الفصل الرابع

أصول التعددية الثقافية الليبرالية المصادر والشروط المسبقة

«تسليمًا بالاختلافات العميقة بين التأويلات الليبرالية والمحافظة التعددية الثقافية، فمن المهم تحديد أي هذين الاتجاهين يدعم في الواقع التحولات الحديثة نحو التعددية الثقافية في الغرب.»

المؤلف
لم تنشأ التعدُّدية الثقافية الليبرالية من فراغ، بل بُنيَت عَبْر الزمن، اعتمادًا على عدةِ مصادرَ وظروفٍ سهَّلَت وجودها ومكَّنَتها من أن تشُق طريقها، مما أطلق عليه جون كينغدون John Kingdon (العام ١٩٩٧م) «سياسة الشوربة البدائية». وتحتاج أي مجهوداتٍ جادةٍ لمساندة التعدُّدية الثقافية إلى الانتباه إلى هذه المصادر والشروط المسبقة. ومع ذلك فمن المُدهِش أننا نعرف القليل عنها.

إحدى المشكلات هي أن كثيرًا من الكتابات التي كُتبَت في هذا الموضوع تعاني «القومية المنهجية» (٢٠٠٢م، ويمر وغليك شيلر). عند تفسير ظهور سياسات التعدُّدية الثقافية يميل الشُّرَّاح والمفسِّرون إلى التركيز على بلدٍ معيَّن، ثم اعتمادًا على الوقائع التي تخُص ذلك البلد، مثل شخصيةٍ معيَّنة، أو بعض الأحداث الكبرى، واستراتيجيات منظمات وأحزابٍ سياسيةٍ معينة، وطبيعة النظام الانتخابي، وما إلى ذلك. ولا شك في أن هذه العوامل مهمة في تفسير تفصيلات الحالة الجزئية الخاصة، لكن لا نكاد نعترف بالطبيعة النافذة في الاتجاه نحو التعدُّدية الثقافية حتى يبدو واضحًا أن التفسير الرئيسي يكمُن في القوى والديناميكيات الموجودة في كثيرٍ من الديمقراطيات الغربية، وليست عواملَ خاصةً ببلدانٍ معيَّنة. ولا بد أن تكون هناك أسبابٌ كامنة تفسِّر لنا لماذا يتحرَّك مثل هذا العدد الكبير من الديمقراطيات الغربية في اتجاهاتٍ مماثلة، برغم اختلاف أنظمتها الحزبية والانتخابية. لكي نبسط الأمر، نحن في حاجة إلى أن نفسِّر في آنٍ واحد لماذا أصبح هذا الكمُّ الكبير من جماعات الأقليات حازمًا أكثر في مطالباته الحقوقية؟ ولماذا أصبح هذا الكمُّ الكبيرُ من البلاد على استعداد لتقبُّل هذه المطالبات؟

ولستُ أعتقد أن لدينا فهمًا واضحًا لمثل هذه الأسباب الكامنة. لكني سوف أحاوِل في هذا الفصل أن أتعرَّف على العوامل التي جعلَت الاتجاه نحو تكيُّفٍ أعظم مع التنوُّع الثقافي العِرقي ممكنًا، بل ربما ضروريًّا، في الغرب.

وسوف أبدأ بالعامل الأيديولوجي الأكثر أهمية، وعلى وجه التحديد ظهور ثقافة حقوق الإنسان وما نتَج عنها من نقضٍ لشرعية السلطات العِرقية والعنصرية. كما سوف أحاوِل أن أبيِّن أن المُثُل العليا لحقوق الإنسان لم تُساعِد في إلهامِ وتبريرِ قضايا التعدُّدية الثقافية فقط، لكنها أثَّرَت كذلك بقوة في الطريقة التي تشكَّلَت بها هذه القضايا، بتوجيهها وتشذيبها لكي تتوافقَ مع قيم ومعايير حقوق الإنسان الدولية.

وفي ذلك مفارقةٌ واضحة. كما رأينا في الفصل الثاني، عندما بدأ تقنين معايير حقوق الإنسان من قِبل الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كان يُنظر إليها تحديدًا على أنها بديلٌ للنظام الداخلي للحرب فيما يتعلق بحقوق الأقليات، بحيث تجعل الأخيرة غير ضرورية. ولعشرات السنين بعد الحرب العالمية الثانية انتشرَت فكرة أن حقوق الإنسان حلَّت محل حقوق الأقليات. غير أن ثورة حقوق الإنسان أطلقَت مجموعةً من الأفكار المتعلقة بالمساواة العِرقية والعنصرية، ومجموعةً من الحركات السياسية الرافضة للهيراركية العِرقية والعنصرية، ما أدى بصورةٍ طبيعيةٍ إلى الكفاح المعاصر من أجل التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات. وعلى خلاف الأفكار التي سادت في أثناء الحرب عن حماية الأقليات، فإن حقوق الأقليات في هذا الكفاح المعاصر مغزولة بشكلٍ متين بالمُثُل العليا لحقوق الإنسان. لقد أثبت النموذج الناتج عن التعدُّدية الثقافية أنه وعاءٌ جاذبٌ لتحويل العلاقات التاريخية للهيراركية والعداء إلى علاقات مواطنةٍ ديمقراطية.

لكن المثَل الأعلى الأخلاقي الجاذب والقوي، نادرًا ما يكون كافيًا لتكوين إجماعٍ حول إصلاحاتٍ سياسيةٍ محدَّدة، ومن ثَم فسوف أنظر كذلك في بعض المبرِّرات الأكثر فطنةً واستراتيجية، التي جعلَت الجماعات والدول المُسيطِرة على استعداد لدعم أو على الأقل القبول بتبنِّي إصلاحات التعدُّدية الثقافية. وذلك يشمل تغيُّراتٍ في وضع الأمن السياسي الجغرافي في الديمقراطيات الغربية، وتغيُّراتٍ في طبيعة الاقتصاد العالمي.

وليس ثمَّة طريقةٌ لتحديد الوزن الحقيقي للمبرِّرات المبدئية لتبنِّي التعدُّدية الثقافية، إذا ما قُورنَت بالمبرِّرات الأكثر استراتيجية. ولكني أعتقد أن كلًّا منهما في الواقع مارس دورًا حيويًّا في ظهور التعدُّدية الثقافية في الغرب، وأن كلًّا منهما ضروري ومهم لتقييم الآمال من أجل انتشارها حول العالم.

ثورة حقوق الإنسان بوصفها إلهامًا

العامل الأول الذي يحتاج إلى أن ننظر فيه هو ثورة حقوق الإنسان. إن المُثُل العليا لحقوق الإنسان هي ما ألهَم وقيَّد في الوقت نفسه تبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية. والواقع أن الاتجاه نحو التعدُّدية الثقافية الليبرالية لا يُمكِن فهمُه إلا على أنه مرحلةٌ جديدةٌ في العمل التدريجي لتحقيق منطق حقوق الإنسان، لا سيما منطق مساواة البشر، كأفراد وشعوب في آنٍ معًا.

ومع تبنِّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام ١٩٤٨م، رفض النظام العالمي، على نحوٍ قاطع، الأفكار القديمة عن الهيراركية العِرقية أو العنصرية، التي أعطت بعضَ الناس أفضليةً على بعضهم الآخر،١ وبالتالي الحق في أن يحكموهم. ومن الأهمية بمكان أن نتذكَّر النزاع الذي دار حول فكرة المساواة البشرية … ففي العام ١٩١٩م عندما اقترحَت اليابان إضافة جُملةٍ حول المساواة العِرقية إلى ميثاق عصبة الأمم، سرعان ما رفضَت الاقتراحَ الولاياتُ المتحدة، وكندا، وقوًى غربيةٌ أخرى (ماكميلان، ٢٠٠١م، ص٣١٦–٣٢١). والواقع أن المزاعم حول هيراركية الشعوب كانت مقبولةً على نطاقٍ واسعٍ في جميع أنحاء أوروبا حتى الحرب العالمية الثانية، عندما أسقطَتْها سياساتُ هتلر المتطرفة الدموية. ولقد قام نظامُ الاستعمارِ بأَسْره على زعم الهيراركية بين الشعوب؛ ولقد كان هذا الزعم هو الأساس الواضح لكلٍّ من السياسات الداخلية والقانون الدولي خلال القرنِ التاسعَ عشرَ والنصف الأول من القرن العشرين (وذلك يشمل قوانين الهجرة المبنية على الإقصاء العنصري، والتي وُجِدَت في كل دول العالم الجديد التي سبق ذكرُها في الفصل السابق). وباختصار، ففي فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، كانت «العنصرية في أنحاء العالم مقبولة اجتماعيًّا على نطاقٍ واسع، ومدعومة سياسيًّا، ومسنودة اقتصاديًّا، ومبرَّرة ثقافيًّا، ومُتغاضًى عنها قانونيًّا (لورين، العام ١٩٩٦م، ص١٤٤).
لكن منذ العام ١٩٤٨م، أصبحنا نعيش في عالم لا جدال فيه حول فكرة المساواة البشرية، على الأقل رسميًّا، ولقد ولَّد ذلك سلسلةً من الحركات السياسية التي استهدفَت نقضَ الحضور الباقي والآثار الثابتة للهيراركية العنصرية والعِرقية القديمة. (كما ألهمت الحركات لنقض أنواعٍ أخرى من الهيراركية، مثل الجنس Gender، والإعاقة والتوجُّهات الجنسية).

أما فيما يتعلق بالهيراركية العنصرية والعِرقية، ففي استطاعتنا أن نتعرَّف على تسَلسُل لهذه الحركات. كان أولها التحرُّر من الاستعمار من نحو العام ١٩٤٨م وحتى العام ١٩٦٦م، بعض البلدان الغربية التي وقَّعَت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم تكن تعتقد أن التصديق على مبدأ مساواة الشعوب سيتطلب منها التخلي عن مستعمراتها (مثل: فرنسا، وإسبانيا، والبرتغال). غير أن هذا الموقف لم يكن قابلًا للاستمرار، فأصبحَت الرابطة بين المساواة والتحرُّر من الاستعمار واضحةً في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٥١٤ لسنة ١٩٦٠م، بشأن التحرُّر من الاستعمار.

وكانت المرحلة الثانية إلغاء التفرقة العنصرية، منذ نحو العام ١٩٥٥م حتى العام ١٩٦٥م، التي بدأَت بنضال الأمريكيين الأفارقة من أجل الحقوق المدنية، كما ألهمَها إلى حدٍّ ما النضال من أجل التحرُّر من الاستعمار.٢ وعندما وقَّعَت الولايات المتحدة الأمريكية على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام ١٩٤٨م، لم يكن هناك اعتقادٌ بأن ذلك سوف يتطلب التخلي عن قوانين التفرِقة العنصرية. غير أن هذا الموقف أيضًا لم يكن قابلًا للاستمرار، وأصبَحَت الرابطة بين المساواة والتفرقة العنصرية واضحةً في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في الأمم المتحدة في العام ١٩٦٥م.

وبالتالي، فقد ألهم نضالُ الأمريكيين الأفارقة من أجل الحقوق المدنية الجماعاتِ الثقافيةَ العِرقية الخاضعة تاريخيًّا في جميع أنحاء العالم أن تتخذ أساليبَها الخاصَّة للكفاح ضد الحضور الباقي للهيراركيات العِرقية والعنصرية. وفي استطاعتنا أن نرى ذلك في الطريقة التي تَبنَّى بها السكان الأصليون مقولة «القوة الحمراء»، أو في الطريقة التي كانت تُطلِق بها الأقليات القومية (مثل الكيوبيكيين في كندا، والكاثوليك في أيرلندا الشمالية) على نفسها اسم «الزنوج البيض» (فالييريز، ١٩٧١م)، أو الطريقة التي تَبنَّى بها المهاجرون الكاريبيون إلى المملكة المتحدة خطابَ واستراتيجياتِ الأمريكيين السود القانونية. ولقد تأثَّرَت جميعُ هذه الحركات بعُمقٍ بالأفكار الأمريكية عن ليبرالية الحقوق المدنية، والتزامها بالدفاع عن المساواة للأقليات المظلومة والموصومة.

ومع ذلك، مع انتشار ليبرالية الحقوق المدنية، كان لا بُد من تبنِّي التحديات الفعلية التي تُواجِه أنواعًا مختلفةً من الأقليات في جميع أنحاء العالم؛ فبالنسبة إلى المنظِّرين الأمريكيين، فقد كان تفسير أفكار مثل «الحقوق المدنية» و«المساواة» من خلال منظور معارضة التفرقة بصفةٍ عامة، ومحاربة التفرِقة العنصرية بصفةٍ خاصة. أما بالنسبة لأغلبية المنظِّرين الأمريكيين فإن نوعية الحقوق التي لا بد لليبرالية الحقوق المدنية من الدفاع عنها هي من ثمَ حقوق المواطنة التي لا تمايُز فيها داخل الدولة المدنية، التي تعلو على الفوارق العِرقية والعنصرية والدينية.

ومع ذلك، ففي معظم البلدان تختلف ظروفُ الأقليات عن ظروفِ الأفارقة الأمريكان، ومن ثَم تختلف كذلك الحقوق المدنية والسياسية التي يحتاجون إليها؛ فالأفارقة الأمريكان كانوا يُعانون التفرقة برغم إرادتهم، فقط بسبب جنسهم، فقد استُبعدوا من المؤسسات العامة وحُرموا من الفرص التي كثيرًا ما رغبوا فيها، غير أن كثيرًا من الأقليات كانت في الوضع المضاد؛ فقد جرى احتواؤهم برغم إرادتهم، وجُرِّدوا من لغتهم الأصلية، ومن ثقافتهم الخاصة، ومن مؤسَّسات الحكم الذاتي. كما عانَوا الاضطهاد من جانب مواطنيهم، الذين أنكَروا أن تكون لهم حقوقٌ مدنية، وذلك بمساندة الأغلبية المتحمِّسة على أساس دونيَّتهم أو تخلُّفهم؛ ومن ثَم فقد احتاجوا كذلك إلى الحماية من الأغلبية. غير أن الشكل الذي اتخذَته هذه الحماية لم يكن ضد التفرقة العنصرية أو التمايُز في المواطنة فقط، بل السعي إلى حقوقِ جماعاتِ الأقليات المختلفة؛ ففي كندا، على سبيل المثال، يشمل ذلك الحكم الذاتي الإقليمي وثنائية اللغة (بالنسبة للكيوبيكيين Quebecois)، وقضايا الأرض ومعاهدة الحقوق (بالنسبة للسكان الأصليين)، وأنواعًا مختلفة من التكيُّف مع التعدُّدية الثقافية (بالنسبة إلى الجماعات العِرقية وجماعات المهاجرين).٣

وفي اعتقادي أن النضال من أجل حقوقِ الأقلياتِ المختلفةِ لا بد من فهمِه على أنه تكيُّفٌ محليٌّ مع ليبرالية الحقوق المدنية، وهو بالتالي مرحلةٌ جديدةٌ في الكشف عن ثَورة حقوق الإنسان. وكما أن التحرُّر من الاستعمار ألهَم النضال من أجل إلغاء التفرقة العنصرية، كذلك فإن إلغاء التفرقة العنصرية ألهَم النضال من أجل حقوق الأقليات والتعدُّدية الثقافية. وهذه المرحلة الثالثة ألهمَتها ليبرالية الحقوق المدنية الخاصة بالمرحلة الثانية (وكذلك النضال للتحرُّر من الاستعمار في المرحلة الأولى)، وتشترك معها في الالتزام بالنضال ضد الهيراركية العِرقية والعنصرية، وتسعى إلى تطبيق هذا الالتزام بفاعليةٍ أكثر على النطاق الفعلي للاستبعاد والوصمات والمظالم الموجودة في الديمقراطيات الغربية، قلةٌ من البلدان التي وقَّعَت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، توقَّعَت أن المصادقة على مبدأ المساواة بين الشعوب ستتطلب قبولَ معايير التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات. غير أن هذا الموقف كذلك أصبح غيرَ قابلٍ للاستمرار، وأصبَحَت الرابطة بين المساواة والتعدُّدية الثقافية صريحةً وواضحةً في إعلان الأمم المتحدة في العام ١٩٩٢م لحقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية أو عِرقية أو دينية أو لغوية.

في كل تلك المراحل الثلاث من النضال ضد الهيراركية العِرقية والعنصرية، لم تكن للتغيير في القانون الدولي ذي التأثير الضئيل في حياة معظم الناس اليومية أهميةٌ في حد ذاته. إن التغيُّر الحقيقي هو ما حدَث في وعي الناس؛ حيث يُطالِب أعضاءُ الجماعاتِ الثانويةِ الخاضعة تاريخيًّا اليوم بالمساواة، يطالبون بها بوصفها حقًّا لهم؛ فهم يعتقدون أنهم يستحقون المساواة، وأنهم يستحقونها الآن، وليس في مستقبلٍ بعيدٍ غيرِ منظور.

وهذا النوع من الوعي بالحقوق أصبح سمةً من سمات الحداثة، حتى أصبح من الصعب علينا أن نتخيل أنه لم يكن موجودًا دائمًا. ولكن إذا فحصنا السجلات التاريخية، لوجدنا أن الأقليات في الماضي قد برَّرَت قضاياها غالبًا لا بالرجوع إلى المساواة أو حقوق الإنسان، بل بالتوسُّل إلى كَرم الحُكَّام بإسباغ «الامتيازات» التي كانت كثيرًا ما تُقدَّم مقابل ولاءاتٍ وخدماتٍ سابقة. (شويتاي، ٢٠٠٣م). أما اليوم فقد أصبح للجماعات حسٌّ قويٌّ بحقها في المساواة كحقٍّ إنسانيٍّ أساسي، وليس تفضُّلًا أو إحسانًا، وأصبَحوا يضيقون ذرعًا بأي مظهرٍ عالقٍ من مظاهر الهيراركيات.٤ وليس ثمَّة إجماع، بالطبع، حول ما تعنيه كلمة «المساواة» (في المقابل، ليس هناك اتفاقٌ حول أنواع الأفعال أو الممارسات التي تُعتبَر شواهدَ على «الهيراركية»)؛ فالذين يُوافِقون على المبدأ العام للمساواة بين الشعوب قد لا يُوافِقون على متى تكونُ ثنائيةُ اللغة الرسمية مطلوبةً على سبيل المثال، أو المشاركة في السلطة أو التكيُّف الديني. لكن لا يُمكِن أن يكون هناك شكٌّ في أن الديمقراطية الغربية ميَّزَت — تاريخيًّا — جماعةً قوميةً معينةً على غيرها من الجماعات الأخرى التي خضَعَت للاستيعاب أو الاستبعاد. ولقد انعكسَت هذه الهيراركية التاريخية على مدًى واسعٍ من السياسات والمؤسسات، من المدارس ورموز الدولة إلى سياسات تتعلق باللغة، والهجرة، ووسائل الإعلام، والمواطنة، ومقاسمة السلطات، والنُّظُم الانتخابية. وما دام أنه في استطاعة قادة الجماعات غير المُسيطِرة التعرُّف على (أو تصوُّر) مظاهر هذه الهيراركيات التاريخية، فإنهم سيكونون قادرين على جلب الوعي القوي بالحقوق لأعضائها.

ثورة حقوق الإنسان بوصفها قيدًا

وثورة حقوق الإنسان مهمة من ناحيةٍ أخرى؛ فهي تقيِّد، كما أنها تُلهِم السعي إلى التعدُّدية الثقافية، ووظيفة التقييد تلك تُساعِد في تفسير السبب الذي جعل الدول والجماعات المُسيطِرة على استعدادٍ أكثر لقَبول قضايا ومطالبِ الأقلية؛ إذ ليس من المتوقَّع أن تقبَل الدول الأشكالَ القويةَ من حقوق الأقلية، ما دامت تخشى أن يؤدي هذا القَبول إلى جُزر من الطغيانِ المحليِّ داخل حدود الدولة الديمقراطية؛ فاحتمال ظفَر إصلاحات التعدُّدية الثقافية بدعمٍ شعبيٍّ يعتمد — بشكلٍ قوي — على الثقة بأن هذه الإصلاحات لن تُعرِّض حقوق الإنسان والقيم الليبرالية الديمقراطية للخطر، من هنا كانت لثورة لحقوق الإنسانية وظيفتان؛ فلو كانت ساعدَت في إلهام الأقليات للدفع بالتعدُّدية الثقافية، فمن الصواب — كذلك — أن نقول إن ثورة حقوق الإنسان حدَّدَت الطريقة التي صاغت بها الأقلياتُ حقوقَها. والواقع أن ثورةَ حقوق الإنسان سلاحٌ ذو حدَّين؛ فهي من ناحيةٍ خلقَت مساحةً سياسيةً للجماعات العِرقية الثقافية لمعارضة الهيراركيات الموروثة. لكنها من ناحيةٍ أخرى تُلزِم الجماعاتِ بأن تطرح قضاياها بلغةٍ محدَّدةٍ جدًّا، هي لغةُ حقوق الإنسان، ليبرالية الحقوق المدنية، والدستورية الديمقراطية، مع ضمان المساواة بين الجنسَين، والحرية الدينية، وعدم التفرقة العنصرية، وحقوق المثليين، وما إلى ذلك. وفي استطاعة قادة الأقليات أن يلجئوا إلى المُثُل العليا للتعدُّدية الثقافية الليبرالية لتحدِّي استبعادهم التاريخي، وتبعيَّتهم التاريخية، غير أن هذه المُثُل ذاتها تفرضُ عليهم واجبًا هو العدل، والتسامُح والاشتمال.

وبالطبع، فحقيقة أن جماعات الأقلية تطرح قضاياها بلغة حقوق الإنسان والدستورية الليبرالية لا تكفي وحدها لتوليد الثقة بأن هذه القيم سوف يُتمسَّك بها، وربما يكون استخدام هذه اللغة مجرد طريقةٍ استراتيجيةٍ يجري تبنِّيها فقط للاستهلاك العام؛ فربما أراد القادة التقليديون لجماعة الأقلية أن يُعارِضوا تبعيَّتَهم للجماعة المُسيطِرة، في حين يبقى لديهم الأمل أن يظلوا محتفظين بسيطرتهِم على النساء، والأقلياتِ الدينية، والمهاجرين، وجماعاتِ الطوائف الدنيا.

وعلى ذلك فإن السؤال هو: هل هذه القيم سوف تُحترم عمليًّا؟ في الديمقراطيات الغربية الراسخة، هناك مبرِّراتٌ جيدةٌ للثقة بتحقيق هذه النتيجة، وتنشأ هذه الثقة من مصدرَين:
  • (١)

    وجود آليةٍ قانونيةٍ قويةٍ لحماية حقوق الإنسان.

  • (٢)

    وجود إجماعٍ على القيم الديمقراطية الليبرالية يخترق الخطوط العِرقية.

وإذا ذكرنا ذلك بطريقةٍ مبسَّطة، قلنا إنه ليس ثمَّة مجالٌ قانوني للأقليات لكي يتخلَّوا عن معايير حقوق الإنسان باسم التعدُّدية الثقافية، وبالنسبة إلى معظم الأقليات، ليس ثمَّة رغبة في أن يفعلوا ذلك.

