تقييم التعدُّدية الثقافية الليبرالية من الناحية العملية
«لقد عاملَت المنظَّمات الدولية التعدُّدية الثقافية الليبرالية في كثيرٍ من السياقات ليس على أنها ببساطةٍ خيارٌ مشروعٌ بين خياراتٍ أخرى، بل على أنها خيارٌ مفضَّل، بل حتى على أنها الخيار الشرعي الوحيد»
في الفصل السابق، وصَفْنا الأصول الأُولى المتفائلة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، بأنها انبثَقت كجزء من ثورةٍ أوسعَ لحقوق الإنسان، والتزمَت بمهاجمة الهيراركيات الموروثة وبزيادة حرية الفرد. غير أن هذه القصة حول أصول التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي أساسًا قصة حول المعتقَدات، والنوايا، والطموحات، لكنها لا تُخبِرنا عن الطريقة التي تعمل بها من الناحية العملية. والسؤال لا يدور حول الآمال الساذجة أو المثالية الموجودة عند الناس الذين روَّجوا لهذه السياسات أو خطَّطوا لها، السؤال هو: ما تأثيراتهم الفعلية؟! لقد اقتربنا الآن من أربعين سنةً من تجربة أشكالٍ منوَّعة من التعدُّدية الثقافية الليبرالية. فهل تعمل هذه الأشكال على نحوٍ جيد؟! وهل حقَّقَت نجاحًا على نحوٍ يضمن تشجيع انتشارها عالميًّا؟!
وليس ذلك سؤالًا تسهُل الإجابة عنه، نظرًا إلى الأشكال المختلفة الكثيرة لسياسات التعدُّدية الثقافية، والأهداف المختلفة الكثيرة التي تهدفُ إلى تحقيقها. وهناك بضعة أشياء يُمكِن أن نقولها في شيءٍ من الثقة عن تأثير التعدُّدية الثقافية في الممارسة العملية، لكن بالنسبة إلى كثيرٍ من الموضوعات الأخرى المهمة ينقصُنا ببساطةٍ الدليل المناسب. في هذا الفصل سوف أفحَص ما نعرفُه عن قُوى التعدُّدية الثقافية الليبرالية وحدودها من حيث الممارسة العملية.
دعنا نبدأ من نقطةٍ واضحةٍ لكنها مهمة. من الواضح من أدنى مستوى أن تبنِّي التعدُّدية الثقافية الليبرالية لم يضُرَّ بما يُمكِن أن نُطلِق عليه الأداء الأساسي للديمقراطيات الغربية، إذا قسناها بمؤشِّراتٍ مثل السلام والاستقرار الديمقراطي، حكم القانون، أو الرخاء الاقتصادي. لم تنحدر أيٌّ من الدول التي سلَكَت طريقَ التعدُّدية الثقافية في الغرب إلى هُوة الحرب الأهلية أو الفوضى، أو واجهَت انقلاباتٍ عسكرية، أو عانت من انهيارٍ اقتصادي. على العكس، حتى إن نظرةً عارضةً إلى قائمة الدول «القوية» في التزامها بسياسات التعدُّدية الثقافية تُظهِر أنها من بين أكثر المجتمعات سلامًا واستقرارًا ورخاءً على الأرض.
ونحن لدينا مبرِّرٌ آخرُ جيد للشك في كثيرٍ من التنبُّؤات المتشائمة الأخرى حول تأثير التعدُّدية الثقافية عمليًّا. على سبيل المثال، فقد ذهب بعض النقاد إلى أن التحوُّل تجاه التعدُّدية الثقافية يُضعِف مصلحة الدولة ورخاءها، بأن ينقص من معنى التضامُن العِرقي الشامل الذي تحتاج إليه في دعم المجتمع لإعادة توزيع الاقتصاد بالمعنى الواسع (باري، ٢٠٠١م، مايكلز، ٢٠٠٦م). وكثيرًا ما يُسمَّى ذلك بمقايضة «الاعتراف بالوجود مقابل إعادة التوزيع». يُقال إن سياسة الاعتراف بالتعدُّدية الثقافية تحلُّ محلَّ سياسة إعادة التوزيع المُعتمِدة على الطبقات. غير أن المحاولات الحديثة لفحص هذه الدعوى فشلَت في تقديم أي سند لها؛ فالبلاد التي لديها سياسةٌ قوية للتعدُّدية الثقافية لم تُواجه صعوباتٍ أكثر للإبقاء على سياساتها الاشتراكية لإعادة التوزيع من الدول التي لديها سياساتٌ متواضعة أو ضعيفة للتعدُّدية الثقافية (بانتنغ وكيمليا، ٢٠٠٦م).
حقيقةُ أن التعدُّدية الثقافية قد أثبتَت اتساقَها مع الأداء الأساسي لرخاء الدولة الديمقراطية الليبرالية تكفي لأن تجعلها خيارًا جذابًا تُراعيه المنظَّمات الدولية عند التعامُل مع البلدان ذات التعدُّدية العِرقية فيما بعد الشيوعية، وما بعد الاستعمار؛ ففي كثيرٍ من هذه البلدان، فشلَت بشكلٍ واضح النماذجُ القديمة للدولة المركزية ذات القومية الواحدة المتجانسة؛ ومن ثَم ظهرَت الحاجة إلى نماذجَ جديدةٍ يُمكِنها أن تُواكِب الواقعَ المستمرَّ للحَراك السياسي العِرقي. ما دامت التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي مثل هذا الخيار، ولم تعرِّض للخطر لا السلام، ولا الاستقرار الديمقراطي، ولا الرخاء في الغرب، فقد تُضمنَت في كثيرٍ من القوائم التي أشرفَت عليها المنظمات الدولية لأفضل الممارسات أو أفضل الوسائل في التعامل مع التنوُّع.
لكن الحقيقة المحضة التي تقول إن التعدُّدية الثقافية الليبرالية لم تؤدِّ إلى انهيار الدول الغربية لا تفسِّر السبب وراء مساندة المنظَّمات الدولية لهذا النموذج حول العالم. لقد عاملَت المنظمات التعدُّدية الثقافية الليبرالية في كثير من السياقات ليس على أنها ببساطةٍ خيارٌ مشروع بين خياراتٍ أخرى، بل على أنها خيارٌ مفضَّل، بل حتى أنها الخيار الشرعي الوحيد. مثال على ذلك قرار الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي بالإصرار على احترام حقوق الأقليات كشرطٍ للدخول في هاتَين المنظَّمتَين. وهذا التفضيل للتعدُّدية الثقافية لا يُمكِن تفسيره فقط بالرجوع إلى الأداء الأساسي للدولة. وعلى كل حال، فعلى حين أنه من الواضح أن سياسات التعدُّدية الثقافية القوية أثبتَت أنها تتوافَق مع السلام، والاستقرار والرخاء، فمن الواضح بالقَدْر نفسه أن مثلَ هذه السياساتِ ليست شروطًا مسبقة للأداء الأساسي للدولة؛ فكثيرٌ من البلدان الغربية التي لديها سياسات تعدُّدية ثقافية متواضعة أو ضعيفة هي كذلك مستقرَّة ومسالمة وتنعَم بالرخاء.
ومن ثَم فإن تبرير مسانَدة التعدُّدية الثقافية الليبرالية إنما يُوجَد في مكانٍ آخر. هناك أسبابٌ كثيرة تفسِّر لنا لماذا أعربَت المنظَّمات الدولية عن تفضيل النماذج المتعدِّدة الثقافات التي سوف أناقِشها في الفصلَين التاليَين، لكنَّ جزءًا من هذا التفسير، على الأقل، يتمثَّل في أن كثيرًا من الناس داخل هذه المنظَّمات يشتركون في وجهة النظر المتفائلة بأن التعدُّدية الثقافية تتقدَّم جدولَ أعمالٍ موسَّعًا لحقوق الإنسان. والواقع أن ذلك واضحٌ في ديباجات الاتفاقيات والإعلانات الدولية المختلفة حول حقوق الأقليات؛ فالتعدُّدية الثقافية، من وجهة النظر المتفائلة تلك، لا تُحافِظ فقط على السلام العِرقي، لكن الواقع أنها تقلِّل من التفاوت وتُعالِج المظالم، وتدعَم الليبرالية والديمقراطية، وتعزِّز المُثُل العليا لثورة حقوق الإنسان وليبرالية الحقوق المدنية، فهل هناك أي دليلٍ على هذه النظرة التفاؤلية؟ يُمكِننا أن نستنتجَ بأمانٍ أن أكثر التنبُّؤات تشاؤمًا حول تأثير التعدُّدية الثقافية المُزعزِع للاستقرار لم يتحقَّق لكن هل تحقَّقَت الدعاوى المتفائلة التي قامت بدلًا منها؟!
هذا سؤالٌ تصعُب الإجابة عنه؛ ما دام لا يتضح تمامًا كيف يُمكِن لنا أن نقيس النجاح في «تعزيز التحرُّر والدمقرطة» أو «تقديم جدولِ أعمالٍ موسَّعٍ لحقوق الإنسان». وهذه أهدافٌ متعدِّدة الأبعاد، واسعة الانتشار، وتحمل تضميناتٍ بالنسبة إلى العلاقات والبِنى الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية للمجتمع. وأي محاولةٍ لقياسِ النجاحاتِ في بلوغِ هذه الأهداف بطريقةٍ نسقيةٍ سوف تكون مهمةً هائلة.
