الفصل السادس

التجربة الأوروبية

«بينما تعمل حُجج تصحيح المظالم التاريخية في الغرب على تقوية مطالب الأقلية لتوزيعٍ أكثر عدلًا للحقوق والموارد بين الأغلبية والأقلية، فإنها قد تُستخدَم في بلدان ما بعد الشيوعية لإضعاف قضايا الأقليات، بل للتشكيك في شرعية وجودها.»

المؤلف
تبدأ القصة الأوروبية مع انهيار الشيوعية في وسط وشرط أوروبا في العام ١٩٨٩م، الذي صاحَبَه عددٌ من النزاعات العِرقية العنيفة، وقد انحصَرَت تلك النزاعاتُ بشكلٍ كبير في القوقاز والبلقان، لكن ذلك لم يكن واضحًا في ذلك الحين. وفي أوائل التسعينيات خَشِي كثيرٌ من المحلِّلين من انتشار التوتُّر العِرقي وخروجه على السيطرة في بقاعٍ واسعة من أوروبا فيما بعد الشيوعية، عندما أعطت المجلة البريطانية «السياسي والمجتمع»١ عددها ليونيو العام ١٩٩٢م، عنوانًا هو: «معركة أوروبا: الحريق الهائل القادم في وسط وشرق أوروبا»، إنما كانت تعكس شعورًا منتشرًا في كل مكانٍ بين الملاحظين الأوروبيين.

وعندما واجهَت الديمقراطياتُ الغربية تلك النزاعاتِ المخيفة في أوائل التسعينيات، شعَرَت بأن عليها القيام بعملٍ ما؛ وبناءً عليه، قرَّرَت أن «تدوِّل» معالجة مشكلة الأقليات القومية في أوروبا فيما بعد الشيوعية، فأعلنت على لسان منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في العام ١٩٩٠م، أن حالة الأقليات القومية ومعالجتها تدخلان ضمن الاهتمامات الدولية المشروعة، وبالتالي فإنها لا تشكِّل مسألةً داخليةً حصريًّا عند الدولة المَعْنية.

والسؤال المثير للاهتمام حقًّا هو كيف ولماذا ظهر هذا الالتزام، وعلى كل حال، فقد أظهر الاتحادُ الأوروبي اهتمامًا ضئيلًا للغاية بمسألة حقوق الأقليات قبل العام ١٩٨٩م، وتجنَّب — عامدًا — الإشارة إلى حقوق الأقلية في مبادئه الداخلية، وكذلك لم تُظهِر الدول الغربية — تقليديَّا — اهتمامًا أكبر بحماية الأقليات في أي مكانٍ آخر من العالم، وكثيرًا ما ساندَت الدول الغربية حكوماتٍ في أفريقيا وآسيا أو أمريكا اللاتينية تُعرف بتعسُّفتها تجاه الأقليات، حتى إلى درجة بيع المعدات الحربية مع علمها بأنها يُمكِن أن تُستخدَم ضد جماعات الأقلية (على سبيل المثال: بيع الأسلحة لإندونيسيا لقمع الأقليات في آتشه وتيمور الشرقية، أو الأسلحة التي بيعَت لغواتيمالا لقمع المايا)، فكيف أصبح الغربُ فجأةً بطلَ الأقليات في أوروبا ما بعد الشيوعية؟

كما ذهبتُ إليه في الفصل الثاني، هناك عدة أسباب، كان أحد العوامل هو الاهتمام الإنساني بوقف معاناة الأقليات التي تُواجِه الاضطهاد، وعنف الغوغاء، والتطهير العِرقي، لكن نادرًا ما يكفي الاهتمامُ الإنسانيُّ وحده لتحريك الحكومات الغربية، هناك سببٌ أشد نفعًا هو الاعتقاد أن تزايُد العنف العِرقي سوف يُولِّد حركاتِ لجوءٍ واسعةَ النطاق إلى أوروبا الغربية، على نحو ما حدث بالفعل في كوسوفو والبوسنة، كما أن الحروب الأهلية العِرقية والتمرُّد أصبحَت فيما بعدُ ملاجئ لتهريب الأسلحة والمخدِّرات، ولأشكالٍ أخرى من الجريمة والتطرُّف.

وهناك سببٌ آخر، أكثر انتشارًا، هو اعتقاد الغرب أن قدرة بلدان ما بعد الشيوعية في التعامل مع اختلافاتها العِرقية كانت اختبارًا شاملًا لمدى نُضجِها السياسي، وبالتالي لمدى استعدادها لتنضم من جديدٍ إلى أوروبا، وكما يقول الأمين العام للمجلس الأوروبي فإن احترامَ الأقلياتِ هو مقياسٌ أساسي ﻟ «التقدم الأخلاقي» للبلد (Burgess 1999).

وباختصارٍ، بسبب خليطٍ معقَّد من الأسباب الإنسانية والأيديولوجية والمصالح الذاتية تم تدويلُ حقوق الأقليات في أوروبا، وأصبح الوصول إلى «المعايير الأوروبية» فيما يتعلق بمعاملة الأقليات اختبارًا لقبول البلد في أوروبا، ودليلًا عن أن البلد قد تخلَّى عن «كراهيته العِرقية القديمة»، و«قوميَّته العصبية»، وأنه قادرٌ على الانضمام إلى أوروبا «حديثة» ليبرالية وعالمية المواطنة.

ولم تكَد المنظَّمات الأوروبية تُقِر أن معاملة الأقليات موضع اهتمامٍ دوليٍّ مشروع، حتى واجهَت هذه المنظَّمات الأوروبية هذا السؤال: ما الذي تستطيع أن تفعلَه، إن كان في يدها أن تفعل شيئًا، لكي تُساعِد على تحسين العلاقات بين الدول والأقليات في بلاد ما بعد الشيوعية؟ واتجهَت بشكلٍ واسع في ثلاثة مسارات؛ تعميم أفضل الممارَسات، وتشكيل الحد الأدنى من المعايير، والتدخُّل في حالاتٍ معيَّنة. وكلٌّ من الاستراتيجيات الثلاث تم توظيفُها عن طريق المنظَّمات الأوروبية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، والمقصود منها أن تعمل معًا لخلق مُنطلَقٍ إقليميٍّ مؤثِّر ودائم تجاه قضايا الأقليات. وفي الواقع، مع ذلك، تُوجَد هنا توتُّراتٌ مهمة بين الاستراتيجيات الثلاث تعكس عددًا من المشكلات التي لم يتم حلُّها في فكرة تدويل التعددية الثقافية الليبرالية نفسها.

وسوف أنظر في بقية هذا الفصل في هذه الاستراتيجيات الثلاث على التوالي، واضعًا في الاعتبار التحديات التي واجهَت كلًّا منها، وكما سنرى، هناك متناقضاتٌ عديدة داخل هذه الاستراتيجيات، وبين بعضها وبعض، ويرجع ذلك بشكلٍ أساسي إلى صعوبة التوفيق بين السعي التفاؤلي للتعددية الثقافية الليبرالية والمخاوف الأشد تشاؤمًا من اضطرابات الصراع العِرقي.

استراتيجية «أفضل الممارسات»

سوف أبدأ بأكثر الاستراتيجيات التي تبنَّتها المنظمات الدولية وضوحًا وألفةً لنا، وأعني بها نشر «أفضل الممارَسات»، لقد حاولَت المنظَّمات الأوروبية أن تتعرَّف على بلدانٍ كانت ناجحة بشكلٍ محدَّد في التعامل مع قضايا أقلياتها العِرقية، وأن تشجِّع البلدان الأخرى على أن تتعلم من تلك النماذج الناجحة. وتُوجد استراتيجية «أفضل الممارسات» بالتحديد في كل سياقٍ تسعى من خلاله المنظماتُ الدولية إلى التأثير في السياسات المحلية، من تعليمٍ ورعايةٍ صحية إلى الإصلاحات البيئية والمالية؛ لذا فقد شَهِدنا خلال الخمس عشرة سنةً الماضية تيارًا مستمرًّا ومتصلًا من ورش العمل وجلسات التدريب داخل أوروبا؛ حيث تناقش أمثلة لأفضل الممارسات، ثم تنشر التقارير والدراسات، لتعريف الناس بها.

وتركَّزَت بعضُ هذه الجهود على قطاعٍ واسع من الأنواع المختلفة من الأقليات «القديمة» التاريخية، والأقليات «الجديدة» للمهاجرين، لكن في تسعينيات القرن الماضي كان التركيز الرئيسي على الأقليات القديمة، التي نُظر إليها كأكثر القضايا إلحاحًا للمراقبة الدولية.

لا تملكُ كُلُّ أنواع التنوُّع العِرقي القدرةَ نفسَها على إثارة الاضطرابات والصراع العنيف؛ فوجود العمال المهاجرين، على سبيل المثال، نادرًا ما يكون مصدرًا للحرب الأهلية أو التمرد العِرقي، وحتى لو أُسيئت معاملة العمال المهاجرين أو جرى استغلالهم، على نحو ما يحدث في كثيرٍ من أنحاء العالم، فإنهم نادرًا ما يحملون السلاح، أو يسعَون إلى قلب نظام الدولة، ونتيجة لذلك كانت مشكلة العمال المهاجرين أقل إلحاحًا بالنسبة إلى المجتمع الدولي؛ فقد كانت هناك محاولاتٌ متوسِّطة لتعميم وتدعيم أفضل الممارسات فيما يتعلق بمعاملة العمال المهاجرين، ومن ضمنها توصيات بأن تُمكِّن الدول المهاجرين من تأمين إقامةٍ طويلة المدى، بل ربما المواطنة (الجنسية) أيضًا، مع الهدف النهائي ﻟ «التكامل»،٢ لكنَّ كثيرًا من البلاد في كلٍّ من الغرب والعالم النامي تُواصِل النظر إلى المهاجرين على أنهم «أجانب» يقيمون في البلاد إقامةً «مؤقتة»، وعجز المجتمع الدولي أو لم يكُن على استعدادٍ لتحدِّي هذه الفكرة، ونتيجةً لذلك فقد اهتم العمل الدولي أساسًا بضمان الحقوق الإنسانية الأساسية على الأقل للعمال المهاجرين، بدلًا من اهتمامه بتدعيم فكرة أكثر قوةً عن حقوق الأقلية أو المواطنة (الجنسية) المتعدِّدة الثقافات للمهاجرين.٣

أما الاهتمام الرئيسي للمنظمات الأوروبية فقد انصب على نوعٍ مختلف من التعددية العِرقية، بالتحديد، الجماعات غير المهاجرة المستقرة تاريخيًّا في جزءٍ معيَّن من البلد فترةً طويلة، ونتيجةً لذلك الاستيطان التاريخي أصبحَت ترى في هذا الجزء من البلد وطنًا لها، والآن يندمج «وطن الأقلية» في الدولة الأكبر، أو ربما انقسم إلى بلدَين أو أكثر، غير أن الأقلية لا يزال لديها شعورٌ قوي بالانتماء إلى هذا الوطن، وكثيرًا ما تسترجع هذه الأقلية ذكريات الزمن الماضي الذي يسبق نشأة الدولة الحديثة، عندما كان لها حكمٌ ذاتي على هذه الأرض، وهذا النوع من الجماعات — ما يمكن أن نُطلِق عليه اسم «أقليات أرض الوطن» — هو الذي انخرط في حروبٍ مدنيةٍ عنيفة في البلقان والقوقاز، وهو الذي تركَّزَت عليه في البداية الجهودُ الأوروبية في مجال قضايا الأقليات.

ولهذا كانت أول استراتيجية للمنظَّمات الأوروبية هي تصنيف ونشر أفضل الممارسات التي تتعلق بقضايا «أقليات أرض الوطن». وهناك بالطبع أمثلةٌ كثيرة في جميع أنحاء العالم للعلاقات السلمية نسبيًّا بين الدول و«أقليات أرض الوطن»، ويمكن أن نصل، من حيث المبدأ، إلى قائمةٍ بأفضل الممارَسات في نطاقٍ واسع من البلدان والقارات. ومع ذلك، ولأسبابٍ واضحة، كان الاتجاه الأول للمنظَّمات الأوروبية هو البحث عن أفضل الممارسات داخل الأنظمة الديمقراطية الغربية. وفضلًا عن ذلك كانت هناك رغبةٌ في العثور على أمثلةٍ لا تكون مسالمة فقط، بل تتفق كذلك مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان والديمقراطية، وهذه الاعتبارات رجَّحَت أيضًا كفة الأمثلة الغربية.

ولو أننا بحثنا عن أفضَل الممارَسات في الغرب، فسوف يظهر لنا اتجاهٌ مدهش، وأعني به تبنِّي شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي الإقليمي كطريقة لتكيُّف «أقليات أرض الوطن»، وكما رأينا في الفصل الثالث، هناك فئتان مختلفتان من «أقليات أرض الوطن» في الغرب، وفي كلٍّ من الحالتَين كان هناك اتجاهٌ نحو تبنِّي حكمٍ ذاتيٍّ إقليمي؛ الفئة الأولى هي السكان الأصليون في العالم الجديد (الولايات المتحدة، وكندا، ونيوزيلندا) وفي شمال أوروبا (الغرينلانديون في الدنمارك، والساميون في اسكندنافيا)؛ ففي جميع هذه البلدان، تحديدًا منذ سبعينيات القرن الماضي، كان هناك تحوُّل نحو الاعتراف بشكلٍ ما من أشكال الحكمِ الذاتي للسكان الأصليين في (ما تبقَّى من) إقليمهم التقليدي. وينعكس ذلك في نطاقٍ واسع من تسويات قضايا الحق في الأرض واتفاقيات الحكم الذاتي، وفي بعض الحالات في درجةٍ من التعددية القانونية (على سبيل المثال الاعتراف بقانون العُرف).

الفئة الثانية من أقلياتِ أرضِ الوطن هي الأقليات القومية الفرعية أو الثانوية، التي تتضمن الاسكتلنديين والويلزيين في المملكة المتحدة، والكتالونيين والباسك في إسبانيا، والفلميش في بلجيكا، والكيوبيك في كندا، والبيروتوريكان في الولايات المتحدة، وأهل كورسيكا في فرنسا، والأقلية الألمانية في جنوب تيرول في إيطاليا، والسويديين في فنلندا، والأقليات الفرنسية والإيطالية في سويسرا. في كل هذه البلدان حصلَت الجماعاتُ الثانوية أو الفرعية على درجةٍ متميِّزة من الحكم الذاتي للإقليم، عادةً من خلال شكلٍ من أشكال انتقال السلطة الفدرالية أو شبه الفدرالية، فضلًا عن شكلٍ من أشكال وضع اللغة الرسمية.

ولذلك؛ فإننا نرى في حالة كلٍّ من السكان الأصليين، والأقليات القومية في الغرب اتجاهًا نحو منح الحكم الذاتي الإقليمي، وتعمل أنظمة الحكم الذاتي تلك، بالاشتراك مع حقوق أقلياتٍ أخرى، مثل قضايا الأرض والتعددية القانونية للسكان الأصليين، ووضع اللغة الرسمية بالنسبة إلى الأقليات القومية، وأشكال متنوعة غير إقليمية للحكم الذاتي الثقافي لهؤلاء الأعضاء في أقليات أرض الوطن الذين انتقلوا إلى مكانٍ آخر من البلد. ومن الواضح أن تلك أشكالٌ قوية من التعددية الثقافية، تتضمن إعادةَ هيكلةٍ جوهرية للدولة وإعادةَ توزيع السلطة السياسية، ونتيجةً لذلك كانت التغيُّرات في البداية مثيرةً للجدل للغاية في معظم الديمقراطيات الغربية. ومع ذلك فإن فكرة الحكم الذاتي الإقليمي لأقليات أرض الوطن مقبولةٌ اليوم بشكلٍ واسع؛ فمن غير المعقول أن ترتدَّ إسبانيا أو بلجيكا — على سبيل المثال — إلى دولةٍ أحادية اللغة. وليس ثمَّة من يقوم بحملةٍ من أجل ذلك الارتداد. بالفعل، لم ترتدَّ أي ديمقراطيةٍ غريبة تبنَّت الحكم الذاتي الإقليمي بالنسبة إلى أقليات أرض الوطن عن قرارها.

أما بالنسبة إلى الأسباب التي ناقشناها في الفصل الخامس، فإن مثل هذا النموذج قد نال قَدْرًا كبيرًا من النجاح. وقد مكَّن البلاد من التعامل مع موضوعٍ صعب قابل للانفجار، وبالتحديد وجود مجموعاتٍ فرعيةٍ ترى نفسَها كشعبٍ أو أمةٍ متميِّزة، لها الحق في أن تحكم إقليمها التاريخي، بطريقةٍ تتفق مع السلام والديمقراطية، واحترامٍ ثابت للحقوق الفردية المدنية والسياسية، والرخاء الاقتصادي.

ومن ثَم فلا يُدهِشنا أن نجد منظَّماتٍ أوروبيةً عديدة تقدِّم الحكم الذاتي الإقليمي على أنه أفضلُ ممارسةٍ يجري تعميمُها وتشجيعُها حتى تتكيف أقلياتُ أرض الوطن. والواقع أن أول بيان لمنظمةٍ أوروبية حول حقوق الأقليات بعد سقوط الشيوعية — إعلان كوبنهاغن العام ١٩٩٩م لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا — قد تجرَّأ وذهَب إلى حد إقرار الحكم الذاتي الإقليمي، وتقول المادة ٣٦ من الإعلان:

«لقد لاحظتُ الدولُ المشاركة الجهودَ المبذولة من أجل حماية وابتكار ظروف تنمية الهُوية العِرقية والثقافية واللغوية والدينية لأقلياتٍ قوميةٍ مَعْنية عن طريق تأسيس إداراتٍ محلية مناسبة أو مستقلة، كوسيلةٍ من الوسائل المُمكِنة لتحقيق هذه الأهداف، تستجيب للظروف الإقليمية والتاريخية المعيَّنة لتلك الأقليات وفقًا لسياسات الدولة المَعْنية.»

وبالمثل فإن الاجتماع البرلماني للمجلس الأوروبي قد أدلى بعدة تصريحات حول «التجارب الإيجابية للحكم الذاتي الإقليمي كمصدر إلهام لحل النزاع في أوروبا».٤

ولم تُعمِّم المنظَّمات الأوروبية هذه الأنظمة فقط، لكنها حاولَت أيضًا «تطبيعها»، وكما لاحظت في الفصل الثاني كان يُنظَر لأمثلة الحكم الذاتي الفرعي والثانوي ﮐ «استثناءات» أو «انحرافات» عما تبدو عليه الدولة «الطبيعية»؛ فالقاعدة هي دولةٌ مركزية مثل فرنسا، ذات تصوُّرٍ غيرِ متمايز للمواطنة الجمهورية، ولغةٍ رسمية واحدة، لكن هذا النموذج للدولة المركزية، الموحَّدة، ذات الجنس الواحد، تصفُها المنظَّمات الأوروبية بشكلٍ متزايد على أنها مفارقةٌ تاريخية، في حين أنه يتم تقديم الدول التعددية، المتعددة اللغات، والمتعددة المستويات على أنها تمثيلٌ صادق للمنظور «الحديث». وبهذه الطريقة، فإن الأمثلة الخاصة بالحكم الذاتي تُوضَع داخل مسارٍ أوسع للحداثة، يصبح فيه مفهومٌ أكثر تجزيئًا وانتشارًا وذا مستوياتٍ متعددة للدولة والسيادة هو القاعدة. بتطبيع هذا التصوُّر الجديد للعلاقات بين الدول والأقليات، يأمل المجتمع الدولي تشجيع الدول على أن تنظر بطريقةٍ أكثر تفتُّحًا، وبسَعة أفُق، إلى مزايا التعددية الثقافية الليبرالية.

تلك إذن الاستراتيجية الأولى — تطبيع وتعميم الأفكار عن الحكم الذاتي الإقليمي بوصفها أفضلَ الممارَسات في تكيُّف أقليات أرض الوطن، ومع ذلك فقد كانت بشكلٍ أو بآخر فاشلةً تمامًا، على الأقل بالنسبة إلى بلاد ما بعد الشيوعية في بداية تسعينيات القرن الماضي. ولقد كان صُناع السياسة في بلاد ما بعد الشيوعية على استعدادٍ للاشتراك في جولاتٍ دراسية لمناطق مثل كتالونيا أو تيرول الجنوبية، وقضاء بضعة أيام في حوض البحر الأبيض المتوسط أو جبال الألب على نفقة الاتحاد الأوروبي، كما كانوا على قدرٍ كافٍ من السياسة بحيث يمكن أن يقولوا كيف استفادوا من هذه الجلسات حول قيم التسامح والتعدد، لكنهم بعد ذلك سوف يعودون إلى أوطانهم ويستمرون في مساندة سياسات (وفقًا للبلد) تُلغي الحكمَ الذاتي القائم للأقلية، وتقلِّص حقوق اللغة، وتُغلِق مدارس لغات الأقلية، وتفصل الأقليات من الخدمة العامة، وفي بعض الحالات تُسقِط عنهم الجنسية.

وحتى عندما لم يتم تبنِّي مثل هذه السياسات المعادية للأقلية علانية، فلم تكن هناك حركةٌ في أي بلدٍ من بلدان ما بعد الشيوعية تنظر بعَين الجِد إلى تبنِّي الحكم الذاتي الإقليمي، ولم يشكل أي بلدٍ لجنةً برلمانية لدراسة الطموحات من أجل إقامة نظامٍ فدراليٍّ ديمقراطي متعدِّد القوميات، أو لتبنِّي خطةٍ ما لثنائية لغةٍ رسمية. وباختصارٍ، لا يُوجد أي دليل على أن هذا التعرُّض لأفضل الممارسات قد ألهم أي تغيرٍ ذي مغزًى في سياسات الحكومة. والواقع أن تضمينَ الأحزاب السياسية قضايا الحكم الذاتي الإقليمي في برامجها السياسية ظل أمرًا غير مشروع في العديد من دول ما بعد الشيوعية. ويظل الموضوع بأكمله من المحرَّمات في معظم بلدان ما بعد الشيوعية، واستُبعدَت فكرة الحكم الذاتي باعتبارها شذوذًا لا ينتمي إلى الدولة الطبيعية.٥
والاستثناء الوحيد هو الذي حدث في حالاتٍ استولَت فيها الأقلياتُ على جزءٍ من أراضي الدولة، وأعدَّت فيها خطةً للحكم الذاتي (بل حتى إعلان الاستقلال الذاتي) في مخالفةٍ للدستور. عند هذه النقطة، وفي محاولةٍ لاسترجاع السيطرة على الأرض المفقودة، كانت بعضُ الدول على استعدادٍ لمناقشة مزايا النظام الفدرالي، لا سيما إذا كانت عاجزةً عن استعادة هذه المنطقة بالطرق العسكرية، على سبيل المثال، فإن حكومة جورجيا، بعد أن فقدَت سيطرتَها على المناطق الانفصالية في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، فإنها بدأَت تُظهِر اهتمامًا بالنظام الفدرالي كطريقةٍ لاستعادة هذه المناطق، وكذلك حكومة مولدوفا، بعد أن فقدَت سيطرتها على المنطقة الانفصالية في ترانسنستريا Transnistria، بدأَت تُناقِش خططًا مختلفة عن الفدرالية كطريقةٍ لإعادة توحيد البلاد، وكذلك أذربيجان، بعد أن فقدَت سيطرتَها على المنطقة الانفصالية في نغورنو-كاراباخ للعِرقية الأرمنية، عَرضَت الحكم الذاتي كطريقةٍ لإعادة ضم المنطقة المفقودة، وتبنَّت البوسنة مخططًا لعملية إنشاء مقاطعاتٍ بهدف إعادة ضم الأراضي التي يتحكَّم فيها الصرب والكروات، كما قدَّمَت صربيا حكمًا ذاتيًّا على أمل إعادة ضم كوسوفو، التي يُسيطِر عليها الآن الألبانيون في ظل حمايةٍ دولية، كما قدَّمَت قبرص النظامَ الفدرالي كوسيلةٍ لاستعادة إقليمها الشمالي الذي يتحكَّم فيه الأتراك الآن،٦ وفي كل هذه الحالات، كانت الدول التي فقدَت سيطرتها على منطقةٍ ما لمصلحة الأقليات المتمرِّدة على استعدادٍ لمناقشة العديد من نماذج الحكم الذاتي أو النظام الفدرالي، عندما يصبح ذلك هو البديل الوحيد لقبول الانقسام.
لكن ليس ثمَّة حالاتٌ قرَّرَت فيها دول ما بعد الشيوعية المُسيطِرة على مناطقَ معيَّنة أن تُناقِش برغبتها الخاصة مزايا تبنِّي مخططٍ معيَّن للحكم الذاتي الفدرالي أو شبه الفدرالي لأقلياتها القومية، كجزءٍ أوسعَ لعملية الممارسة الديمقراطية،٧ فعملية تعميمِ أو تطبيعِ أفضلِ الممارَسات الغربية لأقليات أرض الوطن قد وجدَت آذانًا صمَّاء.

المصادر والشروط المُسبَقة المفقودة للتعددية الثقافية الليبرالية

عندما ووجهوا بتلك المقاومة الشديدة لتكيُّف أقليات الأرض، ألقى العديد من المحلِّلين والممثِّلين الدوليين باللوم على المواقف السابقة على الحداثة (مواقف ما قبل الحداثة) للشعوب والثقافات في المنطقة. وأحد التفسيرات الشائعة، خاصة بين الصحافيين، أنه على حين أن القومية في الغرب هي قوميةٌ «مدنية» تقوم على الولاء المشترك للمبادئ العامة، وبالتالي تكون أكثر تكيفًا مع الأقليات، فإن القومية في أوروبا ما بعد الشيوعية هي قوميةٌ «عرقية»، تقوم على السلالة والدم؛ وبالتالي هي أكثر عداءً وعنفًا تجاه الأقليات (إيغناتييف، ١٩٩٣م). وعلى أساس هذه التفسيرات أُعد أكثر من برنامجٍ لتعليمِ مواقفَ أكثر «حداثة» تجاه التعدُّد والتسامُح، من خلال التفاعُل بين الثقافات والحوار بين الأديان.

لستُ أعتقد أن هذه إجابةٌ شافية؛ فمحاولاتُ اختبارِ فرضية أن القومية في أوروبا ما بعد الشيوعية هي أكثر «عِرقية» منها في الغرب لم تأت بأي أدلةٍ تُثبِت ذلك (كوزيو، ٢٠٠١م). وعلى أي حال فإن التمييز بين المدني والعِرقي لا يوضِّح كيف تستجيب الدولة لقومية الأقليات. والأمم المسمَّاة ﺑ «المدنية»، مثل فرنسا، كانت من الناحية التاريخية تنفر من أن تمنح الحكم الذاتي الإقليمي للأقليات القومية، وليس ثمَّة شيءٌ في منطق القومية المدنية يتطلب منح الأقليات القومية الحكم الذاتي. والواقع أن كثيرًا من المدافعين عن القويمة المدنية يعارضون قضايا الحكم الذاتي تحديدًا على أساس أن قومية الأقلية هي قوميةٌ «عِرقية»؛ وبالتالي ليس لها مكان في أمةٍ مدنية. وفي المقابل لا شيء في منطق القومية «العِرقية» يتضمن إعاقة منح الحكم الذاتي لأممٍ عرقيةٍ أخرى، بل هناك كثيرٌ من الأمثلة التاريخية لاثنتَين أو أكثر من الأمم العِرقية يشتركون في السلطة في دولةٍ واحدة.٨

ونحن في حاجةٍ إلى أن نبحث في مكانٍ آخر عن تفسير لمعارضة الحكم الذاتي للجماعات القومية الفرعية أو الثانوية. وأحد المجالات التي يمكن أن نبحث فيها هو أن نعيد فحص الظروف التي ساعدَت على تبنِّي تلك الإصلاحات القومية لحقوق الأقليات في الغرب. والواقع أن العديد من الشروط المسبقة ومصادر التعددية الثقافية الليبرالية في الغرب إما أن تكون ضعيفةً أو غائبةً في معظم بلاد ما بعد الشيوعية (وكما سوف ترى في الفصل السابع، في معظم بلدان العالم).

لقد انتهيتُ في الفصل الرابع إلى تقسيم هذه الظروف الميسَّرة إلى فئتَين؛ العناصِر التي تشجِّع الأقليات على التحرُّك من أجل حقوقٍ أكبر، والعناصر التي تشجِّع جماعات الأغلبية والدول على أن تقبُّل مثل هذه الدعاوى. وهناك اختلافاتٌ مهمة بين الغرب وأوروبا ما بعد الشيوعية بالنسبة إلى كلٍّ من الفئتَين.

فيما يتعلق بحَراكِ الأقليات في الغرب، كان هناك شرطٌ مُساعِدٌ حاسم هو التماسُك الديمقراطي، فقد وفَّر الضماناتِ لحراكٍ سياسيٍّ آمن، وضَمِن ألا تتعرَّض الأقليات للسجن، أو الهجوم أو الاضطهاد بسبب إعلان طموحاتهم وقضاياهم. وفي أوروبا ما بعد الشيوعية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لم تكُن هذه الضمانات موجودة؛ فقد افتقدَت الأقلياتُ الثقةَ القوية بقدرتها على الحَرَاك بشكلٍ آمن. وقد ظل الحَرَاك السياسي غير مشروع في كثيرٍ من الحالات، أو معرَّضًا للمضايقة السياسية، وبقي ذلك مدةً طويلة بعد سقوط الدكتاتورية الشيوعية. كان الخيار الآمن هو الحَرَاك السياسي، جزئيًّا؛ لأن الشرطة والمحاكم والجيش كانوا في يد الجماعة المُسيطِرة (غالبًا بعد أن تَم تطهيرها من الأقليات).

وعلى الرغم من هذا التخوُّف، تحرَّكَت عدة أقليات من أجل الحكم الذاتي وحقوق اللغة، بسبب أن دساتيرَ جديدة كانت تُكتَب مسوَّداتها في جميع بلدان ما بعد الشيوعية، وقد وضَعَت هذه الدساتيرُ القواعدَ الأساسية للمستقبل؛ ولذلك كان من المهم بالنسبة إلى الأقليات أن تُحاوِل، على الأقل، التعبيرَ عن مخاوفها، وقد تضمَّنَت المجموعاتُ المُطالِبة بأحد أشكال الحكم الذاتي العِرقَ المجريَّ والألباني في صربيا، والعرقَ الأبخازيَّ والأوسيتياني في جورجيا، والعرق الألباني في أذربيجان، والعرق المجري في رومانيا، والعِرقَ الروسيَّ في منطقة نارفا Narva من إستونيا Estonia، وفي شمال كازاخستان، والعرقَ الرومانيَّ في أوكرانيا، والعرقَ البولنديَّ في ليتوانيا، والعِرقَّ الألبانيَّ في غرب مقدونيا، وذلك كله بين أعراقٍ أخرى.

الاختلاف الحقيقي مع الغرب إذن، لم يكن حول المدى الذي يسير فيه حَراك الأقلية، لكنه تَمثَّل في قوة مقاومة الدولة لقضايا الأقلية؛ ففي الغرب، كانت هذه القضايا تُناقَش بجدية، وتُقبَل في كثيرٍ من الأحيان، على الأقل جزئيًّا، ولكنها اصطدَمَت بحائطٍ صُلب في أوروبا ما بعد الشيوعية.

لماذا؟ الشرطان السابقان الرئيسيان في الغرب اللذان قلَّلا من خطورة قبول قضايا الأقليات بالنسبة إلى الدول والجماعات القومية المُسيطِرة هما:
  • (أ)

    وجود حماية يُعتمَد عليها لحقوق الإنسان.

  • (ب)

    عدم تأمين العلاقات العِرقية.

وكلا الشرطين لم يكن موجودًا في أوروبا ما بعد الشيوعية في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

بالنسبة إلى الأقليات في الغرب، فإن التماسُك القوي للآليات الشرعية لحماية حقوق الإنسان، والتنمية العامة أكثر لثقافة حقوق الإنسان، وفَّرا ضماناتٍ بأن التكيُّف مع قضايا الأقلية للحكم الذاتي لن يؤدي إلى جُزرٍ من الطغيان؛ حيث تكون الحقوق الأساسية للأمن والمواطنة معرَّضة للخطر، ولقد قلَّلَت تلك الضماناتُ — بشكلٍ قوي — المخاطرَ التي تحتوي على المناظرات حول حقوق الأقلية. ومع ذلك ففي أوروبا ما بعد الشيوعية في أوائل تسعينيات القرن الماضي لم تكن هذه الضماناتُ موجودة؛ فقد كانت الجماعات المُسيطِرة تفتقر إلى الثقة بأنها سوف تُعامَل بعدلٍ وإنصاف في داخل مناطق الحكم الذاتي للأقلية. والواقع أنه في تلك الحالات التي سيطَرَت فيها الأقليات على إقليم وأقامت لنفسها حكمًا ذاتيًّا، فإنه كثيرًا ما كانت النتائج أشكالًا مختلفة من التفرقة العنصرية وألوانًا من المضايقات ضد أي فردٍ لا ينتمي إلى الأقلية، وذلك إن لم يَتِم التطهيرُ العِرقي في الحال؛ فقد طُرد الجورجيون العِرقيون من مناطق أبخازيا بجورجيا، عندما أعلنت الحكم الذاتي وفرض السيادة، كما طُرد الكرواتُ العِرقيون من المنطقة التي تسيطر عليها صربيا في منطقة سلافونيا Slavonia عندما أُعلن فيها الحكم الذاتي، وطُرد الصربيون من كوسوفو التي سيطَر عليها الألبان عندما تحقَّق الحكم الذاتي، وهكذا. ولم يستطع أيٌّ من الجانبين الاعتماد على المؤسَّسات الشرعية، وعلى شرطةٍ محايدة، لضمان احترام حقوق الإنسان.

لقد امتزَجَت هذه المخاوف حول الأمن الفردي مع المخاوف الجغرافية السياسية حول أمن الدولة. وكان الشرط المسبق الأساسي لتبنِّي نظام فدرالي متعدِّد القوميات في الغرب هو عدم تأمين علاقات الدولة بالأقليات. ومع احترام كلٍّ من الأقليات القومية والسكان الأصليين في الغرب، لم تعُد هناك أيُّ مخاوفَ من أن يتعاون أيٌّ منها مع أعداء الدولة، وذلك يسمح بالتعامل مع قضايا الحكم الذاتي باعتبارها سياساتٍ ديمقراطيةً «طبيعية». أما في بلدان ما بعد الشيوعية فإن فكرة «أن أقليات أرض الوطن قد تمثِّل طابورًا خامسًا محتملًا من الممكن أن يتعاون مع الأعداء المجاورين» تظل فكرةً منتشرة؛ وبالتالي تظل العلاقاتُ العِرقية مؤمَّنة.

ولكي نفهَم هذه الفكرة علينا أن نسترجعَ تاريخ المنطقة. إن التشكيل الحالي للدول في وسط وشرق أوروبا هو نتيجة لانهيار ثلاث إمبراطوريات بعد الحرب العالمية الأولى — إمبراطورية رومانوف الروسية، والإمبراطورية العثمانية التركية، وإمبراطورية آل هابسبرج النمساوية الهنغارية — وأكثرها حداثةً انهيار الإمبراطورية السوفييتية في العام ١٩٨٩م، وقد شملَت كل إمبراطوريةٍ من هذه الإمبراطوريات أراضيَ لجماعاتٍ قوميةٍ متعددة، وحصل الكثير منها على دولٍ مستقلةٍ على أنقاض الإمبراطوريات السابقة (وعلى سبيل المثال: البولنديون، والرومانيون، والتشيكيون، والسلوفاكيون، والبلغاريون، والصربيون واللاتفيون … إلخ).

وقد خلقَت عملية تشكيل الدول في ظل انهيار الإمبراطوريات عدةَ مشكلاتٍ أمنيةٍ متميزة بالنسبة إلى أقليات أرض الوطن. أولًا: أن حدود هذه الدول المستقلة حديثًا تَركَت بعض أعضاء الجماعات القومية في الجانب الخاطئ للحدود الدولية الجديدة؛ فعندما رُسمَت الحدود بين ألمانيا وبولندا، كان هناك العديد من الألمان في الجانب البولندي من الحدود. وبالمثل كان هناك عددٌ كبير من العِرق المجري في الجانب الروماني من الحدود مع المجر، أو العِرق الروسي في الجانب اللاتفي من الحدود مع روسيا، والعِرق التركي في الجانب البلغاري من الحدود مع تركيا، أو العِرق الألباني في الجانب المقدوني من الحدود. وكثيرًا ما كان يُطلَق عليهم أقليات الدولة القريبة؛ لأن أقاربهم العِرقيين يهيمنون على الدولة المجاورة، ويُفترَض أن يكون لديهم ولاءٌ لهذه الدولة القريبة أكثر من ولائهم للدولة التي يعيشون فيها. ونتيجةً لذلك كثيرًا ما يُفترض أن مثل هذه الأقليات هم من الانضماميين، وأنهم يريدون إعادة رسم حدود الدولة بحيث يُعاد ضَم الأرض التي يعيشون عليها إلى الدولة القريبة. والواقع أنه كثيرًا ما يُفترَض أنهم سوف يتعاونون برغبتهم مع الدولة القريبة لو أنها غزت البلاد عسكريًّا لتدَّعي ملكيتها لهذه الأرض، كما حدث في الواقع في أماكنَ مختلفةٍ في القرن العشرين. وليس من الوارد أن تهَب أيُّ دولةٍ سلطاتِ الحكمِ الذاتي طواعية للأقلية في ظل هذه الظروف.

