التجربة الأوروبية
«بينما تعمل حُجج تصحيح المظالم التاريخية في الغرب على تقوية مطالب الأقلية لتوزيعٍ أكثر عدلًا للحقوق والموارد بين الأغلبية والأقلية، فإنها قد تُستخدَم في بلدان ما بعد الشيوعية لإضعاف قضايا الأقليات، بل للتشكيك في شرعية وجودها.»
وعندما واجهَت الديمقراطياتُ الغربية تلك النزاعاتِ المخيفة في أوائل التسعينيات، شعَرَت بأن عليها القيام بعملٍ ما؛ وبناءً عليه، قرَّرَت أن «تدوِّل» معالجة مشكلة الأقليات القومية في أوروبا فيما بعد الشيوعية، فأعلنت على لسان منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في العام ١٩٩٠م، أن حالة الأقليات القومية ومعالجتها تدخلان ضمن الاهتمامات الدولية المشروعة، وبالتالي فإنها لا تشكِّل مسألةً داخليةً حصريًّا عند الدولة المَعْنية.
والسؤال المثير للاهتمام حقًّا هو كيف ولماذا ظهر هذا الالتزام، وعلى كل حال، فقد أظهر الاتحادُ الأوروبي اهتمامًا ضئيلًا للغاية بمسألة حقوق الأقليات قبل العام ١٩٨٩م، وتجنَّب — عامدًا — الإشارة إلى حقوق الأقلية في مبادئه الداخلية، وكذلك لم تُظهِر الدول الغربية — تقليديَّا — اهتمامًا أكبر بحماية الأقليات في أي مكانٍ آخر من العالم، وكثيرًا ما ساندَت الدول الغربية حكوماتٍ في أفريقيا وآسيا أو أمريكا اللاتينية تُعرف بتعسُّفتها تجاه الأقليات، حتى إلى درجة بيع المعدات الحربية مع علمها بأنها يُمكِن أن تُستخدَم ضد جماعات الأقلية (على سبيل المثال: بيع الأسلحة لإندونيسيا لقمع الأقليات في آتشه وتيمور الشرقية، أو الأسلحة التي بيعَت لغواتيمالا لقمع المايا)، فكيف أصبح الغربُ فجأةً بطلَ الأقليات في أوروبا ما بعد الشيوعية؟
كما ذهبتُ إليه في الفصل الثاني، هناك عدة أسباب، كان أحد العوامل هو الاهتمام الإنساني بوقف معاناة الأقليات التي تُواجِه الاضطهاد، وعنف الغوغاء، والتطهير العِرقي، لكن نادرًا ما يكفي الاهتمامُ الإنسانيُّ وحده لتحريك الحكومات الغربية، هناك سببٌ أشد نفعًا هو الاعتقاد أن تزايُد العنف العِرقي سوف يُولِّد حركاتِ لجوءٍ واسعةَ النطاق إلى أوروبا الغربية، على نحو ما حدث بالفعل في كوسوفو والبوسنة، كما أن الحروب الأهلية العِرقية والتمرُّد أصبحَت فيما بعدُ ملاجئ لتهريب الأسلحة والمخدِّرات، ولأشكالٍ أخرى من الجريمة والتطرُّف.
وباختصارٍ، بسبب خليطٍ معقَّد من الأسباب الإنسانية والأيديولوجية والمصالح الذاتية تم تدويلُ حقوق الأقليات في أوروبا، وأصبح الوصول إلى «المعايير الأوروبية» فيما يتعلق بمعاملة الأقليات اختبارًا لقبول البلد في أوروبا، ودليلًا عن أن البلد قد تخلَّى عن «كراهيته العِرقية القديمة»، و«قوميَّته العصبية»، وأنه قادرٌ على الانضمام إلى أوروبا «حديثة» ليبرالية وعالمية المواطنة.
ولم تكَد المنظَّمات الأوروبية تُقِر أن معاملة الأقليات موضع اهتمامٍ دوليٍّ مشروع، حتى واجهَت هذه المنظَّمات الأوروبية هذا السؤال: ما الذي تستطيع أن تفعلَه، إن كان في يدها أن تفعل شيئًا، لكي تُساعِد على تحسين العلاقات بين الدول والأقليات في بلاد ما بعد الشيوعية؟ واتجهَت بشكلٍ واسع في ثلاثة مسارات؛ تعميم أفضل الممارَسات، وتشكيل الحد الأدنى من المعايير، والتدخُّل في حالاتٍ معيَّنة. وكلٌّ من الاستراتيجيات الثلاث تم توظيفُها عن طريق المنظَّمات الأوروبية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، والمقصود منها أن تعمل معًا لخلق مُنطلَقٍ إقليميٍّ مؤثِّر ودائم تجاه قضايا الأقليات. وفي الواقع، مع ذلك، تُوجَد هنا توتُّراتٌ مهمة بين الاستراتيجيات الثلاث تعكس عددًا من المشكلات التي لم يتم حلُّها في فكرة تدويل التعددية الثقافية الليبرالية نفسها.
وسوف أنظر في بقية هذا الفصل في هذه الاستراتيجيات الثلاث على التوالي، واضعًا في الاعتبار التحديات التي واجهَت كلًّا منها، وكما سنرى، هناك متناقضاتٌ عديدة داخل هذه الاستراتيجيات، وبين بعضها وبعض، ويرجع ذلك بشكلٍ أساسي إلى صعوبة التوفيق بين السعي التفاؤلي للتعددية الثقافية الليبرالية والمخاوف الأشد تشاؤمًا من اضطرابات الصراع العِرقي.
استراتيجية «أفضل الممارسات»
سوف أبدأ بأكثر الاستراتيجيات التي تبنَّتها المنظمات الدولية وضوحًا وألفةً لنا، وأعني بها نشر «أفضل الممارَسات»، لقد حاولَت المنظَّمات الأوروبية أن تتعرَّف على بلدانٍ كانت ناجحة بشكلٍ محدَّد في التعامل مع قضايا أقلياتها العِرقية، وأن تشجِّع البلدان الأخرى على أن تتعلم من تلك النماذج الناجحة. وتُوجد استراتيجية «أفضل الممارسات» بالتحديد في كل سياقٍ تسعى من خلاله المنظماتُ الدولية إلى التأثير في السياسات المحلية، من تعليمٍ ورعايةٍ صحية إلى الإصلاحات البيئية والمالية؛ لذا فقد شَهِدنا خلال الخمس عشرة سنةً الماضية تيارًا مستمرًّا ومتصلًا من ورش العمل وجلسات التدريب داخل أوروبا؛ حيث تناقش أمثلة لأفضل الممارسات، ثم تنشر التقارير والدراسات، لتعريف الناس بها.
وتركَّزَت بعضُ هذه الجهود على قطاعٍ واسع من الأنواع المختلفة من الأقليات «القديمة» التاريخية، والأقليات «الجديدة» للمهاجرين، لكن في تسعينيات القرن الماضي كان التركيز الرئيسي على الأقليات القديمة، التي نُظر إليها كأكثر القضايا إلحاحًا للمراقبة الدولية.
أما الاهتمام الرئيسي للمنظمات الأوروبية فقد انصب على نوعٍ مختلف من التعددية العِرقية، بالتحديد، الجماعات غير المهاجرة المستقرة تاريخيًّا في جزءٍ معيَّن من البلد فترةً طويلة، ونتيجةً لذلك الاستيطان التاريخي أصبحَت ترى في هذا الجزء من البلد وطنًا لها، والآن يندمج «وطن الأقلية» في الدولة الأكبر، أو ربما انقسم إلى بلدَين أو أكثر، غير أن الأقلية لا يزال لديها شعورٌ قوي بالانتماء إلى هذا الوطن، وكثيرًا ما تسترجع هذه الأقلية ذكريات الزمن الماضي الذي يسبق نشأة الدولة الحديثة، عندما كان لها حكمٌ ذاتي على هذه الأرض، وهذا النوع من الجماعات — ما يمكن أن نُطلِق عليه اسم «أقليات أرض الوطن» — هو الذي انخرط في حروبٍ مدنيةٍ عنيفة في البلقان والقوقاز، وهو الذي تركَّزَت عليه في البداية الجهودُ الأوروبية في مجال قضايا الأقليات.
ولهذا كانت أول استراتيجية للمنظَّمات الأوروبية هي تصنيف ونشر أفضل الممارسات التي تتعلق بقضايا «أقليات أرض الوطن». وهناك بالطبع أمثلةٌ كثيرة في جميع أنحاء العالم للعلاقات السلمية نسبيًّا بين الدول و«أقليات أرض الوطن»، ويمكن أن نصل، من حيث المبدأ، إلى قائمةٍ بأفضل الممارَسات في نطاقٍ واسع من البلدان والقارات. ومع ذلك، ولأسبابٍ واضحة، كان الاتجاه الأول للمنظَّمات الأوروبية هو البحث عن أفضل الممارسات داخل الأنظمة الديمقراطية الغربية. وفضلًا عن ذلك كانت هناك رغبةٌ في العثور على أمثلةٍ لا تكون مسالمة فقط، بل تتفق كذلك مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان والديمقراطية، وهذه الاعتبارات رجَّحَت أيضًا كفة الأمثلة الغربية.
ولو أننا بحثنا عن أفضَل الممارَسات في الغرب، فسوف يظهر لنا اتجاهٌ مدهش، وأعني به تبنِّي شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي الإقليمي كطريقة لتكيُّف «أقليات أرض الوطن»، وكما رأينا في الفصل الثالث، هناك فئتان مختلفتان من «أقليات أرض الوطن» في الغرب، وفي كلٍّ من الحالتَين كان هناك اتجاهٌ نحو تبنِّي حكمٍ ذاتيٍّ إقليمي؛ الفئة الأولى هي السكان الأصليون في العالم الجديد (الولايات المتحدة، وكندا، ونيوزيلندا) وفي شمال أوروبا (الغرينلانديون في الدنمارك، والساميون في اسكندنافيا)؛ ففي جميع هذه البلدان، تحديدًا منذ سبعينيات القرن الماضي، كان هناك تحوُّل نحو الاعتراف بشكلٍ ما من أشكال الحكمِ الذاتي للسكان الأصليين في (ما تبقَّى من) إقليمهم التقليدي. وينعكس ذلك في نطاقٍ واسع من تسويات قضايا الحق في الأرض واتفاقيات الحكم الذاتي، وفي بعض الحالات في درجةٍ من التعددية القانونية (على سبيل المثال الاعتراف بقانون العُرف).
الفئة الثانية من أقلياتِ أرضِ الوطن هي الأقليات القومية الفرعية أو الثانوية، التي تتضمن الاسكتلنديين والويلزيين في المملكة المتحدة، والكتالونيين والباسك في إسبانيا، والفلميش في بلجيكا، والكيوبيك في كندا، والبيروتوريكان في الولايات المتحدة، وأهل كورسيكا في فرنسا، والأقلية الألمانية في جنوب تيرول في إيطاليا، والسويديين في فنلندا، والأقليات الفرنسية والإيطالية في سويسرا. في كل هذه البلدان حصلَت الجماعاتُ الثانوية أو الفرعية على درجةٍ متميِّزة من الحكم الذاتي للإقليم، عادةً من خلال شكلٍ من أشكال انتقال السلطة الفدرالية أو شبه الفدرالية، فضلًا عن شكلٍ من أشكال وضع اللغة الرسمية.
ولذلك؛ فإننا نرى في حالة كلٍّ من السكان الأصليين، والأقليات القومية في الغرب اتجاهًا نحو منح الحكم الذاتي الإقليمي، وتعمل أنظمة الحكم الذاتي تلك، بالاشتراك مع حقوق أقلياتٍ أخرى، مثل قضايا الأرض والتعددية القانونية للسكان الأصليين، ووضع اللغة الرسمية بالنسبة إلى الأقليات القومية، وأشكال متنوعة غير إقليمية للحكم الذاتي الثقافي لهؤلاء الأعضاء في أقليات أرض الوطن الذين انتقلوا إلى مكانٍ آخر من البلد. ومن الواضح أن تلك أشكالٌ قوية من التعددية الثقافية، تتضمن إعادةَ هيكلةٍ جوهرية للدولة وإعادةَ توزيع السلطة السياسية، ونتيجةً لذلك كانت التغيُّرات في البداية مثيرةً للجدل للغاية في معظم الديمقراطيات الغربية. ومع ذلك فإن فكرة الحكم الذاتي الإقليمي لأقليات أرض الوطن مقبولةٌ اليوم بشكلٍ واسع؛ فمن غير المعقول أن ترتدَّ إسبانيا أو بلجيكا — على سبيل المثال — إلى دولةٍ أحادية اللغة. وليس ثمَّة من يقوم بحملةٍ من أجل ذلك الارتداد. بالفعل، لم ترتدَّ أي ديمقراطيةٍ غريبة تبنَّت الحكم الذاتي الإقليمي بالنسبة إلى أقليات أرض الوطن عن قرارها.
أما بالنسبة إلى الأسباب التي ناقشناها في الفصل الخامس، فإن مثل هذا النموذج قد نال قَدْرًا كبيرًا من النجاح. وقد مكَّن البلاد من التعامل مع موضوعٍ صعب قابل للانفجار، وبالتحديد وجود مجموعاتٍ فرعيةٍ ترى نفسَها كشعبٍ أو أمةٍ متميِّزة، لها الحق في أن تحكم إقليمها التاريخي، بطريقةٍ تتفق مع السلام والديمقراطية، واحترامٍ ثابت للحقوق الفردية المدنية والسياسية، والرخاء الاقتصادي.
«لقد لاحظتُ الدولُ المشاركة الجهودَ المبذولة من أجل حماية وابتكار ظروف تنمية الهُوية العِرقية والثقافية واللغوية والدينية لأقلياتٍ قوميةٍ مَعْنية عن طريق تأسيس إداراتٍ محلية مناسبة أو مستقلة، كوسيلةٍ من الوسائل المُمكِنة لتحقيق هذه الأهداف، تستجيب للظروف الإقليمية والتاريخية المعيَّنة لتلك الأقليات وفقًا لسياسات الدولة المَعْنية.»
ولم تُعمِّم المنظَّمات الأوروبية هذه الأنظمة فقط، لكنها حاولَت أيضًا «تطبيعها»، وكما لاحظت في الفصل الثاني كان يُنظَر لأمثلة الحكم الذاتي الفرعي والثانوي ﮐ «استثناءات» أو «انحرافات» عما تبدو عليه الدولة «الطبيعية»؛ فالقاعدة هي دولةٌ مركزية مثل فرنسا، ذات تصوُّرٍ غيرِ متمايز للمواطنة الجمهورية، ولغةٍ رسمية واحدة، لكن هذا النموذج للدولة المركزية، الموحَّدة، ذات الجنس الواحد، تصفُها المنظَّمات الأوروبية بشكلٍ متزايد على أنها مفارقةٌ تاريخية، في حين أنه يتم تقديم الدول التعددية، المتعددة اللغات، والمتعددة المستويات على أنها تمثيلٌ صادق للمنظور «الحديث». وبهذه الطريقة، فإن الأمثلة الخاصة بالحكم الذاتي تُوضَع داخل مسارٍ أوسع للحداثة، يصبح فيه مفهومٌ أكثر تجزيئًا وانتشارًا وذا مستوياتٍ متعددة للدولة والسيادة هو القاعدة. بتطبيع هذا التصوُّر الجديد للعلاقات بين الدول والأقليات، يأمل المجتمع الدولي تشجيع الدول على أن تنظر بطريقةٍ أكثر تفتُّحًا، وبسَعة أفُق، إلى مزايا التعددية الثقافية الليبرالية.