غير أننا نستطيع، لتحقيقِ أغراضِنا من هذا الكتاب، أن نُركِّز انتباهَنا على مجالَين عامَّين. لقد سبق أن قلتُ في كتابٍ سابقٍ إن مبادئ التعدُّدية الثقافية الليبرالية الأساسية يمكن إيجادها في الفكرتَين التوءم: «المساواة بين الجماعات» و«الحرية داخل الجماعات» (كيمليكا، ١٩٩٥م)، وسوف أستخدم هذَين العنوانَين لتحديد إطارِ مناقشتي في بقية هذا الفصل:
(١) المساواة بين الجماعة
هل نجحَت سياسة التعدُّدية الثقافية في التقليل من الهيراركيات العنصرية والعِرقية الموروثة؟ هل قلَّلَت من التهميشات السياسية، والعوائق الاقتصادية، والتبعية الثقافية للأقليات؟ لقد ذهب بعضُ النقاد إلى أن مهمة هذه السياسات تمثَّلَت ببساطة في إخفاء الواقع المستمر للهيراركيات العِرقية والعنصرية، واستبدال الإصلاحات الجوهرية بالاعتراف الرمزي.
(٢) الحرية الفردية
هل نجحَت سياساتُ التعدُّدية الثقافية في ضمان تحقيق التكيُّف مع التنوُّع الثقافي العِرقي ضمن حدود القيم الليبرالية، وفي اتساقٍ مع حقوق الإنسان والحريات المدنية؟ لقد نشأَت هذه السياساتُ أصلًا، كما سبق أن رأينا، في ليبرالية الحقوق المدنية، وتم الدفاعُ عنها على أساس تعزيز حرية الأفراد «لصنع الحياة التي يستطيع الفرد ويرغب في أن يحياها»، وفقًا لكلمات قانون التعدُّدية الثقافية الكندي. وهذه الرؤية للتعدُّدية الثقافية الليبرالية ارتَكزَت بدَورها على الثقة ﺑ «التوقع الليبرالي»، الذي بناءً عليه سوف تعمل قوة الجذب للقيم الليبرالية عَبْر المسارات العِرقية والعنصرية؛ وسوف يوفِّر النظام القانوني حمايةً قويةً ضد التهديدات التي تُوجَّه إلى هذه القيم، فهل تحقَّقَت هذه النوايا والتوقُّعات؟ أو كما ذهب بعضُ النقاد، هل منعَت سياساتُ التعدُّدية الثقافية انتشارَ القيم الليبرالية داخل بعض الأقليات، أو أدت إلى تقوية أيدي القوى المحافِظة التي تسعى إلى منعِ الإصلاحات الليبرالية، وتجميدِ الهُويات والممارسات، وسجنِ الشعوب في نصوصٍ ثقافيةٍ موروثة، وبالتالي التقليل من حرية الناس وتعريض حرياتهم المدنية وحقوق الإنسان للخطر؟!
كلما تم تبنِّي سياسات التعدُّدية الثقافية في الغرب، فإننا نرى هذه التنبؤات المتبارِزة حول تأثيراتها المحتمَلة في الحرية والمساواة. والواقع أن هذه الافتراضات المتبايِنة تدعَم أساسَ معظم المناقشات اليومية، حول التعدُّدية الثقافية. ومع خبرة أربعين عامًا يُمكِننا أن نستعين بها، ينبغي أن نكون قادرين الآن على تكوين بعضِ الاستنتاجاتِ حول ما تحقَّق من هذه الآمال والمخاوف.
ولقد تُرِك ذلك المجال مفتوحًا أمام النقاد الأفاضل ليقوموا بعمليات التأمل من كراسيهم الوثيرة، أو إلى التسرُّع في إصدار أحكامٍ غيرِ ناضجة لمصلحة التعدُّدية الثقافية أو ضدها؛ فقد لاحظ بعض المحلِّلين، على سبيل المثال، أن الأحكام المُبتسَرة العِرقية قد قلَّت في البلاد التي طبَّقَت سياسات التعدُّدية الثقافية، واستنتجوا على هذا الأساس أن التعدُّدية الثقافية قد حقَّقَت نجاحًا في التقليل من التفاوت داخل الجماعات. لكن الواقع أن الأحكام المُبتسَرة قد زالت أو تقوَّضَت عَبْر الديمقراطيات الغربية منذ ستينيات القرن الماضي، سواء في الدول التي لديها سياسات التعدُّدية الثقافية أو غيرها، والواقع أن البعض يتخوَّف من إمكان أن تُضعِف سياساتُ التعدُّدية الثقافية أو تؤخِّر هذا الاتجاه عن طريق التدعيم المُصطنَع للحدود والخلافات بين الجماعات (هارليز، ٢٠٠٤م). ونحن في حاجة إلى أن نعرف معلوماتٍ أكثر عن الدَّور، لو كان هناك أي دور، الذي مارسَتْه سياساتُ التعدُّدية الثقافية بصفةٍ خاصةٍ في الاتجاه نحو تقليص الأحكام المُبتسَرة، وما إذا كان، وكيف يكون، هذا الاتجاه مختلفًا بين البلاد ذات الأشكال والدرجات المختلفة من التعدُّدية الثقافية. لكن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب نوعًا من البياناتِ ذاتِ النطاق الواسع زمنيًّا وجغرافيًّا، وهي معلوماتٌ لم تُجمَع أو تُحلَّل من حيث علاقتها بسياسات التعدُّدية الثقافية.
وفي المقابل، لاحظ النقاد أنه في البلدان ذات سياسات التعدُّدية الثقافية يظل الأفراد الضعفاء في بعض الأقليات ضحايا للمعاملة غير الليبرالية (وذلك مثل الزواج بالإكراه) على أيدي عائلاتهم أو جماعتهم العِرقية، واستنتجوا على هذا الأساس أن التعدُّدية الثقافية فشلَت في تعزيز الحرية الفردية (ويكان، ٢٠٠٢م). لقد قيل إن رهانَ دُعاة التعدُّدية الثقافية على التوقُّع الليبرالي لم ينجح؛ فلم يتم إدخال المعايير الليبرالية في بعض جماعات الأقليات، وفشلَت الدول الليبرالية في حماية هذه الجماعات.
والواقع أنه ليس من السهلِ أن نعزلَ نتيجة سياسات التعدُّدية الثقافية عن العوامل الكثيرة الأخرى التي تؤثِّر في حالة الأقليات في المجتمعات المتعدِّدة العرقيات. ولو أننا استطَعنا أن نجد مجتمعَين متطابقَين لا يختلفان إلا في التزامهما بسياسات التعدُّدية الثقافية، لربما أمكنَنا أن نصلَ إلى بعض النتائج الحاسمة. غير أن مثل هذه «الاختيارات الطبيعية» لا تُوجَد في مجال العلاقات العِرقية، والجهود التي تُبذَل لبناء قاعدةِ بياناتٍ واسعة النطاق زمنيًّا وجغرافيًّا تتعامل مع سياسات التعدُّدية الثقافية بوصفها أحدَ المتغيِّرات التي لا تزال في بداياتها.
ومن ثَم فمن أجل المستقبل المنظور يجب علينا أن نعترف بأنه ينقصنا الدليلُ القاطعُ على تأثير سياسات التعدُّدية الثقافية؛ فنحن نقوم بخياراتٍ سياسية على نحوٍ غير مؤكَّد؛ ومن ثَم فلا بد أن تكون أحكامنا غير نهائية.
وعلى الرغم من ذلك، هناك بعض الأدلة المبعثَرة التي تستحق أن نضعَها في عين الاعتبار، وسوف أفحَص، في الجزء المتبقِّي من هذا الفصل، الأشكال الرئيسية الثلاثة من التعددية الثقافية الليبرالية التي ترتبط بالجماعات القومية الثانوية، والسكان الأصليين، والمهاجرين. وسوف أنظر في كل حالةٍ إلى الدليل على أثَر التعدُّدية الثقافية في كلٍّ من التفاوت داخل الجماعة والحرية الفردية.
الجماعات القومية الثانوية
ولقد أثبتَت هذه الإصلاحات أنها متسقةٌ مع الوظيفة الأساسية للدولة الديمقراطية، لكن هل قلَّلَت من التفاوت بين الجماعة، وعزَّزَت من الحرية الفردية؟ دعنا نبدأ بموضوع المساواة داخل الجماعة. كثيرًا ما يعترض نقاد التعدُّدية الثقافية بأنها لا تتضمَّن سوى الاعتراف الرمزي بوجود التنوُّع العِرقي، من دون إحداث تغيراتٍ جوهريةٍ في سلطة ووضع الجماعات المختلفة النسبيَّين، من الواضح، كما أعتقد، أن هذا النقد غيرُ صائبٍ فيما يتعلق بالفدرالية المتعدِّدة القوميات. ومن المؤكَّد أن هذه الإصلاحات تحتوي على مركَّبٍ رمزي، وهي تهتم أساسًا بعلاج حالة الإقصاء السابق للغة الأقلية وثقافتها من المجال العام والمؤسسات العامة. والواقع أن الفدرالية المتعدِّدة القوميات واللغات توفِّر مستوًى عاليًا جدًّا من الاعتراف العام بثقافة الأقلية، على الأقل على المستوى الإقليمي؛ حيث تُعطى لغتهم وضعًا رسميًّا، يُدرس تاريخهم وآدابهم في المدارس وتُعرَض فنونُهم في المتاحف العامة، وتتم المحافظةُ على تراثَيهم الشرعي والقانوني والاحتفالُ بأبطالهم عن طريق الإنجازات الرسمية ومن خلال التماثيل العامة، وغير ذلك. والواقع أن هذا النموذج يمنح الأقلية القومية، على المستوى الإقليمي، كثيرًا من سلطات التعبير عن اللغة والثقافة نفسها، ونشرها، التي تُمارِسها جماعة الأغلبية من خلال الدولة المركزية. وربما كان ذلك أقربَ شيء يُمكِن الوصول إليه لكي تتحقَّق المساواة والتكافؤ بين جماعات الأغلبية والأقلية في القدرة على تأكيد ثقافة كلٍّ منهما في المجال العام.