وحيث تتخذ أقلياتُ أرضِ الوطن شكلَ الأقلياتِ الانضمامية للدولة القريبة، فإن هناك احتمالًا أكبر جدًّا أن يُنظر إلى العلاقات العِرقية على أنها تهديدٌ لأمن الدولة.٩ لكن ذلك ليس حتميًّا، وهناك عوامل يمكن أن تخفِّف من المشكلة أو تزيدها غورًا. أحد العوامل التي تهوِّن من المشكلة هو أن تكون الدول المجاورة دولًا حليفة، بحيث تجتمع في منظماتٍ اقتصادية أو منظماتٍ أمنيةٍ إقليمية أكبر، بحيث لا تكون للدولة القريبة أيُّ مصلحةٍ في زعزعة استقرار جيرانها. ومن المؤكَّد أن ذلك تحديدًا هو ما نزَع فتيلَ مشكلةِ أقليات الدول القريبة في أوروبا الغربية؛ ففي الماضي عارضَت بلجيكا والدنمارك وإيطاليا منح حقوقٍ قوية للأقليات الألمانية العِرقية، حيث كان يُنظر إليها كأقلياتِ دولةٍ قريبة ولاؤها الأول لألمانيا.١٠ لكن لم تكَد ألمانيا تصبح حليفًا مقربًا، بدلًا من أن تكون عدوًّا محتملًا نتيجة للاتحاد الأوروبي (EU) وحلف شمال الأطلنطي (الناتو NATO)، حتى أصبحَت العلاقات عَبْر الحدود للأقليات العِرقية الألمانية غير ذات أهمية، (بل وأصبح يُنظر إليها بالفعل كأساسٍ محتمَل للعمليات المستمرة للتكامل الإقليمي)،١١ ومع ذلك، ففي بلاد ما بعد الشيوعية في تسعينيات القرن الماضي لم يكن هناك ما يُعادِل الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلنطي في تحويل الأعداء المحتمَلين إلى حلفاء، في غياب الإجراءات الأمنية الإقليمية، فقد كانت دول ما بعد الشيوعية في «حالة الطبيعة» التي تحدَّث عنها «توماس هوبز»، التي تنعدم فيها الثقة بجميع الجيران، وفي هذا السياق، فإن الخيانة المفترَضة من أقليات الدول القريبة سرعان ما يُنظر إليها على أنها تهديدٌ للأمن.
والعامل الآخر الذي يمكن أن يخفِّف من مشكلة أقليات الدولة القريبة، أو يزيد من حدَّتها، هو توازن القوى بين الدولة، وأقلياتها، والدولة القريبة المجاورة، ومن الممكن التقليل من التهديد الذي تشعر به الدول لأمنها، إذا ما شعَرَت الدولة بأنها دولةٌ قوية تواجه أعداءً ضعافًا، سواء أكان هؤلاء الأعداء من الأقليات الانضمامية في الداخل، أم من الدول القريبة عَبْر الحدود. ولسوء الطالع، فإن هذا التوازن للقوى، في عالم ما بعد الشيوعية، اتجه إلى تعميق المشكلة وزيادتها بدلًا من التخفيف منها. في كثيرٍ من الحالات كانت الجماعاتُ القومية التي حصلَت على الاستقلال بعد انهيار الإمبراطوريات تنظُر إلى نفسها على أنها أحزاب ضعيفة تاريخيًّا، تواجه أقلياتٍ ودولًا قريبة كانت مُسيطِرة تاريخيًّا. وكانت النتيجة ظاهرةً معروفة هي «جعل الأغلبية أقلية»، أعني بذلك الأغلبيات التي تستمر في التفكير والتصرُّف كأنها ضعيفة أو أقليةٌ مستضعفة، وتستمر لهذا السبب في أن تعيش في خوفٍ وجودي على وجودها.١٢

وهذه ظاهرةٌ منتشرةٌ في عالم ما بعد الشيوعية، لكنها إجمالًا غير معروفة في الغرب، وبالتالي تحتاج إلى تفسيرٍ وتوضيح، فإذا نظر المرء إلى الأرقام فقط، وتجاهَل الخلفية التاريخية، فقد تبدو الأغلبية السلوفاكية في معظم بلاد ما بعد الشيوعية ضعيفة وصغيرة تمامًا؛ فالمجريون العِرقيون في سلوفاكيا على سبيل المثال، يشكِّلون نحو ١٥ في المائة من تعداد السكان، وبالتالي فهم ضعفاء أمام الأغلبية الطاغية في البلاد، ومع ذلك، فقد كان المجريون تاريخيًّا أعضاء في جماعةٍ متميزة ومُسيطِرة داخل إمبراطورية آل هابسبرغ، ومتعاونين نشطاء في سياسات هابسبرغ لخلق ثقلٍ مجري في المنطقة. وفي المقابل كان السلوفاك مجموعةً ثانوية، أو تابعة، تعرضَت لحملاتٍ مجريةٍ متعسِّفةٍ وقهرية. وبعد الاستقلال، انقلبَت هذه الهيراركية بالطبع رأسًا على عقب، وأصبح السلوفاك الآن هم الجماعة المُسيطِرة، في حين أصبح المجريون هم الأقلية المهدَّدة التي تخضع لسياسات بناء الأمة السلوفاكية. لكن تبقى الذكرى: أن السلوفاك ينظرون إلى المجريين ليس فقط على أنهم جماعةٌ يحتمل أن تُطالِب بالانضمام ويكون ولاؤها لدولتهم القريبة، بل على أنهم من الناحية التاريخية جماعةٌ قوية ومتميِّزة تعاونت مع السلطة الإمبريالية المُسيطِرة لقهر لغة السلوفاك وثقافتهم. وفي غياب الترتيبات الأمنية الإقليمية الفعَّالة، يستمر الخوف من أن ذلك قد يحدث مرةً أخرى، فتتعاون الأقلية المجرية مع الدولة المجرية القريبة لإخضاع السلوفاك من جديدٍ وسحق استقلالهم الوطني.

ونحن نرى هذه الظاهرة نفسها في بولندا فيما يتعلق بالأقلية الألمانية، وفي رومانيا وصربيا فيما يتعلق بالأقلية المجرية، وفي البلطيق، وأوكرانيا، ومولدوفيا فيما يتعلق بالأقلية الروسية، وفي كرواتيا والبوسنة فيما يتعلق بالأقلية الصربية،١٣ وفي بلغاريا فيما يتعلق بالأقلية التركية، وفي جميع هذه الحالات، يُنظَر إلى الأقليات (صوابًا أو خطأ) كحلفاء أو متعاونين مع قوًى خارجية قهَرَت جماعة الأغلبية من الناحية التاريخية، وتتصرَّف الأغلبية بدورها على أنها «أغلبية أصبحَت أقلية».١٤

وباختصارٍ، عملَت العديد من العوامل على تعميق عملية تأمين العلاقات العِرقية في أوروبا ما بعد الشيوعية. وظاهرة أقليات الأرض التي تسعى إلى الحكم الذاتي تُبرِز صعوباتٍ في أحسن الأحوال، ما دامت تتحدَّى الدعوى التي تقدِّمها الدولة لتمثيل شعبٍ واحد يستمد مشروعيته من السيادة الموحَّدة.

غير أن هذا التحدي أصبح أكبر، وارتفع احتمال أن يصبح أكثر أمانًا:
  • (أ)

    عندما تكون أقلياتُ أرض الوطن هي أقليات انضمامية ولاؤها للدولة القريبة المجاورة.

  • (ب)

    عندما تكون الدولة القريبة المجاورة هي قوًى إمبريالية سابقة كانت أخضعَت تاريخيًّا، الجماعاتِ القومية التي تشكِّل الآن جماعةَ الأغلبية في دولةٍ مجاورة.

  • (جـ)

    عندما لا تكون هناك ترتيباتٌ أمنيةٌ إقليمية لضمان عدم الاعتداء.

وعندما تُوجَد هذه العوامل، كما هي موجودة في أوروبا ما بعد الشيوعية، فإن النتيجة المحتملة هي عمليةُ تأمينٍ شاملة للعلاقات العِرقية.

وينعكس هذا التأمين في ثلاثة افتراضاتٍ تتحكم في المناقشة العامة بشأن الأقليات في المنطقة:
  • (أ)
    أن الأقليات ليس لديها ولاء، ليس فقط بمعنى أنه ينقصها الولاء للدولة (ويصدُق ذلك أيضًا على الانفصاليين سواء في الكيوبيك أو اسكتلندا)، لكن بمعنى أنهم تعاونوا مع القاهرين السابقين، وواصلوا التعاون مع الأعداء الحاليين، أو الأعداء المحتملين؛١٥ لذلك:
  • (ب)

    فإن الدولة القوية المستقرة تحتاج إلى أقلياتٍ ضعيفة لا حول لها ولا قوة، وبعبارةٍ أخرى، فإن العلاقات العِرقية يُنظر إليها، كلعبة الجمع بين أصفار؛ فكل ما ينفع الأقلية يُنظر إليه على أنه تهديدٌ للأغلبية، وبالتالي:

  • (جـ)
    فإن معاملة الأقليات هي قبل كلِّ شيء مسألة أمنٍ قومي.١٦
ومن ثَم فإن كلًّا من العاملَين الرئيسيَّين اللذَين مكَّنا المجموعاتِ المسيطرةَ في الغرب لقَبول التعددية الثقافية الليبرالية، وهي ضمانات حقوق الإنسان وعدم التأمين، كانا غائبَين بشكلٍ أساسي، أو كان حضورُهما ضعيفًا في أوروبا ما بعد الشيوعية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وإذا سلمنا بهذه الواقعة، فلن نندهش من أن محاولات نشر وتطبيع أفضل الممارَسات قد لَقيَت آذانًا صمَّاء، وقُوبلَت بالرفض في أوروبا ما بعد الشيوعية.١٧
وكثيرًا ما كان يُنظر إلى أقليات أرض الوطن التي تسعى إلى نَيل الحكم الذاتي على أنها تهديدٌ جغرافي وسياسي لأمن الدولة، وتهديدٌ لحقوق الإنسان الفردية لمن يعيشون في منطقةٍ من الممكن أن تُحكَم حكمًا ذاتيًّا، والواقع أنه تحت هذه الظروف، سيكون من الغريب أن يكون هناك اهتمامٌ حقيقي بالنماذج الغربية للفدرالية المتعددة القوميات. وبدلًا من ذلك فإن معظم دول ما بعد الشيوعية تمسَّكَت بقوةٍ بهدفٍ آخر هو تحويلُ نفسِها إلى دولةٍ مركزية، موحدة، دول ذات قوميةٍ واحدة ولغةٍ واحدة، تقوم على مفهومٍ واحد، وتصورٍ واحد لا تمايز فيه حول السيادة الشعبية، بغَض النظر عن وصف الغرب لهذا النموذج بأنه مَر وانقضى عهده.١٨
إن التاريخ المتميز للإمبريالية والتعاون مع العدو المحتمل في المنطقة يخلق عقبةً أخرى مهمة أمام تبنِّي النماذج الغربية — أعني تحديدًا إدراك المظالم التاريخية. وهناك إحساسٌ قوي في كثيرٍ من بلدان ما بعد الشيوعية، بأن الأخطاء التاريخية لم يُعترف بها ولم تُعالج. يقول البعض إن هذا التركيز على الحقوق والأخطاء التاريخية هو أمرٌ خاص بأوروبا الشرقية، أما الديمقراطيات الغربية، فقد تمكَّنَت من تجاوز هذا الهوَس المتخلِّف بالتاريخ والتركيز على التعايُش المستقبلي. وصحيحٌ حتمًا أن الشعور بالظلم يضرب بجذورٍ عميقة في كثيرٍ من بلدان ما بعد الشيوعية؛ فمن المُتعارَف عليه أنك إذا ما سألتَ أحدًا من أهل الصرب عن حقوق الألبان في كوسوفو، فمن المحتمل أن يقول: «إن عليك أن تفهم ما حدث في العام ١٣٨٩م»، لكني أعتقد أن ذلك صحيحٌ في كثيرٍ من البلاد الغربية أيضًا؛ فقضايا المظالم التاريخية أصبحَت أكثر شيوعًا في الغرب كذلك، ولننظر إلى زخم الكتابات الحديثة في موضوع التعويضات للأفارقة-الأمريكان عن الإساءات التاريخية من عبوديةٍ وفصلٍ عنصري (روبنسون، ٢٠٠٠م؛ بروكس، ٢٠٠٤م)، كما أن قضايا تصحيح المظالم التاريخية هي أيضًا جزءٌ حيوي للحَراك المعاصِر للسكان الأصليين في نيوزيلندا، وأستراليا وكندا، وحتى بالنسبة إلى بعض جماعات الهجرة، على سبيل المثال الأمريكيون-اليابانيون والكنديون-اليابانيون الذين يطالبون باعتذاراتٍ وتعويضات عن اعتقالهم في الحرب العالمية الثانية (جيمس، ١٩٩٩م)،١٩ والواقع، وكما ذكرتُ في الفصل الرابع، فإن صعود التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب يرتبط ارتباطًا وثيقًا بإدراك مظالم الهيراركيات العنصرية والعِرقية التاريخية والاعتراف بها.

لكن كما رأينا فإن هناك اختلافًا مهمًّا في طبيعة الهيراركيات التاريخية في الغرب، وفي أوروبا ما بعد الشيوعية؛ ففي الغرب غالبًا ما تسعى أقليةٌ ما إلى الاعتذار والتعويض من الدولة التي أساءت معاملتها تاريخيًّا؛ ومن ثَم فإن الحُجة المستمدة من الظلم التاريخي تعمل لتقوية دعاوى حقوق الأقلية، وتدعيم الحُجة من أجل مساواةٍ أكبر بين الأغلبية والأقلية. تُستخدَم هذه الحُجة للضغط على الأغلبية لكي تقول: «إننا لن نعود أبدًا مرةً أخرى إلى عمليات الطرد والإخضاع والقهر.»

أما في بلاد ما بعد الشيوعية فغالبًا ما تشعُر الأغلبية بأنها كانت ضحية للقهر والاضطهاد، وكثيرًا ما يكون ذلك على يد الأقليات التي تتعاون مع العدو الأجنبي؛ ومن ثَم فإن الأغلبية تريد من الأقلية أن تُعلِن أنها مذنبة، وأن تُقدِّم لها اعتذارًا، كوسيلةٍ لأن تعلن أنها لن تعود (أي الأقلية)، مرةً أخرى، إلى خيانة الدولة. ونحن نرى ذلك في الجمهورية التشيكية فيما يتعلق بالأقلية الألمانية، وفي سلوفاكيا فيما يتعلق بالأقلية المجرية، وفي البلطيق فيما يتعلق بالأقلية الروسية، وغير ذلك من الحالات.

وباختصارٍ، فإن نوع الظلم التاريخي الذي يمثِّل محور المناقشات في دول ما بعد الشيوعية هو القهر التاريخي لجماعة الأغلبية من قِبل أقلياتها المتعاونة مع دولةٍ قريبة أو مع قوةٍ أجنبية، وذلك على عكس الغرب. وأنا أعتقد أن ذلك يميِّز — بحق — أوروبا الشرقية عن التجربة الغربية (ربما باستثناء قبرص)، على الرغم من أنه تُوجَد أمثلة، كما سنرى في الفصل السابع، مماثلة في أفريقيا وآسيا أيضًا.

وفي هذا السياق فإن حُجة الظلم التاريخي تعمل ضد دعاوى حقوق الأقلية؛ ففي الغرب، كان يُمكِن أن تكون أقلياتُ أرضِ الوطن أقوى مما هي عليه الآن لولا المظالم التاريخية التي ارتكبَتها الدولة الأكبر، كأن يتحدث عددٌ أكبر من الناس لغة الأقلية ويُمارِسوا ثقافتها، على نطاقٍ أوسع، ويمكن أن ينظر إلى حقوق الأقليات، ولو جزئيًّا، كطريقةٍ للاعتراف بهذه الأضرار ومعالجتها. أما في بلاد ما بعد الشيوعية، فغالبًا ما يُنظر إلى المظالم التاريخية كأداةٍ لتوسيعِ نطاقِ ومكانةِ لغةِ الأقلية وثقافتِها على حساب الأغلبية. والواقع أن حُجج الظلم التاريخي، إذا سرنا معها إلى نتيجتها المنطقية، قد تُوحي بأن الأقليات ليس لها الحق في الوجود على أرض الدولة، لو أن وجودَها ذاتَه يرتبط بهذا الظلم التاريخي، فإذا لم يكن هناك ظلمٌ تاريخي وإمبرياليةٌ روسية، لكانت هناك قلةٌ من الروس في البلطيق. ولولا ظلم الإمبريالية العثمانية، لكانت هناك قلةٌ من الأتراك في بلغاريا. وإذا كانت الغاية هي علاج هذه الإساءات التي نتجَت عن المظالم التاريخية، فلِمَ لا نُلغي عمليةَ جعل البلطيق روسية، سواء عن طريق طرد الروس أو بوساطة الإصرار على دمجهم في الثقافة الإستونية أو اللاتفية؟! لِمَ لا نُحاوِل إلغاء محاولات جعل بلغاريا تركية في ظل العثمانيين، سواء عن طريق طرد الأتراك أو بالإصرار على دمجهم في الثقافة البلغارية.٢٠

وباختصارٍ، بينما تعمل حُجج تصحيح المظالم التاريخية في الغرب على تقوية مطالب الأقلية لتوزيعٍ أكثر عدلًا للحقوق والموارد بين الأغلبية والأقلية، فإنها قد تُستخدَم في بلدان ما بعد الشيوعية لإضعاف قضايا الأقليات، بل للتشكيك في شرعية وجودها.

هذه الاختلافات العميقة في حماية الحقوق الإنسانية والأمن الجغرافي السياسي، والمظالم التاريخية تخلُق أسسًا واضحة لمعارضة تبنِّي النماذج الغربية للفدرالية المتعدِّدة القوميات. وفي جميع هذه الحالات، بالطبع، من المهم أن نميِّز الحقائق الموضوعية حول التهديدات الأمنية والإساءات التاريخية عن الطريقة التي تُدرَك بها هذه الحقائق وتُناقَش. ويختار السياسيون ما إذا كانوا، ومتى سيُلقون الضوء على (أو يُبالِغون حول) هذه العوامل في المناقشات العامة. إن تصوُّر أقليات الدولة القريبة كتهديدٍ أمني وكمتعاونين في المظالم التاريخية ضد الأغلبية هو شيءٌ يرسَّخ عن عمد ويُعاد إنتاجه بوساطة نخبةٍ سياسيةٍ معيَّنة؛ وذلك لأسبابٍ تتعلق بمصالحهم الشخصية الخاصة.

وذلك في الواقع أمرٌ محوري لفهم عملية التأمين. وبالمعنى الدقيق، فإن المسألة لا تصبح مسألةً «أمنية» إلا إذا قرِّر ممثلون سياسيون معيَّنون أن يصفوها بهذه المصطلحات — أي كتهديدٍ لوجود الدولة وجماعتها القومية المسيطرة — ونجحوا في إقناعِ عددٍ آخر من المواطنين بهذا الوصف. وربما يعكس ذلك في بعض الحالات إيمانًا جادًّا بتهديدٍ موضوعي، لكنه يمثِّل في حالاتٍ أخرى خيارًا واعيًا، واستراتيجية سياسية، فلماذا تتبنَّى نخبةٌ سياسية هذه الاستراتيجية؟ إن موضوعَ التأمين يحمل في جوفه مضمونَين مهمِّين:

  • أولًا: ما دام يُقال إن للقضايا الأمنية إمكانَ تفويض الدولة، فهي تُعرقِل العمليات الديمقراطية المألوفة في المناقشات والمفاوضات؛ فقبل كل شيء، إن المهمة الأولى للدولة هي المحافظة على بقائها ووجودها، وعندئذٍ فقط تستطيع أن تقوم بعمليات النقاش والمفاوضات. وعلى حد تعبير ويفر Weaver، عن طريق مسائل الأمن، يستطيع القادة السياسيون أن يدَّعوا أن هذه المسائل: «لا بد من مواجهتها قبل أي مسائلَ أخرى، فإذا لم نواجهها فإن الدولة تتوقف عن الوجود كوحدة سيادة، وتصبح جميع الأسئلة الأخرى غير ذات صلة … ومع ذلك فهذا يعني من الناحية العملية أنه: بتسمية تطوُّرٍ معيَّن بأنه مشكلة أمن، فإن «الدولة» تستطيع أن تدَّعي حقًّا معينًا خاصًّا … بالنطق بلفظ «الأمن»، فإن ممثِّل الدولة يحرِّك تطورًا خاصًّا في منطقةٍ خاصة، وبذلك يدَّعي حقًّا خاصًّا في استخدام أي وسلةٍ يراها ضرورية لحجب ذلك التطوُّر (ويفر، العام ١٩٠٥م، وتأكيد الكلمات موجود في الأصل).
  • ثانيًا: موضوع التأمين يعوق كذلك موضوع العدالة؛ فقضية العدالة بأَسْرها وما تتطلَّبه العدالة بين الأغلبية والأقلية تصبح مغمورةً ما دامت للأمن القومي الأولوية على العدالة، وما دامت الأقليات الخائنة ليست لها مطالب أو قضايا مشروعة على أي حال. ويُساعِدنا ذلك في تفسير السبب في قلة المناقشات العلمية أو الشعبية في بلاد ما بعد الشيوعية حول مبادئ العدالة التي ينبغي لها أن تنظِّم التكيُّف مع التنوُّع الثقافي العِرقي؛ ففي المناقشات الحامية، على سبيل المثال، حول وجود جامعة في مقدونيا يكون التدريس فيها باللغة الألبانية، من الصعب أن نجد شخصًا يتساءل عما تقتضيه المساواة في مجال التعليم العالي في الدول المتعدِّدة القوميات، والمتعدِّدة اللغات، أو كيف يقترب التعليم العالي باللغة الأم ويرتبط بالمبادئ الليبرالية حول الحرية والمساواة؛ فالأمن يعيق العدالة، والأقليات الخائنة تُصادِر أي مطالباتٍ بالعدالة.
والاستثناء الوحيد لهذا الاستبعاد لحُجَج العدالة يرتبط بالمظالم التاريخية التي عانتها الأغلبية، والتي يُنظر إلى الأقلية على أنها مسئولة عنها. هذا النوع من العدالة يتجاوز تصفية الأمن، ما دام يقدِّم الدليل التاريخي على مساندة التأمين في المقام الأول؛ ومن ثَم فإن حُجج الظلم التاريخي ومناقشات التأمين يغذِّي بعضها بعضًا، ويعمل كل طرفٍ منهما على استبعاد أي مطالباتٍ بالعدالة يُمكِن أن تقدِّمها الأغلبية. إن «العدالة»، في ظل التأمين تعني تعويضَ الأغلبية عن الأخطاء التاريخية التي عانتها من قِبل الأقليات الخائنة، ولا يعني أن للأقليات أيَّ حق في المطالبة بالإنصاف في توزيع السلطة والحقوق والموارد.٢١
وباختصار، عندما يتم تأمين قضايا الأقليات، يتقلص مجال النقاش الأخلاقي والديمقراطي إلى حدٍّ كبير، وأنا أعتقد أن إحلالَ الأمن محلَّ العدالة هو ما يميِّز، على نحوٍ واضح، المناقشات حول الأقليات القومية في أوروبا ما بعد الشيوعية عنها في الغرب،٢٢ والواقع أن المستوى المتدني لتأمين موضوعات الأقليات القومية في الغرب مدهشٌ تمامًا. وعلى أي حال، فعديدٌ من الدول في الغرب يضُم حركاتٍ انفصاليةً نشطة، في الكيوبيك واسكتلندا، وبورتوريكو، وكتالونيا. وفي كل حالةٍ من هذه الحالات تُوجَد أحزابٌ سياسية تُعارِض الوجود الأساسي للدولة، وتُهدِّد بالتالي أمن الدولة، وهذه الأحزاب الانفصالية تصل أحيانًا إلى السلطة على المستوى الإقليمي، أو تُشارِك في سلطة الاتحادات. ومع ذلك ففي جميع هذه الحالات فإن الممثلين السياسيين الغربيين لم يؤمِّنوا موضوعاتِ قومية الأقليات. على نحو ما رأينا في الفصل الرابع، فإن هناك إعادةَ تأمينٍ لبعض الموضوعات المتعلقة بجماعات الهجرة في الغرب، وعلى وجه الدقة للمهاجرين المسلمين بعد الحاديَ عشرَ من سبتمبر. غير أن ذلك لم يكن له بعدُ تأثيرٌ كبير في المناقشات حول الأقليات القومية. ويستمر التعامل مع مطالب هذه الحركات من خلال مسار العدالة الديمقراطية الليبرالية؛ أي وفقًا للحرية والمساواة والتضامن، وتُحل هذه المسائل عن طريق الإجراءات والمفاوضات الديمقراطية المألوفة. وبعبارةٍ أخرى فإن السياسيات الانفصالية في الغرب هي أمورٌ سياسيةٌ مألوفة؛ فمن المألوف والطبيعي أن نجد السياسيين الانفصاليين يتحدَّثون في التلفزيون، ويشتركون في اللجان البرلمانية ويتظاهرون في الشوارع. ولا أحد يفكِّر في أن مشاركة السياسيين الانفصاليين النشِطة تستدعي توقُّف الإجراءات أو المناقشات الديمقراطية العادية، أو عرقلة دعاوى العدالة.٢٣
وفي المقابل، في بلاد ما بعد الشيوعية، فإنه حتى أكثر مطالب الأقليات القومية تواضُعًا من الممكِن أن تتعرَّض للتأمين؛ فافتتاح الجامعات الخاصة واستخدام لافتات الشوارع المزدوجة اللغة، واختيار الحروف الأبجدية، وحتى تسمية الأطفال؛ كل هذه الأمور تم تأمينها في العديد من بلدان ما بعد الشيوعية. وعلى سبيل المثال، أعلنَت حكومة مقدونيا أنه سيكون تهديدًا لوجود الدولة نفسها أن تمتلك الأقلية الألبانية في مقدونيا جامعةً يكون فيها التدريس بلغتها الخاصة (ومن ثَم فقد هدَمَت مباني الجامعة الخاصة في تيتوفو Tetovo، وقتَلَت خلال هذه العملية اثنَين من المواطنين)،٢٤ ولقد وجَد الملاحظون المستقلون صعوبةً في أن يَرَوا كيف يُمكِن لجامعةٍ ألبانية، تُموَّل بطرقٍ خاصة ويكون فيها التدريسُ باللغة الألبانية، أن تمثِّل تهديدًا للدولة، غير أن النخبة السياسية من المقدونيين أصرَّت على أن ذلك يمثِّل بالفعل قضية أمنٍ قومي، أكثر من أن تكون مسألةً متعلقةً بالثقافة أو التعليم أو الاقتصاد، ولنأخذ مثالًا آخر، عندما قرَّرَت منطقة الحكم الذاتي في «تتارستان Tatarstan» في روسيا أن تُوقِف استخدام الحروف الأبجدية السُّلافية — وهي الأبجدية التي فُرضَت عليهم خلال الشيوعية السوفييتية — أعلَن أعضاء البرلمان الروسي أن ذلك يهدِّد الأمن القومي (كاشاباك، ٢٠٠٥م).
هذه الأنواع من عمليات التأمين الشامل من الواضح أنها ليست ضرورية، بل هي تعكس قرارً متعمَّدًا من النخبة السياسية تلعب فيه ﺑ «ورقة الأمن»، وكثيرًا ما يكون ذلك بطريقةٍ طائشة غير مسئولة تدمِّر الأمل في تحسين العلاقات العِرقية، والرغبة في اللعب بهذه الورقة ونجاحها كاستراتيجيةٍ سياسيةٍ هو أحد العوامل التي تميِّز بين المناقشات حول أقليات أرض الوطن في الشرق والغرب،٢٥ ويرتبط نجاح النظام الفدرالي المتعدِّد القوميات في الغرب بإجماع الأحزاب على عدم اللعب ﺑ «ورقة الأمن» عند التعامل مع قضايا الأقلية القومية، وتعتمد سلامة الديمقراطية على انضباط القادة السياسيين الذاتي في اللعب بهذه الورقة، وتشكُّك المواطنين عندما تحاول النخبة أو الصفوة اللعب بها. ومع ذلك، ففي بلاد ما بعد الشيوعية هناك العديد من الصفوة السياسية الذين لديهم استعدادٌ للعب بهذه الورقة، وقد أثبتَت أنها استراتيجيةٌ فعَّالة لكسب المسانَدة الانتخابية.
إحدى طرق التفكير في هذه العلمية هي أن نقول إن هناك سقفًا يُمكِن من خلاله اللعب بهذه الورقة. ولكي تتجنَّب الأقليات القومية قمع الدولة، فإن عليها أن تُبقيَ مطالبها تحت هذا، بينما تُحاوِل في الوقت ذاته التفاوض على رفع هذا السقف.٢٦ لكن أين يُوجَد هذا السقف؟! في استطاعتنا أن نذكُر قائمةً ببعض مطالبَ نموذجيةٍ للأقلية بترتيبٍ تنازلي للقوة:
  • (١)

    العنف الانفصالي-الإرهاب.

  • (٢)

    الحراك الديمقراطي الانفصالي.

  • (٣)

    الحكم الذاتي الإقليمي.

  • (٤)

    التعليم العالي بلغة الأقليات.

  • (٥)
    حق النقض (الفيتو Veto).
  • (٦)

    الحقوق الجماعية.

  • (٧)

    وضع اللغة الرسمية.

  • (٨)

    المدارس الابتدائية بلغة الأقليات.

  • (٩)

    لافتات الشوارع بلغة الأقلية

السقف في الغرب اليوم عالٍ جدًّا — فيما بين الرقمين ١ و٢. وفي الواقع، تؤمَّن قومية الأقلية فقط عندما ترتبط بالإرهاب، كما هي الحال في أيرلندا الشمالية أو الباسك Basque. وما دام بقيَت قومية الأقلية مسالمة وديمقراطية فلن تؤمَّن، حتى وإن استهدَفَت الانفصال بشكلٍ واضح. وفي المقابل، فإن السقف في بلاد ما بعد الشيوعية منخفضٌ للغاية، فيما بين ٧ و٨، وأي دعوةٍ إلى الحكم الذاتي الإقليمي، والتعليم العالي بلغة الأقلية، والحقوق الجماعية، أو وضع اللغة الرسمية، تُطلِق زناد «ورقة الأمن»، بحيث لا يبقى للعمليات الطبيعية للسياسات الديمقراطية سوى قضايا بالغة الضعف، مثل اللغة الأم في المدارس الابتدائية.

ويرتبط تأمين قومية الأقلية بالمشكلة الأولى التي سبق أن ذكرتُها حول ضعف المؤسَّسَات الديمقراطية الليبرالية، ويُفاقِم منها أن عملية التأمين لا تضُر بالأقليات فقط، بل أيضًا بالديمقراطية نفسها، بوجود المجتمع المدني المسالم. ويبدو أن هناك ارتباطًا سلبيًّا بين عملية الديمقراطية وقومية الأقليات؛ فبلاد ما بعد الشيوعية التي ليست لديها أقليةٌ قومية تحوَّلَت إلى الديمقراطية بنجاح (الجمهورية التشيكية، والمجر، وسلوفينيا، وبولندا)، والبلاد التي لديها قوميات أقليةٍ قوية تُعاني أكثر مثل (سلوفاكيا، أوكرانيا، رومانيا، صربيا، مقدونيا، جورجيا)؛ فموضوع الأقلية ليس هو الوحيد هنا، ولكني أعتقد أنه مُهِم.

وفي مقالٍ نُشر لأول مرة في العام ١٩٤٦م، زوَّدَنا إستفان بيبو Istvan Bibo بتحليلٍ وافٍ لهذه المشكلة؛ فهو يذهب إلى أن تجربة القرن التاسع عشر في المجر علَّمَت نخبة البلد أن أقلياتها يُمكِن أن تستخدم حرياتها الديمقراطية للانفصال. منذ ذلك الوقت خَشِيَت الدول في شرق أوروبا ووسَطِها من ممارسة الأقليات للحريات الديمقراطية. ونتيجةً لذلك حاولَت باستمرارٍ قمع، أو تمييع، أو احتواء هذه الحريات الديمقراطية، أحيانًا باحتضان الحركات الفاشية أو أشكالٍ أخرى من السلطوية (مثلًا كبت حرية جميع الأفراد)، وأحيانًا بنزع السلطة من الأقليات (بكبت حرية الأقليات)، لكن في الحالتَين تكون النتيجة شكلًا مرعبًا ومعيبًا من الديمقراطية، كما يقول:
«في دولةٍ يشملها الخوف وتؤكِّد أن تقدُّم الحرية يُعرِّض مصالح الأمة للخطر، ليس في استطاعة المرء أن يستفيد على نحوٍ كامل من المزايا التي تقدِّمها الديمقراطية؛ فأن تكون ديمقراطيًّا يعني أساسًا ألا تكون خائفًا؛ ألا تخشى أولئك الذين لديهم آراءٌ مختلفة أو يتحدثون بطريقةٍ مختلفة، أو ينتمون إلى أعراقٍ أخرى. لقد خافت بلدان شرق ووسط أوروبا لأنها لم تطوِّر أنظمةً ديمقراطيةً ناضجة بشكلٍ كامل، ولم تستطع أن تطوِّر أنظمةً ديمقراطيةً ناضجة بشكلٍ كامل لأنها خائفة» (بيبو Bibo في العام ١٩٩١م، ص٤٢).

وأنا أعتقد أن ذلك يصدُق حتى يومنا الراهن؛ فكثيرٌ من دول ما بعد الشيوعية ذات قوميات الأقليات لديها قشرة الديمقراطية الليبرالية، ولكنها ما زالت خائفةً من الممارسات الكاملة والحرة للحريات الديمقراطية.

ومن هذه الزاوية، فإن رفضَ بلاد ما بعد الشيوعية إفساحَ المجال للمناقشة المفتوحة والديمقراطية حول مميزاتِ أفضلِ الممارَسات الغربية ليس فقط النتيجة المتوقَّعة أو الحتمية للاختلافات في الظروف التاريخية والجغرافية السياسية بين الغرب والشرق، بل يرجع أيضًا — إلى حدٍّ ما — إلى الاستراتيجية المتعمَّدة من قِبل النخبة السياسية لتأكيد الأخطار الأمنية المتضمَّنة، وبالتحديد من أجل قمع مثل هذه المناقشات. ومن المحتمل أن تكون استراتيجياتُ أفضل الممارَسات قد حقَّقَت نجاحًا أكبر لو أن النخبة في دولِ ما بعد الشيوعية كانت أكثر حذرًا في اللعب بورقة الأمن. لكن سيكون من الخطأ أن نُعالِج الاعتراضات القائمة على الأمن ضد تبنِّي أفضَل الممارَسات الغربية للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات. والواقع أن النظام الفدرالي المتعدِّد القوميات يمثِّل فعلًا أخطارًا أكبر في أوروبا الشرقية عما يمثِّله في الغرب؛ فهناك اختلافاتٌ موضوعيةٌ في مستوى حماية حقوق الإنسان، والانضمام المحتمَل لأقليات أرض الوطن، وفي وجود أو غياب منظَّمات الأمن الإقليمية، وفي طبيعة الهيراركيات التاريخية، والمظالم في مجال العمل. وربما تُبالِغ الصفوة السياسية في بلدان ما بعد الشيوعية كثيرًا في هذه المخاطر. غير أن استراتيجية المنظَّمات الدولية في تعميمها لأفضل الممارسات غالبًا ما تُهمِل تلك المخاطر.

قد يُساهِم تَعميمُ أفضل الممارَسات في نَشر الوعي بمنطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية، لكن من السذاجة أن نأمل أن يكونَ هذا المنطق مقنعًا في سياقاتٍ تتضمَّن قواعدَ معقولةً وقابلةً للتصديق للنظر إلى السياسات العِرقية كتهديدٍ ممكنٍ لأمن الفرد وأمن الجماعة، فإذا سلَّمنا بالاختلافاتِ العميقةِ في الظروف والتاريخ، فإن الجهود التي تُبذَل لنشرِ وتعميمِ أفضلِ الممارَسات في الغرب، من دون النظر إلى عوامل المخاطر الكامنة، سوف يُكتَب لها الفشل.

من «أفضل الممارَسات» إلى «المعايير» و«المقاييس»

سرعان ما أصبح واضحًا أن استراتيجية نَشرِ أفضل الممارَسات لن تكون كافيةً بمفردها؛ فلو تُرِك الأمر لها، لما كان من المحتمل أن تلحَق دول ما بعد الشيوعية بالنماذج الغربية، بل إنها في الواقع كانت في كثيرٍ من الحالات تَبتعِد عنها، وتقيِّد ضمانات حقوق الأقليات بدلًا من أن تدفعَها إلى الأمام.

لو أرادت المنظَّمات الأوروبية أن تُحدِث فرقًا فسوف تحتاج إلى استراتيجيةٍ أخرى أكثر حدة. بدلًا من تقديم مجموعة من الممارسات الجيدة في بلاد ما بعد الشيوعية لكي تتبناها أو لا تتبناها، وفقًا لما هو منسوب إليها، فإن الاستراتيجية الثانية تتضمَّن وضعَ معاييرَ ومقاييسَ واضحةٍ قانونية أو شبه قانونية، والتي يكون من المتوقَّع أن تلتزم بها دول ما بعد الشيوعية، على أن تتم مراقبة الالتزام بهذه المعايير والمقاييس بواسطة العديد من الهيئات الدولية، مع مجموعةٍ من الحوافز لهؤلاء الذين يلتزمون بها، والعقوبات للذين لم يلتزموا.

