكان مستقرة أو قلَّت هامشيًّا. ولن يستطيع أحد — بعد ذلك — أن يحلُم أو يتوهَّم أن الأقلياتِ ستختفي. للأرقام أهمية، خصوصًا في النظام الديمقراطي، والأرقام تتغيَّر في اتجاه الجماعات غير المُسيطِرة.
هذان العاملان؛ الديمقراطية والتركيبة السكانية، إذا ما أُخذا مع ثورة حقوق الإنسان، فإنها تُساعِد في تفسير الدفع من أجل سياسات التكيُّف؛ فازدياد الوعي الحقوقي، وزيادة مجالات الحَرَاك السياسي الآمن، مع زيادة الأعداد، كلها تُساعِد في تفسير نُمو قوة الحَرَاك السياسي بواسطة الجماعات العِرقية في الغرب.
المبادئ والسياسة الجغرافية في ثورة حقوق الإنسان
ربما كان أكثر الأسئلة السياسية غموضًا هو: لماذا كانت الجماعاتُ المُسيطِرة على استعدادٍ لقَبول هذه المطالب؟ بعد كل شيء، لمعظم الدول الغربية جماعةٌ قوميةٌ مسيطرةٌ تشكِّل أغلبيةً عدديةً واضحة، وفي النظام الديمقراطي «الأغلبية هي التي تحكُم»، فلماذا أصبحَت جماعاتُ الأغلبية أكثر استعدادًا للاستجابة لهذه المطالب، وللتفاوُض بشأنها؟ لماذا لا تُستخدَم سُلطة الدولة لكبتِ هذه المطالب، بالقوة إن لزِم الأمر، كما كان يحدُث في الماضي؟ سيكون من اللطيف أن نظُن أن قُوة الحُجَّة الأخلاقية كانت كافيةً للتغلُّب على التاريخ الطويل من التطاحُن والأحكام المبتسَرة الظالمة التي ظلَّت تُخيِّم على العلاقات العِرقية والعنصرية في الغرب. غير أن ذلك ليس محتملًا. ولا بد من أن تكون هناك عواملُ استراتيجيةٌ أكثر تكمُن خلف هذا التغيُّر القوي.
إن التعرُّف على هذه الدوافع المختلطة لقَبول التعدُّدية الثقافية مسألةٌ مهمة، ليس فقط لفهمٍ أفضلَ للطريقة التي ظهرَت بها التعدُّدية الثقافية في الغرب، بل أيضًا لفهمٍ أفضلَ لآفاقِ نُموِّها في جميع أنحاء العالم. ولو أننا زعَمنا أن التعدُّدية الثقافية نشأَت في الغرب أصلًا، ولمجرد منطقها الأخلاقي القوي، فإن محاولاتِ تدعيمها خارجَ الغرب ستتمثَّل بشكلٍ كبيرٍ في غطرسةٍ أخلاقيةٍ على المجتمعات الأخرى. ولقد كان ذلك، كما أشرتُ إليه في المقدِّمة، اتجاه كثيرٍ من المعلقين الذين تحسَّروا على العجز الظاهر للناس في عالَم ما بعد الشيوعية، وما بعد الاستعمار، في فهمِ المنطق الأخلاقي للتسامُح والتنوُّع، والذين أوصَوا بإعادة تعليم العامة معنى الليبرالية وحقوق الإنسان. غير أن الواقع أن المصير المُتفاوِت للتعدُّدية الثقافية الليبرالية في المجتمعاتِ المختلفةِ له علاقةٌ أقلُّ بكثير بإدراك الناس للمنطق الأخلاقي لحقوق الإنسان، من علاقته بالإطارِ الأوسعِ لعلاقات السلطة التي تغرس فيها هذه الحُجَج المعيارية.
إحدى الطرق للكشف عن هذه الدوافع المختلطة لقبول التعدُّدية الثقافية هي العودة إلى المرحلتَين السابقتَين لكفاح حقوق الإنسان ضد الهيراركية العنصرية والعِرقية، والتساؤل عن الطريقة التي تحقَّقَت بها هاتان المرحلتان. لم يكن التخلص من الاستعمار أو القضاء على التفرقة العنصرية نتيجةً للإقناع الأخلاقي فقط، وبالتعرُّف على العوامل الأخرى الأكثر استراتيجيةً في هاتَين الحالتَين، نستطيع أن نفهم السياسات المعاصرة للتعدُّدية الثقافية بشكلٍ أفضل.
لننظر إلى الالتزام الأساسي بالمساواة العنصرية، الذي عبَّر عنه الإعلانُ العالمي لحقوق الإنسان في العام ١٩٤٨م. سبق أن قلتُ إن الاشمئزاز من عنصرية «هتلر» التي أدَّت إلى الإبادة الجماعية هو الحافزُ لقَبول فكرة المساواة العنصرية. وهذا هو التفسير المعتاد الذي يقدِّمه المعلقون، وإذا ما وضَعناه في عبارة بورستلمان فقدَت السيادة العنصرية الواضحة شرعيتَها في غُرف الغاز في المحرقة الألمانية (بورستلمان، ١٩٩٣م، ص٨١). ولقد قيل إن هذه الكارثة قد «هزَّت الضميرَ العالمي»، وألهمَت المجتمع الدولي للاعتراف بخطايا الأيديولوجيات العنصرية، وألزمَته بقضية العدالة العنصرية.