يتخوَّف آخرون من أن يخلُق التحوُّل إلى فدراليةٍ متعددةِ القوميات هيراركيةً جديدةً تُثير الحقدَ والضغينةَ داخل الأقلية القومية ذاتها، بين أولئك الذين يُوجَدون داخل وخارج منطقة الحكم الذاتي؛ فكيفما تُرسم الحدود الداخلية فسوف يكون هناك أعضاءٌ من الأقلية القومية يعيشون خارج منطقة الحكم الذاتي. أليس من الأفضل إذن أن نجد وسيلةً غير إقليمية لحماية الأقليات القومية الثانوية أو الفرعية بحيث ينتفع بها أعضاؤها في أي مكانٍ يعيشون فيه؟! وهذا اعتراضٌ شائع على تبني الفدرالية المتعدِّدة القوميات حول العالم. والواقع أن من الصواب أن نقول إن أعضاء الأقلية الذين يعيشون خارج منطقة الحكم الذاتي كثيرًا ما يواصلون مواجهةَ خيارٍ صعب بين التهميش أو الاستيعاب؛ فمثلًا الفرانكفونيون في كندا الذين يعيشون خارج الكيوبيك يُواصِلون تحمُّل المعاناة من المعوِّقات الاقتصادية ودرجاتٍ عالية من الاستيعاب اللغوي (لاندري، ٢٠٠٥م).
غير أن تبنِّي تعدُّد القوميات يُمكِن، وكثيرًا ما يحدث، أن يسير جنبًا إلى جنب مع الاعتراف بوجود حقوقٍ لغوية وثقافة غير إقليمية (مثل تعلُّم اللغة الأصلية) التي تطبَّق في جميع أنحاء البلاد. إذن، وليس ذلك خيار «إما … وإما» بين الاستقلال الذاتي للإقليم أو الحقوق غير الإقليمية. وهنا نجد أن مركَّباتٍ مختلفةً مُمكِنة. وفضلًا عن ذلك فإن أعضاء الأقلية الذين يعيشون خارج منطقة الحكم الذاتي يستفيدون بصورةٍ غيرِ مباشرة من وجود حكومةٍ فرعيةٍ ملتزمة برعاية لغة وثقافة الأقلية. ولعل هذا أحد الأسباب وراء مساندة أعضاء الأقلية خارج منطقة الحكم الذاتي، بشكلٍ عام، للفدرالية المتعددة القوميات؛ فمعظم الفرانكفونيين الذين يعيشون في القسم الغربي من كندا يساندون الاستقلال الذاتي للكيوبيك، ومعظم الذين يعيشون في مدريد يساندون الاستقلال الذاتي لكتالونيا ومعظم البورتوريكان الذين يعيشون في نيويورك يساندون الحكم الذاتي لبورتوريكو، ومعظم الويلزيين الذين يعيشون في إنجلترا يساندون الاستقلال الذاتي ﻟ «ويلز»، وهكذا فإن الفدرالية المتعدِّدة القوميات ليست علاجًا حاسمًا لأعضاء الأقليات الذين يعيشون خارج منطقة الحكم الذاتي، لكنها لا تمثِّل ضررًا أو عقبةً بالنسبة إليهم.
ومن ثَم فلدينا بعض الأسباب للتفاؤل بأن الفدرالية المتعددة القوميات يمكن أن تكون أداةً فعالةً للتقليل من الهيراركية الموروثة بين الأغلبية القومية المسيطرة والأقليات القومية الفرعية أو الثانوية. لكن ماذا عن مقياس النجاح الثاني — أعني الحرية الفردية؟! هل حقَّقَت الفدرالية المتعدِّدة القوميات التوقُّع الليبرالي؟ وهل عملَت داخل حدود القيم الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان، وساعدَت في تعميق الإجماع عَبْر مسارات هذه القِيَم العِرقية العنصرية؟ أو هل عملَت على تقوية التقليديين والمحافظين الذين يسعَون إلى مقاومة تحرُّر تقاليدهم وممارساتهم؟!
ومن هذه الزوايا جميعًا، حقَّقَت الفدرالية المتعدِّدة القوميات التوقُّع الليبرالي. وتلك الحقيقة يتم حجبُها أحيانًا بخطاب التراث الذي يتبنَّاه بعضُ قادة الأقلية القومية؛ فدعاوى الحكم الذاتي، على سبيل المثال، كثيرًا ما تغلَّف بحكاياتٍ تاريخية حول أمجاد التراث القديم للحكم الذاتي، ومدى الحاجة إلى الرجوع إليه. وقُل مثل ذلك بشأن المحافظة على التراث القانوني المتميز الذي يوصف في بعض الأحيان بأنه «واجبٌ مقدس» وجزءٌ «جوهري» من هُوية الجماعة؛ ومن ثَم تجب المحافظة عليه بأي ثمن. وهكذا. ومع ذلك فإن هؤلاء القادة أنفسَهم الذين يلجئون إلى خطاب التراث كثيرًا ما يدعَمون المراجعةَ الشاملةَ لتُراث القانون والحكم الذاتي، لكي تتفقَ مع المعايير الحديثة لحقوق الإنسان، ومع التطلُّعات الحديثة للاختيار والحرية.
ويبدو ذلك على أنه مفارقة، لكنه في الواقع سمةٌ من سمات السياسة القومية. وكما لاحظ المنظِّرون للقومية منذ وقتٍ طويل أن القومية ظاهرةٌ ذات وجهَين؛ فهي تستدعي أمجاد الماضي لكي تحرِّك الناس من أجل مشروعات تحديث المجتمع. والسؤال المهم — بعيدًا عن نطاق هذا الكتاب — هو: لماذا يكون اللجوء إلى التقاليد المقدَّسة والتواريخ المجيدة مطلوبًا لتحريك المسانَدة نحو الإصلاحات الحديثة؟ لكن من الأهمية بمكان أن نتذكَّر أن الدول قد برَّرَت، على نحوٍ نموذجي، تجريد الأقليات من حكمها الذاتي التقليدي بحجة أن هذه الأقليات «متخلِّفة»، وأن تراثها الحكومي والقانوني «غير متحضِّر»؛ لذا فقد كانت المهمة الأولى للحركة القومية هي أن تنقُد وتُعارِض هذه القوالب النمطية لإقناع الآخرين (وإقناع أنفسهم) بأنهم جديرون بالحكم الذاتي.
فعندما يقول قادة القوميات إن تراث القانون والحكم الذاتي عندهم ينبغي احترامه، فإنهم في الواقع يقولون إن أمتهم قادرة على ممارسة الحق في اتخاذ القرارات في الموضوعات الخاصة بالقانون والحكومة؛ فهم لا يعنون بذلك أنهم يرغبون في ممارسة هذه الحقوق القومية بطريقة «تقليدية أصلية».
ومن ثَم فإن التزام المنظَّمات الدولية بدعم ومساندة التعدُّدية الثقافية الليبرالية في هذا السياق يبدو مضمونًا؛ ولذلك فإن من المفارقة أن يكون هذا هو النموذج من التعدُّدية الثقافية الليبرالية التي كانت المنظَّمات الدولية تشعُر حِياله بمشاعرَ متناقِضة، والذي تراجعَت حديثًا عن نشره على نحوٍ عالمي، وذلك للأسباب التي تُناقِشها في الفصلَين السادس والسابع.
السكان الأصليون
فلننتقل الآن إلى الشكل الرئيسي الثاني من التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، مركِّزين بحثنا على السكان الأصليين. كما رأينا في الفصل الثالث، كان هناك تحوُّل يبتعد عن سياسة الاستيعاب في اتجاه التخلُّص من الاستعمار الداخلي الذي يقوم على دعاوى الأرض، وحقوق الحكم الذاتي، والاعتراف بوجود قانون السكان الأصليين.
فكيف أثَّر هذا التحوُّل في الحرية والمساواة؟ فلنبدأ بموضوع المساواة داخل الجماعة: هل وفرت هذه الإصلاحات ببساطة اعترافًا رمزيًّا باختلاف السكان الأصليين؟ أو هل تعاملَت بفاعليةٍ مع الهيراركيات الكامنة؟! كما في حالِ الجماعاتِ القومية الثانوية أو الفرعية، هناك جوانبُ رمزيةٌ كثيرة في سياسة السكان الأصليين؛ فالرؤية العامة لثقافة السكان الأصليين، مثلًا، قد عُززَت على نحوٍ هائلٍ داخل المجتمع الكبير، وأصبحَت فنون السكان الأصليين تُعرَض الآن في المتاحف ومؤسَّسات الدولة، كما اعتُرف بقادة السكان الأصليين في رموز الدولة (مثل طوابع البريد)؛ وأُدخلَت مراسم وشعائر السكان الأصليين في احتفالات الدولة، (مثل حضور الشيوخ وكبار السن، وصلوات السكان الأصليين وكلماتهم المأثورة)؛ ووضع تاريخ السكان الأصليين في المناهج الدراسية؛ وقُدمَت ألوانٌ من الاعتذارات عن الأخطاء التاريخية. أما لغاتُ السكان الأصليين وثقافتُهم فقد كان من الطبيعي أن يُعترَف بها اعترافًا رمزيًّا داخل مساحات ومؤسسات الحكم الذاتي. وفي كلٍّ من مجتمعات السكان الأصليين نفسها، والمجتمع الكبير يُوجَد به الآن اعترافٌ وتكيُّفٌ أكبر مع ثقافة السكان الأصليين.