ومن وجهة النظر القانونية، فإن سياسات التعدُّدية الثقافية تعمل داخل الإطار الأوسع للدستورية الليبرالية، وبالتالي فإن السلطات الموكَلة إلى مؤسسات الأقليات تخضع تمامًا لنفس المعايير العامة لاحترام حقوق الإنسان والحريات المدنية كأي مؤسسةٍ عامةٍ أخرى. والواقع أنه في كل حالة من حالات الفدراليات المتعددة القومية — في الغرب على سبيل المثال — تخضع الحكومات الثانوية للضغوط الدستورية نفسها التي تخضع لها الحكومة المركزية، وبالتالي ليس لديها القدرة القانونية التي تُمكِّنها من تقييد الحريات الفردية باسم المحافظة على الأصالة الثقافية والعقيدة الدينية، أو النقاء العنصري،٥ وهي في كثير من الحالات تخضع أيضًا لرقابة حقوق الإنسان المحلية والدولية، وبصفةٍ عامة أكثر فهي تتكامل في نسيجٍ كثيف من آليات حماية الحقوق (بما في ذلك المحاكم الدستورية، ولجان حقوق الإنسان، ودواوين المظالم … إلخ). وللشعوب التي تعيش في كياناتٍ مستقلة في اسكتلندا، وكتالونيا، وكيوبك بعض أكثر النُّظم تقدُّمًا في العالم بالنسبة إلى حماية حقوق الإنسان.
ليس فقط أنه من المستحيل بالنسبة للأقليات في الغرب أن تُقيم جُزرًا من الحكم غير الليبرالي، بل يتبيَّن لنا في كثيرٍ من الحالات أن الأقليات لا تأمل ذلك؛ ففي حالات الأقليات القومية، على سبيل المثال، على نحو ما سنرى في الفصل القادم، فإنَّ كل الشواهد تَدُل على أن أعضاء الأقليات القومية ملتزمون بقوةٍ بقيم الديمقراطية الليبرالية كأعضاء الجماعات المُسيطِرة، إن لم يكن أكثر، وذلك يُزيل أحد المخاوف الرئيسية الموجودة لدى الجماعات المُسيطِرة من الحكم الذاتي عند الأقلية، وفي أجزاءٍ كثيرةٍ من العالم هناك خوفٌ من أن الأقليات القومية أو السكان الأصليين بمجرد أن يحصُلوا على سلطة الحكم الذاتي فإنهم قد يستخدمونها في اضطهاد، ونزع ملكية، وطرد، بل حتى قتل كل من لا ينتمي إلى جماعة الأقلية. أما في الديمقراطيات الغربية الراسخة، فلا يُمثِّل ذلك قضية، فليس ثمَّة خوفٌ من أن تقوم جماعاتُ الحكم الذاتي باستخدام سلطتها في إقامة جُزرٍ من الطغيان أو الحكم الديني. وبصفةٍ خاصةٍ أكثر ليس ثمَّة خوفٌ من أن يخضع أعضاءُ الجماعة المُسيطِرة، ممن يعيشون على أرض الحكم الذاتي للأقلية، للاضطهاد أو الطرد؛ فالحقوقُ الإنسانية للإنجليز المقيمين في اسكتلندا محميةٌ بقوة، ليس فقط بواسطة القانون الدستوري الاسكتلندي، بل أيضًا بواسطة القانون الأوروبي، وسوف يصدُق ذلك حتى لو انفصَلَت اسكتلندا عن بريطانيا. وكذلك الحقوق الإنسانية للمواطنين الإنجليز الكنديين المقيمين في كيوبك Quebec. والمقيمون القشتاليون في قشتاليا (في وسط إسبانيا) محميُّون تمامًا، أيًّا كان ما ينتهي إليه الوضع السياسي لكيوبك أو قشتاليا.
هناك بالطبع شطحاتٌ غير ليبرالية داخل حركات الأقليات القومية — خذ مثلًا الأجنحة العنصرية والمعادية للهجرة للقوميتَين الباسكية (في جبال البرانس) والفلمنكية Flemish (في شمال بلجيكا) — كما أن هناك مثل ذلك داخل الجماعات المُسيطِرة تاريخيًّا، بل إن مستوى المسانَدة للقيم الديمقراطية الليبرالية داخل بعض الجماعات المهاجرة والسكان الأصليين هو موضعُ نزاعٍ كبير. وهناك دائمًا مخاطرةٌ أن تقوم العناصر غير الليبرالية، بالاستيلاء على المؤسسات والبرامج القائمة باسم التعدُّدية الثقافية الليبرالية، وسوف أعود إلى مناقشة هذه المخاطَرة في الفصل القادم، عندما أناقِش كيف ينبغي علينا تقييم التعدُّدية الثقافية الليبرالية من الناحية العملية. غير أن تبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية يعتمد على ما أطلقَت عليه نانسي روزنبلم «التوقُّع الليبرالي» (N. Rosenblum 1998: 55) — أعني توقُّع وانتظار أن تنمو القيم الديمقراطية الليبرالية مع الوقت وتضرب بجذورها بقوة عَبْر الخطوط العنصرية والعِرقية والدينية داخل جماعات الأقليات وجماعات الأغلبية في آنٍ معًا، وأن تكون هناك في الوقت نفسه آلياتٌ قوية ومتينة لتأمين وضمان ألا يتم الاستيلاء على سياسات التعدُّدية الثقافية ومؤسَّساتها، واستغلالها لأغراضٍ غير ليبرالية.
إن هذا التوقع الليبرالي يعتمد، من ناحية، على افتراض أن المبادئ والبنية العامة للديمقراطية الليبرالية تُمارِس لونًا من الشد والجذب على معتقدات وممارسات الجماعات الدينية والعِرقية. (غالستون، ١٩٩١م، ص٢٩٢). وكما لاحظَت روزنبلم Rosenblum فإن تشبيه «الجذب والشد»، وهو قوةٌ منتشرةٌ وإن كانت غير مرئية، يُخفي أكثر مما يكشف عملَ الآليات الفعلي، والواقع أن كثيرًا من المناقشات للتوقُّع الليبرالي تتميز بغموضٍ ما، لكن هناك شواهد كثيرة على أن مثل هذا المسار قد وقع تاريخيًّا عندما بدأ الكاثوليك واليهود يفدون إلى الولايات المتحدة لأول مرة في القرنِ التاسعَ عشر؛ فعلى سبيل المثال انتشَر اعتقادٌ راسخ بأن معتقداتهم الأبوية المحافظة أعاقتهم عن اعتناق الديمقراطية الليبرالية، ومع ذلك فإن معظم الجماعات الدينية في أميركا أصبحَت ليبرالية، وأدخلَت بالتدريج معايير الحرية الفردية والتسامُح والمساواة بين الجنسَين مع مفاهيمهم الخاصة.
وبالمثل، فقد كانت هناك شكوكٌ حول ما إذا كانت الموجات الأولى من المهاجرين إلى الولايات المتحدة وكندا من جنوب أوروبا وشرقها، حيث لم تضرب الديمقراطية الليبرالية بجذورها، قادرةً على أن تتشرَّب القيم الديمقراطية الليبرالية. غير أن هذه الجماعات اليوم تُعتبَر من أكثر المدافعين عن المبادئ الدستورية إخلاصًا. وبعض الجماعات القومية الثانوية التي راودتها من قبل أيديولوجيات استبدادية مثل الكيوبك Quebec فيما بين الحربَين العالميتَين قد تحوَّلَت إلى الليبرالية بطريقةٍ مثيرة.
هذه التجارب المبكِّرة للتوقُّع الليبرالي ساعدت — بالفعل — في توليد الثقة بأن التعدُّدية الثقافية يمكن أن تتضمَّن — بأمان — داخل حدود الدستورية الديمقراطية الليبرالية ومعايير حقوق الإنسان. وفي مجتمع تشرَّب باقتناعاتٍ قويةٍ في هذا التوقُّع الليبرالي، فإن المواطنين يشعرون بالثقة بأن حقوقهم السياسية والمدنية الأساسية سوف تُحترَم أيًّا كانت الطريقة التي تُحسم بها قضايا التعدُّدية الثقافية؛ فكيفما حُلَّت قضايا الجماعات العِرقية الثقافية — كيفما تَم تبنِّي حقوق اللغة، وحقوق الحكم الذاتي، وحقوق الأرض، وسياسات التعدُّدية الثقافية — فإن الناس يُمكِن أن يكونوا على يقينٍ بأنهم لن يُحرَموا من جنسيتهم، أو يتعرَّضوا للتطهير العِرقي، أو للسجن من دون محاكمةٍ عادلة، أو أن يُحرَموا من حقهم في حرية الكلام، أو حق الاجتماع، أو حق العبادة. إن الإجماع على القيم الديمقراطية الليبرالية يضمن ببساطة ألا تكون المجادلات حول التكيُّف مع التنوُّع مسألة حياة أو موت، وبالتالي، فلن تحارب الجماعاتُ المُسيطِرة حتى الموت لمقاومة مطالب الأقلية.٦

هذا الدَّور المزدوج لحقوق الإنسان — كعامل إلهام وعامل مقيد في آن معًا — كان محوريًّا لتمكين قَبول وتبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية؛ فقد جعل قضايا الأقليات المظلومة تاريخيًّا مشروعة، مع ذلك أكَّد لأعضاء الجماعة المُسيطِرة أنه بغَض النظر عن الطريقة التي يُحلُّ بها الجدَل حول حقوق الأقليات، فإن حقوق الإنسان الأساسية ستبقى مصونة.

وبهذه الطريقة يمكن أن نفهم التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب بوصفها عمليةً في اتجاه «المواطنة»، برطانة علم الاجتماع. ومن الناحية التاريخية فإن التنوُّع الثقافي العِرقي والديني قد اتسم بعددٍ من الروابط غير الديمقراطية وغير الليبرالية — بما في ذلك علاقات القاهر والمقهور والمستعمِر والمستعمَر، والمستوطنين والسكان الأصليين، والعنصريين وغير العنصريين، والمنحرفين والطبيعيين (أسوياء)، والحلفاء والأعداء، والمتمدينين والمتخلفين، والسادة والعبيد. وتمثَّلَت مهمة جميع الديمقراطيات الليبرالية في تحويل هذه القائمة من العلاقات غير المتحضرة إلى علاقاتٍ خاصة بالمواطنة الديمقراطية الليبرالية، بالنسبة إلى العلاقات الرأسية بين أعضاء الأقليات والدولة، وكذلك العلاقات الأفقية بين أعضاء الجماعات المختلفة.

كان من المألوف، في الماضي، أن نزعم أن الطريقة الوحيدة — وربما المثلى — للاشتراك في عملية «المواطنة» تلك هي أن نعرض نموذجًا واحدًا من المواطنة لا يختلف على جميع الأفراد. غير أن التعدُّدية الثقافية الليبرالية بدأَت من الزعم بأن هذا التاريخ المركَّب المعقَّد يخلق — بالضرورة، وبطريقةٍ مناسبة — مطالباتٍ عرقيةً سياسيةً متفاوتة وفقًا للجماعات المختلفة. إن مفتاح المواطنة هو ألا نكبِت هذه القضايا المختلفة، بل بالأحرى ننقِّيها ونضعها في إطار، هو لغة الحقوق الإنسانية، والحريات المدنية، والمسئولية الديمقراطية،٧ وذلك على وجه الدقة هو ما تسعى التعدُّدية الثقافية الليبرالية إلى القيام به، بوصفه المرحلة الثالثة في نضال حقوق الإنسان ضد الهيراركية العِرقية والعنصرية.

وفي رأيي أن قَبول التعدُّدية الثقافية في الغرب وجاذبيتها كنموذجٍ يمكن أن ينتشر في العالم، يرتبط ارتباطًا أساسيًّا بعملية المواطنة هذه. والفكرة التي تقول إن التعدُّدية الثقافية يُمكِن أن تخدم كوعاءٍ فعَّال لخلق وتقوية علاقات المواطنة الديمقراطية الليبرالية في الدول المتعدِّدة العِرقيات هي موضعُ نزاع. والواقع أن معظم الشُّرَّاح الذين كتبوا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانوا سيرفضون هذه الفكرة، خشية أن تؤدي — ببساطة — إلى توليد علاقات العداء أو الهيراركية. ولكن لدينا الآن أربعون سنةً من الخبرة في الغرب، مع نماذجَ متعدِّدة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية. وعلى نحو ما سوف أناقِش الموضوع في الفصل القادم، فإن هناك شواهدَ متناميةً على أن هذه النماذج يُمكِنها — في الواقع — القيام بهذه الوظيفة.

وليست التعدُّدية الثقافية هي المثال الوحيد لهذه العملية نحو المواطنة، بل على العكس، فإن ظهور التعدُّدية الثقافية وانتشارها في الغرب لا بد من أن يُوضَعا ضمن العملية الأكثر اتساعًا للتحرُّر والديمقراطية التي ظهرَت عَبْر النطاق الكلي للسياسة الاجتماعية، ابتداءً من ستينيات القرن الماضي، على سبيل المثال: الحقوق التحررية المتعلقة بالإنجاب (قوانين الإجهاض ومنع الحمل)، والتحرُّر في قوانين الطلاق، وإلغاء عقوبة الإعدام، ومنع التمييز الجنسي والديني، وعدم تجريم المثلية الجنسية، من بين إصلاحاتٍ كثيرةٍ أخرى، كلها توجُّهات هدفَت إلى إحلال العلاقات غير المدنية القديمة الخاصة بالسيادة وعدم التسامُح، بعلاقاتٍ جديدةٍ عن المواطنة الديمقراطية. وهذه الإصلاحات وسياستُها كانت بدَورها تعكس عملياتٍ أوسعَ من التحرُّر في المجتمع المدني والرأي العام، مع الإزاحة المثيرة للمواقف المحافِظة، والأبوية، والتمييزية مقابل قيمٍ أكثر تحررًا ومساواةً واستقلالية.٨ وظهور التعدُّدية الثقافية كان أحد الأبعاد لهذا النضال الواسع المدى، لتحرير المجتمع، وتنفيذ المُثُل العليا لثورة الحقوق الإنسانية ولتحرير الحقوق المدنية.

التعدُّدية الثقافية والتحرُّر

يجب ألا يكون التفسير الذي قدَّمتُه حتى الآن مفاجئًا؛ إن مضمون ما قلتُه هو أن الديمقراطية في الغرب تبنَّت تصوُّرًا ديمقراطيًّا ليبراليًّا للتعدُّدية الثقافية، ومن المؤكَّد أن ذلك هو ما يتوقَّعه المرء، مما يحجُب أي دليلٍ واضحٍ على العكس. ومما تجدُر ملاحظتُه أن قلةً من المعلِّقين كانوا على استعدادٍ لتأمل إمكان أن تكون التعدُّدية الثقافية ظاهرةً ديمقراطيةً ليبرالية، ومقدار الطاقة الذهنية التي بُذلَت للعثور على أو ابتكار أي عددٍ من التفسيرات البديلة للأسس العقلية والدوافع الأخلاقية من ورائها.

وكما لاحظتُ من قبلُ، فقد ذهب بعض المعلقين إلى أن فكرة التعدُّدية الثقافية نفسها تُعارِض منطق الديمقراطية الليبرالية، وأن التحوُّل نحو الاعتراف بحقوق الجماعات المختلفة يمثِّل ردَّ فعل ضد التحرُّر وحقوق الإنسان. ومن هذا المنظور، فإن المرحلتَين الأوليَين من صراع ما بعد الحرب الهيراركية العِرقية والعنصرية — التحرر من الاستعمار وإلغاء التفرقة العنصرية — قد أُلهِمتا بليبرالية عصر التنوير، غير أن المرحلة الثالثة تمثِّل انحرافًا، وردَّ فعلٍ ضد ليبرالية الحقوق المدنية.

ولقد اختلَف المعلقون حول الطبيعة الدقيقة لهذا الانحراف، فالواقع أن الكتابات الأكاديمية حافلةٌ بالنظريات الخيالية المختلفة حول كيف وأين انطلقَت التعدُّدية الثقافية من التراث الليبرالي، فذهب بعضُهم إلى أن التعدُّدية الثقافية قامت على ردِّ فعلٍ ثقافي نسبي ضد الليبرالية، تضرب بجذورها في الرومانسية الألمانية في القرن التاسعَ عشَر، ويرى فينكيلكروت، على سبيل المثال، أن المرحلتَين الأوليَين قد تم تصوُّرهما تحت رعاية ديدرو وفولتير أو كوندروسيه، في حين أن المرحلة الثالثة قادتها شوفينية هيردر وشبنغلر وتفكيرهما النسبي (فينكيلكروت، ١٩٨٨م، ص٥٤ وص٦٤). بينما ذهب آخرون إلى أن التعدُّدية الثقافية تقوم على رفض ما بعد الحداثة والتفكيكية لليبرالية، هو رفض يضرب بجذوره في المذهب الشكي عند نيتشه. ويرى ريتشارد كابوتو، على سبيل المثال «أن أنصار التعدُّدية الثقافية اتجهوا إلى قبول رفض نيتشه للعقلانية مع فكرتها عن الحقيقة الكلية والعدالة الشاملة» (كابوتو، ٢٠٠١م، ص١٦٤).

وعلى حين أن هذه التأويلات مألوفة في الكتابات الأكاديمية فإنني، ببساطة، لا أعتقد أن هناك دليلًا عليها يُمكِن تصديقُه، على الأقل داخل الديمقراطيات الغربية، لقد قرأتُ حرفيًّا المئات من البحوث والوثائق السياسية التي كتبها مشاركون مختلفون في شبكات السياسة حول التعدُّدية الثقافية — والحكومات، وجماعات الدفاع المحترِفة، والمنظمات الخيرية — وكذلك القوانين الناتجة عن ذلك وقضايا المحاكم، ولم أجد مناقشةً واحدةً تُعبِّر عن أي تعاطُف مع شبنغلر أو نيتشه صراحةً أو ضمنًا.

وعلى ذلك ففي استطاعتنا أن نجد في المناقشات العامة تفسيرًا آخر للطريقة التي تشعَّبَت بها التعدُّدية الثقافية عن الليبرالية؛ فقد قيل إن التعدُّدية الثقافية تدور حول «الثقافة»، والثقافة (على الأقل في سياق الجماعات العِرقية) تدور أساسًا حول «التراث» الموروث عن الأجداد؛ ولذلك فإن التكيُّف مع التنوُّع الثقافي هو أساسًا ضربٌ من المحافظة على «طُرق الحياة الموروثة». ويُمكِن تطوير تلك الفكرة الأساسية بطرقٍ شتَّى. ويذهب أحد الأشكال المألوفة إلى أنه على حين أن بعضَ درجاتِ التغيُّر الثقافي لا مندوحة عنها، فهناك ممارساتٌ معيَّنة حيوية ﻟ «أصالة» أو «استقامة» الثقافة، التي تنبغي حمايتُها من التغيُّر. ولقد قيل إن هذه الممارسات «الأصلية» أساسيةٌ لهُوية الجماعة؛ ومن ثَم فهي أساسية لهُوية أعضائها من الأفراد. ويُعتقد أن هذه الرابطة بين الثقافة والهُوية تكون قويةً بصفةٍ خاصة إذا ما كانت الممارسة الثقافية «تقليدية» — أي مغروسة بعمق في تاريخ الشعب، وليست فقط نتيجة لتبنٍّ حديث، أو مؤثِّراتٍ خارجية. ومن هذا المنظور، فإن الحقوق الثقافية وسياسات الاشتمال الثقافي تبدو أنها تستهدف أولًا وحصريًّا حمايةَ مثلِ هذه الممارسات الثقافية الأصلية من ضغوط التغيير.

من هذا المنظور، تُؤَوَّل قضايا التعدُّدية الثقافية من خلال مجموعة من الأفكار التي ترتبط بالأصالة الثقافية وهُوية الجماعة، وتُفسَّر «الثقافة» عادةً من خلال مجموعةٍ من الممارسات المُنفصِلة، وتُفضَّل الممارساتُ «التقليدية» و«الأصيلة»، ويُقال إن هذه الممارساتِ أساسيةٌ لهُوية الجماعة، ومن ثَم لهُوية الأعضاء الأفراد؛ وبالتالي لا بد من التكيُّفِ معها وحمايتِها عن طريق سياسات التعدُّدية الثقافية.

وهذه نسخةٌ مما أسماه أمارتيا سن «المنظور المجتمعي» أو «المنظور المحافظ» للتعدُّدية الثقافية (UNHDR 2004)، أو ما يُمكِن أن نُطلِق عليه نحن ببساطة اسم «المنظور التقليدي».٩ ولا بد من أن يكون واضحًا على نحوٍ مباشر، وهذا ما آمله، أن هذا التفسير ليس مختلفًا فقط عن، بل يتناقض بوضوحٍ مع، التفسير الليبرالي الذي قدَّمتُه. إن النظرة الليبرالية للتعدُّدية الثقافية لا مندوحةَ عنها قصدًا من أن تُحوِّل التراثَ الثقافي للشعب. وهي تتطلب — في آنٍ معًا — من الجماعاتِ المُسيطِرةِ والجماعاتِ الخاضعةِ تاريخيًّا الانخراطَ في ممارساتٍ جديدة، والدخول في علاقاتٍ جديدة، واعتناق مفاهيمَ وخطاباتٍ جديدة، تعمل على تحويل هُويات شعبٍ وممارساته.
وربما كان ذلك أكثر وضوحًا في حالة الأغلبية القومية المُسيطِرة تاريخيًّا في كل بلد؛ حيث يكون مطلوبًا منها التخلي عن أوهامها حول التفوُّق العنصري، والتنازُل عن مطالبها في الملكية الحصرية للدولة، والكف عن محاولات تشكيل المؤسسات العامة في صورتها القومية الخاصة (البيضاء أو المسيحية غالبًا). والواقع أن قَدْرًا كبيرًا من مسيرة التعدُّدية الثقافية الطويلة، عَبْر المؤسسات، يعتمد أساسًا على التعرُّف على ومهاجمة العادات والتقاليد المتأصِّلة، والرموز التي استَبعدَت الأقليات تاريخيًّا ووصمَتْها بصفاتٍ سيئة. ولقد كُتِب كثيرٌ مما تطلَّبه ذلك من تحوُّلاتِ هُوياتِ الأغلبية وممارساتها، وما تستطيع أن تخلُقه من حركةٍ ارتجاعيةٍ مفاجئة.١٠
غير أن التعدُّدية الثقافية الليبرالية تستهدف كذلك تحويل وتغيير هُويات وممارسات جماعات الأقلية؛ فلكثيرٍ من هذه الجماعات تاريخُها الخاص من الأحكام العِرقية والعنصرية المُبتسَرة، ومعاداة السامية، والاستبعاد الجنسي والطائفي، والاستعلاء الديني، والسلطوية السياسية، وهذه الخصائص كلها رفضَتها معايير التعدُّدية الثقافية الديمقراطية الحرة وحقوق الأقليات.١١ وفضلًا عن ذلك، فحتى عندما تخلو الممارساتُ التقليدية لجماعات الأقلية من هذه الخصائص غير الليبرالية وغير الديمقراطية، فقد تنبثقُ بعضُ هذه الممارسات استجابةً لتجربة التمييز، ووصمات الإساءة، أو الاستبعاد على أيدي الآخرين، وقد تُفقَد جاذبيتها عندما تبهت التجربة المحفِّزة في أذهان الناس. وقد طوَّرَت بعضُ جماعات الأقليات نماذجَ متميِّزة لمساعدة الذات، والزواج من داخل الجماعة، وحل الصراع داخليًّا؛ لأنها مستبعَدة، أو تُعاني من التمييز داخل المؤسَّسات في مجتمعٍ أكبر. وقد تفقد هذه النماذج مبرِّرها عندما تتحطَّم الهيراركية العنصرية أو العِرقية، ويشعُر أعضاء الجماعة براحةٍ أكبر في تفاعُلهم مع أعضاء الجماعات الأخرى، ويُشارِكون في مؤسَّسات الدولة، وبغَض النظر عما تضمنه التعدُّدية الثقافية من حماية لطرق الحياة التقليدية لكلٍّ من جماعة الأغلبية وجماعات الأقليات، فإنها كذلك تضَع تحدياتٍ كثيرةً أمامها.

وهكذا يتباين التصوُّر الليبرالي للتعدُّدية الثقافية مع التصوُّر التقليدي؛ فلكلٍّ منهما أهدافٌ ومبرِّراتٌ مختلفة.