تلك إذن الاستراتيجية الأولى — تطبيع وتعميم الأفكار عن الحكم الذاتي الإقليمي بوصفها أفضلَ الممارَسات في تكيُّف أقليات أرض الوطن، ومع ذلك فقد كانت بشكلٍ أو بآخر فاشلةً تمامًا، على الأقل بالنسبة إلى بلاد ما بعد الشيوعية في بداية تسعينيات القرن الماضي. ولقد كان صُناع السياسة في بلاد ما بعد الشيوعية على استعدادٍ للاشتراك في جولاتٍ دراسية لمناطق مثل كتالونيا أو تيرول الجنوبية، وقضاء بضعة أيام في حوض البحر الأبيض المتوسط أو جبال الألب على نفقة الاتحاد الأوروبي، كما كانوا على قدرٍ كافٍ من السياسة بحيث يمكن أن يقولوا كيف استفادوا من هذه الجلسات حول قيم التسامح والتعدد، لكنهم بعد ذلك سوف يعودون إلى أوطانهم ويستمرون في مساندة سياسات (وفقًا للبلد) تُلغي الحكمَ الذاتي القائم للأقلية، وتقلِّص حقوق اللغة، وتُغلِق مدارس لغات الأقلية، وتفصل الأقليات من الخدمة العامة، وفي بعض الحالات تُسقِط عنهم الجنسية.
المصادر والشروط المُسبَقة المفقودة للتعددية الثقافية الليبرالية
عندما ووجهوا بتلك المقاومة الشديدة لتكيُّف أقليات الأرض، ألقى العديد من المحلِّلين والممثِّلين الدوليين باللوم على المواقف السابقة على الحداثة (مواقف ما قبل الحداثة) للشعوب والثقافات في المنطقة. وأحد التفسيرات الشائعة، خاصة بين الصحافيين، أنه على حين أن القومية في الغرب هي قوميةٌ «مدنية» تقوم على الولاء المشترك للمبادئ العامة، وبالتالي تكون أكثر تكيفًا مع الأقليات، فإن القومية في أوروبا ما بعد الشيوعية هي قوميةٌ «عرقية»، تقوم على السلالة والدم؛ وبالتالي هي أكثر عداءً وعنفًا تجاه الأقليات (إيغناتييف، ١٩٩٣م). وعلى أساس هذه التفسيرات أُعد أكثر من برنامجٍ لتعليمِ مواقفَ أكثر «حداثة» تجاه التعدُّد والتسامُح، من خلال التفاعُل بين الثقافات والحوار بين الأديان.
ونحن في حاجةٍ إلى أن نبحث في مكانٍ آخر عن تفسير لمعارضة الحكم الذاتي للجماعات القومية الفرعية أو الثانوية. وأحد المجالات التي يمكن أن نبحث فيها هو أن نعيد فحص الظروف التي ساعدَت على تبنِّي تلك الإصلاحات القومية لحقوق الأقليات في الغرب. والواقع أن العديد من الشروط المسبقة ومصادر التعددية الثقافية الليبرالية في الغرب إما أن تكون ضعيفةً أو غائبةً في معظم بلاد ما بعد الشيوعية (وكما سوف ترى في الفصل السابع، في معظم بلدان العالم).
لقد انتهيتُ في الفصل الرابع إلى تقسيم هذه الظروف الميسَّرة إلى فئتَين؛ العناصِر التي تشجِّع الأقليات على التحرُّك من أجل حقوقٍ أكبر، والعناصر التي تشجِّع جماعات الأغلبية والدول على أن تقبُّل مثل هذه الدعاوى. وهناك اختلافاتٌ مهمة بين الغرب وأوروبا ما بعد الشيوعية بالنسبة إلى كلٍّ من الفئتَين.
فيما يتعلق بحَراكِ الأقليات في الغرب، كان هناك شرطٌ مُساعِدٌ حاسم هو التماسُك الديمقراطي، فقد وفَّر الضماناتِ لحراكٍ سياسيٍّ آمن، وضَمِن ألا تتعرَّض الأقليات للسجن، أو الهجوم أو الاضطهاد بسبب إعلان طموحاتهم وقضاياهم. وفي أوروبا ما بعد الشيوعية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لم تكُن هذه الضمانات موجودة؛ فقد افتقدَت الأقلياتُ الثقةَ القوية بقدرتها على الحَرَاك بشكلٍ آمن. وقد ظل الحَرَاك السياسي غير مشروع في كثيرٍ من الحالات، أو معرَّضًا للمضايقة السياسية، وبقي ذلك مدةً طويلة بعد سقوط الدكتاتورية الشيوعية. كان الخيار الآمن هو الحَرَاك السياسي، جزئيًّا؛ لأن الشرطة والمحاكم والجيش كانوا في يد الجماعة المُسيطِرة (غالبًا بعد أن تَم تطهيرها من الأقليات).
الاختلاف الحقيقي مع الغرب إذن، لم يكن حول المدى الذي يسير فيه حَراك الأقلية، لكنه تَمثَّل في قوة مقاومة الدولة لقضايا الأقلية؛ ففي الغرب، كانت هذه القضايا تُناقَش بجدية، وتُقبَل في كثيرٍ من الأحيان، على الأقل جزئيًّا، ولكنها اصطدَمَت بحائطٍ صُلب في أوروبا ما بعد الشيوعية.
- (أ)
وجود حماية يُعتمَد عليها لحقوق الإنسان.
- (ب)
عدم تأمين العلاقات العِرقية.
وكلا الشرطين لم يكن موجودًا في أوروبا ما بعد الشيوعية في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
لقد امتزَجَت هذه المخاوف حول الأمن الفردي مع المخاوف الجغرافية السياسية حول أمن الدولة. وكان الشرط المسبق الأساسي لتبنِّي نظام فدرالي متعدِّد القوميات في الغرب هو عدم تأمين علاقات الدولة بالأقليات. ومع احترام كلٍّ من الأقليات القومية والسكان الأصليين في الغرب، لم تعُد هناك أيُّ مخاوفَ من أن يتعاون أيٌّ منها مع أعداء الدولة، وذلك يسمح بالتعامل مع قضايا الحكم الذاتي باعتبارها سياساتٍ ديمقراطيةً «طبيعية». أما في بلدان ما بعد الشيوعية فإن فكرة «أن أقليات أرض الوطن قد تمثِّل طابورًا خامسًا محتملًا من الممكن أن يتعاون مع الأعداء المجاورين» تظل فكرةً منتشرة؛ وبالتالي تظل العلاقاتُ العِرقية مؤمَّنة.
ولكي نفهَم هذه الفكرة علينا أن نسترجعَ تاريخ المنطقة. إن التشكيل الحالي للدول في وسط وشرق أوروبا هو نتيجة لانهيار ثلاث إمبراطوريات بعد الحرب العالمية الأولى — إمبراطورية رومانوف الروسية، والإمبراطورية العثمانية التركية، وإمبراطورية آل هابسبرج النمساوية الهنغارية — وأكثرها حداثةً انهيار الإمبراطورية السوفييتية في العام ١٩٨٩م، وقد شملَت كل إمبراطوريةٍ من هذه الإمبراطوريات أراضيَ لجماعاتٍ قوميةٍ متعددة، وحصل الكثير منها على دولٍ مستقلةٍ على أنقاض الإمبراطوريات السابقة (وعلى سبيل المثال: البولنديون، والرومانيون، والتشيكيون، والسلوفاكيون، والبلغاريون، والصربيون واللاتفيون … إلخ).
وقد خلقَت عملية تشكيل الدول في ظل انهيار الإمبراطوريات عدةَ مشكلاتٍ أمنيةٍ متميزة بالنسبة إلى أقليات أرض الوطن. أولًا: أن حدود هذه الدول المستقلة حديثًا تَركَت بعض أعضاء الجماعات القومية في الجانب الخاطئ للحدود الدولية الجديدة؛ فعندما رُسمَت الحدود بين ألمانيا وبولندا، كان هناك العديد من الألمان في الجانب البولندي من الحدود. وبالمثل كان هناك عددٌ كبير من العِرق المجري في الجانب الروماني من الحدود مع المجر، أو العِرق الروسي في الجانب اللاتفي من الحدود مع روسيا، والعِرق التركي في الجانب البلغاري من الحدود مع تركيا، أو العِرق الألباني في الجانب المقدوني من الحدود. وكثيرًا ما كان يُطلَق عليهم أقليات الدولة القريبة؛ لأن أقاربهم العِرقيين يهيمنون على الدولة المجاورة، ويُفترَض أن يكون لديهم ولاءٌ لهذه الدولة القريبة أكثر من ولائهم للدولة التي يعيشون فيها. ونتيجةً لذلك كثيرًا ما يُفترض أن مثل هذه الأقليات هم من الانضماميين، وأنهم يريدون إعادة رسم حدود الدولة بحيث يُعاد ضَم الأرض التي يعيشون عليها إلى الدولة القريبة. والواقع أنه كثيرًا ما يُفترَض أنهم سوف يتعاونون برغبتهم مع الدولة القريبة لو أنها غزت البلاد عسكريًّا لتدَّعي ملكيتها لهذه الأرض، كما حدث في الواقع في أماكنَ مختلفةٍ في القرن العشرين. وليس من الوارد أن تهَب أيُّ دولةٍ سلطاتِ الحكمِ الذاتي طواعية للأقلية في ظل هذه الظروف.
وهذه ظاهرةٌ منتشرةٌ في عالم ما بعد الشيوعية، لكنها إجمالًا غير معروفة في الغرب، وبالتالي تحتاج إلى تفسيرٍ وتوضيح، فإذا نظر المرء إلى الأرقام فقط، وتجاهَل الخلفية التاريخية، فقد تبدو الأغلبية السلوفاكية في معظم بلاد ما بعد الشيوعية ضعيفة وصغيرة تمامًا؛ فالمجريون العِرقيون في سلوفاكيا على سبيل المثال، يشكِّلون نحو ١٥ في المائة من تعداد السكان، وبالتالي فهم ضعفاء أمام الأغلبية الطاغية في البلاد، ومع ذلك، فقد كان المجريون تاريخيًّا أعضاء في جماعةٍ متميزة ومُسيطِرة داخل إمبراطورية آل هابسبرغ، ومتعاونين نشطاء في سياسات هابسبرغ لخلق ثقلٍ مجري في المنطقة. وفي المقابل كان السلوفاك مجموعةً ثانوية، أو تابعة، تعرضَت لحملاتٍ مجريةٍ متعسِّفةٍ وقهرية. وبعد الاستقلال، انقلبَت هذه الهيراركية بالطبع رأسًا على عقب، وأصبح السلوفاك الآن هم الجماعة المُسيطِرة، في حين أصبح المجريون هم الأقلية المهدَّدة التي تخضع لسياسات بناء الأمة السلوفاكية. لكن تبقى الذكرى: أن السلوفاك ينظرون إلى المجريين ليس فقط على أنهم جماعةٌ يحتمل أن تُطالِب بالانضمام ويكون ولاؤها لدولتهم القريبة، بل على أنهم من الناحية التاريخية جماعةٌ قوية ومتميِّزة تعاونت مع السلطة الإمبريالية المُسيطِرة لقهر لغة السلوفاك وثقافتهم. وفي غياب الترتيبات الأمنية الإقليمية الفعَّالة، يستمر الخوف من أن ذلك قد يحدث مرةً أخرى، فتتعاون الأقلية المجرية مع الدولة المجرية القريبة لإخضاع السلوفاك من جديدٍ وسحق استقلالهم الوطني.
وباختصارٍ، عملَت العديد من العوامل على تعميق عملية تأمين العلاقات العِرقية في أوروبا ما بعد الشيوعية. وظاهرة أقليات الأرض التي تسعى إلى الحكم الذاتي تُبرِز صعوباتٍ في أحسن الأحوال، ما دامت تتحدَّى الدعوى التي تقدِّمها الدولة لتمثيل شعبٍ واحد يستمد مشروعيته من السيادة الموحَّدة.
- (أ)
عندما تكون أقلياتُ أرض الوطن هي أقليات انضمامية ولاؤها للدولة القريبة المجاورة.
- (ب)
عندما تكون الدولة القريبة المجاورة هي قوًى إمبريالية سابقة كانت أخضعَت تاريخيًّا، الجماعاتِ القومية التي تشكِّل الآن جماعةَ الأغلبية في دولةٍ مجاورة.
- (جـ)
عندما لا تكون هناك ترتيباتٌ أمنيةٌ إقليمية لضمان عدم الاعتداء.
وعندما تُوجَد هذه العوامل، كما هي موجودة في أوروبا ما بعد الشيوعية، فإن النتيجة المحتملة هي عمليةُ تأمينٍ شاملة للعلاقات العِرقية.
- (أ) أن الأقليات ليس لديها ولاء، ليس فقط بمعنى أنه ينقصها الولاء للدولة (ويصدُق ذلك أيضًا على الانفصاليين سواء في الكيوبيك أو اسكتلندا)، لكن بمعنى أنهم تعاونوا مع القاهرين السابقين، وواصلوا التعاون مع الأعداء الحاليين، أو الأعداء المحتملين؛١٥ لذلك:
- (ب)
فإن الدولة القوية المستقرة تحتاج إلى أقلياتٍ ضعيفة لا حول لها ولا قوة، وبعبارةٍ أخرى، فإن العلاقات العِرقية يُنظر إليها، كلعبة الجمع بين أصفار؛ فكل ما ينفع الأقلية يُنظر إليه على أنه تهديدٌ للأغلبية، وبالتالي:
- (جـ) فإن معاملة الأقليات هي قبل كلِّ شيء مسألة أمنٍ قومي.١٦
لكن كما رأينا فإن هناك اختلافًا مهمًّا في طبيعة الهيراركيات التاريخية في الغرب، وفي أوروبا ما بعد الشيوعية؛ ففي الغرب غالبًا ما تسعى أقليةٌ ما إلى الاعتذار والتعويض من الدولة التي أساءت معاملتها تاريخيًّا؛ ومن ثَم فإن الحُجة المستمدة من الظلم التاريخي تعمل لتقوية دعاوى حقوق الأقلية، وتدعيم الحُجة من أجل مساواةٍ أكبر بين الأغلبية والأقلية. تُستخدَم هذه الحُجة للضغط على الأغلبية لكي تقول: «إننا لن نعود أبدًا مرةً أخرى إلى عمليات الطرد والإخضاع والقهر.»
أما في بلاد ما بعد الشيوعية فغالبًا ما تشعُر الأغلبية بأنها كانت ضحية للقهر والاضطهاد، وكثيرًا ما يكون ذلك على يد الأقليات التي تتعاون مع العدو الأجنبي؛ ومن ثَم فإن الأغلبية تريد من الأقلية أن تُعلِن أنها مذنبة، وأن تُقدِّم لها اعتذارًا، كوسيلةٍ لأن تعلن أنها لن تعود (أي الأقلية)، مرةً أخرى، إلى خيانة الدولة. ونحن نرى ذلك في الجمهورية التشيكية فيما يتعلق بالأقلية الألمانية، وفي سلوفاكيا فيما يتعلق بالأقلية المجرية، وفي البلطيق فيما يتعلق بالأقلية الروسية، وغير ذلك من الحالات.