والواقع أن تشرشل صدَمَته بالفعل أيديولوجية التفوُّق الآري للنازية، لكن ما صدَمه (وصدم غيره) أكثر هو الطريقة التي عامَل بها النازي الشعوبَ الأوروبيةَ البيضاءَ الأخرى، كما لو أنهم ليسوا أفضلَ من الأفارقة والآسيويين. لقد كانت سياسة النازي تجاه العنصر السلافي تسير مباشرةً على النمط الألماني السابق تجاه سكان المستعمَرات الأفريقية (لندنكويست، ١٩٩٦م؛ إيهمان، ١٩٩٨م). والواقع أن هتلر قال إن «روسيا هي أفريقيا بالنسبة إلينا، والروس هم زنوجنا» (اقتبَسه لورين، ١٩٩٦م، ص١٣٦). وعلى الرغم من أن قلةً من القوى الغربية قد اشتكت من الممارسات الألمانية الاستعمارية، من فتوحات، وتوطين، وأعمال السُّخرة في أفريقيا، والتي أدَّت أحيانًا إلى مجاعةٍ وموتٍ جماعي، فإن الصدمة التي هزَّتْهم هي أن يرَوا هذه الممارسات نفسها تُنتهَج داخل أوروبا نفسِها.
وعلى حد تعبير القديس كلير دريك «إبادة البوشمان (شعب بدائي في جنوب أفريقيا) والتسمانيين (شعب بدائي في أستراليا)، شيء، وإبادة الإخوة الأوروبيين، (من عِرقٍ آخر) شيءٌ مختلفٌ أتمَّ الاختلاف» (دريك، ١٩٥١م، ص٢٦٣، اقتبسه ليتون، العام ٢٠٠٠م، ص١٧٠، حاشية ٣). لقد كان الدافع الأول عند تشرشل، الذي شارَكَه فيه معظمُ الحلفاء، هو أن يكرِّر الزعمَ التقليدي بأحقية الأوروبيين في مكانةٍ أعلى من الآخرين. لقد أراد أن ينتقد النازي، لا بسبب الهيراركية العنصرية التي جاء بها، بل بسبب إساءة فهمها، وتجاهُل القواعد التي ينبغي أن تُعامِل بها الشعوب الأوروبية المتحضِّرة بعضها بعضًا.
وفي أغسطس من العام ١٩٤١م كان البريطانيون يعملون متأملين ومتوقِّعين استمرارَ الإمبريالية من دون تغيير بعد الحرب. لكنهم أعادوا تقييمَ هذا الزعم بعد سقوط سنغافورة، وأذعَنوا لمطالب الأمريكان بأن الحرب كانت نضالًا ضد التفرِقة العنصرية والإمبريالية. وكما قال ولتون: «إن سقوط سنغافورة قوَّض أركانَ ما كان يُسمَّى «الإمبريالية البيضاء» ولتون، ٢٠٠٠م، ص١٥٢).
وكما سنرى، فإن لذلك مضامين عن الطريقة التي نفهَم بها آفاق تقدُّم حقوق الأقليات.
ويُمكِن رواية قصةٍ مماثلةٍ عن الدافع الذي يكمُن خلف المرحلة الثانية العظيمة من ثورة حقوق الإنسان — الحملة الأفريقية الأمريكية لإزالة التمييز العنصري. وكثيرًا ما يُقال إن نجاح حركة الحقوق المدنية قد عكَس اعترافًا عامًّا متناميًا بتعارُض التفرقة العنصرية مع المُثُل العليا للحرية الإنسانية والمساواة التي قام عليها الدستور الأمريكي؛ فإزالة التمييز العنصري — بعبارةٍ أخرى — عكَسَت نجاحًا (متأخرًا جدًّا) للمنطق الأخلاقي للمبادئ الديمقراطية والليبرالية الأمريكية.
لكن هنا، أيضًا، سيكون من الخطأ أن نبالغ في أهمية الإقناع الأخلاقي؛ فمن المؤكَّد أن الأمريكيين الأفارقة قد لجَئوا إلى ذلك المنطق الأخلاقي منذ عدة عقود، غير أن النجاحَ المفاجئَ لهذه الحُجَّة في خمسينيات القرن الماضي كان مرتبطًا بضروراتِ السياسة الخارجية، بالإضافة إلى الإقناعِ الأخلاقي المحلي.
خرجَت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية لتدخُل في صراعٍ عالميٍّ مع الاتحاد السوفييتي من أجل النفوذ والسلطة. وفي هذا الصراع كانت التفرِقة العنصرية داخل الولايات المتحدة عبئًا لا يُطاق؛ فقد نشَر السوفييت في العالم الثالث تقاريرَ إخباريةً عن سوء المعاملة التي يتلقَّاها السود في أمريكا، وتلقَّت الولاياتُ المتحدة تقاريرَ يوميةً من سفاراتها في الخارج تدور حول آثار تلك التقارير. ولقد لاحظ أحد السفراء الأمريكيين الحساسيةَ المؤلمةَ عند الشعوبِ الآسيويةِ فيما يتعلق بالتمييز العنصري، والنجاح المُذهِل الذي حقَّقَته الدعايةُ الشيوعية في خلقِ مشاعرَ معادية لأمريكا. وليس في ذلك شيء من المبالغة (السفير شستر باولز — اقتبسه ليتون في كتابه في العام ٢٠٠٠م (ص١٦٢)، حاشية ٧٨).
وكان رجالاتُ الدولة الأمريكيون فيما بعد الحرب، من أمثال جون فوستر دلس، ودين رسك، لا يملُّون التكرار المستمر من أن جيم كرو قد «أفسَد سياستَنا الخارجية. ونتائج ذلك في آسيا وأفريقيا ستكون أسوأ علينا من المجر بالنسبة إلى الروس» (دلس وليتون، العام ٢٠٠٠م، ص١٣١)، أو أن أكبر عبءٍ نحمله فوق ظهورنا في علاقتنا الخارجية هو مشكلة التفرِقة العنصرية (رسك في كتاب لورن، ١٩٩٦م، ص٢٤٤).
