الفصل السابع

التحدي العالمي

«إن الأمم المتحدة، على الرغم من عدائها الواضح لأفكار الحق المبدئي بالحكم الذاتي للجماعات القومية الفرعية، انتهى بها الأمر في الواقع إلى تدعيمِ نماذجَ أوروبيةِ الطراز للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات في العديد من الحالات المهمة.»

المؤلف

التجربة الأوروبية مع حقوق الأقليات بعد العام ١٩٩٠م، هي، من نواحٍ كثيرة، قصةٌ متميِّزة؛ فهي فصل في قصةٍ قديمة جدًّا حول دور «الأقليات القومية» في بناء نظام «الدولة القومية» الأوروبية. غير أن التحديات التي واجهَتها هذه التجربة ليست أوروبيةً على وجه الخصوص؛ فلقد تبنَّت المنظَّمات العالمية كثيرًا من الاستراتيجيات الأساسية نفسها التي تبنَّتها المنظَّمات الأوروبية لنشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية، ومرت بالمُعضِلات نفسها. وفي هذا الفصل سوف أنظر إلى أنشطة المنظمات الدولية خلال المسارات الثلاثة ذاتها، وبالتحديد: (١) تعميم أفضل الممارسات/النماذج. (٢) صياغة معايير قانونية. (٣) تدخُّلات لحل النزاع في حالاتٍ خاصة. وفي كل حالة، سنرى أن الصعوبات التي عرَفْناها في السياق الأوروبية تعود مرةً أخرى إلى الظهور، وكثيرًا ما تكون في أشكالٍ تستعصي على الحل.

حدود أفضل الممارسات

كما أشرتُ في الفصل الثاني، فإن «مشكلة الأقليات» قفزتُ إلى قمة الأجندة السياسية في العام ١٩٨٩–١٩٩٠م، في كلٍّ من أوروبا والأمم المتحدة؛ حيث حل النزاعُ العِرقي بين الدولِ محلَّ تنافُس القوى العظمى كتهديدٍ أساسي للسلام، والاستقرار، والتنمية، وحقوق الإنسان. ولقد قامت الأمم المتحدة، كرد فعلٍ لذلك، بجهودٍ مكثَّفة للتعرُّف على أفضل الممارسات وتعميمها؛ ففي العام ١٩٩٠م، على سبيل المثال، شرع معهد الأمم المتحدة لأبحاث التنمية الاجتماعية (UNRISED)١ في إعدادِ مشروعٍ لمدة ثلاثِ سنواتٍ حول «النزاع العِرقي والتنمية»، ثم تَبِعه مشروعٌ آخر في العام ١٩٩٣م عن «التعدُّدية العِرقية والسياسية العامة، وإنشاء «مبادرة حل الصراع والعرقية» (INCORE)٢ في جامعة الأمم المتحدة. ولقد كان الهدف في كل حالةٍ من هذه الحالات، في جانبٍ كبير منه، هو إعداد قائمة لأفضل الممارَسات تمَّ فيما بعدُ تعميمها من خلال إصداراتٍ أكاديمية، وتقاريرَ عامة، بالإضافة إلى ورش عملٍ مشتركة وجلساتٍ تدريبية.٣
ولم يكن الهدف مجرد تعميم أفضل الممارَسات فقط، بل أيضًا تطبيعها. لقد كان من المهم أن تقدَّم أفضل الممارَسات هذه لا كاستثناءاتٍ مؤسفة أو انحرافاتٍ مطلوبة لتهدئة الأقليات المقاتلة أو المزعجة، بل بالأحرى كتطورٍ طبيعي ومقبولٍ للأفكار التي تشكِّل الدولة «العادية». وقد وُضعَت أفضل الممارَسات تلك في سياق التحوُّل التاريخي بعيدًا عن الأفكار المركَّزة الداعية إلى تجانُس الدولة القومية الموحَّدة، نحو مفهومٍ أكثر سلاسة ومتعدِّد المستويات للسيادة، مفهوم للمواطنة أكثر تقبلًا للتنوع. ولقد قُدم هذا التطور ليس بوصفه إذعانًا للمطالب التي تضرب بجذورها في أشكالِ ما قبل الحداثة للنظام القَبلي والقومية العِرقية، بل بالأحرى كاستجابةٍ تقدمية للتحديات التي أثارَتْها أشكالٌ حديثة ومتميِّزة للهُوية العِرقية وللسياسات العِرقية. وهذه المحاولة لتطبيع أفضل الممارَسات المتعدِّدة الثقافات واضحة، على سبيل المثال، في تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في العام ٢٠٠٤م، بعنوان «الحرية الثقافية في عالَم اليوم المتنوِّع».٤

ولقد أسفَرَت هذه الجهود عن شبكةٍ عالمية من الناشطين والأكاديميين، والمثقَّفين، وصُناع السياسة الذين كانوا على معرفةٍ وثيقة باتجاهات وممارسات التعدُّدية الثقافية الليبرالية. إن نسيجًا كثيفًا من المشروعات البحثية وأنشطة التدريب والدفاع تربط بين مسئولي الأمم المتحدة وشركات متعاطفين من المنظَّمات غير الحكومية (وذلك مثل جماعة حقوق الأقليات) والمنظَّمات الخيرية (مثل مؤسسة «روكفلر» أو معهد «المجتمع المفتوح» لجورج سورس) والمؤسَّسات شبه الأكاديمية (مثل المركَز العالمي للدراسات العِرقية أو أكاديمية السلام الدولي)، مع تمويلٍ من الدول الأعضاء المؤيِّدة المتشابهة في الفِكْر (مثل النرويج وكندا).

وعلى أحد المستويات فإن إقامة تلك الشبكة العالمية هي إنجازٌ مدهش في فترةٍ قصيرة نسبيًّا. وكما رأينا في الفصل الثاني، فإن الأفكار الأساسية التي تدعمُها هذه الشبكة كان لها صدًى واضحٌ عَبْر الفروع المتعددة للأمم المتحدة، والمنظمات العالمية التابعة لها، بما في ذلك تلك المنظمات المخصَّصة للتنمية، وحقوق الإنسان والسلام والأمن، وعلى مُستوًى بلاغي، من الصعب أن تجد أيَّ منظمةٍ عالمية بين الحكومات لا تلجأ اليوم إلى خطاب التعدُّدية الثقافية الليبرالية.