والواقع أن المنظور التقليدي للتعدُّدية الثقافية من منظورٍ ليبرالي غيرُ مقبول وغيرُ جذاب لأسبابٍ مختلفة:١٢
  • (١)
    يفترض التصوُّر التقليدي أن الممارسات التقليدية التي تعترف بها الدولة «أزلية» و«أصلية» في الواقع، وقد أوضحَت الدراسات مرارًا أن ما تُسمى الممارسات التقليدية هي حديثةٌ إلى حدٍّ ما، وكثيرًا ما تكون هي نفسُها نتاجَ تغيُّراتٍ ثقافيةٍ متبادَلةٍ مبكِّرة، بل إنها في بعض الأحيان «مختلَقة» من «الصفوة» لجعل موقفِها مشروعًا.١٣ وهكذا نجد أن أفكار «الأصالة الثقافية» أو «النقاء الثقافي» كثيرًا ما تكون ساذجةً من الناحية الأنثروبولوجية، كما أنها خطرةٌ أيضًا من الناحية السياسية؛ فهي تعني أن هناك شيئًا شاذًّا غير مألوف وغير مقبول بصدَد التطوُّر الثقافي والمؤثِّرات بين الثقافات، بينما هي تغيُّراتٌ ومؤثِّراتٌ عاديةٌ وضروريةٌ وأساسيةٌ لمسار التطوُّر الإنساني. إن الحالةَ العاديةَ للنشاطِ الإنسانيِّ هي التي يكونُ فيها تهجينٌ ثقافي، وليس نقاءً ثقافيًّا، ولا يُمكِن الإبقاءُ على أوهام النقاء الثقافي إلا عن طريق الجماعات بطريقةٍ مصطنَعة من التفاعُل مع العالَم الأكبر، وعن طريق غَرس الخوفِ الرُّهابي من الآخرين (انظر: ولدرون، العام ١٩٩٥م. وكوان وآخرين، ٢٠٠١م).١٤
  • (٢)

    يزعم التصوُّر التقليدي أن هناك طريقًا موضوعيًّا أو طريقًا محايدًا لتحديد أي ممارسات الجماعة تكونُ «أصيلة». والواقع أن هذه مسألة محل نزاعٍ سياسي داخل الجماعة ذاتها. وكثيرًا ما تكون الصفوة المحافِظة داخل الجماعة هي التي تدَّعي أن لها سلطةَ التفرقة بين ما هو تقليدي وما هو أصيل، وهي بذلك تَكبِت وتقمَع مطالب التغيير التي يُنادِي بها المصلحون داخل الجماعة؛ فالممارَسات التي قد تكون من الناحية التاريخية متغيرة، ومتطورة ومتنازعًا عليها، واختيارية وضرورية للانتماء إلى الجماعة، فقد أعلنَت الصفوة المحافِظة أنها «مقدَّسة»، وأنها مسألةٌ خاصةٌ بالالتزام الديني أو الثقافي. إن تفسير التعدُّدية الثقافية على أنها حمايةُ الممارسات التقليدية أو الأصيلة، كان له تأثيرٌ مُجزٍ للصفوة المحافظة؛ فقد أعطى السلطة لأولئك الذين زعَموا أنهم حُرَّاس التقاليد القديمة، ما يعني أن أولئك الذين يرغبون في تحدِّي هذه التقاليد لن يكونوا أعضاءً حقيقيين أو مناسبين في الجماعة (باريل، ٢٠٠٠م). وبهذا المعنى فإن التفسير المحافِظ للتعدُّدية الثقافية قد يُوصَف بدقةٍ أكثر، لا لكونه مانحًا للحقوق الثقافية للشعب، بل كفارضٍ للواجبات الثقافية — أي واجب المرء للمحافظة على ثقافته، سواء أكان المرء يرغب في ذلك أم لا — ومن ثَم كتضييقٍ وليس توسيعًا لحرية الفرد.

  • (٣)
    دعوى أنصار التراث بأن هناك حقًّا للمرء في محافظته على تراثه، فسَّرها البعض — أكثرهم شهرةً الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا (AAA)١٥ — بأنها تحُول دونَ فكرةِ عالميةِ حقوقِ الإنسان نفسها؛ إذ وَفقًا للتقرير الذي أرسلَته الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا إلى الأمم المتحدة في العام ١٩٤٧م، فإن هُويات الناس وشخصياتهم إنما تُدرَك من خلال ثقافاتهم، وعليه فلكُل فردٍ الحقُّ في أن يعيش وفقًا لتقاليده الخاصة، وهذا يعني أن فكرةَ الحكم على الثقافاتِ المحلية بواسطة معاييرَ عالميةٍ لحقوق الإنسان هي فكرةٌ غيرُ صحيحة (١٩٤٧م، AAA). وأخيرًا جدًّا صَرَف علماء الأنثروبولوجيا النظَر عن هذه النظرة الموغِلة في النسبية، وحاولوا التوفيقَ بين تدعيمِ الحقِّ في المحافظة على الثقافة مع تدعيمِ حقوقِ الإنسان العالمية.١٦ أما علماء الأنثروبولوجيا في يومنا الراهن فهم يميلون أكثر إلى قبول إمكان القول بأن بعضَ العادات الثقافية ظالمة، وأن حقوقَ الإنسان العالمية يُمكِن أن تُساعِد في رفع هذا الظلم. وعلى ذلك فنحن نجد علماء الأنثروبولوجيا يتحدَّثون عن «توازُن» الحقوقِ الإنسانية مع حقِّ المحافظة على الثقافة. غير أن ذلك لا يزال موقفًا خطرًا لو كان يعني ضرورة التضحية بحماية الحقوق الإنسانية أو المساومة عليها، ولكن ليس كثيرًا من أجل احتواءِ الممارساتِ التي تنتهكُ تلك المعايير.
  • (٤)
    أما زعم أنصار التراث بأن احترامَ التراث الثقافي أساسي لاحترامِ هُوية المرء فهو يُستدعى ﮐ «البوق» لتجنُّب النقاش الديمقراطي، والقول إن ممارسةً ثقافيةً محدَّدة هي جزءٌ من «هُويتي» أحيانًا ما تكون طريقةً لدعوة الآخرين إلى دراسة ومناقشة قيمتها ومغزاها. غير أن هذا الزعمَ في سياقاتٍ أخرى، يُستدعَى كطريقةٍ لمنع هذا النقاش، بالتلميح إلى أن أي تساؤلٍ عن هذه الممارسة سوف يُفسَّر على أنه علامة على عدم احترامي كشخص. حيث تُقدَّم مزاعمُ الهُوية بهذه الطريقة، على أنها أبواقٌ غيرُ قابلة للتفاوض، تكون النتيجة هي تقليص إمكان الحوار الديمقراطي. وفي الدول المتعدِّدة العِرقيات حيث يكونُ هناك تراثٌ ثقافيٌّ متنوِّع وأحيانًا متنافس، فإننا نكون بحاجة إلى طريقةٍ للحديث عن ممارساتنا على نحوٍ متحضِّر، لمناقشة فوائدِها وتكلفتِها، وللتفكير في المصالحات العادلة والمشرِّفة عندما تتعارض هذه الممارسات.١٧

وباختصار، فإن تفسير التعدُّدية الثقافية على أنها الحقُّ في المحافظة على التراث الثقافي الأصيل يُثير عدة أخطارٍ كامنة؛ فهو قد يَكبِت علاقاتٍ بنَّاءة بين الثقافات (بأن يرفع من شأن النقاء الثقافي على التهجين الثقافي)، وقد يعمل على الحد من حرية الأفراد داخل الجماعات (بأن يرفع من شأن الصفوة المحافظة على المُصلِحين الداخليين)، كما يُمكِن استدعاؤها لإنكار وجود حقوق الإنسان العالمية، وقد تهدِّد مساحة النقاش المدني والتفاوض الديمقراطي حول الصراعات الثقافية.

تسليمًا بالاختلافات العميقة بين التأويلات الليبرالية والمُحافِظة للتعدُّدية الثقافية، فمن المهم تحديد أي من هذَين الاتجاهين يَدعَم في الواقع التحوُّلات الحديثة نحو التعدُّدية الثقافية في الغرب. في استطاعة المرء أن يجد أصداءً لكلٍّ من النظريتَين في المناقشات العامة، لكن أيهما يُمِدُّنا بإطار عمل سياسات التعدُّدية الثقافية المعاصرة؟

ولقد زعم نقاد التعدُّدية الثقافية أن التفسير المُحافِظ هو الذي يدعم الاتجاه نحو التعدُّدية الثقافية.١٨ وأنا أعتقد رغم ذلك، أن هذا الزعم لا يُمكِن قَبوله، بل هو في الواقع يُبرهِن على أنه زائف؛ ذلك لأن هؤلاء النقاد من ناحيةٍ لم يقدِّموا أي تفسير يُمكِن قَبولُه للطريقة التي يُمكِن أن تُصبِح بها التعدُّدية الثقافية المُحافِظة سياسةً رسميةً عامةً في الديمقراطيات الغربية، لا سيما في الأربعين سنةً من عهد التحرُّر الواسع المدى وإصلاحات حقوق الإنسان.١٩ كيف يمكن أن يُبنَى «الائتلاف الظافر» لدعم التعدُّدية الثقافية المُحافِظة في الديمقراطيات الغربية؟ كيف يُمكِن أن يظفَر بدعم الأحزاب السياسية الرئيسية، أو أغلبية أعضاء الهيئة التشريعية؟ من الصعب أن تجعل لهذا «السيناريو» معنًى سياسيًّا، والواقع أن معظم النقاد الذين ناقشوا موضوع تبنِّي التعدُّدية الثقافية عالجوا هذا الموضوع على أنه سِرٌّ غامض، كما لو كانت عفاريتُ قد تسلَّلَت إلى البرلمانات القومية ووضعَت مسوَّدة سياسات التعدُّدية الثقافية دون أن يراقبها أحد.٢٠

ولو أننا نظرنا إلى المسار الفعلي الذي تم من خلاله تبنِّي التعدُّدية الثقافية، لوجدنا صورةً مختلفة. والواقع أن كل المشاركين في تبنِّي إصلاحات التعدُّدية الثقافية في الغرب — من ناشطين سياسيين ومنظَّمات المجتمع المدني حرَّكَت هذه الإصلاحات، إلى القطاع العام الذي يدعَمها، إلى المشرِّعين الذين تبنَّوا هذه الإصلاحات، إلى الموظَّفين الذين كتبوا مسوَّدتَها وطبَّقوها، إلى القضاة الذين فسَّروها — استلهَموا المُثُل العليا لحقوق الإنسان وليبرالية الحقوق المدنية. ولقد رأى هؤلاء الممثِّلون إصلاحات التعدُّدية الثقافية كجزء من مسارٍ أوسعَ للتحرُّر السياسي والاجتماعي، وغُرسَت هذه الإصلاحات بشكلٍ قانونيٍّ ومؤسساتيٍّ داخل إطار عملٍ للحقوق الليبرالية.

وللتأكُّد من ذلك، فإن الموجةَ المعاصرةَ لإصلاحات التعدُّدية الثقافية التي نشأَت أصلًا من ثورة حقوق الإنسان لا تُخبِرنا حتى الآن شيئًا عن نتائجها الفعلية، بما في ذلك النتائج غير المقصودة. وبمجرد أن تُوضَع بِنى السياسة للتعدُّدية الثقافية في مكانها، تبدأ الصفوة المُحافِظة غير الليبرالية أو أصحاب السلطة داخل المجتمعات المختلفة في محاولة السيطرة عليها، أو على الأقل التأثير في تطبيقها واتجاهها. وهذه ظاهرةٌ عامة فبمجرد أن تُصبِح السلطات الجديدة أو المصادر الجديدة متاحة، يظهَر التنافس لا محالةَ للسيطرة عليها؛ فعلى سبيل المثال، بمجرد أن تُصبِح الصناديق المالية للتعدُّدية الثقافية متاحة، وتنشأ اللجان الاستشارية، تسعى الصفوة المُحافِظة داخل الجماعات المهاجرة إلى الوصول إليها. وبمجرد أن تنشأ مؤسَّسَات الحكم الذاتي للسكان الأصليين أو جماعات القوميات الثانوية، يسعى المُحافِظون إلى استخدام هذه القوى الجديدة لحماية سلطتهم التقليدية. وهذا النوع من النزاع السياسي لا مندوحةَ عنه. والواقع أن عدم حدوثه ينتهك كل قانونٍ معروف في العلوم السياسية، بل من الممكن أن تكون سياسات التعدُّد الثقافي قد استُخدمَت دون قصد لتقوية أيادي الصفوة المُحافِظة ضد قوى الإصلاح الليبرالي داخل المجتمعات المختلفة.

إذن فالسؤال المهم الذي نحن في حاجة إلى أن نطرحه هو: إلى أي حدٍّ نجحَت الصفوة المحافظة أو السلطوية في الاستيلاء على هذه السياسات؟ وما طرقُ الوقاية الموجودة لتأمين حماية الأهداف والمُثُل العليا التحرُّرية الأصلية من الدمار؟ وسوف أعودُ إلى هذا السؤال في الفصل القادم عندما أناقِش كيفيةَ تقييم العملية الفعلية لسياسات التعدُّدية الثقافية واحتمالاتها المستقبلية.

لكن ما أركِّز عليه في هذا الفصل هو أصول سياسات التعدُّدية الثقافية، المبادئ المعيارية والائتلافات السياسية التي دعمَت تبنِّيها. وهنا لا بد لي أن أُصِر على أن الممثِّلين المشترِكين في تبنِّي التعدُّدية الثقافية في الديمقراطيات الغربية يرَونَ أنفسهم تعبيرًا وامتدادًا لثورة حقوق الإنسان، وليسوا ردَّ فعلٍ ضدها.

ومن الواضح أن ذلك تعميمٌ كاسح، وسيحتاج إلى اختبار حالةٍ بعد حالةٍ بالنسبة إلى جميع أنواع سياسات التعدُّدية الثقافية المُتنوِّعة والمُتبنَّاة للجماعات المختلفة في مختلف البلدان. لكن كخطوةٍ أولى، دعوني أركِّز على الحالة الكندية؛ حيث الارتباط بين التحرُّر والتعدُّدية الثقافية واضح بصفةٍ خاصة.

لنتأمل أسس الدعم السياسي للتعدُّدية الثقافية في كندا. لو أن التعدُّدية الثقافية عكسَت ردَّ فعلٍ ضد التحرُّرية، فلا بد لنا أن نتوقع أن نرى معسكرَين سياسيَّين يتنافسان؛ المعسكر الليبرالي لصالح الإصلاحات الليبرالية في مسائل المساواة الجنسية والإجهاض والطلاق وحقوق الشواذ، لتحرير الأفراد، ثم هناك المعسكر الثاني المُحافِظ الذي يقف في صالح التعدُّدية الثقافية المهاجرة، وحقوق السكان الأصليين، والاستقلال الذاتي للكيوبك، حتى يُمكِن حماية هذه المجتمعات من الإصلاحات التحرُّرية. والواقع أن الموقف في كندا هو العكس تمامًا.

لدينا من ناحية، المُحافِظون على ثقافة الآباء البطريركية، الذين يعتقدون أن المجتمع يتغير بخطًى أسرعَ مما ينبغي، والذين يعتقدون أنه لا بد أن يُعطَى وزنٌ أكبر للسلطات والممارسات التقليدية. وتلك هي الجماعة التي وصفها مايكل آدم بعبارة جمهور «الأب يعرف أفضل» (آدم، ١٩٩٧م و٢٠٠٠م)، والتي يُقدِّرها بنحو ٣٥٪ من سكان كندا.٢١ وكما هو متوقَّع، فإنهم يُعارِضون بقوةٍ الإصلاحاتِ الليبراليةَ حول مساواة النساء وحقوق الشواذ. لكنهم كذلك يُعارِضون التعدُّدية الثقافية للمهاجرين بذاتِ القوة، وحقوق السكان الأصليين، والتكيُّف مع «الكيوبك». والواقع أن انبثاقَ سياساتِ التنوُّع تلك هو بالضبط أحد التغيُّرات التي يرَونَ أنها أكثر ضررًا.

لم يكن هناك (ولا تُوجَد الآن) أي درجةٍ ذاتِ مغزًى للدعم العام لأيٍّ من أشكال التعدُّدية الثقافية هذه بين المحافظين الثقافيين.

وبالطبع إن خسارة معركة منع هذه السياسات، لا تعني ببساطة اختفاء المحافظين البطريركيين؛ فهم يعملون على تجميع قُواهم لإيجاد طريقةٍ يستطيعون من خلالها استغلالَ الفرص التي أتاحتها لهم هذه السياسات؛ فالبروتستانتيون المحافظون في كندا، على سبيل المثال، الذين قاتلوا في البداية بضراوة لمنع التعدُّدية الثقافية في المدارس العامة لأنها تسلبُ المسيحيةَ وضعَها الممتاز، نجدهم الآن يُعيدون تجميعَ قُواهم، ليرَوا ما إذا كان في استطاعتهم أن يَلجَئوا إلى التعدُّدية الثقافية لاستعادةِ بعضٍ من المميزات المفقودة (ديفيز، ١٩٩٩م). غير أن هذا اللجوء الاستراتيجي إلى التعدُّدية الثقافية لا بد أن نميِّزه عن الدعم الخاص لتبنِّي السياسة، التي يُعارِضها المحافظون البطريركيون بقوة.

ولدينا من ناحيةٍ أخرى الجناحُ الليبراليُّ بين عامة الناس في كندا، الذي أصبح على نحوٍ متزايدٍ مؤيدًا للمساواة، ومعاديًا للسلطوية ومؤمنًا بالفردية. وكما هو متوقَّع، فهم يؤيِّدون بقوةٍ المساواةَ بين الجنسَين، وحقوقَ الشواذ، ولكنهم يتقبَّلون بشكلٍ مماثلٍ سياساتِ التعدُّدية الثقافية، ويرَونَ في مجموعتَي الإصلاح تعبيرًا عن منطقٍ واحدٍ لليبرالية الحقوق المدنية.

ولذا فإن كلًّا من المعسكرَين عَمِل على افتراض أن التعدُّدية الثقافية هي جزءٌ متكامل وقسمٌ من عمليةٍ أكبر للتحرُّر — برغم أنها تختلف بالطبع في الطريقة التي تقيم بها هذه العملية الكبرى — والتغيُّرات التي تدعَم سياسات التعدُّدية الثقافية عَبْر الزمن تقتفي أثر التغيُّرات التي تدعَم قيم المساواة الليبرالية بشكلٍ عامٍّ (داسكو، ٢٠٠٥م).

ويُمكِن أن تتأكد الرابطة بين سياسات التحرُّر والتعدُّدية الثقافية بفحص الطريقة التي كُتبَت بها هذه السياسات قانونيًّا والطريقة التي فُرضَت بها قضائيًّا، وأحد الأشياء المُذهِلة بالنسبة إلى هذه السياسات هو كيف أنها ترتبطُ بطريقةٍ متينةٍ وصريحةٍ بالمعاييرِ الأوسعِ لحقوق الإنسان والدستورية الليبرالية، مفاهيميًّا ومؤسساتيًّا.

لنتأمل ديباجة قانون التعدُّدية الثقافية في كندا للعام ١٩٨٨م؛ فهي تبدأ بالقول إنه بسبب التزام حكومة كندا بالحريات المدنية، لا سيما حرية الأفراد في «صنع الحياة التي يريد أن يعيشَها المرء ويقدرَ عليها»، وبسبب التزامها بالمساواة، لا سيما المساواة العِرقية والمساواة بين الجنسَين (الرجل والمرأة)، وبسبب التزامها بحقوقِ الإنسانِ العالمية، لا سيما الاتفاقية الدولية ضد التفرِقة العنصرية؛ لهذا فقد تبنَّت سياسة التعدُّدية الثقافية. ويستطرد النص الأساسي ليُكرِّر معاييرَ حقوقِ الإنسان كجزء من جوهر سياسة التعدُّدية الثقافية،٢٢ ومن الصعب عليك أن تُطالِب بعبارةٍ أوضحَ من أن التعدُّدية الثقافية ينبغي أن تُفهَم على أنها جزءٌ متكاملٌ من ثورة حقوق الإنسان، كما أنها امتدادٌ ﻟ «ليبرالية الحقوق المدنية»، وليست عائقًا لها. ليس بها نفحةٌ من المذهب الثقافي المحافظ، ولا من المذهب الأبوي البطريركي، ولا المذهب التفكيكي لما بعد الحداثة؛ فهي خلاصةُ ليبراليةِ عصرِ التنوير وحقوق الإنسان العالمية.

والواقع أنه تم توضيح هذه النقطة في البيان البرلماني الأصلي للعام ١٩٧١م حول التعدُّدية الثقافية في كندا، الذي أعلن أن «سياسة التعدُّدية الثقافية داخل إطار عملٍ ثنائي اللغة هي أساسًا الدعمُ الواعي لحرية الاختيار عند الفرد؛ فنحن أحرارٌ في أن نكون أنفسنا» (ترودو، ١٩٧١م، ٨٥٤٦).

ولقد كانت هذه الصيغ تستهدفُ إرشادًا للممثلين السياسيين ذوي العلاقة من ناشطي الأقليات ومن الموظَّفين إلى القضاة، أن التعدُّدية الثقافية لا بد أن تُفهَم على أنها سياسةٌ تستلهم المعايير الليبرالية. لم يُترك ذلك للمصادفة، أو لنية الممثلين السياسيين الحسنة. ولقد وُضِع قانونُ التعدُّدية الثقافية في إطار عمل المؤسَّسات الدستورية الديمقراطية الليبرالية؛ ومن ثَم فهو يخضع من الناحية القانونية لنفس القيود الدستورية لأي سياسةٍ فدراليةٍ أخرى. وأي عملٍ فدراليٍّ يُتخَذ باسم التعدُّدية الثقافية لا بد أن يحترم الوثيقة الكندية للحقوق والحريات، على نحوِ ما فسَّرَتها وأقرَّتها الهيئاتُ القضائية مثل لجنة حقوق الإنسان الكندية وكذلك المحكمة العليا.

وعلى ذلك فالطريقة التي عُرفَت بها التعدُّدية الثقافية بشكلٍ قانوني في كندا، أوضحَت أنها لا تُوجَد خارج إطار عمل الدستورية الديمقراطية الليبرالية والفقه القانوني لحقوق الإنسان، أو كاستثناءٍ له، أو كانحرافٍ عنه. وإنما هي بالأحرى متضمَّنة بقوة داخل ذلك الإطار. وهي تُعرَّف على أنها انسيابٌ من معايير حقوق الإنسان وبوصفها تجسيدًا لهذه المعايير، وقابلةً للفرضِ من خلال المؤسَّسات القضائية التي تتمسَّك توصياتُها بتلك المعايير.٢٣

وهذا بالطبع مجرد مثال من أحد البلاد، وربما كانت هناك جوانبُ أخرى من المنظور الكندي لا وجود لها في الديمقراطيات الغربية الأخرى. ومع ذلك فإنها حالةٌ مهمةٌ علينا أن نتدبَّرها؛ حيث إن كندا كانت أول بلدٍ يتبنَّى سياسة التعدُّدية الثقافية الرسمية، ولعبَت نتيجةً لذلك دورًا مهمًّا في تشكيل المفاهيم العالمية لما تكون عليه التعدُّدية الثقافية. وكما لاحظَت «ياسمين أبو لبن» فإن كندا يُنظر إليها في جميع أنحاء العالم على أنها البلد الذي تُوجَد فيه التعدُّدية الثقافية (أبو لبن، ٢٠٠٢م، ص٤٦٠) — حيث تُمارَس التعدُّدية الثقافية ممارسةً جيدة، وليست مجرد ممارسةٍ خطابية — وكثيرًا ما تُدرَّس الصيغُ الكندية على أنها نماذجُ أولية. فمثلًا الطريقة التي ترتبط بها التعدُّدية الثقافية بحقوق الإنسان في ديباجة قانون التعدُّدية الثقافية الكندية، استُنسخَت بطريقةٍ جوهريةٍ في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الأقليات في العام ١٩٩٢م — ففيهما معًا إصرارٌ على أن حقوق الأقليات قد تأسَّسَت على أساسِ معاييرِ حقوق الإنسان، وعلى ذلك ينبغي تفسيرُها على أنها امتدادٌ إضافي وتحقيق لهذه المعايير.