مضمون السياسة الخارجية للتفرِقة العنصرية المحلية كثيرًا ما يتضمَّن عناصرَ مأساويةً ومضحكةً في آنٍ معًا؛ فكلما سافر المبعوثون الآسيويون والأفارقة في الأمم المتحدة في نيويورك إلى واشنطن للحديث مع المسئولين في الحكومة الأمريكية فإنهم يعبُرون أرضَ جيم كرو؛ حيث يُضطَرون إلى استخدامِ مطاعمَ وحماماتٍ مفصولةٍ عنصريًّا، وهي تجربةٌ اعتبَروها مهينة، على أقل تقدير.
وعندما واجه الرئيس ترومان هذه النتائج السلبية للتفرِقة العنصرية على المصالح الجغرافية والسياسية الأمريكية، قرَّر أن يقوم بعملٍ ما. وكما يقول لورين «بدأ الضغط الخارجي للحرب الباردة يؤدي الآن دورًا مهمًّا في خلق بدايةٍ جديدةٍ في موضوع المساواة العنصرية داخل الولايات المتحدة» (لورين، ١٩٩٦م، ص٢٠١). وبعد العام ١٩٤٦م أمر ترومان وزارة العدل ووزارة الخارجية بإصدار مذكراتٍ وديةٍ لدعم القضايا القانونية التي قدَّمَتها المنظَّمات الأفريقية الأميركية، ناصحًا المحاكم بألا تكون التفرِقة العنصرية عائقًا أمام السياسة الخارجية وعبئًا في صراع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. وعلى سبيل المثال، في قضية «براون» ضد مجلس التعليم الشهيرة نصَّت المذكِّرة التي قدَّمَتها الحكومة الفدرالية على أنه «في سياق صراع العالَم الحالي بين الحرية والطغيان لا بد من الاهتمام بمشكلة التمييز العنصري في الولايات المتحدة» (اقتبسه ليتون، العام ٢٠٠٠م، ص٢٧).
وفي اعتقادي أن ذلك يُقدِّم لنا تفسيرًا مهمًّا للسبب الذي جعل الديمقراطيات الغربية تتبنَّى منظورًا جديدًا بالنسبة إلى الأقليات في الأربعين سنة الماضية؛ فلأول مرة في القرن العشرين، وربما للمرة الأولى منذ عدة قرون، لا تكون الأقليات في الغرب أدواتٍ في صراعٍ سياسيٍّ جغرافيٍّ أكبر. ولذلك دَورٌ حاسم في تفسير لماذا كانت الدولُ والجماعاتُ المُسيطِرة أكثر استعدادًا لقبول (كرهًا وعلى مضَض) نماذجَ جديدةٍ من التكيُّف مع التعدُّدية الثقافية. وهذه نقطةٌ مهمة ستظهر مرةً أخرى في فصولٍ قادمة؛ لذلك دعونا نفسِّرها مع شيءٍ من التعمُّق.
الأمن السياسي الجغرافي واللاأمان في العلاقات العِرقية
عندما تشعُر الدول باللاأمان بالمعنى السياسي-الجغرافي، والخوف من الجيران الأعداء، تتشكَّل معاملتُها للأقليات بشكلٍ قوي عن طريق هذا الشعور بالأمان. وبصفةٍ خاصةٍ فإن الدول لن تمنح أبدًا الحقوقَ والسلطةَ للأقلياتِ طواعيةً لو أنها اعتقدَت أن ذلك سيزيد من احتمال أن تُصبِح الأقلياتُ متواطئة — أو أن تصبح طابورًا خامسًا — من أجل الأعداء المجاورين.
وربما كان ذلك واضحًا، كما سنرى في الفصلَين السادس والسابع، ففي معظم أرجاء العالم لا تزال جماعاتُ الأقلية يُنظَر إليها كطابورٍ خامس، من المحتمَل أن تعمل لمصلحة عدوٍّ مجاور. ويصبح ذلك مثارَ قلقٍ بوجهٍ خاص عندما ترتبط الأقلية بالدولة المجاوِرة عن طريق العِرق أو الدين، أو عندما تُوجَد الأقلية على جانبَي الحدود الدولية، فتدَّعي الدولة المُجاوِرة الحقَّ في التدخُّل لحماية أقليتها.
ومع ذلك، فإننا نجد أن السياسة العِرقية في معظم البلاد الغربية غير مؤمَّنة تمامًا. والسياسة العرقية هي مجرد سياسةٍ يوميةٍ طبيعية. والعلاقاتُ بين الدولة وجماعات الأقليات قد أُخذَت من صندوق التأمين لتُوضَع في صندوق السياسة الديمقراطية.
وهذا «اللاتأمين» للعلاقات العِرقية، متحدًّا مع الضماناتِ التي تقدِّمها الحمايةُ القوية لحقوق الإنسان، يُساعِد في تفسير السبب في أن الجماعات المُسيطِرة في الغرب قبلَت مطالبَ إصلاحاتِ التعدُّدية الثقافية. وكلا هذَين العاملين قلَّل بطريقةٍ هائلةٍ من مخاطر تبنِّي الجماعات المُسيطِرة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية؛ فالأول يضمن أن التعدُّدية الثقافية لا تمثِّل تهديدًا للأمن الجغرافي السياسي لمجموع الشعب؛ ويضمن الثاني أن التعدُّدية الثقافية لا تهدِّد الأمنَ الإنساني للفرد، وفي ظل هذه الظروف فإن التعدُّدية الثقافية تكون قليلة المخاطر، واحتمال أن تُذعِن لها الجماعات المُسيطِرة يكون أكبر.