والمثال الأكثر أهمية ووضوحًا لهذه الحوافز والعقوبات هو قرارُ الاتحاد الأوروبي و«الناتو Nato» (حلف شمال الأطلنطي) بجعل حماية حقوق الأقليات أحدَ المعايير التي يجب أن تستَوفيَها البلاد المرشَّحة لأن تصبح عضوًا في المنظمات.٢٧ وبما أن معظم دول ما بعد الشيوعية رأت أن عضوية الاتحاد الأوروبي والناتو Nato أساسيةٌ لرخائها واستقرارها الأمني، فإن أي توصيةٍ يقدِّمها الغرب فيما يتعلق بحقوق الأقليات لا بد أن تُؤخَذ بجديةٍ تامة. ونتيجةً لذلك انتقلَت حقوقُ الأقليات إلى مركز الحياة السياسية في بلاد ما بعد الشيوعية، وأصبَحَت تُشكِّل عنصرًا أساسيًّا للعودة إلى الاتحاد الأوروبي.
وبعد اتخاذ هذا القَرار، كانت الخطوة التالية هي ابتكار آليات لمؤسَّسَات يُمكِنها مراقبةُ كيف تُعامِل بلاد ما بعد الشيوعية أقلياتها. ومنذ العام ١٩٩١م ابتكَرَت العديدُ من الهيئات الدولية التي كُلفَت بمراقبة معاملة الأقليات، والتوصية بالتغيُّرات اللازمة للارتقاء إلى المعايير الأوروبية لحقوق الأقليات. وكانت الخطوة الحاسمة هنا هي تشكيل مكتب اللجنة العليا للأقليات القومية، التابع لمنظَّمة الأمن والتعاون في أوروبا العام ١٩٩٣م، والمرتبط بمكاتب البعثات التابعة لمنظَّمة الأمن والتعاون في أوروبا في العديد من بلدان ما بعد الشيوعية. وخطوةٌ أخرى مهمة جاءت من قِبل المجلس الأوروبي، الذي وضع عددًا من الهيئات الاستشارية والآليات الإخبارية كجزءٍ من الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية لعام ١٩٩٥م،٢٨ ولم يبتكر الاتحادُ الأوروبي وحلفُ شمال الأطلنطي (الناتو) هيئاتٍ رقابيةً جديدة تركِّز بشكلٍ خاص على حقوق الأقليات،٢٩ لكنهما جعَلا من الواضح أنهما يُسانِدان عمل مكتب اللجنة العليا للأقليات التابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وأنهما يتوقَّعان من بلاد ما بعد الشيوعية أن تتعاون معها كشرطٍ لقبول هذه البلدان في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي (الناتو).

وإذن، في الفترة ما بين ١٩٩١م و١٩٩٥م نما إجماعٌ سريعٌ بين جميع المنظَّمات الأوروبية الكبرى بأن أفضل طريقة للتأثير في معاملة الأقليات القومية في بلاد ما بعد الشيوعية هي إقامة حدٍّ أدنى من المعايير والمقاييس المصاحبة لآلياتٍ دولية، لمراقبة التزام البلاد بها، وسوف يُصبِح هذا الالتزام عندئذٍ واحدًا من الأسس التي تقوم عليها القرارات التي تُتخذ حول قبول دولةٍ معيَّنة الانضمام إلى أوروبا من جديد.

وكان من المأمول والمتوقَّع أن يكون هذا المنظورُ أكثر تأثيرًا وفاعلية من أن نعمِّم — ببساطة — أفضلَ الممارَسات، لكنه يطرح سؤالًا واضحًا هو: ما هذه المعايير الأوروبية لحقوق الأقليات؟ في استطاعتنا أن نحدِّد اتجاهاتٍ عامةً معيَّنة على مدى الأربعين سنةً الماضية فيما يتعلق بالأقليات القومية، من النوع الذي ناقشناه في الفصل الثالث، ولدى المنظَّمات الأوروبية قوائمُ بأفضل الممارَسات، من تقاسُم السلطة الاتحادية في سويسرا إلى ازدواج اللغة في فنلندا إلى النظام الفدرالي في إسبانيا إلى الحكم الذاتي الخاص في جنوب تيرول Tyrol، أو جزر ألند Aland. غير أن الاتجاهات العامة وقوائم أفضل الممارَسات ليست مثل المعايير الرسمية أو المبادئ المتفَق عليها؛ فالمنظَّمات الأوروبية لم يكن لديها بعدُ أي معاييرَ عامةٍ لصيغة أن «لكل الأقليات القومية الحق في «س» …»

والواقع أن أحدَ أكثرِ الجوانبِ إثارةً في التجربة الأوروبية مع حقوق الأقليات هو أن القرار بإقامةِ معاييرَ ومقاييسَ قد اتُّخذ العام ١٩٩١م، من دون أن تكون هناك فكرةٌ واضحة عند الممثلين الرئيسيين حول ما ينبغي أن تكون عليه هذه المعايير، أو حتى كيف يجري تشكيلها. وتختلف الدول الغربية بشكلٍ متميِّز في الحقوق التي تمنَحُها للأقليات المتعدِّدة، وفي المفرَدَات التي تستخدمها في وصف الأنواع المختلفة من الأقليات، وكذلك في الواقع تختلفُ في اعترافها أو عدم اعترافها بوجود «الأقليات»، فأين يُمكِن للمَرء أن يبحث لتشكيل المعايير الأوروبية لحقوق الأقليات؟!

ويسترجع الملاحظون أصحاب الذاكرة البعيدة المدى أن هذا السؤال سبق أن طُرِح قبل ذلك، في آخر مراحل الانهيارات الإمبريالية بعد الحرب العالمية الأولى، وقد نتَج عنه مخطَّط حماية الأقليات الذي قدَّمَته عصبة الأمم. ولقد ظهَرَت مجهوداتٌ قليلة لفحص هذا المخطَّط القديم، ولمحاولة تعلُّم درسٍ من نجاحاته وإخفاقاته لخدمة المناقشات الأوروبية المعاصرة (كوفاكس، ٢٠٠٣م؛ كورنويل، ١٩٩٦م؛ شارب، ١٩٩٦م؛ بيرنز، ١٩٩٦م؛ فينك، ٢٠٠٤م)، ولكن كما رأينا في الفصل الثاني، فإن مخطَّط حماية الأقلية التابعة لعصبة الأمم كان محدودًا ومخصَّصًا، وقد تضمَّن مسوداتٍ لاتفاقياتٍ وفقًا للدولة المَعْنية، لكن فقط بالنسبة إلى بعض الدول (وهي عادة الدول المهزومة أو المستقلة حديثًا)، وبالنسبة إلى بعض الأقليات فقط في هذه البلاد (عادة أولئك الذين لديهم دولةٌ قريبةٌ قوية)، بينما ترك الكثير من الأقليات الأخرى في البلدان الأخرى بغير حماية؛ فهو لم يُحاوِل صياغةَ معاييرَ عامة أو مقاييسَ دولية يتوقَّع من كل الدول الإيفاء بها، ويُمكِن لجميع الأقليات القومية أن تطالب بها؛ ومن ثَم فقد نُظر إليه على نطاقٍ واسع على أنه ليس أساسيًّا ولا مبدئيًّا. والواقع أن ذلك كان أحد الأسباب التي اخفقَت بسببها فكرة حقوق الأقليات، واختفَت على نطاقٍ واسع من سياق القانون الدولي بعد الحرب.

وكما سنرى في هذا الفصل، فإن المنظمات الأوروبية لم تستطع تجنُّب الانشغال بالمسائل الخاصة من التدخُّل وفقًا لظروف الدولة المعنية للدفاع عن أقلياتٍ معيَّنة في بلدانٍ معيَّنة. لكن في بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت هناك رغبةٌ قوية في تشكيل نهجٍ مبدئي أكثر في شكلِ معاييرَ أو مقاييس تشمَل أوروبا كلها. وقد أراد المسئولون عن صياغة هذه المعايير الأوروبية أن يجدوا مفهومًا لحقوق الأقلية يعبِّر عن القيم الديمقراطية الليبرالية التي يأملُ الغرب أو يتوقَّع أن تتبناها بلاد ما بعد الشيوعية، ويتضمَّن مفاهيمها حول قضايا علاقة الدولة بالأقلية. ولقد كان الهدف من هذه المعايير أو المقاييس التعرُّف على ما نتوقَّعه من الديمقراطية الليبرالية «الحديثة» المحترمة. ومع ذلك فقد كان عليهم أيضًا ضمانُ أن تكون هذه المعايير واقعية حقًّا، ويُمكِن أن تتحقَّق تحت الظروف المشئومة نسبيًّا في كثيرٍ من بلدان ما بعد الشيوعية؛ فقد كان الهدف العام، قبل كل شيء، هو أن تفعل شيئًا ما بالنسبة إلى الأخطار الوشيكة أو الكامنة للصراع العِرقي في المنطقة.

ومن الواضح أن صياغةَ مجموعةٍ من المعايير التي تجسِّد الآمال والتوقُّعات المتفائلة من أجل نشر منظورٍ ديمقراطيٍّ ليبرالي للتعدُّد العِرقي، وتقوم في الوقت نفسه بمواجهة المخاوف الضاغطة لعدم الاستقرار العِرقي، من الواضح أن ذلك مثَّل تحدِّيًا هائلًا. وأكثر من ذلك، فبالنظر إلى إلحاح الموقف، توقَّع مُعِدو المسوَّدات أن يقوموا بذلك، على عجَل، من دون وقتٍ للاستشارات الدقيقة والعميقة مع المستفيدين، ببحثٍ نسقي حول فاعلية الأنواع المختلفة للسياسات المتعلقة بالدولة والأقلية.

بالنظر إلى صعوبة المهمة، والإطار الزمني القصير، فإننا لن نندهش إذا ما عانت المعايير الناتجة قصورًا خطيرًا. والواقع أنني أعتقد أن استراتيجية تشكيل المعايير القانونية الشاملة لأوروبا قد فشلَت بشكلٍ أساسي، على الأقل من حيث أهدافها الأصلية؛ فقد فشلَت في الجمع، على نحوٍ متماسك، بين الهدف الطويل المدى لنشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية والحاجة القصيرة المدى لمنع الصراعات العِرقية المحتمَلة وحلها، وانتهى بها الأمر إلى عدم تحقيق أيٍّ منهما. في حين أن استراتيجية «أفضل الممارَسات» دعمَت بشكلٍ ساذج التعدُّدية الثقافية الليبرالية، من دون الانتباه إلى عناصر الخطورة المباشرة؛ فقد عانت استراتيجية المعايير القانونية في بعض النواحي المُشكِلة المُعاكِسة بالتضحية بالأهداف البعيدة المدى، على مذبح المنفعة القصيرة المدى.

تشكيل معايير حقوق الأقليات الأوروبية: عامة أو مستهدفة

هذا التوتُّر الأساسي بين الأهداف البعيدة المدى والضرورات القصيرة المدى يظهر من جديدٍ خلال إطار العمل الحالي للمعايير الأوروبية لحقوق الأقليات، لكنَّ واحدًا من أوضح الأمثلة يتعلق بالسؤال عن التصنيفات أو الفئات؛ ففي أي محاوَلةٍ لتشكيل معاييرَ عالمية لحقوق الأقليات، تتعلق أول خطوة، وأكثرها مصيرية، باختيار الفئات: ما نوع الأقليات التي نسعى إلى حمايتها؟ إن أنواع الحقوق التي تبدو واقعية، ويُمكِن الدفاعُ عنها سوف تُحدَّد بشكلٍ واسع بواسطة السؤال السابق عمن نقصدهم من أنواع الأقليات المستفيدة. وسوف يتضح لنا أن الإجابة عن هذا السؤال أكثر صعوبة مما يتوقَّعه المرء؛ لأن الأهداف البعيدة المدى والضغوط القصيرة المدى تشير إلى اتجاهاتٍ مختلفة.

كما ذكرنا في الفصل الأول، هناك استراتيجيَّتان لتصنيف حقوق الأقليات؛ فيُمكِننا أن نشكِّل «حقوق أقلياتٍ عامة» تنطبق على كل الأقليات العِرقية الثقافية، أو أن نشكِّل «حقوق أقلياتٍ مستهدَفة» تنطبق على أنواعٍ محددة من الأقليات مثل السكان الأصليين، والأقليات القومية، والمهاجرين، والغجَر، وما إلى ذلك.

ويُمكِننا أن نجد مثالًا واضحًا لاستراتيجية حقوق الأقليات العامة في الأمم المتحدة. كما رأينا في الفصل الثاني، فإن فكرة حقوق الأقليات، بالرغم من أنها رُفضَت بشكلٍ عام بعد الحرب العالمية الثانية، فقد حافظَت على مركزها في «فقرة الأقليات» الشهيرة من البند «٢٧» من ميثاق الأمم المتحدة الدولي للحقوق المدنية والسياسية العام ١٩٩٦م، والذي يُقِر بأنه: «في تلك الدول التي تُوجَد بها أقلياتٌ عِرقية أو دينية أو لغوية، فإن الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الأقليات يجب ألا يُحرَموا من حقِّ التمتُّع بثقافتهم الخاصة، والإفصاح عن ديانتِهم وممارسةِ طقوسِها، واستخدام لُغتِهم الخاصة، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتِهم.»

ولقد ظهَرَت الطبيعة الشاملة (العامة) لهذه الفِقرة مع مرور الوقت؛ فعندما جرى تبنِّيها للمرة الأولى العام ١٩٦٦م، تُرك الأمر غامضًا بشأن ما إذا كان المقصود أن تُطبَّق حقوقُ الأقليات العامة على جميع الأقليات العِرقية الثقافية. وأصَر العديد من بلدان العالم الجديد، على سبيل المثال، على أن جماعات المهاجرين لا يجب اعتبارها «أقليات عرقية، دينية أو لغوية»؛ وبالتالي فإن النص ينطبقُ فقط على الأقليات التاريخية في بلدان العالم القديم التي نشأَت نتيجةً للتنقُّلات السكانية أو تغيُّرات الحدود الدولية؛ فقد صرح ممثل البرازيل، على سبيل المثال، بأنهم «لا يعترفون بوجود الأقليات في القارة الأمريكية»؛ حيث إن «مجرد الوجود المشترك أو التعايُش للجماعات المختلفة في منطقة تحت سلطة دولةٍ واحدة لا يجعلها أقلياتٍ بالمعنى القانوني؛ فالأقلية نتجَت عن نزاعٍ لفترةٍ ما بين الأمم، أو انتقال منطقةٍ من سلطة دولة إلى دولةٍ أخرى» (اقتُبس في كتاب ثورنبيري، ١٩٩١م، ص١٥٤). وقل مثل ذلك بالنسبة إلى كثيرٍ من الدول الأفريقية التي شاركت في صياغة البند رقم «٢٧» مثل ليبيريا، وغينيا، ومالي، وغانا؛ حيث أصرَّت على أن النص لا ينطبق عليها. ومن هذا المنظور فإن مفهوم «الأقليات» ينطبق فقط على «الأقليات القومية» الأوروبية، ولا ينطبق على كلٍّ من دول العالم الجديد أو العالم الثالث. والواقع أن الدفعة الأساسية للبند «٢٧» جاءت من دولٍ أوروبية عديدة حافظَت على اهتمامها الطويل المدى بموضوع الأقليات في أوروبا، والتي أرادت أن تعمل على إحياء نسخةٍ ما من مخطَّط عصبة الأمم القديم لحماية الأقليات؛٣٠ ولهذا، فإن نطاق الجماعات التي يغَطيها البند رقم «٢٧» لم يكن واضحًا.
لكن مع مرور الوقت تُرجم هذا البند بواسطة لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على أنها تنطبق على جميع الأقليات العِرقية الثقافية، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، حديثة أو تاريخية، مركَّزة بشكلٍ إقليمي، أو مبعثرة. والواقع أن اللجنة قد أعلنت أخيرًا أن البند رقم «٢٧» ينطبق حتى على الزوار داخل البلد!٣١ وبعبارةٍ أخرى البند «٢٧» يمكن رؤيتُه في الواقع كحقٍّ ثقافيٍّ عام، كحقٍّ يُمكِن أن يدَّعيه أيُّ مواطن، ويحمله معه أينما سار عَبْر أنحاء العالم.

ولكن لهذا السبب وحده فإنه يُعاني قصورًا لا مندوحة عنه؛ فلو أننا حاولنا أن نتعرَّف على حقوقٍ ثقافيةٍ محدَّدة تنطبق على كل الجماعات، أيًّا كانت كبيرة أو صغيرة، جديدة أو قديمة، مركَّزة أو مشتَّتة، فمن الصعب أن نفكِّر في أمثلةٍ جوهريةٍ كثيرة. والواقع أن عبارة «حق المرء في الاستمتاع بثقافته» من البند «٢٧» فُهمَت أساسًا كضمانٍ للحقوق السالبة الخاصة، بعدم التدخُّل، بدلًا من الحقوق الإيجابية بالمساعدة والتمويل والحكم الذاتي، أو وضع اللغة الرسمية. والواقع أنها أكَّدَت من جديدٍ أن أعضاء الأقليات لا بد أن يكونوا أحرارًا في ممارسة حرياتهم المدنية — أعني الحق في حرية التعبير، والتجمُّع والضمير.

وإذا فَهِمنا الحقوق العامة على هذا النحو، لوجَدنا أن المنظور الذي يعكسه البند رقم «٢٧» يُرى على أنه لا يكفي للتعامل مع تحديات الصراع العِرقي في أوروبا ما بعد الشيوعية. إن الحدود الدُّنيا من ضمانات الحريات المدنية، على الرغم من أنها حيوية وأساسية، إنما هي غير كافية لمواجهة القضايا الكامنة في العنف المحتمَل والنزاعات العِرقية المُزعزِعة للاستقرار في أوروبا ما بعد الشيوعية. ولقد تركَّزَت هذه الصراعات حول العديد من الدعاوى الإيجابية، كالحق في استخدام لغة الأقلية في المحاكم أو في الإدارة المحلية، وتمويل مدارسِ وجامعات الأقليات، وأجهزة الإعلام، وامتداد الحكم الذاتي المحلي أو الإقليمي، وضمان التمثيل السياسي للأقليات، أو حظر خطَط التوطين المصمَّمة لتبادل الأقليات في أراضيهم التاريخية مع المقيمين من الجماعة المُسيطِرة. ولم يكن لدى البند رقم «٢٧» شيء يقولُه بصدد هذه القضايا؛٣٢ فهي تحمي حقوقًا مدنية معيَّنة ترتبط بالتعبير الثقافي، لكنها لا تمنع الدول من إلغاء تمويل مدارس لغة الأقلية وجامعاتها، أو إلغاء الحكم الذاتي المحلي، أو تزييف القواعد الانتخابية والحدود الدستورية، أو تشجيع المقيمين على تبادُل الأرض مع الأقليات. إن أيًّا من تلك السياسات، التي قد تكونُ كارثيةً على الأقليات القومية، والتي غالبًا ما تؤدي إلى صراعاتٍ عنيفة، لا تنتهكُ حقَّ الاجتماع والتعبير الثقافي المصونَين في البند «٢٧»،٣٣ ولو أُريد للمقاييس الأوروبية أن تكون مفيدةً في حل مثل هذه الصراعات، فلا بُد لها أن تُواجِه قضايا حقوق الأقليات الإيجابية.

والمشكلة هنا ليست ببساطة النص الخاص بالبند «٢٧»، وإنما هي كامنةٌ في استراتيجية الاعتماد، حصريًّا، على حقوق الأقلية العامة. إن الالتزام بتحديد الحقوق الثقافية العامة يحدُّ من أنواع حقوق الأقلية التي من المُمكِن الاعتراف بها، وبالتحديد يمنع الدعاوى التي تترتب على حقائق الاستيطان التاريخي، أو التمركز الإقليمي؛ حيث يعلن البند رقم «٢٧» حقًّا ثقافيًّا عالميًّا يمكن أن ينطبق على جميع الأفراد، حتى المهاجرين والزوار، فإنه لا يعلن حقوقًا ترتبط بحقيقة أن جماعةً ما تعيش (كما تعتقد) في وطنِها التاريخي، مع أن الدعاوى المُرتبِطة بالإقامة في الوطن التاريخي هي تحديدًا المعرَّضة للخطر في جميع الصراعات العِرقية العنيفة في أوروبا ما بعد الشيوعية — على سبيل المثال في البوسنة، وكوسوفو، ومقدونيا، وجورجيا، والشيشان، ونغورنو-كاراباخ. والواقع أن دعاوى أرض الوطن تتمركَز في قلب معظم الصراعات العِرقية العنيفة في الغرب أيضًا (على سبيل المثال في الباسك وقبرص، وكورسيكا، وأيرلندا الشمالية). وفي جميع هذه الحالات تُطالِب الأقلية بالحق في حكم نفسها فيما تراه على أنه أرضُ الوطن التاريخية، فضلًا عن الحق في استخدام لغتها في المؤسسات العامة داخل إقليمها التقليدي، وأن تحتفل بلغتها، وتاريخها، وثقافتها في المجال العام (على سبيل المثال في تسمية الشوارع، واختيار الإجازات، ورموز الدولة)، ولا يُمكِن النظر إلى أيٍّ من هذه المطالب على أنها عالمية أو يُمكِن انتقالها على نحوٍ مقبول؛ فهي تنطبق فقط على أنواعٍ محدَّدة من الأقليات لها تاريخ ومنطقة من نوعٍ محدَّد. باختصار، جميع هذه الحالات هي حالاتٌ من النزاع القومي العِرقي، تدور حول مطالبَ متنافسة للقومية وللمنطقة القومية.

وكي تكون المعاييرُ الأوروبية مفيدةً في حل النزاعات الضاغطة في أوروبا ما بعد الشيوعية، فإن عليها الذهابَ إلى ما هو أبعدُ من حقوق الأقليات العامة، لتشكل حقوق الأقليات المُستهدَفة، بالتركيز على أنواعٍ خاصة من الجماعات العِرقية القومية المتورِّطة في تلك الصراعات. وفضلًا عن ذلك فإن التحرُّك نحو منظورٍ مُستهدَفٍ أكثر يُمكِن أن يُساعِد كذلك في توضيح ونَشْر منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية. وكما رأينا في الفصل الثالث، فإن التعددية الثقافية الليبرالية في الغرب تعمل بطريقة الجماعة المتمايزة؛ المهاجرين، الأقليات القومية، السكان الأصليين، كانوا جميعًا قد تحرَّكوا عَبْر طرقٍ مختلفة فيما يخُص حقوق الأقليات الخاصة بهم. بقَدْرِ ما قُصد للمعايير الأوروبية أن تُساعِد على انتشار منطق أو روح التعددية الثقافية الليبرالية، فإن التحوُّل إلى أسلوبٍ أكثر استهدافًا سوف يُساعِد على إبراز مشروعية حقوق الأقليات المتمايزة باختلاف الجماعة.

ونتيجة لذلك فإن المعايير الأوروبية الجديدة التي انبثقَت منذ العام ١٩٩٠م هي كلها أمثلة لحقوق الأقليات المستهدفة — وهي بصفةٍ خاصة، تستهدف ما يُطلَق عليه الأقليات القومية؛ فعلى حين أن البند «٢٧» يجمع بين الأقليات «القومية، والعِرقية، والدينية واللغوية»، فإن الاتفاقية الإطارية للمجلس الأوروبي تشير فقط إلى «الأقليات القومية». وبالمثل فإن مكتب منظَّمة الأمن والتعاون في أوروبا يُطلَق عليه اللجنة العليا للأقليات القومية. على حين أنه ليس ثمَّة تعريفٌ متفَق عليه عالميًّا للأقليات القومية، فإن للمصطلح تاريخًا طويلًا في الدبلوماسية الأوروبية، كان يُشير إلى ما قد أُطلِق عليه الجماعات الفرعية. وهذه الجماعات المستقرة تاريخيًّا في أرض الوطن هي الخاسرة، في الواقع، في عملية تكوين الدولة الأوروبية، سواء انتهى الأمر من دون تأسيس دولةٍ خاصةٍ بهم (أمة بلا دولة مثل الباسك والشيشان)، أو انتهى بهم الأمر في الجانب الخاطئ من الحدود، معزولين عن الدولة القريبة المجاوِرة المشترِكة معهم في العِرق (أقليات الدولة القريبة مثل العِرق الألماني في إيطاليا، أو العِرق المجري في رومانيا).

وكما رأينا، فإن هذه الأنواع من الجماعات المتورِّطة في النزاعات العِرقية المُزعزِعة للاستقرار هي التي ولدَت الحاجة إلى معاييرَ أوروبيةٍ في المقام الأول؛ ومن ثَم فقد كان من المناسب أن نركِّز عليها منذ اللحظة الأولى عند تشكيل المعايير المستهدَفة؛ فمعظم البلاد الأوروبية قد أعلنَت بشكلٍ واضح أن جماعات المهاجرين ليسوا أقلياتٍ قومية، كما أن البعض استبعَد أيضًا الغجَر من جماعات الأقلية القومية، على أساس أنها ليست أقليات إقليمية.٣٤ ولقد ازدادت مناقشة هذه الاستبعادات، لأسبابٍ سأوضِّحها فيما بعدُ، وكانت النتيجة هي تعايُش الفهم التقليدي للأقلية القومية في المناقشات الأوروبية، جنبًا إلى جنب، مع تعريفاتٍ أكثر جدة وأكثر اتساعًا وأقل ارتباطًا بالتاريخ والإقليم. غير أن المنظَّمات الأوروبية، أصلًا على الأقل، كانت تستهدف بجهودها الأقليات القومية الفرعية المُستقِرَّة تاريخيًّا.٣٥
هذا الالتزام لتطوير المعايير الموجَّهة للأقليات كان شجاعًا؛ فلم تحاول أي هيئةٍ دوليةٍ أخرى صياغة مثل هذه المعايير. ولقد طوَّرَت العديدُ من المنظمات الدولية حقوقًا موجَّهة لأنواعٍ أخرى من جماعات الأقلية. على سبيل المثال، الأمم المتحدة، منظمة العمل الدولية، منظمة الولايات المتحدة، كلها طوَّرَت معاييرَ موجَّهة تتعلق بالسكان الأصليين، كما سوف نرى في الفصل السابع، وبعض هذه المنظَّمات قد شكَّل أيضًا معاييرَ موجَّهة إلى المهاجرين،٣٦ ومع ذلك لا يُوجَد من قام بمثل تلك المحاولة لتشكيلِ معاييرَ دوليةٍ موجَّهة إلى الأقليات القومية.
هذه الهوَّة محيِّرة؛ فلو أن المرء فكَّر في أنواع العلاقات بين الدول والأقلية، مع أعظم احتمالٍ للأذى والضرر، والظلم والعنف، لكان في استطاعته أن يقول إنها تتضمَّن الأقلياتِ القوميةَ على نحوٍ نموذجي؛ فعلى حين أن كلًّا من السكان الأصليين والمهاجرين مجموعاتٌ ضعيفة ومعرَّضة للخطر، وفي حاجةٍ إلى حمايةٍ دولية، فإن معظَم المنازَعات العِرقية العنيفة والمُزعزِعة للاستقرار حول العالم تتضمَّن منازعاتٍ بين الدول، وجماعات أرض الوطن العِرقية القومية. وهذا صحيحٌ ليس فقط بالنسبة إلى أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية، كما رأينا، ولكن أيضًا بالنسبة إلى آسيا، والشرق الأوسط، وأفريقيا (على سبيل المثال: كشمير، وتاميل عيلام، آتشه، وكردستان، وتيغراي، وأورومو، وأغوني … إلخ). وكما لاحظ ووكر كونور، فإن ظاهرةَ قوميةِ الأقلية هي حقًّا ظاهرةٌ عالمية، وإن البلدان التي تأثَّرَت بها تُوجَد في أفريقيا (على سبيل المثال إثيوبيا)، وآسيا (سيريلانكا)، وأوروبا الشرقية (رومانيا)، وأوروبا الغربية (فرنسا)، وأمريكا الشمالية (غواتيمالا) وأمريكا الجنوبية (غويانا) وأوقيانا Oceania (نيوزيلندا). وتتضمَّن القائمة بلدانًا قديمة (المملكة المتحدة)، بالإضافة إلى البلاد الجديدة (بنغلاديش)، وبلادًا كبيرة (مثل إندونيسيا)، بالإضافة إلى بلادٍ صغيرة (مثل فيجي)، وبلادًا غنية (مثل كندا) إلى جانب بلادٍ فقيرة مثل باكستان، وماركسية لينينية (الصين)، بالإضافة إلى بلادٍ معادية للماركسية (تركيا)، وتتضمن القائمة كذلك بلادًا بوذية (بورما)، ومسيحية (إسبانيا)، وإسلامية (إيران)، وهندوسية (الهند)، ويهودية (إسرائيل). (كونور، العام ١٩٩٩م، ص١٦٣-١٦٤).

وفي هذا الضوء، فإن تطويرَ معاييرَ دوليةٍ تتعامل مع التحديات الصعبة التي تُثيرها الجماعاتُ العِرقية القومية هي المهمة المركزية لنظرية حقوق الأقليات وتطبيقها حول العالم؛ ولذلك، فإن للتجربة الأوروبية في تحديد هذه المعايير أهميةً محورية. وتتضمَّن الصعوباتُ التي واجهَت هذه التجربة دروسًا مهمَّة للمشروع الأكثر عمومية لتطوير المعايير الدولية.

صياغة حقوق «الأقليات القومية»

وعلى ذلك، فالتحدي الذي كان يُواجِه المنظَّمات الأوروبية هو صياغةُ معاييرَ تستطيع أن توفِّر قواعدَ مبدئيةً للاستجابة لمطالب الجماعات العِرقية القومية، بطريقةٍ تعكس قيمًا ديمقراطيةً ليبرالية مميزة توفِّر توجيهًا فعَّالًا للتعامل مع مخاطر الصراع العِرقي المُزعزِع للاستقرار.

وبالنظر إلى التجربة الناجحة نسبيًّا للأنظمة الديمقراطية الغربية مع النظام الفدرالي المتعدِّد القوميات، والأمثلة المتعدِّدة لأفضل الممارَسات التي تضمَّنَت الحكم الذاتي الإقليمي، ووضع اللغة الرسمية، فقد كان التوجُّه الأول للعديد من المعلِّقين هو محاولة صياغة مبدأ الحكم الذاتي بالنسبة إلى الأقليات القومية. وكما سبق أن رأينا، لو كان هناك ما يُسمَّى ﺑ «المعيار الأوروبية» للتعامل مع الأقليات القومية المتحركة في الغرب، فسوف يكون الحكم الذاتي الداخلي هو هذا المعيار.

ومن الواضح أن محاولة صياغة مثل هذا المعيار سوف تتجاوز البنود الضعيفة للمادة رقم «٢٧»، لكنها لن تكون سابقةً تمامًا في القانون الدولي؛ فهناك مبدأ استقر منذ مدةٍ طويلة في القانون الدولي يقول إن لكل «الشعوب» الحق في «تقرير المصير»، ويُمكِن للحكم الذاتي الداخلي أن يُرى كامتدادٍ أو تطبيقٍ لهذا المبدأ. كما أن حقَّ تقريرِ المصير راسخٌ في تأسيس ميثاق الأمم المتحدة، وأُعيد تأكيدُه في البند رقم «١» العام ١٩٦٦م في الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية؛٣٧ ومن ثَم فهو معيارٌ راسخ في القانون الدولي، على الرغم من أنه لم يُطبَّق بشكلٍ تقليدي على الأقليات القومية. ومع ذلك، يرى بعض المحلِّلين أن من المناسب ومن الواجب أن يُطبَّق تفسيرٌ مراجع لمبدأ تقرير المصير على الأقليات القومية، وهو ما سيُمِدنا بأساسٍ مبدئي للتعامل مع قضاياهم.

ومن المقبول بصفةٍ عامة أن حق تقرير المصير في البند رقم «١» لا يُمكِن أن يمتد ببساطةٍ وبشكلٍ غير متكافئ ليشمل الأقليات القومية، ما دام يُفهم بشكلٍ نموذجي على أنه يشمل الحق في تأسيس دولةٍ خاصة؛ ولهذا السبب تحديدًا، كان نطاقُه محدودًا للغاية في القانون الدولي. ولقد حدَّه ما يُطلَق عليه اسم «أطروحة الماء المالح». وعلى الرغم من أن البند يقول إن «لجميع الشعوب» الحقَّ في تقرير المصير، فالواقع أن الشعوب التي استطاعت أن تُطالِب بهذا الحق، هي الشعوب الخاضعة للاستعمار في وراء البحار (الاستعمار الخارجي). أما الأقليات القومية داخل أراضي دولةٍ مجاوِرة فلم يحدث أن اعتُرف بها ﮐ «شعوبٍ» منفصلة لها حقُّ تقرير المصير، وبغَض النظر عن تمايُزها ثقافيًّا وتاريخيًّا، فجماعات الاسكتلنديين، والأكراد، قد يظُنون أنهم شعبٌ منفصل أو متميز، وقد يقبل معظم المؤرِّخين وعلماء الاجتماع هذه الصفة، غير أن المجتمع الدولي لا يعترفُ بهم على هذا النحو، خشية أن يتضمَّن ذلك الحق في إقامة دولةٍ مستقلة.

ومع ذلك لو أننا تبنَّينا تفسيرًا أكثر تواضعًا لحق تقرير المصير، وكان تفسيرًا يتسق مع نزاهة الدولة الإقليمية، فسيكون من المُمكِن أن يمتدَّ نطاقُه ليشمل الأقليات الإقليمية. وهذا هو هدف النماذج المتعدِّدة «حق تقرير المصير الداخلي». ووفقًا لهذه النماذج، فإن الأقليات القومية ﮐ «شعوب» أو «قوميات» مميزة تعيش في أرض الوطن التاريخية، لديها الحقُّ في شكلٍ ما من أشكال تقرير المصير داخل حدود الدولة الأكبر، وغالبًا من خلال شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي الإقليمي. ولقد ذهب كثيرٌ من الشُّراح والمفسِّرين إلى أنه من التطرُّف الأخلاقي أن يُمنح حق تقرير المصير للشعوب الخارجية فيما وراء البحار، ويُنكَر بالنسبة إلى الشعوب الداخلية؛ فلكلٍّ منها حسٌّ بالقومية المتفرِّدة والرغبة في الحكم الذاتي، كما أن كلًّا منها قد تعرَّض على نحوٍ نموذجي للقَهر والضَّم القَسري وللتفرقة العنصرية التاريخية؛ ولذلك فإن المنظور المتَّسِق أخلاقيًّا مع تقرير المصير سوف يُدرِك إمكانَ تطبيقه على الأقليات القومية الداخلية (والسكان الأصليين)، على الأقل في صورة الحق في الحكم الذاتي الإقليمي (مور، ٢٠٠١م).

وليس لهذا المنظور ميزةُ تشجيعِ الاتساقِ الأخلاقيِّ الأعظمِ في القانون الدولي فقط، ولكنه يعكس أيضًا الممارسة الفعلية لمعظم الديمقراطيات الغربية؛ ولذلك ففي أوائل تسعينيات القرن الماضي دفَع العديد من التنظيمات الثقافية والسياسية التي تُمثِّل الأقليات القومية، بالاعتراف الدولي بحق تقرير المصير الداخلي. وفي فترةٍ قصيرة من العام ١٩٩٠م إلى العام ١٩٩٣م كانت هناك بعضُ الإشاراتِ إلى أن هذه الجملة ربما تكون قد نجحَت. وكما رأينا من قبلُ، فإن التصريح الأول الذي أعلنَتْه منظمةٌ أوروبية عن حقوق الأقليات بعد انهيار الشيوعية — إعلان منظمة الأمن والتعاون الأوروبية في كوبنهاغن (OSCE) العام ١٩٩٠م — قد صادَق بصراحةٍ على الحكم الذاتي الإقليمي. وجاء التأييد الأكثر قوةً للحكم الذاتي الإقليمي في العام ١٩٩١م، عندما أعلنَت المفوضية الأوروبية أن الجمهوريات اليوغسلافية التي تسعى إلى الاستقلال ينبغي أن يكون لها «وضعٌ خاص» بالنسبة إلى المناطق التي تُشكِّل فيها الأقلياتُ القومية أغلبيةً محلية، أُسوةً بنموذج تيرول Tyrol الجنوبية على سبيل المثال.٣٨ كان ذلك إلى حدٍّ ما محاولةً للعثور على حلٍّ مقنع للتحديات الخاصة التي نشأَت بوساطة الأقلية الصربية في كرواتيا، ولكن المُهِم هو أن المفوضية الأوروبية قد صاغت استجابتَها في شكل مبدأ أكثر عمومية، يُصادِق على الحكم الذاتي الإقليمي للأقليات القومية في الدول الجديدة التي تسعى إلى اعتراف الاتحاد الأوروبي بها.

ولقد أُعيد تأكيد هذا المبدأ وتعميمه في العام ١٩٩٣م، في التوصية رقم ١٢٠١ في الاجتماع البرلماني للمجلس الأوروبي. وهي تحتوي على فِقرة (بند رقم «١١») تُقرِّر أنه: «في المناطق التي يمثِّلون فيها أغلبية، فإن للأشخاص الذين ينتمون إلى الأقليات القومية الحقَّ في سُلطاتِ حكمٍ ذاتي أو سلطاتٍ محليةٍ مناسبة، وأن تكون لهم مكانةٌ متميِّزة، تتوافق مع هذا الوضع المتميِّز تاريخيًّا وإقليميًّا ومع التشريع المحلي للدولة.»

وعلى خلاف إعلان كوبنهاغن لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبية OSCE العام ١٩٩٠م، فإن هذه التوصية البرلمانية العام ١٩٩٣م تعترف بالحكم الذاتي الإقليمي ﮐ «حق»، وليس مجرد ممارسةٍ جيدة. وعلى عكس توجيهات المفوضية الأوروبية العام ١٩٩١م، فإنها تطبِّقها على الدول الأوروبية بشكلٍ عام، وليس فقط على الدول الجديدة التي تسعى إلى الاعتراف بها.
وباختصارٍ، في الفترة بين العامَين ١٩٩٠م و١٩٩٣م وافقَت المنظَّمات الأوروبية الثلاث الرئيسية على الحكم الذاتي الإقليمي، سواء كأفضل ممارَسة (منظمة الأمن والتعاون ١٩٩٠م OSCE)، أو كشرطٍ للاعتراف باستقلال دولٍ جديدة (المفوضية الأوروبية في العام ١٩٩١م) أو كحقٍّ مُقترَح في ظل القانون الدولي (الاجتماع البرلماني للمجلس الأوروبي العام ١٩٩٣م).