وباختصارٍ، فإن نوع الظلم التاريخي الذي يمثِّل محور المناقشات في دول ما بعد الشيوعية هو القهر التاريخي لجماعة الأغلبية من قِبل أقلياتها المتعاونة مع دولةٍ قريبة أو مع قوةٍ أجنبية، وذلك على عكس الغرب. وأنا أعتقد أن ذلك يميِّز — بحق — أوروبا الشرقية عن التجربة الغربية (ربما باستثناء قبرص)، على الرغم من أنه تُوجَد أمثلة، كما سنرى في الفصل السابع، مماثلة في أفريقيا وآسيا أيضًا.
وباختصارٍ، بينما تعمل حُجج تصحيح المظالم التاريخية في الغرب على تقوية مطالب الأقلية لتوزيعٍ أكثر عدلًا للحقوق والموارد بين الأغلبية والأقلية، فإنها قد تُستخدَم في بلدان ما بعد الشيوعية لإضعاف قضايا الأقليات، بل للتشكيك في شرعية وجودها.
هذه الاختلافات العميقة في حماية الحقوق الإنسانية والأمن الجغرافي السياسي، والمظالم التاريخية تخلُق أسسًا واضحة لمعارضة تبنِّي النماذج الغربية للفدرالية المتعدِّدة القوميات. وفي جميع هذه الحالات، بالطبع، من المهم أن نميِّز الحقائق الموضوعية حول التهديدات الأمنية والإساءات التاريخية عن الطريقة التي تُدرَك بها هذه الحقائق وتُناقَش. ويختار السياسيون ما إذا كانوا، ومتى سيُلقون الضوء على (أو يُبالِغون حول) هذه العوامل في المناقشات العامة. إن تصوُّر أقليات الدولة القريبة كتهديدٍ أمني وكمتعاونين في المظالم التاريخية ضد الأغلبية هو شيءٌ يرسَّخ عن عمد ويُعاد إنتاجه بوساطة نخبةٍ سياسيةٍ معيَّنة؛ وذلك لأسبابٍ تتعلق بمصالحهم الشخصية الخاصة.
وذلك في الواقع أمرٌ محوري لفهم عملية التأمين. وبالمعنى الدقيق، فإن المسألة لا تصبح مسألةً «أمنية» إلا إذا قرِّر ممثلون سياسيون معيَّنون أن يصفوها بهذه المصطلحات — أي كتهديدٍ لوجود الدولة وجماعتها القومية المسيطرة — ونجحوا في إقناعِ عددٍ آخر من المواطنين بهذا الوصف. وربما يعكس ذلك في بعض الحالات إيمانًا جادًّا بتهديدٍ موضوعي، لكنه يمثِّل في حالاتٍ أخرى خيارًا واعيًا، واستراتيجية سياسية، فلماذا تتبنَّى نخبةٌ سياسية هذه الاستراتيجية؟ إن موضوعَ التأمين يحمل في جوفه مضمونَين مهمِّين:
- أولًا: ما دام يُقال إن للقضايا الأمنية إمكانَ تفويض الدولة، فهي تُعرقِل العمليات الديمقراطية المألوفة في المناقشات والمفاوضات؛ فقبل كل شيء، إن المهمة الأولى للدولة هي المحافظة على بقائها ووجودها، وعندئذٍ فقط تستطيع أن تقوم بعمليات النقاش والمفاوضات. وعلى حد تعبير ويفر Weaver، عن طريق مسائل الأمن، يستطيع القادة السياسيون أن يدَّعوا أن هذه المسائل: «لا بد من مواجهتها قبل أي مسائلَ أخرى، فإذا لم نواجهها فإن الدولة تتوقف عن الوجود كوحدة سيادة، وتصبح جميع الأسئلة الأخرى غير ذات صلة … ومع ذلك فهذا يعني من الناحية العملية أنه: بتسمية تطوُّرٍ معيَّن بأنه مشكلة أمن، فإن «الدولة» تستطيع أن تدَّعي حقًّا معينًا خاصًّا … بالنطق بلفظ «الأمن»، فإن ممثِّل الدولة يحرِّك تطورًا خاصًّا في منطقةٍ خاصة، وبذلك يدَّعي حقًّا خاصًّا في استخدام أي وسلةٍ يراها ضرورية لحجب ذلك التطوُّر (ويفر، العام ١٩٠٥م، وتأكيد الكلمات موجود في الأصل).
- ثانيًا: موضوع التأمين يعوق كذلك موضوع العدالة؛ فقضية العدالة بأَسْرها وما تتطلَّبه العدالة بين الأغلبية والأقلية تصبح مغمورةً ما دامت للأمن القومي الأولوية على العدالة، وما دامت الأقليات الخائنة ليست لها مطالب أو قضايا مشروعة على أي حال. ويُساعِدنا ذلك في تفسير السبب في قلة المناقشات العلمية أو الشعبية في بلاد ما بعد الشيوعية حول مبادئ العدالة التي ينبغي لها أن تنظِّم التكيُّف مع التنوُّع الثقافي العِرقي؛ ففي المناقشات الحامية، على سبيل المثال، حول وجود جامعة في مقدونيا يكون التدريس فيها باللغة الألبانية، من الصعب أن نجد شخصًا يتساءل عما تقتضيه المساواة في مجال التعليم العالي في الدول المتعدِّدة القوميات، والمتعدِّدة اللغات، أو كيف يقترب التعليم العالي باللغة الأم ويرتبط بالمبادئ الليبرالية حول الحرية والمساواة؛ فالأمن يعيق العدالة، والأقليات الخائنة تُصادِر أي مطالباتٍ بالعدالة.
- (١)
العنف الانفصالي-الإرهاب.
- (٢)
الحراك الديمقراطي الانفصالي.
- (٣)
الحكم الذاتي الإقليمي.
- (٤)
التعليم العالي بلغة الأقليات.
- (٥) حق النقض (الفيتو Veto).
- (٦)
الحقوق الجماعية.
- (٧)
وضع اللغة الرسمية.
- (٨)
المدارس الابتدائية بلغة الأقليات.
- (٩)
لافتات الشوارع بلغة الأقلية
ويرتبط تأمين قومية الأقلية بالمشكلة الأولى التي سبق أن ذكرتُها حول ضعف المؤسَّسَات الديمقراطية الليبرالية، ويُفاقِم منها أن عملية التأمين لا تضُر بالأقليات فقط، بل أيضًا بالديمقراطية نفسها، بوجود المجتمع المدني المسالم. ويبدو أن هناك ارتباطًا سلبيًّا بين عملية الديمقراطية وقومية الأقليات؛ فبلاد ما بعد الشيوعية التي ليست لديها أقليةٌ قومية تحوَّلَت إلى الديمقراطية بنجاح (الجمهورية التشيكية، والمجر، وسلوفينيا، وبولندا)، والبلاد التي لديها قوميات أقليةٍ قوية تُعاني أكثر مثل (سلوفاكيا، أوكرانيا، رومانيا، صربيا، مقدونيا، جورجيا)؛ فموضوع الأقلية ليس هو الوحيد هنا، ولكني أعتقد أنه مُهِم.
وأنا أعتقد أن ذلك يصدُق حتى يومنا الراهن؛ فكثيرٌ من دول ما بعد الشيوعية ذات قوميات الأقليات لديها قشرة الديمقراطية الليبرالية، ولكنها ما زالت خائفةً من الممارسات الكاملة والحرة للحريات الديمقراطية.
ومن هذه الزاوية، فإن رفضَ بلاد ما بعد الشيوعية إفساحَ المجال للمناقشة المفتوحة والديمقراطية حول مميزاتِ أفضلِ الممارَسات الغربية ليس فقط النتيجة المتوقَّعة أو الحتمية للاختلافات في الظروف التاريخية والجغرافية السياسية بين الغرب والشرق، بل يرجع أيضًا — إلى حدٍّ ما — إلى الاستراتيجية المتعمَّدة من قِبل النخبة السياسية لتأكيد الأخطار الأمنية المتضمَّنة، وبالتحديد من أجل قمع مثل هذه المناقشات. ومن المحتمل أن تكون استراتيجياتُ أفضل الممارَسات قد حقَّقَت نجاحًا أكبر لو أن النخبة في دولِ ما بعد الشيوعية كانت أكثر حذرًا في اللعب بورقة الأمن. لكن سيكون من الخطأ أن نُعالِج الاعتراضات القائمة على الأمن ضد تبنِّي أفضَل الممارَسات الغربية للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات. والواقع أن النظام الفدرالي المتعدِّد القوميات يمثِّل فعلًا أخطارًا أكبر في أوروبا الشرقية عما يمثِّله في الغرب؛ فهناك اختلافاتٌ موضوعيةٌ في مستوى حماية حقوق الإنسان، والانضمام المحتمَل لأقليات أرض الوطن، وفي وجود أو غياب منظَّمات الأمن الإقليمية، وفي طبيعة الهيراركيات التاريخية، والمظالم في مجال العمل. وربما تُبالِغ الصفوة السياسية في بلدان ما بعد الشيوعية كثيرًا في هذه المخاطر. غير أن استراتيجية المنظَّمات الدولية في تعميمها لأفضل الممارسات غالبًا ما تُهمِل تلك المخاطر.
قد يُساهِم تَعميمُ أفضل الممارَسات في نَشر الوعي بمنطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية، لكن من السذاجة أن نأمل أن يكونَ هذا المنطق مقنعًا في سياقاتٍ تتضمَّن قواعدَ معقولةً وقابلةً للتصديق للنظر إلى السياسات العِرقية كتهديدٍ ممكنٍ لأمن الفرد وأمن الجماعة، فإذا سلَّمنا بالاختلافاتِ العميقةِ في الظروف والتاريخ، فإن الجهود التي تُبذَل لنشرِ وتعميمِ أفضلِ الممارَسات في الغرب، من دون النظر إلى عوامل المخاطر الكامنة، سوف يُكتَب لها الفشل.
من «أفضل الممارَسات» إلى «المعايير» و«المقاييس»
سرعان ما أصبح واضحًا أن استراتيجية نَشرِ أفضل الممارَسات لن تكون كافيةً بمفردها؛ فلو تُرِك الأمر لها، لما كان من المحتمل أن تلحَق دول ما بعد الشيوعية بالنماذج الغربية، بل إنها في الواقع كانت في كثيرٍ من الحالات تَبتعِد عنها، وتقيِّد ضمانات حقوق الأقليات بدلًا من أن تدفعَها إلى الأمام.
لو أرادت المنظَّمات الأوروبية أن تُحدِث فرقًا فسوف تحتاج إلى استراتيجيةٍ أخرى أكثر حدة. بدلًا من تقديم مجموعة من الممارسات الجيدة في بلاد ما بعد الشيوعية لكي تتبناها أو لا تتبناها، وفقًا لما هو منسوب إليها، فإن الاستراتيجية الثانية تتضمَّن وضعَ معاييرَ ومقاييسَ واضحةٍ قانونية أو شبه قانونية، والتي يكون من المتوقَّع أن تلتزم بها دول ما بعد الشيوعية، على أن تتم مراقبة الالتزام بهذه المعايير والمقاييس بواسطة العديد من الهيئات الدولية، مع مجموعةٍ من الحوافز لهؤلاء الذين يلتزمون بها، والعقوبات للذين لم يلتزموا.
وإذن، في الفترة ما بين ١٩٩١م و١٩٩٥م نما إجماعٌ سريعٌ بين جميع المنظَّمات الأوروبية الكبرى بأن أفضل طريقة للتأثير في معاملة الأقليات القومية في بلاد ما بعد الشيوعية هي إقامة حدٍّ أدنى من المعايير والمقاييس المصاحبة لآلياتٍ دولية، لمراقبة التزام البلاد بها، وسوف يُصبِح هذا الالتزام عندئذٍ واحدًا من الأسس التي تقوم عليها القرارات التي تُتخذ حول قبول دولةٍ معيَّنة الانضمام إلى أوروبا من جديد.
والواقع أن أحدَ أكثرِ الجوانبِ إثارةً في التجربة الأوروبية مع حقوق الأقليات هو أن القرار بإقامةِ معاييرَ ومقاييسَ قد اتُّخذ العام ١٩٩١م، من دون أن تكون هناك فكرةٌ واضحة عند الممثلين الرئيسيين حول ما ينبغي أن تكون عليه هذه المعايير، أو حتى كيف يجري تشكيلها. وتختلف الدول الغربية بشكلٍ متميِّز في الحقوق التي تمنَحُها للأقليات المتعدِّدة، وفي المفرَدَات التي تستخدمها في وصف الأنواع المختلفة من الأقليات، وكذلك في الواقع تختلفُ في اعترافها أو عدم اعترافها بوجود «الأقليات»، فأين يُمكِن للمَرء أن يبحث لتشكيل المعايير الأوروبية لحقوق الأقليات؟!
ويسترجع الملاحظون أصحاب الذاكرة البعيدة المدى أن هذا السؤال سبق أن طُرِح قبل ذلك، في آخر مراحل الانهيارات الإمبريالية بعد الحرب العالمية الأولى، وقد نتَج عنه مخطَّط حماية الأقليات الذي قدَّمَته عصبة الأمم. ولقد ظهَرَت مجهوداتٌ قليلة لفحص هذا المخطَّط القديم، ولمحاولة تعلُّم درسٍ من نجاحاته وإخفاقاته لخدمة المناقشات الأوروبية المعاصرة (كوفاكس، ٢٠٠٣م؛ كورنويل، ١٩٩٦م؛ شارب، ١٩٩٦م؛ بيرنز، ١٩٩٦م؛ فينك، ٢٠٠٤م)، ولكن كما رأينا في الفصل الثاني، فإن مخطَّط حماية الأقلية التابعة لعصبة الأمم كان محدودًا ومخصَّصًا، وقد تضمَّن مسوداتٍ لاتفاقياتٍ وفقًا للدولة المَعْنية، لكن فقط بالنسبة إلى بعض الدول (وهي عادة الدول المهزومة أو المستقلة حديثًا)، وبالنسبة إلى بعض الأقليات فقط في هذه البلاد (عادة أولئك الذين لديهم دولةٌ قريبةٌ قوية)، بينما ترك الكثير من الأقليات الأخرى في البلدان الأخرى بغير حماية؛ فهو لم يُحاوِل صياغةَ معاييرَ عامة أو مقاييسَ دولية يتوقَّع من كل الدول الإيفاء بها، ويُمكِن لجميع الأقليات القومية أن تطالب بها؛ ومن ثَم فقد نُظر إليه على نطاقٍ واسع على أنه ليس أساسيًّا ولا مبدئيًّا. والواقع أن ذلك كان أحد الأسباب التي اخفقَت بسببها فكرة حقوق الأقليات، واختفَت على نطاقٍ واسع من سياق القانون الدولي بعد الحرب.