ومع ذلك، فإن أي دليلٍ متوافرٍ يُوحي بأن هذه الإصلاحات المتحرِّرة من الاستعمار هي بالفعل خطوة في الاتجاه الصحيح، وأن التقدُّم الأبعد من ذلك يعتمد على البناء وعلى المبادئ المنبثقة من حقوق جماعة السكان الأصليين المتمايزة. كما افتَرضَت الدراساتُ بين القوميات عن الوضع المقارن للسكان الأصليين في مستوطنات دول العالم الجديد أن التفاوتاتِ تَقِل في البلاد التي لديها سياساتٌ أكثر قوة حيال حقوق السكان الأصليين (كارفمان، ٢٠٠٤م)، وتتأكد هذه النتيجة عن طريق الحالات التي دُرسَت في داخل البلاد، بما في ذلك الولايات المتحدة (كورتل وكيلت، ١٩٩٥م، و١٩٩٨م، و٢٠٠٠م)، وكندا (شاندلر ولا لوند، ١٩٩٨م)، ونيوزيلدا (رينغولد، ٢٠٠٥م؛ ماي، ١٩٩٩م). ولقد توصَّلَت دراسةٌ أجرَتْها منظمة العمل الدولية إلى نتيجةٍ مشابِهة تقول إن استراتيجياتِ التقليل من الفقر تعمل بشكلٍ أفضل عندما تقترن باحترام قضايا الحق في الأرض وحقوق الحكم الذاتي (تومي، ٢٠٠٥م).
ومن المهم هنا ألا نبالغ في التقدُّم؛ فالمفاوضات بشأن قضايا الأرض وحُجج الحكم الذاتي غير متكافئة، وتسير ببطءٍ شديد، وهناك شكوك حول ما إذا كانت أنواع الحكم الذاتي السائدة الآن قادرةً على تقديمِ حُكمٍ فعَّال وفرصٍ اقتصادية. الكثير منها أصغَر مما ينبغي أو/وبعيدة جدًّا عن تقديم مستوى الخدمات والفرص المطلوبة. ولقد حاولَت دول المستوطنات، من الناحية التاريخية، تفكيك الجماعات الكبيرة أو تجمُّعات السكان الأصليين إلى مجموعاتٍ صغيرة، وكثيرًا ما لا تزيد على قريةٍ واحدة أو تجمعٍ واحد. وهناك حدود لما يمكن أن يحقِّقه هذا النوع من الحكم الذاتي، الذي تكون فيه الوحدات على مستوى القرية، من ممارساتٍ فعالة (كيرنز، العام ٢٠٠٠م والعام ٢٠٠٥م).
وفضلًا عن ذلك، وكما هي الحال مع الجماعات القومية الفرعية أو الثانوية، هناك أسئلةٌ حول وضع السكان الأصليين الذين يعيشون خارج مناطق الحكم الذاتي. وفي كثيرٍ من البلاد انتقل أكثرُ من نصف السكان الأصليين من مناطقهم التقليدية إلى مناطقَ مدنية. ولقد عانت هذه الجماعات من الاستعمار بذات القَدْر، لكنها في كثير من الجوانب سقطَت بين ثغراتِ نموذجِ التحرُّر الداخلي من الاستعمار.
وباختصار، فإن لدينا نتائجَ مختلطة بالنسبة إلى تقليص الهيراركيات بين الجماعات. إن لثقافة ولغة السكان الأصليين احترامًا وظهورًا شعبيًّا أكثر بكثير مما كانتا عليه منذ ثلاثين أو أربعين سنةً ماضية، وأصبحَت للسكان الأصليين فرصةٌ أفضل للمشاركة في الحياة السياسية الفعَّالة من خلال الحكم الذاتي، وزيادة الاستشارة في مناطق الحكم المشترك. غير أن هذه التغيُّرات لم تقلِّل، بشكلٍ جوهري، الحرمانَ الاجتماعي والاقتصادي الشديد الذي يواجهه السكان الأصليون.
وماذا عن المقياس الثاني للنجاح: هل حقَّقَت هذه الإصلاحات التوقُّع الليبرالي، بتكيُّفها مع التنوُّع، بينما تقوم بحماية حقوق الإنسان ونشر القيم الليبرالية؟ وتلك أيضًا مسألةٌ محل نقاش؛ إذ يذهب بعض المحلِّلين إلى أن حقوق السكان الأصليين ترتبط بأفكار النزعة الثقافية المحافِظة. والواقع أن قضايا السكان الأصليين كثيرًا ما تُقتبَس كمثالٍ نموذجيٍّ مغروسٍ في أفكار التراث الأصيل والثقافة الأصلية. على حين أن جماعات القومية الثانوية أو الفرعية في الغرب تُرى كمشاركة في القيم الليبرالية عن الحرية الفردية وحقوق الإنسان، فإن السكان الأصليين كثيرًا ما يُنظر إليهم باعتبارهم رافضين لهذه القيم لمصلحة النظام الاجتماعي والتراث التقليدي. ويشعُر النقاد بالقلق من أن منح حقوق التعدُّدية الثقافية، في هذا السياق، سوف يؤدي إلى الحد من حرية الفرد داخل الجماعة.
وهذه الدراسات تهتم بأمريكا اللاتينية، وليس بالأنظمة الديمقراطية الغربية المتماسكة، وتلك نقطةٌ علينا تذكُّرها باستمرار، فإذا ما فشل التوقُّع الليبرالي في غواتيمالا — أعني: إذا لم تُظهِر البِنى الليبرالية الديمقراطية جاذبيتها عَبْر المسارات العِرقية والعنصرية فمن المؤكد أن ذلك يرجع على الأقل بشكلٍ جزئي، إلى حقيقة أن هناك قَدْرًا ضئيلًا من الديمقراطية الليبرالية أو ربما لا يُوجَد شيءٌ منها في غواتيمالا أساسًا. وتُعرَف البِنى السياسية في المجتمع الكبير لشهرتها العريضة في إساءة استخدام حقوق الإنسان، وغياب حكم القانون، والتفرقة العنصرية الراسخة. وفي هذا السياق، لا بد أن يكون انتشارُ الممارسات المشروعة للسكان الأصليين، بروح الديمقراطية الليبرالية الخالصة معجزةً صغيرة.
والسؤال المناسب أكثر لغرضنا هو: لماذا كان التوقُّع الليبرالي متماسكًا داخل الأنظمة الديمقراطية الغربية ذاتها؟ وها هنا نجد صورةً معقَّدة؛ فمن ناحيةٍ يؤكِّد بعض قادة السكان الأصليين، كما أشرنا من قبلُ، أن قرارات الحكم الذاتي الخاص بهم ينبغي ألا تخضع لأحكام ونصوص دستور المجتمع الكبير، باسم المحافظة على الأنظمة الشرعية التقليدية. ومن ناحيةٍ أخرى فإن جميع قادة السكان الأصليين يقبلون في الواقع المبدأ الذي يقول إن قوانين السكان الأصليين ينبغي أن تكون متسقةً مع معايير القوانين الإنسانية الدولية، حتى لو كان ذلك يتعارض مع بعض جوانب ممارساتهم التقليدية.
ويُوحي ذلك بأن هناك استراتيجياتٍ سياسيةً معقَّدة تنشَط عندما يرفض قادة السكان الأصليين أن يخضَعوا لدستور المجتمع الكبير. والواقع أننا نحتاج إلى الاعتراف بأنه عندما يُقال للسكان الأصليين إن عليهم أن يتكيَّفوا مع المعايير الدستورية المحلية، فإن ذلك في الواقع يتضمَّن مطلبَين متميزَين تمامًا ينبغي المحافظة عليهما منفصلَين؛ فعلى المستوى الأول يتطلب ذلك أن يقبل السكان الأصليون أن يتمسَّكوا بمجموعة من المعايير أو المبادئ الديمقراطية الليبرالية الشائعة عَبْر الديمقراطيات الغربية المحفوظة في القانون الدولي.
ولكن على المستوى الثاني، تتطلب أن يقبل السكان الأصليون أيضًا سلطة كيانٍ سياسي معيَّن ونظامٍ شرعي — أعني ذلك الذي أقامته الدولة الكبيرة عن طريق المستعمرين. وهذا المطلب الثاني بالتحديد هو الذي يُعَد مُهينًا بالنسبة إلى الكثير من السكان الأصليين. وعلى كل حال فإن السكان الأصليين لم يرضَوا في معظم الحالات، بأن تحكُمَهم هذه الدولة الأكبر، ما لم يشتركوا في صياغة دستورها، وما لم يكن لهم أيُّ تمثيلٍ في المحاكم العليا التي تفسِّر هذا الدستور. وفضلًا عن ذلك فإن النظام القانوني الذي تُقيمه الدولة الاستعمارية قد برَّر تاريخيًّا قمع السكان الأصليين وقهرهم، وغالبًا على أساس استدلالٍ عنصريٍّ واضح. ومن هنا فإن كثيرًا من السكان الأصليين لا يثقون بالنظام القانوني الذي أقامته دول المستعمَرات والمستوطَنات، كما أنهم لا يعتقدون أنه قد حصل يومًا على الحق الشرعي لحكمهم. وإذا ما طلبنا من السكان الأصليين أن يقبلوا سلطة ودستور الدولة الاستعمارية بلا نقد ولا اعتراض، فإن ذلك في الواقع يعني أن نطلب منهم أن يبقوا على شرعية استعمارهم وقهرهم.