ومع ذلك فإن هذا النجاح الظاهر يُخفي وراءه فشلًا أعمق؛ فالمحاولات لتدعيم التعددية الثقافية الليبرالية، فيما وراء هذه الدائرة الضيقة نسبيًّا من الصفوة العالمية، قد فشلَت في معظم عالَم ما بعد الاستعمار. ويصدُق ذلك بصفةٍ خاصة على أي نموذجٍ من التعددية الثقافية الليبرالية يتضمن أفكارًا عن الحكم الذاتي للأقلية. إن أفكار الحكم الذاتي الإقليمي تجري مقاومتُها بقوةٍ في معظم بلدان ما بعد الاستعمار، مثلما يحدُث في معظم بلاد ما بعد الشيوعية. كما يقول آشيس ناندي: «إن أي اقتراحٍ لإلغاء مركزية الدولة أو إعادة صياغة مفهومها كهيئةٍ فدرالية بشكلٍ حقيقي يتعارض مع مزاج معظم دول ما بعد الاستعمار في العالم الثالث» (ناندي، ١٩٩٢م، ص٣٩، اقتُبس في مظفر وسكاريت، ٢٠٠٠م). وبالفعل تصبح أفكار الحكم الذاتي للأقلية موضوعًا يحرُم الحديث فيه في كثيرٍ من الدول، وفي بعض الدول هناك قوانينُ تمنع مجرد التصريح بهذه المطالب.

وهناك استثناءاتٌ لهذا التعميم، وأكثر هذه الاستثناءات بروزًا هي أمريكا اللاتينية، التي برهنَت على أنها أرضٌ تتقبل أفكار التعددية الثقافية (أو «ما بين الثقافات» كما هو أكثر شيوعًا في المناظرات باللغة الإسبانية)، وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بالسكان الأصليين. إن الالتزام بالحقوق الموجَّهة إلى السكان الأصليين قد أصبح أحد المكوِّنات الأساسية في خطاب الدمقرطة في المنطقة، ليس فقط بين الصفوة الغربية المدربة، بل في المجتمع المدني بشكلٍ أكثر عمومية. وينعكس ذلك في الصعود الهائل لما تطلق عليه دونا لي فان كوت «الدستورية المتعدِّدة الثقافات» عَبْر أمريكا اللاتينية (فان كوت، العام ٢٠٠٠م، الفصل التاسع). وقد صاحب التحوُّل من الدكتاتورية العسكرية إلى الديمقراطية الاعتراف الدستوري بالوضع القانوني المتميِّز للسكان الأصليين، بما في ذلك حقوق الحكم الذاتي، وقضايا الأرض، والاعتراف بقانون العُرف في كثيرٍ من البلاد.

وفضلًا عن ذلك أدت المنظَّمات الدولية بوضوحٍ دَورًا حاسمًا في تمكين هذا التحوُّل وتشجيعه نحو الاعتراف بحقوق السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية، من خلال مساندتها لجماعات الدفاع عن السكان الأصليين، ونشرها أفضل الممارَسات والمعايير. ويتعقب كتاب «أليسون بريسك» وعنوانه «من قرية القبيلة إلى القرية العالمية» (برسيك، العام ٢٠٠٠م) النسيج الكثيف للروابط التي تربط الصراعات المحلية لحقوق السكان الأصليين بالمنظمات الدولية وما يندرج تحتها من «شبكات للسياسة العالمية»، ولقد أشار العديد من المحلِّلين الآخرين أيضًا إلى الدور الحاسم الذي لعبَتْه المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية الدولية.٥
ومن ثَم فقد قدَّمَت أمريكا اللاتينية أوضحَ حالةٍ حيث تركَت الجهود الدولية لنشر التعددية الثقافية الليبرالية صدًى محليًّا، وأدَّت إلى إصلاحاتٍ داخلية. والواقع أن هذه الأفكار قد ترسَّخَت إلى حد أن بلاد أمريكا اللاتينية كمجموعةٍ قد أصبحَت من الأعوان الأكثر نشاطًا وتعبيرًا عن المعايير الدولية لحقوق السكان الأصليين من الديمقراطيات الغربية.٦

وكما في الأنظمة الديمقراطية الغربية المتماسكة، هناك مناقشاتٌ مترنحة وبغير حلٍّ في أمريكا اللاتينية حول مدى كفاءة عمل هذه النماذج من التعدُّدية الثقافية بالفعل، لتمكين السكان الأصليين والقضاء على الهيراركيات الموروثة للسلطة. ولقد ذهب بعض النقاد إلى أنها تتضمن مجرد تغيُّراتٍ رمزية. والواقع أن البعض ذهب إلى أن هذه الخطط أو السياسات قد أعدَّتها الصفوة الليبرالية الجديدة بالتحديد، لتشتيت الانتباه السياسي بعيدًا عن بِنى السلطة الأساسية (هيل، العام ٢٠٠٢م)، وهو تخوُّف عزَّزَته حقيقة أن الحركات السياسية للسكان الأصليين أحيانًا ما تدخُل في تحالفاتٍ تكتيكية مع الأحزاب السياسية اللبرالية الجديدة (آلبو، ١٩٩٤م). ولقد ذهب آخرون إلى أنه بينما تتوافر منافعُ ملموسةٌ للسكان الأصليين فإن إصلاحات التعددية الثقافية تأتي بهيراركياتٍ عِرقيةٍ جديدة خلال هذه العملية — على سبيل المثال، استبعاد جماعات السود التي لا يُنظر بشكلٍ نموذجي على أنها سكانٌ أصليون (هوكر، ٢٠٠٥م)، ومع ذلك ذهب آخرون إلى أنها تحصُر الناس في أدوارٍ ثقافية، وتعرِّض الحرية والفردية للخطر. ومن أجل التأهل لحقوقٍ موجهةٍ جديدة فإن من المتوقَّع من أعضاء مجتمعات السكان الأصليين أن يتصرَّفوا «كما يتصرَّف الهنود» (تيلِّي، ٢٠٠٢م) — أعني اتباع الممارَسات الثقافية «الأصلية» — وهو توقُّع يدعَم يد القادة المحافظين أو الأبويين داخل المجتمع الذين يؤكِّدون السلطة لتحديد ما هو «أصلي» (سيدر، ٢٠٠١م).