وعلى أي حال فإن كندا بعيدةٌ عن أن تكون فريدةً في الطريقة التي تربِط بها بين التعدُّدية الثقافية والليبرالية؛ فنحن نجد ارتباطًا مماثلًا في أستراليا، وعلى سبيل المثال، وطبقًا لما يقوله «جيمس جوب» الذي لعب دورًا محوريًّا في تعريف سياسة أستراليا للتعدُّدية الثقافية فإن التعدُّدية الثقافية في أستراليا «هي أساسًا أيديولوجيةٌ ليبرالية تعمل داخل مؤسساتٍ ليبرالية مع استحسانٍ عالمي للمواقف الليبرالية. وهي تذهَب إلى أن جميع البشر ينبغي أن يُعامَلوا بالتساوي على أنهم نُظراء، وأن الثقافات المختلفة يُمكِن أن تتعايش معًا لو أنها قَبلَت القيم الليبرالية» (Jupp 1995: 40).
وكما حدث في كندا، فقد أُدخلَت التعدُّدية الثقافية في أستراليا بواسطة القوى السياسية اليسارية الليبرالية نفسها أو الديمقراطية الاجتماعية التي كانت تدفَع لتحقيق التحرُّر بشكلٍ عام، وذلك مثل تعزيز المساواة بين الجنسَين (الرجل والمرأة)، وعدم التمييز العنصري، وحقوق المثليين.٢٤

ومن الممكن أن نجد هذا النموذج الأساسي نفسه في ديمقراطياتٍ غربيةٍ أخرى تحرَّكَت في اتجاه منظور أكثر ميلًا إلى التعدُّدية الثقافية. والتعدُّدية الثقافية، بصفةٍ عامة، تبنَّتها الأحزابُ الديمقراطية الاجتماعية أو اليسار الليبرالي والائتلافات التي صادقَت على التحرُّر بشكلٍ عام، وقد كُتبَت مسوَّداتُ السياساتِ الناتجةِ بطريقةٍ أظهرَت بوضوحٍ أن أساسها يضربُ بجذوره في معايير حقوق الإنسان.

ومن المؤكَّد أن الثقة العامة في هذا «التوقُّع الليبرالي» تتفاوت عَبْر الزمن وعَبْر المجتمعات، وكانت هناك أوقاتٌ وأماكنُ تشكَّك فيها الناسُ في أن التعدُّدية الثقافية يمكن أن تضربَ بجذورها في الدستورية الليبرالية-الديمقراطية ومعايير حقوق الإنسان. وكما سنرى فإن هذا الشك يُساعِد في تفسيرِ بعضٍ من الاعتراضات القوية ضد التعدُّدية الثقافية التي ظهَرَت حديثًا، وبعضِ حالات «التراجع عن التعدُّدية الثقافية».

غير أن هذه الحالات تؤكِّد النقطةَ الأساسية، وهي أنه حيثما تم تبنِّي التعدُّدية الثقافية وتطبيقُها في الغرب، فإنها تكون نموذجًا ليبراليًّا للتعدُّدية الثقافية، يُدعَم باعتباره على اتساقٍ مع المُثُل العليا لحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية الليبرالية ومعززًا لها. وحيثما لا تُدرَك تلك الرابطة، سواء في علاقتها بالتعدُّدية الثقافية بصفةٍ عامةٍ أو في علاقتها بقضايا جماعة أقلية معيَّنة، فإن الدعم العام للتعدُّدية للثقافية ينخفض.

وباختصار، نحن نرى مستوياتٍ متأرجحةً من الإيمان العام بالتعدُّدية الثقافية الليبرالية عَبْر الغرب. لكن ما لا نراه، هو أي نوعٍ آخر من التعدُّدية الثقافية غير الليبرالية، سواء ضربَت بجذورها في محافظة «هيردر» الثقافية أو ما بعد حداثة «نيتشه»؛ فتعدُّدية نيتشه وهيردر موجودةٌ في الجامعات، لا سيما في بعض الأقسام الإنسانية، لكن ذلك ليس هو نوع التعدُّدية الثقافية التي شكَّلَت السياسة العامة في الغرب. إن التعدُّدية الثقافية الموجودة حقًّا في الغرب هي التعدُّدية الليبرالية.

عود إلى السياسة

الرواية التي ذكرتُها حتى الآن عن نشأة التعدُّدية الثقافية الليبرالية بوصفها إحدى مراحل تطوُّر حقوق الإنسان هي جزءٌ مهم من القصة ولكنه ليس كل القصة؛ فلقد بدأتُ بها لأن هذا الاتجاه لا يُمكِن تفسيرُه من دون فهمٍ لهذه الروابط. وعلى سبيل المثال، فإن «براين باري» بدأ نقدَه المؤثِّر للتعدُّدية الثقافية بقوله إنه أُصِيبَ بالحيرة من تبنِّي سياسات التعدُّدية الثقافية في الغرب (باري، ٢٠٠١م). ومن السهل أن نفهم حَيْرتَه، ما دام قد بدأ من افتراضِ أن هذه السياسات تضرب بجذورها في الرفض النسبي لليبرالية، وسوف يكون حقًّا من الصعب أن تفهم سبب تخلِّي الديمقراطيات الغربية الليبرالية عن قيمها وقواعدها الدستورية لكي تتبنَّى مثل هذه السياسات، أو كيف يُمكِن لهذه السياسات أن تنبثقَ من العملية السياسية. ولكن، لو كنا على استعدادٍ لتأمُّل إمكان تعدُّديةٍ ثقافيةٍ تضرب بجذورها في حقوق الإنسان، وأننا إذا ما نظرنا إلى الروابط القانونية، والسياسية بين الاثنَين، فإن نشأة التعدُّدية الثقافية الليبرالية تصبح مفهومةً أكثر.

ومع ذلك، فمن الواضح أن ذلك ليس كلَّ القصة؛ لأنها تنسب إلى «قوة الأفكار» قدْرًا أكبر مما ينبغي. قد تكون التعدُّدية الثقافية بالفعل امتدادًا مقبولًا لمنطق حقوق الإنسان، قادمة من التحرُّر من الاستعمار، عَبْر إلغاء التمييز العنصري، إلى حقوق الأقلية. لكن المنطق لا يعمل بذاته، والأفكار لا تتحرَّك طواعية. والمنطق الأخلاقي للتعدُّدية الثقافية يحتاج إلى صياغة، وحركة، وتفاوض ومساومة داخل مجالٍ أوسعَ من علاقات السلطة.٢٥ التلميح بأن نشأة التعدُّدية الثقافية تعكس تجلِّي ثورة حقوق الإنسان يجعل الأمر يبدو كما لو كانت السياساتُ العامةُ قد تشكَّلَت في الحلقات الدراسية للفلسفة السياسية التي يحاول فيها المشاركون بهدوءٍ وبلا انفعالٍ أن يتعرَّفوا على منطق الحُجَج الأخلاقية. ومن الواضح أن الحياة السياسية ليست من هذا القبيل؛ فمن المؤكد أن هناك ما يُمكِن أن نسمِّيه ﺑ «قوة الأفكار»؛ فالأفكار يُمكِن أن تُلهِم وتُعلِّم، وتُقنِع السياسيين. ولكن ذلك نوعٌ واحدٌ من القوة من بين أنواعٍ أخرى، وكثيرًا ما يُواجِه مقاومةً عنيدةً من عناصرَ مهمةٍ تكونُ مصلحتُها أو هُويتُها مهدَّدةً إذا ما قَبلَت أفكارًا جديدة.

وباختصار، فإن حكاية مصير السياسات العِرقية في الغرب، أو القصة التي رويتُها حتى الآن تخلو إلى حدٍّ غريبٍ من السياسات الواقعية. والمنطق المعياري خلف قضايا التعدُّدية الثقافية مهم، لكننا بحاجة إلى روايةٍ أكثَرَ ثراءً عن الطريقة التي انتشَرَت بها هذه القضايا، وعن النزاعِ والمفاوضاتِ في سياسات العالم الواقعي المُضطرِبة في الديمقراطيات الغربية المعاصرة.

وسوف يكون من المستحيل أن نقدِّم نظرةً شاملةً عن الطريقة التي تعمل بها هذه العمليات السياسية من خلال الديمقراطيات الغربية. لقد خلقَت ثورةُ حقوق الإنسان فرصةً لمفاهيم التعدُّدية الثقافية لكي تنبثق في الغرب؛ لكن نجاح جماعاتٍ معيَّنة في بلدانٍ معيَّنة في استغلال تلك الفرصة يعتمد على عواملَ سياسيةٍ معقَّدة مرتبطة بسياقاتٍ قومية أو حتى محليةٍ محدَّدة. ولو أننا أردنا «العودة إلى السياسة» بحقٍّ فسوف تحتاجُ إلى الانخراط في درجةٍ عالية من «القومية المنهجية»، وتحتاجُ إلى النظر في تفاصيلِ بِنى الأحزاب السياسية التقليدية ونُظُم الانتخابات في دولٍ مختلفة، ونوعية الدوافع والتحالفات الانتخابية التي تسمح بها أو تُعيقها. كما أنه سيكون علينا أيضًا أن ننظر إلى الطريقة التي يتكوَّن بها المجتمعُ المدني في البلدان المختلفة (مثل النقابية ضد الليبرالية)، وفي المجال النسبي للخطَط السياسية المختلفة (مثل الاحتكام إلى القضاء، الحملات الإعلامية، العصيان المدني، جماعات الأبواب الخلفية)،٢٦ وإذا أردنا تلخيصَ جميعِ هذه العواملِ فسوف يكونُ ذلك عملًا معقَّدًا ومستحيلًا.

لكننا نستطيع مع ذلك أن نسوقَ بعضَ الملاحظات العامة عن بعض العوامل السياسية التي دعمَت التوجُّه نحو التعدُّدية الثقافية؛ إما عن طريق تسهيل التحريك السياسي لجماعات الأقلية، وإما بتقليل المعارضة السياسية لقضاياهم.

الشرط الأول الذي مكَّن الحَراكَ الفعَّال للأقليات هو، بالطبع، الديمقراطية نفسها؛ فالديمقراطية وثيقةُ الصلة بالموضوع لعدة أسباب؛ ففي أبسط المستويات، نجد أن تماسُك الديمقراطية يحدُّ من قُدرة الصَّفْوة على سحق الحركات السياسية للجماعات العِرقية. وفي كثيرٍ من البلاد في أنحاء العالم، تحظُر الصفوةُ الحركاتِ السياسيةَ للجماعات العِرقية، أو تستأجر العصاباتِ والميليشياتِ لضربِ قادة هذه الجماعات العِرقية أو قتلهِم أو رشوة الشرطة والقضاة لسجنهم. والخوف من مثل هذا النوع من القمع كثيرًا ما يمنع الجماعاتِ غير المُسيطِرة من الإعلان حتى عن أبسط مطالبها؛ فالالتزام بالصمت، هو الخيار الأسلم للأقليات في كثيرٍ من الدول.

أما في الديمقراطيات الراسخة؛ حيث تكون الديمقراطية هي اللعبة الوحيدة المتاحة، فلا خيار سوى السماحِ للجماعات العِرقية بالحَراك السياسي، وتقديم مطالبها على الملأ. ونتيجةً لذلك فإن خوفَ أعضاء الجماعات العِرقية من الكلام يزول بالتدريج. وقد يفشَلون في النقاش السياسي، لكنهم لا يخشَون القتل، أو السجن، أو الفصل من العمل لمجرد المحاولة.

إن انعدامَ الخوف، هذا، مرتبطٌ بالوعي الحقوقي الجديد المشتق من ثورة حقوق الإنسان، وهو الذي يفسِّر صخَب السياسات العِرقية في الديمقراطيات الغربية المعاصرة.

وفضلًا عن ذلك، فإن الديمقراطية تتضمَّن توفيرَ كثيرٍ من المداخل العملية لصنع القرار، فإذا ما أُحبطَت جماعة في مرحلةٍ ما من قِبل حكومةٍ غيرِ متعاطفة، ففي استطاعتها أن تُتابِع قضاياها على مستوًى آخر. وحتى لو فاز حزبٌ سياسي، غير متعاطف، بالسلطة على المستوى المركزي، وأراد أن يقلِّص حقوقَ الجماعاتِ غير المُسيطِرة، ففي استطاعة هذه الجماعات أن تغيِّر مِحورَها إلى المستوى الإقليمي، أو حتى إلى المستوى المحلي. وحتى إذا ما سُدَّت جميع هذه المستويات، ففي استطاعتهم متابعةُ قضاياهم من خلال المحاكم، بل حتى من خلال الضغوط الدولية. هذا هو ما تدور حوله الديمقراطية؛ مداخلُ كثيرة ومتغيِّرة للسلطة.

التركيبة السكانية هي عاملٌ آخر ذو علاقة في الماضي كانت كثير من الحكومات تأمل أو تتوقع أن الجماعات العِرقية غير المُسيطِرة ستختفي ببساطة من خلال الوفاة أو الاحتواء أو التزاوج. ومِن الواضحِ الآن أن ذلك لن يحدُث بسبب ارتفاع نسبة المواليد، وأن السكان الأصليين هم أسرعُ الفئاتِ نموًّا في كثيرٍ من البلاد التي يُوجَدون فيها. وتزداد النسبة المئوية للمهاجرين من السكان بسرعةٍ في معظم البلاد الغربية، ويتفق معظم المعلِّقين على أنه ستكون هناك حاجةٌ إلى مهاجرينَ أكثر في المستقبل ليعوِّضوا نسبة المواليد المنخفضة وشيخوخة السكان. والجماعاتُ القوميةُ الثانوية في الغرب تنمو هي الأخرى بأعدادٍ ثابتة، وإن ظلَّت نسبتُها إلى عدد السكان مستقرة أو قلَّت هامشيًّا. ولن يستطيع أحد — بعد ذلك — أن يحلُم أو يتوهَّم أن الأقلياتِ ستختفي. للأرقام أهمية، خصوصًا في النظام الديمقراطي، والأرقام تتغيَّر في اتجاه الجماعات غير المُسيطِرة.

هذان العاملان؛ الديمقراطية والتركيبة السكانية، إذا ما أُخذا مع ثورة حقوق الإنسان، فإنها تُساعِد في تفسير الدفع من أجل سياسات التكيُّف؛ فازدياد الوعي الحقوقي، وزيادة مجالات الحَرَاك السياسي الآمن، مع زيادة الأعداد، كلها تُساعِد في تفسير نُمو قوة الحَرَاك السياسي بواسطة الجماعات العِرقية في الغرب.

المبادئ والسياسة الجغرافية في ثورة حقوق الإنسان

ربما كان أكثر الأسئلة السياسية غموضًا هو: لماذا كانت الجماعاتُ المُسيطِرة على استعدادٍ لقَبول هذه المطالب؟ بعد كل شيء، لمعظم الدول الغربية جماعةٌ قوميةٌ مسيطرةٌ تشكِّل أغلبيةً عدديةً واضحة، وفي النظام الديمقراطي «الأغلبية هي التي تحكُم»، فلماذا أصبحَت جماعاتُ الأغلبية أكثر استعدادًا للاستجابة لهذه المطالب، وللتفاوُض بشأنها؟ لماذا لا تُستخدَم سُلطة الدولة لكبتِ هذه المطالب، بالقوة إن لزِم الأمر، كما كان يحدُث في الماضي؟ سيكون من اللطيف أن نظُن أن قُوة الحُجَّة الأخلاقية كانت كافيةً للتغلُّب على التاريخ الطويل من التطاحُن والأحكام المبتسَرة الظالمة التي ظلَّت تُخيِّم على العلاقات العِرقية والعنصرية في الغرب. غير أن ذلك ليس محتملًا. ولا بد من أن تكون هناك عواملُ استراتيجيةٌ أكثر تكمُن خلف هذا التغيُّر القوي.

إن التعرُّف على هذه الدوافع المختلطة لقَبول التعدُّدية الثقافية مسألةٌ مهمة، ليس فقط لفهمٍ أفضلَ للطريقة التي ظهرَت بها التعدُّدية الثقافية في الغرب، بل أيضًا لفهمٍ أفضلَ لآفاقِ نُموِّها في جميع أنحاء العالم. ولو أننا زعَمنا أن التعدُّدية الثقافية نشأَت في الغرب أصلًا، ولمجرد منطقها الأخلاقي القوي، فإن محاولاتِ تدعيمها خارجَ الغرب ستتمثَّل بشكلٍ كبيرٍ في غطرسةٍ أخلاقيةٍ على المجتمعات الأخرى. ولقد كان ذلك، كما أشرتُ إليه في المقدِّمة، اتجاه كثيرٍ من المعلقين الذين تحسَّروا على العجز الظاهر للناس في عالَم ما بعد الشيوعية، وما بعد الاستعمار، في فهمِ المنطق الأخلاقي للتسامُح والتنوُّع، والذين أوصَوا بإعادة تعليم العامة معنى الليبرالية وحقوق الإنسان. غير أن الواقع أن المصير المُتفاوِت للتعدُّدية الثقافية الليبرالية في المجتمعاتِ المختلفةِ له علاقةٌ أقلُّ بكثير بإدراك الناس للمنطق الأخلاقي لحقوق الإنسان، من علاقته بالإطارِ الأوسعِ لعلاقات السلطة التي تغرس فيها هذه الحُجَج المعيارية.

إحدى الطرق للكشف عن هذه الدوافع المختلطة لقبول التعدُّدية الثقافية هي العودة إلى المرحلتَين السابقتَين لكفاح حقوق الإنسان ضد الهيراركية العنصرية والعِرقية، والتساؤل عن الطريقة التي تحقَّقَت بها هاتان المرحلتان. لم يكن التخلص من الاستعمار أو القضاء على التفرقة العنصرية نتيجةً للإقناع الأخلاقي فقط، وبالتعرُّف على العوامل الأخرى الأكثر استراتيجيةً في هاتَين الحالتَين، نستطيع أن نفهم السياسات المعاصرة للتعدُّدية الثقافية بشكلٍ أفضل.

لننظر إلى الالتزام الأساسي بالمساواة العنصرية، الذي عبَّر عنه الإعلانُ العالمي لحقوق الإنسان في العام ١٩٤٨م. سبق أن قلتُ إن الاشمئزاز من عنصرية «هتلر» التي أدَّت إلى الإبادة الجماعية هو الحافزُ لقَبول فكرة المساواة العنصرية. وهذا هو التفسير المعتاد الذي يقدِّمه المعلقون، وإذا ما وضَعناه في عبارة بورستلمان فقدَت السيادة العنصرية الواضحة شرعيتَها في غُرف الغاز في المحرقة الألمانية (بورستلمان، ١٩٩٣م، ص٨١). ولقد قيل إن هذه الكارثة قد «هزَّت الضميرَ العالمي»، وألهمَت المجتمع الدولي للاعتراف بخطايا الأيديولوجيات العنصرية، وألزمَته بقضية العدالة العنصرية.

ولكن الواقع هو أن قرارَ إقامة النظام الدولي ما بعد الحرب على أساس العدالة العنصرية كان قد اتُخذ قبل أن تُعرف «المحرقة» Holocaust على نطاقٍ واسع، قبل أن تضَع الحرب أوزارها (ولتون، ٢٠٠٠م، ص٢ و٣). وكان من الأسباب المهمة التي كانت وراءَ اتفاقِ الحلفاء على هذا المبدأ هو، بالتحديد، أن يساعدهم على ضمان الفوز في الحرب. وعندما وضَع البريطانيون والأمريكيون خططَهم لنظام ما بعد الحرب في ميثاق أغسطس الأطلنطي في العام ١٩٤١م، لم تكن هناك إشارةٌ خاصة بالمساواة العنصرية. وشعَر «تشرشل» بأنه ينبغي أن يُعاد حقُّ تقرير المصير للشعوب الأوروبية التي غزاها واستعمَرها النازي، لكنه لم يُرِد أن يفسر ذلك على أنه مبرِّر لمنحِ حقِّ تقرير المصير للشعوب غير الأوروبية التي غزاها واستعمَرها البريطانيون. ومن هنا صيغ ميثاق الأطلنطي «تُعاد حقوقُ السيادة والحكم الذاتي لأولئك الذين حُرموا منها عنوة». وبعبارة أخرى فإن الشعوب الأوروبية التي تمتلك دولًا ذات سيادة، مثل التشيك وبولندا، لا بد من أن يستردوا حقوق السيادة لتقرير المصير، في حين أن الشعوب غير الأوروبية من سكان المستعمَرات الذين لم يعترف بهم القانونُ الدولي كدولٍ ذاتِ سيادةٍ فسيظلون تحت يد الإمبراطورية البريطانية. وحتى لا يسيءَ أيُّ إنسانٍ فهمَ المعنى الخفي لهذه الكلمات، فإن تشرشل أخبر مجلس العموم البريطاني: إننا «في اجتماع الأطلنطي، كان في ذهننا أساسًا، استعادةُ السيادة، والحكم الذاتي، والحياة القومية لدول وأمم أوروبا التي تخضَع الآن لنِيرِ الحكم النازي»، وهي مشكلةٌ منفصلةٌ تمامًا عن حقوق سكان المستعمرات الذين «يدينون بالولاء للتاج البريطاني» (مقتبَس في بورغوورت، ٢٠٠٥م، ص٣٠).

والواقع أن تشرشل صدَمَته بالفعل أيديولوجية التفوُّق الآري للنازية، لكن ما صدَمه (وصدم غيره) أكثر هو الطريقة التي عامَل بها النازي الشعوبَ الأوروبيةَ البيضاءَ الأخرى، كما لو أنهم ليسوا أفضلَ من الأفارقة والآسيويين. لقد كانت سياسة النازي تجاه العنصر السلافي تسير مباشرةً على النمط الألماني السابق تجاه سكان المستعمَرات الأفريقية (لندنكويست، ١٩٩٦م؛ إيهمان، ١٩٩٨م). والواقع أن هتلر قال إن «روسيا هي أفريقيا بالنسبة إلينا، والروس هم زنوجنا» (اقتبَسه لورين، ١٩٩٦م، ص١٣٦). وعلى الرغم من أن قلةً من القوى الغربية قد اشتكت من الممارسات الألمانية الاستعمارية، من فتوحات، وتوطين، وأعمال السُّخرة في أفريقيا، والتي أدَّت أحيانًا إلى مجاعةٍ وموتٍ جماعي، فإن الصدمة التي هزَّتْهم هي أن يرَوا هذه الممارسات نفسها تُنتهَج داخل أوروبا نفسِها.

وعلى حد تعبير القديس كلير دريك «إبادة البوشمان (شعب بدائي في جنوب أفريقيا) والتسمانيين (شعب بدائي في أستراليا)، شيء، وإبادة الإخوة الأوروبيين، (من عِرقٍ آخر) شيءٌ مختلفٌ أتمَّ الاختلاف» (دريك، ١٩٥١م، ص٢٦٣، اقتبسه ليتون، العام ٢٠٠٠م، ص١٧٠، حاشية ٣). لقد كان الدافع الأول عند تشرشل، الذي شارَكَه فيه معظمُ الحلفاء، هو أن يكرِّر الزعمَ التقليدي بأحقية الأوروبيين في مكانةٍ أعلى من الآخرين. لقد أراد أن ينتقد النازي، لا بسبب الهيراركية العنصرية التي جاء بها، بل بسبب إساءة فهمها، وتجاهُل القواعد التي ينبغي أن تُعامِل بها الشعوب الأوروبية المتحضِّرة بعضها بعضًا.