ولقد رأى كثيرٌ من منظَّمات الأقليات القومية في أوروبا ما بعد الشيوعية في هذه التطوُّرات انتصارًا لها؛ فمنظَّمات العِرقية المجَرية على وجه التحديد رأتها دليلًا على أن أوروبا ستدعم مطالبها في الحكم الذاتي في سلوفاكيا، ورومانيا، والصرب. وافتَرضَت أن التوصية رقم ١٢٠١ ستؤدي دورًا حاسمًا في اتفاقية المجلس الأوروبي الإطارية لحماية الأقليات القومية التي كانت تُكتب مسوَّدتها في الوقت نفسه، وأن الاستجابة لهذه التوصية ستكون مطلوبةً للبلاد المرشَّحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وقد دعمَت هذا التوقُّع التطوراتُ التي كانت تحدث في الأمم المتحدة؛ حيث جرى الحديث هناك أيضًا حول مساندة الحق في الحكم الذاتي. في العام ١٩٩٤م، على سبيل المثال، قدَّمَت ليختنشتاين٣٩ للجمعية العامة للأمم المتحدة «مسوَّدة لميثاق الحكم الذاتي من خلال الإدارة الذاتية»، التي اعترفَت بحق الحكم الذاتي الداخلي لكل «الشعوب»، وحيث عُرِّفَت الشعوب بشكلٍ واضح بحيث تشمل أقليات أرض الوطن الفرعية.٤٠ وعلى سبيل المثال، يُقِر البند رقم «٢» من مسوَّدة هذا الميثاق بأن: «لجميع الشعوب الحق في تقرير المصير. من داخل إطار العمل لهذا الحق، فإن كل دولةٍ مشتركة في الميثاق الحالي ستحترم طموحاتِ جميع المجتمعات داخل حدودها بدرجةٍ مناسبة من الإدارة الذاتية، وستضمن لهم تلك الدرجة من الحكم الذاتي.»
أما مسوَّدة اتفاق «ليختنشتاين» فلم تتقدم كثيرًا في الأمم المتحدة، بل هي دليلٌ على مدى انتشار أفكار حق تقرير المصير الداخلي في ذلك الوقت. وفضلًا عن ذلك، فإن هذه الأفكار ظهَرَت أيضًا في سياقٍ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقانون الدولي، وأعني به حقَّ السكان الأصليين. وكما سنرى في الفصل التالي، فإن مسوَّدة إعلان الأمم المتحدة العام ١٩٩٣م بشأن حقوق السكان الأصليين تحتوي على بنودٍ متعدِّدة تؤكِّد مبدأ حق تقرير المصير الذاتي. وأكثر البنود وضوحًا هو البند رقم (٣)، الذي يُقِر بأن «للسكان الأصليين الحقَّ في تقرير المصير. وبموجب هذا الحق يكون لهم أن يقرِّروا بحريةٍ وضعَهم السياسي، وأن يسعَوا بحريةٍ نحو نُموهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي». ومسوَّدة الإعلان هذه لا تزال مسوَّدة؛ ومن ثَم لم تصبح بعدُ قانونًا دوليًّا. غير أن الفكرة الأساسية التي تقول إن للسكان الأصليين الحقَّ في تقرير المصير الداخلي قد صُودق عليها الآن على نطاقٍ واسع من خلال المجتمع الدولي، كما أنها تنعكس في إعلاناتٍ دولية حديثة أخرى بصدَد السكان الأصليين، بما في ذلك منظَّمة الولايات الأمريكية ومنظَّمة العمل الدولية.٤١
ويُوضِّح لنا ذلك أنه ليس ثمَّة مبرِّرٌ ملازم يعلِّل لماذا لا يستطيع القانون الدولي أن يقبل فكرة تقرير المصير الداخلي. إن وضع الأقليات القومية في أوروبا ما بعد الشيوعية ليس هو نفسه وضع السكان الأصليين في الأمريكتَين أو في آسيا. لكن هناك بعضُ التشابه المهم في كلٍّ من التاريخ والطموحات، وكثيرٌ من المناقشات حول الاعتراف بحقِّ تقرير المصير الداخلي للسكان الأصليين أيضًا ينطبق على الأقليات القومية٤٢ (وسأعود إلى هذه التشابهات والاختلافات بين الأقليات القومية والسكان الأصليين في الفصل التالي).
ومن ثَم هناك العديد من المبرِّرات التي تفسِّر استطاعة الأقليات القومية في دول ما بعد الشيوعية أن تأمل على نحوٍ معقول أن يُصنَّف شكلٌ ما من أشكال الحكم الذاتي الداخلي كجزءٍ من «المعايير الأوروبية» للتعامل مع الأقليات القومية. والواقع أن الحكم الذاتي الداخلي هو معيار الممارسة داخل أوروبا الغربية في يومنا الراهن، فقد اعتُرف به كمبدأ صحيح ومشروع في القانون الدولي فيما يتعلق بالسكان الأصليين، ومن الممكن رؤيتُه كتطبيقٍ أكثر ملاءمةً لفكرة تقرير المصير للشعوب، متجنِّبًا تعسُّف تفسير «الماء المالح» التقليدي، ولقد صُودق عليه ببياناتٍ مهمة من قِبل المنظَّمات الأوروبية، مثل «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» (O.S.C.E) في العام ١٩٩٠م، والمفوضية الأوروبية العام ١٩٩١م، والجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي العام ١٩٩٣م. ولقد كانت هناك أحاديثُ طويلةٌ عن «حق الحكم الذاتي» في كلٍّ من أوروبا والأمم المتحدة. والواقع أن العديد من الشُّراح الأكاديميين ذهبوا إلى أن صياغة مثل هذا الحق ستُوضِّح ما كان كامنًا بالفعل، ثم انبثق في القانون الدولي.٤٣
ومع ذلك فقد اتضَح أن توصية الجمعية البرلمانية رقم ١٢٠١ تعكس أوج المساندة للحكم الذاتي الإقليمي داخل المنظمات الأوروبية، ومنذ ذلك الحين كانت هناك حركةٌ ملحوظة بعيدًا عنها. أما اتفاقية إطار العمل، التي تم تبنِّيها بعد عامَين فقط من التوصية رقم ١٢٠١، فقد رفَضَت بحسمٍ نصيحة الجمعية البرلمانية، وتجنَّبَت أي إشارة إلى الحكم الذاتي الإقليمي؛ فلم يُعترف فقط بالحكم الذاتي الإقليمي كحق، بل إنه لم يُذكر حتى كممارسةٍ موصًى بها. ولم يظهر الحكم الذاتي في أي إعلانٍ لاحق أو توصيةٍ لأي منظمةٍ أوروبية، مثل سلسلة توصيات لاهاي Hague، وأوسلو Oslo، ولند Lund التي تم تبنِّيها بوساطة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا من العام ١٩٩٦م إلى العام ١٩٩٩م،٤٤ أو الدستور الجديد للاتحاد الأوروبي،٤٥ ولقد حكمَت المفوضية الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون بأن الأقليات القومية ليست لديها أي حقوقٍ في التقرير الذاتي، حتى في شكل تقرير المصير الداخلي (المفوضية الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون العام ١٩٩٦م)؛ ولهذا فقد اختفت جميعُ النوايا والمقاصد والأهداف والأفكار حول التقرير الذاتي الداخلي من مناقشة «المعايير الأوروبية» لحقوق الأقلية.
وهناك عددٌ من الأسباب تفسِّر هذا الموقف. أولًا، كان هناك اعتراضٌ قوي لفكرة ترسيخ حق الحكم الذاتي الإقليمي بالنسبة إلى الأقليات في الغرب، وإلى فكرة المراقبة الدولية لكيفية معاملة الدول الغربية لأقلياتها؛ فلقد عارضَت فرنسا واليونان، وتركيا، بشكلٍ تقليدي، الفكرة الأساسية لحقوق الحكم الذاتي للأقليات القومية، والواقع أنها أنكَرَت وجود أقلياتٍ قومية أصلًا (ديمتراس، العام ٢٠٠٤م)، بل حتى تلك البلاد الغربية التي منَحَت الاستقلال الذاتي لجماعاتها الفرعية القومية لا ترغب بالضرورة في أن تخضَع قوانينُها وخططُها بخصوص الأقليات القومية للمراقبة الدولية. ويصدُق ذلك — على سبيل المثال — على سويسرا والولايات المتحدة (شاندلر، العام ١٩٩٩م، ص٦٦–٦٨؛ وفورد، العام ١٩٩٩م، ص٤٩). إن معاملة الأقليات في كثيرٍ من البلدان الغربية لا تزال موضوعًا سياسيًّا حساسًا، ولا ترغبُ كثيرٌ من البلدان في أن يُعاد فتحُ مستعمَرات الأقلية والأغلبية المقيمة، نتيجةً لمفاوضاتٍ مؤلمة وطويلة، عن طريق وكالات المراقبة الدولية. وباختصارٍ، على حين أنها كانت على استعدادٍ للإصرار على مراقبة معاملة بلاد ما بعد الشيوعية للأقليات، فإن الأنظمة الديمقراطية الأوروبية لم ترغَب في أن تُفحَص معاملتُها هي للأقليات القومية.٤٦
هذه المقاومة من داخل الغرب ربما كانت كافيةً للقضاء على أي محاولةٍ لصياغة الحق في الحكم الذاتي للأقليات القومية. غير أن الصعوبة المباشِرة كانت الاعتراف المتزايد من المنظَّمات الأوروبية بأنه لم يكن من الواقعي فرضُ ذلك المعيار للحكم الذاتي في منطقة ما بعد الشيوعية. وأي فكرةٍ عن الحكم الذاتي للأقلية عارضَتها بقوةٍ بلادُ ما بعد الشيوعية باعتبارها تهديدًا لوجودها. ونتيجةً لذلك لم تكن هناك فرصةٌ للحصول على إجماعٍ محلي داخل بلاد ما بعد الشيوعية لمصلحة الحكم الذاتي للجماعات القومية الفرعية، حتى لو كان تبنِّيه شرطًا مسبقًا للانضمام إلى أوروبا. حتى الدافع القوي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي EU أو حلف الناتو Nato (حلف شمال الأطلنطي) لم يكن كافيًا لخلق مسانَدةٍ شعبية لنموذجٍ يُرى بشكلٍ واسع كتهديدٍ لكلٍّ من الأمن الجغرافي والسياسي والأمن الفردي، كاستمرارٍ للأخطاء التاريخية. وأي محاولةٍ من المنظَّمات الغربية للدفع بمثل هذه النماذج كانت ستتطلب أقصى درجةٍ من درجات الضغط، وكانت ستعجل العلاقات بين الشرق والغرب أكثر نزاعًا وتكلفة. والواقع أن أيَّ محاولةٍ لفرضِ الحكم الذاتي الإقليمي ربما كانت تؤدي إلى حركاتٍ ارتجاعية مفاجئة ضد قوى الإصلاح المسانِدة لأوروبا، وفي مصلحة القوى السلطوية التي كانت تُقاوِم الدمقرطة والتحرُّر. كان من الممكن أن يؤدي الإصرار على أن الحقوق القوية للأقلية جزءٌ موروثٌ من عملية الديمقراطية والاندماج الأوروبي إلى تقويضِ المسانَدة الشعبية لهذه العملية.

وإذا راعَيْنا هذه العقبات فلن يُدهِشنا فشل الجهود من أجل تقنين الحق في الحكم الذاتي أو تقرير المصير الداخلي للأقليات القومية. في حين أن المجتمع الدولي قد أظهَر بعضَ الرغبة في اعتبار هذه الفكرة في حالة السكان الأصليين، لأسبابٍ ناقشناها في الفصل الثاني؛ فقد أثبَت الحكمُ الذاتيُّ الداخلي أنه يثير الجدل للغاية في حالة الأقليات القومية الأوروبية. وكما لاحظ المفوض الأعلى للأقليات القومية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فإن قضايا الاستقلالِ الإقليمي تُقابَل ﺑ «أقصى ألوان المقاومة» من جانب الدول في مناطق ما بعد الشيوعية؛ وبالتالي رأى المفوض الأعلى أن التركيز على أشكالٍ متواضعة من حقوق الأقليات أكثر برغماتية (فان دير شتويل، ١٩٩٩م، ص١١١، وقارن كليبس، العام ١٩٩٥م).

وليس ثمَّة إجماعٌ على هذا التراجُع السريع عن الالتزام بالحكم الذاتي. ولقد رآه بعض المفسِّرين والمحلِّلين غير ناضج، أو كإرضاءٍ لصفوة ما بعد الشيوعية التي ابتكَرَت المخاوف الأمنية أو بالغَت فيها لأسبابٍ ترجع إلى مصالحها الشخصية. ولقد قيل إنه بمقدار ما تكون هناك مخاوفُ مشروعة بالنسبة إلى الحكم الذاتي، فإنه يمكن مناقشتُها؛ فلو كان هناك، على سبيل المثال، قلقٌ مشروع أو مخاوفُ بصدَد حقوق الإنسان فإنه يُمكِن مواجهتُها بآلياتٍ أقوى عن حقوق الإنسان في أي اتفاقٍ للحكم الذاتي، بما في ذلك الالتجاء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وإذا كانت هناك مخاوفُ مشروعةٌ بشأن الروابط المحتمَلة والمُزعزِعة للاستقرار بين الأقليات التي تُطالِب بتحرير الأرض ودولهم القريبة، فإن ذلك يُمكِن مواجهتُه بإقامة ضماناتٍ للنزاهة الإقليمية للدول في أي اتفاقٍ حول الحكم الذاتي، ومن خلال الإصرار على أن كُلًّا من الأقليات ودولها القريبة ترفض أي طموحاتٍ انضمامية. ولقد كان هناك حديثٌ على سبيل المثال حول إضافة فقرة عن «الولاء» في نصوص حقوق الأقلية، التي تؤكِّد فيها الأقليات ولاءها لدولتهم بدلًا من أي دولةٍ قريبة. كما كان هناك أيضًا اقتراحٌ بأن أيَّ منازَعاتٍ إقليميةٍ واضحة مع الدول القريبة المجاورة ينبغي أن تُحل قبل تقديم أنظمة الحكم الذاتي.٤٧ وقد كان طُموحُ الانضمامِ النهائي إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو عنصرًا آخر يُمكِننا أن نستدعيه للتقليل من مخاوف الأمن، وبهذه الطريقة كان المأمول أن تُواجَه أي مخاوفَ مشروعةٍ حول حقوق الإنسان والأمن الجغرافي السياسي، وأن يتم تجاهُل أو تهميش أي اعتراضٍ متبقٍّ على الحكم الذاتي من جانب الصفوة السياسية.

وتحت الظروف العصبية للتحول عن الشيوعية في تسعينيات القرن الماضي، أدرك معظم الناس أن هذه «الضمانات الورقية» لحقوق الإنسان والنزاهة الإقليمية هي أساسًا غيرُ قابلة للتنفيذ. وقد أظهَرَت التجربةُ المريرةُ للمجتمع الدولي في البوسنة وكوسوفو أنه حتى عندما كانت المنظمات الأوروبية حاضرة بقواتها على أرض الواقع، فإنها كثيرًا ما كانت غيرَ قادرةٍ على حماية حقوق الإنسان بشكلٍ فعَّال، أو على منع الجماعات من الاستيلاء على المنطقة. ولم يكن المجتمع الدولي قادرًا على منع بعض الدول من تعمُّد تشجيع التوتُّر في الدول الأخرى (فقد كان من المعتقَد بشكلٍ واسع، على سبيل المثال، أن روسيا كانت تُسانِد الانفصاليِّين أو الانضماميِّين في جورجيا ومولدوفيا).

وعلى حين أن المنظَّمات الأوروبية كثيرًا ما كانت ساخطةً من ميل الصفوة فيما بعد الشيوعية إلى مواصلة اللعب بورقة الأمن بشكلٍ مستمرٍّ فيما يتعلق بجميع قضايا حقوق الأقلية، فإنه كان هناك إجماعٌ واسع النطاق على أن لهذه المخاوف الأمنية ما يبرِّرها. ولقد وصلَت المنظَّمات الأوروبية إلى حدِّ قبول القول بأن بعض الشروط الأساسية التي تسهِّل تبنِّي التعددية الثقافية الليبرالية كانت غائبة، كما أن مقاومة الحكم الذاتي في دول ما بعد الشيوعية لم تكن مجرد مسألة تحيُّز أو عدم تسامُح قديمَين، ولكنها تضرب بجذورها في ظروفٍ جغرافيةٍ وسياسيةٍ صعبة. ولقد قَويَت هذه النظرة وتدعَّمَت عن طريق سلسلةٍ من الكتابات الأكاديمية التي تعبِّر عن نزعةٍ شكية حول مدى ملاءمة تبنِّي النماذج الغربية للأنظمة الفدرالية المتعدِّدة القوميات في أوروبا ما بعد الشيوعية (انظر على سبيل المثال سنايدر، ٢٠٠٠م؛ بروبيكر، ١٩٩٦م؛ يمر، ٢٠٠٣م؛ ليبخ، ١٩٩٩م؛ دروف، ١٩٩٤م؛ أوف، ١٩٩٣م و١٩٩٨م؛ رويدر، ٢٠٠٤م؛ ليف، ١٩٩٩م؛ بونص، ١٩٩٩م؛ كولستو، ٢٠٠١م؛ كورتل، ٢٠٠٢م؛ ديتس وستروشين، ٢٠٠٥م).

وبقَدْر عَجْز المنظمات الأوروبية عن توفير ضماناتٍ فعَّالة ضد هذه المخاطر الأمنية، كان من الصعب تبريرُ الزعم بأن تبنِّي الحكم الذاتي للأقليات القومية ينبغي أن يُرى على أنه جزءٌ وقطعة من العملية الديمقراطية، أو كشرطٍ مسبق للانضمام إلى أوروبا. ولقد كانت هناك مخاوفُ معقولةٌ بالفعل من أن يكون دعم الحق في الحكم الذاتي ضارًّا على نحوٍ مؤثِّر بطموحات الديمقراطية في المنطقة، ويُشجِّع الأقليات والدول القريبة على تجنُّب الإجراءات الديمقراطية؛ فالأقليات القومية، مسلَّحة بحقٍّ مُعترَف به دوليًّا، قد لا تُضاعِف فقط كفاحَها المُسالِم من أجل الحكم الذاتي، بل قد يُشجِّعها ذلك ببساطةٍ على السيطرة على الأراضي باسم المطالبة بحقوقها. وربما كان من المُحتمَل أكثر أن تتدخل الدول القريبة في شئون الدول المُجاوِرة باسم المحافظة على «المعايير الأوروبية».

ونتيجةً لذلك، فإن المنظَّمات الأوروبية لم تتراجَع فقط عن صياغة الحكم الذاتي الإقليمي كمعيارٍ قانوني، بل توقَّفَت في كثيرٍ من الأحيان، عن التوصية به كأفضل ممارَسة؛ فقد قال المفوض الأعلى لمنظَّمة الأمنِ والتعاوُن في أوروبا تحديدًا إن الحكم الذاتي الإقليمي ينبغي ألا يُنظَر إليه على أنه أفضلُ الممارَساتِ بل على أنه حلٌّ أخير. وقد أُحبطَت كثيرٌ من الأقليات عن تقديم مطالبها للحكم الذاتي على أساس أن هذه المطالب مُزعزِعة للاستقرار في ظل الظروف الحالية للأمن الجغرافي السياسي؛ ففي حين أن المنظَّمات الأوروبية كانت أبعدَ ما تكونُ عن فرض الحكم الذاتي في أوروبا ما بعد الشيوعية، فإن بعضها الآن يُعيق تطبيقَه على نحوٍ فعال.٤٨

ولا يُدهِشنا، إذن، أن تُقنَّن في النهاية المعاييرُ الأوروبية لحقوق الأقليات، وتسقط كل إشارة إلى الإدارة الذاتية أو الحكم الذاتي، والعودة إلى مجموعةٍ ضعيفةٍ جدًّا من المعايير. والواقع أن توصيات الاتفاقية الإطارية للمجلس الأوروبي، ومنظَّمة الأمن والتعاون كانت أساسًا نسخًا مُحدَثة من المنظور القديم ﻟ «حق استمتاع المرء بثقافته». ولقد تجاوَزَت هذه التوصياتُ البند الرقم «٢٧» بأن اشتملَت بوضوحٍ على حقوقٍ إيجابيةٍ متواضعةٍ معيَّنة، مثل حق المرء في أن يتهجَّى اسم عائلته وفقًا للغتِه الخاصة، والحق في أن تُقدَّم الوثائق للسلطات العامة بلغة الأقلية. ولهذه التغيُّرات مغزاها، ولكنها تبقى أساسًا تنويعاتٍ على فكرة الحق في «استمتاع المرء بثقافته».

وهذه الحقوق المتواضعة، بما هي كذلك، لا تُشكِّل مبادئَ أو نماذجَ حول الكيفية التي ينبغي أن تتعامل بها الأنظمة الديمقراطية الليبرالية مع الخصائص والتطلُّعات المتميِّزة للأقليات القومية؛ أي إحساسها بالقومية والمطالَبة بالأرض الأم. وكما رأينا، فإن ما تسعى إليه هذه الجماعات بشكلٍ أساسي ليس مجرد الحق كأفرادٍ للانضمام مع أفرادٍ آخرين في سن ممارساتٍ ثقافيةٍ معيَّنة، بل الحق كمجتمعٍ قومي يحكُم نفسَه في أرض الوطن الخاصة به، واستخدام قوى حكومتها الذاتية للتعبير عن، والاحتفال بلغتِها وتاريخِها وثقافتِها في المجال العام والمؤسسات العامة. وقد لاذت توصياتُ كلٍّ من الاتفاقية الإطارية ومنظمة الأمن والتعاون بالصمت حول كيف ينبغي علينا أن نُواجِه هذه الدعاوى؛ فهي لا تُناقِش كيف نحلُّ هذه المطالب (التي كثيرًا ما تكون محلَّ نزاع)، المتعلقة بالأرض والحكم الذاتي، أو كيف نحدِّد وضع اللغة الرسمية. وهي لا تقبل نماذج النظام الفدرالي المتعدِّد القوميات التي تَم تطويرُها في الغرب، كما أنها لا تعرض أي بديلٍ لهذه النماذج؛ فقد تجنَّبَت ببساطة أيَّ محاولةٍ لتشكيل المبادئ لحل هذه المنازعات. ولا يُدهِشنا أن يقومَ زعماءُ الأقليات ومحلِّلوها بنقد هذه التوصيات على أنها «أبوية وشكلية» (ويتلي، العام ١٩٩٧م، ص٤٠).٤٩
إذن، نجد في النهاية أن الهدف الطويل الأمد لتنمية ونشر نموذجٍ ديمقراطيٍّ ليبرالي مميِّز للتعددية الثقافية للأقليات القومية قد تم التخلي عنه استجابةً لضروراتٍ قصيرة المدى للمحافظة على الاستقرار في عملية الانتقال الديمقراطي في بلدانِ ما بعد الشيوعية. وهذا التراجُع عن الحق في الحكم الذاتي كان مفهومًا في ظل الظروف، ومن المحتمل أيضًا أن يكون محتومًا،٥٠ ومع ذلك فقد نتج منه عددٌ من المعضلات. إن إطار العمل الحالي لمعايير حقوق الأقليات في أوروبا غيرُ فعَّال سياسيًّا وغير ثابتٍ مفاهيميًّا، كما كانت هناك خياراتٌ صعبة لا بد من القيام بها للكيفية التي يتم بها السيرُ من هنا.

المعايير الموجودة حاليًّا غير فعَّالة لأنها لا تحلُّ المشكلات التي كانت تنوي مواجهتَها، مع أن الهدف الأصلي لتطوير هذه المعايير كان التعامُل مع المنازعات العِرقية العنيفة في أوروبا ما بعد الشيوعية، مثل كوسوفو، والبوسنة، ومقدونيا، وجورجيا، ومولدوفيا، والشيشان. ولم تتمحور أيٌّ من هذه الصراعات حول حق الأفراد في الاشتراك مع الآخرين في الاستمتاع بثقافتهم.

لم يكن انتهاكُ هذه الحقوق هو السبب في الصراع العنيف، كما أن احترام هذه الحقوق لم يكن ليحلَّ هذه المنازعات. ويصدُق ذلك على القضايا الكبرى الأخرى حيث خَشيَت المنظَّمات الأوروبية من العنف المحتمَل، وذلك مثل الأقليات المجرية في رومانيا وسلوفاكيا، أو الأقليات الروسية في الجمهوريات السوفييتية السابقة.

في جميع هذه الحالات لم تتم تغطية الموضوعات محل النزاع بوساطة توصيات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أو اﻟ F.C.N.M،٥١ فالصراعات في هذه الحالات تتضمَّن جماعاتٍ كبيرةً متمركزة بشكلٍ إقليمي وقد جسَّدَت القدرة والطموح على حكم نفسها بنفسها وإدارة مؤسساتها العامة بلغتها الأصلية الخاصة، وكان لديها في الماضي شكلٌ ما من الحكم الذاتي ووضع اللغة الرسمية، وقد تحركت من أجل الحكم الذاتي، ووضع اللغة الرسمية، والجامعات التي يُدرَّس فيها بلغة الأقلية، والمشاركة في السلطة. ولم تقبل أيٌّ من هذه المجموعات بالحقوق الضئيلة التي تضمَّنَتها توصياتُ منظَّمات FNCM وOSCE.٥٢

حقيقة أن الأقليات القومية في بلاد ما بعد الشيوعية لم تكن مقتنعة بالحقوق التي قُدمَت في ظل المعايير الأوروبية الحالية تُؤخذ أحيانًا كدليلٍ على عدم ليبرالية ثقافتها السياسية، أو راديكالية قيادتها. لكن من الجدير بالملاحظة أنه ليس ثمَّة أقليةٌ قوميةٌ ذاتُ حَراكٍ سياسي في الغرب يمكن أن تقنَع بها أيضًا. كما أنه لا يُمكِن لأحدٍ أن يفترض بشكلٍ جاد أن ترضى الأقليات القومية في كتالونيا، وفلاندرز، وكيوبيك، وجنيف، وتيرول الجنوبية، وجزر ألند، وبورتوريكو بمدارس الأقليات الابتدائية دون الجامعات التي تُدرِّس بلغة الأقلية، أو لافتات الشوارع الثنائية اللغة من دون وضع اللغة الرسمية، أو الإدارة المحلية من دون الحكم الذاتي الإقليمي.

ولا يعني ذلك القول إنه لا تُوجَد سياقاتٌ في أوروبا ما بعد الشيوعية حيث توفِّر المعاييرُ السائدةُ الآن لمنظمات OSCE أو FCNM أسسًا واقعية للعلاقات بين الدول والأقلية. وأعتقد أنها تُفيد كثيرًا في البلاد المتجانسة عرقيًّا — على سبيل المثال، عندما تُشكِّل المجموعة المُسيطِرة من ٩٠ إلى ٩٥ في المائة من السكان — وحيث تكون المجموعات العِرقية المتبقِّية صغيرة، مشتَّتة، وبالفعل في طريقها إلى الاندماج. وتلك هي الحال، على سبيل المثال، في الجمهورية التشيكية، وسلوفينيا، والمجر. ولم تكن أقليةٌ من أقليات هذه البلدان قادرةً على ممارسة الحكم الذاتي الإقليمي أو المحافظة على درجةٍ عليا من اكتمال المؤسَّسات (على سبيل المثال، الإبقاء على جامعاتها الخاصة)، ولقد أظهَرَت أغلبيتُها بالفعل مستوياتٍ عاليةً من الاندماج اللغوي. وبالنسبة إلى هذه الجماعات، توفِّر معايير منظمات OSCE وF.C.N.M كلَّ ما يمكن أن تطلبه؛ فهي تسمح لهذه الأقليات الصغيرة ونصف المتمثِّلة بمناقَشة تكامُلها مع الجماعة المُسيطِرة بقَدرٍ من الأمان والكرامة. كما أن تلك المعاييرَ ستكون مرضيةً في الأغلب للأقليات الصغيرة المشتَّتة، التي في طريقها إلى الاندماج في دولٍ أخرى من دول ما بعد الشيوعية، وذلك مثل الفلاشيين Vlach في مقدونيا، والأرمن في رومانيا.
والمُشكِلة هي أن هذه الأقليات لم تكُن (وليست) هي المتورِّطة في نزاعٍ عرقيٍّ خطير، ومشكلة العنف العِرقي والنزاع العِرقي المحتمل والمُزعزِع للاستقرار في أوروبا ما بعد الشيوعية ترتبط بشكلٍ حصري بالجماعات القادرة على ممارسة الحكم الذاتي، والمحافظة على مؤسساتها العامة، التي تتصادم بالتالي مع الدولة للسيطرة على المؤسسات العامة،٥٣ وبالنسبة إلى هذه الجماعات فإن معايير منظمات FCNM وOSEC غير مناسبة إلى حدٍّ كبير، فإذا كان الهدف هو التعامل بشكلٍ فعال مع مشكلة النزاع العِرقي المزعزِعة للاستقرار، فنحن نحتاج إذن إلى معايير توجِّه، في الواقع، إلى مصدر هذه المنازعات، وأي معاييرَ تبدأ من أسلوب البند الرقم «٢٧» الذي يتحدث عن «حق المرء في التمتُّع بثقافته» فمن غير المُحتمَل أن تفعل ذلك.٥٤

وكما ذكرتُ من قبلُ، فإن هذه اللافاعلية قد تكون محتومة. والسؤال عن كيف نتعامل مع عدم استقرار المنازَعات العِرقية القومية المزعزعة ربما يكون ببساطةٍ سؤالًا يصعُب حلُّه وفقًا للمبادئ القانونية، وقد يكونُ المنظورُ الواقعي الوحيد لهذه المنازَعات هو من خلال التدخُّلات الخاصة بكل حالة، أكثر منه من خلال محاولات صياغة معاييرَ عامة. والواقع أن ذلك، كما سوف أناقِشُ فيما بعدُ، هو بالضبط ما انتهَت إليه المنظَّمات الأوروبية معتمدة على كثيرٍ من الحالات.

ومع ذلك، فحتى لو تخلَّينا عن هدفِ تشكيلِ معاييرَ قانونيةٍ فعَّالة للنزاعات القومية العِرقية، فإن هناك مشكلةً أخرى أعمق بالنسبة إلى النظام الحالي لمعايير حقوق الأقلية الأوروبية، وعلى وجه التحديد أنها غيرُ ثابتة مفاهيميًّا، وهناك عدم توافق أو انسجام بين الشكل المقصود للحقوق ومحتواها الشامل.

وتستهدف المعاييرُ الحالية فئة الأقليات القومية، لكنها لا تعترف بعد ذلك إلا بحقوقِ الأقلية العامة من النوع المُعترَف به في البند الشامل الرقم «٢٧»، فلماذا تُضمَن الحقوق العامة لاستمتاع المرء بثقافته لنوعٍ واحدٍ فقط من الجماعات؟ لقد كان الهدف المبدئي هو تحديد مبادئ للتعامل مع نوعٍ خاص من جماعة الأرض الأم التي تتسم بالاستقرار التاريخي والتمركُز الإقليمي. لكن حيث إن الحقوقَ الفعلية التي التزمَت بها توصيات OSCE وFCNM لا تعترف بأي حقوق تنشأ من الاستيطان التاريخي والتمركز الإقليمي،٥٥ فليس ثمَّة سببٌ واضح يعلِّل سبب عدم تطبيقها على الجماعات، غير الإقليمية مثل الغجر، أو بالفعل على جماعات المهاجرين أيضًا. ومن المؤكَّد أن حقوق الأقلية العامة ينبغي حمايتها بشكلٍ عام.
والواقع أننا نستطيع أن نرى حركةً داخل كلٍّ من المجلس الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا OSCE لتميكن نطاقٍ أوسع من الجماعات للاستفادة من المعايير الموجودة، والاستراتيجية الرئيسية لتوسيع نطاق طبقة الجماعات المرشَّحة هي ببساطة إعادة تعريف مصطلح «الأقليات القومية» لكي يصبح بشكلٍ أساس مظلةً شاملة لجميع الجماعات العِرقية الثقافية، بغَض النظر عن وجودها التاريخي في الدولة أو درجة التمركُز الإقليمي. إن الفهمَ القديم للأقليات القومية كنوعٍ واحد من الجماعات، متميِّز عن السكان الأصليين، والغجَر وجماعات المهاجرين، ويُسْتبدل بفهمٍ أوسع كثيرًا للأقليات القومية يشمل كُل هذه الأنواع المختلفة من الجماعات العِرقية الثقافية.
وعلى سبيل المثال، فإن اللجنة الاستشارية التي تُراقِب الاتفاقية الإطارية انتقدَت ادعاء الدنمارك أن السكان الأصليين يقعون تحت فئةٍ مختلفة من القانون الدولي عن الأقليات القومية. كما انتقدَت أيضًا ادعاءاتِ ألبانيا بأن الغجر لا يقعون تحت فئة الأقليات القومية، وادعاءاتِ إستونيا Estonia بأن الروس العِرقيين الذين دخلوا البلاد إبَّان فترة الاحتلال السوفييتي لا يمكن اعتبارهم أقلياتٍ قومية. وبشكلٍ أكثر عمومية فقد شجَّعَت جميع البلاد على تطبيق فهمٍ شامل للأقليات القومية، فهمٍ لا يقتضي أن يكون للأقليات وجودٌ تاريخي في البلد، أو حتى يكون أعضاؤها مواطنين في البلد،٥٦ وباختصار، فإن استخدام اللجنة مصطلح «الأقليات القومية» لم يعُد يعتبرها نوعًا واحدًا لجماعةٍ بين جماعاتٍ أخرى في تصنيف الأقليات، لكنه بالأحرى أصبح مصطلحًا أشبه بالمظلة يُستخدَم لاحتواء جميع الجماعات العِرقية الثقافية.٥٧
هذه الدفعة لإعادة تعريف «الأقليات القومية» كمصطلحٍ شامل ما زالت محل نزاع وجدل. وعلى الرغم من تحذير اللجنة الاستشارية، فقد استمرَّت كثيرٌ من الدول في التمسُّك بفهمها الأصلي الذي يذهب إلى أن الاتفاقية كانت تستهدف نوعًا معينًا من الجماعات يحدِّدها وجودُها التاريخي في الدولة. وهذا القول ينطوي بالطبع على مفارقة، بمعنًى ما؛ حيث إن هذه الدول نفسها قد أفرغَت الاتفاقية من أي معاييرَ جوهريةٍ تُواجِه على نحوٍ واقعي الحاجاتِ المتميِّزة للأقليات القومية التقليدية. لكن حتى لو أن هذه الدول أضعَفَت محتوى معايير الاتفاقية، فإن كثيرًا منها لا تزال ترغب في الحفاظ عليها كوثيقةٍ مستهدَفة، حتى لا تُطالَب بأي التزامٍ قانونيٍّ جديد بالنسبة إلى أي جماعات أقلية أخرى، مثل جماعة المهاجرين. والواقع أن أي محاولةٍ لتعديل الاتفاقية شكليًّا لكي تتضمَّن المهاجرين بوضوحٍ ستفشل تقريبًا بلا شك، بسبب معارضة معظم الدول لها، في كلٍّ من الشرق والغرب. غير أن كثيرًا من الناس — بمن فيهم العلماء المشاهير ومنظومات الدفاع في المجال — يساندون مطلب تعريفٍ أكثر شمولًا للأقليات القومية.٥٨
لو أن المنظَّمات الأوروبية، قد تبنَّت بشكلٍ أكثر عمومية هذا التعريفَ الشاملَ الجديد للأقليات القومية فسوف يستكمل بشكلٍ أساسي التراجُع عن الهدف الأصلي الذي هو تطوير المعايير الموجهة للتعامل، مع القضايا المتميِّزة التي نشأَت بوساطة أقليات أرض الوطن العِرقية القومية. أما في الوقت الحالي فإن الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM) مستهدَفة من حيث الشكل، وإن كانت عامةً في جوهرها من حيث نص الحقوق التي تتضمَّنها؛ فلو نجحت اللجنة الاستشارية فسوف تصبح الاتفاقية شاملة في كلٍّ من الشكل والجوهر. إن اتفاقية FCNM لن تكون تجربةً مهمة في تطوير حقوق الأقليات المستهدَفة فإنها لا بد أن ترتد إلى منظور البند الرقم «٢٧» الذي يجعلُ الحقوقَ الثقافية العامة قابلةً للتطبيق على جميع الأقليات، جديدة أو قديمة، كبيرة أو صغيرة، مشتَّتة أو مركَّزة.
إن السؤال كيف نحدِّد الأقليات القومية لتُلبِّي أغراضَ اتفاقية FCNM قد يبدو سؤالًا فنيًّا قانونيًّا، لكني أعتقد أنه قرارٌ محوري، قرارٌ تنشأ عنه معضلاتٌ كبيرة لتطوُّر المعايير الدولية لحقوق الأقلية في المستقبل. هناك نقاشٌ أخلاقيٌّ ذكي يُطالِب بالتخلي عن الطابع المستهدَف للاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية والتحوُّل إلى استراتيجيةٍ أكثر شمولًا لحقوق الأقلية. لكن هناك تكاليفُ ترتبط بهذا التحول، تكاليفُ لم يُعترف بها بشكلٍ كافٍ حتى الآن في المناقشات. ويحمل هذا التحوُّل مضامينَ محتمَلة ليس فقط بالنسبة إلى النص القانوني الموجود بين أيدينا، لكن بالنسبة إلى المشروع الأوسع لنشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية حول العالم.
وهناك كثيرٌ من الحُجَج لإدراج كل الجماعات الثقافية العِرقية كأقلياتٍ قومية في ظل الاتفاقية الإطارية FCNM، واحدةٌ منها مسألةٌ بسيطة خاصة بالاتساق؛ ما دامت الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية لا تقوم على أساس وقائع التاريخ أو المنطقة، يبدو من التعسُّف أن يُحدَّد نطاقها على الأقليات التاريخية أو الإقليمية. لكنَّ هناك سببًا آخر وأكثر أهمية، وهو أن كثيرًا من الجماعات التي استُبعدَت بسبب التعريف الأكثر حصرًا للأقليات القومية، تحتاج بشدةٍ إلى حمايةٍ دولية من الدول العدائية المحتمَلة والجماعات المُسيطِرة، وليست لديها أيُّ وسائلَ أخرى للحماية القانونية غير الاتفاقية الإطارية.