وكما هي الحال في الغرب، هناك بعض الدراسات النسَقية القليلة التي قد تُمكِّننا من تقييم هذه المطالب. لكنَّ هناك دليلًا قويًّا للوهلة الأولى يقول إن إصلاحات التعددية الثقافية في أمريكا اللاتينية قد وفَّرَت في الواقع مركزًا ثابتًا للسكان الأصليين للمطالبة بإعادة توزيعٍ جوهري للقوى والموارد وتحقيق ذلك، وليس مجرد اعترافٍ رمزي.٧ وفضلًا عن ذلك وبعيدًا عن إخفاء مطالب اللاتينيين الأفريقيين، فإن الحَرَاك الناجح للسكان الأصليين كثيرًا ما ساعَد على رؤية القضايا الأفريقية اللاتينية، وجعل مطالبهم للمحافظة على مقعدٍ لهم على الطاولة أمرًا مشروعًا، كجزءٍ من حركةٍ أوسع نحو دستوريةٍ متعدِّدة الثقافات.٨ وإذا كانت نماذجُ الحكم الذاتي للسكان الأصليين والقانون المعتاد لا تتفق بالكامل مع معايير حقوق الإنسان الدولية، فذلك صحيح بالنسبة إلى البِنى السياسية والقانونية للدولة، والتي ابتُليَت بمشكلاتٍ مثل حكم القانون غير المستقر، والتمييز، وانتهاكات حقوق الإنسان (سبيد وكوليير، العام ٢٠٠٠م).

ومن ثَم فقد رأى معظم المحلِّلين أن التحوُّل إلى الدستورية المتعدِّدة الثقافات في أمريكا اللاتينية كقوةٍ إيجابية، يُساعِد على تحسين المشارَكة الديمقراطية بين الجماعات التي استُبعدَت من قبلُ، ويُقلِّل من خطر العودة إلى الحكم السلطوي، وتبنِّي مشروعية لعملية التماسُك الديمقراطي، وتخدم بالفعل كمعملٍ للتجارب المبتكَرة للمواطَنة الديمقراطية (ياشار، ٢٠٠٥م).

ومع ذلك، فمن جميع هذه الزوايا، تبقى أمريكا اللاتينية الاستثناء، أما في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، فإن الاتجاهات مختلفةٌ أتَم الاختلاف. وبعيدًا عن التحرُّك نحو مفهومٍ للدولة أكثر تعدُّدًا للثقافات أو تعدُّدًا للقوميات، يتمسَّك العديد من البلدان في هذه المناطق بمشروع بناء دولةٍ قوميةٍ مركزية متجانسة، بحيث تبقى مطالب الحكم الذاتي للأقليات غير مسموح بها. أي من أشكال الحكم الذاتي للأقلية التي سبقَت الاستقلال قد تم القضاء عليه، وأي وعودٍ قُطعَت بقيام حكوماتٍ ذاتية في أثناء تحقيق الاستقلال كثيرًا ما تم الحنثُ بها،٩ أما تلك الدول القليلة التي يُوجَد بها الآن شكل من أشكال الحكم الذاتي الإقليمي (أو أن ذلك لا تزال المفاوضات دائرةً بصدَده)، فإن ذلك على نحوٍ نموذجي هو محصلة الصراع العنيف والحرب الأهلية، وكثيرًا ما تم تبنِّيه تحت ضغطٍ دولي (كما هي الحال في السودان، وإندونيسيا، وسريلانكا، وبورما والفلبين وإثيوبيا والعراق … إلخ). وربما تكون الهند هي الدولة الوحيدة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، التي تبنَّت بشكلٍ سلمي وإرادي أشكالًا من الحكم الذاتي الإقليمي لأقليات أرض الوطن عندها.١٠

إن المحاولات التي قام بها المجتمع الدولي لتحدي هذه المحرَّمات، ولتشجيع اتجاهٍ أكثر انفتاحًا للحكم الذاتي، قد استقبلَتها آذانٌ صمَّاء. وكما ذكرتُ في الفصل الأول، فحتى المصلحون الديمقراطيون الذين ربما يُتوقَّع منهم أن يتعاطفوا مع أفكار التعددية الثقافية الليبرالية كثيرًا ما يُعارِضونها؛ فافتراض أن هذه الأفكار القوية عن حقوق الأقلية لا بد أن تُرى كجزءٍ أو قسم من العملية الديمقراطية لا يزال محلَّ نزاع في أجزاءٍ كبيرة من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.

ومن أجل سهولة الاستعمال، فسوف يُساعِدنا أن يكون لدينا مصطلحٌ يغَطي البلاد الأفريقية والآسيوية والشرق الأوسط. في بقية هذا الفصل سأُطلِق عليها «دول ما بعد الاستعمار»، لكي أميِّزها عن دول ما بعد الشيوعية في أوروبا الشرقية، والديمقراطيات المستقرة في أوروبا الغربية، ودول المستعمرات الأوروبية في العالم الجديد في الأمريكتَين وأستراليا. ومن الواضح أن هذه ليست تسميةً دقيقة؛ فبعضُ الدول في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط لم تُستعمَر قط بشكلٍ رسمي (مثل إثيوبيا، وتايلند، والصين)، وبالتالي ليست بالضبط «دول ما بعد الاستعمار»، ومع ذلك فإن هذه الدول هي استثناء للحكم العام للاستعمار الأوروبي في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وعلى أي حالٍ فهي تقع غالبًا تحت واحدةٍ أو أخرى من مناطق نفوذ السلطة الأوروبية؛ ومن ثم فقد أظهرَت إرثًا مشابهًا لما هو موجود في دول ما بعد الاستعمار المتجاورة معها.