ولكن خلال عام من ميثاق الأطلنطي، مال الميزانُ لمصلحة الفكرة التي تقول إن نظامَ العالمِ الجديد ينبغي أن يقوم على مبدأ الحقوق المتساوية لجميع الشعوب في تقرير المصير. فما الذي تغيَّر؟! جزء من الإجابة هو الاستراتيجية العسكرية. لقد صُدم البريطانيون من هزيمة سنغافورة أمام اليابان في فبراير من العام ١٩٤٢م، بعد أن رفَض السكان المحليون أن يقاتلوا دفاعًا عن بريطانيا. لم يرَ السكان الصينيون، والملايو، والهنود المحليون، مبرِّرًا للموت دفاعًا عن الإمبريالية البريطانية، فلماذا يهتمون بما إذا كان من يحكمُهم أسيادًا إنجليزيين أو يابانيين، لا سيما عندما يعدُهم اليابانيون بحكمٍ ذاتيٍّ أكبر؟! لقد كانت «خيانة» السكان المحليين — أيضًا — عاملًا في سرعة سقوط بورما وماليزيا، ما دمَّر الروحَ المعنويةَ عند الإنجليز وأحبَط خططَهم الحربية. ولقد أدرك البريطانيون (بضغوط من حلفائهم الأمريكان) أنهم إذا كانوا يأملون في مساعدة سكان المستعمرات في الحرب ضد اليابانيين في آسيا، أو ضد الألمان والإيطاليين في أفريقيا، فإن عليهم أن يَعِدوا بنظامٍ ما بعد الحرب يُواجِهون فيه خطايا الإمبراطورية البيضاء، ومن هنا كانت ضغوط الأمريكان على الإنجليز لكي يَعِدوا بإعادة هونغ كونغ إلى الصين، ومنح الاستقلال للهند (كما ضغطوا على فرنسا أيضًا لكي تعِد بالتخلِّي عن فيتنام)، وذلك من أجل ضمان التعاون (أو الحياد على أقلِّ تقدير) من السكان المحليين في الحرب. وكما قال سمر ويلز مستشار السياسة الخارجية للرئيس روزفلت — في مايو ١٩٤٢م: «إذا كانت هذه الحرب هي حقًّا حرب تحريرٍ للشعوب، فينبغي أن تضمن المساواة في السيادة لجميع الشعوب في أرجاء العالم، كما في عالم الأميركتَين. لا بد من أن يأتي قطارُ انتصارِنا بالتحريرِ لكل الشعوب. ينبغي القضاء على التمييزِ والتفرِقة بين الناسِ بسبب الجنسِ أو العقيدةِ أو اللون؛ فقد ولَّى عصرُ الإمبريالية.»٢٧

وفي أغسطس من العام ١٩٤١م كان البريطانيون يعملون متأملين ومتوقِّعين استمرارَ الإمبريالية من دون تغيير بعد الحرب. لكنهم أعادوا تقييمَ هذا الزعم بعد سقوط سنغافورة، وأذعَنوا لمطالب الأمريكان بأن الحرب كانت نضالًا ضد التفرِقة العنصرية والإمبريالية. وكما قال ولتون: «إن سقوط سنغافورة قوَّض أركانَ ما كان يُسمَّى «الإمبريالية البيضاء» ولتون، ٢٠٠٠م، ص١٥٢).

وهنا يوجد درس علينا أن نتعلمه، هو أن فكرة المساواة العرقية أو العنصرية فكرة قوية، غير أن الاقتناع الحقيقي بها لم يكن أعظم في مايو من العام ١٩٤٢م منه في أغسطس من العام ١٩٤١م، أو في فبراير من العام ١٩١٩م، عندما اقترح اليابانيون طرح قضية المساواة العنصرية على عصبة الأمم.٢٨ إن ما تغيَّر هو السياق السياسي الجغرافي الأوسع الذي غيَّر التكاليف والمخاطر التي ارتبطَت بقبول تلك الفكرة بشكل مثير.٢٩

وكما سنرى، فإن لذلك مضامين عن الطريقة التي نفهَم بها آفاق تقدُّم حقوق الأقليات.

ويُمكِن رواية قصةٍ مماثلةٍ عن الدافع الذي يكمُن خلف المرحلة الثانية العظيمة من ثورة حقوق الإنسان — الحملة الأفريقية الأمريكية لإزالة التمييز العنصري. وكثيرًا ما يُقال إن نجاح حركة الحقوق المدنية قد عكَس اعترافًا عامًّا متناميًا بتعارُض التفرقة العنصرية مع المُثُل العليا للحرية الإنسانية والمساواة التي قام عليها الدستور الأمريكي؛ فإزالة التمييز العنصري — بعبارةٍ أخرى — عكَسَت نجاحًا (متأخرًا جدًّا) للمنطق الأخلاقي للمبادئ الديمقراطية والليبرالية الأمريكية.

لكن هنا، أيضًا، سيكون من الخطأ أن نبالغ في أهمية الإقناع الأخلاقي؛ فمن المؤكَّد أن الأمريكيين الأفارقة قد لجَئوا إلى ذلك المنطق الأخلاقي منذ عدة عقود، غير أن النجاحَ المفاجئَ لهذه الحُجَّة في خمسينيات القرن الماضي كان مرتبطًا بضروراتِ السياسة الخارجية، بالإضافة إلى الإقناعِ الأخلاقي المحلي.

خرجَت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية لتدخُل في صراعٍ عالميٍّ مع الاتحاد السوفييتي من أجل النفوذ والسلطة. وفي هذا الصراع كانت التفرِقة العنصرية داخل الولايات المتحدة عبئًا لا يُطاق؛ فقد نشَر السوفييت في العالم الثالث تقاريرَ إخباريةً عن سوء المعاملة التي يتلقَّاها السود في أمريكا، وتلقَّت الولاياتُ المتحدة تقاريرَ يوميةً من سفاراتها في الخارج تدور حول آثار تلك التقارير. ولقد لاحظ أحد السفراء الأمريكيين الحساسيةَ المؤلمةَ عند الشعوبِ الآسيويةِ فيما يتعلق بالتمييز العنصري، والنجاح المُذهِل الذي حقَّقَته الدعايةُ الشيوعية في خلقِ مشاعرَ معادية لأمريكا. وليس في ذلك شيء من المبالغة (السفير شستر باولز — اقتبسه ليتون في كتابه في العام ٢٠٠٠م (ص١٦٢)، حاشية ٧٨).

وكان رجالاتُ الدولة الأمريكيون فيما بعد الحرب، من أمثال جون فوستر دلس، ودين رسك، لا يملُّون التكرار المستمر من أن جيم كرو قد «أفسَد سياستَنا الخارجية. ونتائج ذلك في آسيا وأفريقيا ستكون أسوأ علينا من المجر بالنسبة إلى الروس» (دلس وليتون، العام ٢٠٠٠م، ص١٣١)، أو أن أكبر عبءٍ نحمله فوق ظهورنا في علاقتنا الخارجية هو مشكلة التفرِقة العنصرية (رسك في كتاب لورن، ١٩٩٦م، ص٢٤٤).

مضمون السياسة الخارجية للتفرِقة العنصرية المحلية كثيرًا ما يتضمَّن عناصرَ مأساويةً ومضحكةً في آنٍ معًا؛ فكلما سافر المبعوثون الآسيويون والأفارقة في الأمم المتحدة في نيويورك إلى واشنطن للحديث مع المسئولين في الحكومة الأمريكية فإنهم يعبُرون أرضَ جيم كرو؛ حيث يُضطَرون إلى استخدامِ مطاعمَ وحماماتٍ مفصولةٍ عنصريًّا، وهي تجربةٌ اعتبَروها مهينة، على أقل تقدير.

ولقد وضعَت الحكومة الأمريكية برنامجًا مهمًّا للزمالة لاستضافة قادة المستقبل من العالم الثالث للدراسة في الولايات المتحدة، على أمل أن يشجِّع ذلك على ظهور وجهةِ نظرٍ إيجابيةٍ عن أمريكا، غير أن التجربة المباشرة للفصل العنصري غالبًا ما كان لها تأثيرٌ معاكس. ولقد كانت الحكومة الأميركية تأمل في أن كثيرًا من منظمات الأمم المتحدة ستتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها، كما عَرضَت استضافة منظمة الأغذية والزراعة (F.A.O) في بالتيمور، لكن كان من الصعب أن تُوافِق الأمم المتحدة على أن تفتَح مكاتبها في ميريلاند العنصرية (وانتهى الأمر إلى أن يكون مقرُّها في روما). وفي جميع هذه الحالات، لم يكن الثمن تشويه سمعة الولايات المتحدة الدولية فقط، بل أيضًا تعزيز الادعاء السوفييتي بأنه البلدُ الوحيدُ الذي يؤمن حقًّا بالمساواة، والصديقُ الوحيدُ حقًّا للشعوب غير الأوروبية في العالم.

وعندما واجه الرئيس ترومان هذه النتائج السلبية للتفرِقة العنصرية على المصالح الجغرافية والسياسية الأمريكية، قرَّر أن يقوم بعملٍ ما. وكما يقول لورين «بدأ الضغط الخارجي للحرب الباردة يؤدي الآن دورًا مهمًّا في خلق بدايةٍ جديدةٍ في موضوع المساواة العنصرية داخل الولايات المتحدة» (لورين، ١٩٩٦م، ص٢٠١). وبعد العام ١٩٤٦م أمر ترومان وزارة العدل ووزارة الخارجية بإصدار مذكراتٍ وديةٍ لدعم القضايا القانونية التي قدَّمَتها المنظَّمات الأفريقية الأميركية، ناصحًا المحاكم بألا تكون التفرِقة العنصرية عائقًا أمام السياسة الخارجية وعبئًا في صراع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. وعلى سبيل المثال، في قضية «براون» ضد مجلس التعليم الشهيرة نصَّت المذكِّرة التي قدَّمَتها الحكومة الفدرالية على أنه «في سياق صراع العالَم الحالي بين الحرية والطغيان لا بد من الاهتمام بمشكلة التمييز العنصري في الولايات المتحدة» (اقتبسه ليتون، العام ٢٠٠٠م، ص٢٧).

ومن الصعب أن نعرفَ الوزنَ الذي ينبغي أن نعطيه للعوامل الجغرافية السياسية في تفسير نجاح الحقوق المدنية الأفريقية الأمريكية، إذا ما قُورنَت بالتغيُّرات المحلية في الرأي السياسي حول أخلاقية التمييز العنصري، لكن من الجدير بالملاحظة أن الدفعة الأولى من أجل إلغاء التفرِقة داخل الحكومة الفدرالية قد جاءت من السلطة التنفيذية، ووزارة الخارجية بصفةٍ خاصة، بدلًا من السلطتَين القضائية والتشريعية، والواقع أن التزام ترومان بمواجهة التمييز العنصري لم يتفق مع توجُّهات الرأي العام، ولا المعايير القضائية، ما اضطَره إلى التحايُل على الجهازَين الآخرَين، ففَرض إلغاء الفصل العنصري في المؤسسات الفدرالية بأمرٍ تنفيذي، بدلًا من أن يتم من خلال مراجعةٍ قضائيةٍ أو تشريعية. ومن دون هذا الدفع الإداري المُستلهَم من السياسة الخارجية، لم يكن من الواضح ما إذا ومتى كان سيتم قبول المنطق الأخلاقي لإلغاء الفصل العنصري، سواء من الأغلبية البيضاء بين العامة بشكل عام أو المحاكم.٣٠
هذه الروايات عن البواعث المختلطة الكامنة خلف المرحلتَين الأوليَين من النضال من أجل حقوق الإنسان ضد الهيراركية العنصرية والعِرقية تحمل درسًا مهمًّا، وهو أن المواقف تجاه العِرق والإثنية تتأثَّر بشكلٍ قوي بالتهديدات الجغرافية السياسية الأكبر. وأن ما يحدِّد ألوان السياسة التي يتم تبنِّيها، على الأقل في جانبٍ من جوانبها، هو إدراكُ ما سيُساعد أو يعوق الصراع مع الأعداء الخارجيين. ولولا التهديدات الخارجية التي وجَّهَتها دول «المحور» في الحرب العالمية الثانية، أو السوفييت خلال الحرب الباردة، فإن الحركة نحو التحرُّر من الاستعمار أو إلغاء التفرِقة العنصرية، كانت ستسير ببطءٍ أكبر، أو ربما توقف عن السير تمامًا. ولقد ساعدَت الدفعةُ الإضافية التي جاءت من المخاوف حول الأمن السياسي الجغرافي على التقبُّل الشعبي للمنطق الأخلاقي لهذه الإصلاحات.٣١

وفي اعتقادي أن ذلك يُقدِّم لنا تفسيرًا مهمًّا للسبب الذي جعل الديمقراطيات الغربية تتبنَّى منظورًا جديدًا بالنسبة إلى الأقليات في الأربعين سنة الماضية؛ فلأول مرة في القرن العشرين، وربما للمرة الأولى منذ عدة قرون، لا تكون الأقليات في الغرب أدواتٍ في صراعٍ سياسيٍّ جغرافيٍّ أكبر. ولذلك دَورٌ حاسم في تفسير لماذا كانت الدولُ والجماعاتُ المُسيطِرة أكثر استعدادًا لقبول (كرهًا وعلى مضَض) نماذجَ جديدةٍ من التكيُّف مع التعدُّدية الثقافية. وهذه نقطةٌ مهمة ستظهر مرةً أخرى في فصولٍ قادمة؛ لذلك دعونا نفسِّرها مع شيءٍ من التعمُّق.

الأمن السياسي الجغرافي واللاأمان في العلاقات العِرقية

عندما تشعُر الدول باللاأمان بالمعنى السياسي-الجغرافي، والخوف من الجيران الأعداء، تتشكَّل معاملتُها للأقليات بشكلٍ قوي عن طريق هذا الشعور بالأمان. وبصفةٍ خاصةٍ فإن الدول لن تمنح أبدًا الحقوقَ والسلطةَ للأقلياتِ طواعيةً لو أنها اعتقدَت أن ذلك سيزيد من احتمال أن تُصبِح الأقلياتُ متواطئة — أو أن تصبح طابورًا خامسًا — من أجل الأعداء المجاورين.

وفي الماضي، غالبًا ما شكَّل ذلك قضيةً في الغرب؛ فمثلًا كانت إيطاليا قبل الحرب العالمية الثانية تخشى أن تكون الأقلية التي تتحدث الألمانية في تيرول Tyrol أكثر ولاءً للنمسا أو ألمانيا من إيطاليا، وفي هذه الحالة ستُساعِد النمسا أو ألمانيا في أي محاولةٍ تقوم بها أيٌّ منهما لغزو أو ضم جنوب تيرول. كما كانت هناك مخاوفُ مماثلة تم التعبيرُ عنها حول الأقليات الألمانية في بلجيكا، والدنمارك، والبلطيق؛ فقد خشيَت هذه البلاد من أن تغزُوَها ألمانيا باسم تحرير «العِرق الألماني»، وأن تتعاون الأقليات الألمانية أو تتواطأ مع هذا الغزو. ولقد أدَّت هذه المخاوف دورًا حاسمًا في الاستجابات الدولية ﻟ «مشكلة الأقليات»، بعد الحربَين العالميتَين.
أما اليوم، فلا يمثِّل ذلك قضيةً مهمةً تحديدًا، بالنسبة إلى الأنظمة الديمقراطية القائمة في الغرب بخصوصِ الأقلياتِ القومية والسكانِ الأصليين (وضعُ بعض الجماعات المهاجرة أكثر تعقيدًا، كما سأناقِش فيما بعدُ). من الصعبِ أن نُفكِّر في نظامٍ ديمقراطيٍّ غربيٍّ واحد تخشى فيه الدولة من أن الأقليةَ القومية أو جماعةَ السكان الأصليين ستتعاون أو تتواطأ مع عدوٍّ مجاور أو معتدٍ محتمَل.٣٢ وجزء من سبب ذلك أن الدول الغربية ليس لها جيرانٌ أعداء يُحتمَل أن يقوموا بغزوها؛ ومن ثَم فقد نجح «حلف الناتو» (NATO) نجاحًا باهرًا في إزالة إمكان أن تقوم دولةٌ غريبة بغزو جيرانها، ونتيجةً لذلك فإن السؤال عما إذا كانت الأقلياتُ القومية والسكانُ الأصليون موالين — في حالة قيام الدولة المُجاوِرة بالغزو — قد استُبعد من جدول المباحثات.
صحيحٌ أن الأنظمةَ الديمقراطيةَ الغربيةَ لها أعداءٌ محتمَلون على مسافةٍ بعيدة، مثل الشيوعية السوفييتية في الماضي، والجهاد الإسلامي اليوم، وربما الصين في المستقبل. ولكن بالنسبة إلى هذه التهديدات البعيدة المدى، ليس هناك شكٌّ في أن الأقليات القومية أو السكان الأصليين يكونون في جانب الدولة؛ فلو اكتسَب الكيوبك نفوذًا، أو حتى نالوا استقلالهم، فلا أحد في كندا سيقلَق من أنهم سيتواطئون مع تنظيم القاعدة أو الصين لإسقاط الدولة الكندية.٣٣ وربما ودَّ القوميون «الكيوبك» الانفصال عن كندا، غير أن الكيوبك المستقلة ستكون حليفة لكندا، وليست عدوًّا، وستتعاون مع كندا في الناتو (Nato) وفي الترتيبات الأمنية والدفاعية الغربية الأخرى. وبالمثل، فإن اسكتلندا المستقلة ستكون حليفًا، لا عدوًّا لإنجلترا، وكذلك ستكون كتالونيا المستقلة حليفًا لإسبانيا … وهكذا.

وربما كان ذلك واضحًا، كما سنرى في الفصلَين السادس والسابع، ففي معظم أرجاء العالم لا تزال جماعاتُ الأقلية يُنظَر إليها كطابورٍ خامس، من المحتمَل أن تعمل لمصلحة عدوٍّ مجاور. ويصبح ذلك مثارَ قلقٍ بوجهٍ خاص عندما ترتبط الأقلية بالدولة المجاوِرة عن طريق العِرق أو الدين، أو عندما تُوجَد الأقلية على جانبَي الحدود الدولية، فتدَّعي الدولة المُجاوِرة الحقَّ في التدخُّل لحماية أقليتها.

ومن المحتمل، في ظل هذه الظروف، أن نُشاهِد ما يُطلِق عليه علماء السياسة اسم «تأمين» العلاقات العِرقية.٣٤ وتُرى العلاقاتُ بين الدول والأقليات لا كمسألةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ عادية يُمكِن التفاوضُ والنقاشُ بشأنها، بل على أنها مسألةُ أمنٍ قومي لا بد للدولة فيها من أن تحدَّ من المسار الديمقراطي العادي لكي تحميَ وجودها. وفي ظل ظروف التأمين، ربما تُصبِح تنظيماتُ الأقلية محدودةً قانونًا (على سبيل المثال يُحظَر تكوينُ أحزابٍ سياسية للأقليات)، وقد يخضع قادةُ الأقليات إلى رقابة البوليس السري، وربما تكون المطالبة بأنواعٍ معينة من المطالب غيرَ مشروعة (مثل القوانين التي تمنع الترويج للانفصال) … وهكذا. وحتى إذا كان من الممكن الإعلان عن مطالب الأقلية، فستُرفَض بسهولة من المجتمع الكبير والدولة؛ فكيف يمكن أن تكون للجماعات التي ليس لها ولاءٌ مطالبُ مشروعة ضد الدولة؟ وعلى ذلك فإن تأمينَ العلاقات العِرقية سيفُت في كلٍّ من مساحة الديمقراطية التي تسمح بالإفصاح عن الأقلية، ومن احتمال قبول هذه المطالب.

ومع ذلك، فإننا نجد أن السياسة العِرقية في معظم البلاد الغربية غير مؤمَّنة تمامًا. والسياسة العرقية هي مجرد سياسةٍ يوميةٍ طبيعية. والعلاقاتُ بين الدولة وجماعات الأقليات قد أُخذَت من صندوق التأمين لتُوضَع في صندوق السياسة الديمقراطية.

وهذا «اللاتأمين» للعلاقات العِرقية، متحدًّا مع الضماناتِ التي تقدِّمها الحمايةُ القوية لحقوق الإنسان، يُساعِد في تفسير السبب في أن الجماعات المُسيطِرة في الغرب قبلَت مطالبَ إصلاحاتِ التعدُّدية الثقافية. وكلا هذَين العاملين قلَّل بطريقةٍ هائلةٍ من مخاطر تبنِّي الجماعات المُسيطِرة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية؛ فالأول يضمن أن التعدُّدية الثقافية لا تمثِّل تهديدًا للأمن الجغرافي السياسي لمجموع الشعب؛ ويضمن الثاني أن التعدُّدية الثقافية لا تهدِّد الأمنَ الإنساني للفرد، وفي ظل هذه الظروف فإن التعدُّدية الثقافية تكون قليلة المخاطر، واحتمال أن تُذعِن لها الجماعات المُسيطِرة يكون أكبر.

لقد استُخدمَت كلمة تذعن Acquiesce؛ لأن من المهم ألا نبالغ أو نسيء تفسير مستوى دعم التعدُّدية الثقافية بين أعضاء الجماعات المُسيطِرة في معظم المجتمعات الغربية. والعاملان اللذان ذكرتُهما حالًا — عدم تأمين العلاقات العِرقية، وضمانات الحماية القوية لحقوق الإنسان — يقلِّلان من المخاطر المرتبطة بالتعدُّدية الثقافية، لكنهما لا يقدِّمان أي حُجةٍ إيجابيةٍ لمصلحتها. من الممكن بالطبع أن يكون بعض أعضاء الجماعة المُسيطِرة قد أُقنِعوا، عن طريق حُجَج قادة الأقلية، بأن التعدُّدية الثقافية لا تتسق مع معايير حقوق الإنسان فقط، بل هي من متطلباتها أيضًا. ومع ذلك، فإن علينا ألا نبالغ في مدى تقبُّل هذه الحُجَج الأخلاقية بين الجمهور العريض. وهناك دليلٌ ضئيل نسبيًّا على أن أعضاء الجماعة المُسيطِرة قد أصبحوا مؤمنين حقًّا بالتعدُّدية الثقافية بهذا المعنى.٣٥

ومع ذلك، فإن ما يبدو أنه حدث هو أن عددًا لا بأس به من المواطنين أصبحوا مقتنعين بأن التعدُّدية الثقافية متسقة مع قيم ديمقراطية بلدهم الليبرالية الأساسية (ومع أمنه السياسي الجغرافي)؛ ومن ثَم فهو خيارٌ سياسيٌّ جائز. قد لا يقتنعون بأن التعدُّدية الثقافية سياسةٌ فاضلة أو مفيدةٌ بصفةٍ خاصة، دع عنك أنها سياسةٌ ملزمةٌ أخلاقيًّا، لكنها ما دامت تحترم حقوق الإنسان وأمن الدولة، فهي خيارٌ مقبول، ولا يستدعي المعارضة.

وبهذا المعنى فإن موقف معظم المواطنين تجاه التعدُّدية الثقافية هو موقفُ إذعانٍ سلبي، أكثر منه موقف دعمٍ إيجابيٍّ قوي. وهذا ما ذهب إليه كثيرٌ من استطلاعات الرأي.٣٦ غير أن الإذعانَ السلبيَّ يُمكِن أن يكون كافيًا. كثيرًا ما يقال عن الديمقراطية إنها نظامٌ لحكم الأغلبية، لكن عندما تكون جماعاتُ الأغلبية سلبية، والأقلياتُ منظمة تنظيمًا جيدًا ومتحركًا، فإن آراء الأقلية يُمكِن أن تكون فعَّالة سياسيًّا.٣٧
وحقيقة أن التعدُّدية الثقافية الليبرالية تلقَى إذعانًا سلبيًّا وليس دعمًا إيجابيًّا من معظم أعضاء الجماعات المُسيطِرة تعني أنها معرَّضة للنقد والتراجع، لا سيما إذا كان النقاد قادرين على إثارة المخاوف من احتمال تهديدها لحقوق الإنسان أو أمن الدولة.٣٨ وذلك على وجه الدقة، كما سنرى، هو ما حدَث في بعض الحالات المعروفة للتراجُع عن «التعدُّدية الثقافية».

التراجع عن التعددية الثقافية

لقد درست حتى الآن في هذا الفصل خمسة أسسٍ رئيسية من التيارات الغربية نحو التكيُّف مع التنوع؛ زيادة الوعي بالحقوق والتغيُّرات الديموغرافية، والمداخل المتعدِّدة للحَراك السياسي الآمن ساعدَت في تفسير السبب في أن الجماعات غير المُسيطِرة قد أصبحَت أكثر حزمًا في مطالبات التعدُّدية الثقافية، وأن عدم تأمين العلاقات العِرقية، والإجماع على حقوق الإنسان ساعد على تقليل مخاطر قبول الجماعات المُسيطِرة لهذه القضايا. وعندما تتحقَّق هذه الظروف الخمسة، فمن المحتمل أن ينشأ الميل تجاه توافُقٍ أكبر للتعدُّدية الثقافية العِرقية بغَض النظر عن وجودِ أو غيابِ شخصياتٍ أو أحزابٍ سياسيةٍ معيَّنة أو نُظمٍ انتخابيةٍ معيَّنة.٣٩

وهذا التحليل لا يساعدنا فقط في تحليل نهوض التعدُّدية الثقافية في الغرب، لكنه يساعدنا كذلك، في اعتقادي، في تفسير التراجُع عن التعدُّدية الثقافية في بعض البلاد الغربية. عندما يغيب ظرفٌ أو أكثر من هذه الظروف الخمسة، أو يكون موضعَ تساؤل، فإن المساندة الشعبية لأشكالٍ معينة من التعدُّدية الثقافية يُمكِن أن تتضاءل. والواقع أننا نستطيع أن نرى بوضوح حالاتٍ كهذه، على الرغم من أن مدى ما يُمكِن أن يُسمَّى «التراجُع عن التعدُّدية الثقافية» في الغرب، كثيرًا ما يكون فيه مبالغةٌ أو سوء تفسير.