فلننظُر إلى جماعات الغجَر؛ فبما أنهم ليست لديهم دولةٌ قريبة أو أرضُ وطنٍ تاريخية في أوروبا، فإنهم لا يُثيرون أنواع قضايا الانضمام أو الانفصال الأمنية نفسها التي تُثيرها الأقليات القومية التقليدية. ونتيجةً لذلك فإن الموجة الأولى لجهود تشكيل أو صياغة ومراقبة المعايير الأوروبية لحماية الأقلية تجاهلَت الغجَر بشكلٍ كبير. وعلينا أن نتذكَّر أن التبرير الأول للقول بأن قضايا الأقلية هي مسائلُ ذاتُ «اهتمامٍ دوليٍّ مشروع» كان الخوف من عدم الاستقرار الإقليمي، ألا وهو الخوف من أن النزاع العِرقي داخل بلدٍ واحد يمكن أن تكون له تداعياتٌ دولية على سلام واستقرار البلدان الأخرى. ومن المشكوكِ فيهِ أن تُثير حالةُ الغجر هذا النوع من التهديد للسلام والاستقرار الدوليَّين. والواقع أن المفوض الأعلى للأقليات القومية التابعة لمنظَّمة الأمن والتعاون في أوروبا قال بوضوحٍ إنه بسبب أن الغجَر لا يُشكِّلون تهديدًا من العنف وعدم الاستقرار بين الدول، فإن الموضوعات المتعلقة بالغجَر من الأفضل أن يُتعامَل معها من خلال منظماتِ حقوقِ الإنسان بدلًا من تعديلاتِ المفوضيةِ العليا المتعلقة بالقضايا الأمنية (غاغلييلمو ووترز، ٢٠٠٥م، ص٧٦٦–٧٦٩).

ومع ذلك، فمن وجهةِ نظرٍ إنسانية، فإن الغجَر في حاجةٍ أكثر إلى الحماية الدولية من أقلياتِ الدولةِ القريبة أو الأقلياتِ القوميةِ الفرعيةِ التقليدية؛ فهي كثيرًا ما تكون أكثر أعضاء المجتمع تضرُّرًا، وتُواجِه أكثر أشكال التمييز والمضايقة والاضطهاد العِرقي عمقًا وشمولًا، وكثيرًا ما تكون على أيدي موظَّفي الدولة، بالإضافة إلى المعاناة من التهميش السياسي، والعزل العنصري، والفقر.

والواقع أن الاهتمام بجماعة الغجَر بدأ يطغى على اهتماماتٍ سابقة بأقليات الدول القريبة؛ فمع تضاؤل المخاوف من نشوب الحروب الأهلية العِرقية الناشئة عن وجود أقليات الدول القريبة في أوروبا الشرقية، أصبحَت مسألة الغجر أكثر تصدرًا في النقاشات العامة حول «قضية الأقليات» في دول ما بعد الشيوعية. وعلى سبيل المثال، عندما يقيِّم الاتحاد الأوروبي مدى كفاءة البلاد التي تسعى في الدخول إلى الاتحاد في تحقيق معيار حقوق الأقلية، فإن تركيزها منذ العام ١٩٩٨م على معاملة الغجَر أكثر منه على معاملة أقليات الدول القريبة (هيوز وساسي، العام ٢٠٠٣م).

إن اهتمام الاتحاد الأوروبي بالغجَر ليس فقط، ولم يكن في المقام الأول، اهتمامًا إنسانيًّا؛ فقد أظهر الاتحاد الأوروبي اهتمامًا ضئيلًا بحالة الغجَر في دول الاتحاد الأوروبي مثل إسبانيا، وإيطاليا، أو اليونان، برغم أنها كثيرًا ما تُواجِه النوعَ نفسَه من التمييز والتفرقة الذي تُواجِهه جماعة الغجَر في بلاد ما بعد الشيوعية (جونز، ٢٠٠٣م، ص٦٩٤–٦٩٦). إن اهتمام الاتحاد الأوروبي ينصَب بالأحرى على هجرة الغجَر الجماعية إلى الغرب، سواء كمطالبين باللجوء، أو كمهاجرين غير شرعيين، أو أن يتمتعوا بحرية التنقُّل تحت قوانين الاتحاد الأوروبي (بمجرد أن تنضم بلاد ما بعد الشيوعية إلى الاتحاد الأوروبي)، في حال استمرار معاملتهم كمنبوذين في دول ما بعد الشيوعية. إن الاحتمال غير المرحَّب به لهجرة أعدادٍ كبيرةٍ من الغجَر من الشرق إلى الغرب هو ما حفَّز الاتحاد الأوروبي على تحسين معاملة جماعات الغجَر في بلاد ما بعد الشيوعية (شريلنز، ٢٠٠٥م؛ غاغلييلمو ووترز، ٢٠٠٥م)؛ ولذلك كان الاتحاد الأوروبي في حاجةٍ إلى العثور على أساسٍ شرعي وآليةٍ مؤسساتية لمراقبة خطط الدولة تجاه الغجر، وكان أكثر الخيارات وضوحًا هو توسيع تعريف «الأقلية القومية» ليشمل الغجَر، الذين سوف تخضع معاملتُهم للاتفاقية الإطارية وإجراءاتها التقريرية.٥٩

وكما سوف أناقش فيما بعدُ، ليس واضحًا أن الشروط الجوهرية للاتفاقية الإطارية ترتبط كلها أو تساعد جماعات الغجَر، لكنها على الأقل تُقدِّم لهم شكلًا من أشكال الاعتراف القانوني والمراقبة الدولية، (والواقع أن ذلك قد حدث بصفةٍ عامة؛ فمعظم البلاد الآن تُدرِج جماعات الغجَر في قوائم أقلياتها القومية).

وليست جماعات الغجر سوى مثالٍ واحد لمجموعة الأقلية ذات الاهتمام الخاص بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها لا تتناسب مع التعريف التقليدي للأقلية القومية. وهناك مثالٌ آخر هو الأقلية الروسية العِرقية في الجمهورية السوفييتية السابقة لاتفيا؛ فقد انتقل معظم هؤلاء الروس إلى لاتفيا بعد الحرب العالمية الثانية (عندما كانت لاتفيا متعاونةً بشكلٍ غير قانوني مع الاتحاد السوفييتي)، في بعض الحالات كجزءٍ من استراتيجيةٍ متعدِّدة لجعل البلطيق روسيًّا، ونتيجة لذلك فقد كانوا نسبيًّا وافدين جُددًا، ينقصهم الحضور التاريخي أو أرض الوطن الأم في لاتفيا، وعلى هذا الأساس ترفض لاتفيا الاعتراف بهم كأقليةٍ قومية من أجل أهداف الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية، والواقع أنها جعلَت مسألة الحصول على المواطنة (أو الجنسية) صعبة على الروس العِرقيين.٦٠ لكن في حين أن الأقلية الروسية تختلف في جوانبَ مهمةٍ عن النموذج التقليدي لأقليات الدول القومية القريبة، فهي تُثير كثيرًا من المخاوف الأمنية كأقلياتٍ قومية تقليدية، من ضمنها الخوف من أن تستخدمها روسيا كطابورٍ خامس لزعزعة استقرار لاتفيا. وبالنظر إلى هذا التهديد المتصوَّر لأمن المنطقة، فقد أراد الاتحاد الأوروبي طريقًا لمراقبة معاملة الروس العِرقيين. وكان أبسط خيارٍ هو توسيع تعريف الأقلية القومية لكي يشملهم، بغَض النظر عن استقرارهم الحديث نسبيًّا ونقص وضع المواطنة أو افتقارهم إلى الجنسية، حتى يُمكِن أن يخضعوا للاتفاقية الإطارية (وهو لا يزال يجد مقاومةً من كلٍّ من إستونيا ولاتفيا).
إن أكبر جماعة لم يشمَلها الفهم التقليدي للأقليات القومية هي ملايين المهاجرين بعد الحرب الذين توجَّهوا إلى أوروبا الغربية، وبالتحديد المسلمون من شمال أفريقيا، وتركيا، أو جنوب آسيا، ومثل جماعات الغجر، كثيرًا ما تعرَّضوا للمضايقات والتهميش والتفرقة العنصرية، وفي كثيرٍ من البلاد كانوا الأكثر تضررًا من حيث الدخل والتعليم والتوظيف. وبالنسبة إلى الكثيرين من المدافعين عن حقوق الأقليات فإن من الأهمية بمكانٍ أن تجد طريقةً لضمان أو تأمين المراقبة الدولية لمعاملتهم، وأبسط خيارٍ هو تعريفُهم بأنهم أقلياتٌ قومية تخضع لأهداف الاتفاقية الإطارية FCNM، وهنا مرةً أخرى ليس من الواضح ما إذا كانت الشروط الجوهرية للاتفاقية الإطارية FCNM تخاطب حقًّا الحاجات المتميِّزة للمهاجرين، لكن وظيفتها الرقابية سوف توفِّر على الاقل درجةً من الإشراف الدولي الغائب في الوقت الحالي. هذه الدعوة إلى إدراج المهاجرين تحت مظلة الأقليات القومية لا تزال تُعارِضها وتُقاوِمها معظم الدول).

إذا سلمنا بالحاجات الملحة لجماعات الأقلية هذه، وإمكان تعرضها لعداء العامية والدول معًا، فسوف يبدو أنه من الضلال أن نستبعدها من حماية الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية على أساس أنها ليست أقلياتٍ قومية وفقًا للاستخدام التقليدي أو التعريف القاموسي، ومن المؤكَّد أنها تحتاج بالقَدْر ذاته إلى الحماية الدولية، إن لم يكن أكثر، مما تحتاجُ إليه جماعاتُ أرض الوطن التاريخية، إن الحاجة المُلِحة إلى توسيع الحماية الدولية لتشمل هذه الجماعات الضعيفة، وليست الحُجَّة البسيطة للاتساق هي ما يفسِّر لماذا يعتقد كثيرٌ من المحلِّلين والمدافِعين عن الأقليات القومية، أن ضرورة تبنِّي أوروبا لتعريفٍ أكثر شمولًا للأقلية القومية هو أمرٌ مسلَّم به.

ومع ذلك، فهناك طريقةٌ بديلة لحماية هذه الجماعات، فبدلًا من تحويل الاتفاقية الإطارية إلى وثيقةِ حقوقِ أقليةٍ عامة تشمل كل الجماعات، يُمكِن أن تزوِّد الاتفاقية الإطارية بمعاييرَ موجهة إضافية، شُكلَت بالتحديد من أجل أنواعٍ أخرى من الجماعات التي لا تُحمى حاليًّا. والواقع أن ذلك هو تحديدًا ما افترضَته المنظَّمات الأوروبية المختلفة، على سبيل المثال؛ فقد أوصَى الاجتماع البرلماني للمجلس الأوروبي بمسوَّدةٍ لوثيقة حقوق الأقليات تتجه بشكلٍ خاص إلى المهاجرين، وفي توصيته الرقم ١٤٩٢ قرَّر الاجتماع أنه «يعترف بأن جماعات المهاجرين الذين يكون أعضاؤهم مواطنين في الدولة التي يقيمون فيها يشكِّلون فئاتٍ معيَّنة من الأقليات، ويُوصِي بأن تُطبَّق عليهم أداةٌ معيَّنة من أدوات المجلس الأوروبي.» وبالمثل، فإن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) ناقشَت اقتراح «ميثاق حقوق الغجَر» الذي قدَّمه المؤتمر القومي للغجَر، والذي يقوم على أساس فكرة أن أقلية الغجَر هي «أقلية عَبْر-قومية» أكثر منها أقليةً قومية،٦١ وقد صادق «منتدى الغجر والرُّحَّل الأوروبيين» التابع للمجلس الأوروبي أخيرًا على فكرة وثيقة حقوق الغجَر.
وكما تُظهِر لنا هذه الاقتراحات، فإن إحدى الاستجابات المحتمَلة لحقيقة أن بعض الأقليات الضعيفة لم تُغطَّ بواسطة المعايير الموجهة الحالية لا تكمُن في التخلي عن فكرة المعايير المستهدَفة والتحول إلى استراتيجيةٍ شاملة، بل بالأحرى في ملء الثغرات بواسطة أطُر للعمل متعدِّدة الاتجاهات خاصة بحقوق الأقليات، ومن الواضح أن ذلك منظورٌ أشد تعقيدًا، لكن يحتمل أن يكون من بعض الزوايا هو المنظور الأفضل. وعلى أي حال، فلا يتضح أبدًا ما إذا كان الغجَر أو المهاجرون سوف يستفيدون فعلًا من تغطية الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية؛ ذلك لأن الاتفاقية الإطارية في مسوَّدتها الأولى لم تضع في اعتبارها احتياجاتِهم وظروفَهم، ولم تتجه بالخطاب إلى أيٍّ من قضاياهم الخاصة (وذلك مثل قوانين الإقامة أو متطلبات عملية التطبيع بالنسبة إلى المهاجرين أو موضوع المدارس المنفصلة بالنسبة إلى الغجر).٦٢ وبطريقةٍ تنطوي على مفارقة، فإن اتساع الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM) لتشمل هذه الجماعات قد يقلِّل احتمال صياغة مسوَّدة معايير دولية فعَّالة ومؤثِّرة للتعامل مع اهتماماتها؛ فهي تستبق أو تقصر طريق الاقتراحات لتطوير معايير موجهة أكثر فعالية.
وتتضح عدم كفاءة الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية في معالجة احتياجاتها من حقيقة أن المنظمات الأوروبية، على مستوى البرامج والسياسات، استمرَّت في معاملة أقلية الغجر والماجرين بطريقةٍ منفصلة عن الأقليات القومية، ولكلٍّ من المجلس الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (O.S.C.E) والاتحاد الأوروبي بيروقراطيتُه الخاصة بجماعات الغجَر، وذلك مثل منسِّق قضايا الغجَر، الجماعات الخاصة للغجَر والرُّحَّل، ومؤتمر الغجَر والرحَّالة الأوروبيين (المجلس الأوروبي)، ونقطة التلامس لقضايا الغجَر والسنتي (منظمة الأمن والتعاون في أوروبا O.S.C.E) واللجان المفوضية بين الإدارات، والجماعات المحرِّكة لقبائل الغجَر (الاتحاد الأوروبي)، ما هي ضرورة هذه الهيئات إذا سلَّمنا بأن جماعة الغجَر أصبحَت الآن مغطَّاة بواسطة بِنى المؤسسات التي تُراقِب وتقدِّم التوصيات بخصوص معاملة الأقليات القومية؟ الجواب، فيما أعتقد، هو أن المعايير الأوروبية التي وُضعَت للأقليات القومية هي في أفضل حالاتها غير كافية، وفي أسوأ حالاتها تكون غير مناسبة تمامًا للغجَر. إن توسيع الاتفاقية الإطارية لتشمل الغجَر ربما بدا طريقةً جيدة لتُساعِد في حماية الجماعات الضعيفة، لكن بما أن المعايير الشاملة في الاتفاقية الإطارية لا تُعالِج نقاط الضعف التي تُواجِه جماعات الغجر، فهي لا تزوِّدنا بإرشاداتٍ فعَّالة، وفي الوقت الحالي فإن العمل الحقيقي في قضايا جماعات الغجَر على المستوى الأوروبي الشامل كثيرًا ما يتم، ليس من خلال الاتفاقية الإطارية الشاملة بل من خلال أعدادٍ لا تُحصى من شبكات الهيئات المتخصصة في جماعات الغجَر.
وهناك موقفٌ مماثل ينطبق على حالة المهاجرين، وعلى الرغم من أن بعض المدافعين يطيبُ لهم أن يُدرِجوهم تحت مظلة «الأقليات القومية»، فالواقع أن احتياجاتهم لا تُعالَج عن طريق الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية، وبدلًا من ذلك يتم التعامل معهم عن طريق هيئاتٍ خاصةٍ بالمهاجرين، مثل اللجنة الأوروبية لإدارة الهجرة والغجر التابعة للمجلس الأوروبي، وبالمثل فإن البِنى البيروقراطية الأوروبية التي تتعامل مع لغات المهاجرين منفصلةٌ عن تلك التي تتعامل مع لغات الأقلية «التاريخية» أو «التقليدية».٦٣

وباختصار، حتى مع تحوُّل المنظمات الأوروبية نحو صياغةٍ أكثر عمومية لحقوق الأقليات، مقلِّلة من الفروقات بين فئات الأقليات المختلفة فإنها تستمر فعليًّا في الانخراط في سياساتٍ وبرامج موجهة في اعترافٍ منها بالاختلافات القوية في احتياجات وطموحات هذه النماذج المختلفة من الجماعات. وتندفع المنظمات الأوروبية بواسطة ضرورةٍ علميةٍ للانخراط في البرامج المستهدفة، بيد أنها فيما يبدو غير راغبة أو غير قادرة على الاعتراف بالحاجة إلى التوجُّه على مستوى المعايير القانونية أو المبادئ السياسية، والنتيجة هي سلسلة من الرسائل المشوشة؛ من ناحية، تنتقد المنظماتُ الأوروبية الدولَ لاستمرارها في تمييز الأقليات القومية التقليدية عن الجماعات العِرقية الثقافية الأخرى، ومن ناحيةٍ أخرى تعتمد المنظماتُ الأوروبية نفسُها هذه التفرقةَ في برامجها وبنائها البيروقراطي الخاص.

ولما كان هدفنا تشكيل ونشر منطق التعددية الثقافية الليبرالية، بطريقةٍ واضحة ومنسقة، فإن التحوُّل إلى حقوق الأقلية الشاملة هو نعمةٌ مختلطة، وعلى نحوٍ فيه خلاف، فإن الطريقةَ الأفضلَ لضمان أن كل جماعة من الأقليات الضعيفة تتم حمايتُها لا تتم من خلال تحوُّل الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية إلى وثيقةٍ عامة تغَطي كل أشكال التنوُّع، بل بالأحرى من خلال تزويد الاتفاقية الإطارية بوثائقَ أخرى لحقوق الأقلية الموجهة، التي تُفصَّل لتُناسِب الحاجاتِ والتطلعاتِ المتميِّزة لكل نوعٍ من أنواع الجماعات.

ولسوء الطالع، أن من المحتمل ألا يكون ذلك خيارًا واقعيًّا في السياق الأوروبي؛ فليس من الوارد على الإطلاق أن تُقرِّر دول الاتحاد الأوروبي في يومنا الراهن أن تتبنَّى إعلانًا تقدميًّا عن حقوق المهاجرين، نظرًا إلى أن أوروبا في وسط حركةٍ ارتجافيةٍ شعبية ضد كلٍّ من سياسات المهاجرين وسياسات التعددية الثقافية. وأي إعلانٍ جديد حول الوضع القانوني للمهاجرين من المحتمل جدًّا أن يجسِّد أفكارًا من طرازٍ قديم حول التمثُّل والاستبعاد بدلًا من نماذجَ أحدث للمواطنة المتعدِّدة الثقافات (من الجدير بالملاحظة من هذه الزاوية أنه لا تُوجَد دولة من دول الاتحاد صادقَت وأقرَّت اتفاقية الأمم المتحدة العام ١٩٩٠م لحقوق العمال المهاجرين)، كما أن هناك أيضًا صعوباتٍ سياسيةً تُواجِه اقتراحَ صياغةِ ميثاقِ حقوقِ جماعات الغجَر.٦٤

ويبدو نتيجةً لذلك أن الطريق العملي الوحيد الذي يُمكِن اتباعه لتوسيع نطاق الحماية الدولية لتشمل جماعات الغجَر أو المهاجرين إنما يكون من الباب الخلفي؛ أي بجعلها مناسبة للخطة الموجودة من قبلُ لحماية الأقليات في أوروبا، والموجَّهة أساسًا إلى فئة الأقليات القومية، ما دام أنه من غير الواقعي أن نتوقع تبنِّي أي بنودٍ جديدة بشأن حقوق الأقليات في المستقبل المنظور، ولما كان إطار العمل الأوروبي الوحيد الموجود لحقوق الأقلية موجهًا إلى الأقليات القومية؛ فعلى أي جماعةٍ تريد أن تُحمى أن تجد طريقًا يؤهلها لكي تكون أقليةً قومية، وكثيرًا ما يُقال إنه فيما يتعلق بأولئك الذين يُمسِكون بالمطرقة فقط، فإن كل شيء يبدو كأنه مسمار. وبالمثل، إذا كانت الأداة الوحيدة لحماية الأقليات في أوروبا تستهدف الأقليات القومية، فسوف تبدو عندئذٍ كل أقليةٍ كأنها أقليةٌ قومية.

في ظل هذه الظروف، فإن قرار تحويل الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM) إلى وثيقةٍ عامة لحقوق الأقلية العِرقية عملٌ مفهومٌ له ما يبرِّره، بل ربما كان أمرًا محتومًا، قد يكون الطريقة الوحيدة ليشمل الاعترافُ والمراقبة الجماعاتِ الضعيفة التي لا تغطِّيها المعايير الدولية لحقوق الأقلية، لكن إذا كان ذلك هو حقًّا الطريق الذي تسلكه أوروبا، فإن علينا أن نعرف أن لذلك ثمنًا؛ فأول خسارة هي الهدف الأصلي والشجاع لتطوير معايير حقوق الأقلية التي تتعامل مع الجماعات العِرقية القومية، والتجربة الجسورة لتشكيل معاييرَ دوليةٍ تُوجَّه إلى هذه الجماعات، وتكون قادرةً على حل النزاع العِرقي القومي المحتمل، قد تم التخلي عنها، وكما ذكرتُ فيما سبق فإن تطوير مثل هذه المعايير كان سوف يغدو اسمها ضخمًا لنظرية وممارسة حقوق الأقليات، ليس بالنسبة إلى أوروبا، بل للعالم بصفةٍ عامة بالنظر إلى شيوع المنازَعات العِرقية القومية.

لكن ليست الأقليات القومية التقليدية هي وحدها التي سوف تدفع الثمن، كواحدةٍ من التجارب الأولى لتطوير معايير موجهة، وكان يُمكِن للاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية أن تستخدم نقطة انطلاقٍ لتطوير معاييرَ موجهةٍ أخرى في أوروبا، مثل معايير من أجل جماعة الغجَر أو المهاجرين، وتشجيع المحاولات لتشكل معايير موجهة في مناطقَ أخرى من العالم، وكان من الممكن أن تحقِّق سابقةً لصلابة ومشروعية الاستراتيجية الموجهة على المستوى الدولي، وتُساعِد كذلك في نشر منطق الجماعة المتمايزة في التعددية الثقافية الليبرالية على نحوٍ أكثر عمومية.

أنا لا أعرف هل هذا النوع من التوجيه المتعدد للأقليات القومية — جماعات الغجر والمهاجرين — يكون (أو كان) خيارًا واقعيًّأ لأوروبا؛ فلكي يكون قابلًا للبقاء كان سيحتاج إلى جهودٍ أكثر تنظيمًا لتنسيق اقتراحاتٍ مختلفة لتنمية المعايير الموجهة، في الوقت الحالي ظهرَت الاقتراحات بمعايير موجهة بطريقةٍ خاصة، في هيئاتٍ أوروبيةٍ مختلفة، وفي أوقاتٍ مختلفة، غالبًا كالاستجابة لأزماتٍ محدَّدة، أو رد فعل لأزمةٍ معينة، ولم يكن ثمَّة محاولة لجمع هذه المقترحات المختلفة معًا، ثم نعود خطوةً إلى الوراء ونسأل: ما الذي يُمكِن أن يعنيه تبنِّي استراتيجيةٍ متعدِّدة التوجهات؟ وكيف يمكن لأشكالٍ مختلفة من التوجه أن تعمل معًا كجزءٍ من إطارِ عملٍ أكبر للمعايير الأوروبية؟ وربما لم تتوافر ببساطةٍ الظروفُ السياسية لتلك الممارسة.

لكن من المدهش أن نرى المدافعين والخبراء في شبكة سياسة حقوق الأقلية الأوروبية يتخلَّون بسرعةٍ عن مشروع تطوير معايير موجهة، سواء بالنسبة إلى الأقليات القومية الغجَر أو المهاجرين،٦٥ والواقع أنه بعيدًا عن اندفاع عن مشروعية المعايير الموجهة وضرورتها، فإن كثيرًا من هؤلاء الخبراء والمدافعين قد دافعوا عن التحول إلى منظورٍ شامل بالقول إنه من «التعسُّف» الإصرار على اجتياز الجماعاتِ بعضَ الاختيارات للحضور التاريخي أو الاستقرار الإقليمي من أجل أن تؤهَّل ﮐ «أقلياتٍ قومية»، وبواسطة الإشارة إلى أن تعريفًا أكثر شمولية هو في الواقع أكثر إنصافًا أو شرعيةً بطبيعته.
وفي رأيي أن ذلك خطأٌ فادح؛ فكما رأينا في الفصل الثالث فإن منطق التعددية الثقافية الليبرالية يعلِّق أهميةً كبيرة على وقائع التاريخ والأرض. عَبْر الأنظمة الديمقراطية الغربية، اختلفَت السياساتُ المتبنَّاة لأقليات أرض الوطن القديمة عن تلك المتبنَّاة من أجل الأقليات المهاجرة الجديدة، وكما لاحظ بيري كيلر Perry Keller فإن «التمييزات بين حقوق الأقليات التقليدية والأقليات المهاجرة إنما تُوجَد في قوانين وسياسات كل الدول الأوروبية تقريبًا» (كيلر، العام ١٩٩٨م، ص٤٣)، وتركيز الاتفاقية الإطارية الأصلي على الأقليات القومية التقليدية كان ببساطة يتبع هذه الممارسة الثابتة للديمقراطيات الغربية.
وقد يكون من الملائم، في ظل الظروف السياسية السائدة، أن تتخلى عن الهدف الأصلي لتطوير المعايير الموجهة، وأن نركِّز بدلًا من ذلك على تدعيم استراتيجية حقوقٍ عامة. لكن لو تم ذلك، فمن المهم أن يكون واضحًا أن تلك في الواقع مسألةُ ملاءمةٍ سياسية، وليست جحدًا لمشروعية المعايير الموجهة. وقد يكون التحوُّل إلى استراتيجيةٍ عامة أكثر الطرق ملاءمةً لتغطية جماعات لا تكون محميةً من دونها، لكن ينبغي ألا يُساء فهمُها أو تفسيرها كحكمٍ بأن هناك شيئًا تعسفيًّا بالاستهداف أو التوجه بحد ذاته، بل على العكس، من المهم أن نُصِر على أن منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية يتطلب حقوقًا متمايزة للجماعة، حتى إذا كان إطار العمل السائد للمعايير الأوروبية، لأسبابٍ سياسية عارضة، لا يعكس هذه الحقيقة، وإلا فإن الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية يمكن أن تُستغَل من قِبل الممثِّلين السياسيين في بعض الدول كأساسٍ لرفض أيٍّ من — أو كل — قضايا الأقليات التي تقوم على أساس التاريخ والأرض، وتصبح بالتالي عقبةً أمام انتشار منطق تمايُز الجماعات في التعدُّدية الثقافية الليبرالية، بدلًا من أن تكون وسيلةً له. والواقع أن في استطاعتنا أن نرى بالفعل أمثلةً لسوء الفهم هذا.٦٦
في اعتقادي أن المنظمات الأوروبية وشبكات سياستها تركَت نفسَها عُرضةً لسوء التأويل المحتمل هذا، وأنا أقول «سوء تأويل» لأنني أعتقد أن التحول من منظورٍ موجه إلى منظورٍ عام يتم أساسًا لأسبابٍ نفعية، ولم يكن ناتجًا من معارضةٍ مبدئيةٍ للتوجه بحد ذاته، وأن معظم الخبراء والمدافعين لم يقصدوا تفنيد شرعية المعايير الموجهة، لكن لا بد لي من الاعتراف بأن هناك بعض الممثلين السياسيين المؤثِّرين داخل شبكات السياسة تلك ممن يرفضون بالفعل مشروعية الحقوق الموجهة مبدئيًّا، أو يرفضون على الأقل شرعية الحقوق المستهدفة القائمة على دعاوى التاريخ والأرض. والواقع أن البعض يذهب إلى أن السبب الكامن وراء النزاعات العِرقية في مناطق ما بعد الشيوعية هو تحديدًا حقيقة أن الهويات العِرقية ترتبط بالأرض من خلال أفكار «أرض الوطن» أو «الأرض التقليدية» للجماعة. ولقد قيل إن «هويات الأرض والدم» هذه تضرب بجذورها في المنازَعات العِرقية العنيفة في البلقان والقوقاز، وليست المشكلة أن الدول قد أساءت إدارة المطالب المتنافسة على الأرض، بل حقيقة أن الجماعات العِرقية قد شكَّلَت مطالبها وهوياها بلغة التاريخ والأرض؛ وبناء على هذه النظرة فإن الهدف من الجهود الأوروبية ينبغي أن يكون كسر هذه الرابطة عن طريق تنمية حقوق الأقلية الشاملة التي لا تشير أدنى إشارة إلى التاريخ أو الأرض، وذلك مثل النماذج المختلفة من حقوق الأقليات والجنسية المتعددة الثقافة التي لا تعتمد على الأرض، وبأسلوبٍ آخر فعلى المعايير الأوروبية أن تتمسك بحقوق أقلية عامة، لكن عليها أن تُقاوِم أي تنازلاتٍ تتعلق بقومية الأقلية عن طريق عدم الاعتراف إلا بمطالب الأقليات غير الإقليمية وغير القومية (انظر مثلًا: نمني Nimni، العام ٢٠٠٥م).٦٧
والتحوُّل بالنسبة إلى هؤلاء الممثِّلين من حقوق الأقلية القومية الموجهة إلى استراتيجيةٍ عامة ليس مجرَّد تراجُعٍ تكتيكي أو استجابة ملائمة للضرورات السياسية، بل هو مسألة مبدأ، والواقع أن بعض هؤلاء المحلِّلين ربما فضَّل حذف فئة «الأقلية القومية» تمامًا من الأدوات الأوروبية القانونية، إذا سلَّمنا بأن المصطلح ارتبط من الناحية التقليدية بأفكار الأرض والاستقرار التاريخي،٦٨ لكن ما دام أنه سيكون من الصعب الآن استبعادُ مصطلَح الأقلية القومية من الاستخدام الأوروبي، فإن ثاني أفضلِ خيارٍ هو إعادةُ تعريفِ المصطلَح لتقليل أي تلميحٍ بأهمية التاريخ والأرض، وذلك في الواقع، بالنسبة إلى بعض الناس، أحدُ الدوافعِ لتوسيع فئة الأقلية القومية لتشمل كلَّ الجماعاتِ العِرقية الثقافية، ومن ضمنها جماعاتُ المهاجرين، وهذا التوسُّع لا يدفعه الهدف الإنساني إلى توسيع الحماية لتشمل الجماعات الضعيفة فقط، لكن أيضًا بواسطةِ الهدفِ الأيديولوجي لتقويضِ الفكرة الأساسية لحقوق الأقلية «القومية» المتأصِّلة في التاريخ والأرض.

والواقعُ أن هناك نسخًا مختلفة من هذه الحُجَّة؛ فعند بعض الناس أن تلكَ الحاجةَ إلى الابتعاد عن المنطلَقات الإقليمية هي خاصة بمطقة ما بعد الشيوعية، نظرًا إلى تاريخها الفريد من الإمبراطوريات والحدود المتغيِّرة، ولا ينطبق على النماذج الحالية للحكم الذاتي الإقليمي للأقليات القومية في الغرب، أو على السكان الأصليين حول العالم، لكن بالنسبة إلى الآخرين فإن فكرة فصل العِرقية عن الإقليم قدُمَت كمثلٍ أعلى بصفةٍ عامة، وكمنظورٍ يتسق مع أفكار ما بعد الحداثة عن الحركة، والعولمة، والهُويات المتعدِّدة، المَرِنة، والمهجَّنة، وعلى الرغم من أن ذلك نادرًا ما يكون واضحًا فإن المضمون هو أن الأقليات القومية في الغرب متخلِّفة إذا استمرَّت في ربط التكيُّف الخاص بهُويتها بمشروعات الحكم الذاتي الإقليمي، وأن الأنظمة الديمقراطية الغربية رجعيةٌ في قَبولها تلك المطالبَ العِرقية القومية، وأن المنظمات الغربية ينبغي أن تضغَط على الأنظمة الديمقراطية الغربية لكي تتخلى عن هذه الأشكال للحكم الذاتي الإقليمي لمصلحة منطلقاتٍ غيرِ إقليمية.

هذه الفكرة التي تقول إنه ينبغي علينا أن نجرِّد هُوياتِ ومطالبَ جماعاتِ الدول الفرعية القومية من الإقليمية والقومية، هي فكرةٌ مألوفة في المناقشات الأكاديمية والعامة حول حقوق الأقليات، يطرحُها رجالاتُ الدولة والجمهوريون وأنصارُ العالمية الليبرالية على حدٍّ سواء، لكني أعتقدُ أن ذلك كله غيرُ واقعيٍّ تمامًا، وكما رأينا في الفصل الثالث فإن ذلك على وجه التحديد هو ما حاولَت الأنظمة الديمقراطية الغربية أن تقومَ به وفشلَت في أن تفعله في الماضي، والتحوُّل إلى النظام الفدرالي المتعدِّد القوميات لم يظهَر إلا عندما تخلَّت الدول الغربية عن هذه المساعي لتجريد أقلياتها الفرعية من الإقليمية والقومية، وقبلَت إمكان دوام ومشروعية الطموحات القومية للأقليات التي ترتبط بالتاريخ والأرض، وهذا جانبٌ محوري لتطوُّر منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية.

على أي حال، فإن هذه المعارضة الأيديولوجية للمطالب القومية للأقلية من الواضح أنها لا تمثِّل وجهة النظر المُسيطِرة في المنظمات الأوروبية؛ حيث كان الباعث الأول لهذه المنظمات، كما سبق أن رأينا، هو تشجيع النماذج الغربية للحكم الذاتي الإقليمي بوصفها أفضل ممارَسة، وكما سنرى بعد قليل، فإن هذه المنظمات تستمر في مسانَدة تلك النماذج في كثيرٍ من تدخُّلاتها في الحالات الخاصة في بلاد ما بعد الشيوعية. وأكثر من ذلك، لا يُوجَد أحدٌ، على حد علمي، اقترح بشكلٍ جاد أنه ينبغي على المنظمات الأوروبية أن تسعى إلى نبذ الأشكال القائمة الحالية للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات في الغرب، على الرغم من أنها مغروسةٌ بوضوحٍ في الأيديولوجيات القومية القائمة على مطالب الاستقرار التاريخي والأرض التقليدية، وليس هناك دليلٌ على أن المنظمات الأوروبية خلال تحوُّلها من الاستراتيجية الموجهة إلى الاستراتيجية الشاملة استهدفَت تقديمَ معارضةٍ مبدئية لفكرة المطالبات المتمايزة على مستوى الجماعات القائمة على التاريخ والأرض.

ومع ذلك، فإن الحضورَ القويَّ للصوتِ المعارضِ للتوجُّه داخل المنظمات الأوروبية خلَق ارتباكًا ملحوظًا حول ما تقوم به هذه المنظَّمات، والسبب الذي يجعلها تقوم به. وظهر إجماعٌ قوي على أنه من غير المتوقَّع أن تتبنى دول ما بعد الشيوعية نماذجَ غريبةً للنظام الفدرالي المتعدد القوميات، وأن المعايير الأوروبية ينبغي أن تفوِّض النماذج الضعيفة، وغير الإقليمية لحقوق الأقلية فقط، مثل تلك الموجودة في الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM). ومع ذلك، فهذا الإجماع الواضح يُخفي تحته اختلافاتٍ كبيرةً وراء المنطق الكامن، وبالنسبة إلى بعض الناس فإن هذا القرار هو ضرورةٌ مؤسفة؛ حيث تُرفَض أو تُؤجَّل أكثر الأشكال تقدُّميةً لحقوق الأقلية التي طُورَت في الغرب من أجل استيعاب المخاوف نفسها حول «الأمن القومي» و«الأقليات غير الموالية» التي سيطرَت على مناقشاتِ القرنِ التاسعَ عشَر. وبالنسبة إلى هؤلاء، من المُهِم الإبقاءُ على أفكار الحكم الذاتي في مناطق ما بعد الشيوعية حية، حتى لو كانت مجرَّد هدفٍ طويل المدى، والدفاع عن شرعية المعايير الموجهة القائمة على التاريخ والأرض،٦٩ ومع ذلك، فهناك آخرون، رغبةً منهم في استخراج ميزة من الضرورة، يذهبون إلى أن هذا القرار بالتحوُّل إلى حقوق أقلية عامة غير إقليمية هو قرارٌ تقدُّمي يعكس استعدادَ القرنِ الحادي والعشرين للتحرُّك فيما وراء القيود العقلية المفروضة من أيديولوجيات القرنِ التاسعَ عشرَ القومية التي تربط بين العِرقية والإقليم. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت للتخلص من الأفكار الرجعية عن الحكم الذاتي الإقليمي وحقوق الأقلية القومية الموجهة إلى الأبد.

وأيًّا ما كانت الأسباب الكامنة، فإن النتيجة التي لا خلاف عليها هي التحوُّل الهائل في طبيعة المعايير الأوروبية لحقوق الأقلية وهدفها. في الذكرى السنوية الخامسة للبدء بالعمل في الاتفاقية الإطارية، نظَّم المجلس الأوروبي مؤتمرًا بعنوان «ملء الإطار»، احتفالًا بتطوير معايير حقوق الأقليات تدريجيًّا طوال فترة الاتفاقية (ويلر، ٢٠٠٣م). ورأيي الخاص، في المقابل، هو أن الأهداف الأصلية للاتفاقية قد تَمَّ التخَلي عنها أساسًا، أما المعايير الناتجة فلا هي مؤثِّرة في حل الموضوعات المُلِحة في النزاع العِرقي المُضطرِب ولا هي تساعدُ في تشكيل وتنظيم المنطق الطويل المدى للتعدُّدية الثقافية الليبرالية.

وكما قلتُ، فإن القرار الذي اتخذَته المنظمات الأوروبية بصدَد كيفية تشكيل وتفسير الاتفاقية كان قرارًا مفهومًا، برغماتيًّا، بل ربما حتميًّا، غير أن النتيجة هي أن التجرِبة الجريئة في تطوير معايير حقوق الأقلية أصبحَت على حافة الانهيار. والواقع أننا قد وصَلنا تقريبًا إلى اكتمال الدائرة للتجربة الأوروبية في تشكيل حقوق الأقليات، فالجهود الأوروبية لإقامة معايير حقوق الأقلية بدأَت من افتراض أن منظور المادة «٢٧» لحقوق الأقليات العامة كان بالغ الضعف لمعالجةِ أنواعِ الموضوعاتِ التي يقوم عليها النزاع العِرقي السياسي في أوروبا ما بعد الشيوعية، من ناحيةٍ لأنه لا يعترف إلا بحقوق الأقلية الشائعة بين كل الجماعات، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، قديمة أو جديدة، متمركزة أو مشتَّتة. وبعد تجربة خمسة عشر عامًا مذهلة، وإن كانت معيبة، في تطوير حقوقٍ مستهدَفة للأقليات، يبدو أننا نعودُ إلى حيث بدأنا.