باختصار، كما هي الحال مع الأقليات القومية الفرعية أو الثانوية، هناك أسبابٌ استراتيجية للمطالبة باحترام التراث الشرعي المتميز؛ فهو يعمل كعلامةٍ متميِّزة على الاختلاف الثقافي، وكدليلٍ على قيمة الماضي، وتبريرٍ للحالة الشرعية، والسياسية المتميزة. غير أن المشكلة التي تُواجِه كثيرًا من السكان الأصليين، وبالتحديد في أميركا اللاتينية، هي أنهم، على عكس القوميات الفرعية أو الثانوية في الغرب، ليست لديهم سلطة الحكم الذاتي لإصلاح وتحسين قانون العُرف؛ فلهم الحق في اتباع قانون السكان الأصليين، لكن ليس لهم الحق في صُنع ذلك القانون. ولهم الحق في الحياة وفقًا لقوانينهم الخاصة، لكن ليس لهم الحق في سن القوانين لأنفسهم؛ فقوانين السكان الأصليين معترف بها، ولكن لا يُعترَف بصُنَّاع قانون السكان الأصليين (ليفي، ٢٠٠٠م).
غير أن النتيجة التي لا مندوحة عنها لهذا التصوُّر المبتكَر للتعدُّدية الشرعية هي حبسُ السكان الأصليين في هيكلٍ تقليدي من التراث. ما لم تكُن لديهم السلطة لتعديل قانون العرف التقليدي ديمقراطيًّا، فلا بد لهم أن يعرضوا هذه القوانين على أنها أصيلة. وهذا يعني أن الحل ليس هو إلغاء التعدُّدية الشرعية، بل بالأحرى تقويتها عن طريقِ إعطاءِ السكان الأصليين الحقَّ في سَنِّ قانونٍ للسكان الأصليين، فضلًا عن العمل به، وضمان أن تخضع عملية صُنع القانون للنقاش العام، بل وتعكس وجهاتِ نظرِ جميع أفراد المجتمع، وليس فقط من عيَّنوا أنفسهم حُرَّاسًا للتراث. وذلك في الواقع هو ما نراه بشكلٍ متزايد في الولايات المتحدة، وكندا، ونيوزيلندا.
لنفهَم ذلك بطريقةٍ أخرى، فإن الاعتراف بوجود قانون العُرف مهم ليس بسبب ارتباطه بالتراث الأصيل، بل لأنه يتضمَّن الاعتراف بقدرة السكان الأصليين على سَن القوانين، ويبرِّر دعواهم لممارسة هذه القدرة مجدَّدًا. وكما قالت «راشيل سيدر» فإن قانون العُرف ينبغي أن يُفهم على أنه قانونٌ معارض — أي إنه محاولة لانتزاع السلطة من الدولة المركزية — وليس كمشروع للنزعة الثقافية الأساسية (سيدر، ٢٠٠١م).
وفي ظني أن هناك قصةً مماثلةً يُمكِن أن تُروى عن دَور حقوق المعاهَدة؛ فكثيرٌ من جماعات السكان الأصليين يطالبون بأن يكون هناك التزامٌ قانوني بنصوص المعاهَدات التي ترجع إلى قرونٍ مضت. ويرى بعض المحلِّلين أن هذا المطلب دليل على التزامٍ محافظٍ لحماية الممارسات الأصلية التي يرجعُ تاريخها إلى زمن الالتقاء. لكني سوف أذهب مع ذلك إلى أن المعاهَدات كثيرًا ما تمنح مكانةً محترمة بين جماعات السكان الأصليين لأنها دليلٌ ملموس على أن السكان الأصليين في زمن الالتقاء كان يُنظَر إليهم على أنهم مجتمعاتٌ منظَّمة سياسيًّا، وقادرةٌ على الدخول في الاتفاقات الدولية على أساس «أمة مع أمة». والمعاهدات هي علامةٌ على الجدارة أو الكفاءة السياسية التاريخية للسكان الأصليين، وتبرير للتأكيد على أن هذه المكانة تجعلهم قادرين على استعادة السيطرة على مصيرهم والتكيُّف مع التحدِّيات الجديدة. إن المكانة المحترمة لقانون العرف وحقوق المعاهدة دليل، ليس على نزعة المحافظة الثقافية، بل على الحاجة إلى تحريك الشعب لمشروع الحكم الذاتي للسكان الأصليين — وهو مشروع (مثل كل النزَعات القومية) محول للثقافة بطبيعته. وينفَّذ هذا المشروع داخل الديمقراطيات الغربية، على نطاقٍ واسعٍ داخل إطار القيم الدستورية الديمقراطية الليبرالية، على نحو ما يُمكِن أن يتنبأ به التوقُّع الليبرالي.
المهاجرون
وأخيرًا دعونا ننظر فيما قد يكون أكثر أشكال التعدُّدية الثقافية الليبرالية إثارة للجدل، والذي جرى تبنِّيه لمصلحة الأقليات «الجديدة» التي تشكَّلَت عن طريق الهجرة؛ فكما رأينا في الفصل الثالث، حدَث تحوُّل في البلاد التقليدية للهجرة من نماذجَ أقدمَ للاستبعاد والاستيعاب إلى نماذجَ جديدةٍ للتكامل المتعدِّد الثقافات والقبول المحايد عُرفيًّا، فكيف أثَّر ذلك في المساواة داخل الجماعات، والحرية الفردية؟!
كما هي الحال مع الجماعات القومية الفرعية أو الثانوية والسكان الأصليين، فإن التغيُّر الأكثر سرعةً ووضوحًا يتعلق بالاعتراف بالهُوية. في الماضي، كثيرًا ما اعتُبر المهاجر «غير وطني» (أو غير أمريكي) إذا ما أعلَن اعتزازَه بهُويته العِرقية، أما اليوم فقد أصبَح، على العكس، أمرًا عاديًّا وطبيعيًّا (على الأقل بالنسبة إلى البلاد ذات الهجرة التقليدية) بالنسبة إلى المهاجرين ونَسلِهم أن تكون لهم هُويةٌ عِرقية، وأن يعتزُّوا بها، وأن يعبِّروا عنها في المجال العام، وأن يجعلوها تنعكس وتتكيَّف مع المؤسَّسات العامة. لقد تم تطبيع عِرقية المهاجرين، ومن المتعارَف عليه الآن أن إحدى الطرق المشروعة تمامًا لكي تكون مواطنًا أمريكيًّا صالحًا (أو مواطنًا كنديًّا أو أستراليًّا … إلخ) هي أن تكون أمريكيًّا-يونانيًّا صالحًا، أو أمريكيًّا-فيتناميًّا صالحًا؛ فالهُوية العِرقية، بالنسبة إلى معظم الجماعات المهاجرة، لم تعُد وصمةَ عار أو مصدَر خوف. وينعكس ذلك ويُدعم عن طريق ضمان التعدُّدية الثقافية التي تفرض على المؤسَّسات العامة مثل المدارس أو أجهزة الإعلام ضمان أن تكون الجماعات العِرقية مرئية وظاهرة في برامجها، وأن يجري تفادي الصور النمطية، وأن يُعترف بمُساهَمات المهاجرين في التاريخ القومي وكذلك مساهمتهم في ثقافة العالم.
وتبقى هذه العملية بالطبع، متفاوتة. فمنذ الحادي عشر من سبتمبر (١١/ ٩) واجه المهاجرون من الدول العربية والإسلامية، ضغوطًا لإخفاء هويتهم العِرقية والدينية. وفي الولايات المتحدة اليوم من يُظهِر نفسَه أو هُويتَه علانيةً على أنه مسلمٌ يضع نفسه موضع شك من قِبل البعض بأنه إلى حدٍّ ما «غير أمريكي». وكما رأينا في الفصل الرابع، أصبح اثنان من الأعمدة الرئيسية للتعدُّدية الثقافية الليبرالية — «التوقع الليبرالي»، واللاأمان للعلاقات العِرقية — موضع ريبة وتساؤل في حالة المهاجرين المسلمين. لكني أعتقد أن هذا استثناء (نأمل أن يكون مؤقتًا) للتيار الذي يكون بطريقةٍ أخرى قويًّا لتطبيع وجود الهُويات العِرقية المهاجرة في المجال العام.
وبالنسبة إلى بعض النقاد لا تتعدَّى التعدُّدية الثقافية للمهاجرين أشكال الاعتراف الرمزي لتُواجه التفاوت أو اللامساواة في الوصول إلى السلطة السياسية أو الفرص الاقتصادية (انظر مثلًا: مودلي، العام ١٩٩٢م، ص٧٩). ويرُد المدافعون بأن الاعتراف بالهُويات العِرقية هو مجرد بُعدٍ واحد في إطارٍ أكثر اتساعًا لسياسة التعدُّدية الثقافية يسعى إلى دعم اقتراب المهاجرين ومشاركتهم في الحياة الاقتصادية والسياسية في البلاد. وينعكس ذلك في سياسة العمل المؤكَّدة، وفي ابتكار آلياتٍ للتشاور السياسي، وفي الالتزام بالتعرُّف ومراجعة قواعد المؤسَّسات التي ربما أضرَّت بالمهاجرين (عن قصد أو من دون قصد). وعلى سبيل المثال، تحت إطار التعدُّدية الثقافية تم تكييف الزيِّ الموحَّد، والإجازات العامة، وقواعد التطبيع، ومتطلبات اللغة، وحتى قيود الطول والوزن، وذلك كله للتقليص من إمكاناتها في خلق عراقيل وعقبات أمام جماعاتٍ معيَّنة من المهاجرين؛ وبناءً على هذه النظرة، قلَّصَت التعدُّدية الثقافية بطريقةٍ ملحوظة كثيرًا من العقبات الموروثة، والحواجز، والصور النمطية التي أضرَّت بالجماعات المهاجرة.