والواقع أن مصطلح «ما بعد الاستعمار» مصطلحٌ مضلِّل بطريقةٍ أخرى، من حيث إن دول مستعمرات العالم الجديد مثل الولايات المتحدة وأستراليا أو المكسيك كانت أيضًا مستعمرةً من قبلُ؛ وبالتالي يُمكِن اعتبارها بشكلٍ عملي من دول ما بعد الاستعمار، لكننا في هذه الحالات سنجد أن سكان المستعمرات الأوروبيين، وليس الجماعات التي كانت تسكُن الأرض قبل استعمارها، هم الذين يطالبون بالاستقلال؛ فلقد كان المستعمرون أنفسهم هم الذين قطعوا صلتَهم بالقوى الإمبريالية. أما بلاد أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط فهي، على العكس، «بلاد ما بعد الاستعمار» بمعنًى مختلف عن ذلك أتم الاختلاف؛ فالسكان التاريخيون لهذه المجتمعات قد استعادوا حكم أنفسهم بالإطاحة بالمستعمرين الأوروبيين، الذين عادوا بالتالي إلى عاصمتهم الإمبراطورية.

ولذلك فعلى الرغم من عدم دقته، فأنا أعتقد أن مصطلَح «ما بعد الاستعمار» يساعد في تحديد بعض الملامح الأساسية لهذه المناطق الثلاث. أما القُراء الذين يجدونه مضلِّلًا، فلهم الحرية في أن يستبدلوه ببساطةٍ بعبارة «دول في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط».

تقدير المصادر والشروط المسبقة

السؤال الأساسي، إذن، هو لماذا واجهَت التعددية الثقافية الليبرالية مثل هذه المقاومة في دول ما بعد الاستعمار؟ هناك عدة طرقٍ لتوضيح هذه المقاومة، يلجأ بعض المحلِّلين، كما حدث في أوروبا ما بعد الشيوعية، إلى الانتشار المزعوم لأشكال ما قبل الحداثة القبَلية والقومية العِرقية، وغياب فهم أكثر حداثةً للمدنية، والتسامح. وهناك نسخة أكثر تطورًا من هذه الحُجة تلجأ إلى «قيمٍ حضارية» مختلفة. ولقد قيل إن التعددية الثقافية تمثِّل تصورًا غربيًّا للعلاقة بين الفرد وثقافته، أو بين الأفراد ومجتمعهم بشكلٍ أكثر عمومية. أما الحضارات الأخرى فلها قيمٌ أخرى، ومن ثم طرقٌ أخرى للتعامل مع قضايا الأقليات؛ فلقد قيل على سبيل المثال إن المجتمعات الآسيوية تقوم على أساس تصوُّر «أكثر اشتراكية» للمجتمع، يؤكِّد الانسجام والامتثال بدلًا من تدعيم الحقوق الليبرالية (هي، ١٩٩٨م، ٢٠٠٤م). ولقد أُثيرَت هذه القضايا نفسها بالنسبة إلى المنطلقات الإسلامية تجاه الأقليات (انظر مثلًا: يوسف، العام ٢٠٠٠م).

والفكرة التي تقول إن في استطاعتنا أن نقيم تفرقةً واضحة وحادة بين «القيم الغربية» و«القيم الآسيوية» أو «القيم الإسلامية» ستكون مألوفةً بالنسبة إلى من يتتَبع تلك المناقشات حول عالمية حقوق الإنسان (انظر مثلًا: النعيم، ١٩٩٢م؛ باور وبل، ١٩٩٩م؛ ود. بل، ١٩٩٩م و٢٠٠٤م؛ تايلور، ١٩٩٦م؛ وغاي، ١٩٩٩م). وأنا لا أودُّ معاودةَ سَرد هذه المناقشات الطويلة إلا لكي أذكُر أنه حتى لو كان هناك معنًى لتمييز منظورٍ «فردي» غربي، ومنظورٍ اشتراكي أو مجتمعي آسيوي/إسلامي — وهو أمرٌ مشكوك فيه — فإنه لن يُلقِي الضوء على الموضوع الذي نُناقِشه؛ فمطالب الحكم الذاتي للأقلية كثيرًا ما يجري الدفاع عنها بالتحديد تحت اسم حماية المجتمعات، وذلك لتمكين أعضاء الجماعة من المحافظة على لغتهم وتقاليدهم الثقافية، وعبادة آلهتهم، واحترام الكبار والأجداد … إلخ. ويُمكِن للمرء أن يتوقَّع أن أيَّ مجتمعي يزعُم أنه يؤمن بأهمية تلك القيم سيُسانِد ولا يُعارِض الحكم الذاتي للأقلية. ومحاولة دولٍ ما بعد الاستعمار لفرضِ سياساتٍ متمركِزة أو متجانِسة لبناء الأمة على سكانها المتنوِّعين والمختلفِين على نحوٍ عِرقي وثقافي هو أمرٌ يتناقض مع أي تصورٍ مقبولٍ عن المجتمعية، كما يتعارض مع التعدُّدية الثقافية الليبرالية.١١
وفضلًا عن ذلك، فإن هذه السياساتِ المتجانِسة لدول ما بعد الاستعمار، بعيدًا عن كَونها تَعكِس القيمَ الكامنةَ للحضارات التاريخية، فهي تتناقض بوضوحٍ مع التراث التاريخي لشعوب وثقافات آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. إن معظم الأنظمة السياسية التي سبقَت الاستعمار الأوروبي لديها أنظمةٌ معقَّدة للتسامُح ما بين العِرقيات والتعايش المشترك. وكما يُشار إليه غالبًا، فإن الإمبراطورية العثمانية كانت أكثر تسامحًا لتنوُّعها الداخلي من أيٍّ من الإمبراطورية الأوروبية في ذلك الوقت، إن السعي وراء التجانُس العِرقي الثقافي هو مشروعُ ما بعد الاستعمار، وليس تراثًا أو قيمةً حضارية لما قبل الحداثة.١٢

إن محاولة توضيح أو تفسير مصير الأقليات العرقية الثقافية في دول ما بعد الاستعمار بالإشارة إلى مواقفِ ما قبل الحداثة أو قيمها الحضارية، ليست هي البداية أو نقطة الانطلاق. إن علينا أن نبحث في مكانٍ آخر، وأحد الأماكن التي نبدأ بها هو استدعاء المصادر والشروط المسبقة للتعدية الثقافية الليبرالية في الغرب. والواقع أن هذه الظروفَ إنما تُوجَد على نحوٍ غير مطَّرد في عالم ما بعد الاستعمار. دعوني أركِّز على خمسة موضوعات، بعضُها يتداخل مع الموقف في أوروبا ما بعد الشيوعية، أما بعضُها الآخر فهو خاصٌّ بآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.