وكما سنرى في هذا الفصل، فإن المنظمات الأوروبية لم تستطع تجنُّب الانشغال بالمسائل الخاصة من التدخُّل وفقًا لظروف الدولة المعنية للدفاع عن أقلياتٍ معيَّنة في بلدانٍ معيَّنة. لكن في بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت هناك رغبةٌ قوية في تشكيل نهجٍ مبدئي أكثر في شكلِ معاييرَ أو مقاييس تشمَل أوروبا كلها. وقد أراد المسئولون عن صياغة هذه المعايير الأوروبية أن يجدوا مفهومًا لحقوق الأقلية يعبِّر عن القيم الديمقراطية الليبرالية التي يأملُ الغرب أو يتوقَّع أن تتبناها بلاد ما بعد الشيوعية، ويتضمَّن مفاهيمها حول قضايا علاقة الدولة بالأقلية. ولقد كان الهدف من هذه المعايير أو المقاييس التعرُّف على ما نتوقَّعه من الديمقراطية الليبرالية «الحديثة» المحترمة. ومع ذلك فقد كان عليهم أيضًا ضمانُ أن تكون هذه المعايير واقعية حقًّا، ويُمكِن أن تتحقَّق تحت الظروف المشئومة نسبيًّا في كثيرٍ من بلدان ما بعد الشيوعية؛ فقد كان الهدف العام، قبل كل شيء، هو أن تفعل شيئًا ما بالنسبة إلى الأخطار الوشيكة أو الكامنة للصراع العِرقي في المنطقة.
ومن الواضح أن صياغةَ مجموعةٍ من المعايير التي تجسِّد الآمال والتوقُّعات المتفائلة من أجل نشر منظورٍ ديمقراطيٍّ ليبرالي للتعدُّد العِرقي، وتقوم في الوقت نفسه بمواجهة المخاوف الضاغطة لعدم الاستقرار العِرقي، من الواضح أن ذلك مثَّل تحدِّيًا هائلًا. وأكثر من ذلك، فبالنظر إلى إلحاح الموقف، توقَّع مُعِدو المسوَّدات أن يقوموا بذلك، على عجَل، من دون وقتٍ للاستشارات الدقيقة والعميقة مع المستفيدين، ببحثٍ نسقي حول فاعلية الأنواع المختلفة للسياسات المتعلقة بالدولة والأقلية.
بالنظر إلى صعوبة المهمة، والإطار الزمني القصير، فإننا لن نندهش إذا ما عانت المعايير الناتجة قصورًا خطيرًا. والواقع أنني أعتقد أن استراتيجية تشكيل المعايير القانونية الشاملة لأوروبا قد فشلَت بشكلٍ أساسي، على الأقل من حيث أهدافها الأصلية؛ فقد فشلَت في الجمع، على نحوٍ متماسك، بين الهدف الطويل المدى لنشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية والحاجة القصيرة المدى لمنع الصراعات العِرقية المحتمَلة وحلها، وانتهى بها الأمر إلى عدم تحقيق أيٍّ منهما. في حين أن استراتيجية «أفضل الممارَسات» دعمَت بشكلٍ ساذج التعدُّدية الثقافية الليبرالية، من دون الانتباه إلى عناصر الخطورة المباشرة؛ فقد عانت استراتيجية المعايير القانونية في بعض النواحي المُشكِلة المُعاكِسة بالتضحية بالأهداف البعيدة المدى، على مذبح المنفعة القصيرة المدى.
تشكيل معايير حقوق الأقليات الأوروبية: عامة أو مستهدفة
هذا التوتُّر الأساسي بين الأهداف البعيدة المدى والضرورات القصيرة المدى يظهر من جديدٍ خلال إطار العمل الحالي للمعايير الأوروبية لحقوق الأقليات، لكنَّ واحدًا من أوضح الأمثلة يتعلق بالسؤال عن التصنيفات أو الفئات؛ ففي أي محاوَلةٍ لتشكيل معاييرَ عالمية لحقوق الأقليات، تتعلق أول خطوة، وأكثرها مصيرية، باختيار الفئات: ما نوع الأقليات التي نسعى إلى حمايتها؟ إن أنواع الحقوق التي تبدو واقعية، ويُمكِن الدفاعُ عنها سوف تُحدَّد بشكلٍ واسع بواسطة السؤال السابق عمن نقصدهم من أنواع الأقليات المستفيدة. وسوف يتضح لنا أن الإجابة عن هذا السؤال أكثر صعوبة مما يتوقَّعه المرء؛ لأن الأهداف البعيدة المدى والضغوط القصيرة المدى تشير إلى اتجاهاتٍ مختلفة.
كما ذكرنا في الفصل الأول، هناك استراتيجيَّتان لتصنيف حقوق الأقليات؛ فيُمكِننا أن نشكِّل «حقوق أقلياتٍ عامة» تنطبق على كل الأقليات العِرقية الثقافية، أو أن نشكِّل «حقوق أقلياتٍ مستهدَفة» تنطبق على أنواعٍ محددة من الأقليات مثل السكان الأصليين، والأقليات القومية، والمهاجرين، والغجَر، وما إلى ذلك.
ويُمكِننا أن نجد مثالًا واضحًا لاستراتيجية حقوق الأقليات العامة في الأمم المتحدة. كما رأينا في الفصل الثاني، فإن فكرة حقوق الأقليات، بالرغم من أنها رُفضَت بشكلٍ عام بعد الحرب العالمية الثانية، فقد حافظَت على مركزها في «فقرة الأقليات» الشهيرة من البند «٢٧» من ميثاق الأمم المتحدة الدولي للحقوق المدنية والسياسية العام ١٩٩٦م، والذي يُقِر بأنه: «في تلك الدول التي تُوجَد بها أقلياتٌ عِرقية أو دينية أو لغوية، فإن الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الأقليات يجب ألا يُحرَموا من حقِّ التمتُّع بثقافتهم الخاصة، والإفصاح عن ديانتِهم وممارسةِ طقوسِها، واستخدام لُغتِهم الخاصة، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتِهم.»
ولكن لهذا السبب وحده فإنه يُعاني قصورًا لا مندوحة عنه؛ فلو أننا حاولنا أن نتعرَّف على حقوقٍ ثقافيةٍ محدَّدة تنطبق على كل الجماعات، أيًّا كانت كبيرة أو صغيرة، جديدة أو قديمة، مركَّزة أو مشتَّتة، فمن الصعب أن نفكِّر في أمثلةٍ جوهريةٍ كثيرة. والواقع أن عبارة «حق المرء في الاستمتاع بثقافته» من البند «٢٧» فُهمَت أساسًا كضمانٍ للحقوق السالبة الخاصة، بعدم التدخُّل، بدلًا من الحقوق الإيجابية بالمساعدة والتمويل والحكم الذاتي، أو وضع اللغة الرسمية. والواقع أنها أكَّدَت من جديدٍ أن أعضاء الأقليات لا بد أن يكونوا أحرارًا في ممارسة حرياتهم المدنية — أعني الحق في حرية التعبير، والتجمُّع والضمير.
والمشكلة هنا ليست ببساطة النص الخاص بالبند «٢٧»، وإنما هي كامنةٌ في استراتيجية الاعتماد، حصريًّا، على حقوق الأقلية العامة. إن الالتزام بتحديد الحقوق الثقافية العامة يحدُّ من أنواع حقوق الأقلية التي من المُمكِن الاعتراف بها، وبالتحديد يمنع الدعاوى التي تترتب على حقائق الاستيطان التاريخي، أو التمركز الإقليمي؛ حيث يعلن البند رقم «٢٧» حقًّا ثقافيًّا عالميًّا يمكن أن ينطبق على جميع الأفراد، حتى المهاجرين والزوار، فإنه لا يعلن حقوقًا ترتبط بحقيقة أن جماعةً ما تعيش (كما تعتقد) في وطنِها التاريخي، مع أن الدعاوى المُرتبِطة بالإقامة في الوطن التاريخي هي تحديدًا المعرَّضة للخطر في جميع الصراعات العِرقية العنيفة في أوروبا ما بعد الشيوعية — على سبيل المثال في البوسنة، وكوسوفو، ومقدونيا، وجورجيا، والشيشان، ونغورنو-كاراباخ. والواقع أن دعاوى أرض الوطن تتمركَز في قلب معظم الصراعات العِرقية العنيفة في الغرب أيضًا (على سبيل المثال في الباسك وقبرص، وكورسيكا، وأيرلندا الشمالية). وفي جميع هذه الحالات تُطالِب الأقلية بالحق في حكم نفسها فيما تراه على أنه أرضُ الوطن التاريخية، فضلًا عن الحق في استخدام لغتها في المؤسسات العامة داخل إقليمها التقليدي، وأن تحتفل بلغتها، وتاريخها، وثقافتها في المجال العام (على سبيل المثال في تسمية الشوارع، واختيار الإجازات، ورموز الدولة)، ولا يُمكِن النظر إلى أيٍّ من هذه المطالب على أنها عالمية أو يُمكِن انتقالها على نحوٍ مقبول؛ فهي تنطبق فقط على أنواعٍ محدَّدة من الأقليات لها تاريخ ومنطقة من نوعٍ محدَّد. باختصار، جميع هذه الحالات هي حالاتٌ من النزاع القومي العِرقي، تدور حول مطالبَ متنافسة للقومية وللمنطقة القومية.
وكي تكون المعاييرُ الأوروبية مفيدةً في حل النزاعات الضاغطة في أوروبا ما بعد الشيوعية، فإن عليها الذهابَ إلى ما هو أبعدُ من حقوق الأقليات العامة، لتشكل حقوق الأقليات المُستهدَفة، بالتركيز على أنواعٍ خاصة من الجماعات العِرقية القومية المتورِّطة في تلك الصراعات. وفضلًا عن ذلك فإن التحرُّك نحو منظورٍ مُستهدَفٍ أكثر يُمكِن أن يُساعِد كذلك في توضيح ونَشْر منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية. وكما رأينا في الفصل الثالث، فإن التعددية الثقافية الليبرالية في الغرب تعمل بطريقة الجماعة المتمايزة؛ المهاجرين، الأقليات القومية، السكان الأصليين، كانوا جميعًا قد تحرَّكوا عَبْر طرقٍ مختلفة فيما يخُص حقوق الأقليات الخاصة بهم. بقَدْرِ ما قُصد للمعايير الأوروبية أن تُساعِد على انتشار منطق أو روح التعددية الثقافية الليبرالية، فإن التحوُّل إلى أسلوبٍ أكثر استهدافًا سوف يُساعِد على إبراز مشروعية حقوق الأقليات المتمايزة باختلاف الجماعة.
ونتيجة لذلك فإن المعايير الأوروبية الجديدة التي انبثقَت منذ العام ١٩٩٠م هي كلها أمثلة لحقوق الأقليات المستهدفة — وهي بصفةٍ خاصة، تستهدف ما يُطلَق عليه الأقليات القومية؛ فعلى حين أن البند «٢٧» يجمع بين الأقليات «القومية، والعِرقية، والدينية واللغوية»، فإن الاتفاقية الإطارية للمجلس الأوروبي تشير فقط إلى «الأقليات القومية». وبالمثل فإن مكتب منظَّمة الأمن والتعاون في أوروبا يُطلَق عليه اللجنة العليا للأقليات القومية. على حين أنه ليس ثمَّة تعريفٌ متفَق عليه عالميًّا للأقليات القومية، فإن للمصطلح تاريخًا طويلًا في الدبلوماسية الأوروبية، كان يُشير إلى ما قد أُطلِق عليه الجماعات الفرعية. وهذه الجماعات المستقرة تاريخيًّا في أرض الوطن هي الخاسرة، في الواقع، في عملية تكوين الدولة الأوروبية، سواء انتهى الأمر من دون تأسيس دولةٍ خاصةٍ بهم (أمة بلا دولة مثل الباسك والشيشان)، أو انتهى بهم الأمر في الجانب الخاطئ من الحدود، معزولين عن الدولة القريبة المجاوِرة المشترِكة معهم في العِرق (أقليات الدولة القريبة مثل العِرق الألماني في إيطاليا، أو العِرق المجري في رومانيا).
وفي هذا الضوء، فإن تطويرَ معاييرَ دوليةٍ تتعامل مع التحديات الصعبة التي تُثيرها الجماعاتُ العِرقية القومية هي المهمة المركزية لنظرية حقوق الأقليات وتطبيقها حول العالم؛ ولذلك، فإن للتجربة الأوروبية في تحديد هذه المعايير أهميةً محورية. وتتضمَّن الصعوباتُ التي واجهَت هذه التجربة دروسًا مهمَّة للمشروع الأكثر عمومية لتطوير المعايير الدولية.
صياغة حقوق «الأقليات القومية»
وعلى ذلك، فالتحدي الذي كان يُواجِه المنظَّمات الأوروبية هو صياغةُ معاييرَ تستطيع أن توفِّر قواعدَ مبدئيةً للاستجابة لمطالب الجماعات العِرقية القومية، بطريقةٍ تعكس قيمًا ديمقراطيةً ليبرالية مميزة توفِّر توجيهًا فعَّالًا للتعامل مع مخاطر الصراع العِرقي المُزعزِع للاستقرار.
وبالنظر إلى التجربة الناجحة نسبيًّا للأنظمة الديمقراطية الغربية مع النظام الفدرالي المتعدِّد القوميات، والأمثلة المتعدِّدة لأفضل الممارَسات التي تضمَّنَت الحكم الذاتي الإقليمي، ووضع اللغة الرسمية، فقد كان التوجُّه الأول للعديد من المعلِّقين هو محاولة صياغة مبدأ الحكم الذاتي بالنسبة إلى الأقليات القومية. وكما سبق أن رأينا، لو كان هناك ما يُسمَّى ﺑ «المعيار الأوروبية» للتعامل مع الأقليات القومية المتحركة في الغرب، فسوف يكون الحكم الذاتي الداخلي هو هذا المعيار.
ومن المقبول بصفةٍ عامة أن حق تقرير المصير في البند رقم «١» لا يُمكِن أن يمتد ببساطةٍ وبشكلٍ غير متكافئ ليشمل الأقليات القومية، ما دام يُفهم بشكلٍ نموذجي على أنه يشمل الحق في تأسيس دولةٍ خاصة؛ ولهذا السبب تحديدًا، كان نطاقُه محدودًا للغاية في القانون الدولي. ولقد حدَّه ما يُطلَق عليه اسم «أطروحة الماء المالح». وعلى الرغم من أن البند يقول إن «لجميع الشعوب» الحقَّ في تقرير المصير، فالواقع أن الشعوب التي استطاعت أن تُطالِب بهذا الحق، هي الشعوب الخاضعة للاستعمار في وراء البحار (الاستعمار الخارجي). أما الأقليات القومية داخل أراضي دولةٍ مجاوِرة فلم يحدث أن اعتُرف بها ﮐ «شعوبٍ» منفصلة لها حقُّ تقرير المصير، وبغَض النظر عن تمايُزها ثقافيًّا وتاريخيًّا، فجماعات الاسكتلنديين، والأكراد، قد يظُنون أنهم شعبٌ منفصل أو متميز، وقد يقبل معظم المؤرِّخين وعلماء الاجتماع هذه الصفة، غير أن المجتمع الدولي لا يعترفُ بهم على هذا النحو، خشية أن يتضمَّن ذلك الحق في إقامة دولةٍ مستقلة.