ومع ذلك، فإن ما يبدو أنه حدث هو أن عددًا لا بأس به من المواطنين أصبحوا مقتنعين بأن التعدُّدية الثقافية متسقة مع قيم ديمقراطية بلدهم الليبرالية الأساسية (ومع أمنه السياسي الجغرافي)؛ ومن ثَم فهو خيارٌ سياسيٌّ جائز. قد لا يقتنعون بأن التعدُّدية الثقافية سياسةٌ فاضلة أو مفيدةٌ بصفةٍ خاصة، دع عنك أنها سياسةٌ ملزمةٌ أخلاقيًّا، لكنها ما دامت تحترم حقوق الإنسان وأمن الدولة، فهي خيارٌ مقبول، ولا يستدعي المعارضة.
التراجع عن التعددية الثقافية
وهذا التحليل لا يساعدنا فقط في تحليل نهوض التعدُّدية الثقافية في الغرب، لكنه يساعدنا كذلك، في اعتقادي، في تفسير التراجُع عن التعدُّدية الثقافية في بعض البلاد الغربية. عندما يغيب ظرفٌ أو أكثر من هذه الظروف الخمسة، أو يكون موضعَ تساؤل، فإن المساندة الشعبية لأشكالٍ معينة من التعدُّدية الثقافية يُمكِن أن تتضاءل. والواقع أننا نستطيع أن نرى بوضوح حالاتٍ كهذه، على الرغم من أن مدى ما يُمكِن أن يُسمَّى «التراجُع عن التعدُّدية الثقافية» في الغرب، كثيرًا ما يكون فيه مبالغةٌ أو سوء تفسير.
وذهب بعض المعلِّقين إلى أننا نشهد تراجُعًا عامًّا عن التعدُّدية الثقافية في الغرب، وعودةً إلى أفكارٍ تقليديةٍ أكثر عن التجانُس، والمواطنة في الجمهورية الواحدية، حيث يُستبعَد تنوُّع الثقافة العِرقية من المجال العام ويُحوَّل إلى المجال الخاص (انظر: جوبك، ٢٠٠٤م، وبروبيكر، ٢٠٠١م، وإنتزنغر، ٢٠٠٣م). ولقد أدَّى ببعض النقاد إلى أن يعبِّروا عن أملهم في أن يُثبِت ذلك أن التعدُّدية الثقافية كانت طارئةً أو بدعةً مؤقتة (باري، ٢٠٠١م).
أما في الواقع، فإن الحركة الارتجاعية المفاجئة ضد التعدُّدية الثقافية كانت محلية تمامًا، ولا علاقة لها إلا بمطالبِ أقلياتٍ معيَّنة في بلادٍ معيَّنة؛ فهي على سبيل المثال لم تؤثِّر في سياسات الدولة تجاه الأقليات القومية، والتيار الذي وصفتُه في الفصل الثالث نحو اعترافٍ أكبر بالجماعات القومية الثانوية، غالبًا ما كان في شكل الحكم الذاتي الإقليمي. ووضع اللغة الرسمية ظلَّ كما هو من دون أدنى تغيير. ولم يكن هناك تراجُع ضد حقوق الأقليات القومية داخل الديمقراطية الغربية. وليس ثمَّة حالة في الغرب لبلد تراجَع عن أيٍّ من المساعدات التي منحَها للجماعات القومية الثانوية. بل على العكس، كما سنرى في الفصل السادس، هذا التيار أُعيد تأكيدُه عن طريق تطوير المعايير الدولية، مثل الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية التي تبنَّاها المجلس الأوروبي. أو انظر إلى حالة السكان الأصليين؛ فالاتجاه نحو اعترافٍ أكبر بحقوق السكان الأصليين، التي غالبًا ما تكونُ في شكل قضايا الأرض، والاعتراف بالقانون المعتاد، وحق الحكم الذاتي، ظلت كذلك في مكانها تمامًا في الغرب، من دون أي تراجعٍ أو ارتدادٍ ملحوظ، ولقد أُعيد تأكيدُ ذلك أيضًا عن طريق تطوير المعايير الدولية، وذلك مثل مسوَّدة الأمم المتحدة لإعلان حقوق السكان الأصليين، أو المعايير المقارنة للسكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنظمة العمل الدولية أو البنك الدولي، التي سنناقشها في الفصل السابع.
ومن ثَم فليس هناك تراجعٌ عن التعدُّدية الثقافية عَبْر الحدود. وبالنسبة إلى كلٍّ من الجماعات القومية الثانوية والسكان الأصليين؛ فإن التيار نحو الاعتراف العام بتنوُّع الثقافة العِرقية والتكيُّف معها يظل كما هو من دون تغيير، والواقع أنه الآن أكثر قوة، وليس مغروسًا فقط في المفاوضات والتكيُّفات المحلية، بل إن المعايير المحلية تُصادِق عليه وتحميه.
ومن ثَم فإن التراجُع عن التعدُّدية الثقافية، يضيق إلى حدٍّ كبير إلى مجالٍ واحد من التنوع الثقافي العرقي — أعني مجال الهجرة. وكما سنرى في الجزء الثالث، على خلاف حالتَي الأقليات القومية والسكان الأصليين، ليست هناك محاولاتٌ جادة لتقنين الحقوق الثقافية للمهاجرين على المستوى الدولي؛ ومن ثَم فالسؤال الأساسي هنا هو: لماذا تعرَّضَت الثقافة التعدُّدية للمهاجرين بصفةٍ خاصة لمثل هذا الهجوم؟ في استطاعتنا أن نبدأ باستبعاد تفسيرٍ واحدٍ شائع. وكما سبق أن ذكَرتُ، فقد ذهب معلِّقون مختلفون إلى أن التراجُع عن التعدُّدية الثقافية المهاجرة يعكس عودةً إلى الإيمان الليبرالي التقليدي. وهو أن العِرقية تنتمي إلى المجال الخاص، وأن المجال العام ينبغي أن يكون محايدًا، وأن المواطَنة ينبغي ألا تكون مميزة. وأن التراجُع عن التعدُّدية الثقافية المهاجرة يعكس رفضَ فكرة التصور الليبرالي الديمقراطي للتعدُّدية الثقافية بأَسْرها.