وسأبدأ بعاملَين رئيسيَّين يُسهِّلان قَبول التعددية الثقافية الليبرالية من قِبل الدول والجماعات المُسيطِرة في الغرب، أعني ضمانات حقوق الإنسان واللاأمان (انعدام الأمن القومي)، في عالم ما بعد الاستعمار، مثلما في أوروبا بعد الشيوعية، هناك صعوباتٌ في كلٍّ منهما.

أولًا: ضمانات حقوق الإنسان

الخطورة التي نرى أنها مرتبطة بتبنِّي التعددية الثقافية الليبرالية تعتمد، إلى حدٍّ ما، على تتابُع حقوق الأقليات بالنسبة إلى موضوعاتٍ أوسع كتماسُك الدولة وديمقراطيتها، في الغرب، مع الاستثناء المهم لإسبانيا، فإن بناء الدولة لكي تتكيف مع أقلياتِ أرضِ الوطن الذي حدَث بعد تطوُّر مؤسسات الدولة الفاعلة، مع تراثٍ راسخٍ للحدود الدستورية على الحكومة وحكم القانون، والسلطة القضائية المستقلة، وبيروقراطيةٍ محترفة ومعها الشرطة، وثقافةٍ سياسيةٍ ديمقراطية، واقتصادِ سوقٍ مزدهر، على نحو ما لاحظت في الفصل الرابع، فإن وجود ذلك التراث الراسخ للدستورية الليبرالية كان أمرًا ضروريًّا للتعددية الثقافية الليبرالية التي ظهَرَت في الغرب. ولقد ألهمَت الليبرالية وقيَّدَت الأشكال المعاصرة للسياسات العِرقية في الغرب، ولقد وفَّر ذلك إحساسًا بالأمان لجميع المواطنين بأن النتائج سوف تعمل داخل حُدودٍ معروفةٍ جيدًا للديمقراطية وحقوق الإنسان، أيًّا كانت الطريقة التي تُحلُّ بها الصراعات حول التعددية الثقافية.

ومع ذلك، ففي عالَم ما بعد الاستعمار، كما هي الحال في دول ما بعد الشيوعية، كثيرًا ما تُطرَح قضايا أقلياتِ أرض الوطن المطالِبة بتعددية الدولة قبل تماسُك مؤسسات الدولة التي تعمل جيدًا، وقبل ظهور الثقافة السياسية الديمقراطية. وذلك يزيد بشكلٍ كبير من المخاطر المُصاحِبة لتبني الحكم الذاتي الإقليمي. هناك ضماناتٌ أقل بأن تُمارِس الأقليات التي مُنحَت الحكم الذاتي سُلطتَها بطريقةٍ تحترم حقوق الإنسان. وربما تستخدم سلطتها بدلًا من ذلك لخلق جُزر من الطغيان المحلي، وتأسيس أنظمةِ حكمٍ سُلطوية تقوم على الأصولية الدينية أو عدَم التسامُح العِرقي. قد يمثِّل ذلك تهديدًا لحقوق الإنسان للأفراد سواء داخل أو خارج جماعة الأقلية. أما بالنسبة إلى غير الأعضاء، فربما تُحاوِل أقلياتُ أرضِ الوطن مهاجمةَ حقوق وملكية «الدخلاء» الذين انتقلوا (ربما منذ عدة أجيالٍ سابقة) إلى منطقة الأقلية، بالإضافة إلى أعضاء الجماعة المُسيطِرة في الدولة ككل (وعلى سبيل المثال أهل جاوة Javanese (الذين هاجروا إلى أراضي الأقلية في بقية إندونيسيا). وفي غياب الثقافة السياسية وإطار عملٍ فعَّال لحقوق الإنسان، ربما يُسلَب من هؤلاء الدخلاء ملكيتهم، ويُفصَلون من وظائفهم، ويُحرَمون من حقوق الإقامة، أو حتى يمكن أن يُطرَدوا أو يُقتَلوا. باختصار، إن عملية الحكم الذاتي يُمكِن أن تكون حرفيًّا مسألةَ حياة أو موت.١٣

أما بالنسبة إلى أعضاء الجماعة ذاتِها، فإن انتقالَ سلطاتِ الحكم الذاتي يُمكِن أن تؤدي إلى انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان داخل الجماعة — على سبيل المثال فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين (الرجل والمرأة) — والواقع أن «غوربريت ماهاجان» تذهب إلى أن الاختلاف الأساسي بين نقاش حقوق الأقلية في الهند وفي الغرب يتعلق بحماية الحقوق الفردية داخل الجماعات. ولقد ذكرتُ من قبلُ أن هدف التعددية الثقافية الليبرالية يُمكِن أن يتلخص في «المساواة بين الجماعات، والحرية داخل الجماعات». ولقد ذهبَت غوربريت إلى أن قضايا التفاوت وعدم المساواة بين الجماعات ظهَرَت إلى السطح قبل وجود الحمايات الكافية للحقوق الفردية داخل الجماعات. أما في الغرب، في المقابل، فإن موضوع إعادة معالجة التفاوت واللامساواة بين الجماعة لم يظهر إلا بعد أن أخذَت الحمايات القوية للحقوق الفردية مكانَها بالفعل.

(مهاجان، ١٩٩٨م، ص١٥٢–١٥٥، مقتبَسة من جين، ٢٠٠٥م؛ ناندا، ٢٠٠٣م).