وذهب بعض المعلِّقين إلى أننا نشهد تراجُعًا عامًّا عن التعدُّدية الثقافية في الغرب، وعودةً إلى أفكارٍ تقليديةٍ أكثر عن التجانُس، والمواطنة في الجمهورية الواحدية، حيث يُستبعَد تنوُّع الثقافة العِرقية من المجال العام ويُحوَّل إلى المجال الخاص (انظر: جوبك، ٢٠٠٤م، وبروبيكر، ٢٠٠١م، وإنتزنغر، ٢٠٠٣م). ولقد أدَّى ببعض النقاد إلى أن يعبِّروا عن أملهم في أن يُثبِت ذلك أن التعدُّدية الثقافية كانت طارئةً أو بدعةً مؤقتة (باري، ٢٠٠١م).

أما في الواقع، فإن الحركة الارتجاعية المفاجئة ضد التعدُّدية الثقافية كانت محلية تمامًا، ولا علاقة لها إلا بمطالبِ أقلياتٍ معيَّنة في بلادٍ معيَّنة؛ فهي على سبيل المثال لم تؤثِّر في سياسات الدولة تجاه الأقليات القومية، والتيار الذي وصفتُه في الفصل الثالث نحو اعترافٍ أكبر بالجماعات القومية الثانوية، غالبًا ما كان في شكل الحكم الذاتي الإقليمي. ووضع اللغة الرسمية ظلَّ كما هو من دون أدنى تغيير. ولم يكن هناك تراجُع ضد حقوق الأقليات القومية داخل الديمقراطية الغربية. وليس ثمَّة حالة في الغرب لبلد تراجَع عن أيٍّ من المساعدات التي منحَها للجماعات القومية الثانوية. بل على العكس، كما سنرى في الفصل السادس، هذا التيار أُعيد تأكيدُه عن طريق تطوير المعايير الدولية، مثل الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية التي تبنَّاها المجلس الأوروبي. أو انظر إلى حالة السكان الأصليين؛ فالاتجاه نحو اعترافٍ أكبر بحقوق السكان الأصليين، التي غالبًا ما تكونُ في شكل قضايا الأرض، والاعتراف بالقانون المعتاد، وحق الحكم الذاتي، ظلت كذلك في مكانها تمامًا في الغرب، من دون أي تراجعٍ أو ارتدادٍ ملحوظ، ولقد أُعيد تأكيدُ ذلك أيضًا عن طريق تطوير المعايير الدولية، وذلك مثل مسوَّدة الأمم المتحدة لإعلان حقوق السكان الأصليين، أو المعايير المقارنة للسكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنظمة العمل الدولية أو البنك الدولي، التي سنناقشها في الفصل السابع.

ومن ثَم فليس هناك تراجعٌ عن التعدُّدية الثقافية عَبْر الحدود. وبالنسبة إلى كلٍّ من الجماعات القومية الثانوية والسكان الأصليين؛ فإن التيار نحو الاعتراف العام بتنوُّع الثقافة العِرقية والتكيُّف معها يظل كما هو من دون تغيير، والواقع أنه الآن أكثر قوة، وليس مغروسًا فقط في المفاوضات والتكيُّفات المحلية، بل إن المعايير المحلية تُصادِق عليه وتحميه.

ومن ثَم فإن التراجُع عن التعدُّدية الثقافية، يضيق إلى حدٍّ كبير إلى مجالٍ واحد من التنوع الثقافي العرقي — أعني مجال الهجرة. وكما سنرى في الجزء الثالث، على خلاف حالتَي الأقليات القومية والسكان الأصليين، ليست هناك محاولاتٌ جادة لتقنين الحقوق الثقافية للمهاجرين على المستوى الدولي؛ ومن ثَم فالسؤال الأساسي هنا هو: لماذا تعرَّضَت الثقافة التعدُّدية للمهاجرين بصفةٍ خاصة لمثل هذا الهجوم؟ في استطاعتنا أن نبدأ باستبعاد تفسيرٍ واحدٍ شائع. وكما سبق أن ذكَرتُ، فقد ذهب معلِّقون مختلفون إلى أن التراجُع عن التعدُّدية الثقافية المهاجرة يعكس عودةً إلى الإيمان الليبرالي التقليدي. وهو أن العِرقية تنتمي إلى المجال الخاص، وأن المجال العام ينبغي أن يكون محايدًا، وأن المواطَنة ينبغي ألا تكون مميزة. وأن التراجُع عن التعدُّدية الثقافية المهاجرة يعكس رفضَ فكرة التصور الليبرالي الديمقراطي للتعدُّدية الثقافية بأَسْرها.

لكن ذلك لا يمكن أن يكون هو التفسير المطلوب؛ فلو أن الديمقراطيات الغربية رفضَت فكرة التعدُّدية الثقافية الليبرالية ذاتها، فلا بد لها من أن ترفض قضايا الجماعات القومية والسكان الأصليين التي تتضمَّن — على نحوٍ نموذجي — إدخالًا مثيرًا للتنوُّع الثقافي العِرقي في المجال العام، ودرجةً أكبر للمواطنة المتمايزة مما تطلبه الجماعات المهاجرة، في حين أن المهاجرين يسعَون بطريقةٍ نموذجيةٍ إلى تنوُّعاتٍ أو استثناءاتٍ متواضعةٍ في إدارة المؤسَّسات الرئيسية، تسعى الأقلياتُ القومية التاريخية والسكان الأصليون إلى الوصول إلى مستوًى أوسعَ من الاعتراف والتكيُّف، بما في ذلك موضوعات مثل قضايا الأرض، وسلطات الحكم الذاتي، وحقوق اللغة، ونُظُم التعليم المُنفصِلة، بل حتى النُّظم القانونية المُنفصِلة. وتحتوي هذه القضايا على تحدياتٍ أكثر جدية لأفكار المواطنة غير المميزة، وخصخصة العِرقية مما تتضمَّنه من تكيُّف مع الجماعات المهاجرة. ومع ذلك فالديمقراطيات الغربية لم تتراجَع على الإطلاق عن التزامها بالتكيُّف مع الأقليات التاريخية.

والواقع أن الديمقراطيات الغربية تتوافق على نحوٍ متزايدٍ مع دعاوى المواطنة المختلفة والاعتراف العام بالفَرق أو الاختلاف، عندما تقومُ الأقلياتُ التاريخية بتقديم هذه الدعاوى؛ فعلى سبيل المثال في حين أن هولندا تتراجَع عن التعدُّدية الثقافية بالنسبة إلى المهاجرين، تدعَم الحقوق لأقلياتها التاريخية الفريزية Frisian، وتتراجع ألمانيا عن التعدُّدية الثقافية للمهاجرين؛ لكنها تحتفل بالذكرى الخمسين لأقلياتها الدنماركية، وتراجعَت بريطانيا عن التعدُّدية الثقافية للمهاجرين، بينما منحَت القوميات التاريخية في اسكتلندا وويلز حقَّ الحكم الذاتي، وتراجعَت أستراليا عن التعدُّدية الثقافية، لكنها تدعم نظام المؤسَّسات وحقوق السكان الأصليين، وتراجعَت فرنسا عن التعدُّدية الثقافية للمهاجرين، لكنها تدعَم الاعتراف بلغات الأقليات التاريخية … وهكذا. ولا يكون لأيٍّ من ذلك معنًى لو أننا فسَّرنا التراجُع عن التعدُّدية الثقافية للمهاجرين بأنه عودةٌ إلى الأفكار الليبرالية التقليدية للمواطنة غير المتمايزة والمجالات العامة المحايدة.
ومن ثَم فليست أفكار التعدُّدية الثقافية الليبرالية بذاتها هي التي وقعَت في مرمى الهجوم.٤٠ فالتراجع الفجائي كان بالأحرى مقتصرًا على مجال الهجرة، بل إنه حتى داخل نطاق الهجرة، لم يكن التراجع عن التعدُّدية الثقافية متماثلًا في البلاد، فهو أشدُّ وضوحًا في أوروبا الغربية منه في أمريكا الشمالية، على سبيل المثال.

ولكي نفهَم ذلك فإننا نستطيع أن نعودَ إلى قائمة المصادر والشروط المسبقة.

العاملان الرئيسيان اللذان يُقلِّلان من معارضة الأغلبية للتعدُّدية الثقافية وُضعا موضعَ الشك في سياق هجرة المسلمين إلى أوروبا الغربية؛ فقد تساءل كثيرٌ من الناس عما إذا كان التوقُّع الليبرالي ينطبق على المسلمين بالطريقة نفسها التي انطبق بها على الموجات السابقة من المهاجرين؟ وتمتد هذه المخاوف إلى الوراء منذ قضية سلمان رشدي، وقد أُعيد تأكيدُها في قضية الرسوم الكارتونية الدنماركية، وكذلك عن طريق التقارير المستمرة حول الزواج بالإكراه، والقتل بدافع الشرف، وختان الإناث.٤١ والزعم المتفائل بأن معايير الحقوق الإنسانية ستقوى بالضرورة وتنتصر داخل المجتمعات الإسلامية في الغرب وُضِع موضعَ الشك.
وكذلك فإن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والتفجيرات التالية في مدريد ولندن، قد أدَّت — أيضًا — إلى إعادة تأمين «العلاقات بين المسلمين والدولة»، حيث نشأَت المخاوف من أن المسلمين المستقرين محليًّا قد يتعاونون مع أعداء الغرب الخارجيين، ويقومون بدَور الطابور الخامس. ونتيجةً لذلك فإن كثيرًا من المسائل التي كانت في صندوق «السياسة الديمقراطية المألوفة» أُعيدت إلى ما يُسمَّى صندوق «أمن الدولة». وعلى سبيل المثال كانت المناقشاتُ حول مدارس المسلمين تدور وفقًا لمعايير المزايا النسبية للنماذج المختلفة والمختلطة للمدارس الخاصة والعامة، وهي معاييرُ مألوفة من المناقشات السابقة حول مدارس المسيحيين واليهود. غير أن هذه المناقشات تأثَّرَت بشكلٍ متزايد بمخاوفَ من أن المدارس الإسلامية، أو المؤسَّسات الأخرى التي تُقام لخدمة المجتمع الإسلامي، ربما يُسيطِر عليها المتطرفون، وتُستخدَم كأرضٍ لتفريخِ أنصارِ الجهادِ الملتزمين بمهاجمة الغرب.٤٢
ونظرًا إلى أن القبول الشعبي للتعدُّدية الثقافية في الغرب قد اعتمد على إدراكٍ يتسق مع كلٍّ من الأمن السياسي الجغرافي للدولة والأمن الشخصي للمواطِنين الأفراد، فإن دعم منظور التعدُّدية الثقافية الليبرالية لاحتواء المهاجرين المسلمين يُواجِه معركةً صعبةً في أوروبا الغربية. والواقع أننا شاهَدنا تراجعًا جزئيًّا ضد التعدُّدية الثقافية من السكان المهاجرين، ويُمثِّلون بالتالي محور المناقشات حول التعدُّدية الثقافية (كلوسن، ٢٠٠٥م).٤٣ وفي معظم أوروبا الغربية نجد أن أغلب المهاجرين غير الأوروبيين من المسلمين — ما يقرب من ٨٠ في المائة من المهاجرين في بلاد مثل: فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، وألمانيا، وهولندا … إلخ، وبالمقارنة ﺑ ١٠ في المائة أو أقل في كندا والولايات المتحدة — ولهذا فإنه كثيرًا ما تُساوِي الأحاديث العامة في أوروبا فئة «مهاجرة» بفئة «مسلم». وحتى في بريطانيا، حيث يكون المهاجرون أكثر اختلاطًا وتنوُّعًا بالنسبة إلى الدين، فإن الموضوعات الإسلامية أصبحَت تُسيطِر على المناقشات. جاء عنوان مقال حديث في جريدة «المشاهد Spectator» «كيف قتل الإسلام التعدُّدية الثقافية» (ليدل، ٢٠٠٤م). نجد أن المقال وعنوانه بالقطع متحيِّزان،٤٤ لكن يبدو أنه صحيح أن نقول إن المسانَدة الشعبية للتعدُّدية الثقافية قد تراجعَت عندما أصبح المسلمون هم المستفيدين الأساسيين من هذه السياسة.

لم يكن الخوف المَرَضِي من الإسلام، بالطبع، هو المصدر الوحيد لتراجع الحديث عن التعدُّدية الثقافية للمهاجرين في أوروبا. والواقع أن بعض المحلِّلين قد ذهبوا إلى أن المخاوف من المسلمين هي ببساطة التبريرُ الأكثر حداثةً للقلق العميق الدائم من «الآخر»، والحنين إلى وقتٍ اشترك فيه الجميع بروابطَ قويةٍ من التاريخ والهوية المشتركة. يكره الناس التعدُّدية العِرقية والعنصرية، لكنهم لا يريدون أن يظهروا على أنهم عنصريون أو يعانون كراهية الأجانب؛ ولهذا فإنهم يبحثون حولهم عن بعض المبرِّرات التي تكون أكثر قبولًا لمعارضة التعدُّدية الثقافية للمهاجرين، كالمخاوف من الممارسات غير الليبرالية أو التهديدات الأمنية (أو الجريمة، أو الأعباء الاقتصادية، أو سوء استخدام إجراءات حق اللجوء … إلخ). وإذا لزم الأمر فإن الناس يبتكرون أو يبالغون في هذه المخاطر، حتى عندما لا تُوجَد أدلةٌ عليها، وذلك من أجل إخفاء الطبيعة الحقيقية لمُعارضتِهم للمهاجرين. وهذه المخاوف هي مجردُ مظاهرَ سطحية، أو تبريرات لصورٍ أعمقَ من العنصرية والتعصُّب الشعبي، والخوف المَرَضِي من الأجانب المستقل تمامًا عن الوقائع العارضة حول تأثُّر الليبرالية أو الأمن الجغرافي السياسي بجماعاتٍ مهاجِرةٍ معيَّنة، فإذا لم يستطع العنصريون وأصحاب المخاوف المَرَضِية من الأجانب أن يستغلوا هذه المخاوف المعيَّنة، فإنهم سيجدون ببساطة بعض المبرِّرات الأخرى لمعارضة الهجرة والتعدُّدية الثقافية.

ولا شك في أن ذلك جزءٌ من القصة، ومن المؤكَّد أن التعدُّدية الثقافية لن تكتسب قبولًا عامًّا من الشعب بأَسْره إلا إذا قل أو ضعُف قلقُ الناس الدائم من التنوُّع والتعدُّد، إذا عُولجَت العنصرية والخوفُ المَرَضِي الذي يغذِّي هذا القلق. ومع ذلك، فإن المخاوف المنتشرة من الوافدين الجدد، وعلى الرغم من أنها قوية، فإنها لا تفسِّر التغيُّرات في دعم المهاجرين ومساندة التعدُّدية الثقافية بين الدول أو عَبْر الزمان داخل البلدان الأخرى التي لا تفعل ذلك، أو لماذا تبدأ بعض البلاد السير في طريق التعدُّدية الثقافية لكنها بعد ذلك تتراجع عنه؛ فعلى سبيل المثال تبنَّت هولندا في البداية التعدُّدية الثقافية بالنسبة إلى المهاجرين الذين كانوا مستعمَرين من قبلُ (على سبيل المثال، المولوكيين Moluccans والأنتيليين Antilleans)، لكنها أصبحَت أكثر جدلًا عندما أصبح المسلمون من تركيا والمغرب هم المستفيدين الرئيسيين من الهجرة إلى هولندا. وهناك عمليةٌ مماثلة حدثَت في بريطانيا؛ إذ بدأَت المطالبات بالتعدُّدية الثقافية من السود الكاريبيين (المسيحيين في الأغلب)، وحصلَت على درجاتٍ مهمة من المساندة الشعبية، غير أن هذه المساندة توقفَت عندما أصبح المسلمون المهاجرون الوافدون من باكستان وبنغلاديش هم الروافد الرئيسية للتعدُّدية الثقافية. وفي الحالتَين تغيَّرت المخاطر المرتبطة بالسياسة مع تغيُّر الجماعات الرئيسية المستهدَفة.٤٥ وتُوحي هذه التغيُّرات بأنه في الصراع المستمر بين القيم العامة للتسامُح وعدم التمييز، وبين المخاوف العامة من التنوُّع، كثيرًا ما تعتمد المحصِّلة على تقديراتٍ نوعية وعارضة للمخاطر المتضمَّنة. والمصير المتغيِّر للتعدُّدية الثقافية عَبْر الديمقراطيات الغربية يشير إلى أن كثيرًا من المواطنين على استعدادٍ لقبول سياسة التعدُّدية الثقافية عندما تكون مخاطرُها قليلة، لكنهم يُعارِضونها عندما تكون مخاطرُها كثيرة.

يطرحُ ذلك معضلةً واضحة؛ ربما تكون التعدُّدية الثقافية مطلوبةً أكثر عندما تكونُ مخاطرها أكبر. وربما تكونُ الجهودُ الاستباقية مطلوبةً تحديدًا عندما ينظُر إلى أعضاءِ جماعةٍ معيَّنة ﮐ «طابورٍ خامس»، أو كتهديدٍ للإجماع الديمقراطي الليبرالي، بحيثُ تمنع تلك الجهودُ المبذولة استقطابَ العلاقات العِرقية. وعلى العكس، ربما اعتقَدنا أنه إذا ما كان هناك قَدْرٌ ضئيلٌ من الثقة أو انعدام الثقة بين الجماعات العِرقية، يصبح ترويجُ سياسات التعدُّدية الثقافية أسهل، ولكنها تكونُ أقلَّ ضرورةً في الممارسة.

وإذا كان الأمر كذلك فربما تكون الحاجة إلى التعدُّدية الثقافية أكثر عندما يكون احتمالُ تبنِّيها ضعيفًا، وتكون شعبيةً بشكل أكبر عندما تكونُ ضرورتُها أقل. ولقد ذهب «جان ندوفين بيتيرس» إلى ذلك عندما قال إن «المشكلة الرئيسية في التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي أنها تُقدِّم حلًّا من دون أن تكون هناك مشكلة، وعلاجًا حيث لا يُوجَد مرض» (بيتيرس، ٢٠٠٥م، ص١٢٧١). وهذه مفارقةٌ نشأَت في كثيرٍ من سياقات ما بعد الشيوعية وما بعد الاستعمار كذلك، وسأعود إلى هذا الموضوع في الجزء الثالث. غير أن التجربة الغربية حتى يومنا الراهن تذهب إلى أن القَبول العام للتعدُّدية الثقافية يعتمد على مشاعر كلٍّ من أمن الفرد وأمن الجماعة، وعندما تضعُف هذه المشاعر فستواجه التعدُّدية الثقافية هجومًا وتراجعًا.

لكن حتى عندما سعت بعض الدول إلى التقليل من «إفراط» التعدُّدية الثقافية في سياقاتٍ أشدَّ خطورة، فقد أكَّدَت، على نحوٍ نموذجي، أنها لم ترتدَّ إلى نماذجَ قديمةٍ استيعابيةٍ متجانسة للهجرة، كما أنها واصلَت قَبول الحاجة إلى مؤسَّساتٍ عامة، كالمدارس ووسائل الإعلام، والرعاية الصحية وتنظيم أمور المجتمع عن طريق الشرطة بقصد التكيُّف مع واقع التنوُّع العِرقي. ولم يعُد متوقعًا من الجماعات المهاجرة بعد الآن أن تُخفي هُويتَها العِرقية في الحياة العامة، ومطالبَها بشأنِ أشكالِ الاعترافِ والتكيُّف في المؤسَّسات العامة (مثلًا: في المناهج التعليمية للمدارس العامة) قد اعترف بها، وباختصار، الحديث عن التراجُع عن التعدُّدية الثقافية المهاجرة، يُخفي قصةً أشدَّ تعقيدًا تقلَّصَت فيها بعضُ سياسات التعدُّدية الثقافية بينما أصبحَت سياساتٌ أخرى أشدَّ عمقًا داخل المؤسَّسات.٤٦ وكما هي الحال مع الأقليات القومية، والسكان الأصليين، فقد تم قبولُ مستوًى أساسي من «الاعتراف» و«التكيُّف» بالنسبة إلى المهاجرين على نحوٍ متزايد بوصفه جانبًا ضروريًّا ومشروعًا من الحياة في الديمقراطية الليبرالية.

ومن ثَم فليست هناك قصةٌ فردية عن تقدُّم (أو تراجُع) التعدُّدية الثقافية في الغرب، وإنما هناك أنواعٌ مختلفة من التعدُّد الثقافي العِرقي تُبرِز كلٌّ منها أنواعًا متميزة من قضايا التعدُّدية الثقافية، ولكلٍّ منها مسار للمقاومة، والقبول والتراخي والتراجُع، وأنا أعتقد أن العوامل الخمسة التي ناقشتُها في هذا الفصل سوف تُساعِد في تفسير هذه الفُرص المتفاوتة.

من تعدُّدية الحركة الاشتراكية الثقافية إلى تعدُّدية الشركات

عند هذه النقطة ربما يعتقد بعضُ القُراء أنني قد أغفلتُ عنصرًا مهمًّا في تفسير الحاجة المُلِحة إلى التعدُّدية الثقافية، وأعني بذلك الرأسمالية العالمية وظهور الاقتصاد الليبرالي الجديد. إن ظهور التعدُّدية الثقافية في فترة الثلاثين إلى الأربعين سنة الماضية توافَق زمنيًّا مع حقبة العولمة الاقتصادية المكثَّفة، وتخفيض النفقات في دولة الرفاهية، وخصخصة الشركات العامة ومصادر الثروة، وتحرير الأسواق. وهذان الشكلان من التنمية في نظر بعض المحلِّلين، يرتبطان بوضوح. في واقع الأمر، وكما قال «سلافوك تشيك»، فإن «الشكل الأيديولوجي المثالي لهذه الرأسمالية العالمية هو التعدُّدية الثقافية» (العام ١٩٩٧م، ص٤٤). ومن هذا المنظور، فإن التعدُّدية الثقافية تعمل على تسهيل أو تبرير توسُّع الرأسمالية العالمية واتفاق واشنطن.

وفي اعتقادي أن هذا تحليلٌ خاطئ؛ فالتعدُّدية الثقافية لها أصولٌ مختلفة عن الاقتصاد الليبرالي الجديد، لكن من الصواب أن نقول إن التعدُّدية الثقافية تأثَّرَت بهذه التغيُّرات الأوسع في الاقتصاد السياسي العالمي. ومن المهم أن نعرف هذه الروابط والصِّلات.

إن فكرة انبثاق التعدُّدية الثقافية كأداةٍ للرأسمالية العالمية لم تكن وليدةَ الوقائع؛ فكما قلتُ وأكَّدتُ مرارًا، التعدُّدية الثقافية قدَّمَتها للمرة الأولى الأحزاب اليسارية الليبرالية أو الاشتراكية الديمقراطية كاستجابة للتحرُّك الشعبي للجماعات غير المُسيطِرة؛ فقد كانت باختصارٍ حركةً اشتراكية للتعدُّدية الثقافية. في البداية عارَض قطاع الشركات والفئات السياسية التي تدعم بناء الاقتصاد الليبرالي الجديد — (أنصار ريغان وتاتشر) — عارضوا «التعدُّدية الثقافية» التي رأَوا فيها مثلًا كلاسيكيًّا قديمًا لاستغلال الدولة في سبيل تدعيم «مصالح خاصة».٤٧ أصَرَّ الاقتصادُ الليبرالي الجديد على أن الدولة ينبغي ألا تتدخَّل في «السوق الثقافية» بدعم لغاتِ الأقلية أو أنشطتِها الثقافية.
وهكذا تكون التعدُّدية الثقافية قد انبثقَت للمرة الأولى في مواجهة الحَرَاك الشعبي وفي مواجهة مقاومة نخبة رجال الأعمال والأيديولوجيين الليبراليين الجدد. ومن الإنصاف أن نقول إنه مع مرور الأيام تصالَح عالَم الشركات مع التعدُّدية الثقافية، وظهَر بالفعل شكلٌ مميز ﻟ «تعدُّدية الشركات الثقافية» وتفاعَل بطرقٍ معقَّدة في الحركة الاشتراكية المبكِّرة للتعدُّدية الثقافية.٤٨

تعدُّدية الشركات الثقافية وتعدُّدية الحركة الاشتراكية الثقافية كانت الواحدة منهما أحيانًا تنجذب إلى الأخرى؛ فدفعة الليبرالية الجديدة باتجاه اللامركزية، على سبيل المثال، التي قامت أصلًا باسم الكفاية الاقتصادية، أصبحَت أكثر شعبيةً عندما ربطَت حُجَج التعدُّدية الثقافية بصدَد التكيُّف مع التنوُّع.