لكن ذلك لا يمكن أن يكون هو التفسير المطلوب؛ فلو أن الديمقراطيات الغربية رفضَت فكرة التعدُّدية الثقافية الليبرالية ذاتها، فلا بد لها من أن ترفض قضايا الجماعات القومية والسكان الأصليين التي تتضمَّن — على نحوٍ نموذجي — إدخالًا مثيرًا للتنوُّع الثقافي العِرقي في المجال العام، ودرجةً أكبر للمواطنة المتمايزة مما تطلبه الجماعات المهاجرة، في حين أن المهاجرين يسعَون بطريقةٍ نموذجيةٍ إلى تنوُّعاتٍ أو استثناءاتٍ متواضعةٍ في إدارة المؤسَّسات الرئيسية، تسعى الأقلياتُ القومية التاريخية والسكان الأصليون إلى الوصول إلى مستوًى أوسعَ من الاعتراف والتكيُّف، بما في ذلك موضوعات مثل قضايا الأرض، وسلطات الحكم الذاتي، وحقوق اللغة، ونُظُم التعليم المُنفصِلة، بل حتى النُّظم القانونية المُنفصِلة. وتحتوي هذه القضايا على تحدياتٍ أكثر جدية لأفكار المواطنة غير المميزة، وخصخصة العِرقية مما تتضمَّنه من تكيُّف مع الجماعات المهاجرة. ومع ذلك فالديمقراطيات الغربية لم تتراجَع على الإطلاق عن التزامها بالتكيُّف مع الأقليات التاريخية.
ولكي نفهَم ذلك فإننا نستطيع أن نعودَ إلى قائمة المصادر والشروط المسبقة.
لم يكن الخوف المَرَضِي من الإسلام، بالطبع، هو المصدر الوحيد لتراجع الحديث عن التعدُّدية الثقافية للمهاجرين في أوروبا. والواقع أن بعض المحلِّلين قد ذهبوا إلى أن المخاوف من المسلمين هي ببساطة التبريرُ الأكثر حداثةً للقلق العميق الدائم من «الآخر»، والحنين إلى وقتٍ اشترك فيه الجميع بروابطَ قويةٍ من التاريخ والهوية المشتركة. يكره الناس التعدُّدية العِرقية والعنصرية، لكنهم لا يريدون أن يظهروا على أنهم عنصريون أو يعانون كراهية الأجانب؛ ولهذا فإنهم يبحثون حولهم عن بعض المبرِّرات التي تكون أكثر قبولًا لمعارضة التعدُّدية الثقافية للمهاجرين، كالمخاوف من الممارسات غير الليبرالية أو التهديدات الأمنية (أو الجريمة، أو الأعباء الاقتصادية، أو سوء استخدام إجراءات حق اللجوء … إلخ). وإذا لزم الأمر فإن الناس يبتكرون أو يبالغون في هذه المخاطر، حتى عندما لا تُوجَد أدلةٌ عليها، وذلك من أجل إخفاء الطبيعة الحقيقية لمُعارضتِهم للمهاجرين. وهذه المخاوف هي مجردُ مظاهرَ سطحية، أو تبريرات لصورٍ أعمقَ من العنصرية والتعصُّب الشعبي، والخوف المَرَضِي من الأجانب المستقل تمامًا عن الوقائع العارضة حول تأثُّر الليبرالية أو الأمن الجغرافي السياسي بجماعاتٍ مهاجِرةٍ معيَّنة، فإذا لم يستطع العنصريون وأصحاب المخاوف المَرَضِية من الأجانب أن يستغلوا هذه المخاوف المعيَّنة، فإنهم سيجدون ببساطة بعض المبرِّرات الأخرى لمعارضة الهجرة والتعدُّدية الثقافية.
يطرحُ ذلك معضلةً واضحة؛ ربما تكون التعدُّدية الثقافية مطلوبةً أكثر عندما تكونُ مخاطرها أكبر. وربما تكونُ الجهودُ الاستباقية مطلوبةً تحديدًا عندما ينظُر إلى أعضاءِ جماعةٍ معيَّنة ﮐ «طابورٍ خامس»، أو كتهديدٍ للإجماع الديمقراطي الليبرالي، بحيثُ تمنع تلك الجهودُ المبذولة استقطابَ العلاقات العِرقية. وعلى العكس، ربما اعتقَدنا أنه إذا ما كان هناك قَدْرٌ ضئيلٌ من الثقة أو انعدام الثقة بين الجماعات العِرقية، يصبح ترويجُ سياسات التعدُّدية الثقافية أسهل، ولكنها تكونُ أقلَّ ضرورةً في الممارسة.