ثانيًا: اللاأمان الإقليمي

عاملٌ آخر يتعلق بالأمن الجغرافي السياسي هو أن معظم دول ما بعد الاستعمار لديها عدوٌّ أو أكثر على حدودها. ولا بد أن هؤلاء الجيران الأعداء يميلون إلى زعزعة استقرار الدولة، وأحد الأساليب المعروفة للقيام بذلك هو تجنيدُ الأقليات داخل الدولة، وتشجيعُها على القيام باحتجاجاتٍ تُسهِم في زعزعة الاستقرار، بل ربما القيام بالتمرُّد المسلح. وفي مثل هذا السياق من اللاأمان الإقليمي، يُنظَر إلى الأقليات على أنها طابورٌ خامسٌ محتمل، أو على أنها متواطئةٌ مع الجيران الأعداء، كما يُنظَر إلى الحكم الذاتي لمثل هذه الأقليات على أنه تهديدٌ للأمن القومي.

وكما لاحظت من قبل، فإن هذه الدينامية لم تعُد تنطبق على الأقليات القومية في الغرب، ويرجع ذلك إلى حماية مظلة الأمن الإقليمي التي ابتكَرها حلف شمال الأطلنطي (الناتو NATO)، ولقد أدَّى ذلك دورًا حاسمًا في إمكان تبنِّي الفدرالية المتعدِّدة القوميات. ومع ذلك ففي معظم عالَم ما بعد الاستعمار تبقى العلاقاتُ بين الدول والأقليات على درجةٍ عالية من التأمين. وتظهر المخاوف الأمنية، في العديد من الحالات، من الاعتقاد بأن الولاء الرئيسي للأقلية إنما يكون للدولة القريبة المُجاوِرة (ومن المحتمل أن تكونَ معادية) التي قد يتعاونون معها. ونحن نجد ذلك في الهند بالنسبة إلى الأقلية في كشمير (والأقلية المسلمة بصورةٍ عامة أكثر)، وفي سريلانكا فيما يتعلق بالأقلية التاميلية Tamil، وفي أفغانستان بالنسبة إلى الأقلية الأوزبكية، وفي كمبوديا فيما يتعلق بالأقلية الفيتنامية، وفي باكستان وبنغلاديش فيما يتعلق بالأقلية الهندوسية، وفي بنغلاديش بالنسبة إلى البهرة، وفي تايلند بالنسبة إلى أهل الملايو، وفي فيتنام فيما يتعلق بالأقلية الصينية، وفي إيران وإسرائيل بالنسبة إلى الأقلية العربية، وفي إثيوبيا بالنسبة إلى الأقلية الصومالية، وهكذا. وفي العديدِ من تلك الحالات، كانت هناك سياساتٌ لتشجيع أو إجبار الأقلية غير الموالية المزعومة للعودة إلى «وطنهم الأصلي».
وتظهر مشكلةٌ أخرى عندما تُوجَد جماعةٌ قوميةٌ معيَّنة في بلدَين أو أكثر، تقسِّمها الحدودُ الدولية الحديثة، وربما كانت تحلُم بإقامة (أو استعادة) دولةٍ مشتركة. والحالة الكلاسيكية في الشرق الأوسط هي مشكلة «الأكراد»، المقسَّمين بين إيران، والعراق، وتركيا، وسورية، الذين يتُوقون إلى إقامة كردستان مستقلة. وهناك موقفٌ مشابهٌ في آسيا يتعلق بالبلوش الموزَّعين بين إيران وباكستان وأفغانستان، والذين عبَّروا أحيانًا عن رغبتهم في قيام دولةٍ مستقلة، وهناك بالطبع جماعاتٌ عرقيةٌ عديدة في أفريقيا قسَّمَتها الحدود الدولية الحديثة، ولقد عبَّرَت الكثيرُ منها عن رغبتها في تشكيل دولةٍ واحدة مثل، إيوي Ewe (المنقسمة بين غانا وتوغو، وبنين)، أو الطوارق (المنقسمين بين مالي، والنيجر، والجزائر).١٤
في كلٍّ من هذَين السياقَين، تخشى الدولة من أن الأقلية سوف تتعاون مع «أقاربها» عَبْر الحدود، سواء كانت دولةً قريبة مجاورة أو جماعاتٍ قريبة مجاورة. لكنَّ هناك طرقًا أخرى من الممكن أن نشُك بواسطتها في أن الأقليات تتعاون مع قوًى خارجيةٍ معادية تهدِّد أمن الدولة. في بعض الحالات تكونُ هذه القوى الخارجية قوًى إمبرياليةً سابقة (كما هي حالُ سكانِ جُزر مولوكا في إندونيسيا)١٥ الذين يُنظَر إليهم الآن على أنهم مواطنون متعاونون مع الهولنديين، أو المونتغنارد، في فيتنام الذين يُنظَر إليهم على أنهم متعاونون مع الفرنسيين أو الأمريكيين). ويُنظَر إلى الأقليات في حالاتٍ أخرى على أنهم متواطئون مع حركاتٍ دولية تهدِّد أمن الدولة. في الماضي كان الخوف يدورُ غالبًا حول كون الأقليات جزءًا من مؤامرةٍ شيوعيةٍ دولية تستهدف الإطاحة بالدول الرأسمالية.١٦ ومنذ فترةٍ حديثة، استُبدل ذلك بالخوف من أن تكون الأقليات جزءًا من حركةٍ دولية للإسلاميين المتطرفين للإطاحة بالدول العلمانية. وعلى سبيل المثال، يُقال إن الأقليات المسلمة في الهند (كشمير)، إندونيسيا (آتشه)، والفلبين (مينداناو)، أو إثيوبيا (الصوماليين) على اتصالٍ بشبكاتٍ دولية مع جماعة الجهاد الإسلامية. وفي حالاتٍ أخرى تكون المخاوفُ حول قيام الأقليات بدور العملاء لرأسمالٍ أجنبي، لإثارة التمرُّد للحصول الموارد الطبيعية؛ يُستخدَم في بعض الأحيان لتحديد المشكلات الكامنة في بابوا الغربية.١٧
وفي جميع هذه الحالات يُنظر إلى الأقليات (صوابًا أو خطأ) كحلفاءَ أو متعاونين مع قوًى خارجية تهدِّد الدولة الأكبر،١٨ وقد تظهر جماعات الأقلية تلك بالنسبة إلى الملاحظ الخارجي على أنها ضعيفة وهامشية وسلطتها ضئيلة ومواردها قليلة، بحيث لا تستطيع أن تتحدى الدولة. غير أن هذه الأقليات من وجهة نظر الدولة هي مجموعة من العملاء المحليين لقوًى إقليمية أو دولية أكبر أو شبكات عملٍ قوية جدًّا، وتشكِّل تهديدًا خطيرًا للدولة.١٩ ومن المحتمل أن تظهر هذه الدينامية حيثما كانت الدولة الضعيفة، وحيثما لا تكون هناك منظماتٌ للأمن الإقليمي أو تكون غير فعَّالة.