ومع ذلك لو أننا تبنَّينا تفسيرًا أكثر تواضعًا لحق تقرير المصير، وكان تفسيرًا يتسق مع نزاهة الدولة الإقليمية، فسيكون من المُمكِن أن يمتدَّ نطاقُه ليشمل الأقليات الإقليمية. وهذا هو هدف النماذج المتعدِّدة «حق تقرير المصير الداخلي». ووفقًا لهذه النماذج، فإن الأقليات القومية ﮐ «شعوب» أو «قوميات» مميزة تعيش في أرض الوطن التاريخية، لديها الحقُّ في شكلٍ ما من أشكال تقرير المصير داخل حدود الدولة الأكبر، وغالبًا من خلال شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي الإقليمي. ولقد ذهب كثيرٌ من الشُّراح والمفسِّرين إلى أنه من التطرُّف الأخلاقي أن يُمنح حق تقرير المصير للشعوب الخارجية فيما وراء البحار، ويُنكَر بالنسبة إلى الشعوب الداخلية؛ فلكلٍّ منها حسٌّ بالقومية المتفرِّدة والرغبة في الحكم الذاتي، كما أن كلًّا منها قد تعرَّض على نحوٍ نموذجي للقَهر والضَّم القَسري وللتفرقة العنصرية التاريخية؛ ولذلك فإن المنظور المتَّسِق أخلاقيًّا مع تقرير المصير سوف يُدرِك إمكانَ تطبيقه على الأقليات القومية الداخلية (والسكان الأصليين)، على الأقل في صورة الحق في الحكم الذاتي الإقليمي (مور، ٢٠٠١م).
ولقد أُعيد تأكيد هذا المبدأ وتعميمه في العام ١٩٩٣م، في التوصية رقم ١٢٠١ في الاجتماع البرلماني للمجلس الأوروبي. وهي تحتوي على فِقرة (بند رقم «١١») تُقرِّر أنه: «في المناطق التي يمثِّلون فيها أغلبية، فإن للأشخاص الذين ينتمون إلى الأقليات القومية الحقَّ في سُلطاتِ حكمٍ ذاتي أو سلطاتٍ محليةٍ مناسبة، وأن تكون لهم مكانةٌ متميِّزة، تتوافق مع هذا الوضع المتميِّز تاريخيًّا وإقليميًّا ومع التشريع المحلي للدولة.»
ولقد رأى كثيرٌ من منظَّمات الأقليات القومية في أوروبا ما بعد الشيوعية في هذه التطوُّرات انتصارًا لها؛ فمنظَّمات العِرقية المجَرية على وجه التحديد رأتها دليلًا على أن أوروبا ستدعم مطالبها في الحكم الذاتي في سلوفاكيا، ورومانيا، والصرب. وافتَرضَت أن التوصية رقم ١٢٠١ ستؤدي دورًا حاسمًا في اتفاقية المجلس الأوروبي الإطارية لحماية الأقليات القومية التي كانت تُكتب مسوَّدتها في الوقت نفسه، وأن الاستجابة لهذه التوصية ستكون مطلوبةً للبلاد المرشَّحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وإذا راعَيْنا هذه العقبات فلن يُدهِشنا فشل الجهود من أجل تقنين الحق في الحكم الذاتي أو تقرير المصير الداخلي للأقليات القومية. في حين أن المجتمع الدولي قد أظهَر بعضَ الرغبة في اعتبار هذه الفكرة في حالة السكان الأصليين، لأسبابٍ ناقشناها في الفصل الثاني؛ فقد أثبَت الحكمُ الذاتيُّ الداخلي أنه يثير الجدل للغاية في حالة الأقليات القومية الأوروبية. وكما لاحظ المفوض الأعلى للأقليات القومية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فإن قضايا الاستقلالِ الإقليمي تُقابَل ﺑ «أقصى ألوان المقاومة» من جانب الدول في مناطق ما بعد الشيوعية؛ وبالتالي رأى المفوض الأعلى أن التركيز على أشكالٍ متواضعة من حقوق الأقليات أكثر برغماتية (فان دير شتويل، ١٩٩٩م، ص١١١، وقارن كليبس، العام ١٩٩٥م).
وتحت الظروف العصبية للتحول عن الشيوعية في تسعينيات القرن الماضي، أدرك معظم الناس أن هذه «الضمانات الورقية» لحقوق الإنسان والنزاهة الإقليمية هي أساسًا غيرُ قابلة للتنفيذ. وقد أظهَرَت التجربةُ المريرةُ للمجتمع الدولي في البوسنة وكوسوفو أنه حتى عندما كانت المنظمات الأوروبية حاضرة بقواتها على أرض الواقع، فإنها كثيرًا ما كانت غيرَ قادرةٍ على حماية حقوق الإنسان بشكلٍ فعَّال، أو على منع الجماعات من الاستيلاء على المنطقة. ولم يكن المجتمع الدولي قادرًا على منع بعض الدول من تعمُّد تشجيع التوتُّر في الدول الأخرى (فقد كان من المعتقَد بشكلٍ واسع، على سبيل المثال، أن روسيا كانت تُسانِد الانفصاليِّين أو الانضماميِّين في جورجيا ومولدوفيا).
وعلى حين أن المنظَّمات الأوروبية كثيرًا ما كانت ساخطةً من ميل الصفوة فيما بعد الشيوعية إلى مواصلة اللعب بورقة الأمن بشكلٍ مستمرٍّ فيما يتعلق بجميع قضايا حقوق الأقلية، فإنه كان هناك إجماعٌ واسع النطاق على أن لهذه المخاوف الأمنية ما يبرِّرها. ولقد وصلَت المنظَّمات الأوروبية إلى حدِّ قبول القول بأن بعض الشروط الأساسية التي تسهِّل تبنِّي التعددية الثقافية الليبرالية كانت غائبة، كما أن مقاومة الحكم الذاتي في دول ما بعد الشيوعية لم تكن مجرد مسألة تحيُّز أو عدم تسامُح قديمَين، ولكنها تضرب بجذورها في ظروفٍ جغرافيةٍ وسياسيةٍ صعبة. ولقد قَويَت هذه النظرة وتدعَّمَت عن طريق سلسلةٍ من الكتابات الأكاديمية التي تعبِّر عن نزعةٍ شكية حول مدى ملاءمة تبنِّي النماذج الغربية للأنظمة الفدرالية المتعدِّدة القوميات في أوروبا ما بعد الشيوعية (انظر على سبيل المثال سنايدر، ٢٠٠٠م؛ بروبيكر، ١٩٩٦م؛ يمر، ٢٠٠٣م؛ ليبخ، ١٩٩٩م؛ دروف، ١٩٩٤م؛ أوف، ١٩٩٣م و١٩٩٨م؛ رويدر، ٢٠٠٤م؛ ليف، ١٩٩٩م؛ بونص، ١٩٩٩م؛ كولستو، ٢٠٠١م؛ كورتل، ٢٠٠٢م؛ ديتس وستروشين، ٢٠٠٥م).
وبقَدْر عَجْز المنظمات الأوروبية عن توفير ضماناتٍ فعَّالة ضد هذه المخاطر الأمنية، كان من الصعب تبريرُ الزعم بأن تبنِّي الحكم الذاتي للأقليات القومية ينبغي أن يُرى على أنه جزءٌ وقطعة من العملية الديمقراطية، أو كشرطٍ مسبق للانضمام إلى أوروبا. ولقد كانت هناك مخاوفُ معقولةٌ بالفعل من أن يكون دعم الحق في الحكم الذاتي ضارًّا على نحوٍ مؤثِّر بطموحات الديمقراطية في المنطقة، ويُشجِّع الأقليات والدول القريبة على تجنُّب الإجراءات الديمقراطية؛ فالأقليات القومية، مسلَّحة بحقٍّ مُعترَف به دوليًّا، قد لا تُضاعِف فقط كفاحَها المُسالِم من أجل الحكم الذاتي، بل قد يُشجِّعها ذلك ببساطةٍ على السيطرة على الأراضي باسم المطالبة بحقوقها. وربما كان من المُحتمَل أكثر أن تتدخل الدول القريبة في شئون الدول المُجاوِرة باسم المحافظة على «المعايير الأوروبية».
ولا يُدهِشنا، إذن، أن تُقنَّن في النهاية المعاييرُ الأوروبية لحقوق الأقليات، وتسقط كل إشارة إلى الإدارة الذاتية أو الحكم الذاتي، والعودة إلى مجموعةٍ ضعيفةٍ جدًّا من المعايير. والواقع أن توصيات الاتفاقية الإطارية للمجلس الأوروبي، ومنظَّمة الأمن والتعاون كانت أساسًا نسخًا مُحدَثة من المنظور القديم ﻟ «حق استمتاع المرء بثقافته». ولقد تجاوَزَت هذه التوصياتُ البند الرقم «٢٧» بأن اشتملَت بوضوحٍ على حقوقٍ إيجابيةٍ متواضعةٍ معيَّنة، مثل حق المرء في أن يتهجَّى اسم عائلته وفقًا للغتِه الخاصة، والحق في أن تُقدَّم الوثائق للسلطات العامة بلغة الأقلية. ولهذه التغيُّرات مغزاها، ولكنها تبقى أساسًا تنويعاتٍ على فكرة الحق في «استمتاع المرء بثقافته».
المعايير الموجودة حاليًّا غير فعَّالة لأنها لا تحلُّ المشكلات التي كانت تنوي مواجهتَها، مع أن الهدف الأصلي لتطوير هذه المعايير كان التعامُل مع المنازعات العِرقية العنيفة في أوروبا ما بعد الشيوعية، مثل كوسوفو، والبوسنة، ومقدونيا، وجورجيا، ومولدوفيا، والشيشان. ولم تتمحور أيٌّ من هذه الصراعات حول حق الأفراد في الاشتراك مع الآخرين في الاستمتاع بثقافتهم.
لم يكن انتهاكُ هذه الحقوق هو السبب في الصراع العنيف، كما أن احترام هذه الحقوق لم يكن ليحلَّ هذه المنازعات. ويصدُق ذلك على القضايا الكبرى الأخرى حيث خَشيَت المنظَّمات الأوروبية من العنف المحتمَل، وذلك مثل الأقليات المجرية في رومانيا وسلوفاكيا، أو الأقليات الروسية في الجمهوريات السوفييتية السابقة.
حقيقة أن الأقليات القومية في بلاد ما بعد الشيوعية لم تكن مقتنعة بالحقوق التي قُدمَت في ظل المعايير الأوروبية الحالية تُؤخذ أحيانًا كدليلٍ على عدم ليبرالية ثقافتها السياسية، أو راديكالية قيادتها. لكن من الجدير بالملاحظة أنه ليس ثمَّة أقليةٌ قوميةٌ ذاتُ حَراكٍ سياسي في الغرب يمكن أن تقنَع بها أيضًا. كما أنه لا يُمكِن لأحدٍ أن يفترض بشكلٍ جاد أن ترضى الأقليات القومية في كتالونيا، وفلاندرز، وكيوبيك، وجنيف، وتيرول الجنوبية، وجزر ألند، وبورتوريكو بمدارس الأقليات الابتدائية دون الجامعات التي تُدرِّس بلغة الأقلية، أو لافتات الشوارع الثنائية اللغة من دون وضع اللغة الرسمية، أو الإدارة المحلية من دون الحكم الذاتي الإقليمي.
وكما ذكرتُ من قبلُ، فإن هذه اللافاعلية قد تكون محتومة. والسؤال عن كيف نتعامل مع عدم استقرار المنازَعات العِرقية القومية المزعزعة ربما يكون ببساطةٍ سؤالًا يصعُب حلُّه وفقًا للمبادئ القانونية، وقد يكونُ المنظورُ الواقعي الوحيد لهذه المنازَعات هو من خلال التدخُّلات الخاصة بكل حالة، أكثر منه من خلال محاولات صياغة معاييرَ عامة. والواقع أن ذلك، كما سوف أناقِشُ فيما بعدُ، هو بالضبط ما انتهَت إليه المنظَّمات الأوروبية معتمدة على كثيرٍ من الحالات.
ومع ذلك، فحتى لو تخلَّينا عن هدفِ تشكيلِ معاييرَ قانونيةٍ فعَّالة للنزاعات القومية العِرقية، فإن هناك مشكلةً أخرى أعمق بالنسبة إلى النظام الحالي لمعايير حقوق الأقلية الأوروبية، وعلى وجه التحديد أنها غيرُ ثابتة مفاهيميًّا، وهناك عدم توافق أو انسجام بين الشكل المقصود للحقوق ومحتواها الشامل.
فلننظُر إلى جماعات الغجَر؛ فبما أنهم ليست لديهم دولةٌ قريبة أو أرضُ وطنٍ تاريخية في أوروبا، فإنهم لا يُثيرون أنواع قضايا الانضمام أو الانفصال الأمنية نفسها التي تُثيرها الأقليات القومية التقليدية. ونتيجةً لذلك فإن الموجة الأولى لجهود تشكيل أو صياغة ومراقبة المعايير الأوروبية لحماية الأقلية تجاهلَت الغجَر بشكلٍ كبير. وعلينا أن نتذكَّر أن التبرير الأول للقول بأن قضايا الأقلية هي مسائلُ ذاتُ «اهتمامٍ دوليٍّ مشروع» كان الخوف من عدم الاستقرار الإقليمي، ألا وهو الخوف من أن النزاع العِرقي داخل بلدٍ واحد يمكن أن تكون له تداعياتٌ دولية على سلام واستقرار البلدان الأخرى. ومن المشكوكِ فيهِ أن تُثير حالةُ الغجر هذا النوع من التهديد للسلام والاستقرار الدوليَّين. والواقع أن المفوض الأعلى للأقليات القومية التابعة لمنظَّمة الأمن والتعاون في أوروبا قال بوضوحٍ إنه بسبب أن الغجَر لا يُشكِّلون تهديدًا من العنف وعدم الاستقرار بين الدول، فإن الموضوعات المتعلقة بالغجَر من الأفضل أن يُتعامَل معها من خلال منظماتِ حقوقِ الإنسان بدلًا من تعديلاتِ المفوضيةِ العليا المتعلقة بالقضايا الأمنية (غاغلييلمو ووترز، ٢٠٠٥م، ص٧٦٦–٧٦٩).
ومع ذلك، فمن وجهةِ نظرٍ إنسانية، فإن الغجَر في حاجةٍ أكثر إلى الحماية الدولية من أقلياتِ الدولةِ القريبة أو الأقلياتِ القوميةِ الفرعيةِ التقليدية؛ فهي كثيرًا ما تكون أكثر أعضاء المجتمع تضرُّرًا، وتُواجِه أكثر أشكال التمييز والمضايقة والاضطهاد العِرقي عمقًا وشمولًا، وكثيرًا ما تكون على أيدي موظَّفي الدولة، بالإضافة إلى المعاناة من التهميش السياسي، والعزل العنصري، والفقر.
والواقع أن الاهتمام بجماعة الغجَر بدأ يطغى على اهتماماتٍ سابقة بأقليات الدول القريبة؛ فمع تضاؤل المخاوف من نشوب الحروب الأهلية العِرقية الناشئة عن وجود أقليات الدول القريبة في أوروبا الشرقية، أصبحَت مسألة الغجر أكثر تصدرًا في النقاشات العامة حول «قضية الأقليات» في دول ما بعد الشيوعية. وعلى سبيل المثال، عندما يقيِّم الاتحاد الأوروبي مدى كفاءة البلاد التي تسعى في الدخول إلى الاتحاد في تحقيق معيار حقوق الأقلية، فإن تركيزها منذ العام ١٩٩٨م على معاملة الغجَر أكثر منه على معاملة أقليات الدول القريبة (هيوز وساسي، العام ٢٠٠٣م).
وكما سوف أناقش فيما بعدُ، ليس واضحًا أن الشروط الجوهرية للاتفاقية الإطارية ترتبط كلها أو تساعد جماعات الغجَر، لكنها على الأقل تُقدِّم لهم شكلًا من أشكال الاعتراف القانوني والمراقبة الدولية، (والواقع أن ذلك قد حدث بصفةٍ عامة؛ فمعظم البلاد الآن تُدرِج جماعات الغجَر في قوائم أقلياتها القومية).