وإذا كان الأمر كذلك فربما تكون الحاجة إلى التعدُّدية الثقافية أكثر عندما يكون احتمالُ تبنِّيها ضعيفًا، وتكون شعبيةً بشكل أكبر عندما تكونُ ضرورتُها أقل. ولقد ذهب «جان ندوفين بيتيرس» إلى ذلك عندما قال إن «المشكلة الرئيسية في التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي أنها تُقدِّم حلًّا من دون أن تكون هناك مشكلة، وعلاجًا حيث لا يُوجَد مرض» (بيتيرس، ٢٠٠٥م، ص١٢٧١). وهذه مفارقةٌ نشأَت في كثيرٍ من سياقات ما بعد الشيوعية وما بعد الاستعمار كذلك، وسأعود إلى هذا الموضوع في الجزء الثالث. غير أن التجربة الغربية حتى يومنا الراهن تذهب إلى أن القَبول العام للتعدُّدية الثقافية يعتمد على مشاعر كلٍّ من أمن الفرد وأمن الجماعة، وعندما تضعُف هذه المشاعر فستواجه التعدُّدية الثقافية هجومًا وتراجعًا.
ومن ثَم فليست هناك قصةٌ فردية عن تقدُّم (أو تراجُع) التعدُّدية الثقافية في الغرب، وإنما هناك أنواعٌ مختلفة من التعدُّد الثقافي العِرقي تُبرِز كلٌّ منها أنواعًا متميزة من قضايا التعدُّدية الثقافية، ولكلٍّ منها مسار للمقاومة، والقبول والتراخي والتراجُع، وأنا أعتقد أن العوامل الخمسة التي ناقشتُها في هذا الفصل سوف تُساعِد في تفسير هذه الفُرص المتفاوتة.
من تعدُّدية الحركة الاشتراكية الثقافية إلى تعدُّدية الشركات
عند هذه النقطة ربما يعتقد بعضُ القُراء أنني قد أغفلتُ عنصرًا مهمًّا في تفسير الحاجة المُلِحة إلى التعدُّدية الثقافية، وأعني بذلك الرأسمالية العالمية وظهور الاقتصاد الليبرالي الجديد. إن ظهور التعدُّدية الثقافية في فترة الثلاثين إلى الأربعين سنة الماضية توافَق زمنيًّا مع حقبة العولمة الاقتصادية المكثَّفة، وتخفيض النفقات في دولة الرفاهية، وخصخصة الشركات العامة ومصادر الثروة، وتحرير الأسواق. وهذان الشكلان من التنمية في نظر بعض المحلِّلين، يرتبطان بوضوح. في واقع الأمر، وكما قال «سلافوك تشيك»، فإن «الشكل الأيديولوجي المثالي لهذه الرأسمالية العالمية هو التعدُّدية الثقافية» (العام ١٩٩٧م، ص٤٤). ومن هذا المنظور، فإن التعدُّدية الثقافية تعمل على تسهيل أو تبرير توسُّع الرأسمالية العالمية واتفاق واشنطن.
وفي اعتقادي أن هذا تحليلٌ خاطئ؛ فالتعدُّدية الثقافية لها أصولٌ مختلفة عن الاقتصاد الليبرالي الجديد، لكن من الصواب أن نقول إن التعدُّدية الثقافية تأثَّرَت بهذه التغيُّرات الأوسع في الاقتصاد السياسي العالمي. ومن المهم أن نعرف هذه الروابط والصِّلات.
تعدُّدية الشركات الثقافية وتعدُّدية الحركة الاشتراكية الثقافية كانت الواحدة منهما أحيانًا تنجذب إلى الأخرى؛ فدفعة الليبرالية الجديدة باتجاه اللامركزية، على سبيل المثال، التي قامت أصلًا باسم الكفاية الاقتصادية، أصبحَت أكثر شعبيةً عندما ربطَت حُجَج التعدُّدية الثقافية بصدَد التكيُّف مع التنوُّع.
في المقابل كانت حركة التعدُّدية الثقافية الاشتراكية تحتاج أحيانًا إلى مساندة عالم الشركات. وكما رأينا، فقد استطاعت حركة التعدُّدية الثقافية الاشتراكية تأمينَ بعضِ الإصلاحات المهمة، لكنها كانت انتصاراتٍ هشة؛ لأن التعدُّدية الثقافية كانت مقبولة، أكثر مما كانت مدعومةً بشكلٍ فعَّال ونشِط من الجماعات المُسيطِرة؛ ومن ثَم فقد كانت معرَّضة للهجوم والتراجُع؛ فكثيرٌ من أنصارها حاولوا أن يجدوا حُججًا إيجابية لمصالحها ربما تكون مُقنِعة أكثر لأعضاء الجماعات المُسيطِرة. وذلك يشمل إعادة تأكيد الحُجَّة الأخلاقية الأساسية القائلة بأن التعدُّدية الثقافية تُمِد وتدعَم منطق حقوق الإنسان، غير أن المدافعين كانوا يأملون أن يجدوا أسبابًا أكثرَ فائدةً أو استراتيجيةً تعلِّل لماذا ينبغي على أعضاء الأغلبية أن يدعَموا التعدُّدية الثقافية؛ فهم يريدون أن يوضِّحوا أن التعدُّدية الثقافية نافعةٌ بالشكل المادي، حتى يستطيع أعضاء الجماعات المُسيطِرة أن يرَوا التعدُّدية الثقافية نافعةً لهم أنفسهم، وليست مجرد التزامٍ أخلاقيٍّ يدينون به للآخرين.