وهنا مرةً أخرى نجد أن قدرتنا على حل هذه الخلافات يُعرقِلها نقصُ المعلومات المنظَّمة حول تأثير سياسات التعدُّدية الثقافية في وضع جماعات الهجرة العِرقية. وازداد الأمر صعوبةً بسبب الاختلافات الهائلة في الأوضاع الاقتصادية والسياسية للجماعات العرقية المختلفة حتى داخل البلد الواحد نفسه؛ فبعض جماعات المهاجرين في بلدان المهجر أفضل حالًا من نظرائهم المولودين في الوطن الأم من حيث معدَّلات الدخل أو الوظيفة، وبعضُهم أسوأ حالًا. ومن المحتمل تمامًا أن يكون نموذج التكامل ناجحًا بالنسبة إلى بعض الجماعات العِرقية دون البعض الآخر، وليس لدينا ذلك النوع الجيد من المعلومات الدقيقة التي نحتاج إليها لتمييز التأثير المختلف لسياسات التعدُّدية الثقافية في الجماعات العِرقية في البلد نفسه.
وأنا أقول عن هذه المشكلات إنها «مألوفة»؛ لأنها في الواقع تنطبق على جميع مجالات السياسة الاشتراكية؛ فالفئات الإدارية غالبًا ما تكون أوسع شمولًا أو أضيق شمولًا تشوِّهها أوامر الملاءمة البيروقراطية أو القصور الذاتي البيروقراطي، أما المنافع العامة فيستولي عليها باستمرار بشكلٍ غير مناسب أولئك الأفضل حالًا، الذين لا يحتاجون إليها أصلًا. وينطبق ذلك على السياسات الموجَّهة إلى المناطق أو الأقاليم الفقيرة، أو الجماعات التي تعاني من الاستبعاد الاجتماعي، أو السكان المعرَّضين لخطر الاستبعاد الاجتماعي. وجميع السياسات الاشتراكية القائمة على أساس الطبقة، العمر، الجنس، المنطقة أو الإقليم، وضع الأسرة، معرَّضة لهذه المشاكل. وتلك هي الأمراض المألوفة للسياسة العامة في الديمقراطية الليبرالية، ولا تُستثنَى التعددية الثقافية من تلك الأمراض. لكن ليس هناك أي دليلٍ على أن هذه الأمراض تكون في التعددية الثقافية أعظم منها في الأنواع الأخرى من السياسة الاشتراكية، وداخل الحدود التي وضعَتها هذه المشاكل المألوفة، حقَّقَت سياساتُ التعددية الثقافية بعضَ النجاحات المتواضعة في تقليص اللامساواة بين الجماعات.
لكن ماذا عن المعيار الثاني للنجاح؟ هل حقَّقَت التعددية الثقافية المهاجرة التوقع الليبرالي، ومنحَت أعضاء جماعات الأقلية حريةً أكثر لكي يصنعوا الحياة التي يقدر الفرد على امتلاكها ويرغب في ذلك؟ أو أنها بدلًا من ذلك سجنَت الناس في أدوارٍ وممارساتٍ تقليدية، ودعمَت قبضة الأصوليين الدينيين والمثقفين التقليديين الذين يرغبون في الحد من الحريات الليبرالية؟ ذلك أيضًا موضوع ساخن ومحل نقاش، ما دام من المفترض بشكلٍ واسع أن كثيرًا من جماعات المهاجرين، وبالتحديد المهاجرون غير الأوروبيين، يجلبون معهم قيمهم السياسية وممارساتهم الثقافية غير الليبرالية، وسوف يبحثون عن سبيل للمحافظة عليها، بما في ذلك الالتجاء إلى أفكار التعددية الثقافية. وكما هي الحال مع السكان الأصليين، وعلى خلاف الجماعات القومية الفرعية أو الثانوية، فإن المهاجرين غير الأوروبيين يظهرون على نطاقٍ واسع على أنهم يقفون خارج (أو على الأقل لا يتكاملون تمامًا مع) الإجماع الديمقراطي الليبرالي.
هذه الملاحظة عن أن المهاجرين غير الأوروبيين معرَّضون لقيمٍ وممارسات غير ليبرالية كثيرًا مبالَغٌ فيها للغاية. والواقع أن الأدلة توحي بأن المهاجرين غير الأوروبيين في يومنا الحاضر، على الأقل في بلدان المهجر في العالم الجديد، يُظهِرون الميل الأساسي نفسه لاستيعاب القيم الديمقراطية الليبرالية التي ميَّزَت الموجات السابقة من الهجرة إلى أوروبا؛ ففي كندا على سبيل المثال ليست ثمَّة اختلافاتٌ متميزة إحصائيًّا في القيم السياسية بين المهاجرين غير الأوروبيين الذين عاشوا في كندا فترةً طويلة وبين الكنديين المولودين في الوطن ومن أصولٍ أوروبية (سوروكا وآخرون، ٢٠٠٧م؛ وفريديرز، ١٩٩٧م). وهناك في الواقع إجماعٌ عميق للغاية حول حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية الليبرالية عَبْر المسارات العِرقية والعنصرية (هوارد – هاسمان، ٢٠٠٣م)، على نحو ما يمكن أن يتنبأ به التوقع الليبرالي.
ومع ذلك فهذا الميل نحو تقارب القيم السياسية هو اتجاهٌ طويل المدى؛ فهو لا يحدث في يوم وليلة، كما أنه لا يحدث من دون صراع داخل مجتمعات المهاجرين؛ حيث يشن القادة التقليديون و/أو السياسيون الراديكاليون معاركَ سياسيةً ضارية ضد أولئك الذين يشعرون بالانجذاب إلى القيم الديمقراطية الليبرالية. وهذه ظاهرةٌ قديمة وُجدَت في كل موجةٍ من موجات الهجرة في كل ركنٍ من أركان الأرض؛ فقد كانت هناك صراعاتٌ مشابهة بين التقليديين (أنصار التراث)، والليبراليين، والراديكاليين بين المهاجرين الأيرلنديين الكاثوليك الذين جاءوا إلى العالم الجديد في القرن التاسع عشر، أو بين المهاجرين الأوروبيين الشرقيين في النصف الأول من القرن العشرين.
السؤال الموجَّه إلينا هو: كيف يؤثِّر وجود التعدُّدية الثقافية الليبرالية اليوم في هذه الآلية القديمة؟! هل يدعم توافُر برامج ومؤسسات التعددية الثقافية بشكلٍ ما التقليديين والراديكاليين المعارضين للقيم الليبرالية، ويُبطئ من عملية اندماج المهاجرين مع الإجماع الديمقراطي الليبرالي؟ أو أنه يُقوِّي دفعة الانجذاب إلى الديمقراطية الليبرالية؟!
في استطاعتنا أن نتوقع تنافُس الأحزاب المختلفة داخل جماعات المهاجرين من أجل السيطرة على المؤسسات والبرامج التي أقيمت في ظل سياسات التعددية الثقافية. ويُصَعِّد ذلك احتمال الاستيلاء على البنية التحتية للتعددية الثقافية الليبرالية وإساءة استخدامها لأغراضٍ غير ليبرالية ولا ديمقراطية. وقبل فحص مسألة ما إذا كان هذا قد حدث في الواقع، فإن من المهم أن نتذكَّر أن هذه المشكلة لا تنفرد بها التعددية الثقافية، بل هي مشكلةٌ نسقيةٌ تنشأ من بنية الديمقراطية الليبرالية ذاتها؛ فالديمقراطية الليبرالية تمنح صوتًا للشيوعيين الذين يرغبون في إلغاء الديمقراطية البرلمانية، كما أنها تمنَح حرية التعبير لأولئك الذين يرفضون حرية الرأي للآخرين.
وقل مثل ذلك بالنسبة إلى السياسات التي تستهدف دعم الديمقراطية المحلية؛ فهي تخضع باستمرارٍ لمخاطرة أن يتم الاستيلاء عليها من قِبل قوًى غير ليبرالية، ترغب في كبت حرية الآخرين. لنأخذ في عين الاعتبار الطريقة التي تم الاستيلاء بها على مجالس إدارة المستشفيات المحلية ومجالس الإدارة المدرسية في أمريكا الشمالية بواسطة المحافظين المسيحيين الذين يأملون إلغاء مواد التربية الجنسية أو عمليات الإجهاض.
- (أ)
التربية المدنية والتنشئة السياسية، لتطوير ودعم ثقافةٍ سياسيةٍ أوسع لحقوق الإنسان وليبرالية الحقوق المدنية.
- (ب)
آليات للتعرُّف على، وللإعلان عن الإساءات الحقيقية والمحتملة — التي تتضمن سياسات حرية الرأي، وحرية النشر، وحرية جمع المعلومات، ونقلها؛ والاستشارة، ومتطلبات المسئولية — لتقديم القضايا إلى محكمة الرأي العام، لكشف وتهميش الميول غير الليبرالية.
- (جـ)
الضمانات القانونية والدستورية التي تُمكِّن الدولة من منع أو علاج هذه الإساءات. تلك هي أنواع الاستراتيجيات المستخدمة في ظل الأنظمة الديمقراطية للتعامل مع مشكلة سوء الاستخدام غير الليبرالي وغير الديمقراطي للحقوق الديمقراطية الليبرالية، وهي تنطبق أيضًا على حالة سياسات التعدُّدية الثقافية.