من «المعايير» و«المقاييس» إلى منع النزاعِ أو حلِّه

يبدو إذن أنه لا واحدة من الاستراتيجيتَين اللتَين درسناهما حتى هذه اللحظة قد واجهَت المشكلة التي ألهمَت في الأصل الفعلَ الأوروبي حول قضايا الأقلية بفاعلية — أعني المخاوف بشأن آثار النزاع العِرقي المُزعزِعة للاستقرار في بلاد ما بعد الشيوعية — إن استراتيجية تعميم أفضل الممارَسات الغربية تجاهلَت، على نحوٍ ساذج، حقيقة أن الظروف الكامنة المطلوبة لتبنِّي الممارسات لم تكن موجودةً في جزءٍ كبير من المنطقة، واستراتيجية صياغة المعايير القانونية لم تُواجِه القضايا الفعلية المُلِحة للصراعات.

إذن، ما الذي قامت به المنظمات الأوروبية لمنع واحتواء المنازَعات القومية العِرقية المزعزعة للاستقرار؟ كما أشرتُ سابقًا فإن المنازَعات العِرقية القومية في فترة ما بعد العام ١٩٨٩م هدَّدَت بتقويض السلام والاستقرار الإقليمي، وبآثارٍ جانبية على البلدان المجاورة، إن قرار المجتمع الدولي لعمل شيءٍ ما بالنسبة إلى قضايا الأقليات قد قُدِّم على أساس الحاجة، بل والواجب، لحماية أوروبا ضد تلك النزاعات العِرقية المحتملة، وإذا فشلَت الاستراتيجيتان الأُوليان في هذا الشأن فما الذي تَم فعلُه؟

الجواب كما ألمحتُ منذ قليل، كان الانخراط في تداخلاتٍ خاصة بكل بلد، وفي كثيرٍ من البلاد التي تعيشُ تجربة النزاع العِرقي العنيف، أو حيث يبدو هذا النزاع وشيكًا، فإن المنظمات الأوروبية تتدخل على نحوٍ فعَّال في المفاوضات التي تتوسط بها بين الحكومات وقادة الأقليات، وتقديم اقتراحاتٍ للطريقة التي ينبغي بها حلُّ المنازعات، والواقع أن المنظَّمات الأوروبية في بعض الحالات قد استنتجَت بنودَ الحل الممكن، وضغطَت على كلٍّ من الدول وقادة الأقليات لقبول مسوَّدات الاتفاقيات الغربية تلك.٧٠
فالمنظَّمات الأوروبية على سبيل المثال أدَّت دورًا أساسيًّا في صياغة بنود اتفاقية أوهريد في مقدونيا، التي منحَت مكانةً ووضعًا للغة الرسمية وقوًى محلية أكبر للأقلية الألبانية التي لا تستقرُّ في مكان، وبعد ذلك ضغطَت على الحكومة لتقبلها (وقد قبلَتها الحكومة للحفاظ على مساندة الناتو NATO العسكرية)،٧١ ولقد ساعدَت المنظمات الغربية أيضًا في كتابة مسوَّدة اتفاقية دايتون في البوسنة وابتكار بِنية للحكم الذاتي الإقليمي ومشاركة مسلمي البوسنة والصرب والكروات في السلطة، ثم ضغطَت بعد ذلك على الأطراف لقَبولها (ولقد قبلَتها من أجل تجنُّب عقوبة الناتو العسكرية). وهناك مثالٌ آخر، على الرغم من أنه ليس من دول ما بعد الشيوعية، هو من قبرص؛ حيث صاغت الأمم المتحدة دستورًا جديدًا (خطة أنان Annan Plan) بالتعاون مع المنظَّمات الأوروبية باقتراح نظامٍ فدرالي، وتقاسُمٍ دستوري للسلطة للتغلب على النزاع القائم منذ فترةٍ طويلة بين الأغلبية اليونانية والأقلية التركية (على الرغم من الضغط الهائل من الاتحاد الأوروبي فقد رُفضَت هذه المسوَّدة من الأغلبية التركية في استفتاءٍ شعبي).

ولقد كانت المنظمات الأوروبية في جميع هذه الحالات مشغولةً بنشاطٍ في إعداد مسوَّدات الاتفاقيات لحل صراعات الماضي العنيفة (قبرص)، والصراعات العنيفة المستمرة (البوسنة)، أو الصراعات العنيفة المحتملة (مقدونيا)، وفي كل حالةٍ من هذه الحالات أدرجَت ضمانات جوهرية لحقوق الأقليات، والحد الأدنى من المعايير القانونية الأوروبية لحقوق الأقليات مثل الاتفاقية الإطارية؛ لأن تلك الشروط لحقوقٍ تتعامل مع كل حالةٍ خاصة على حدَة، ولا تقوم على المعايير الشاملة لأوروبا بأَسْرها؛ فليس ثمَّة اتساقٌ في المنظور عَبْر البلدان المختلفة، وهذه التدخُّلات الخاصة بالبلدان المختلفة ليست مستمدةً من أي مجموعةٍ مشتركة من المعايير؛ فليس هناك معيارٌ واضح لتفسير مصادقة المنظمات الأوروبية على وضع اللغة الرسمية لبعض الجماعات دون غيرها، أو مسانَدتها للحكم الذاتي الإقليمي في بعض البلاد دون بعضها الآخر.

وليس ثمَّة ما يدهش في أن تتعرض المنظمات الأوروبية للنقد لطبيعة توصياتها المُتناقِضة، والتعسُّفية، والتي لا تقوم على مبدأ. وكما لاحظ النقاد، فإن توصيات الاتحاد الأوروبي الخاصة ببلدٍ ما «لم تُنتِج أي معاييرَ متماسكة لحقوق الأقليات» (شويلنس، العام ٢٠٠٥م، ص٢٣). والواقع أنها «برهنَت على استعدادها لاتباع أي إجراءٍ سياسي لكي تحقِّق الاستقرار» (جونسون، ٢٠٠٦م؛ ص٥١).

وفي اعتقادي أن هذا المظهر للتعسُّف وللتناقُض من المحتمل أن يكون مضَللًا، فهناك نوعٌ من المنطق الذي وجَّه باتساق هذه التدخُّلات الخاصة، ولسوء الطالع، لم يكن منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية، بل منطق الأمن، وكما سنرى فإن منطق الأمن يُولِّد بذاته مجموعةً من المعضلات.

والواقع أن المنظمات الأوروبية قد راقبَت بطريقةٍ نسقية بلدان ما بعد الشيوعية من خلال مسارَين متوازَيين؛ أحدهما يختص بالمعايير الدولية والآخر يتعلق بالأمن الإقليمي، وكما رأينا في القسم السابق فإن المنظمات الأوروبية قد أعدَّت عددًا من الهيئات لمراقبة إذعان بلاد ما بعد الشيوعية لمعايير حقوق الأقليات الدولية. لكنها أيضًا راقبَت، في الوقت نفسه، هذه البلاد لتُقدِّر ما إذا كانت تشكِّل تهديدًا للسلام والأمن الإقليميين، وبالتحديد تُحاوِل أن تتعرَّف على هذه الحالات التي قد تؤدي فيها أوضاع ومعاملة الأقليات إلى آثارٍ جانبية مُزعزِعة للاستقرار، وهذا المسار المتوازي للمراقبة الأمنية قد نُظم أساسًا من خلال منظمة الأمن والتعاون في أوروبا O.S.C.E، بما في ذلك مكتب المفوض الأعلى للأقليات القومية، والواقع أن عمل المفوض الأعلى يتحدد بوضوحٍ على أنه جزء من «السلة الأمنية» لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا O.S.C.E، التي تقع على عاتقها مهمة التحذير المبكِّر حول التهديدات المحتملة للأمن الإقليمي، ووضع توصياتٍ يُمكِن أن تقضي على هذه التهديدات، ويقع الناتو NATO (حلف شمال الأطلنطي) وراء منظمة الأمن والتعاون في أوروبا O.S.C.E، بتفويضه الأمني، وسلطته للتدخل العسكري إذا لزم الأمر، كما رأينا في البوسنة وكوسوفو.
ونحن باختصارٍ لدينا عمليتان متوازيتان ﻟ «تدويل» علاقات الدولة بالأقلية في أوروبا؛ الأولى مراقبة دول ما بعد الشيوعية من حيث إذعانها لمعايير حقوق الأقلية (وهو ما يُمكِننا أن نطلق عليه «مسار الحقوق القانونية»، والعملية الثانية مراقبة دول ما بعد الشيوعية من حيث تهديداتها المحتملة للاستقرار الإقليمي.٧٢
والواقع أن مسار الأمن كان دائمًا أكثر أهمية من مسار الحقوق القانونية في تحديد التداخُلات الفعلية في دول ما بعد الشيوعية، وأكثر الحالات أهميةً وشهرةً للتدخُّلات الغربية في قضايا الأقلية في دول ما بعد الشيوعية تقوم على حساباتٍ متعلقة بكيفية المحافظة على الأمن، وليس على كيفية التمسُّك بمعاييرَ عامة مثل الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية.٧٣
ولننظر الآن إلى الطريقة التي تتدخل بها المنظمات الغربية في أكبر حالات العنف العِرقي في أوروبا ما بعد الشيوعية؛ فمثلًا في مولدوفيا وجورجيا وأذربيجان وكوسوفو والبوسنة ومقدونيا، وفي كل حالةٍ من هذه الحالات دفعَت المنظماتُ الغربية دولَ ما بعد الشيوعية للذهاب إلى ما هو أكثر من متطلبات الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM)؛ فقد دفعَت الدول إلى قَبولِ شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي الإقليمي (في مولدوفيا، جورجيا، أذربيجان وكوسوفو)، و/أو شكلٍ ما من أشكال مشاركة السلطة ووضع اللغة الرسمية (في مقدونيا والبوسنة).

باختصارٍ، في السياقات التي ظهرت فيها بالفعل نزاعاتٌ عِرقية، اعترفَت المنظمات الغربية بأن الاتفاقية الإطارية قليلة الفائدة في حل النزاعات، وأن المطلوب هو شكل من أشكال الاشتراك في السلطة، والشكل الدقيق لهذا الاشتراك في السلطة قد حُدِّد عن طريق مجموعة من العوامل الموجودة في السياق، ليس أقلها التوازن العسكري الفعلي للقوة بين الفصائل المتنازعة، وإذا سلَّمنا بأن دافع الغرب هو حماية الأمن الإقليمي، فإن تدخُّله يتطلب تقديرًا دقيقًا لاحتمال التهديد الذي يُثار من قِبل عواملَ مختلفة، وتقديم توصياته تبعًا لذلك. بعبارةٍ أخرى، تدخل مبني على سياسةٍ واقعية، وليس على أي تصورٍ مبدئيٍّ قائم على العلاقات بين الدولة والأقلية.

ولمسار الأمن عددٌ من نقاط الجذب كوسيلةٍ للتعامل مع قضايا التعدُّد العِرقي، فهو يسمح بدرجةٍ عالية من المرونة والحساسية للسياق عند وضع التوصيات لبلادٍ معينة، وربما بدا ذلك عند بعض النقاد دليلًا على التعسُّف وعدم الاتساق أو التناقُض، لكن يُمكِن بدلًا من ذلك أن يُرى على أنه أمرٌ صحي واعترافٌ لا مندوحة عنه بالتعقيد، وفي بعض الحالات قد تُوظَّف هذه المرونة للمطالبة بإصلاحاتٍ تتجاوز الاتفاقية الإطارية، كما في الحالات التي ذكرتُها، ولكنه قد يسمح كذلك باحتمال أن تستثني المنظمات الأوروبية بلدانًا معينة من متطلبات الاتفاقية الإطارية، إذا كان ذلك سيعزز الأمن، وعلى سبيل المثال، في حالة بلغاريا، فإن الدستور الحالي (على غرار الدستور الفرنسي) من المؤكد أنه ينتهك في الأغلب الاتفاقية الإطارية ما دام ينكر وجود الأقليات ويمنع الأحزاب السياسية العرقية، غير أن الأقلية التركية في بلغاريا لم تبد أي علامة من علامات الضجر، من ناحيةٍ لأن الشروط الدستورية لم تفرض بشكلٍ صارم، والواقع أنه كثيرًا ما ينظر إلى بلغاريا كواحدةٍ من الأمثلة الإيجابية للعلاقات العرقية غير المتصارعة في البلقان،٧٤ وفي ظل هذه الظروف قرَّرَت المنظمات الأوروبية التي تعمل داخل المسار الأمني أن تدَعَ الفتنةَ نائمةً فلا تضغَط على بلغاريا لإصلاح دستورها وفقًا للاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM).

نظرًا إلى مرونة هذا المسار وقابليته للتكيُّف، فإن بعض المحلِّلين نظروا إليه على أنه أفضلُ من الاعتماد على مسار الحقوق القانونية. والواقع أن بعض الناس سوف يذهبون إلى أن مسار الحقوق القانونية ينبغي التخلي عنه، لا سيما إذا عرفنا الصعوباتِ السياسيةَ والمفاهيميةَ التي تُواجِهنا في صياغة الحقوق القانونية، فإذا لم تكن ثمَّة طريقةٌ عملية لتأسيسِ معاييرَ دوليةٍ مؤثِّرة لحقوق الأقليات، سواء كحقٍّ عام لتمتُّع المرء بثقافته، أو حقٍّ مستهدَف لتقرير المصير الداخلي، فلماذا لا نتخلى عن فكرة مسار الحقوق القانونية في حين نحافظ على قدرة التدخُّل في أوروبا ما بعد الشيوعية على أساس اعتباراتٍ أمنية؟!

وأنا أشُك في أن هناك بعضَ قادةِ المنظَّمات الأوروبية الذين شعَروا بالندم لتأسيس مسار الحقوق القانونية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، الذين قد يرغبون الآن في التراجع عنه. على أي حال، فإن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو (NATO) قد بَقِيا على قيد الحياة وازدهَرا من دون الاهتمام بحقوق الأقلية،٧٥ فلِمَ لا يُعاد النظر في قرارِ جعلِ حقوق الأقلية واحدةً من القيم الأساسية للنظام الأوروبي؟ وفضلًا عن ذلك — كما سبق أن رأينا — فإن القرار الأصلي في أوائل تسعينيات القرن الماضي بتطوير معاييرَ قانونيةٍ كان يقوم على أساس توقُّعٍ خاطئ حول احتمال خروج النزاع العِرقي على حدود السيطرة. ولقد أصبح واضحًا منذ ذلك الحين أن العنف العِرقي ظاهرةٌ محلية في أوروبا ما بعد الشيوعية، وأن توقُّعات حدوث العنف في دولٍ مثل سلوفاكيا أو إستونيا منعدمةٌ في المستقبل القريب؛ ولذلك من غير الضروري مراقبة ما إذا كانت هذه البلاد تُعامِل أقلياتِها طبقًا لما يُسمَّى بالمعايير الأوروبية.٧٦

ومن المؤكَّد أن الملاحظين الغربيين قد لا يقبلون بعض السياسات التي تبنَّتها هذه البلاد لو كان الأمر بأيديهم، لكن من غير المحتمل أن يؤدِّي تبنِّيها إلى العنف وعدم الاستقرار الإقليمي. قد تجرِّب بعض بلدان ما بعد الشيوعية سياساتِ تمثُّلٍ أو اندماجٍ عنيفة، لكن لو حدث ذلك فإن هذه السياسات سوف تفشَل بشكلٍ مؤكَّد، وفي النهاية سوف يظهر إجماعٌ محلي على سياسةٍ أكثير ليبرالية. وهذا ما حدث في الغرب، وليس هناك أي سببٍ يجعلنا نفترض أن ذلك لن يحدث أو لا يمكن أن يحدث في الشرق، وفضلًا عن ذلك فإن الأكثر احتمالًا أن تُستوعَب السياسات الليبرالية على أنها مشروعة، وبالتالي باقية، إذا نشأَت من هذه الأنواع من العمليات المحلية بدلًا من أن تُفرَض من الخارج.

ونظرًا إلى هذه الأسباب، اقترَح بعضُ المحلِّلين أن يتوقف الضغط على بلاد ما بعد الشيوعية لتمتثل للمعايير الدولية لحقوق الأقليات،٧٧ ومع ذلك فأنا أشك في أن يكون ذلك التراجُع ممكنًا، وكما ذكرتُ من قبل، فإن أفكار حقوق الأقليات أصبحَت الآن موجودة في مؤسساتٍ على مستوياتٍ مختلفةٍ عديدة في أوروبا، وسوف يكون من الصعب التخلُّص منها.
وفضلًا عن ذلك، فإن المسار الأمني، وحده، يولِّد عددًا من البواعث الضالة والعواقب غير المقصودة، وعلى وجه الخصوص فإن للمسار الأمني ميلًا جامحًا لمكافأة الدولة على تشدُّدها، والأقلية على تحفُّزها؛ فهو يمنح الدولة باعثًا لاختراع الإشاعات حول تلاعُب الدولة القريبة بالأقلية أو المبالغة فيها؛ وذلك لكي تفرض ادعاء أن الأقلية ليس لديها ولاء (أو أنها تخون الدولة) وأن اتساعَ حقوقِ الأقليات سوف يُعرِّض أمن الدولة للخطر، كما أنه يمنحُ الأقليةَ الحافزَ للتهديد بالعنف أو، ببساطة، الاستيلاء على السلطة، بما أنها الطريقة الوحيدة لكي تُوصلَ شكواها وتظلُّمها إلى أسماع المنظمات الدولية التي تراقب التهديدات الأمنية؛ فمجرد أنها تُعامَل بطريقةٍ ظالمة غير عادلة لا يكفي لجذب انتباه الغرب داخل المسار الأمني، إلا إذا كان مدعومًا بتهديدٍ خطير قادر على هدم استقرار الحكومات والأقاليم.٧٨
وانظر على سبيل المثال إلى منظور منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) للحكم الذاتي الإقليمي، كما سبق أن رأينا، بعد توصيتها المبدئية للحكم الذاتي الإقليمي عام ١٩٩٠م، فإن المنظمة تحوَّلَت نحو إحباط الحكم الذاتي الإقليمي، ونصحَت، بهمة، عدة أقلياتٍ بأن تتخلى عن مطالب الحكم الذاتي الخاصة بها، بمن في ذلك المجريون في سلوفاكيا، بيد أن منظمة الأمن والتعاون قد ساندَت الحكم الذاتي في عدة بلادٍ أخرى، بما في ذلك أوكرانيا (للقرم)، مولدوفيا (لقوقازيا وترانزنستريا)، جورجيا (لأبخازيا وأوسيتيا)، وأذربيجان (بالنسبة إلى نغورنو-كاراباخ)، وصربيا (بالنسبة إلى كوسوفو)، ما الذي يفسِّر هذا التنوُّع والاختلاف؟ تقول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا إن الحالات الأخيرة «استثنائية» أو «غير مألوفة» (زاغمان، ١٩٩٧م، ص٢٥٣، رقم ٨٤؛ ثيو، ٢٠٠٣م، ص١٣٢)، لكن ما يُمكِنني أن أقوله هو أن الطريقة الوحيدة التي تكون فيها هذه الحالات استثنائية هي الحالاتُ التي تقبضُ فيها الأقلية على السلطة بطريقةٍ غير دستورية ومن دون رضا الدولة.٧٩ وحينما استولَت الأقلياتُ على السلطة بهذه الطريقة، فإن الدولة لم تستطع سوى إلغاءِ الحكمِ الذاتي عن طريق الجيش. وتبدأ حرب أهلية، ولأسبابٍ واضحة فإن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لا تشجِّع هذا الخيار العسكري، وتُوصي بدلًا منه بأنه ينبغي على الدول أن تتفاوَض على الحكم الذاتي مع الأقلية، وأن تقبلَ شكلًا ما من أشكال النظام الفدرالي أو الاتحادي، الذي يعترف قانونيًّا بالواقع الموجود على الأرض؛ ومن ثَم فإن المفوض الأعلى للأقليات القومية أوصى بأنه سوف يكون من الخطر على أوكرانيا أن تحاول إلغاء نظام الحكم الذاتي القائم للعِرقية الروسية (بطريقةٍ غير مشروعة) في القرم (فان ديرستويل، العام ١٩٩٩م، ص٢٦).

في المقابل، كلما سعت الأقلية إلى الحكم الذاتي الإقليمي من خلال وسائلَ وطرقٍ سلمية وديمقراطية، عن طريق حكم القانون، عارضَته منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، على أساس أنه سوف يزيد من التوتُّر. وطبقًا للمفوضية العليا لهذه المنظَّمة ومراعاةً للمخاوف العامة في أوروبا ما بعد الشيوعية من عدم ولاء الأقلية والانفصال، فإن أي حديثٍ عن إعداد أي ترتيباتٍ لحكمٍ ذاتي إقليمي جديد سوف يؤدي إلى زيادة التوتُّرات، لا سيما إذا كانت الأقلية المُطالِبة بالحكم الذاتي الإقليمي مقيمة على حدود الدول القريبة؛ ومن هنا فقد أوصت المفوضية العليا بعدم دفع المجر في سلوفاكيا إلى الحكم الذاتي الإقليمي، نظرًا إلى مخاوف سلوفاكيا بصدد استرداد الأرض (فان ديرستويل، ١٩٩٩م، ص٢٥).

باختصارٍ، فإن منظور الأمن يكافئ تشدُّد كلا الجانبَين، لو أن أقليةً استولَت على السلطة، فإن منظمة الأمن والتعاون تُكافِئها بالضغط على الدولة لقبول شكلٍ «استثنائي» للحكم الذاتي، ولو رفضَت الأغلبية حتى مناقشة الحكم الذاتي من أقليةٍ مسالمة ومطيعة للقانون، تُكافِئها المنظَّمة بالضغط على الأقليات لكي تكون أكثر «برغماتية»، ويُعَد ذلك جموحًا من وجهة نظر العدالة، لكن يبدو أنه منطقٌ حتمي للمنظور القائم على الأمن، فربما يكون صحيحًا من المنظور الأمني أن منح الحكم الذاتي الإقليمي لأقليةٍ تُطيع القانون يزيد من التوتُّر، في حين أن مساندة الحكم الذاتي الإقليمي بعد الاستيلاء عليه بواسطة أقليةٍ مقاتلةٍ يقلِّل من التوتُّر.

وبمقدار ما يكون ذلك هو منطق المنطلَق الأمني، فإنه ينطوي على نتيجةٍ تتضمَّن مفارقةً تقوِّض الأمن، فالأمن الطويل الأمد يتطلب أن تُخفِّف كلٌّ من الدول والأقليات من مطالبها، وتقبل بمفاوضاتٍ ديمقراطية، وتسعى إلى تكيُّفاتٍ عادلة ومنصفة، ويتطلَّب أن تقود العلاقة بين الدولة والأقلية تصورات العدالة والحقوق، ليس فقط بسياسات القوة. وهذا بالطبع ما كان يُفترَض أن يدعمه مسار الحقوق القانونية ولماذا يجب أن يكمل المسار الأمني الخاص بكل حالة.

والمشكلة هي كيف نجعل المسارَين المتوازيَين للأمن والمعايير القانونية يعملان معًا، بدلًا من تعارُض أهدافهما؟ إننا في حاجةٍ إلى طريقةٍ لتشكيل معاييرَ قانونيةٍ تُساعِد على توضيح لماذا تستطيع الاقتراحاتُ المحدَّدة للدولة والخاصة بوضع اللغة الرسمية والحكم الذاتي أن تكون امتداداتٍ جائزة وشرعية لهذه المعايير وليست مجرد امتيازات للقتال. في المقابل، نحن في حاجةٍ إلى أن نجد طريقةً لتشكيل توصياتٍ أمنية محدَّدة الحالة توضِّح كيف تظهر هذه التوصيات من قيمٍ ومبادئ أكثر عمومية حول التكيُّف مع التنوُّع.

وبعض الممثلين الرئيسيين في المناقشات الأوروبية على وعيٍ تام بهذه المشكلة، وخلال فترة رئاسته الطويلة (من ١٩٩٣م إلى ٢٠٠١م) كان المفوض الأعلى السابق للأقليات القومية ماكس فان ديرستويل Max van der Stoel منشغلًا بالحاجة إلى الربط بين المعايير القانونية الحالية لحقوق الأقليات مع توصيات الأمن الخاصة بكل دولة،٨٠ في حين أن المعايير الحالية كانت غيرَ كافيةٍ للقيام بهذا الربط، فقد دفع إلى القيام بصياغةِ معاييرَ جديدةٍ مثل توصيات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) بالنسبة إلى التعليم، واللغة وحقوق المشاركة للأقليات القومية.٨١
ومع ذلك، فحتى مع توصيات منظمة الأمن والتعاون هذه تستمر المشكلة، والواقع أنه لا يُمكِن حلُّها ما دامت المعايير القانونية تُصاغُ على أنها حقوقٌ عامة للأقلية، وهناك ببساطةٍ هُوةٌ واسعة للغاية بين حقوق الأقلية العامة التي صيغَت في الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM) وتوصيات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) وأنواع السياسات والمؤسسات المطلوبة لحل النزاعات العِرقية السياسية الخطِرة أو منعها، وعلى الرغم مما بذَله فان دير ستويل جهود، فإن المقترحات الخاصة بالبلد التي تبنَّتها المنظماتُ الأوروبية بالنسبة إلى وضع اللغة الرسمية والاشتراك في السلطة أو الحكم الذاتي الإقليمي تعكسُ بوضوحٍ منطقَ الأمن بمكافأتها للأقليات التي استولَت على السلطة أو هدَّدَت بالعنف، وإحباطها للأقليات التي اتبعَت القواعد الديمقراطية للعبة.

الحق في مشاركةٍ فعَّالة

في استطاعتنا أن نرى هنا الإحراجاتِ المنطقيةَ باستكشاف الأساليب الرئيسية التي استخدمَتها المفوضية العليا للأقليات القومية (HCNM) وغيرها للربط بين المسار الأمني ومسار المعايير القانونية، أعني لتأييد فكرة أن لدى أعضاء الأقليات القومية «الحق في مشاركةٍ فاعلة» في الشئون العامة، لا سيما في المسائل التي تؤثِّر فيهم، ويُمكِن أن نرى هذا المنظور على أنه يقدِّم مرونةً كافية للتكيُّف مع المخاوف الأمنية القصيرة الأمد، على حين أنه لا يزال يقدِّم إطارًا معياريًّا واضحًا يقوم على الحقوق.
إن فكرة المشاركة الفعَّالة تلك ليست جيدة؛ فقد كانت موجودة بالفعل في إعلان كوبنهاغن الأصلي في العام ١٩٩٠م، التابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE). والواقع أنه كان على أساس هذا المبدأ أن جاء الإعلان بتوصية الحكم الذاتي الإقليمي، وقد تَمَّ الدفاعُ عن الحكم الذاتي للأقلية بوصفه وسيلةً جيدة لتحقيق مشاركةٍ فعَّالة، قد أسقطَت الإعلانات الأكثر حداثة، مثل إعلان الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM) العام ١٩٩٥م، الإشارةَ إلى الحكم الذاتي الداخلي، لكنها أبقت على الالتزام بالمشاركة الفعَّالة (في البند رقم «١٥»)، والواقع أن الإشارات إلى المشاركة الفعالة أصبحت أكثر ظهورًا، على سبيل المثال، أصبحَت الموضوع المركزي لمجموعةٍ حديثة من التوصيات التي قدَّمَتها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا باسم (توصيات لوند Lund حول المشاركة الفعَّالة للأقليات القومية، والتي قد تم تبنِّيها العام ١٩٩٩م).

إن فكرة الحق في مشاركةٍ مؤثِّرة وفعَّالة هي فكرةٌ جذَّابة لعدة أسباب، لكنها، فيما أعتقد، تعيد إنتاج المشكلات التي واجهَها إطار العمل الأوروبي الحالي لحقوقِ الأقليات بدلًا من حَلِّها، وأحد الأسباب التي تجعل هذه الفكرةَ جذَّابةً هو أنها تبدو ديمقراطيةً بشكلٍ يثير الإعجاب، فضلًا عن ذلك فإنها تتجنَّب المفاهيم الشكلية للحق في «استمتاع المرء بثقافته». وهي تعترف بأن الأقليات لا تُريدُ الحديثَ بلغتها فقط أو ممارسة ديانتها في حياتها الشخصية فقط، بل هي تُريد كذلك المشاركة كمواطنين متساوين في الحياة العامة، الحق في مشاركةٍ فعَّالة ومؤثِّرة يعترف بهذا البعد السياسي لتطلُّعات الأقلية وطموحاتها، في حين أنه يتجنَّب الأفكار «الخطيرة» و«الراديكالية» لتقرير المصير الذاتي القومي (كمب، ٢٠٠٢م).

ومن منظور النظرية المعيارية، فإن لهذا المنطلَق ميزةً إضافية هي تجنُّب خطَر أن تصبح الجماعاتُ أساسية. إن كلًّا من «حق استمتاع المرء بثقافته» و«حق تقرير المصير الذاتي الداخلي» يقومان فيما يبدو على افتراضاتٍ حول الطابع المتأصل للأقليات القومية، يُلمِّح الأول إلى أن لمثل هذه الجماعات «ثقافة» مشتركة ومتميِّزة تسعى إلى المحافظة عليها. أما الثاني فهو يلمِّح إلى أن لها «هوية قومية» متميِّزة ومشتركة تسعى إلى تقديمها من خلال الحكم الذاتي، ومع ذلك فنحن نعرف أن مثل هذه الجماعات ليست متجانسةً داخليًّا، ومن المحتمل أن يختلف أعضاءُ الجماعة حول أنواعِ التراث الثقافي الذي يرغبون في المحافظة عليه، والمدى الذي يرغبون من خلاله في أن يظلوا متميِّزين ثقافيًّا عن المجتمع الكبير، كما أنه يحتمل كذلك أن يختلفوا حول طبيعة هويتهم القومية، أو نوع الحكم الذاتي الذي يحتاجون إليه لحماية تلك الهوية، أما بالنسبة إلى المجتمع الدولي فإن القَبول بالحق في الثقافة أو الحق في تقرير المصير يبدو كأنه حكمٌ مسبق لهذه المناقشات الداخلية، وانحياز إلى أولئك الذين يُجادِلون من أجل تميُّزٍ ثقافيٍّ أكبر، أو حكمٍ ذاتيٍّ قوميٍّ أكبر، كأن «الثقافة» أو «القومية» سمتان ضروريتان لا يمكن الاستغناءُ عنهما عند هذه الجماعات بدلًا من أن تكُونا مَطلبَين.

وهذا النوع من المخاوف أثاره مفكِّرو ما بعد الحداثة، وكذلك أصحاب النظريات النقدية، كأساسٍ لرفض عملية جعل حقوق الأقلية الجوهرية دستورية، وتبنِّي حقوق أقليةٍ إجرائيةٍ خالصة بدلًا منها، كضمانات المشاركة والاستشارة (انظر: بن حبيب، ٢٠٠٢م؛ وفريزر، ٢٠٠٣م)، وهذه الحقوق الإجرائية تتجنب القيام بافتراضاتٍ جوهرية حول تميُّز ثقافة الجماعة وحُدود هُويتها، فالحق في مشاركةٍ فعالة ومؤثِّرة يسمَح لأعضاء الجماعة بتطوير مطالب الثقافة القومية، لكنه يتطلب أن تُبرَّر هذه المطالب من خلال عملياتٍ ديمقراطيةٍ مقصودة بدلًا من أن تكون مبرَّرة من خلال معاييرَ دستوريةٍ أو قوانينَ دوليةٍ متفَقٍ عليها سلفًا (ليتين ورايخ، ٢٠٠٣م؛ وليامز، ١٩٩٥م؛ ويونغ، ٢٠٠٧م).

ومع ذلك، فإن السبب الرئيسي الذي يفسِّر شعبية المشاركة الفعَّالة المؤثِّرة إلى هذا الحد هو غموضُها وخضوعُها لتأويلاتٍ عدةٍ متضاربة، وبالتالي إمكان أن يقبلَها الناسُ الذين لديهم مفاهيمُ مختلفةٌ جدًّا للعلاقات بين الدولة والأقلية، وبهذا المعنى فإن الإجماع الظاهر على أهمية المشاركة المؤثِّرة الفعَّالة يُخفي، أو يؤجِّل، الاختلافاتِ العميقةَ حول ما يَعْنيه ذلك، بالفعل.

عند الحد الأدنى من القراءة، فإن الحق في المشارَكة الفعَّالة يعني ببساطةٍ أن أعضاء الأقليات القومية ينبغي ألا يُواجِهوا التفرقة العنصرية في ممارسة حقوقهم السياسية المبدئية في التصويت الانتخابي، والدفاع عن القضايا والترشُّح للمناصب العامة. لقد تَمَّ اللجوء إلى هذا الحد الأدنى من القراءة لدفع إستونيا ولاتفيا إلى منح الجنسية للروس العِرقيين وتَمكينِهم من التصويت والترشُّح حتى إذا كانت تنقُصُهم الطلاقة التامة في اللغة المستخدَمة.

وفي قراءةٍ أكثر قوةً على نحوٍ ما، لم تتطلب المشاركة الفعَّالة المؤثِّرة أن يتمكَّن أعضاءُ الأقلية من التصويت أو الترشُّح للانتخابات فقط، بل أن يُنجِزوا بالفعل درجةً من درجات التمثيل في السلطة التشريعية، وقد لا يتطلب ذلك أن تكون الأقلية ممثلةً بعددٍ يتناسب مع حصتها من التَّعداد السكاني العام، غير أن انخفاض مستوى التمثيل قد يُنظَر إليه على أنه مشكلة، ولقد تَمَّ اللجوء إلى هذه القراءة لمنعِ المحاولاتِ التي تقومُ بها الدول لتعديل الحدود في المناطق الانتخابية لجعل انتخاب ممثلي الأقلية أكثر صعوبة، ومن المُمكِن أيضًا اللجوءُ إلى هذه القراءة لمنع محاولاتِ الدولِ تصحيحَ المتطلبات المبدئية لحصول أحزاب الأقلية السياسية على مقاعدَ في النظام الانتخابي.

وفي بولندا، على سبيل المثال، تنتخب الأقلية الألمانية بانتظامٍ مندوبين للبرلمان؛ لأنها مستثناةٌ من قاعدة الخمسة في المائة للدخول، ويستفيد حزبُ الأقلية الدنماركية من سياسةٍ مشابهة في ألمانيا، وعلى العكس رفعَت اليونان سقفَ متطلَّباتها الانتخابية وبالتحديد لتمنَع إمكانَ انتخابِ أحزاب الأقلية التركية (مجموعة حقوق الأقليات، العام ١٩٩٧م، ص١٥٧)، وهذا النوع من التلاعب ربما يُقضَى عليه في المستقبل.

لكنَّ أيًّا من هاتَين القراءتَين — بتركيزها على ممارسة الحقوق السياسية والتمثيل المُنصِف من دون تمييز — لا يصل بنا إلى لب المشكلة في معظم حالات النزاع العِرقي الخطير، حتى عندما تكون الأقلية قادرةً على المشاركة من دون تمييز، وحتى عندما تكون ممثَّلة بشكلٍ لا بأس به بالنسبة إلى تَعدادها السكاني، فقد تكون خاسرًا دائمًا في العمليات الديمقراطية، ويصدُق ذلك بصفةٍ خاصة في السياقات التي ترى فيها الجماعاتُ المُسيطِرة الأقليةَ على أنها يُمكِن ألا يكون لديها ولاء؛ ومن ثَم تُصوِّت ككتلةٍ واحدة ضد أي سياساتٍ تُمكِّن الأقليات من السلطة (تأمَّل المعارضةَ الكاملةَ تقريبًا داخل سلوفاكيا للحكم الذاتي للمناطق التي يُسيطِر عليها المجريون أو المعارضة داخل مقدونيا للاعتراف باللغة الألبانية كلغةٍ رسمية). في هذه السياقات، ربما لا يكون من المهم ما إذا كانت الأقليات تُمارِس التصويتَ أو تقومُ بانتخاب أعضاء البرلمان طبقًا لأعدادهم؛ فسوف يظل هناك تفوُّقٌ عليها من أعضاء الجماعة المُسيطِرة، وسوف يكون القرارُ النهائيُّ هو هو، سواءٌ شاركَت الأقليات فيه أم لا.

إذا تناوَلْنا حرفيًّا مصطلح المشارَكة الفعَّالة فسوف يبدو أنه يعوق هذا الموقف للأقليات القومية بوصفها أقليةً سياسيةً على نحوٍ دائم، وعلى أي حالٍ فإن المشاركة «الفعَّالة» تشير إلى أن المشاركة ينبغي أن يكون لها تأثير وفاعلية، أن تغيِّر المشاركة النتيجة، والطريقة الوحيدة لضمان أن تكونَ مشاركةُ الأقليات مؤثِّرة بهذا المعنى في داخل المجتمعات المنقسمة هو تبنِّي قواعدَ مضادة للأغلبية تتطلب شكلًا ما من أشكال المشاركة في السلطة. وقد يتخذ ذلك شكلَ الحكم الذاتي الداخلي أو ضماناتٍ توافقية لقيام حكومةٍ ائتلافية.

ويُمكِن أن نُسمِّي ذلك القراءة القُصوى للحَق في المشاركة الفعَّالة، وهي مشاركة تتطلب أشكالًا مضادةً للأغلبية للمشاركة التوافقية أو الفدرالية للسلطة. ومن الواضح أن ذلك هو التأويل الذي يعتمده العديد من منظمات الأقليات، لكن تعترض عليه بقوةٍ معظم الدول في الشرق والغرب للسبب نفسه تقريبًا الذي عُورضَت من أجله الإشاراتُ السابقة إلى حق تقرير المصير الداخلي (المخاوف من عدم الولاء، والمطالبة بالانضمام … إلخ). وبنجاح الدول في وقف حركة تقنين الحكم الذاتي الداخلي، فإن هذه الدول لن تقبلَ تفسيرًا للمشاركة الفاعلة يوفِّر بابًا خلفيًّا للحكم الذاتي، إن الاتفاق على الحق في المشارَكة الفعَّالة أصبح ممكنًا تحديدًا لأنه يُرى على أنه بديل، وليس وسيلة، للحكم الذاتي للأقلية؛ ومن ثَم فتأويل المشاركة الفعَّالة من المحتمل أن يظل متمركزًا عند مستوى عدم التمييز والتمثيل المُنصِف، أعني عند مُستوًى لا يعالج الأسباب الفعلية للصراع العِرقي المُزعزِع للاستقرار.