ولقد كان أكثر الاستراتيجيات شيوعًا في هذا الشأن تأكيد النتائج الاقتصادية العرَضية للتعدُّدية الثقافية. ولقد تحدَّث المدافعون عن «تنوُّع المنتج» واقتبَسوا دليلًا على أن الشركات ذات القوى العاملة الأكثر تنوعًا تميل إلى أن تكون أكثر إنتاجًا وإبداعًا. وفضلًا عن ذلك فإن وجود موظَّفين لديهم خلفياتٌ ثقافية ومهاراتٌ لغويةٌ مختلفة يمثِّل مكسبًا قويًّا في اقتصادٍ عالميٍّ متزايد العولمة. وأولئك الذين لديهم مهاراتٌ قوية بين الثقافات سيكونون قادرين على المنافسة في الساحة العالمية. وعلى سبيل المثال: ينبغي تشجيع المهاجرين الصينيين إلى أمريكا الشمالية على الاحتفاظ بلغتِهم الأم وطلاقتِهم الثقافية، ليقوموا بدَور الوسطاء لتسهيلِ مجالِ التجارةِ والاستثمارِ العالمي. وباختصار «التعدُّدية الثقافية» تعني العملَ التجاري، إذا أردنا اقتباس عبارةٍ كانت شائعةً في كندا وأستراليا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
ولقد لاقت هذه الحُجَج بعضَ النجاح في الترويج للتعدُّدية الثقافية عند أعضاء الجماعات المُسيطِرة، لكنها أيضًا صادفَت إخفاقًا واضحًا، فإذا ما أخذناها بذاتها وجدنا أن لديها القدرة على التقليل من شأن التعدُّدية الثقافية وجعلها حيلةً من حيل السوق، كما لو أن هدف التعدُّدية الثقافية لم يكن تحدِّي الهيراركيات العِرقية والعنصرية الموروثة، بل بالأحرى إعادة تقديم الاختلافات الثقافية على أنها ميزةٌ اقتصاديةٌ قوية في الاقتصاد العالمي، وكسلعةٍ جيدةٍ يُمكِن تسويقها واستهلاكها. والواقع أننا نرى معركةً مستمرةُ تخوضها حركة التعدُّدية الثقافية الاشتراكية في كثيرٍ من البلاد، لضمان أن ترى هذه الحِيَل الخدَّاعة من حِيَل السوق تُدعم بدلًا من أن تحلَّ محلَّ الأهداف الأصلية التحررية للتعدُّدية الثقافية.
ويصعُب أن يكون ذلك أمرًا فريدًا بالنسبة إلى التعدُّدية الثقافية؛ فنحن نجد دينامياتٍ مماثلة في حركاتٍ أخرى للإصلاح الاشتراكي التقدُّمي، بما في ذلك الحركة النسوية وحركة أنصار البيئة؛ فقد نشأَت هذه الحركاتُ في الأساس لمواجهة مقاومة النخبة في الهيئات والشركات، والأيديولوجيين الليبراليين الجدد، غير أن الرأسمالية حاولَت أن تستحوذ على هذه الحركات وأن تجد طرقًا لإعادة تسويقها كسلعٍ وعلاماتٍ تجارية؛ ولهذا نجد صراعاتٍ مستمرةً من جانب النشطاء في الحركة الاشتراكية لاستعادة التحكُّم في جدول أعمال هذه الحركات للحفاظ على أهدافها الإصلاحية الأصلية.
باختصار ليس هناك شيءٌ في منطق رأسمالية التعدُّدية القومية الرأسمالية يتطلَّب (أو يعُوق) التعدُّدية الثقافية؛ ففي البلاد التي حقَّقَت فيها التعدُّدية الثقافية الاشتراكية بعضَ النجاح، تستطيع النخبة من رجال الأعمال، أن تسعى إلى جلب المال عن طريقِ تسويقِ أشكالٍ من الاختلاف الثقافي على شكلِ سلعٍ استهلاكية. وحينما تفشل التعدُّدية الثقافية الاشتراكية، فإن النخبة من رجال الأعمال قادرةٌ على الابتعاد عنها، كما اعتادت أن تفعل.
وعلى أي حال، فقد كشفَت الأحداثُ الأخيرةُ عن السطحية الجوهرية في أيديولوجيا التعدُّدية الثقافية للشركات؛ فبعد الحادي عشر من سبتمبر، ومدريد، والرسوم الدنماركية، لا يستطيع أحدٌ أن يفكِّر في أن التعدُّدية الثقافية ينبغي تقبُّلها أو رفضُها على أساس أنها ستزيد من التنافس العالمي الاقتصادي أو تجذب السائحين. وتذكِّرنا هذه الأحداث بأن السؤال الأساسي هو: هل يُمكِن للتعدُّدية الثقافية أن تصلُح كوسيلة لتعزيز المواطنة؟ وهل يُمكِن للتعدُّدية الثقافية أن تساعد في تغيير الصيغة الموروثة للعلاقات العنصرية والعِرقية غير المدنية — بما في ذلك علاقات القاهر والمقهور، والمستعمِر والمستعمَر، والمستوطِن والساكن الأصلي، والموصوم بعِرقٍ ما وغير الموصوم، والطبيعي المألوف والمنحرِف الشرِّير، وصاحب الرأي المستقيم والمضلِّل، والمتحضِّر والمتخلِّف، والحليف والعدُو، والسيد والعبد — إلى علاقات المواطنة الديمقراطية الليبرالية؟!
لقد كان رد الفعل المباشر لكثير من الناس بعد الحادي عشر من سبتمبر هو استنتاج أن التعدُّدية الثقافية قد فشلَت في هذا الشأن، وأنها ببساطة قد أعادت إنتاج علاقات العداوة والهيراركية. ومع ذلك، على نحوِ ما سنرى في الفصل القادم، هناك دليلٌ كافٍ على أن التعدُّدية الثقافية قد ساهمَت في الواقع في بناء المواطنة الديمقراطية الليبرالية، على أي حال، فهذا هو السؤال الصحيح الذي ينبغي طرحُه؛ فالحديث السابق حول «التنوُّع والمنتج» وحول «التعدُّدية الثقافية التي تعني الأعمال التجارية» لا يُمكِن أن يُبعِدنا بعد الآن عن مواجهة أشد القضايا التي تُثيرها الحركة الأصلية للتعدُّدية الثقافية عمقًا وأهمية حول الرابطة بين التنوُّع العِرقي الثقافي وحقوق الإنسان، والمبادئ الديمقراطية الليبرالية.