إذا سلمنا بالحاجات الملحة لجماعات الأقلية هذه، وإمكان تعرضها لعداء العامية والدول معًا، فسوف يبدو أنه من الضلال أن نستبعدها من حماية الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية على أساس أنها ليست أقلياتٍ قومية وفقًا للاستخدام التقليدي أو التعريف القاموسي، ومن المؤكَّد أنها تحتاج بالقَدْر ذاته إلى الحماية الدولية، إن لم يكن أكثر، مما تحتاجُ إليه جماعاتُ أرض الوطن التاريخية، إن الحاجة المُلِحة إلى توسيع الحماية الدولية لتشمل هذه الجماعات الضعيفة، وليست الحُجَّة البسيطة للاتساق هي ما يفسِّر لماذا يعتقد كثيرٌ من المحلِّلين والمدافِعين عن الأقليات القومية، أن ضرورة تبنِّي أوروبا لتعريفٍ أكثر شمولًا للأقلية القومية هو أمرٌ مسلَّم به.
وباختصار، حتى مع تحوُّل المنظمات الأوروبية نحو صياغةٍ أكثر عمومية لحقوق الأقليات، مقلِّلة من الفروقات بين فئات الأقليات المختلفة فإنها تستمر فعليًّا في الانخراط في سياساتٍ وبرامج موجهة في اعترافٍ منها بالاختلافات القوية في احتياجات وطموحات هذه النماذج المختلفة من الجماعات. وتندفع المنظمات الأوروبية بواسطة ضرورةٍ علميةٍ للانخراط في البرامج المستهدفة، بيد أنها فيما يبدو غير راغبة أو غير قادرة على الاعتراف بالحاجة إلى التوجُّه على مستوى المعايير القانونية أو المبادئ السياسية، والنتيجة هي سلسلة من الرسائل المشوشة؛ من ناحية، تنتقد المنظماتُ الأوروبية الدولَ لاستمرارها في تمييز الأقليات القومية التقليدية عن الجماعات العِرقية الثقافية الأخرى، ومن ناحيةٍ أخرى تعتمد المنظماتُ الأوروبية نفسُها هذه التفرقةَ في برامجها وبنائها البيروقراطي الخاص.
ولما كان هدفنا تشكيل ونشر منطق التعددية الثقافية الليبرالية، بطريقةٍ واضحة ومنسقة، فإن التحوُّل إلى حقوق الأقلية الشاملة هو نعمةٌ مختلطة، وعلى نحوٍ فيه خلاف، فإن الطريقةَ الأفضلَ لضمان أن كل جماعة من الأقليات الضعيفة تتم حمايتُها لا تتم من خلال تحوُّل الاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية إلى وثيقةٍ عامة تغَطي كل أشكال التنوُّع، بل بالأحرى من خلال تزويد الاتفاقية الإطارية بوثائقَ أخرى لحقوق الأقلية الموجهة، التي تُفصَّل لتُناسِب الحاجاتِ والتطلعاتِ المتميِّزة لكل نوعٍ من أنواع الجماعات.
ويبدو نتيجةً لذلك أن الطريق العملي الوحيد الذي يُمكِن اتباعه لتوسيع نطاق الحماية الدولية لتشمل جماعات الغجَر أو المهاجرين إنما يكون من الباب الخلفي؛ أي بجعلها مناسبة للخطة الموجودة من قبلُ لحماية الأقليات في أوروبا، والموجَّهة أساسًا إلى فئة الأقليات القومية، ما دام أنه من غير الواقعي أن نتوقع تبنِّي أي بنودٍ جديدة بشأن حقوق الأقليات في المستقبل المنظور، ولما كان إطار العمل الأوروبي الوحيد الموجود لحقوق الأقلية موجهًا إلى الأقليات القومية؛ فعلى أي جماعةٍ تريد أن تُحمى أن تجد طريقًا يؤهلها لكي تكون أقليةً قومية، وكثيرًا ما يُقال إنه فيما يتعلق بأولئك الذين يُمسِكون بالمطرقة فقط، فإن كل شيء يبدو كأنه مسمار. وبالمثل، إذا كانت الأداة الوحيدة لحماية الأقليات في أوروبا تستهدف الأقليات القومية، فسوف تبدو عندئذٍ كل أقليةٍ كأنها أقليةٌ قومية.
لكن ليست الأقليات القومية التقليدية هي وحدها التي سوف تدفع الثمن، كواحدةٍ من التجارب الأولى لتطوير معايير موجهة، وكان يُمكِن للاتفاقية الإطارية لحماية الأقليات القومية أن تستخدم نقطة انطلاقٍ لتطوير معاييرَ موجهةٍ أخرى في أوروبا، مثل معايير من أجل جماعة الغجَر أو المهاجرين، وتشجيع المحاولات لتشكل معايير موجهة في مناطقَ أخرى من العالم، وكان من الممكن أن تحقِّق سابقةً لصلابة ومشروعية الاستراتيجية الموجهة على المستوى الدولي، وتُساعِد كذلك في نشر منطق الجماعة المتمايزة في التعددية الثقافية الليبرالية على نحوٍ أكثر عمومية.
أنا لا أعرف هل هذا النوع من التوجيه المتعدد للأقليات القومية — جماعات الغجر والمهاجرين — يكون (أو كان) خيارًا واقعيًّأ لأوروبا؛ فلكي يكون قابلًا للبقاء كان سيحتاج إلى جهودٍ أكثر تنظيمًا لتنسيق اقتراحاتٍ مختلفة لتنمية المعايير الموجهة، في الوقت الحالي ظهرَت الاقتراحات بمعايير موجهة بطريقةٍ خاصة، في هيئاتٍ أوروبيةٍ مختلفة، وفي أوقاتٍ مختلفة، غالبًا كالاستجابة لأزماتٍ محدَّدة، أو رد فعل لأزمةٍ معينة، ولم يكن ثمَّة محاولة لجمع هذه المقترحات المختلفة معًا، ثم نعود خطوةً إلى الوراء ونسأل: ما الذي يُمكِن أن يعنيه تبنِّي استراتيجيةٍ متعدِّدة التوجهات؟ وكيف يمكن لأشكالٍ مختلفة من التوجه أن تعمل معًا كجزءٍ من إطارِ عملٍ أكبر للمعايير الأوروبية؟ وربما لم تتوافر ببساطةٍ الظروفُ السياسية لتلك الممارسة.
والواقعُ أن هناك نسخًا مختلفة من هذه الحُجَّة؛ فعند بعض الناس أن تلكَ الحاجةَ إلى الابتعاد عن المنطلَقات الإقليمية هي خاصة بمطقة ما بعد الشيوعية، نظرًا إلى تاريخها الفريد من الإمبراطوريات والحدود المتغيِّرة، ولا ينطبق على النماذج الحالية للحكم الذاتي الإقليمي للأقليات القومية في الغرب، أو على السكان الأصليين حول العالم، لكن بالنسبة إلى الآخرين فإن فكرة فصل العِرقية عن الإقليم قدُمَت كمثلٍ أعلى بصفةٍ عامة، وكمنظورٍ يتسق مع أفكار ما بعد الحداثة عن الحركة، والعولمة، والهُويات المتعدِّدة، المَرِنة، والمهجَّنة، وعلى الرغم من أن ذلك نادرًا ما يكون واضحًا فإن المضمون هو أن الأقليات القومية في الغرب متخلِّفة إذا استمرَّت في ربط التكيُّف الخاص بهُويتها بمشروعات الحكم الذاتي الإقليمي، وأن الأنظمة الديمقراطية الغربية رجعيةٌ في قَبولها تلك المطالبَ العِرقية القومية، وأن المنظمات الغربية ينبغي أن تضغَط على الأنظمة الديمقراطية الغربية لكي تتخلى عن هذه الأشكال للحكم الذاتي الإقليمي لمصلحة منطلقاتٍ غيرِ إقليمية.
هذه الفكرة التي تقول إنه ينبغي علينا أن نجرِّد هُوياتِ ومطالبَ جماعاتِ الدول الفرعية القومية من الإقليمية والقومية، هي فكرةٌ مألوفة في المناقشات الأكاديمية والعامة حول حقوق الأقليات، يطرحُها رجالاتُ الدولة والجمهوريون وأنصارُ العالمية الليبرالية على حدٍّ سواء، لكني أعتقدُ أن ذلك كله غيرُ واقعيٍّ تمامًا، وكما رأينا في الفصل الثالث فإن ذلك على وجه التحديد هو ما حاولَت الأنظمة الديمقراطية الغربية أن تقومَ به وفشلَت في أن تفعله في الماضي، والتحوُّل إلى النظام الفدرالي المتعدِّد القوميات لم يظهَر إلا عندما تخلَّت الدول الغربية عن هذه المساعي لتجريد أقلياتها الفرعية من الإقليمية والقومية، وقبلَت إمكان دوام ومشروعية الطموحات القومية للأقليات التي ترتبط بالتاريخ والأرض، وهذا جانبٌ محوري لتطوُّر منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية.
على أي حال، فإن هذه المعارضة الأيديولوجية للمطالب القومية للأقلية من الواضح أنها لا تمثِّل وجهة النظر المُسيطِرة في المنظمات الأوروبية؛ حيث كان الباعث الأول لهذه المنظمات، كما سبق أن رأينا، هو تشجيع النماذج الغربية للحكم الذاتي الإقليمي بوصفها أفضل ممارَسة، وكما سنرى بعد قليل، فإن هذه المنظمات تستمر في مسانَدة تلك النماذج في كثيرٍ من تدخُّلاتها في الحالات الخاصة في بلاد ما بعد الشيوعية. وأكثر من ذلك، لا يُوجَد أحدٌ، على حد علمي، اقترح بشكلٍ جاد أنه ينبغي على المنظمات الأوروبية أن تسعى إلى نبذ الأشكال القائمة الحالية للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات في الغرب، على الرغم من أنها مغروسةٌ بوضوحٍ في الأيديولوجيات القومية القائمة على مطالب الاستقرار التاريخي والأرض التقليدية، وليس هناك دليلٌ على أن المنظمات الأوروبية خلال تحوُّلها من الاستراتيجية الموجهة إلى الاستراتيجية الشاملة استهدفَت تقديمَ معارضةٍ مبدئية لفكرة المطالبات المتمايزة على مستوى الجماعات القائمة على التاريخ والأرض.
وأيًّا ما كانت الأسباب الكامنة، فإن النتيجة التي لا خلاف عليها هي التحوُّل الهائل في طبيعة المعايير الأوروبية لحقوق الأقلية وهدفها. في الذكرى السنوية الخامسة للبدء بالعمل في الاتفاقية الإطارية، نظَّم المجلس الأوروبي مؤتمرًا بعنوان «ملء الإطار»، احتفالًا بتطوير معايير حقوق الأقليات تدريجيًّا طوال فترة الاتفاقية (ويلر، ٢٠٠٣م). ورأيي الخاص، في المقابل، هو أن الأهداف الأصلية للاتفاقية قد تَمَّ التخَلي عنها أساسًا، أما المعايير الناتجة فلا هي مؤثِّرة في حل الموضوعات المُلِحة في النزاع العِرقي المُضطرِب ولا هي تساعدُ في تشكيل وتنظيم المنطق الطويل المدى للتعدُّدية الثقافية الليبرالية.
وكما قلتُ، فإن القرار الذي اتخذَته المنظمات الأوروبية بصدَد كيفية تشكيل وتفسير الاتفاقية كان قرارًا مفهومًا، برغماتيًّا، بل ربما حتميًّا، غير أن النتيجة هي أن التجرِبة الجريئة في تطوير معايير حقوق الأقلية أصبحَت على حافة الانهيار. والواقع أننا قد وصَلنا تقريبًا إلى اكتمال الدائرة للتجربة الأوروبية في تشكيل حقوق الأقليات، فالجهود الأوروبية لإقامة معايير حقوق الأقلية بدأَت من افتراض أن منظور المادة «٢٧» لحقوق الأقليات العامة كان بالغ الضعف لمعالجةِ أنواعِ الموضوعاتِ التي يقوم عليها النزاع العِرقي السياسي في أوروبا ما بعد الشيوعية، من ناحيةٍ لأنه لا يعترف إلا بحقوق الأقلية الشائعة بين كل الجماعات، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، قديمة أو جديدة، متمركزة أو مشتَّتة. وبعد تجربة خمسة عشر عامًا مذهلة، وإن كانت معيبة، في تطوير حقوقٍ مستهدَفة للأقليات، يبدو أننا نعودُ إلى حيث بدأنا.
من «المعايير» و«المقاييس» إلى منع النزاعِ أو حلِّه
يبدو إذن أنه لا واحدة من الاستراتيجيتَين اللتَين درسناهما حتى هذه اللحظة قد واجهَت المشكلة التي ألهمَت في الأصل الفعلَ الأوروبي حول قضايا الأقلية بفاعلية — أعني المخاوف بشأن آثار النزاع العِرقي المُزعزِعة للاستقرار في بلاد ما بعد الشيوعية — إن استراتيجية تعميم أفضل الممارَسات الغربية تجاهلَت، على نحوٍ ساذج، حقيقة أن الظروف الكامنة المطلوبة لتبنِّي الممارسات لم تكن موجودةً في جزءٍ كبير من المنطقة، واستراتيجية صياغة المعايير القانونية لم تُواجِه القضايا الفعلية المُلِحة للصراعات.
إذن، ما الذي قامت به المنظمات الأوروبية لمنع واحتواء المنازَعات القومية العِرقية المزعزعة للاستقرار؟ كما أشرتُ سابقًا فإن المنازَعات العِرقية القومية في فترة ما بعد العام ١٩٨٩م هدَّدَت بتقويض السلام والاستقرار الإقليمي، وبآثارٍ جانبية على البلدان المجاورة، إن قرار المجتمع الدولي لعمل شيءٍ ما بالنسبة إلى قضايا الأقليات قد قُدِّم على أساس الحاجة، بل والواجب، لحماية أوروبا ضد تلك النزاعات العِرقية المحتملة، وإذا فشلَت الاستراتيجيتان الأُوليان في هذا الشأن فما الذي تَم فعلُه؟
ولقد كانت المنظمات الأوروبية في جميع هذه الحالات مشغولةً بنشاطٍ في إعداد مسوَّدات الاتفاقيات لحل صراعات الماضي العنيفة (قبرص)، والصراعات العنيفة المستمرة (البوسنة)، أو الصراعات العنيفة المحتملة (مقدونيا)، وفي كل حالةٍ من هذه الحالات أدرجَت ضمانات جوهرية لحقوق الأقليات، والحد الأدنى من المعايير القانونية الأوروبية لحقوق الأقليات مثل الاتفاقية الإطارية؛ لأن تلك الشروط لحقوقٍ تتعامل مع كل حالةٍ خاصة على حدَة، ولا تقوم على المعايير الشاملة لأوروبا بأَسْرها؛ فليس ثمَّة اتساقٌ في المنظور عَبْر البلدان المختلفة، وهذه التدخُّلات الخاصة بالبلدان المختلفة ليست مستمدةً من أي مجموعةٍ مشتركة من المعايير؛ فليس هناك معيارٌ واضح لتفسير مصادقة المنظمات الأوروبية على وضع اللغة الرسمية لبعض الجماعات دون غيرها، أو مسانَدتها للحكم الذاتي الإقليمي في بعض البلاد دون بعضها الآخر.