في المقابل كانت حركة التعدُّدية الثقافية الاشتراكية تحتاج أحيانًا إلى مساندة عالم الشركات. وكما رأينا، فقد استطاعت حركة التعدُّدية الثقافية الاشتراكية تأمينَ بعضِ الإصلاحات المهمة، لكنها كانت انتصاراتٍ هشة؛ لأن التعدُّدية الثقافية كانت مقبولة، أكثر مما كانت مدعومةً بشكلٍ فعَّال ونشِط من الجماعات المُسيطِرة؛ ومن ثَم فقد كانت معرَّضة للهجوم والتراجُع؛ فكثيرٌ من أنصارها حاولوا أن يجدوا حُججًا إيجابية لمصالحها ربما تكون مُقنِعة أكثر لأعضاء الجماعات المُسيطِرة. وذلك يشمل إعادة تأكيد الحُجَّة الأخلاقية الأساسية القائلة بأن التعدُّدية الثقافية تُمِد وتدعَم منطق حقوق الإنسان، غير أن المدافعين كانوا يأملون أن يجدوا أسبابًا أكثرَ فائدةً أو استراتيجيةً تعلِّل لماذا ينبغي على أعضاء الأغلبية أن يدعَموا التعدُّدية الثقافية؛ فهم يريدون أن يوضِّحوا أن التعدُّدية الثقافية نافعةٌ بالشكل المادي، حتى يستطيع أعضاء الجماعات المُسيطِرة أن يرَوا التعدُّدية الثقافية نافعةً لهم أنفسهم، وليست مجرد التزامٍ أخلاقيٍّ يدينون به للآخرين.

ولقد كان أكثر الاستراتيجيات شيوعًا في هذا الشأن تأكيد النتائج الاقتصادية العرَضية للتعدُّدية الثقافية. ولقد تحدَّث المدافعون عن «تنوُّع المنتج» واقتبَسوا دليلًا على أن الشركات ذات القوى العاملة الأكثر تنوعًا تميل إلى أن تكون أكثر إنتاجًا وإبداعًا. وفضلًا عن ذلك فإن وجود موظَّفين لديهم خلفياتٌ ثقافية ومهاراتٌ لغويةٌ مختلفة يمثِّل مكسبًا قويًّا في اقتصادٍ عالميٍّ متزايد العولمة. وأولئك الذين لديهم مهاراتٌ قوية بين الثقافات سيكونون قادرين على المنافسة في الساحة العالمية. وعلى سبيل المثال: ينبغي تشجيع المهاجرين الصينيين إلى أمريكا الشمالية على الاحتفاظ بلغتِهم الأم وطلاقتِهم الثقافية، ليقوموا بدَور الوسطاء لتسهيلِ مجالِ التجارةِ والاستثمارِ العالمي. وباختصار «التعدُّدية الثقافية» تعني العملَ التجاري، إذا أردنا اقتباس عبارةٍ كانت شائعةً في كندا وأستراليا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

وهناك حُجةٌ ترتبط بذلك تلجأ إلى فكرة أن التعدُّدية الثقافية تجعل البلاد جذابةً أكثر لكلٍّ من السائحين، وأصحاب المهارات العالية من المهاجرين. ﻓ «المدن» تروِّج لنفسها باعتبارها متعدِّدة الثقافات، وتسلِّط الأضواء على مناطقها العِرقية، ومطاعمها العِرقية لكي تجذبَ الزوَّار والنخبة من المهاجرين والمستثمرين الأجانب.٤٩

ولقد لاقت هذه الحُجَج بعضَ النجاح في الترويج للتعدُّدية الثقافية عند أعضاء الجماعات المُسيطِرة، لكنها أيضًا صادفَت إخفاقًا واضحًا، فإذا ما أخذناها بذاتها وجدنا أن لديها القدرة على التقليل من شأن التعدُّدية الثقافية وجعلها حيلةً من حيل السوق، كما لو أن هدف التعدُّدية الثقافية لم يكن تحدِّي الهيراركيات العِرقية والعنصرية الموروثة، بل بالأحرى إعادة تقديم الاختلافات الثقافية على أنها ميزةٌ اقتصاديةٌ قوية في الاقتصاد العالمي، وكسلعةٍ جيدةٍ يُمكِن تسويقها واستهلاكها. والواقع أننا نرى معركةً مستمرةُ تخوضها حركة التعدُّدية الثقافية الاشتراكية في كثيرٍ من البلاد، لضمان أن ترى هذه الحِيَل الخدَّاعة من حِيَل السوق تُدعم بدلًا من أن تحلَّ محلَّ الأهداف الأصلية التحررية للتعدُّدية الثقافية.

ويصعُب أن يكون ذلك أمرًا فريدًا بالنسبة إلى التعدُّدية الثقافية؛ فنحن نجد دينامياتٍ مماثلة في حركاتٍ أخرى للإصلاح الاشتراكي التقدُّمي، بما في ذلك الحركة النسوية وحركة أنصار البيئة؛ فقد نشأَت هذه الحركاتُ في الأساس لمواجهة مقاومة النخبة في الهيئات والشركات، والأيديولوجيين الليبراليين الجدد، غير أن الرأسمالية حاولَت أن تستحوذ على هذه الحركات وأن تجد طرقًا لإعادة تسويقها كسلعٍ وعلاماتٍ تجارية؛ ولهذا نجد صراعاتٍ مستمرةً من جانب النشطاء في الحركة الاشتراكية لاستعادة التحكُّم في جدول أعمال هذه الحركات للحفاظ على أهدافها الإصلاحية الأصلية.

ولقد تطوَّر عددٌ من المصطلحات لاستيعاب هذه الظاهرة؛ فقد تحدَّث النقاد عن تعدُّدية الشركات الثقافية، وعن «التعدُّدية الثقافية الاستهلاكية وعن تعدُّد الحوانيت الثقافية» وعن «التعدُّدية الثقافية الليبرالية الجديدة» أو «تعدُّدية بينيتون الثقافية» (ولقد سُمِّيَت كذلك نسبةً إلى اسم واحدةٍ من الشركات المتعدِّدة القوميات التي وسَمَت نفسَها على نحوٍ ناجحٍ جدًّا كمُتعهِّد للتنوُّع الثقافي الذي أصبح سلعة).٥٠ ولقد أدَّت سيادةُ هذه الظاهرة ببعض المحلِّلين إلى افتراضِ أن ذلك هو المصدَر الحقيقي لنشأة التعدُّدية الثقافية في الغرب. غير أن تعدُّدية الشركات الثقافية في واقع الأمر تبعَت بصفةٍ مستمرةٍ حركة التعدُّدية الثقافية الاشتراكية، أو انبثقَت بشكلٍ جزئي كطريقةٍ لبناء مُسانَدةٍ شعبية للأخيرة. ولستُ أعرف أي بلدٍ في الغرب تبنَّى التعدُّدية الثقافية في البداية بتوجيه من نخبة الشركات بدلًا من نشطاء الحركة الاشتراكية. لقد كانت صفوة رجال الأعمال هي آخر من انضم إلى عربة التعدُّدية الثقافية، وأول من قفز من العربة في فترات الهجوم والتراجُع ضد التعدُّدية الثقافية.٥١

باختصار ليس هناك شيءٌ في منطق رأسمالية التعدُّدية القومية الرأسمالية يتطلَّب (أو يعُوق) التعدُّدية الثقافية؛ ففي البلاد التي حقَّقَت فيها التعدُّدية الثقافية الاشتراكية بعضَ النجاح، تستطيع النخبة من رجال الأعمال، أن تسعى إلى جلب المال عن طريقِ تسويقِ أشكالٍ من الاختلاف الثقافي على شكلِ سلعٍ استهلاكية. وحينما تفشل التعدُّدية الثقافية الاشتراكية، فإن النخبة من رجال الأعمال قادرةٌ على الابتعاد عنها، كما اعتادت أن تفعل.

وعلى أي حال، فقد كشفَت الأحداثُ الأخيرةُ عن السطحية الجوهرية في أيديولوجيا التعدُّدية الثقافية للشركات؛ فبعد الحادي عشر من سبتمبر، ومدريد، والرسوم الدنماركية، لا يستطيع أحدٌ أن يفكِّر في أن التعدُّدية الثقافية ينبغي تقبُّلها أو رفضُها على أساس أنها ستزيد من التنافس العالمي الاقتصادي أو تجذب السائحين. وتذكِّرنا هذه الأحداث بأن السؤال الأساسي هو: هل يُمكِن للتعدُّدية الثقافية أن تصلُح كوسيلة لتعزيز المواطنة؟ وهل يُمكِن للتعدُّدية الثقافية أن تساعد في تغيير الصيغة الموروثة للعلاقات العنصرية والعِرقية غير المدنية — بما في ذلك علاقات القاهر والمقهور، والمستعمِر والمستعمَر، والمستوطِن والساكن الأصلي، والموصوم بعِرقٍ ما وغير الموصوم، والطبيعي المألوف والمنحرِف الشرِّير، وصاحب الرأي المستقيم والمضلِّل، والمتحضِّر والمتخلِّف، والحليف والعدُو، والسيد والعبد — إلى علاقات المواطنة الديمقراطية الليبرالية؟!

لقد كان رد الفعل المباشر لكثير من الناس بعد الحادي عشر من سبتمبر هو استنتاج أن التعدُّدية الثقافية قد فشلَت في هذا الشأن، وأنها ببساطة قد أعادت إنتاج علاقات العداوة والهيراركية. ومع ذلك، على نحوِ ما سنرى في الفصل القادم، هناك دليلٌ كافٍ على أن التعدُّدية الثقافية قد ساهمَت في الواقع في بناء المواطنة الديمقراطية الليبرالية، على أي حال، فهذا هو السؤال الصحيح الذي ينبغي طرحُه؛ فالحديث السابق حول «التنوُّع والمنتج» وحول «التعدُّدية الثقافية التي تعني الأعمال التجارية» لا يُمكِن أن يُبعِدنا بعد الآن عن مواجهة أشد القضايا التي تُثيرها الحركة الأصلية للتعدُّدية الثقافية عمقًا وأهمية حول الرابطة بين التنوُّع العِرقي الثقافي وحقوق الإنسان، والمبادئ الديمقراطية الليبرالية.

خاتمة

أي محاولة لرواية قصة ظهور التعدُّدية الثقافية في الغرب ستكون حتمًا محاولةً جزئيةً وأحاديةَ الجانب، وأنا لا أزعُم أنني قدَّمتُ روايةً شاملةً في هذا الفصل. لقد حاولتُ ببساطةٍ التعرُّف على بعضِ العواملِ التي أعتقد أن لها أهميةً دائمةً عَبْر الديمقراطيات الغربية، وإلقاء الشك على بعض التفسيرات الأخرى التي قُدمَت.

وعلى عكس بعض المعلِّقين لم أجد شاهدًا على التعدُّدية الثقافية قد ظهرَت نتيجةً لإحياء الرومانسية الألمانية عند هردر Herder أو لفلسفة نيتشه لما بعد الحداثة، أو المذهب الثقافي المحافِظ، أو بعث وإعادة بناء الاقتصاد الليبرالي الجديد. وبدلًا من ذلك فقد ركَّزتُ على خمسةِ عواملَ أخرى؛ فمن ناحية فإن زيادة الوعي الحقوقي الذي يرجع إلى ثورة حقوق الإنسان، والتغيُّرات الديموغرافية والمداخل المتعدِّدة للحَراك السياسي الآمن ساعدَت في تفسير السبب في أن الجماعات غير المُسيطِرة قد أصبحَت عازمةً أكثر فيما يتعلق بقضايا التعدُّدية الثقافية، ومن ناحيةٍ أخرى فإن عدم تأمين العلاقات العِرقية والإجماع على حقوق الإنسان ساعدا على تقليل مخاطر قبول الجماعات المُسيطِرة لهذه القضايا.

وهذه العوامل، إذا ما أُخذَت معًا، فإنها تساعد على تفسير اتساع التغيُّر نحو التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، لكن أيضًا طبيعتها الهشة، غالبًا ما ولَّدَت الإذعانَ السلبي لا الدعمَ الإيجابي.

بالطبع، بالنسبة إلى أهداف هذا الكتاب، فإن السؤال الأكثر أهميةً هو: ما الضوء الذي يُلقيه التحليل على آفاق انتشار التعدُّدية الثقافية الليبرالية عالميًّا؟ وإذا ما طُبعَت هذه الشروط الخمسة على نحوٍ مطردٍ عَبْر الديمقراطيات الغربية، كانت عُرضةً للمَد والجَزر عَبْر الزمن، فربما يكون ذلك أكثر صدقًا في المناطق الأخرى من العالم. وكما سنرى في الجزء الثالث، سيظل التقاء جميع الشروط الخمسة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية أمرًا نادر الحدوث، وليس ثمَّة ميلٌ عامٌّ إلى أن تُصبِح هذه الكوكبة من العوامل أكثر شيوعًا حول العالم.

والواقع أنه يبدو أن هناك عدمَ توازنٍ نسقي في هذه التوجُّهات. وإذا بسطنا الموضوع أكثر من ذلك لقلنا إن الظروفَ التي تُساعِد على توليدِ مطالبَ أكبر للتعدُّدية الثقافية الليبرالية أصبحَت بالتأكيد أكثر شيوعًا حول العالم. ويُمكِننا أن نرى انتشارًا ثابتًا لخطابٍ جديد ولوعيٍ جديد بحقوق الأقليات وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى عملية (لم تكتمل) للدمقرطة خلقَت مجالًا أوسع للحَراك السياسي الآمن للأقليات. لكن يبدو أنه ليس ثمَّة اتجاهٌ مقابل بالنسبة إلى الظروف التي تمكِّن وتشجِّع الدول والجماعات المُسيطِرة على قَبول قضايا الأقلية؛ ففي مناطقَ واسعةٍ من العالم تستمر مخاوفُ المجموعاتِ المُسيطِرةِ حول أمنهم الجغرافي السياسي وأمنهم الفردي في شلِّ الجهود لتبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية. والنتيجة المتوقَّعة هي اضطراباتٌ سياسيةٌ خطيرة، كلما تجاوزَت مطالبُ التعدُّدية الثقافية الليبرالية إمكانَ أن تُلبَّى.

هذا اللاتوازُن في الشروط الكامنة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية يُثير عددًا من التحديات العميقة للعمل الدولي في هذا المجال. وهناك خطرٌ واضحٌ من أن مجهودات المجتمع الدولي، سواء بالنسبة إلى المنظمات بين الحكومات أو المنظمات غير الحكومية، ربما جعلَت هذا اللاتوازن يتفاقم من دون قصد، ويثير مطالبَ أكبر للتعدُّدية الثقافية الليبرالية من دون تقوية الظروف التي تجعلها مقبولة. وفي اعتقادي أن المجتمع قد تجاهَل بالفعل هذا الخطرَ في بعض الحالات، وفي بعض الحالات الأخرى بالَغ في ردِّ فِعلِه تجاهه.

وقبل أن نستكشفَ هذه المعضِلة، فإننا بحاجةٍ إلى إنهاء استكشافنا للتعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب عن طريقِ فحصِ مساراتها عمليًّا.