وهناك استثناءٌ واحدٌ مُمكِن من هذا التعميم؛ فقد تتبنَّى المنظماتُ الأوروبية التأويلَ الأقصى للمشاركة الفعَّالة؛ حيث تكون أشكالُ الاشتراك في السلطة موجودةً بالفعل، ومن المعروف على نطاقٍ واسع أن محاولاتِ الدول إلغاءَ الأشكالِ الموجودة للحكم الذاتي للأقلية هي وصفةٌ لكارثة (مثل كوسوفو، نغورنو-كاراباخ، وأوسيتيا)؛ ومن ثَم فإن المنظمات الأوروبية تُحب أن تجد أساسًا في القانون الدولي يمنع الدول من اللجوء إلى الأشكال الموجودة للحكم الذاتي للأقلية. ومعيارُ المشاركة الفعَّالة هو اقتراحٌ مقبول؛ محاولات إلغاءِ أنظمة الحكم الذاتي ذات الوجودِ السابق من المُمكِن رؤيتُها كمحاولةٍ متعمَّدة لإضعاف الأقليات، وبالتالي إنكار لحقها في المشاركة الفعَّالة.

هذه الفِكرة التي تقولُ إن المشاركة الفعالة تَحمي أشكالَ الحكم الذاتي التي كان لها وجودٌ سابق والمشاركة في السلطة قد طوَّرَها بعض المحلِّلين،٨٢ ولقد لجأَت إليها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ذاتها لتبرير توصياتها للحُكم الذاتي الإقليمي والتوافقية في بلادٍ مثل جورجيا ومولدوفيا. ولقد سَبَق أن ذكرتُ أن توصياتِ الاشتراك في السلطة انبثقَت من المسار الأمني، أكثر من انبثاقها من أي قراءةٍ للمعايير القانونية الدولية، غير أن المنظَّمات الغربية كانت حريصةً على أن تُبيِّن أن هذه التوصيات لا تمثِّل مكافأة للأقليات المقاتلة، وأن هناك أساسًا معياريًّا لتوصياتها، وادعاء أن إلغاء الاشكال ذات الوجود السابق للاشتراك في السلطة أمرٌ يقوِّض المشاركة الفعَّالة، ويوفِّر أساسًا مبدئيًّا لتَوصياتِها.

والصعوبة، بالطبع، تكمُن في تفسير السبب الذي يجعلُ الأشكال الموجودة للحكم الذاتي الإقليمي هي الوحيدة التي تَحمي المشاركة الفعَّالة، إذا كان الحكم الذاتي الإقليمي مطلوبًا لضمان المشاركة المؤثِّرة للأبخازيين في جورجيا، أو الأرمن في أذربيجان، فلماذا لا يكون مطلوبًا أيضًا للمجريِّين في سلوفاكيا أو الألبان في مقدونيا؟ ولو أن إلغاء الحكم الذاتي يُضعِف الأقليات، فلماذا لم يُضعِف الأقليات التي لم تُقبَل قَطُّ مطالبها في الحكم الذاتي؟ وبالتالي فإذا كانت مؤسَّسات المشاركة في السلطة ليست مطلوبةً لضمان المشاركة الفعَّالة للمجر في سلوفاكيا، فلماذا تكون مطلوبةً للأرمن في نغورنو-كاراباخ أو للروس في القرم؟!

ويبدو أنه ليس هناك أساسٌ مبدئي لتمييز تلك الأقليات التي تَصادَف أن نالت الحكم الذاتي أو استولَت عليه في مرحلةٍ ما من الماضي. ويُمكِن تفسير المعالجة المختلفة لمُطالَبات الأقليات في الحكم الذاتي فقط كتنازلٍ للسياسة الواقعية. ومن وجهة نظر مُحتاطة فإن حرمان الأقليات من الحكومات الذاتية الموجودة بالفعل، والتي حاربَت في الماضي للحصول عليها، هو أكثر خطورةً من رفضِ منحِ حكوماتٍ ذاتيةٍ جديدة الأقليات لم تُظهِر أي استعدادٍ لاستخدام العنف في السعي إلى الحصول على الحكم الذاتي.

وباختصار، فإن تأويل المشارَكة الفعَّالة الذي يميِّز الحكم الذاتي الذي كان له وجودٌ سابق يعاني العيب نفسه الذي يعانيه المسار الأمني؛ فهو يكافئ الأقليات المقاتلة في حين يُعاقِب الأقليات المسالمة التي تطيع القانون وتلتزم به. ومثل المسار الأمني، فإن منظور المشارَكة الفعَّالة على نحوٍ ما تطوَّر في وقتنا الراهن، صُمِّم لكي يتلاءم مع التهديد المحتمَل للأطراف المتنازِعة، تلك الأقليات التي لديها القدرة والاستعداد لزعزعة استقرار الحكومات والأقاليم في إمكانها أن تنال أشكالًا جادة من الاشتراك في السلطة والاحتفاظ بها باسم المشاركة الفعَّالة المؤثِّرة، وتلك الأقليات التي لا تعترف بالتهديد العنيف لم تنَل ذلك.

وهذا الحديث يُوحي بأن منظور المشاركة الفعَّالة والاحتفاظ بها يضاعف المشكلات التي تعرَّفنا عليها في منظوراتٍ أخرى لا بد من أن يحلَّها،٨٣ فإذا ما تم تأويل المشاركة الفعَّالة المؤثِّرة بحدها الأقصى لكي تتضمن الاشتراك في السلطة، عندئذٍ سوف تكون أقوى للغاية من أن تتقبلها الدول، وستُرفض للسبب نفسه الذي رُفض من أجله المنظور المستهدف لحق تقرير المصير الداخلي. ولو أن التأويل قد فُسِّر في حده الأدنى لتغطية التفرقة العنصرية والتمثيل المُنصِف فقط، لوجدنا عندئذٍ أنه أضعفُ كثيرًا من أن يكون قادرًا على حل الحالات الحادة والخطيرة للصراع العِرقي، ولن يكون فعالًا للأسباب نفسها التي جعلَت منظورَ الحقِّ العام في الثقافة غير مؤثِّر، ولو أننا فحصنا كيف تم اللجوء إلى فكرة المشاركة الفعَّالة بالفعل في حالات الصراع، فسوف نرى أنها، مثل المسار الأمني، تقوم على سياسة القوة، لا على مبادئ عامة؛٨٤ فلقد أصبحَت المشاركة الفعَّالة موقعًا جديدًا ومهمًّا لإنهاء التوتُّرات بين الأمن القصير الأمد والعدالة الطويلة الأمد، لكنها بذاتها لم تقدِّم لنا صيغةً لحل هذه التوتُّرات.

خاتمة

لقد تبنَّت المنظمات الأوروبية مدًى واسعًا من الأساليب لتُساعِدها في إعادة تشكيل العلاقات بين الدول والأقليات في أوروبا ما بعد الشيوعية، مستلهمةً الرغبة في تنميةِ نموذجٍ أكثر ليبرالية وديمقراطية للتعدُّدية ومنع النزاع العِرقي الضار والمُزعزِع للاستقرار. لقد بحثتُ في هذا الفصل ثلاثةَ أنواعٍ من الأساليب؛ تعميم أفضَل الممارسات، وتشكيل المعايير القانونية، والتدخُّلات في حالاتٍ خاصة.

وأفضلُ ما يمكن أن تُوصَف به النتائج العامة لهذه الجهود هو أنها مركَّبة، وتُحدث في الأغلب انفصامًا في الشخصية، لكن مجموعة من هذه الأنشطة مشكلاتُها الخاصة في صياغة رسالةٍ واضحة ومنسقة، لكننا لو وضعناها معًا فسوف يتضاعف الارتباك.

يتضمَّن منظور «تعميم أفضل الممارسات» نشر معلوماتٍ حول أكثر الأشكال تقدمًا للتعددية الثقافية الليبرالية الغربية، غالبًا بطريقةٍ ساذجة من دون مراعاة للشروط المسبقة التي مكَّنَت هذه الممارسات من أن يتم تبنِّيها في المقام الأول، وسوف تكون النتيجة في أفضل الحالات غير مؤثِّرة، وفي أسوأ الحالات قد تتسبَّب في عدم الاستقرار، لو أنها شجَّعت الأقليات في بلاد ما بعد الشيوعية على مطالبات ليس في قدرة الدول تلبيتها.

ولقد وقع منظور «تشكيل المعايير القانونية» في مأزقٍ كبير؛ فقد تبنَّى بشكلٍ أساسي منظورًا موجهًا إلى المعايير القانونية، لا يهدف إلى تحديدِ معاييرَ عامة لحقوق الأقليات، إنما بالأحرى إلى التركيز على أنواعٍ معيَّنة من جماعات «الأقلية القومية» ومطالبها المتميِّزة، ويعكس هذا القرار كلًّا من منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب الذي يتضمن مطالب تختلف من جماعاتٍ إلى أخرى، ومنطق النزاع القومي في أوروبا ما بعد الشيوعية، الذي يرتبط بشكلٍ قوي بموضوعاتٍ تتعلق بتاريخ جماعات أرض الوطن ومنطقتها. ومع ذلك، فإن الخوف الأساسي من النزاع العِرقي الذي ألهم هذه الجهود لتشكيل معاييرَ موجهة قد شكَّل أيضًا هذه الجهود؛ فقد رفضَت المنظماتُ الأوروبية النماذجَ الغربيةَ للتعامل مع مطالبِ جماعاتِ أرض الوطن، على أساس أنه من المحتمل أن تكون خطرةً وقد تتسبَّب في زعزعة الاستقرار في سياق تحولات ما بعد الشيوعية، من دون تقديم أي بديلٍ مقبول يحلُّ محلها، ونتيجة لذلك لا تُخاطِب المعاييرُ الحالية ببساطة القضايا المتنازع عليها. فضلًا عن ذلك، فإن بعض الأطراف تتشكَّك الآن في جاذبيةِ أو حتى شرعيةِ عزلِ جماعاتِ أرض الوطن كهدفٍ لمعايير حقوق الأقليات.

هناك وعي، وفقًا لعلم الاجتماع، بأن جماعاتِ أرضِ الوطن قد ولدَت أشكالًا متميِّزة من الحَرَاك العِرقي السياسي، يضرب بجذوره في مطالب الأرض والتاريخ، لكنَّ هناك شكًّا قويًّا حول كيفية اعتراف القانون الدولي بالشرعية القانونية والأخلاقية لتلك المطالب. وهكذا، فإن كل منظورٍ للمعايير القانونية يبقى معلقًا في الهواء، غير مؤثِّر سياسيًّا، وغير مستقرٍّ مفاهيميًّا، وإذا تحدثنا من الناحية الصورية فإنه يبقى موجهًا، لكن بطريقةٍ لا تتبع منطق الصراع العِرقي في بلاد ما بعد الشيوعية، ولا منطق التعددية الثقافية الليبرالية في الغرب؛ ومن ثَم فإنه يواجه ضغطًا ليتحول مرةً أخرى إلى منظورٍ أكثر عمومية.

إن منظور التدخُّل في الحالات الخاصة يقدِّم مجموعةً أخرى من الرسائل، من المحتوم في الأغلب أن تتضمَّن هذه التدخُّلات دفع الدول إلى تجاوز الحد الأدنى من المتطلبات القائمة في منظور المعايير القانونية، وكثيرًا ما تدعم بشكلٍ عادل أشكالًا قوية من الحكم الذاتي الإقليمي، وضع اللغة الرسمية، أو مشاركة توافقية في السلطة، والمشكلة هنا هي أن هذه التدخُّلات والتوصيات لا تُوجَد إلا في الحالات التي تكون فيها الأقلياتُ قادرةً على فرض تهديدٍ خطيرٍ لزعزعة استقرار الدول، ونتيجةً لذلك كانت التوصياتُ تُدرَك بصفةٍ عامة لا كتعبيرٍ عن التزامٍ مبدئي بمعاييرَ متقدِّمة لحقوق الأقليات بل كرشوةٍ بغير مبدأ للأقليات المقاتِلة.

تُوجَد هنا سخريةٌ مضلِّلة؛ فالتدخُّلات في الحالات الخاصة كثيرًا ما تتضمَّن نُسخًا من نماذجِ الفدرالية ذات القوميات المتعدِّدة التي أكَّدها منظور أفضل الممارَسات؛ ومن ثَم تقدِّم حمايةً أقوى للأقليات من أي شيء قُبِل في ظل منظور المعايير القانونية. غير أن هذا الدعم التدريجي الذي يستجيب للتهديدات الأمنية بدلًا من الحُجَج المبدئية، يُولِّد سخريةً حول مشروع حقوق الأقلية بأكمله.

إننا إذا ما وضعنا هذه المساراتِ الثلاثةَ معًا فإن النتيجة ستكون رسالةً مختلطة، إذا وصَفْناها وصفًا كريمًا، لقد أصبحَت المنظماتُ الأوروبية متورطةً في هذا المجال على أملِ تشكيلِ العلاقاتِ بين الدول والأقليات في اتجاه بناءٍ أكثر، لكن كثيرًا ما يكون من الصعب جدًّا أن نعرف ما الرسالة التي يُحاوِلون بالفعل إرسالها إلى الدول أو الأقليات؛ فالجهود الأوروبية تشجِّع وتُحبِط الحَرَاك العِراقي السياسي من قِبل أقليات أرض الوطن، فهي تُصادِق على قيمة النماذج الغربية للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات وتفنِّدها في آنٍ معًا، تؤكِّد وتُنكِر شرعية حقوق الأقليات الموجهة في آنٍ واحد.

وكما سنرى في الفصل التالي، فإن هذه الالتباسات الغامضة ليست حكرًا على الأوروبيين؛ فهي تميِّز المناقشات العالمية الأكثر عمومية حول التعددية الثقافية الليبرالية أيضًا، والمُعضِلات الأساسية نفسها — سذاجة خطاب «أفضل الممارَسات»، والتوتُّر بين المعايير القانونية العامة والموجهة، ونتائج وآثار التدخُّلات في الحالات الخاصة — إنما تُوجَد كذلك في الجهود العالمية لنشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية.