وليس ثمَّة ما يدهش في أن تتعرض المنظمات الأوروبية للنقد لطبيعة توصياتها المُتناقِضة، والتعسُّفية، والتي لا تقوم على مبدأ. وكما لاحظ النقاد، فإن توصيات الاتحاد الأوروبي الخاصة ببلدٍ ما «لم تُنتِج أي معاييرَ متماسكة لحقوق الأقليات» (شويلنس، العام ٢٠٠٥م، ص٢٣). والواقع أنها «برهنَت على استعدادها لاتباع أي إجراءٍ سياسي لكي تحقِّق الاستقرار» (جونسون، ٢٠٠٦م؛ ص٥١).
وفي اعتقادي أن هذا المظهر للتعسُّف وللتناقُض من المحتمل أن يكون مضَللًا، فهناك نوعٌ من المنطق الذي وجَّه باتساق هذه التدخُّلات الخاصة، ولسوء الطالع، لم يكن منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية، بل منطق الأمن، وكما سنرى فإن منطق الأمن يُولِّد بذاته مجموعةً من المعضلات.
باختصارٍ، في السياقات التي ظهرت فيها بالفعل نزاعاتٌ عِرقية، اعترفَت المنظمات الغربية بأن الاتفاقية الإطارية قليلة الفائدة في حل النزاعات، وأن المطلوب هو شكل من أشكال الاشتراك في السلطة، والشكل الدقيق لهذا الاشتراك في السلطة قد حُدِّد عن طريق مجموعة من العوامل الموجودة في السياق، ليس أقلها التوازن العسكري الفعلي للقوة بين الفصائل المتنازعة، وإذا سلَّمنا بأن دافع الغرب هو حماية الأمن الإقليمي، فإن تدخُّله يتطلب تقديرًا دقيقًا لاحتمال التهديد الذي يُثار من قِبل عواملَ مختلفة، وتقديم توصياته تبعًا لذلك. بعبارةٍ أخرى، تدخل مبني على سياسةٍ واقعية، وليس على أي تصورٍ مبدئيٍّ قائم على العلاقات بين الدولة والأقلية.
نظرًا إلى مرونة هذا المسار وقابليته للتكيُّف، فإن بعض المحلِّلين نظروا إليه على أنه أفضلُ من الاعتماد على مسار الحقوق القانونية. والواقع أن بعض الناس سوف يذهبون إلى أن مسار الحقوق القانونية ينبغي التخلي عنه، لا سيما إذا عرفنا الصعوباتِ السياسيةَ والمفاهيميةَ التي تُواجِهنا في صياغة الحقوق القانونية، فإذا لم تكن ثمَّة طريقةٌ عملية لتأسيسِ معاييرَ دوليةٍ مؤثِّرة لحقوق الأقليات، سواء كحقٍّ عام لتمتُّع المرء بثقافته، أو حقٍّ مستهدَف لتقرير المصير الداخلي، فلماذا لا نتخلى عن فكرة مسار الحقوق القانونية في حين نحافظ على قدرة التدخُّل في أوروبا ما بعد الشيوعية على أساس اعتباراتٍ أمنية؟!
ومن المؤكَّد أن الملاحظين الغربيين قد لا يقبلون بعض السياسات التي تبنَّتها هذه البلاد لو كان الأمر بأيديهم، لكن من غير المحتمل أن يؤدِّي تبنِّيها إلى العنف وعدم الاستقرار الإقليمي. قد تجرِّب بعض بلدان ما بعد الشيوعية سياساتِ تمثُّلٍ أو اندماجٍ عنيفة، لكن لو حدث ذلك فإن هذه السياسات سوف تفشَل بشكلٍ مؤكَّد، وفي النهاية سوف يظهر إجماعٌ محلي على سياسةٍ أكثير ليبرالية. وهذا ما حدث في الغرب، وليس هناك أي سببٍ يجعلنا نفترض أن ذلك لن يحدث أو لا يمكن أن يحدث في الشرق، وفضلًا عن ذلك فإن الأكثر احتمالًا أن تُستوعَب السياسات الليبرالية على أنها مشروعة، وبالتالي باقية، إذا نشأَت من هذه الأنواع من العمليات المحلية بدلًا من أن تُفرَض من الخارج.
في المقابل، كلما سعت الأقلية إلى الحكم الذاتي الإقليمي من خلال وسائلَ وطرقٍ سلمية وديمقراطية، عن طريق حكم القانون، عارضَته منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، على أساس أنه سوف يزيد من التوتُّر. وطبقًا للمفوضية العليا لهذه المنظَّمة ومراعاةً للمخاوف العامة في أوروبا ما بعد الشيوعية من عدم ولاء الأقلية والانفصال، فإن أي حديثٍ عن إعداد أي ترتيباتٍ لحكمٍ ذاتي إقليمي جديد سوف يؤدي إلى زيادة التوتُّرات، لا سيما إذا كانت الأقلية المُطالِبة بالحكم الذاتي الإقليمي مقيمة على حدود الدول القريبة؛ ومن هنا فقد أوصت المفوضية العليا بعدم دفع المجر في سلوفاكيا إلى الحكم الذاتي الإقليمي، نظرًا إلى مخاوف سلوفاكيا بصدد استرداد الأرض (فان ديرستويل، ١٩٩٩م، ص٢٥).
باختصارٍ، فإن منظور الأمن يكافئ تشدُّد كلا الجانبَين، لو أن أقليةً استولَت على السلطة، فإن منظمة الأمن والتعاون تُكافِئها بالضغط على الدولة لقبول شكلٍ «استثنائي» للحكم الذاتي، ولو رفضَت الأغلبية حتى مناقشة الحكم الذاتي من أقليةٍ مسالمة ومطيعة للقانون، تُكافِئها المنظَّمة بالضغط على الأقليات لكي تكون أكثر «برغماتية»، ويُعَد ذلك جموحًا من وجهة نظر العدالة، لكن يبدو أنه منطقٌ حتمي للمنظور القائم على الأمن، فربما يكون صحيحًا من المنظور الأمني أن منح الحكم الذاتي الإقليمي لأقليةٍ تُطيع القانون يزيد من التوتُّر، في حين أن مساندة الحكم الذاتي الإقليمي بعد الاستيلاء عليه بواسطة أقليةٍ مقاتلةٍ يقلِّل من التوتُّر.
وبمقدار ما يكون ذلك هو منطق المنطلَق الأمني، فإنه ينطوي على نتيجةٍ تتضمَّن مفارقةً تقوِّض الأمن، فالأمن الطويل الأمد يتطلب أن تُخفِّف كلٌّ من الدول والأقليات من مطالبها، وتقبل بمفاوضاتٍ ديمقراطية، وتسعى إلى تكيُّفاتٍ عادلة ومنصفة، ويتطلَّب أن تقود العلاقة بين الدولة والأقلية تصورات العدالة والحقوق، ليس فقط بسياسات القوة. وهذا بالطبع ما كان يُفترَض أن يدعمه مسار الحقوق القانونية ولماذا يجب أن يكمل المسار الأمني الخاص بكل حالة.
والمشكلة هي كيف نجعل المسارَين المتوازيَين للأمن والمعايير القانونية يعملان معًا، بدلًا من تعارُض أهدافهما؟ إننا في حاجةٍ إلى طريقةٍ لتشكيل معاييرَ قانونيةٍ تُساعِد على توضيح لماذا تستطيع الاقتراحاتُ المحدَّدة للدولة والخاصة بوضع اللغة الرسمية والحكم الذاتي أن تكون امتداداتٍ جائزة وشرعية لهذه المعايير وليست مجرد امتيازات للقتال. في المقابل، نحن في حاجةٍ إلى أن نجد طريقةً لتشكيل توصياتٍ أمنية محدَّدة الحالة توضِّح كيف تظهر هذه التوصيات من قيمٍ ومبادئ أكثر عمومية حول التكيُّف مع التنوُّع.
الحق في مشاركةٍ فعَّالة
إن فكرة الحق في مشاركةٍ مؤثِّرة وفعَّالة هي فكرةٌ جذَّابة لعدة أسباب، لكنها، فيما أعتقد، تعيد إنتاج المشكلات التي واجهَها إطار العمل الأوروبي الحالي لحقوقِ الأقليات بدلًا من حَلِّها، وأحد الأسباب التي تجعل هذه الفكرةَ جذَّابةً هو أنها تبدو ديمقراطيةً بشكلٍ يثير الإعجاب، فضلًا عن ذلك فإنها تتجنَّب المفاهيم الشكلية للحق في «استمتاع المرء بثقافته». وهي تعترف بأن الأقليات لا تُريدُ الحديثَ بلغتها فقط أو ممارسة ديانتها في حياتها الشخصية فقط، بل هي تُريد كذلك المشاركة كمواطنين متساوين في الحياة العامة، الحق في مشاركةٍ فعَّالة ومؤثِّرة يعترف بهذا البعد السياسي لتطلُّعات الأقلية وطموحاتها، في حين أنه يتجنَّب الأفكار «الخطيرة» و«الراديكالية» لتقرير المصير الذاتي القومي (كمب، ٢٠٠٢م).
ومن منظور النظرية المعيارية، فإن لهذا المنطلَق ميزةً إضافية هي تجنُّب خطَر أن تصبح الجماعاتُ أساسية. إن كلًّا من «حق استمتاع المرء بثقافته» و«حق تقرير المصير الذاتي الداخلي» يقومان فيما يبدو على افتراضاتٍ حول الطابع المتأصل للأقليات القومية، يُلمِّح الأول إلى أن لمثل هذه الجماعات «ثقافة» مشتركة ومتميِّزة تسعى إلى المحافظة عليها. أما الثاني فهو يلمِّح إلى أن لها «هوية قومية» متميِّزة ومشتركة تسعى إلى تقديمها من خلال الحكم الذاتي، ومع ذلك فنحن نعرف أن مثل هذه الجماعات ليست متجانسةً داخليًّا، ومن المحتمل أن يختلف أعضاءُ الجماعة حول أنواعِ التراث الثقافي الذي يرغبون في المحافظة عليه، والمدى الذي يرغبون من خلاله في أن يظلوا متميِّزين ثقافيًّا عن المجتمع الكبير، كما أنه يحتمل كذلك أن يختلفوا حول طبيعة هويتهم القومية، أو نوع الحكم الذاتي الذي يحتاجون إليه لحماية تلك الهوية، أما بالنسبة إلى المجتمع الدولي فإن القَبول بالحق في الثقافة أو الحق في تقرير المصير يبدو كأنه حكمٌ مسبق لهذه المناقشات الداخلية، وانحياز إلى أولئك الذين يُجادِلون من أجل تميُّزٍ ثقافيٍّ أكبر، أو حكمٍ ذاتيٍّ قوميٍّ أكبر، كأن «الثقافة» أو «القومية» سمتان ضروريتان لا يمكن الاستغناءُ عنهما عند هذه الجماعات بدلًا من أن تكُونا مَطلبَين.
وهذا النوع من المخاوف أثاره مفكِّرو ما بعد الحداثة، وكذلك أصحاب النظريات النقدية، كأساسٍ لرفض عملية جعل حقوق الأقلية الجوهرية دستورية، وتبنِّي حقوق أقليةٍ إجرائيةٍ خالصة بدلًا منها، كضمانات المشاركة والاستشارة (انظر: بن حبيب، ٢٠٠٢م؛ وفريزر، ٢٠٠٣م)، وهذه الحقوق الإجرائية تتجنب القيام بافتراضاتٍ جوهرية حول تميُّز ثقافة الجماعة وحُدود هُويتها، فالحق في مشاركةٍ فعالة ومؤثِّرة يسمَح لأعضاء الجماعة بتطوير مطالب الثقافة القومية، لكنه يتطلب أن تُبرَّر هذه المطالب من خلال عملياتٍ ديمقراطيةٍ مقصودة بدلًا من أن تكون مبرَّرة من خلال معاييرَ دستوريةٍ أو قوانينَ دوليةٍ متفَقٍ عليها سلفًا (ليتين ورايخ، ٢٠٠٣م؛ وليامز، ١٩٩٥م؛ ويونغ، ٢٠٠٧م).
ومع ذلك، فإن السبب الرئيسي الذي يفسِّر شعبية المشاركة الفعَّالة المؤثِّرة إلى هذا الحد هو غموضُها وخضوعُها لتأويلاتٍ عدةٍ متضاربة، وبالتالي إمكان أن يقبلَها الناسُ الذين لديهم مفاهيمُ مختلفةٌ جدًّا للعلاقات بين الدولة والأقلية، وبهذا المعنى فإن الإجماع الظاهر على أهمية المشاركة المؤثِّرة الفعَّالة يُخفي، أو يؤجِّل، الاختلافاتِ العميقةَ حول ما يَعْنيه ذلك، بالفعل.
عند الحد الأدنى من القراءة، فإن الحق في المشارَكة الفعَّالة يعني ببساطةٍ أن أعضاء الأقليات القومية ينبغي ألا يُواجِهوا التفرقة العنصرية في ممارسة حقوقهم السياسية المبدئية في التصويت الانتخابي، والدفاع عن القضايا والترشُّح للمناصب العامة. لقد تَمَّ اللجوء إلى هذا الحد الأدنى من القراءة لدفع إستونيا ولاتفيا إلى منح الجنسية للروس العِرقيين وتَمكينِهم من التصويت والترشُّح حتى إذا كانت تنقُصُهم الطلاقة التامة في اللغة المستخدَمة.
وفي قراءةٍ أكثر قوةً على نحوٍ ما، لم تتطلب المشاركة الفعَّالة المؤثِّرة أن يتمكَّن أعضاءُ الأقلية من التصويت أو الترشُّح للانتخابات فقط، بل أن يُنجِزوا بالفعل درجةً من درجات التمثيل في السلطة التشريعية، وقد لا يتطلب ذلك أن تكون الأقلية ممثلةً بعددٍ يتناسب مع حصتها من التَّعداد السكاني العام، غير أن انخفاض مستوى التمثيل قد يُنظَر إليه على أنه مشكلة، ولقد تَمَّ اللجوء إلى هذه القراءة لمنعِ المحاولاتِ التي تقومُ بها الدول لتعديل الحدود في المناطق الانتخابية لجعل انتخاب ممثلي الأقلية أكثر صعوبة، ومن المُمكِن أيضًا اللجوءُ إلى هذه القراءة لمنع محاولاتِ الدولِ تصحيحَ المتطلبات المبدئية لحصول أحزاب الأقلية السياسية على مقاعدَ في النظام الانتخابي.
وفي بولندا، على سبيل المثال، تنتخب الأقلية الألمانية بانتظامٍ مندوبين للبرلمان؛ لأنها مستثناةٌ من قاعدة الخمسة في المائة للدخول، ويستفيد حزبُ الأقلية الدنماركية من سياسةٍ مشابهة في ألمانيا، وعلى العكس رفعَت اليونان سقفَ متطلَّباتها الانتخابية وبالتحديد لتمنَع إمكانَ انتخابِ أحزاب الأقلية التركية (مجموعة حقوق الأقليات، العام ١٩٩٧م، ص١٥٧)، وهذا النوع من التلاعب ربما يُقضَى عليه في المستقبل.