خاتمة
أي محاولة لرواية قصة ظهور التعدُّدية الثقافية في الغرب ستكون حتمًا محاولةً جزئيةً وأحاديةَ الجانب، وأنا لا أزعُم أنني قدَّمتُ روايةً شاملةً في هذا الفصل. لقد حاولتُ ببساطةٍ التعرُّف على بعضِ العواملِ التي أعتقد أن لها أهميةً دائمةً عَبْر الديمقراطيات الغربية، وإلقاء الشك على بعض التفسيرات الأخرى التي قُدمَت.
وهذه العوامل، إذا ما أُخذَت معًا، فإنها تساعد على تفسير اتساع التغيُّر نحو التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، لكن أيضًا طبيعتها الهشة، غالبًا ما ولَّدَت الإذعانَ السلبي لا الدعمَ الإيجابي.
بالطبع، بالنسبة إلى أهداف هذا الكتاب، فإن السؤال الأكثر أهميةً هو: ما الضوء الذي يُلقيه التحليل على آفاق انتشار التعدُّدية الثقافية الليبرالية عالميًّا؟ وإذا ما طُبعَت هذه الشروط الخمسة على نحوٍ مطردٍ عَبْر الديمقراطيات الغربية، كانت عُرضةً للمَد والجَزر عَبْر الزمن، فربما يكون ذلك أكثر صدقًا في المناطق الأخرى من العالم. وكما سنرى في الجزء الثالث، سيظل التقاء جميع الشروط الخمسة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية أمرًا نادر الحدوث، وليس ثمَّة ميلٌ عامٌّ إلى أن تُصبِح هذه الكوكبة من العوامل أكثر شيوعًا حول العالم.
والواقع أنه يبدو أن هناك عدمَ توازنٍ نسقي في هذه التوجُّهات. وإذا بسطنا الموضوع أكثر من ذلك لقلنا إن الظروفَ التي تُساعِد على توليدِ مطالبَ أكبر للتعدُّدية الثقافية الليبرالية أصبحَت بالتأكيد أكثر شيوعًا حول العالم. ويُمكِننا أن نرى انتشارًا ثابتًا لخطابٍ جديد ولوعيٍ جديد بحقوق الأقليات وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى عملية (لم تكتمل) للدمقرطة خلقَت مجالًا أوسع للحَراك السياسي الآمن للأقليات. لكن يبدو أنه ليس ثمَّة اتجاهٌ مقابل بالنسبة إلى الظروف التي تمكِّن وتشجِّع الدول والجماعات المُسيطِرة على قَبول قضايا الأقلية؛ ففي مناطقَ واسعةٍ من العالم تستمر مخاوفُ المجموعاتِ المُسيطِرةِ حول أمنهم الجغرافي السياسي وأمنهم الفردي في شلِّ الجهود لتبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية. والنتيجة المتوقَّعة هي اضطراباتٌ سياسيةٌ خطيرة، كلما تجاوزَت مطالبُ التعدُّدية الثقافية الليبرالية إمكانَ أن تُلبَّى.
هذا اللاتوازُن في الشروط الكامنة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية يُثير عددًا من التحديات العميقة للعمل الدولي في هذا المجال. وهناك خطرٌ واضحٌ من أن مجهودات المجتمع الدولي، سواء بالنسبة إلى المنظمات بين الحكومات أو المنظمات غير الحكومية، ربما جعلَت هذا اللاتوازن يتفاقم من دون قصد، ويثير مطالبَ أكبر للتعدُّدية الثقافية الليبرالية من دون تقوية الظروف التي تجعلها مقبولة. وفي اعتقادي أن المجتمع قد تجاهَل بالفعل هذا الخطرَ في بعض الحالات، وفي بعض الحالات الأخرى بالَغ في ردِّ فِعلِه تجاهه.
وقبل أن نستكشفَ هذه المعضِلة، فإننا بحاجةٍ إلى إنهاء استكشافنا للتعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب عن طريقِ فحصِ مساراتها عمليًّا.
ويتوقَّعون من الأقلية أن تكون ممتنةً ومعترفةً بالجميل لهذا الكرم، وأن تعترف بحظها السعيد لأنها تعيشُ في بلدٍ ذي أغلبيةٍ متسامحة وحسنة النية، ومن ناحيةٍ أخرى، يرى أعضاءُ جماعات الأقليات أن تبنِّي سياسات التعدُّدية الثقافية هو الحد الأدنى المطلوب للاعتراف بالمظالم السابقة وعلاجها، وأن تلك خطوةٌ متواضعةٌ لا تستدعي الامتنان. وواقع أن أعضاء الأغلبية يتوقعون الشكر والاعتراف بالجميل لتبنِّيهم التعدُّدية الثقافية يُوحي بأنهم لم يتقبَّلوا حقًا المظالمَ السابقةَ من أشكال الاستيعاب والاستبعاد والطرد، أو أنهم تخلَّوا تمامًا عن مطالبهم السابقة بالملكية الحصرية للعولمة والمجال العام. وهذا الانفصال في المواقف يُمكِن أن يكون مصدرًا للاستياء وانعدام الثقة المتواصلَين، حتى إذا كان هناك إجماعٌ (مؤقَّت) على تفاصيل سياسة معنية.