تلك هي أنواع الاستراتيجيات المستخدمة في ظل الأنظمة الديموقراطية للتعامل مع مشكلة سوء الاستخدام غير الليبرالي وغير الديموقراطي للحقوق الديموقراطية الليبرالية، وهي تنطبق على حالة سياسات التعددية الثقافية.
ولو أننا نظرنا أولًا إلى القوانين والنُّظم الرسمية، فمن الواضح أن سياسات التعدُّدية الثقافية ملتزمة بالتمسُّك بالقيم الليبرالية؛ فالمقصود من سياسات التعددية الثقافية للمهاجرين هو توسيع، وليس تضييق، الاختيار الفردي؛ فهي تقلِّل التكاليف والتشوُّهات التي واجهَت الأفراد سابقًا عند التعبير عن هُويتهم العِرقية، ولكنها لا توفِّر علاجًا قانونيًّا أو مبرِّرًا شرعيًّا لتقليص أو انتهاك حقوق الفرد.
وليس ثمَّة بلد، على سبيل المثال، قدَّم لجماعات الهجرة إعفاء من القوانين التي تمنع الزيجات الإجبارية، وختان البنات، والقتل من أجل الشرف، أو استخدام أشكال العنف في تربية الأطفال، أيًّا ما كانت هذه الممارسات تقليدية. ومع ذلك، لو نظرنا إلى الواقع لعرفنا أن الممارسات غير الليبرالية تستمر في بعض العائلات المهاجرة (على نحو ما تُفعل في بعض العائلات غير المهاجرة)، غالبًا بمعرفةٍ ضمنيةٍ من قِبل الأعضاء الآخرين في المجتمع. ونحن نعرف أن الدولة أثبتَت أحيانًا أنها غير قادرة أو غير راغبة في الدفاع عن الأفراد الضعاف ضد هذه الاعتداءات على حقوقهم وحرياتهم.
والواقع أنه في جميع الديمقراطيات الغربية كانت هناك حالات تغُض فيها الدولة النظَر عن سوء معاملة الأفراد داخل بعض جماعات المهاجرين، وتتجاهل تقارير سوء المعاملة أو المعاملة التعسُّفية، وترفض التدخُّل أو المقاضاة.
وكثيرًا ما يزعم النقاد أن التعددية الثقافية مسئولة بشكلٍ ما عن هذه الإخفاقات. ولكن كما ذُكر، فإن حالات إخفاق الدولة في حماية الأفراد من الأذى والضرر على أيدي المشتركين معهم في العِرق قد وُجدَت في كل الأنظمة الديمقراطية الغربية، سواء كانت لديها سياسات للتعددية الثقافية أو لم يكن. ولقد لُوحظَت هذه المشكلة في بلدانٍ احتضنَت بقوة التعددية الثقافية، وذلك مثل كندا (عزمي، ١٩٩٩م؛ لينين، ١٩٩٩م)، وفي بلادٍ معتدلة في التزامها بالتعدُّدية الثقافية، مثل بريطانيا وهولندا (فيلبس ودستان، ٢٠٠٤م؛ وبرنز، وساها رسو، ٢٠٠٦م)، وفي بلدان لديها سياسات تعدُّدية ثقافية ضعيفة، مثل النرويج (ويكان العام ٢٠٠٢م)، وفي بلدان تصمِّم على معارضة التعددية الثقافية، مثل فرنسا (ديمبور، ٢٠٠١م).
وفي ظل هذه الظروف، يصعُب فصل تأثير سياسات التعدُّدية الثقافية؛ فهل جعلَت سياسةُ التعددية الثقافية المشكلةَ أشدَّ سوءًا، سواء بتشجيع المواطنين على المحافظة على «تراثهم» أو حتى عندما يكون تراثًا غير ليبرالي، أو عن طريق تثبيط موظَّفي الدولة عن التدخُّل تحت اسم «احترام التنوُّع»، و«التسامُح»؟ أو هل تقلِّص سياسات التعددية الثقافية من المشكلة، سواء بواسطة الانجذاب نحو الديمقراطية الليبرالية، أو بتزويد موظَّفي الدولة بإرشاداتٍ مؤكَّدة ومؤثِّرة للتعرُّف على المشكلات المحتمَلة والاستجابة لها؟!
وعلى نحو ما يحدث دائمًا، يعوقنا غيابٌ كامل تقريبًا للدراسات المنظَّمة حول هذا الموضوع. من الواضح أن سياسات التعددية الثقافية في الغرب لا تصفح، على نحوٍ رسمي أو شعبي، عن الممارسات غير الليبرالية، وأن أي محاولات يقوم بها أنصار التراث لاستخدام قواعد أو مؤسَّسات التعددية الثقافية لكي تظفر بالقبول الشعبي للممارسات غير الليبرالية قد باءت بالفشل. ويمكننا أن نتخيل السيناريوهات التي يُحاوِل أنصار التراث داخل جماعات المهاجرين المختلفة من خلالها الاستيلاء على زمام البنية التحتية للتعددية الثقافية الرسمية من أجل الدفاع عن هذه الممارسات. وعلى سبيل المثال، في استطاعة المرء أن يتخيل أن أنصار التراث من جماعاتٍ معيَّنة من المهاجرين من شرق أفريقيا يجلسون في مجلسٍ استشاري لأحد المستشفيات، ليطالبوا بالسماح بختان البنات في المستشفى، أو جماعات أنصار التراث من جنوب آسيا يجلسون في مجالس الشرطة الاستشارية ليطالبوا بعدم التحقيق في حالات العنف الأسري أو الزواج بالإكراه، أو أنصار التراث من الشرق الأوسط يجلسون في مجلسٍ تربويٍّ استشاري ربما يطالبون بأن على المدارس تعليم التلاميذ الصفح عن جرائم القتل دفاعًا عن الشرف.
والواقع أن جماعات المهاجرين على وعي بأن أيَّ محاولة للحصول على الموافقة الشعبية على الممارسات غير الليبرالية محكومٌ عليها بالفشل. وعلى سبيل المثال، لم يطلب أحدٌ من القادة العِرقيين الجنوب آسيويين في بريطانيا أن يُعترف قانونًا بالزواج الإجباري (فيليب ودوستن، ٢٠٠٤م)، ولم يطلب أحدٌ من قادة الجماعات المهاجرة المشابهة في كندا أن يُسمح قانونًا بختان الإناث؛ فمن المفهوم والمقبول أن التعددية الثقافية للمهاجرين، كسياسةٍ حكومية، تعمل داخل إطار عمل النظام الدستوري الديمقراطي الليبرالي، وليس هناك طموحٌ واقعي في الحصول على قبولٍ شعبي للممارسات غير الليبرالية.
مع ذلك، فإن وجهة النظر البديلة هي أن أفضل طريقة لدعم الموظفين المسئولين الذين أخذوا على عاتقهم دعم القيم الليبرالية والتمسُّك بالحقوق الفردية تتم تحديدًا عن طريق تقديم إرشاداتٍ واضحة طُورَت بالتعاون مع جماعات الأقلية نفسها، كجزء من عمليةٍ أكبر من إصلاحات واستشارات التعددية الثقافية. وربما يقل احتمالُ تعاونِ أعضاء الجماعات العِرقية مع الموظَّفين الرسميين، ويتعاظم شلَل موظَّفي الدولة خوفًا من إساءة التصرف، عندما لا تحدث عملية إصلاحات التعددية الثقافية تلك.
ولم يدرُس أحد، على حد علمي، على نحوٍ نسَقي هذه الفروضَ البديلة حول نتائج وآثار التعددية الثقافية في ثبات القيم غير الليبرالية وممارساتها، أو رغبة الأعضاء الضعاف من جماعات المهاجرين في البحث عن حمايةٍ من الدولة، أو رغبة موظَّفي الدولة في توفير هذه الحماية. والأدلة القليلة التي نملكُها، بفحص استجابات الأطباء، وموظَّفي الخدمة الاجتماعية لحالات إساءة معاملة الطفل أو العنف بين الأزواج في عددٍ من الدول الغربية، هذه الأدلة تُوحي بأن حضور أو غياب سياسات التعددية الثقافية الرسمية لا تشكِّل فرقًا كبيرًا بطريقةٍ أو بأخرى فيما يتعلق برغبة موظَّفي الدولة في التدخل (بيوري، ٢٠٠٥م؛ وليامز وسويدن، ٢٠٠٥م). ومن المؤكَّد أن هناك دليلًا على أن وجود سياسات التعددية الثقافية الرسمية يجعل الأمور تزداد سوءًا.
والواقع أن جميع الدول الغربية تناضل حول قضية أفضل الطرق للتعامل مع تحدِّي حماية الأعضاء الضعاف في جماعات المهاجرين. وتختبر الدول عددًا من المقاربات تتضمن مركَّباتٍ مختلفة من التعليم والردع، واستشارات الباب المغلَق، والحملات الشعبية، والمقاضاة. وليس ثمَّة إجابةٌ سهلة عن هذه المشكلات المعقَّدة، لكن من الواضح أن التعددية الثقافية ليست هي السبب في هذه المشاكل التي تُوجَد في بلاد ليس فيها سياسات التعدُّدية الثقافية، وليست هناك معجزةٌ علاجية لحلها.