لكنَّ أيًّا من هاتَين القراءتَين — بتركيزها على ممارسة الحقوق السياسية والتمثيل المُنصِف من دون تمييز — لا يصل بنا إلى لب المشكلة في معظم حالات النزاع العِرقي الخطير، حتى عندما تكون الأقلية قادرةً على المشاركة من دون تمييز، وحتى عندما تكون ممثَّلة بشكلٍ لا بأس به بالنسبة إلى تَعدادها السكاني، فقد تكون خاسرًا دائمًا في العمليات الديمقراطية، ويصدُق ذلك بصفةٍ خاصة في السياقات التي ترى فيها الجماعاتُ المُسيطِرة الأقليةَ على أنها يُمكِن ألا يكون لديها ولاء؛ ومن ثَم تُصوِّت ككتلةٍ واحدة ضد أي سياساتٍ تُمكِّن الأقليات من السلطة (تأمَّل المعارضةَ الكاملةَ تقريبًا داخل سلوفاكيا للحكم الذاتي للمناطق التي يُسيطِر عليها المجريون أو المعارضة داخل مقدونيا للاعتراف باللغة الألبانية كلغةٍ رسمية). في هذه السياقات، ربما لا يكون من المهم ما إذا كانت الأقليات تُمارِس التصويتَ أو تقومُ بانتخاب أعضاء البرلمان طبقًا لأعدادهم؛ فسوف يظل هناك تفوُّقٌ عليها من أعضاء الجماعة المُسيطِرة، وسوف يكون القرارُ النهائيُّ هو هو، سواءٌ شاركَت الأقليات فيه أم لا.
إذا تناوَلْنا حرفيًّا مصطلح المشارَكة الفعَّالة فسوف يبدو أنه يعوق هذا الموقف للأقليات القومية بوصفها أقليةً سياسيةً على نحوٍ دائم، وعلى أي حالٍ فإن المشاركة «الفعَّالة» تشير إلى أن المشاركة ينبغي أن يكون لها تأثير وفاعلية، أن تغيِّر المشاركة النتيجة، والطريقة الوحيدة لضمان أن تكونَ مشاركةُ الأقليات مؤثِّرة بهذا المعنى في داخل المجتمعات المنقسمة هو تبنِّي قواعدَ مضادة للأغلبية تتطلب شكلًا ما من أشكال المشاركة في السلطة. وقد يتخذ ذلك شكلَ الحكم الذاتي الداخلي أو ضماناتٍ توافقية لقيام حكومةٍ ائتلافية.
ويُمكِن أن نُسمِّي ذلك القراءة القُصوى للحَق في المشاركة الفعَّالة، وهي مشاركة تتطلب أشكالًا مضادةً للأغلبية للمشاركة التوافقية أو الفدرالية للسلطة. ومن الواضح أن ذلك هو التأويل الذي يعتمده العديد من منظمات الأقليات، لكن تعترض عليه بقوةٍ معظم الدول في الشرق والغرب للسبب نفسه تقريبًا الذي عُورضَت من أجله الإشاراتُ السابقة إلى حق تقرير المصير الداخلي (المخاوف من عدم الولاء، والمطالبة بالانضمام … إلخ). وبنجاح الدول في وقف حركة تقنين الحكم الذاتي الداخلي، فإن هذه الدول لن تقبلَ تفسيرًا للمشاركة الفاعلة يوفِّر بابًا خلفيًّا للحكم الذاتي، إن الاتفاق على الحق في المشارَكة الفعَّالة أصبح ممكنًا تحديدًا لأنه يُرى على أنه بديل، وليس وسيلة، للحكم الذاتي للأقلية؛ ومن ثَم فتأويل المشاركة الفعَّالة من المحتمل أن يظل متمركزًا عند مستوى عدم التمييز والتمثيل المُنصِف، أعني عند مُستوًى لا يعالج الأسباب الفعلية للصراع العِرقي المُزعزِع للاستقرار.
وهناك استثناءٌ واحدٌ مُمكِن من هذا التعميم؛ فقد تتبنَّى المنظماتُ الأوروبية التأويلَ الأقصى للمشاركة الفعَّالة؛ حيث تكون أشكالُ الاشتراك في السلطة موجودةً بالفعل، ومن المعروف على نطاقٍ واسع أن محاولاتِ الدول إلغاءَ الأشكالِ الموجودة للحكم الذاتي للأقلية هي وصفةٌ لكارثة (مثل كوسوفو، نغورنو-كاراباخ، وأوسيتيا)؛ ومن ثَم فإن المنظمات الأوروبية تُحب أن تجد أساسًا في القانون الدولي يمنع الدول من اللجوء إلى الأشكال الموجودة للحكم الذاتي للأقلية. ومعيارُ المشاركة الفعَّالة هو اقتراحٌ مقبول؛ محاولات إلغاءِ أنظمة الحكم الذاتي ذات الوجودِ السابق من المُمكِن رؤيتُها كمحاولةٍ متعمَّدة لإضعاف الأقليات، وبالتالي إنكار لحقها في المشاركة الفعَّالة.
والصعوبة، بالطبع، تكمُن في تفسير السبب الذي يجعلُ الأشكال الموجودة للحكم الذاتي الإقليمي هي الوحيدة التي تَحمي المشاركة الفعَّالة، إذا كان الحكم الذاتي الإقليمي مطلوبًا لضمان المشاركة المؤثِّرة للأبخازيين في جورجيا، أو الأرمن في أذربيجان، فلماذا لا يكون مطلوبًا أيضًا للمجريِّين في سلوفاكيا أو الألبان في مقدونيا؟ ولو أن إلغاء الحكم الذاتي يُضعِف الأقليات، فلماذا لم يُضعِف الأقليات التي لم تُقبَل قَطُّ مطالبها في الحكم الذاتي؟ وبالتالي فإذا كانت مؤسَّسات المشاركة في السلطة ليست مطلوبةً لضمان المشاركة الفعَّالة للمجر في سلوفاكيا، فلماذا تكون مطلوبةً للأرمن في نغورنو-كاراباخ أو للروس في القرم؟!
ويبدو أنه ليس هناك أساسٌ مبدئي لتمييز تلك الأقليات التي تَصادَف أن نالت الحكم الذاتي أو استولَت عليه في مرحلةٍ ما من الماضي. ويُمكِن تفسير المعالجة المختلفة لمُطالَبات الأقليات في الحكم الذاتي فقط كتنازلٍ للسياسة الواقعية. ومن وجهة نظر مُحتاطة فإن حرمان الأقليات من الحكومات الذاتية الموجودة بالفعل، والتي حاربَت في الماضي للحصول عليها، هو أكثر خطورةً من رفضِ منحِ حكوماتٍ ذاتيةٍ جديدة الأقليات لم تُظهِر أي استعدادٍ لاستخدام العنف في السعي إلى الحصول على الحكم الذاتي.
وباختصار، فإن تأويل المشارَكة الفعَّالة الذي يميِّز الحكم الذاتي الذي كان له وجودٌ سابق يعاني العيب نفسه الذي يعانيه المسار الأمني؛ فهو يكافئ الأقليات المقاتلة في حين يُعاقِب الأقليات المسالمة التي تطيع القانون وتلتزم به. ومثل المسار الأمني، فإن منظور المشارَكة الفعَّالة على نحوٍ ما تطوَّر في وقتنا الراهن، صُمِّم لكي يتلاءم مع التهديد المحتمَل للأطراف المتنازِعة، تلك الأقليات التي لديها القدرة والاستعداد لزعزعة استقرار الحكومات والأقاليم في إمكانها أن تنال أشكالًا جادة من الاشتراك في السلطة والاحتفاظ بها باسم المشاركة الفعَّالة المؤثِّرة، وتلك الأقليات التي لا تعترف بالتهديد العنيف لم تنَل ذلك.
خاتمة
لقد تبنَّت المنظمات الأوروبية مدًى واسعًا من الأساليب لتُساعِدها في إعادة تشكيل العلاقات بين الدول والأقليات في أوروبا ما بعد الشيوعية، مستلهمةً الرغبة في تنميةِ نموذجٍ أكثر ليبرالية وديمقراطية للتعدُّدية ومنع النزاع العِرقي الضار والمُزعزِع للاستقرار. لقد بحثتُ في هذا الفصل ثلاثةَ أنواعٍ من الأساليب؛ تعميم أفضَل الممارسات، وتشكيل المعايير القانونية، والتدخُّلات في حالاتٍ خاصة.
وأفضلُ ما يمكن أن تُوصَف به النتائج العامة لهذه الجهود هو أنها مركَّبة، وتُحدث في الأغلب انفصامًا في الشخصية، لكن مجموعة من هذه الأنشطة مشكلاتُها الخاصة في صياغة رسالةٍ واضحة ومنسقة، لكننا لو وضعناها معًا فسوف يتضاعف الارتباك.
يتضمَّن منظور «تعميم أفضل الممارسات» نشر معلوماتٍ حول أكثر الأشكال تقدمًا للتعددية الثقافية الليبرالية الغربية، غالبًا بطريقةٍ ساذجة من دون مراعاة للشروط المسبقة التي مكَّنَت هذه الممارسات من أن يتم تبنِّيها في المقام الأول، وسوف تكون النتيجة في أفضل الحالات غير مؤثِّرة، وفي أسوأ الحالات قد تتسبَّب في عدم الاستقرار، لو أنها شجَّعت الأقليات في بلاد ما بعد الشيوعية على مطالبات ليس في قدرة الدول تلبيتها.
ولقد وقع منظور «تشكيل المعايير القانونية» في مأزقٍ كبير؛ فقد تبنَّى بشكلٍ أساسي منظورًا موجهًا إلى المعايير القانونية، لا يهدف إلى تحديدِ معاييرَ عامة لحقوق الأقليات، إنما بالأحرى إلى التركيز على أنواعٍ معيَّنة من جماعات «الأقلية القومية» ومطالبها المتميِّزة، ويعكس هذا القرار كلًّا من منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب الذي يتضمن مطالب تختلف من جماعاتٍ إلى أخرى، ومنطق النزاع القومي في أوروبا ما بعد الشيوعية، الذي يرتبط بشكلٍ قوي بموضوعاتٍ تتعلق بتاريخ جماعات أرض الوطن ومنطقتها. ومع ذلك، فإن الخوف الأساسي من النزاع العِرقي الذي ألهم هذه الجهود لتشكيل معاييرَ موجهة قد شكَّل أيضًا هذه الجهود؛ فقد رفضَت المنظماتُ الأوروبية النماذجَ الغربيةَ للتعامل مع مطالبِ جماعاتِ أرض الوطن، على أساس أنه من المحتمل أن تكون خطرةً وقد تتسبَّب في زعزعة الاستقرار في سياق تحولات ما بعد الشيوعية، من دون تقديم أي بديلٍ مقبول يحلُّ محلها، ونتيجة لذلك لا تُخاطِب المعاييرُ الحالية ببساطة القضايا المتنازع عليها. فضلًا عن ذلك، فإن بعض الأطراف تتشكَّك الآن في جاذبيةِ أو حتى شرعيةِ عزلِ جماعاتِ أرض الوطن كهدفٍ لمعايير حقوق الأقليات.
هناك وعي، وفقًا لعلم الاجتماع، بأن جماعاتِ أرضِ الوطن قد ولدَت أشكالًا متميِّزة من الحَرَاك العِرقي السياسي، يضرب بجذوره في مطالب الأرض والتاريخ، لكنَّ هناك شكًّا قويًّا حول كيفية اعتراف القانون الدولي بالشرعية القانونية والأخلاقية لتلك المطالب. وهكذا، فإن كل منظورٍ للمعايير القانونية يبقى معلقًا في الهواء، غير مؤثِّر سياسيًّا، وغير مستقرٍّ مفاهيميًّا، وإذا تحدثنا من الناحية الصورية فإنه يبقى موجهًا، لكن بطريقةٍ لا تتبع منطق الصراع العِرقي في بلاد ما بعد الشيوعية، ولا منطق التعددية الثقافية الليبرالية في الغرب؛ ومن ثَم فإنه يواجه ضغطًا ليتحول مرةً أخرى إلى منظورٍ أكثر عمومية.
إن منظور التدخُّل في الحالات الخاصة يقدِّم مجموعةً أخرى من الرسائل، من المحتوم في الأغلب أن تتضمَّن هذه التدخُّلات دفع الدول إلى تجاوز الحد الأدنى من المتطلبات القائمة في منظور المعايير القانونية، وكثيرًا ما تدعم بشكلٍ عادل أشكالًا قوية من الحكم الذاتي الإقليمي، وضع اللغة الرسمية، أو مشاركة توافقية في السلطة، والمشكلة هنا هي أن هذه التدخُّلات والتوصيات لا تُوجَد إلا في الحالات التي تكون فيها الأقلياتُ قادرةً على فرض تهديدٍ خطيرٍ لزعزعة استقرار الدول، ونتيجةً لذلك كانت التوصياتُ تُدرَك بصفةٍ عامة لا كتعبيرٍ عن التزامٍ مبدئي بمعاييرَ متقدِّمة لحقوق الأقليات بل كرشوةٍ بغير مبدأ للأقليات المقاتِلة.
تُوجَد هنا سخريةٌ مضلِّلة؛ فالتدخُّلات في الحالات الخاصة كثيرًا ما تتضمَّن نُسخًا من نماذجِ الفدرالية ذات القوميات المتعدِّدة التي أكَّدها منظور أفضل الممارَسات؛ ومن ثَم تقدِّم حمايةً أقوى للأقليات من أي شيء قُبِل في ظل منظور المعايير القانونية. غير أن هذا الدعم التدريجي الذي يستجيب للتهديدات الأمنية بدلًا من الحُجَج المبدئية، يُولِّد سخريةً حول مشروع حقوق الأقلية بأكمله.
إننا إذا ما وضعنا هذه المساراتِ الثلاثةَ معًا فإن النتيجة ستكون رسالةً مختلطة، إذا وصَفْناها وصفًا كريمًا، لقد أصبحَت المنظماتُ الأوروبية متورطةً في هذا المجال على أملِ تشكيلِ العلاقاتِ بين الدول والأقليات في اتجاه بناءٍ أكثر، لكن كثيرًا ما يكون من الصعب جدًّا أن نعرف ما الرسالة التي يُحاوِلون بالفعل إرسالها إلى الدول أو الأقليات؛ فالجهود الأوروبية تشجِّع وتُحبِط الحَرَاك العِراقي السياسي من قِبل أقليات أرض الوطن، فهي تُصادِق على قيمة النماذج الغربية للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات وتفنِّدها في آنٍ معًا، تؤكِّد وتُنكِر شرعية حقوق الأقليات الموجهة في آنٍ واحد.
وكما سنرى في الفصل التالي، فإن هذه الالتباسات الغامضة ليست حكرًا على الأوروبيين؛ فهي تميِّز المناقشات العالمية الأكثر عمومية حول التعددية الثقافية الليبرالية أيضًا، والمُعضِلات الأساسية نفسها — سذاجة خطاب «أفضل الممارَسات»، والتوتُّر بين المعايير القانونية العامة والموجهة، ونتائج وآثار التدخُّلات في الحالات الخاصة — إنما تُوجَد كذلك في الجهود العالمية لنشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية.
http://www.strategicinternational.com/4enhilard.htm.
وتجدُر الإشارة إلى أن المنظَّمات التي تمثِّل إحدى المنظَّمات القومية في أوروبا الشرقية — أعني تتار القرم — عرَّفَت نفسها بصراحةٍ بأنها «السكان الأصليون» وذلك لأغراض القانون الدولي.