١  الهيراركية … Hierarchy أو التصاعدية: جعل الناس أو الموجودات مراتبَ يعلو بعضها على بعض ويتحكَّم الأعلى في الأدنى، وهي فكرةٌ يونانيةٌ قديمة كانت بارزةً جدًّا في فلسفة أرسطو، ثم ظهرَت في كهنوت العصور الوسطى في مراتب الكهنوت، ثم في عصر الإقطاع … إلخ. (المترجم)
٢  بغَض النظر عن أن الموضوع متناقِضٌ بطبيعته، فربما كان من الأكثر صوابًا ودقة النظر إلى التعدُّدية الثقافية وبناء الدولة القومية على أساس أن كلًّا منهما يُمِد الآخر بشروطٍ مشروعة؛ فلولا وجود سياسات بناء الدولة القومية التي تؤذي الأقلية، لبدَت كثيرٌ من قضايا الحقوق للتعدُّدية الثقافية على أنها ببساطة «مزايا» أو «مصالح خاصة»، وعلى العكس، لولا وجود حقوق الأقليات لبدت كثيرٌ من سياسات بناء الدولة القومية على أنها مزايا غير عادلة بالنسبة إلى الأغلبية، كما أننا لا نستطيع أن نُسلِّم، ببساطة، أن مِن حق الدول الديمقراطية الليبرالية أن تُصِر على اللغات القومية الشائعة، والأنظمة التعليمية واختبارات المواطنة وغيرها وأن تفرض ذلك على الأقليات، كما ناقشت سابقًا، هناك أغراضٌ مشروعةٌ معيَّنة تُسانِدها سياساتُ بناء الدولة القومية، مثل التضامن المدني، لكن لا يجوز السعي وراء تلك الأهداف بهضم، أو إقصاء، أو إضعاف الأقليات، أو فرض أعباءٍ وتكاليفَ على الجماعات التي هي أصلًا مظلومةٌ بالفعل، ما لم يُستكمَل ويُقيَّد بحقوق الأقليات، فمن المحتمل أن يكون بناء الدولة القومية ظالمًا وقهريًّا. (المؤلِّف)
٣  حول الرابط بين النضال من أجل التحرُّر من الاستعمار وحركة الأمريكيين الأفارقة من أجل الحقوق المدنية، انظر: فون إيشن، ١٩٩٧م؛ آندرسون، ٢٠٠٣م.
٤  تناولتُ هذا التفسير للتجربة الكندية في التعدُّدية الثقافية، كمثالٍ على التأقلُم المحلي مع ليبرالية الحقوق المدنية ومعايير حقوق الإنسان، بشكلٍ أكثر عمقًا في كتابي الصادر في العام ٢٠٠٧م.
٥  حول «ثورة الحقوق» انظر: إيغناتييف، ٢٠٠٠م، ووكر، ١٩٩٨م. ويرتبط نمو الوعي بالحقوق، جزئيًّا، بارتفاع مستويات التعليم بين كثيرٍ من الأقليات.
٦  هناك استثناء جزئي يتعلق بحكومات القبائل الهندية في الولايات المتحدة، التي لديها إعفاءٌ محدود من بعض شروط لائحة الحقوق في الولايات المتحدة، ولقد سمح هذا الإعفاء لبعض القبائل بتبنِّي سياساتٍ تنتهك المعايير الليبرالية، لكن من الجدير بالذكر أن نؤكِّد أنه على حين أن كثيرًا من حكومات القبائل تُدافِع عن هذا الاستثناء الجزئي من لائحة الحقوق في الولايات المتحدة، فإنها لا تعترض أبدًا على فكرةِ أن قراراتِ حكمهم الذاتي ينبغي أن تخضع لمعايير حقوق الإنسان الدولية والرقابة الدولية. انظر في ذلك: كيمليكا، ٢٠٠١م، الفصل الرابع؛ كوان، ٢٠٠٧م.
٧  وتلك قضية مهمة حتى في السياق الذي لا تحترم فيه الجماعة المُسيطِرة حقوق الإنسان، وقيم الديمقراطية الليبرالية، والواقع أنها قد تكون قضيةً مهمةً في مثل هذا السياق بصفةٍ خاصة. وفي البلدان التي اعتادت فيها الجماعة المُسيطِرة أن تُسيء معاملةَ الأقليات، فمن المحتمل أن يكون هناك خوفٌ قوي بصفةٍ خاصة من أن تسعى الأقلية إلى الانتقام من الأعضاء المحليين في الجماعة المُسيطِرة، إذا ما حصَلوا ذات يوم على الحكم الذاتي (وفي ذهني ما حدَث للصرب في كوسوفو) وفي هذا السياق قد يبدو من الرياءِ أو النفاقِ للجماعة المُسيطِرة أن تلجأ إلى «حقوق الإنسان» كأساسٍ لرفض الحكم الذاتي للأقلية، لكن الخوف مما قد يتلقَّاه بنو عِرقهم من معاملةٍ في مناطق الأقلية ذات الحكم الذاتي يمثِّل برغم ذلك عاملًا قويًّا.
٨  ذلك ما يميِّز التعدُّدية الثقافية الليبرالية من أشكال «التعدُّدية الثقافية» الأخرى في التاريخ التي لم ترتبط بأفكار وعلاقات المواطنة الديمقراطية، كالنظام العثماني على سبيل المثال، الذي منح الأقليات عددًا من الضمانات الدستورية، لكنه حدَّدَها في موقع اللامساواة الدستورية من داخل التفاوُت الدستوري (مثل الاستبعاد من الوظائف العليا) وانعدام الحرية (مثل تحريم محاولة الاستمالة إلى مذهب أو التبشير).
٩  الاقتباس الإيضاحي المأثور على هذا التحوُّل في المواقف العامة هو كتاب رونالد إنغلهارت، وبحث القيم العالمي — انظر مثلًا: إنغلهارت وآخرون، ١٩٩٨م؛ وإنغلهارت وويلزل، ٢٠٠٥م.
١٠  الزعم بأن التعدُّدية الثقافية تضرب بجذورها في المذهب الثقافي المحافظ بدلًا من الليبرالية هو زعمٌ قديم. والواقع أن العديد من منظِّري التعدُّدية الثقافية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي سلَّموا ببساطة بأن التعدُّدية الثقافية نشأَت كردِّ فعلٍ مجتمعي ضد التحرُّر، وكمحاولةٍ لاحتواءِ آثاره الضارة في السلطات والممارسات التقليدية، والتعدُّدية الثقافية، من هذا المنظور، تُطالِب بها النخبة أو الصفوة المحافِظة القلِقة من أن يُؤدِّي تحرُّر الأفراد إلى جعلهم يستخدمون حقوقَهم الإنسانية والمدنية لمساءلة ورفض بِنَى السلطة التقليدية والممارساتِ الثقافية، وباختصارٍ تتجه التعدُّدية الثقافية نحو وضعِ مكابحَ مجتمعيةٍ للتحرُّر. انظر مثلًا: فان دايك، ١٩٧٧م، و١٩٨٢م؛ وسفنسون، ١٩٧٩م؛ وأديس، العام ١٩٩٢م؛ وغاريت، ١٩٨٣م؛ وجوستون، ١٩٨٩م؛ وماكدونالد، ١٩٩١م؛ وكارميس، ١٩٩٣م، ولقد ناقشتُ هذه «الموجة الأولى» أو النظريات المجتمعية عن التعدُّدية الثقافية وكيف عارضَتها النظرياتُ الليبرالية الأكثر حول التعدُّدية الثقافية. انظر: كيمليكا، ٢٠٠١م، الفصل الثاني.
١١  لمناقشة حول الحركة الارتجاعية المفاجئة للبيض ضد التعدُّدية الثقافية، انظر: هيويت، ٢٠٠٥م، وهانسن، ٢٠٠٧م، وبولبك، ٢٠٠٤م.
١٢  لقد لاحظ جون ماير مدى ما تتضمَّنه النماذج المعاصرة للمجتمع القومي الفاضل من تخلٍّ عن قضايا سابقة حول القومية البطولية، والتمييز والتفوُّق العنصري، والإرساليات الدينية، أو الواجبات التاريخية الخاصة بتصدير الحضارة إلى الجيران، ولقد كان تركيزه على الطريقة التي «روَّضَت» بها هذه التغيُّرات الأيديولوجية الدولة القومية (ماير، ٢٠٠١م، ص٦)، لكننا نستطيع أن نرى الديناميكا نفسها بخصوص الجماعات الثانوية؛ فلا بد لها هي الأخرى من أن تتخلى عن دعواها بخصوص الإيمان بالتفوُّق العِرقي والديني والمهمَّات التاريخية، وإعادة صياغة مطالبها في لغةٍ تضمَن التقدُّم والعدالة، وحقوق الإنسان.
١٣  ناقشتُ قُصورَ التصوُّرات التقليدية والمجتمعية للتعدُّدية الثقافية في كتبي الأعوام ١٩٨٩م، ١٩٩٥م، ٢٠٠٤م.
١٤  الكتابات عن اختلاق التراث هائلة، ولأشهرها انظر: هوبسبوم ورينجر، العام ١٩٨٣م.
١٥  American Anthropology Association.
١٦  هناك خطأ يرتبط بذلك هو النظر إلى هُويتنا كمواطنين في مجتمعاتٍ أكبر على أنها بطريقةٍ ما «غير أصلية» وصناعية، إذا ما قُورنَت بالهُوية الحقيقية المرتبطة بالعضوية في جماعاتٍ عِرقيةٍ ورئيسيةٍ خاصة. والواقع أن الهُويات المدنية والعِرقية الشاملة هي عادية وطبيعية — كما أنها شائعة تاريخيًّا — مثل الهُويات العِرقية والدينية الأكثر خصوصية.
١٧  بالنسبة إلى العلاقة المتطوِّرة والمعذَّبة بين الأنثروبولوجيا وحقوق الإنسان انظر: فريمان، ٢٠٠٢م، كوان وآخرون، ٢٠٠١م، وولسون، ١٩٩٧م.
١٨  لبيانٍ واضحٍ بهذا الخصوص انظر «والدون، ٢٠٠م»، ولتعبيراتٍ أخرى حول القلق من أن التعدُّدية الثقافية (المُحافِظة) يمكن أن تسجنَ الناسَ في نصوصٍ مكتوبةٍ حول الهُوية والثقافة، أو أنها تُعيق استقلال الفرد والتداول الديمقراطي. انظر: آبيا، ٢٠٠٤م، وماركيل، ٢٠٠٣م؛ وبن حبيب، ٢٠٠٢م، وسن، ٢٠٠٦م، وبايارت، ٢٠٠٥م.
١٩  يزعُم البعض أن هذا هو التفسير الوحيد الممكن للتعدُّدية الثقافية، وأننا نستطيع أن نُعالِج عيوبه بأن نرفض طغيان «الحديث عن الثقافة» (بوث، ١٩٩٩م، ماندامي، ٢٠٠٠م).
٢٠  فعلى سبيل المثال، اقترح نقَّادٌ قانونَ التعدُّدية الثقافية في كندا، أن المنطق المُحافِظ للحفاظ على الثقافة يقتضي السماح بختان الإناث داخل الجماعات المهاجرة؛ حيث يُعتبر ممارسة «تقليدية» (بيسوندات، ١٩٩٤م؛ غوين، ١٩٩٥م). لكن كيف يمكن لنا أن نوفِّق بين ذلك، وبين حقيقة أنه في الوقت نفسه الذي تبنَّت فيه كندا قانونَها الخاص بالتعدُّدية الثقافية، فإنها أصبحَت من أوائل البلدان في العالم التي قبلَت إعطاء الفتاة حقَّ اللجوء إذا ما واجهَت مخاطرَ الخضوع إلى الختان في حال عودتها إلى بلدها الأصلي، وحتى إذا ما كان الختان «تقليديًّا» في ذلك البلد الأصلي (ليفين، ١٩٩٩م، ص٤٠) فسوف يكون من التناقض تمامًا لبلدٍ مثل كندا أن يتقبَّل الختان على أرضه باسم المحافَظة على الثقافة، في حين أنه يعرِّفه على أنه اضطهادٌ خارج الوطن، يزعم النقَّاد مثل بسونداث وغوين أن المشرِّعين وقعوا في تناقضٍ ذاتي، لكنهم لم يقدِّموا تفسيرًا مقبولًا لكيفية ظهور هذا التناقُض الذاتي ولماذا ظهر. وفي استطاعتنا أن نتفادى هذا التنافُر، ونقدِّم تفسيرًا سياسيًّا أكبر قبولًا لهذَين القرارَين، إذا ما نحن رأينا أن الاثنَين نشآ عن قيمٍ ليبرالية، والواقع، كما سنرى، أن النصَّ الفعلي لقانون التعدُّدية الثقافية يجعل من الواضح أنه ليبراليٌّ أكثر مما هو تقليدي في إلهامه.
٢١  إذا أردتَ مثلًا واضحًا، انظر: بيري، ٢٠٠١م، ص٢٩٢–٢٩٩.
٢٢  ولقد قسَّم آدم هذه الجماعة تقسيمًا فرعيًّا إلى «تقليديين» و«دارويين» لكنهم يشتركون في الخوف من الإصلاحات الليبرالية التي سوف تُقوِّض النظام الاجتماعي وهو يُدخِل سياساتِ التنوُّع ضمن هذه الإصلاحات الليبرالية، المقوِّضة للاستقرار.
٢٣  لقد أُعيد طبع القانون كمُلحَق في كتاب كيمليكا في العام ١٩٩٨م .
٢٤  للمزيد عن الإلهام الليبرالي الأساسي للتعدُّدية الثقافية في كندا، انظر فوربس، ١٩٩٤م، ص٩٤ (التعدُّدية الثقافية تلجأ إلى الفهم العام للحرية كاختيار) وكذلك لوبل Lupul 2005، الذي تُعطينا مذكراتُه شواهدَ كثيرة على الطريقة التي توفر بها ليبرالية الحقوق المدنية الخلفية المسلَّم بها للتحريك المبدئي للتعدُّدية الثقافية في كندا.
٢٥  على حين أن الحكومة المُحافِظة الحالية على المستوى الفدرالي في أستراليا قد تراجعَت عن التعدُّدية الثقافية، اشتد بعضُ هذا الارتخاء عن طريق الحكومات العمالية التي تسود على مستوى الدولة. وعلى سبيل المثال، فإن ويلز الجديدة الجنوبية قد تبنَّت أخيرًا قانونًا جديدًا للتعدُّدية الثقافية.
٢٦  كما لاحظ غيلهوت، ٢٠٠٥م (Guilhot)، فإن الكتابات حول انتشار حقوق الإنسان والديمقراطية كثيرًا ما تجعل الأمر يبدو كأن هذه الأفكار تُسافِر بطريقتها الخاصة، وتتجاهل علاقات القوة التي تحدِّد الطريقة التي تُصاغ بها هذه الأفكار وتُتداوَل، وبواسطة من.
٢٧  هناك عددٌ من الدراساتِ الممتازة التي تُقارِن بين هذه الديناميات السياسية في أنحاء الديمقراطيات الغربية، انظر على سبيل المثال «كوبمانز» و«ستيثام» ١٩٩٩م و٢٠٠٣م حول «بِنى الفُرص السياسية» المتميِّزة المتاحة أمام المهاجرين في مختلف البلدان الأوروبية، وكيف أثَّر ذلك في طبيعة ومحصِّلة تحرُّكها.
٢٨  اقتبسها «ولتون» (العام ٢٠٠٠م، ص٤٧) ويقدم «ولتون» وصفًا مثيرًا للمفاوضات المكثَّفة بين الأمريكيين والإنجليز حول مسألة الإمبريالية ودورها في الحرب. ولقد غيَّر الأمريكيون بالطبع من نغمة حديثهم أثناء الحرب بعد أن قرَّروا أنهم يريدون في الواقع أن يستعمروا بعض الجزر اليابانية المختلفة بعد الحرب بغَض النظر عن إرادة السكان المحليين. كما أن حماس الأمريكيين للتخلص من الاستعمار قد خبا عندما أصبح واضحًا أن بعضَ الحركات القومية التحرُّرية يسيطر عليها الشيوعيون. وباختصار، فقد كان الالتزام المبدئي بالتخلص من الاستعمار ضعيفًا جدًّا من كلا الجانبَين في شمال الأطلنطي.
٢٩  وبالطبع، كانت مطالبة اليابان بقضية المساواة العنصرية هو نفسه ممارسة للسياسة الواقعية، وليست مبدأ أخلاقيًّا. فقد أوضحت الأحداث التالية أن اليابانيين كانت لهم أيديولوجية خاصة فيما يتعلَّق بالتفوُّق العِرقي، الذي تصوروا أنه يعطيهم الحق في أن يحكموا جيرانهم الآسيويين الأدنى منهم (لورين، ١٩٩٦م، ص١٤٠). فلم يعترض اليابانيون على الإيمان الغربي بالأجناس الدنيا والعليا، لكنهم ببساطة اعترضوا على الطريقة التي رفض بها الغرب قبول أن اليابانيين أحد الأجناس المتفوقة، وهو رفضٌ نسبوه (ويا لَلمُفارَقة!) إلى التحيز العنصري غير العقلاني. وعندما أصبحَت نظرية تفوُّق الجنس هذه واضحةً في ثلاثينيات القرن الماضي لم تعُد جهود اليابانيين في أن يجعلوا من أنفسهم قادة في الكفاح من أجل المساواة العِرقية مشروعة، وبعد الحرب العالمية الثانية انتقلَت هذه القيادة إلى الهند، التي أصبحَت أعظم المؤيدين مجاهرةً بالرأي للمساواة العِرقية في الأمم المتحدة (بانتون، ٢٠٠٢م).
٣٠  إذا كان ذلك يبدو تفسيرًا في غير محله لتحوُّل الغرب إلى مبدأ المساواة العِرقية؛ فلا بد أن نلاحظ أن هناك رواياتٍ ساخرةً كثيرة؛ فقد ذهب «فرانك فيوردي» على سبيل المثال إلى أن الغرب صادق على مبدأ المساواة العِرقية، ليس اعترافًا بحقوق الشعوب غير الأوروبية، بل بالأحرى لحماية البيض الذين قد يخضعون ﻟ «انتقامٍ عِرقي» إذا ما انتهى عصر الإمبريالية (فيوردي، ١٩٩٨م). والواقع أن الأوروبيين البيض قد بدَءوا الحرب العِرقية العالمية بأن أكَّدوا الحقَّ في استعمار الشعوب الدنيا غير الأوروبية، وكانوا قلقين من أن ترُدَّ شعوبُ آسيا وأفريقيا الجميلَ بشن حربٍ عنصريةٍ عالمية للتخلُّص من الاستعمار؛ حيث يتحد الآسيويون مع الأفارقة ضد الأوروبيين البيض. ويرى «فيوردي» أن الالتزامَ الجديدَ للغرب بالمساواة العِرقية هو محاولةٌ لمنع أي بُعدٍ مُعادٍ للأوروبيين في معركة التخلُّص من الاستعمار.
٣١  مناقشات تفصيلية حول آثار الحرب الباردة على علاقات العِرق المحلية، (انظر بورستلمان، ٢٠٠١م، وليتون، ٢٠٠٠م).
٣٢  لا أريد بذلك أن أقول إن الحُجَج الأخلاقية، ومبرِّرات الاستراتيجية الجغرافية السياسية أمران منفصلان أتمَّ الانفصال. غير أن الخوفَ من خسارة الحرب العالمية الثانية أو الحرب الباردة ساعَد في تركيز أذهانِ الناس على التحرُّر من الاستعمار، وإلغاء التفرِقة العنصرية، قدَّم دافعًا قويًّا لمحاولة فهم مشاعر انعدام الكرامة والذل التي تخلُقها الإمبريالية والتفرِقة العنصرية. كما لاحظ جاكسون (العام ١٩٩٣م)؛ فبحلول ستينيات القرن الماضي تعمَّق هذا الفهمُ الجديدُ لمظالم الاستعمار، وساعَد على تدعيم الدفعة النهائية التي قامت بها الأمم المتحدة من أجل التحرُّر من الاستعمار.
٣٣  لو أننا انتقلنا من الديمقراطيات الغربية القائمة، لوجدنا أن قبرص تمثِّل حالةً واضحة؛ فالأقلية التركية القبرصية تراها الدولة اليونانية القبرصية المُسيطِرة على أنها من المحتمَل أن تتعاون مع العدوان التركي.
٣٤  تقريبًا لا أحد؛ ففي مقالٍ حديث في إحدى صحف الجناح اليميني الكندية جاء سؤال «هل تكون الكيوبيك المستقلة صديقةً للإرهابيين؟» (كي، ٢٠٠٦م).
٣٥  انظر: ويفر، ١٩٩٥م، لنقاشٍ جيد للظاهرة العامة «للتأمين»، ولمناقشةٍ أكثر شمولًا عن تأمين العلاقات العِرقية، انظر: كيمليكا وأوبالسكي، ٢٠٠١م، ص٦٦–٦٨، ص٣٣٦ وما بعدها.
٣٦  هذا واضح من واقع أن دعم التعدُّدية الثقافية كوسيلة للتكيُّف مع الأقليات الموجودة غالبًا ما يتلازم مع معارضة السماح بأي أقلياتٍ جديدة، عن طريق تضييقِ إجراءاتِ الدخول مثلًا، على نحوِ ما حدث في كلٍّ من أوروبا وأمريكا الشمالية (ردج، ١٩٩٨م).
٣٧  انظر على سبيل المثال تقرير استطلاع الرأي عند إيفانز، ٢٠٠٦م، وكريباز، ٢٠٠٦م.
٣٨  في استطاعتنا صياغة ديناميات السياسة هنا بطريقة أكثر تحديدًا، فالتعدُّدية الثقافية في الغرب، كما أشرتُ فيما سبق، قد تم تبنِّيها بصفةٍ عامة عندما جاءت الأحزاب اليسارية الليبرالية أو الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية إلى السلطة، والواقع أن هذه الأحزاب في معظم الحالات لم يكن دعمُها للتعدُّدية الثقافية هو السبب في وصولها إلى السلطة؛ فمعظم مؤيديها كانوا لا يعرفون أو يرتابون في قيم التعدُّدية الثقافية، لكن كلما كان الناخبون يثقون في أن التعدُّدية الثقافية تتسق مع قيم الديمقراطية الليبرالية، ومع الأمن السياسي الجغرافي، فإنهم لن يغيِّروا أنماطَ تصويتهم ببساطة للتعبير عن شكِّهم في مزاياها الإيجابية، وإذا كانت هناك مبرِّراتٌ قويةٌ أخرى لدعم الأحزاب اليسارية الليبرالية أو الاجتماعية الديمقراطية، وإذا كانوا يعتقدون في أن مخاطر التعدُّدية الثقافية ضئيلة، فسيُواصِلون التصويت ولو لم يكونوا مؤمنين حقًّا بالتعدُّدية الثقافية، ولأمثلة عن هذه الدينامية انظر: إلفانز، ٢٠٠٦م، وكريبانز، ٢٠٠٦م.
٣٩  وهي تعني أيضًا أن هناك بناءً غيرَ متماثلٍ لموقف الأغلبية والأقلية نحو التعدُّدية الثقافية من الممكن أن يكونَ مصدرًا للتوتُّر وسوء الفهم ما دام أعضاء الأغلبية يؤمنون تمامًا بأن هذه السياسة جائزة، لكنها ليست مطلوبة من القيم الديمقراطية الليبرالية ومعايير الحقوق الإنسانية؛ فهم يعتقدون أنهم ذهبوا إلى ما وراء نداء الواجب، وهم بهذا المعنى أصبحوا كرماء، وفضلاء في تبنِّي هذه السياسات.
ويتوقَّعون من الأقلية أن تكون ممتنةً ومعترفةً بالجميل لهذا الكرم، وأن تعترف بحظها السعيد لأنها تعيشُ في بلدٍ ذي أغلبيةٍ متسامحة وحسنة النية، ومن ناحيةٍ أخرى، يرى أعضاءُ جماعات الأقليات أن تبنِّي سياسات التعدُّدية الثقافية هو الحد الأدنى المطلوب للاعتراف بالمظالم السابقة وعلاجها، وأن تلك خطوةٌ متواضعةٌ لا تستدعي الامتنان. وواقع أن أعضاء الأغلبية يتوقعون الشكر والاعتراف بالجميل لتبنِّيهم التعدُّدية الثقافية يُوحي بأنهم لم يتقبَّلوا حقًا المظالمَ السابقةَ من أشكال الاستيعاب والاستبعاد والطرد، أو أنهم تخلَّوا تمامًا عن مطالبهم السابقة بالملكية الحصرية للعولمة والمجال العام. وهذا الانفصال في المواقف يُمكِن أن يكون مصدرًا للاستياء وانعدام الثقة المتواصلَين، حتى إذا كان هناك إجماعٌ (مؤقَّت) على تفاصيل سياسة معنية.
٤٠  وربما كان مستوًى معيَّن من الرخاء الاقتصادي شرطًا سابقًا آخر. ولو حدث ذلك فلن يكون بسبب أن سياسة التكيُّف مُكلفَة. ويُمكِن أن تكون الأنظمة الفدرالية فعَّالة مثل الدول المركزية، بل إن تكاليف ثنائية اللغة أقلُّ كثيرًا مما يعتقد معظم الناس (غرين، ٢٠٠٤م). وعلى كل حال فإن مقاومة الدول لهذه السياسة لا علاقة لها عادةً بالإنفاق؛ فالدول ذات البناء القومي كثيرًا ما ترفُض الحقوقَ الثقافية التي ليس لها تكاليفُ في الميزانية على الإطلاق (بسماحها بالتمويل الخاص لمدارس الأقليات)؛ ومن ثَم فلو أن مستوًى معيَّنًا من الرخاء الاقتصادي كان شرطًا سابقًا للتبنِّي الناجح لهذه النماذج، فليس السبب هو أن هذه النماذج نفسها مُكلفَة، بل لأن ظرفًا أو آخر (مثل التضامن الديمقراطي) قد يتطلب شرطًا اقتصاديًّا مسبقًا.
٤١  المعلِّقون الذين ذهبوا إلى أن الديمقراطيات الغربية قد رفضَت التعدُّدية الثقافية الليبرالية في حد ذاتها تجاهلوا ببساطة الأمثلةَ المضادةَ الواضحة للأقليات وللسكان الأصليين — وانظر على سبيل المثال: جوبكي، ٢٠٠٤م.
٤٢  يأتي المهاجرون من ثقافاتٍ متنوعة بممارساتٍ تتعارض مع المعايير الغربية المعاصرة، غير أنه كثيرًا ما قيل إن للمسلمين التزامًا دينيًّا أقوى للمحافظة على هذه الممارسات، ومن هنا فمن المحتمَل أكثر أن يستخدموا أيديولوجية التعدُّدية الثقافية للمطالبة بحق المحافظة عليها. وكذلك يُعتقَد على نطاقٍ واسعٍ أن الحركات الإسلامية العالمية تشجِّع المسنين المهاجرين في الغرب على تحدِّي الحدود الليبرالية للتعدُّدية الثقافية باسم دينهم، كجزءٍ من الكفاح والنضال ضد الغرب في الخارج.
٤٣  علينا أن نتذكَّر أن مَن وراء تفجيرات لندن كانوا فيما يبدو قد جنِّدوا في أحد مراكز المجتمع في مدينة ليدز، الذي كان يُسيطِر عليه الجهاديون.
٤٤  حجم ونسبة الجماعة المهاجرة مهم هنا، ويساعد في تفسير الاختلاف بين أوروبا وأمريكا الشمالية؛ ففي كلٍّ من كندا والولايات المتحدة، يُشكِّل المسلمون نسبةً مئويةً ضئيلة من عدد المهاجرين بصفةٍ عامة، يبزُّهم المهاجرون من أصولٍ إسبانية (في الولايات المتحدة) وشرق آسيوية (في كندا). ونتيجةً لذلك فإن المناقشات السياسية حول دمج المهاجرين من النادر أن تتركَّز حول المسلمين؛ ففي أمريكا الشمالية، على خلاف أوروبا، لم يكن هناك أحدٌ يساوي بين فئة «المهاجر» وفئة «المسلم». ولا يعني ذلك أن نقول إن الجماعات المهاجرة غير المسلمة مرحَّب بها بحرارة في أوروﺑا أو أمريكا، أو أنهم لم يواجهوا أحكامًا مبتسَرة جائرة أو تفرقةً عنصرية؛ ففي داخل كل بلد، هناك اختلافاتٌ مهمة في الموقف تجاه القضايا المختلفة، لجماعات المهاجرين. كما أن المناقشات العامة تميز على نحوٍ نموذجي الجماعاتِ المهاجرةَ «الجيدة»، التي تُرى على أنها جماعةٌ قادرةٌ على العمل الشاق، مطيعةٌ للقانون، وهي لذلك تستحق قدْرًا معقولًا من تسهيلات التعدُّدية الثقافية، والجماعات المهاجرة «السيئة» التي يُمكِن أن يُنظَر إليها على أنها كسولةٌ وعُرضةٌ لارتكاب الجريمة، وميَّالة إلى التعصُّب الديني والتطرُّف السياسي، وعندما تُرى المجموعة الأخيرة على أنها المستفيد الأول من التعدُّدية الثقافية، فإن التأييد العام للتعدُّدية الثقافية يُمكِن أن يتناقص، ويؤدي ذلك إلى حالاتٍ عليا من التراجع. بالنسبة إلى أهمية هذه الأفكار في تفسير دعم التعدُّدية الثقافية انظر: كيمليكا، ٢٠٠٤م.
٤٥  لاحظ أن ليدل يقول إن «الإسلام» وليس «الخوف المَرَضِي من الإسلام»، هو الذي قتل التعدُّدية الثقافية.
٤٦  ولقد حدث تغيُّرٌ مماثل لفترةٍ قصيرة في أوائل تسعينيات القرن الماضي في كندا، عندما بدأ المسلمون المهاجرون (غالبًا من الصومال)، للمرة الأولى منذ تبنِّي السياسة منذ عشرين سنة، في التأثير في المناقشات العامة حول التعدُّدية الثقافية، ولقد أدَّى ذلك إلى سقطةٍ صغيرة في المسانَدة الشعبية للتعدُّدية الثقافية، بما أن المسلمين شكَّلوا ١٠ في المائة من الوافدين المهاجرين، لم يكونوا قادةً رئيسيين للرأي العام أو السياسة العامة، انظر في هذا الموضوع: كيمليكا، ٢٠٠٤م، وجدواب، ٢٠٠٥م.
٤٧  بالنسبة إلى التحولات الخطابية التي تُخفي صمود سياسات التعدُّدية الثقافية من الناحية العملية، انظر: هانسن، ٢٠٠٧م، وشين، ١٩٩٩م، وريتشاردسن، ٢٠٠٤م، وإنتزنفر، ٢٠٠٦م.
٤٨  بالنسبة إلى تفشي هذا النقد للتعدُّدية الثقافية وسط اليمين الليبرالي الجديد في كندا انظر: أبو لبن وغابريل، ٢٠٠٢م.
٤٩  استعَرتَ مصطلحات تعدُّدية الحركة الاشتراكية الثقافية و «تعدُّدية الشركات الثقافية» من جيمس، ٢٠٠٦م، وماتوستيك، ١٩٩٨م، على التوالي، على الرغم من أنني استخدمتُهما لأغراضي الخاصة.
٥٠  لم تتنافس البلادُ الغربية بصفةٍ عامة لجذب المهاجرين ذوي المهارات الدنيا، لكنَّ هناك تنافسًا متزايدًا لجذب الصفوة من المهاجرين — من المحترفين، والمقاولين ومنظمي العمل — ممن يظهَرون على أنهم يُساهِمون في رخاء البلاد وحيويتها. وهذا التنافُس الكبير — وفي اعتقادي السليم — يفترض أن التعدُّدية الثقافية توفِّر مِيزةً استراتيجية. انظر: ساشر، ٢٠٠٦م.
٥١  للمناقشة، انظر: جيرو، ١٩٩٤م، في الفصلَين الأول والثاني، وماتوستيك، ١٩٩٨م، وبونيت، ٢٠٠٠م، وميتشل، ١٩٩٣م، ومكدونالد ومولدون، ٢٠٠٦م، وهيل، ٢٠٠٢م. وسمعة بينيتون بالنسبة إلى قضايا التعدُّدية الثقافية تلطَّخَت عندما اكتُشِف أن لوسيانو بينيتون نفسه اشترى قطعًا كبيرة من أراضي تشيلي، كانت قد أُخذَت من هنود مابوش (ماسكرنهاش، ٢٠٠٦م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