ثالثًا: عدم الثقة بالمجتمع الدولي

هذان العاملان الأوَّليَّان — الخوف من أن تمثِّل حقوق الأقليات القوية تهديدًا للأمن الشخصي للأفراد، ولأمن الدولة — موجودان كذلك في أوروبا ما بعد الشيوعية. بيد أن آفاق التعددية الثقافية الليبرالية، يُعقِّدها بشكلٍ ظاهر في دول ما بعد الاستعمار عاملٌ ثالث لم يُوجَد في أوروبا ما بعد الشيوعية، وهو بالتحديد انعدامُ الثقة بالمنظمات الدولية التي تشجِّع حقوق الأقليات؛ فالعديد من الناس يشكِّكون ليس فقط في رسالة التعددية الثقافية الليبرالية، بل أيضًا في حامل الرسالة.

ومن المؤكَّد أنه كثيرًا ما استنكَرَت بلدانُ ما بعد الشيوعية النظامَ الأبويَّ البطرياركي والمعاييرَ المزدوجة للمنظَّمات الغربية التي تُصِر على حقوق الأقلية كشرطٍ للانضمام مرةً أخرى إلى أوروبا، لكنها لم تتشكَّك في أن هذه المنظمات في النهاية ملتزمة بحماية الاستقرار والنزاهة الإقليمية للدول الأعضاء، وكذلك البلدان المرشَّحة التي تسعى إلى الانضمام إلى هذه المنظَّمات. والواقع أن بلاد ما بعد الشيوعية سعَت إلى الدخول إلى الاتحاد الأوروبي E. U وحلف الناتو NATO (حلف شمال الأطلنطي) بالتحديد كوسيلةٍ لضمان استقرارها وأرضها.
ومع ذلك ففي كثيرٍ من دول عالَم ما بعد الاستعمار كان هناك قليلٌ من الثقة بأن يلتزم «المجتمع الدولي» بحماية استقرار وأرض الدول غير الغربية، بل على العكس، كان هناك اعتقادٌ شائع بأن المنظَّمات الدولية تُدوِّل حقوق الأقلية على وجه التحديد لكي تقوم بزعزعة الاستقرار في بلدانٍ معيَّنة. ولقد كان هناك بصفةٍ خاصة إيمانٌ واسع الانتشار في كثيرٍ من دول ما بعد الاستعمار بأن الرعاية الدولية لحقوق الأقليات هي — ببساطة — مكيدة أو مؤامرة من الغرب، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، لإضعاف وتقسيم دول ما بعد الاستعمار، وبصفةٍ خاصة تلك التي ربما تشكِّل تحديًا للهيمنة الأمريكية. ولقد ذهب العديد من المثقَّفين في الصين، على سبيل المثال، إلى أن الخطاب الدولي لحقوق الأقليات هو مؤامرةٌ دبَّرتها المخابراتُ الأمريكية CIA لتحريض الحركات الانفصالية بين اثنتَين من أكثر الجماعات العِرقية القومية أهمية — التيبتيون في الجنوب الغربي والأوغر المسلمون في الشمال الغربي — لكي تعمل على عزل الصين. وهناك نظرية مؤامرةٍ مماثلة منتشرة في العالمَين العربي والإسلامي؛ حيث يُفترض أن الخطاب الدولي عن حقوق الأقليات يتجه نحو إضعاف بلادٍ مثل العراق، وإيران، ومصر، وسورية، وباكستان، وإندونيسيا عن طريق التحريض على التمرد و/أو الانفصال بين أقلياتها المتعدِّدة.٢٠

ومن الواضح أن هذا النوع من نظرية المؤامرة غير صحيح كتفسير لأصول الموجة السارية من المعايير الدولية لحقوق الأقليات. وكما أشرتُ فيما سبق، فإن اتجاه ما بعد تسعينيات القرن الماضي لتدويل العلاقات بين الأقليات والدولة قد أظهَر تخوفًا من النتائج المزعزعة للاستقرار للحروب المدنية العِرقية في البلقان والقوقاز، وقد عزَّز تلك المخاوفَ الانهيارُ المُريع للدولة في أماكنَ مثل رواندا والصومال. إن الاندفاع نحو التعرُّف على المعايير الدولية وأفضل ممارَسات التعددية الثقافية إنما أتى بصفةٍ عامة من الناس داخل الغرب الذين دعموا هذه الاصطلاحات داخل بلادهم، والذين اعتقدوا بإخلاصٍ بأنها ناجحة (على نحوٍ متواضع). لم يكن هدفهم هو إضعاف أو زعزعة دول ما بعد الاستعمار، بل تحديدًا المساعدة في جعلها مستقرة وناجحة، عن طريق نشر نماذج للعلاقات بين الدول والأقلية التي نجحَت في الغرب.

ومع ذلك، فقد ظلت نظرياتُ المؤامرة هذه قويةً في عالَم ما بعد الاستعمار، ولقد أثارَتْها المعايير المزدوجة التي تبنَّتها القوى الغربية عند تطبيق معايير حقوق الأقليات؛ فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، دانت العراقَ بشدةٍ في عهد صدام حسين لسوء معاملة الأكراد، ومع ذلك فقد أغمضَت عينَيها عن سوء معاملة الأكراد في تركيا. والتفسير الواضح لهذا المعيار المزدوج هو أن العراق كان عدوًّا للولايات المتحدة، في حين كانت تركيا حليفًا عسكريًّا وعضوًا في حلف الناتو. وفي مثل هذه الحالات فإن الإشارات إلى حقوق الأقليات كانت توظَّف كوسيلةٍ لدعم سياسات القوى العظمى، ولا تعكس اهتمامًا مخلصًا لحقوق الأقليات.