ومن هذه الزاوية فإن السؤال عن كيفية التعامل مع التراث الثقافي غير الليبرالي هو شبيهٌ بالسؤال عن كيفية التعامُل مع التطرُّف السياسي داخل مجتمعات الهجرة. ولقد ذهب بعضُ النقاد إلى أن وجود الخلايا الإرهابية، التي نشأَت في بلادٍ لديها سياسة التعددية الثقافية، يوضِّح أن هذه السياسات قد فشلَت في خدمة أهداف المواطنة الديمقراطية الليبرالية. لكن الخلايا الإرهابية التي نشأَت في وطنها جرى التعرُّف عليها بالطبع في محيطٍ واسعٍ من البلدان الغربية، كان لبعضها سياسةٌ قوية للتعددية الثقافية (مثل كندا وأستراليا)، وكان لبعضها الآخر سياسةٌ متواضعة للتعددية الثقافية (مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة)، ولبعضها سياسةٌ ضعيفة للتعددية الثقافية (ألمانيا وإسبانيا)، وبعضها يعارض أيديولوجيا التعدُّدية الثقافية (فرنسا). وليس ثمَّة دليلٌ على أن سياسات التعددية الثقافية قد أثارت هذه المشكلة، غير أنها لا تضمن عدم ظهورها.
إن حالات التقاليد الثقافية غير الليبرالية والتطرف السياسي داخل مجتمعات المهاجرين قد استولَت على العناوين الرئيسية لأسبابٍ مفهومة، بما أنها تتحدى أكثر مبادئ حقوق الإنسان الأساسية في المجتمعات الغربية. غير أن هذه المشكلات ينبغي ألا تُعميَنا عن التوجُّهات الأكثر اتساعًا وشمولًا؛ ففي بلدان المهجر التقليدية، لا يزال التوقع الليبرالي مستمرًّا بالنسبة إلى المهاجرين، ما دام الجذب الديمقراطي الليبرالي يعمل طوال الوقت. إن جيوب التطرُّف والتقاليد غير الليبرالية موجودة في جميع الديمقراطيات الغربية، لكن ليس ثمَّة دليل على أن سياسات التعددية الثقافية تثير تلك المشكلة، وهناك بعض الأدلة على أنها ربما تعمل في الواقع على تدعيم الجذب نحو المؤسسات الديمقراطية الليبرالية، عن طريق تشجيع وتمكين المهاجرين من المشاركة بشكلٍ مريح وأكثر فاعليةً من خلالها.
خاتمة
إني لآمل أن يكون واضحًا أننا لا نستطيع أن نعلن ببساطة «نجاح» أو «فشل» التعددية الثقافية في الديمقراطيات الغربية؛ فما ينقصنا من ناحيةٍ هو الدليل النسَقي الذي يسمح لنا بأن نميز النتائج الخاصة بسياسات التعددية الثقافية عن العوامل الأخرى التي أثَّرَت في وضع الأقليات العِرقية. وحتى إذا ما كان لدينا مثل هذا الدليل، فمن غير المحتمل أن يؤدي إلى حكمٍ عامٍّ واحد بالنجاح أو الفشل؛ فهناك أنواعٌ كثيرةٌ مختلفة من سياسات التعددية الثقافية، ومعاييرُ كثيرةٌ مختلفة لتقييم هذه السياسات، ويشمل المسار تسجيلًا لكلٍّ من النجاحات والإخفاقات. ومع ذلك فلدينا تجربةٌ كافيةٌ مع التعددية الثقافية من الناحية العملية لاستخراج بعض النتائج المؤقَّتة، واستبعاد بعض التفسيرات الخاطئة الشائعة.
-
أولًا: والأمر الأكثر أهمية، أن لدينا دليلًا قويًّا على أن التعددية
الثقافية الليبرالية تتسق مع تهدئة وترويض السياسات العِرقية. عندما
تكون التعددية الثقافية الليبرالية قائمةً في الغرب تصبح السياسة
العِرقية، أمرًا طبيعيًّا، تعمل داخل قنواتٍ شرعيةٍ مسالمة، وبطريقة لا
تهدِّد أو تضُر بالوظيفة الأساسية للدولة فيما يتعلق بالسلام، والرخاء،
وحكم القانون، والاستقرار الديمقراطي. ويُمكِن أن نرى ذلك في حد ذاته
على أنه إنجازٌ كبير، أخذًا بعين الاعتبار الطريقة التي تسبَّبَت بها
السياسات العِرقية في كثيرٍ من أنحاء العالم في عدم الاستقرار، وتمزيق
الدولة، وعرقلة العملية الديمقراطية والتنمية.
وكما ذكرتُ من قبلُ، هذه الحقيقة وحدها يُمكِن أن تفسِّر السبب في أن عددًا كبيرًا من المنظمات الدولية عَبْر عن اهتمامه بنشر نماذج من التعددية الثقافية الليبرالية.
- ثانيًا: ومن ناحيةٍ تجريبيةٍ أكثر، لدينا بعض الأدلة على أن التعددية الثقافية الليبرالية لا تتفق فقط مع الوظيفة الأساسية للدولة الديمقراطية الليبرالية، لكنها في الواقع تُساعِد على تعميق الليبرالية والديمقراطية؛ ففي إمكانها تحدِّي الهيراركيات العنصرية والعِرقية الموروثة، والتقليل من وصمات التفرقة العنصرية، والتهميش السياسي، والأضرار الاقتصادية. وفي استطاعتها أن تقوم بذلك بطريقةٍ تعزِّز فرص المشاركة الديمقراطية الفعَّالة والاختيار الفردي لأعضاء جماعات الأقليات.
ومن المُهِم ألا نبالغ في هذه النقطة؛ فالأدلة على وجود هذه الفوائد محدودة، والفوائد التي نلاحظها كثيرًا ما تكون متواضعة. وفي كثيرٍ من الحالات يظل التفاوت البارز قائمًا، كما هو متوقَّع نظرًا إلى المدة الطويلة التي استمرَّت بها الهيراركيات العنصرية والعِرقية في الغرب، ورسوخها بشكلٍ عميق في المجتمع، حتى بعد أن تم التنصُّل من الأيديولوجيات العنصرية رسميًّا وبوضوح. ولا يُمكِن أن تبطل هذه الألوان من التفاوت بقرارٍ تشريعي في يوم وليلة، ويبقى الكثير لكي نقومَ به حتى نمُد المساواة إلى جميع المواطنين. وقُل مثل ذلك في التعددية الثقافية؛ فهي لم توفِّر معجزةً علاجية لتقف أمام التحدِّيات التي أثارَتْها ألوان التراث غير الليبرالي أو التطرُّف السياسي، وفضلًا عن ذلك، فليس ثمَّة ضمانٌ بأن البِنية التحتية للتعددية الثقافية لن تستولي عليها القوى غير الليبرالية التي تستهدف الحدَّ من الحريات المدنية والاستقلال الذاتي الفردي، أو لخلق أشكالٍ جديدة من الهيراركية والسيطرة.
ومن ثَم فإن أفضل ما يُمكِن قوله هو أن التوجه نحو التعددية الثقافية قد حقَّق، في بعض الحالات على الأقل، بعض الآثار الإيجابية، وأظهر النماذجَ المتواضعةَ نفسها التي تميَّزَت بها معظم المجالات السياسية أو الاشتراكية، وخضع لنفس اتجاهات التلاعب السياسي والتحجُّر البيروقراطي. وذلك بالكاد سببٌ للرضا والاحتفال، ولكنه أساسٌ للتفاؤل الحَذِر، وليس ثمَّة مبرِّر للاعتقاد بأن التقدُّم الأكثر يتطلَّب إلغاء أو التراجُع عن أنواع سياسات التعددية الثقافية الموجودة حاليًّا. سواء نظرنا إلى حقوق اللغة، والحكم الذاتي بالنسبة إلى الجماعات القومية الفرعية أو الثانوية، أو قضايا الأرض وحقوق الحكم الذاتي للسكان الأصليين، أو أساليب التكيُّف لجماعات المهاجرين، فإننا في حاجة إلى أن نبني على هذه السياسات، ونعمل على تحديثها وتوسعتها وتزويدها بسياساتٍ إضافيةٍ تُوجَّه إلى الأشكال الباقية من التفاوت وعدم المساواة، ويوفِّر لنا ذلك ضماناتٍ ضد الضغوط غير الليبرالية.
ومن الواضح أن هناك كثيرًا مما يمكن أن يُقال عن آثار التعددية الثقافية من الناحية العملية، والكثير من تأملات الصالونات والكراسي الوثيرة التي تحتاج إلى الاختبار والفحص. وبعض هذه القضايا حول الآثار (الإيجابية والسلبية) للتعددية الثقافية يصعُب جدًّا قياسُها، وهناك مساحةٌ واسعةٌ للاختلاف الموضوعي في غياب الأدلة التي يُمكِن الاعتماد عليها.
ومع ذلك، فأنا أعتقد أن النقطة الأساسية، بالنسبة إلى الأغراض التي يستهدفها هذا الكتابُ هي أن عناصرَ وعواملَ منوَّعة في المجتمع الدولي تعتقد أن التعددية الثقافية الليبرالية نجحَت من حيث الممارسة العملية. وعلى أي حال، فهناك اعتقادٌ واسع بأن هناك أمثلةً متعدِّدة من «أفضل الممارسات العملية» للتعددية الثقافية المرتبطة بالمهاجرين والأقليات القومية والسكان الأصليين، التي استطاعت أن توفِّق بين تكيُّف التعدد الثقافي العِرقي مع السلام، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والرخاء وهذه النظرة المتفائلة ربما لم تؤكَّد بالأدلة ولكنها لا تتناقَض مع تلك الأدلة أيضًا؛ فهي تفسيرٌ معقولٌ للتجربة الغربية، كما أنها تساعد على توضيح المجهودات من أجل تدويل التعددية الثقافية الليبرالية والتي سنناقشها في الجزء الثالث.