١  New Statesman and Society.
٢  انظر التقرير العالمي عن الهجرة الدولية العام ٢٠٠٥م، لا سيما الفصل الرابع، وتقرير منحة كارنيغي حول مشروع المواطنة (آلينيكوف وكلسميير، ٢٠٠٢م)، لا سيما الفصل الثالث، وتقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية في مجال «الحرية الثقافية في عالمنا الراهن» (UNDER2004)، لا سيما الفصل الخامس من برامج اليونسكو عن الهجرة العالمية وسياسة التعددية الثقافية www.unesco.org/migration.
٣  على سبيل المثال، لم تهدف الاتفاقية الأوروبية للعام ١٩٧٧م، حول الوضع القانوني للعمال المهاجرين، أو اتفاقية الأمم المتحدة الدولية للعام ١٩٩٠م، حول حماية حقوق جميع العمال المهاجرين وعائلاتهم، لم تهدف إلى تشجيع أيٍّ من سياسات التعددية الثقافية للمهاجرين، التي ذكَرتُها في الفصل الثالث، وكما لاحظ كيلر، فإن «البعد الثقافي لحياة المهاجرين غالبًا ما تم تجاهله تمامًا» في تلك الاتفاقيات (كيلر، ١٩٩٨م، ص٤٦)، الاستثناء الوحيد الذي يُثبِت القاعدة هو المادة ١٥ من الاتفاقية الأوروبية، التي تشجِّع «فصولًا خاصة لتعليم العمال المهاجرين لغتَهم الأم، لتسهيل عودتهم إلى بلدانهم الأصلية، ضمن أهدافٍ أخرى»، أي تشجيع تعليم اللغة الأم ولكن فقط بناءً على افتراض عودة المهاجرين إلى «أوطانهم»، ولا توجد أي إشارة في هذه الوثائق إلى التزام بالمواطنة المتعددة الثقافات للمهاجرين.
٤  انظر توصية الاجتماع البرلماني الرقم ١٦٠٩ (العام ٢٠٠٣م).
٥  انظر على سبيل المثال: كيمليكا وأوبلسكي، العام ٢٠٠١م، ص٣٨٤.
٦  قدَّمَت كرواتيا استقلالًا ذاتيًّا لمنطقة كراجينا Krajina الانفصالية عندما كانت تحت سيطرة الصرب العِرقيين، وعندما لم يقبل الصرب، غزاها الجيش الكرواتي وأعاد احتلال الأرض، وطرَد الصربيين على الفور، حتى يتأكَّد أنه لن تكون هناك فرصةٌ لاستقلال الصرب في المستقبل. وهناك بلادٌ أخرى جرَّبَت الخيار العسكري في تعاملها مع المناطق الانفصالية؛ فقد قامت جورجيا ومولدوفيا، وأذربيجان كلها بمحاولاتٍ عسكرية لاستعادة السيطرة على مناطقها الانفصالية، لكنها خسرَت الحروب النهائية؛ وبالتالي تتفاوض الآن على الحكم الذاتي لأبخازيا وأوسيتيا وترانسنستريا ونغورنو-كاراباخ. ولقد كان الموقف المبدئي لحكومة البوسنة هو أيضًا نحو دولةٍ مركزيةٍ موحَّدة، بلا أحكام لاستقلال الأقليات، والترتيبات الإقليمية السائدة هي نتيجة حربٍ أهلية لم تُحسَم. إن مفاوضات الحكم الذاتي في جميع هذه الحالات كانت بالفعل هي الملاذ الأخير، الذي تم تبنِّيه فقط بعد أن سيطَرَت الأقليات على الأرض، وفشلَت المحاولاتُ العسكرية في استردادها. ولقد كانت حالة القرم في أوكرانيا استثناءً جزئيًّا لهذا التعميم، وبينما لم تحمل الأقلية الروسية السلاح لتستولي على المنطقة بالقوة العسكرية، فإنها مارسَت سلطتها على الإقليم، وهدَّدَت بإعلان الاستقلال من طرفها (وبطريقةٍ غير دستورية) وبالانضمام إلى روسيا، وفي النهاية ردَّت أوكرانيا على شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي الخاص بالإقليم، بدلًا من مواجهة الحرب الأهلية (ماربلس وديوك، العام ١٩٥٥م)، على الرغم من أنها هدَّدَت في فترةٍ مبكرة بأن إعلان الاستقلال الروسي في أوكرانيا سوف يؤدي إلى حربٍ أهلية (لايتين، العام ١٩٩٨م، ص١٠٠).
٧  هناك استثناءٌ محتمل هو روسيا نفسها، التي كان لها دستورٌ فدرالي عندما كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي، واحتفظَت بصورتها الفدرالية حتى بعد أن انشقَّت عن الاتحاد السوفييتي، غير أن ذلك مجرد استثناءٍ جزئي فقط ما دامت الدولة الروسية المركزية لم تكن تسيطر في الواقع على جميع أراضيها عندما انهار الاتحاد السوفييتي؛ حيث سيطر عددٌ من مناطق الأقليات، التي أعلنَت درجاتٍ متفاوتةً من السيادة والاستقلال، وفضلًا عن ذلك فمن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن فدرالية القوميات المتعددة كانت محل نزاع في روسيا؛ فكثير من القادة المثقفين الروس لم يُحبوا ما أطلقوا عليه اسم «الفدرالية العِرقية»، بل فضَّلوا أن يحل محلها الأسلوب الألماني للفدرالية الإدارية؛ حيث لا تمارس الأقليات القومية الحكم الذاتي الإقليمي (فاسيليفا، ١٩٩٥م؛ وأوبالسكي، ٢٠٠١م)، وقبولهم للنظام القائم هو تقريبًا قبولٌ استراتيجيٌّ انتقالي؛ ومن ثَم فإن روسيا ليست مختلفة عن بلاد ما بعد الشيوعية الأخرى كما تبدو للوهلة الأولى.
٨  حول ألوان الخلط الكثيرة التي تتضمنها مناقشات القومية العِرقية والمدنية، انظر: كيمليكا، العام ٢٠٠١م، الفصول من الثاني عشر إلى الخامس عشر.
٩  حول مركزية هذه «العلاقة الثلاثية» بين الدول، والأقليات، والدول القريبة في أوروبا ما بعد الشيوعية، انظر كتاب «بروبيكر»، العام ١٩٩٦م، وفي المقابل هناك كثير من الأمثلة النموذجية للأقليات القومية في الغرب ليست لها دولةٌ قريبة (انظر مثلًا الكتالونيين والباسك والاسكتلنديين، وسكان ويلز، والكيوبيك، والبيرتو ريكانز)، وحتى الفرنسيون والإيطاليون في سويسرا لا يُنظر إليهم، إن شئنا الدقة، على أنهم أقلياتُ الدول القريبة، وكما لاحظ غرين Grin، أن مهمة الحفاظ على الوحدة في سويسرا قد أصبحَت أكثر سهولةً لأن الجزء الذي يتحدث الفرنسية في سويسرا لم يكن مطلقًا في أي لحظةٍ من لحظات تاريخه (فيما عدا عدة سنواتٍ قليلة من حكم نابليون خاصة بالضم الجزئي) جزءًا من فرنسا، ولم يكن الجزء الذي يتحدث الفرنسية في سويسرا من سلالة أو أبناء عمومةٍ فرنسية … وبالمثل فإن الجزء السويسري الذي يتحدث الألمانية لم يكن جزءًا من ألمانيا، والقطاع السويسري الذي يتحدث الإيطالية لم يكن جزءًا من إيطاليا (غرين، ١٩٩٩م، ص٥).
١٠  والواقع أن حركة الأقليات بأَسْرها في أثناء الحرب الأوروبية وعصبة الأمم كثيرًا ما كان يُنظر إليها على أنها مؤامرةٌ ألمانية تُستخدَم فيها الأقليات الألمانية العرقية كوسيلةٍ لزعزعة الدول المجاورة، والمنظمة الأوروبية الرئيسية للأقليات القومية في فترة الحرب — مجلس القوميات الأوروبية الذي تأسَّس في العام ١٩٢٥م — شملَت كثيرًا من القوميات غير الألمانية، لكنها نُظمَت أساسًا من قِبل العِرقية الألمانية في البلطيق، وتُموَّل أصلًا من الخارجية الألمانية، سواء من خلال جمهورية فيمار، أو بعد ذلك في ظل النازي، وحقيقة أن النازيين قد استغلوا المجلس وموضوع الأقليات بصفةٍ عامة وسيلةً لزعزعة استقرار الدول المجاورة هو أمرٌ واضح بما فيه الكفاية، وهناك مناقشاتٌ أكثر من ذلك حول نوايا المنظِّمين الأساسيين للمجلس الأوروبي في عشرينيات القرن الماضي، ومن أجل نقاشٍ حول التزام كثيرٍ من الشخصيات الرئيسية بالنموذج الليبرالي لحقوق الأقليات، بدلًا من الالتزام بقضية الانضمام أو السيادة الألمانية، انظر: هوسدن، ٢٠٠٦م.
١١  وينطبق الشيءُ نفسُه على أقليات الدول الأخرى القريبة الممكِنة في الغرب التي ترتبط بالعِرقية بدولةٍ مجاورة، الفرنسيون في سويسرا أو في بلجيكا لا يُنظر إليهم على أنهم طابورٌ خامس لفرنسا، ولا يُرى الفلمنكيون على أنهم طابورٌ خامس لهولندا، كما أن السويديين في فنلندا لا يُرونَ كطابورٍ خامس للسويد، وتلك توصيةٌ للنجاح الخارق للاتحاد الأوروبي، ولحلف الأطلنطي (الناتو NATO) في عدم تأمين سياسة الأقلية القومية في أوروبا الغربية، وعلى كل حال فالذكريات تموتُ بصعوبة، انظر هيلارد، ٢٠٠٢م بالنسبة إلى قضية أن تطوير المعايير الأوروبية لحقوق الأقليات والحكم الذاتي الإقليمي ما بعد العام ١٩٩٠م هو مؤامرة ألمانية لزعزعة استقرار جيرانها، إحياء للاستراتيجيات نفسها التي كان يستخدمها النازي وجمهورية فيمار من قبلُ (نص مقتبَس بالإنجليزية من كتابه نُشر في «الاستراتيجيات»، رقم ٤).
http://www.strategicinternational.com/4enhilard.htm.
١٢  العبارة صاغها، فيما أعتقد، توف سكونتاب كانغاس، من أجل تطبيقها على البلطيق، انظر: دروفييت، العام ١٩٩٧م.
١٣  لم تكن يوغسلافيا «إمبراطورية» بالمعنى الذي كان عليه الاتحاد السوفييتي؛ ولذلك لم تكن صربيا قوةً «إمبريالية» بالمعنى الذي كانته روسيا، ولكنها كانت الجماعة المُسيطِرة داخل يوغسلافيا، والقادة القوميون بين البوسنة والكروات كانوا دائمًا يقاتلون ضد ما تصوَّروه محاولات لتحويل أجزاء من يوغسلافيا إلى صربيا الكبرى، مستغلين الأقلية الصربية في جمهورياتٍ أخرى كوسيلة.
١٤  يختلف هذا التحليل عن نظرة «أريان أبودوراي» التي تدَّعي أن العنف هو المحتمل أكثر عندما تكون الأقليات صغيرة، وتلك ظاهرة يسميها «قلق الأعداد الصغيرة» (٢٠٠٦م، ص٨)، ووفقًا لأبودوراي فإن الأقليات الصغيرة تبدو أشبه ﺑ «العقبة الضئيلة» أمام حُلم الأغلبية بنقاء الأمة، وكلما كان حجم الأقلية ضئيلًا زاد غضب الأغلبية وشعورُها بعجزها عن تحقيق هذا الحلم (٢٠٠٦م، ص٥٣)، غير أن المثال الذي يستشهد به عادةً عن العنف ضد الأقليات يتعلق بأقلية اﻟ ١٠٠ مليون مسلم القوية في الهند، وهي في الواقع أعظمُ أقليةٍ في العالم! وهو يلاحظ — كما فعل في مكانٍ آخر — أن قلق الهندوس بصدد هذه العقبة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمخاوف السياسية الجغرافية الأوسع من أن الأقلية المسلمة سوف تتعاون مع الدول الإسلامية المجاورة للهند، وعلى ذلك فإن مثالَه الذي يذكُره يشير إلى أن قوة الأقليات بالإضافة إلى حلفائها الإقليميين المحتمَلين، هي التي تخلق المخاوف، وليس صغرها.
١٥  هذا الخطاب المنتشر عن الولاء وعدم الولاء قد تفاقَم في بعض البلاد عن طريق نسخةٍ محلية لفرضية هنتينغتون حول «صدام الحضارات» (هنتينغتون، ١٩٩٦م)، من هذا المنظور ينقسم العالم إلى «حضارات» متميزة، تضرب جذورها أساسًا في الدين، تحمل صراعًا متأصلًا؛ ومن ثَم فإن الصراع بين الصرب والألبان حول كوسوفو ليس مجرد صراع حول اللغة والثقافة والقومية، بل هو أيضًا صراعٌ بين الحضارات، بين الحضارة المسيحية الأرثوذكسية، والحضارة الإسلامية، لا يمكن لحضارتَين أن تتعايشا كنِدَّين في دولةٍ واحدة، فلا بد لإحداهما أن تُسيطِر، في حين تخضع لها الأخرى (وهنا تكون عرضة لعدم الولاء)، ونظرة صدام الحضارات هذه تُستدعَى أيضًا، ليس فقط عند الصراع بين المسيحيين والمسلمين، بل أيضًا بين الكاثوليك والأرثوذكس (كما هي الحال مثلًا في رومانيا)، أو بين البروتستانت والكاثوليك (كما هي الحال مثلًا في إستونيا)، وحينما يقبل الناس هذه الفرضية عن صدام الحضارات، فلن يكون هناك مجال للتساؤل عن العدالة أو إنصاف الأقليات؛ فالعلاقات بين الحضارات المتصارعة هي مسألة أمن وقوة، وليست مسألة عدل.
١٦  لمناقشة عدم الولاء، والأمن، والطابور الخامس انظر: آندريسكو، العام ١٩٩٧م (المجر في رومانيا)؛ وميهاليكوفا، العام ١٩٩٨م، ص١٥٤–١٥٧ (المجر في سلوفاكيا)؛ نلسون، العام ١٩٩٨م؛ سولتشانيك، العام ١٩٩٤م؛ جورسكي، العام ١٩٩٨م (الروس في أوكرانيا)؛ أوف، العام ١٩٩٣م، ص٢٣-٢٤؛ ستراذاري، ١٩٩٨م (راجع الألبان في مقدونيا)؛ بتاي، العام ١٩٩٨م (وراجع الروس في البلطيق).
١٧  معارضة الحكم الذاتي الإقليمي في أوروبا ما بعد الشيوعية كثيرًا ما يُقال إنها نتيجة، ليست فقط للمخاوف الأمنية، وإنما لعواملَ أخرى، مثل طريقة اختلاط الجماعات العِرقية أكثر من تركُّزها إقليميًّا، أو مخاوف «التصعيد والتكاثر» (أوف، العام ١٩٩٨م و٢٠٠١م)، و«التصعيد» هو الخوف من أن تتصاعد مطالب الجماعات التي تُمنَح الحكم الذاتي الداخلي فتطالب بالانفصال التام، والتكاثر هو الخوف من أنه إذا ما عُرض الحكم الذاتي الداخلي على إحدى الجماعات المتحركة المسموعة الصوت، فإن الجماعات الأخرى، التي كانت في السابق ساكنة وهادئة، سوف تُشمِّر عن ساعدَيها وتطالب بالحكم الذاتي. ومع ذلك فهذا اللونان من التكاثر والتصعيد موجودان في الغرب كذلك، ومع ذلك فالدول الغربية قد سارت في طريق الحكم الذاتي الداخلي. وقد اتضح أن المخاوف من التصعيد والتكاثر لم تكن سوى مبالَغات، على الأقل في السياق الغربي، وبالمثل فإن مستوى التركيز الإقليمي للأقليات في بلاد ما بعد الشيوعية لا يختلف اختلافًا جوهريًّا عن ذلك الموجود في الغرب، (لقد نَفِدَت دعاوى أوف Offe عن التركيز الإقليمي، والتصعيد، والتكاثر في كيمليكا، ٢٠٠٢م)، وإذا ما أردنا أن نفهم سبب معارضة الحكم الذاتي الإقليمي القوية في بلاد ما بعد الشيوعية في أوروبا مقارنةً به في أوروبا الغربية، فإننا نحتاج إلى فهم العوامل الكامنة التي تجعل قضايا التصعيد والتكاثر مصدَر تهديدٍ كبير، ولا بد أن أذهب إلى أن ذلك يرتبط بتركيبة الأمن، والهيراركيات التاريخية، وانعدام الثقة في آليات حماية الحقوق.
١٨  ويصدُق ذلك بصفةٍ خاصة على بلاد مثل رومانيا، وتركيا، التي تأثَّرَت بتراث اليعاقبة الفرنسي، لمعرفة قُوة هذه الأيديولوجيا في أوروبا ما بعد الشيوعية، انظر: كتاب ليبش، العام ٢٠٠٤م.
١٩  هناك الآن قدْرٌ كبير من الكتابات عن قوة الحركات التي تدعو إلى إصلاح وتسوية الأخطاء التاريخية. انظر مثلًا: باركان، العام ٢٠٠٠م؛ وتوزلي، ٢٠٠٦م؛ ووينر، ٢٠٠٥م.
٢٠  هذا بالضبط ما حاوَله البلغاريون في ثمانينيات القرن الماضي، بإجبارهم الأَتراكَ جميعًا، على سبيل المثال، على تبنِّي أسماءٍ بلغاريةٍ عِرقية. ولقد ذهبت الحكومة البلغارية الشيوعية في ذلك الوقت إلى أن الإدماج القسري للأتراك ما هو إلا انقلابٌ على الضغط الظالم الذي فرضَه الأتراك العثمانيون على السلافيين لإرغامهم على التحوُّل إلى الإسلام، ولكي يندمجوا مع الثقافة التركية (توموفا، العام ٢٠٠٤م).
٢١  على سبيل المثال، فإن قسم «البربر» في قانون لغة الدولة في سلوفاكيا العام ١٩٩٥م، يعتمد أساسًا على استعادة قوانين آل هابسبرغ وسياساتهم من القرن التاسع عشر، والتي قمعَت استخدام السلوفاكية وشجَّعَت اللغة المجرية، وليس ثمَّة محاولة لمناقشة التكيُّف العادل في الوضع الحالي من المنافع والمصالح المتنوِّعة للأغلبية والأقلية (ويُعاد التبرير من جديدٍ ويُناقش في لجنة حماية الأقليات العام ١٩٩٥م).
٢٢  علينا أن نستثني من جديد أيرلندا الشمالية وقبرص؛ حيث حَظِيَتا بقَدرٍ كبير من «التأمين» من الناحية التاريخية.
٢٣  كانت الأحزاب السياسية في الماضي في الغرب، محظورة أو تخضع لرقابة الشرطة السرية، كما حدَث أن فُصِل الأساتذة الانفصاليون من وظائفهم أحيانًا، وما إلى ذلك، أما اليوم فإن الأحزاب الانفصالية ليست سوى أمورٍ سياسيةٍ عادية.
٢٤  بالنسبة إلى القصة التعِسة عن الجامعة الألبانية في «تيتوفو Tetovo» انظر: بريتشارد، العام ٢٠٠٠م.
٢٥  اعتدتُ الظن بأن أهم ما يميز بلدان ما بعد الشيوعية هو تحديدًا أنها دول ما بعد الشيوعية، أعني أنها تمُر بمرحلةٍ انتقالية اقتصاديًّا وسياسيًّا. وأنا الآن أعتقد أن العامل المتميِّز أكثر هو أنها فيما بعد الإمبريالية (ما بعد الإمبراطورية العثمانية وما بعد أسرة هابسبرغ وما بعد السوفييت)، أعني أن علاقات الأغلبية بالأقلية تعمل في سياق «الأغلبيات التي أصبحَت أقلية»، والتي كانت من الناحية التاريخية مقهورةً من الأقلية، أو من خلفاء هذه الأقلية.
٢٦  وعلى حد تعبير ويفر Waever، إن مهمة قادة الأقلية هي «قلب التهديدات إلى تحديدات؛ دفع التطوُّرات من مجال الخوف الوجودي إلى مجال حيث يُمكِن تناولها بالطرق المألوفة، كالسياسة، والاقتصاد، والثقافة، وما إلى ذلك» (ويفر، العام ١٩٩٥م، ص٥٥)، وباختصار، فإن الهدف هو التفاوض على الحدود التي تُستخدَم فيها ورقة الأمن، أو بتعبير ويفر: ينبغي أن يكون شعار المدافعين عن الديمقراطية: «أمن أقل، سياسة أكثر» (ص٥٦).
٢٧  أُدرجَت حقوقُ الأقليات بما يُسمَّى ﺑ «معايير كوبنهاغن» التي أُخذ بها في العام ١٩٩٣م، للدول التي ترغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. انظر المجلس الأوروبي «نتائج الرئاسة، كوبنهاغن»، ٢–١٢ يونيو العام ١٩٩٣م، وثيقة رقم ١٨٠/  ٩٣ فقرة رقم ٧ http.//Europa.eu.int/comm/enlargment/intro/criteria.htm، كما أُدرجَت حقوقُ الأقلياتِ أيضًا في معايير المفوضية الأوروبية التي أُخذ بها من أجل الاعتراف بالدول الجديدة في أثناء تفكُّك يوغسلافيا (كابلان، ٢٠٠٥م).
٢٨  وذلك يشمل لجنة الخبراء في الشئون المرتبطة بحماية الأقليات القومية، واللجنة الفرعية البرلمانية لحماية حقوق الأقليات، واللجنة الاستشارية للاتفاقية الإطارية لحماية حقوق الأقليات القومية.
٢٩  لم ينشئ الاتحاد الأوروبي مركز المراقبة الأوروبي للتفرقة العنصرية وكراهية الأجانب أو بغض الغرباء في العام ١٩٩٧م، لكنه ركَّز أولًا على الجماعات المهاجرة (بدلًا من الأقلية القومية) وأولًا على الدول الأعضاء في الغرب، وليست الدول المرشَّحة للعضوية في أوروبا ما بعد الشيوعية.
٣٠  وحتى في يومنا الراهن تنكر كثير من البلاد الأفريقية أنها تحتوي على «أقليات»؛ ففي تقرير السنغال إلى الأمم المتحدة، تحت ميثاق الأمم المتحدة الدولي للحقوق المدنية والسياسية، تدَّعي: «على أساس الخلط الثقافي والاجتماعي الذي هو سمة للمجتمع القومي ليس ثمَّة أقليات في السنغال» ٢٢ نوفمبر العام ١٩٩٦م، فقرة ١٢، وانظر أيضًا التقرير عن زامبيا، وثائق الأمم المتحدة، نوفمبر ٢٠٠٢م، فقرة رقم ٤٧٠، وانظر أيضًا المناقشة في كتاب لينوكس، العام ٢٠٠٦م.
٣١  لجنة حقوق الإنسان، الملاحظة العامة رقم ٢٣، «حقوق الأقليات» (بند رقم ٢٧)، اتُّخذ في ٨ أبريل للعام ١٩٩٤م، الفقرتين ٥-١ و٥-٢، «وهكذا فإن العمال المهاجرين أو حتى الزوَّار الذين يشكِّلون مثل هذه الأقليات في حزب الدولة يحقُّ لهم ألا يُحرَموا من ممارسة حقوقهم»، انظر أيضًا بنجوا، العام ٢٠٠٠م.
٣٢  لعدة سنوات منذ العام ١٩٦٦م كانت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تُحاوِل إعادة تفسير هذا البند لكي تُدخِل حقوقًا إيجابيةً معيَّنة، لا سيما بالنسبة إلى السكان الأصليين، ولكن لم يعُد تفسيرُها بطريقةٍ تجعلها تواجه القضايا الإيجابية الكامنة خلفَ نزاعاتِ أوروبا ما بعد الشيوعية.
٣٣  بالنسبة إلى مزيدٍ من التفصيلات لتوضيح كيف فشلَت مبادئ الحقوق المدنية التقليدية في حماية الأقليات القومية من الظلم الفادح، انظر: كيمليكا، ٢٠٠١م، الفصل الرابع.
٣٤  وهذا القصور مسجَّل في سجلات القيد والحفظ عندما تُوقِّع الأقليات على الاتفاقيات، ويُمكِن أن تُوجَد قائمةٌ كاملة في المجلس الأوروبي، العام ٢٠٠٥م، ص٧٧–٨٢.
٣٥  وهذا واضح من «المذكرة التفسيرية» التي صاحبَت الاتفاقية الإطارية التي تقرِّر أن «الخطوة الحاسمة» نحو الاتفاق قد اتخذَت في قمة فيِنَّا لعام ١٩٩٣م؛ حيث «اتفِق على أن الأقليات القومية التي أنشأَتها الاضطراباتُ التاريخية في أوروبا كان لا بد من حمايتها واحترامها كمساهمةٍ في السلام والاستقرار» (فقرة رقم ٥). ومع ذلك فإن المذكرة التفسيرية تستمر لتوضِّح أنه لم يكن من الممكن تبنِّي هذا الفَهم في تعريف مصطلح الأقلية القومية: «لقد تم تبني منظورٍ براغماتي، يقوم على أساس الاعتراف بأنه في هذه المرحلة، من المستحيل أن نصل إلى تعريفاتٍ ﻟ «الأقليات القومية» قادرة على حشد الدعم العام لكل الدول الأعضاء في المجلس الأوروبي» (فقرة ١٢)، انظر أيضًا كليبس، العام ١٩٩٥م.
٣٦  على سبيل المثال ميثاق الأمم المتحدة لحماية حقوق العمال المهاجرين جميعًا العام ١٩٩٠م، أو الوثيقة الأوروبية العام ١٩٩٧م حول الوضع القانوني للعمال المهاجرين.
٣٧  يقول البند الرقم ١: «لجميع الشعوب الحق في تقرير المصير، وبفضل هذا الحق فلها أن تحدِّد بحريةٍ وضعَها السياسي، وأن تتابع بحريةٍ نُموَّها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي»، وفي الأصل أشار ميثاق الأمم المتحدة إلى «مبدأ» تقرير المصير، وليس إلى «حق»، ولقد حدث تحوُّله إلى حق في القرار رقم ١٥١٤ (XV) للعام ١٩٦٠م، والقرار الرقم ٢٦٢٥ (XXV) للعام ١٩٧٠م. وهناك قَدْرٌ هائل من الكتابات لتفسير حق تقرير المصير في القانون الدولي، بما في ذلك بايفسكي، العام ٢٠٠٠م؛ وكاستيلينو، العام ٢٠٠٠م؛ ونوب، العام ٢٠٠٢م؛ وألستون، العام ٢٠٠١م؛ وبرلمان وآخرون، العام ١٩٩٣م؛ وكاسيس، العام ١٩٩٥م؛ ودانسيكغروبر وواطس، عام ١٩٩٧م؛ وكروفورد، العام ١٩٩٨م؛ وماكوركوديل، العام ٢٠٠٠م؛ ومسغريف، العام ١٩٩٧م؛ وتيرني، العام ٢٠٠٠م؛ وتومسشاط، العام ١٩٩٣م؛ وغانيا وزانتاكي، عام ٢٠٠٥م، إذا أردنا أن نذكُر بعض الكتب التي عالجَت الموضوع باستفاضة.
٣٨  لمناقشةٍ تفصيلية عن هذه المعايير، وزوالها التام، انظر كابلان، ٢٠٠٥م؛ وليبال، ١٩٩٧م. وقد تَم تجاوُز المبادئ التوجيهية عندما اعترفَت ألمانيا من جانبٍ واحد بكرواتيا وسلوفينيا قبل إيفائها بالمعايير.
٣٩  ليختنشتاين Liechtenstein إمارةٌ دستوريةٌ مستقلة في أوروبا الوسطى تُعتبَر إحدى صغريات الدول في العالم، لغتها الألمانية، وديانتُها الكاثوليكية، كانت جزءًا من الاتحاد الألماني ثم خضَعَت للسيطرة النمساوية منذ العام ١٩٢٤م. (المترجم)
٤٠  بالنسبة إلى مسوَّدة القرار التي قُدِّمَت إلى الجمعية العمومية، انظر un A/C. 3/48/L.17 مسوَّدة الوثيقة نفسها التي أعيد طبعُها كملحقٍ في كتاب دانز بيكبرغر، العام ٢٠٠٢م، الصفحات ٣٨٢–٣٩٣، مع الشروح القانونية، انظر أيضًا المناقشة في كتاب ولهنغاما، عام ١٩٩٨م، وعندما رُفضَت مسوَّدة الميثاق في الأمم المتحدة أعلن أمير ليختنشتاين عن قيام مؤسسة ليختنشتاين لتقرير الحكم الذاتي في جامعة برنستون، على أمل أن يتولَّد عنها نقاشٌ أكبر وتحليلٌ أكاديمي للموضوع.
٤١  انظر المناقشة في الفصل الثاني، حاشية رقم ٧، بخصوص الاعتراف الصريح أو الضمني بحق تقرير المصير الذاتي للسكان الأصليين من قِبل الهيئات المختلفة للأمم المتحدة، بما في ذلك مجلس حقوق الإنسان H.R.C واليونسكو، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية وغيرها.
٤٢  أوكرمان، العام ٢٠٠٠م. والواقع أن معظم النصوص المؤثِّرة في القانون الدولي عن السكان الأصليين وحقوقهم أقرَّت بأن تكون الجماعات القومية الأخرى قادرةً كذلك على المطالبة بحقوق الحكم الذاتي (انظر أنايا، العام ١٩٩٦م؛ ومناقشة الموضوع في كتاب كيمليكا، العام ٢٠٠١م، الفصل السادس).
وتجدُر الإشارة إلى أن المنظَّمات التي تمثِّل إحدى المنظَّمات القومية في أوروبا الشرقية — أعني تتار القرم — عرَّفَت نفسها بصراحةٍ بأنها «السكان الأصليون» وذلك لأغراض القانون الدولي.
٤٣  بالنسبة للحق المُنبثِق للحكم الذاتي انظر أيد، العام ١٩٩٣م؛ ولهنغاما، العام ١٩٩٨م والعام ٢٠٠٠م؛ وهانم، ١٩٩٠م؛ ولويس أنطوني، عام ١٩٩٨م؛ وهانيكينان، ١٩٩٨م؛ والمقالات المختلفة في كتاب سكوربيتي، العام ٢٠٠٥م؛ وسوسكي، العام ١٩٩٨م، وبكلمات ثورنبري: «إن الاندفاعَ الأوَّليَّ للحكم يوحي بأن الحكم الذاتي لا وجود له تقريبًا في نصوص حقوق الأقليات، بيد أن الفحص الدقيق يكشف عن آراءٍ وهمساتٍ حول الحكم الذاتي أو ما شابه ذلك» (ثورنبري، العام ١٩٩٨م، ص١٢٣، وقارن ثورنبري، العام ١٩٩٥م، ص٤٢–٤٣).
٤٤  توصيات لاهاي حول حقوق التعليم للأقليات القومية العام ١٩٩٦م، وتوصيات أوسلو حول حقوق اللغة للأقليات القومية العام ١٩٩٨م، وتوصيات لند حول المشاركة الفعالة للأقليات القومية العام ١٩٩٩م.
٤٥  التحالف الأوروبي الحر، وهو تضامن لأحزاب الأقلية القومية من مختلف المناطق في غرب أوروبا (مثل كتالونيا، اسكتلندا، الفلاندر، وتيرول الجنوبية) اقتَرَح بأن يتضمَّن دستور الاتحاد الأوروبي «الاعتراف بحق الحكم الذاتي لكل الكيانات الإقليمية التابعة للاتحاد، والتي يشترك أفرادُها بروابطَ قويةٍ للهُوية القومية، واللغوية، والإقليمية»، الاقتراح لم يُناقَش مطلقًا بجدية، وحول فشل الجهود لدعم الاعتراف بالأمم التي بلا دول في الدستور الأوروبي، انظر: ماكورميك، العام ٢٠٠٤م.
٤٦  ولقد انعكس ذلك في حقيقة أنه بينما يُتوقع من البلدان الراغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أن تُصادِق على الاتفاقية الإطارية؛ ومن ثَم تفتح سياساتها تجاه الأقليات إلى المراقبة الدولية، فإن البلاد التي هي أعضاءٌ بالفعل في الاتحاد الأوروبي، ليس مطلوبًا منها أن تفعل الشيءَ ذاتَه، ولا داعي للقول إن هذا المقياس المزدوج هو مصدر استفزازٍ كبيرٍ بين بلدان ما بعد الشيوعية.
٤٧  والواقع أن الاتحاد الأوروبي قد جعل حل جميع مشكلات الحدود شرطًا للانضمام إليه، كطريقةٍ لمحاولة تقليل المخاوف الانضمامية، كما أن الاتحاد الأوروبي قد شجَّع أيضًا على توقيع معاهدات التعاون والصداقة الثنائية مع جميع الدول المجاورة معترفًا بالقبول المتبادَل للحدود بالنسبة إلى دَورِ المعاهدات الثنائية كوسيلةٍ لحماية الأقليات، انظر: بلود وفان ديك، العام ١٩٩٩م؛ غال، العام ١٩٩٩م.
٤٨  ويصدُق ذلك بصفةٍ خاصة فيما يخُص الأقلية المجَرية في رومانيا وسلوفاكيا، التي خضَعَت لضغطٍ دولي للتخيل عن قضايا الحكم الذاتي (شولنس، العام ٢٠٠٥م، ص١٥م؛ بيسيني، ويليامز، العام ٢٠٠٢م).
٤٩  على سبيل المثال، كثيرًا ما تسمح هذه المعايير للأقليات بتقديم المستندات والوثائق للسلطات العامة بلغتِهم، لكنها لا تتطلب الإجابة بلغتِهم الخاصة، وبصفةٍ عامة أكثر فهي لا تمنع الدول من تركيز القوة بالطريقة التي تجعل جميع القرارات تصدُر في المنتديات التي تُسيطِر عليها الجماعة القومية المُسيطِرة، وفي استطاعة الدول أن تواصل تنظيم التعليم العالي، والاعتماد الاحترافي، والمكاتب السياسية، بحيث يجب على أعضاء الأقليات إما أن يندمجوا لغويًّا لكي يحقِّقوا النجاح المهني والسلطة السياسية وإما أن ينزحوا إلى دولتهم القريبة منهم (وهذه كثيرًا ما يُشار إليها على أنها «اجتثاث» لجماعات الأقلية، وإجبار الصفوة المحتمَلة من مجتمعات الأقلية على المغادرة لتحقيق القَدْر الأعلى من التعليم والنجاح المهني).
٥٠  وأنا أقول «من المحتمل أن يكون محتومًا» لأن المرء، من حيث المبدأ، يمكن أن يتخيل صيغةً أكثر تعقيدًا وتطورًا للمسوَّدة القانونية التي حاولَت أن تميِّز بين الأهداف الطويلة المدى والمتطلبات القصيرة المدى، وحافظَت على هدف الحكم الذاتي بوصفه هدفًا بعيد المدى، بل إن المرء يستطيع أن يتخيَّل نموذجًا دوليًّا لمعايير حقوق الأقلية يتضمن سلسلةً من الحقوق، تُمكِّن الأقلية من أن تُطالِب بالحكم الذاتي فقط بعد أن تظهر أولًا قدرتها على ممارسة حقوق الأقلية الأضعف بطريقةٍ مسئولة. والواقع أن تلك هي الطريقة التي صيغَت بها مسوَّدة ليختنشتاين التي ناقشناها من قبلُ؛ تبدأ الأقليات بحقوقٍ من النوع الموجود في المادة «٢٧» للتمتُّع بثقافتها، ثم تنتقل إلى أشكال الحكم الذاتي غير الإقليمي، ثم إلى الحكم الذاتي الإقليمي، لكن فقط إذا ما لبَّت مطالب النظام الديمقراطي وحقوق الإنسان على طول الخط.
٥١  FCNM الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية Framework Convention on the Protection of National Minorities.
٥٢  كان بعض الشُّراح والمحلِّلين يأملون أن يكون من الممكن استخدام الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM) بطريقةٍ غير مباشرة لمساندة أقوى لقضايا الحكم الذاتي أو المشاركة في السلطة، من خلال الالتزام ﺑ «المشاركة الفعَّالة»، وسوف أناقش هذه الحُجَّة فيما بعدُ.
٥٣  بالنسبة إلى هذا التعميم هناك استثناءٌ واحد ممن هو جماعة الغجر. ويعتقد بعض المحلِّلين أن القضايا المتعلقة بهم يُمكِن أن تكون مصدرًا للعنف وعدم الاستقرار، حتى لو لم يظهر الغجر اهتمامهم بالحكم الذاتي أو خلق مؤسساتٍ عامة لهم، وسأعود إلى مشكلة الغجر فيما بعدُ.
٥٤  ليس هناك سببٌ مفاهيمي أو فلسفي معقول يبرِّر لنا لماذا لا يُفسَّر حق استمتاع المرء بثقافته بطريقةٍ تساند قضايا الحكم الذاتي للأرض أو وضع اللغة الرسمية. والواقع أن ذلك هو على وجه الدقة ما فعلَه منظِّرو القومية الليبرالية في كتاباتهم المختلفة، وفكرة الحق الثقافي يلجأ إليها الكُتاب من أمثال يائيل تامير وجوزيف راز بوصفها الأساس في دفاعهم عن حق تقرير المصير القومي (تامير، ١٩٩٣م؛ مارغاليت وراز، ١٩٩٠م)، غير أننا إذا ما تحدَّثنا سياسيًّا لوجدنا أنه ليس ثمَّة فرصة لتبنِّي قراءة «قومية» لحق الثقافة في القانون الدولي، بل على العكس، فإن حقَّ المرء في الاستمتاع بثقافته الخاصة الواردة في المادة «٢٧» كان يُفهَم باستمرار على أنه بديلٌ للمادة رقم ١ الخاصة بتقرير حق المصير.
٥٥  هناك ثلاثة أماكن في الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية FCNM يُشار فيها إلى الاستيطان التاريخي، المواد ١٠ (٢) و١١ (٣) و٤١ (٢) تشير إلى «مناطق تسكنها تقليديًّا أعدادٌ كبيرة من الأشخاص الذين ينتمون إلى الأقليات القومية»، ومع ذلك فليست هناك فقرةٌ من تلك الفقرات تظهر أي حقوقٍ إيجابيةٍ واضحة؛ فهي ببساطة تشجِّع الدول لكي تتأمل استخدام علامات الطريق الثنائية اللغة، على سبيل المثال، وكان التقرير الذي صاحَب الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية FCNM يُنكِر بصفةٍ خاصة أن تشمل هذه الفترات أي حقٍ لأوضاع اللغة الرسمية أو الحكم الذاتي (المجلس الأوروبي، العام، ٢٠٠٥م، ص١٧–٣٥)، والفكرة التي تقول إن الأقليات القومية ينبغي أن تضمن «المشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثِّر في المناطق التي يعيشون فيها»، كانت جزءًا من النص الأصلي للمادة الرقم ١٥ في الاتفاقية الإطارية FCNM، لكنه أُلغِي من النص النهائي لتجنُّب أي إشارةٍ إلى الأرض.
٥٦  بالنسبة إلى نظرةٍ شاملة عن آراء اللجنة حول كيف ينبغي على الدول أن تفهم فئة الأقليات القومية، انظر كتاب ويتلي، ٢٠٠٥م، ص٤٨–٥٦؛ هوفمان، ٢٠٠٢م، وعما إذا كانت المواطنة شرطًا سابقًا للاعتراف بالأقلية كأقلية القومية، انظر: ثيل، ٢٠٠٥م، وبالنسبة إلى القضية الدنماركية، انظر «رأي في موضوع الدنمارك»، انظر ACFC/INF/OPI (2001) 005، فقرة ١٦.
٥٧  وفق تعبير ويتلي، فإن اللجنة قد رفضَت فكرة أنه يُمكِن أن يكون هناك تصنيفٌ محدَّد بدقةٍ للجماعات العِرقية الثقافية معترفٌ به في الأدوات القانونية الدولية (ويتلي، ٢٠٠٥م، ص٤٩).
٥٨  هذا مثالٌ واضح على نقطةٍ ناقشناها في الفصل الأول حول «السلطة النسبية» للمنظمات الدولية، ولم تأتِ الدفعة الرئيسية لتوسيع تعريف الأقليات القومية من دولٍ قوية ومن حكوماتٍ على الإطلاق، بل انبثقَت من شبكاتِ التخطيط العالمي الأكاديمي، وجماعات الدفاع، والمؤسَّسات الخيرية، والبيروقراطيين المجهولين الذين يعملون على تفسير وتطبيق المعايير الدولية، ولقد كان ماليوي، العام ٢٠٠٥م، أحد المحلِّلين الذين دافعوا عن تعريفٍ أكثر تعقيدًا.
٥٩  انظر مثلًا: التوصية الرقم ١٥٥٧ (العام ٢٠٠٢م) للاجتماع البرلماني حول «الوضع القانوني لجماعات الغجَر في أوروبا»، وهي توصية للاعتراف بهم كجماعة أقلية قومية أو عِرقية في كل دولة.
٦٠  كانت هناك جماعةٌ عِرقيةٌ روسيةٌ صغيرة في لاتفيا Latvia سابقة على العهد السوفييتي، وكانت سُلالتها تُعرف بالأقلية القومية، والموقف مماثل في إستونيا Estonia، برغم أن هناك في هذه الحالة تاريخًا طويلًا ودرجةً عاليةً من التركيز الإقليمي للروس العِرقيين في شمال شرق إستونيا.
٦١  انظر: «تقرير عن وضع أقلية الغجَر في منطقة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» (كاوزنسكي، العام ٢٠٠٠م)، ويشمل الميثاق المقترح الحقَّ في إرسال أصوات الممثلين إلى البرلمان الأوروبي، والمجلس الأوروبي، والأمم المتحدة، وحق الفيتو على الإجراءات التي تتعلق بمصير جماعات الغجَر، وحق تسلُّم التعليمات باللغة القومية، والحق في إدارة نظامِ مدارسَ مستقل، ولمناقشاتٍ تفصيلية حول الاقتراحات المختلفة الخاصة بالمعايير الموجهة إلى الأقلية الغجرية والهيئات على المستوى الأوروبي، انظر مثلًا: كيلموفا، ألكسندر، ٢٠٠٥م؛ غودوين، ٢٠٠٤م؛ روكر، ٢٠٠٢م؛ كوكن غروب، ٢٠٠٢م.
٦٢  لم تكن خطَط حماية الأقليات التقليدية مخصصة أو مصممة وجماعة الغجَر في الذهن، وكانت الفوائد التي حصَل عليها الغجر هامشية بالنسبة إلى أغراض الخطة (غالييلمو ووترز، العام ٢٠٠٥م، ص٧٦٥).
٦٣  وثيقة المجلس الأوروبي للغات الإقليمية ولغات الأقليات تستبعد صراحةً لغاتِ المهاجرين، على نحوِ ما يفعل المكتب الأوروبي للغات الأقل استخدامًا (EBIUL) وكما رأينا هناك خطَط مستهدفة للسكان الأصليين في الاتحاد الأوروبي، سوءا للساميين في أوروبا وبالنسبة إلى المساعدة الإنمائية فيما وراء البحار.
٦٤  بما في ذلك الاختلافات داخل جماعات الغجر ذاتها حول نوع الحقوق المختلفة للجماعات التي يريدونها، وكما لاحظ بيتر فيرميرش فإن قادة جماعات الغجر «نادرًا ما يستخدمون عباراتٍ واضحة عما إذا كانوا في صف معايير الجماعات الخاصة مثل التفرقة العنصرية والتعليم بلغة الغجر أو الاعتراف بهذه اللغة بوصفها لغة أقلية» (فيرميرش، العام ٢٠٠٥م، ص٤٦٢؛ وقارن كوليش، ٢٠٠٥م)، قد شُجِّعوا على تبنِّي هوية ﮐ «أقليةٍ قومية» والوصول إلى مقعدٍ على المائدة نتيجةً لذلك، لكنهم يشكِّكُون في مضامين هذا اللقب أو تلك الهوية.
٦٥  لا يزال هناك بعض الدعم لمشروع تطوير المعايير الموجهة في حالة السكان الأصليين، والتي سوف أناقشها في الفصل التالي، لكن الازدواج في العاطفة بالنسبة إلى فكرة التوجه بصفةٍ عامة يؤثِّر في حركة حقوق السكان الأصليين كذلك، كما سوف نرى.
٦٦  انظر على سبيل المثال ادعاء البرلمان الروماني بأن اقتراح الحكم الذاتي لشعب الزكلر (Szekler) في ترانسلفانيا يتناقض مع «المعايير الأوروبية»؛ ذلك لأن اقتراح الحكم الذاتي، وفقًا للبرلمان، لا يذهب ببساطةٍ إلى ما وراء ما هو مطلوبٌ من قِبل توصيات الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، لينتهك هذه المعايير، وبالتحديد لأنه يقوم على مطالب الاستقرار التاريخي.
٦٧  إذا أردت مناقشةً لهذه الجهود لتجريد حقوق الأقليات من الإقليمية، انظر كيمليكا 2005b؛ بوبوك، ٢٠٠٤م.
٦٨  حتى لو كانت الاتفاقية الإطارية الحالية لا تصادق على مطالب الحكم الذاتي الإقليمي، فحقيقة أنها تستهدف «الأقليات القومية» ضمنيًّا تعزِّز فكرة أن الجماعات «القومية» لها مطالبُ قانونية تختلف عن الأقليات المشتَّتة (مثل جماعات الغجَر) أو الأقليات الجديدة (المهاجرين)، ومن الصعب أن نرى قيامَ تلكَ المطالب على شيءٍ آخر غير الأقلية، لو كان هدف المرء هو تجريد هُويات الأقلية من الإقليمية، إذن فمن المفهوم أن توقف استخدام فئة الأقلية القومية، إلا باعتباره مصطلحًا أشبه بالمظلة يضُم كل الجماعات؛ هذا يذهبُ إليه بعضُ المحلِّلين الأوروبيين على نحوٍ متزايد، إن فكرة استهداف حقوق الأقلية ﺑ «الأقليات القومية» التي فُهمَت كأقلياتٍ تاريخية وإقليمية، هي موضعُ شكٍّ على أساسِ أن الفئة نفسها تُلمِّح إلى أن لوقائعِ الاستقرارِ التاريخي والتركيز الإقليمي ميزةً قانونية وأخلاقية، بغَض النظر عن أي حقوقٍ مُنحَت لهذه الجماعات.
٦٩  انظر على سبيل المثال: توصية الاجتماع البرلماني، الرقم ١٦٠٩، العام ٢٠٠٣م، حول التجارب الإيجابية لمناطق الحكم الذاتي كمصدر إلهام لحل النزاع في أوروبا، أو توصية مؤتمر السلطات المحلية والإقليمية في أوروبا، الرقم ٤٣، العام ١٩٩٨م، حول الحكم الذاتي الإقليمي، والأقليات القومية، أو توصية الاجتماع البرلماني، الرقم ١٧٣٥، العام ٢٠٠٥م، حول مفهوم «الأمة» الذي يشير إلى الأقليات القومية التقليدية، الذي يعلن أن الأقليات «كثيرًا ما تكوَّنَت عن طريق التغيُّرات في حدود الدولة»، وأنها «تمثِّل جزءًا مؤسسًا وكيانًا بنَّاء للدولة القومية» (الفقرة ٩)، وتلك كلها أفعال مقاومة في محاولةٍ للحفاظ على التركيز الدولي على نوعية الجماعات المتوخَّاة أساسًا من مصطلح الأقليات القومية، وللحفاظ على المساندة الدولية لنموذج الحكم الذاتي الإقليمي على الأقل كهدفٍ على مدًى طويل لتلك الجماعات.
٧٠  للوقوف على مناقشات الجهود التي بذلها الاتحاد الأوروبي من أجل حل النزاع ذي الحالة الخاصة، انظر كيتنغ ومكغاري، العام ٢٠٠١م؛ وتوغنبرغ، ٢٠٠٤م؛ وكوبيترز، ٢٠٠٤م؛ ومكغاري وكيتنغ، ٢٠٠٦م.
٧١  لقد كانت مقدونيا قلقةً من أنها لن تستطيع أن تهزم الأقلية الألبانية في حربٍ أهلية من دون مساعدة الناتو (NATO)، خصوصًا أن هذه الأقليات كانت مدعمة من المتمردين الألبان المتمرِّسين والمسلِّحين بشكلٍ جيد في كوسوفو المجاورة، وعندما أوضح الناتو أن استمرار مساعدته لمقدونيا متوقفٌ على تعاونها في اتفاقية أوهريد، لم يكن أمام الحكومة سوى قَبول ذلك، على الرغم من أنها ما زالت تُواجِه صعوبةً في تقديم الاتفاقية إلى الشعب المقدوني وإقناعه بها.
٧٢  لمناقشةٍ تفصيلية أكثر لهذَين المسارَين، انظر: كيمليكا وأوبالسكي، ٢٠٠١م، ص٣٦٩–٣٨٦.
٧٣  كما لاحظ جونسون «المنظور الثاني (الأمن) الذي تعامل مع الدبلوماسية لإحباط حالات الصراع، كان واضحًا للغاية في أوروبا الشرقية حتى اليوم، ويُمكِننا أن نتوقَّع استمرار ذلك في المستقبل» (جونسون، العام ٢٠٠٦م، ص٥٠).
٧٤  حالة بلغاريا جذابة في الفصل بين الأشكال القانونية والممارسات الفعلية، فعلى حين أن الدستور يمنع الأحزاب العرقية، فإن هناك حزبًا تركيًّا عرقيًّا قويًّا تم إشراكه بالفعل في ائتلافاتٍ حكومية، ولقد نتج عنه شكلٌ فعَّال للمشاركة العِرقية في السلطة (بروسيس، ٢٠٠٣م). ولقد حكم الاتحاد الأوروبي أن التعاون العِرقي القائم أكثر أهمية من الالتزام الرسمي بالمعايير الدولية (شويلنس، ٢٠٠٥م).
٧٥  علينا أن نتذكَّر أنه في الفترة السابقة للعام ١٩٨٩م سمَح الاتحاد الأوروبي بشكلٍ ضمني لليونان بأن تضطهد الأقليات القومية، كما سمَح حلف الناتو لتركيا باضطهاد الأقليات القومية (بات وأوماتو، العام ١٩٩٨م؛ دويت في العامَين ١٩٩٣م و٢٠٠٢م)، ولم تُظهِر أيٌّ من المنظومتَين اهتمامًا بمحنة جماعات الغجَر في الدول الأعضاء مثل إسبانيا وإيطاليا (سيمهاندي، ٢٠٠٦م).
٧٦  ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن المسودة الأولى لدستور الاتحاد الأوروبي تضمَّنَت كل «معايير كوبنهاغن» باستثناء معايير حقوق الأقليات، ولقد كان ذلك اعترافًا ضمنيًّا، وأنا أشُك في أن القرار الأصلي لجعل حقوق الأقليات شرطًا لعضوية الاتحاد الأوروبي كان قائمًا على قراءةٍ خاطئة للموقف الأمني في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وليس على أي التزامٍ معياري أصلي، ولقد أُعيد إدراجُ نسخةٍ ضعيفةٍ من معيار حقوق الأقليات في النص النهائي من الدستور (درزويكي، ٢٠٠٥م).
٧٧  انظر على سبيل المثال كتاب بيرغس، العام ١٩٩٩م، الذي يذهب إلى أننا ينبغي أن نعطي عملية الدمج فرصة، قد لا تكون سياسات الدمج في أوروبا ما بعد الشيوعية مرضية، وقد تفشل، لكن من المهم للدول (والجماعات المُسيطِرة) أن تعرف حدود قدراتها، وقوة مقاومة الأقلية، وبالتالي قبول ضرورة التوصُّل إلى تسويةٍ ما مع الأقليات.
٧٨  «ينبغي على الأقليات ألا تواجه ذلك الموقف الذي يستجيب فيه المجتمع الدولي فقط للأمور التي تهمُّها إذا ما كان هناك صراع؛ فمثل هذا المنظور من السهل أن يرتد ليخلق صراعاتٍ أكثر من تلك الدول التي يقولُ بحلها، فإن المنظور الموضوعي غير المتحيز أو المحايد للأقليات يتضمَّن تطبيق معايير الأقليات عَبْر الحدود ولا بد من ثَم أن يبقى» (الفروسوف وترك، العام ١٩٩٣م، ص١٧٦ و١٧٧، وقارن شاندلر، العام ١٩٩٩م، ص٦٨).
٧٩  في جميع هذه الحالات باستثناء القرم (Crimea)، استولَت الأقلية على السلطة من خلال الثورة المسلَّحة، أما في حالة القرم، فإن دولة أوكرانيا تكاد تكون غير موجودة في منطقة القرم؛ ولذلك لم يُضطَر الروس إلى استخدام الأسلحة للإطاحة ببنية الدولة القائمة، فقاموا بعمل استفتاءٍ شعبي (غير قانوني) حول الحكم الذاتي، وبعد ذلك بدَءُوا في حُكم أنفسِهم.
٨٠  انظر مناقشته المُمتِعة للمشكلة في خطابه عن السلام والعدالة، القوة والمبدأ، التي أُعيدَت طباعتُها في كتاب فان دير ستويل، العام ١٩٩٩م، ص١١١–١٢٢.
٨١  بالنسبة إلى دَور المفوض الأعلى في الشروع في إعدادِ معاييرَ جديدة، انظر راتنر، العام ٢٠٠٠م؛ نوكريتش وآخرين، العام ٢٠٠٤م، ولكنسون، ٢٠٠٥م.
٨٢  يذهب أناليز فيرستيشل إلى أن اللجنة الاستشارية في فحصها للمطابقة مع الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM) تبنَّت ضمنًا فقرة ضد التراجُع فيما يتعلق بالحكم الذاتي (فيرستيشل، العام ٢٠٠٤م)، وكذلك يذهب لويس أنتلوني إلى أن فقه التشريع الخاص بالبند الرقم ٣ للبروتوكول الأول للوثيقة الأوروبية لحقوق الإنسان يُمكِن استقراؤه لحماية الأشكال الموجودة من الحكم الذاتي (لويس أنتوني، العام ١٩٩٨م)، وعلى مستوًى فلسفيٍّ أكثر ذهب ألن بيوكانن إلى أنه ينبغي أن تكون هناك حمايةٌ دولية للأشكال الموجودة للحكم الذاتي الإقليمي، لكنه يُنكِر أنه ينبغي أن تكون هناك معاييرُ تُسانِد مطالبَ الحكم الذاتي الإقليمي لجماعاتٍ لم تنَلْه بعدُ (بيوكانن، العام ٢٠٠٠م).
٨٣  ذهب بعض المحلِّلين إلى أن اللجنة الاستشارية التي تُراقِب للإذعان للاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية (FCNM) يُمكِن أن تتبنَّى، وينبغي لها أن تفعل، معيار «التنفيذ التدريجي»، ووفقًا لهذا المعيار سوف نتوقَّع من البلاد ويُطلَب منها تنفيذ تفسيراتٍ قوية للعديد من النصوص في الاتفاقية الإطارية، وما يُعَد تنفيذًا كافيًا لمعايير الاتفاقية الإطارية فيما يتعلق بحقوق اللغة والمشاركة الفعَّالة اليوم لن يكون كافيًا بعد خمسة أعوام من الآن، وكل مرة تقدِّم فيها الدولة تقريرًا للجنة سوف تسأل: ما الذي فعلَته الأقليات أخيرًا؟ إن الفكرة ليست ببساطة منع البلاد من التراجُع (فقرة عدم التراجُع التي أثَرتُها من قبلُ)، لكن أيضًا رفع المستوى بشكلٍ تدريجي بخصوص ما هو مطلوب للوصول إلى معايير الاتفاقية الإطارية (انظر على سبيل المثال: فيرستيشل، العام ٢٠٠٤م، وويلر، العام ٢٠٠٣م). ليس هناك شك في أن اللجنة الاستشارية قد قامت ببعض التفكير المبتكَر في هذا الاتجاه، فضلًا عن حقيقة أنها مشكَّلة من خبراءَ مستقلين بدلًا من ممثلي الدول (هوفمان، ٢٠٠٢م). مع ذلك، إذا كان تحليلي صحيحًا فمن المحتمل أن تكون هناك حدودٌ للمدى الذي يستطيع الخبراءُ المستقلون في اللجنة الاستشارية الوصولَ إليه من خلال تحقيق متطلبات الاتفاقية في الإطارية، وأنا أشك تحديدًا في أن يصبح وضع اللغة الرسمية والحكم الذاتي الإقليمي من متطلبات الاتفاقية الإطارية باستثناء عندما تُظهِر الأقليات استعدادها وقدرتها على تقويض الاستقرار والأمن، وفي نهاية المطاف، فإن اللجنة الاستشارية هي استشارية فقط، فتوصياتها لا بد أن توافق عليها الدول، وأنا أظن أن أي محاولةٍ لرفع المستوى ليتضمَّن الحكم الذاتي الإقليمي ووضع اللغة الرسمية سوف ترفضُها الدول للسبب نفسه الذي فشلَت من أجله المحاولات السابقة في تقنين هذه الحقوق.
٨٤  وبعبارةٍ أخرى عندما نتحدث عن المشاركة الفعَّالة فنحن في حاجةٍ إلى أن نسأل «مشاركة في ماذا؟»، من وجهة نظر دول ما بعد الشيوعية فإن أعضاء الأقليات القومية ينبغي أن يكونوا قادرين على المشاركة في مؤسسات الدولة القومية الموحدة بلغةٍ رسميةٍ واحدة، ومن وجهة نظر كثيرٍ من منظمات الأقلية، فإن أعضاء الأقليات القومية ينبغي أن يكونوا قادرين على المشاركة في مؤسسات الدول المتعددة اللغات والفدرالية المتعددة القوميات، هذه المفاهيم المختلفة للدولة ولَّدَت مفاهيمَ مختلفة لما هو مطلوب بالنسبة إلى المشاركة الفعَّالة، وكثيرًا ما يكتب المحلِّلون كما لو كان مبدأ المشاركة يُمكِن أن نلجأ إليه لحل هذه المنازعات عن طبيعة الدولة، لكن الواقع أننا نحتاج أولًا إلى حل هذه المنازعات قبل أن نتمكَّن من تطبيق المبدأ، وإلى يومنا الراهن فإن النزاع الأساسي عن طبيعة الدولة يُحل في أوروبا ما بعد الشيوعية عن طريق القوة، لا عن طريق المبادئ، وعندما تستولي الأقليات على الحكم الذاتي تُفسر المشاركة الفعالة كمساندةٍ للدولة الفدرالية و/أو المشاركة التوافقية داخل الدولة المتعددة اللغات والمتعددة القوميات، وعندما لا تستخدم الأقلياتُ القوة فإن المشاركة الفعَّالة تُفسَّر على أنها تتطلب فقط تمثيلًا لا تمايز فيه وتمثيلًا منصفًا داخل دولةٍ موحَّدة وأحادية اللغة، يقول مؤيدو فكرة المشاركة الفعَّالة إنها توفِّر وصفةً مبدئية لحل المنازَعات العميقة بشأن طبيعة الدولة، لكن يبدو لي أن فكرة المشاركة الفعَّالة افتُرضَت مسبقًا، وأن هذا الموضوع حُل بالفعل، وبالتالي تكون إما قوية جدًّا (إذا افترضتُ مقدمًا أن الدول قبلَت فكرة الحكم الذاتي الداخلي في داخل دولةٍ متعددة القوميات) وإما ضعيفة جدًّا (إذا افترضتُ مسبقًا أن الأقليات القومية قد قبلَت فكرة الدولة الموجودة الأحادية اللغة)، ويُلقي ذلك ضوءًا مختلفًا على مطالب حول سمة «الجوهرية» الخاصة بحقوق الأقلية. ولقد أشرت سابقًا إلى أن الكثير من منظري ما بعد الحداثة والنقاد رفضوا فكرة حقوق الأقلية الجوهرية في الثقافة والتقرير الذاتي على أساس أنها تحدُّ مسبقًا وتزيِّف تجانُس شخصية الجماعة، ومع ذلك، فإنهم برفضهم تلك المطالب لا يقصدون مساندةَ معاييرَ جوهريةٍ للدولة القومية كدولةٍ موحَّدة أحادية اللغة من شعبٍ واحد، لقد كانوا يأملون في أن تكون فكرة المشاركة الفعالة محايدة في الصراع بين مؤيدي قومية الأقليات والدول القومية، وأن يكون من الممكن تنفيذُها من دون الحكم مسبقًا سواء كانت الدولة متعددةَ اللغات، متعددةَ القوميات، أو أحاديةَ اللغة موحَّدة القومية، وعلى الرغم من ذلك فلا يتضح أن فكرة المشاركة الفعَّالة يمكن تنفيذُها من دون اتخاذ موقفٍ حيال هذه المسألة، وإذا كان الأمر كذلك فإن خطورة «الجوهرية» تظهر بشكلٍ متساوٍ سواء قبلنا أو رفضنا مطالبَ تقرير المصير؛ فقبول تلك المطالب يجعلنا نُخاطر بجعل مفهوم الأقلية القومية جوهريًّا، ورفضها يجعلنا نُخاطر بجعل مفهومنا للدولة جوهريًّا، وأيًّا ما كان الخيار الذي نتخذه، فيجب أن نوفِّر إجراءات الوقاية التي تسمح للمواطنين بالاستمرار في تحدي «الجوهرية»، سواء للأقلية أو للأغلبية، وذلك عنصرٌ أساسي للمفهوم الليبرالي الأصلي لحقوق الأقلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