وهناك بالمثل إحساسٌ واسع الانتشار في العالم الإسلامي بأن اهتمام الغرب بتحرير شرق تيمور (المسيحي) من انضمامه القَسري إلى إندونيسيا (المسلمة) هو مجرد نفاق، إذا ما قُورن بانعدام الاهتمام بتحرير الأقليات المسلمة التي انضمَّت إلى دولٍ أخرى في انتهاكٍ للقانون الدولي، كما هي الحال في كشمير أو فلسطين. وانشغال الغرب بما تعانيه الأقليات المسيحية في السودان (ذي الأغلبية المسلمة) يتعارض مع لامبالاة الغرب بما تُعانيه الأقلياتُ المسلمة في الفلبين أو روسيا (ذات الأغلبية المسيحية). إن الكتابات الشعبية والأكاديمية حول موضوعات الأقلية في عالم ما بعد الاستعمار تزخَر بهذه الأمثلة للمعايير المزدوجة والتناقضات، والنتيجة هي النظر إلى الدعم الغربي لحقوق الأقليات كما لو لم تكن له أي شرعية أو مصداقية.

لكن إذا تحدثنا بطريقةٍ أخرى قلنا إن دول ما بعد الاستعمار لم تكن تخشى فقط من أن الجيران الأعداء سوف يستخدمون المعايير الدولية لحقوق الأقليات وسيلةً لزعزعة الاستقرار، لكنها تخشى كذلك من أن يستخدمَها المجتمعُ الدولي نفسه بهذه الطريقة عندما تتجرأ دولةٌ ما على تهديد الهيمنة الأمريكية/الغربية. وتُشارِك دول ما بعد الشيوعية في أوروبا في الخوف الأول نفسه، لكن ما دامت تأمل وتتوقَّع أن تصبح جزءًا من القوة الغربية، المهيمِنة فإنها لا تُشارِك في هذا الخوف الأخير.

إذن فقد كان التحدي الرئيسي هو كيف نتعامل مع الإحساس الشائع بأن الدعم الدولي لحقوق الأقليات هو ببساطةٍ وسيلة للسياسات الجغرافية؟ وليس ذلك مشكلةً تقتصر على موضوع حقوق الأقليات؛ فهناك شكاوى مماثِلة ظهَرَت حول المعايير الغربية المزدوجة فيما يتعلق بحقوق الإنسان التقليدية، أو الديمقراطية. غير أن المنظمات الدولية وما يتبعُها من شبكات العمل السياسية استطاعت في مثل هذه الحالات أن تُقنِع قطاعاتٍ عريضةً من الصفوة والجمهور العام حول العالم بأن المُثل العليا الكامنة لحقوق الإنسان والديمقراطية لها قيمةٌ أصيلة، حتى لو أن هذه المُثل العليا كانت تُستدعى أحيانًا بشكلٍ غير مخلص أو بطريقةٍ تنطوي على نفاقٍ بواسطة ممثلين سياسيين معيَّنين؛ ومن ثَم فإن الاستجابة لاستخدام حقوق الإنسان من جانب القوى العظمى لا تكون بإضعاف الحماية الدولية، بل بالأحرى بمحاولة تقوية هذه الحماية وتعزيزها، أعني تطوير إجراءاتٍ محايدة أشد اتساقًا لمراقبة حماية حقوق الإنسان وتقييمها.

ومع ذلك ففي حالة حقوق الأقلية فإن الجهود التي تُبذَل لإقناع الناس في دول ما بعد الاستعمار بالمزايا الأصلية للمُثل العليا للتعددية الثقافية الليبرالية كانت أقلَّ نجاحًا. وكنتيجةٍ لذلك، استجابةً للتناقُضات والمعايير المزدوجة، كان هناك اختلافٌ أعظم حول ما إذا كان الهدف تقوية أو تخفيف الرقابة الدولية لحقوق الأقلية؛ فلو أن الحكومة الأمريكية طبَّقَت معاييرَ مزدوجةً بالنسبة إلى تركيا والعراق في موضوع الأكراد، فهل ينبغي أن تكون الاستجابة إضعافَ المساندة الدولية للحكم الذاتي لأكراد العراق، أو تقويتها لأكراد تركيا؟ وإن كانت هناك معاييرُ مزدوجة في الاستجابة الدولية لسوء معاملة الأقليات في السودان والفلبين فهل يجب أن تكون الاستجابة بإضعاف المساندة الدولية للحكم الذاتي للأقليات المسيحية في السودان، أم تقوية المساندة الدولية للحكم الذاتي للأقليات المسلمة في الفلبين؟

افترض كثيرون من مؤيدي حقوق الأقليات أن الهدف ينبغي أن يكون رفع المستوى، وليس الهبوط بالمستوى. وهذا ما أشرتُ إليه في الفصل الأول تحت اسم «ملء الإطار» بالنسبة إلى معايير حقوق الأقليات الدولية. لكن في غياب الإجماع على المزايا الأصيلة للتعددية الثقافية الليبرالية، ومراعاة الخوف من استخدامها كأداةٍ للسياسات الجغرافية، فإن ردَّ الفعل الأكثر احتمالًا هو الهبوط بالمستوى. وعلى حين أن كثيرًا من دول ما بعد الاستعمار مستاءةٌ من المعايير المزدوجة التي تُلاحظ في تطبيق معايير حقوق الأقلية، فإن معظم هذه الدول قد يفضِّل أن يتعامل معها بإضعاف المساندة الدولية لحقوق الأقلية، وليس بتقويتها، أعني أنها تفضِّل تفريغ إطار حقوق الأقليات الدولية، لا ملأه.

ولقد فسَّرَت هذه العناصرُ الثلاثة الأولى قدْرًا كبيرًا من مقاومة النماذج الليبرالية للتعدُّدية الثقافية بين صفوة الدول والجماعات المُسيطِرة في عالم ما بعد الاستعمار. حتى إذا كانت منجذبةً نحو مبادئ التعددية الثقافية الليبرالية وقبلَت الشرعية الفلسفية لبعض قضايا الأقليات، فربما تظل تُقاومها بشدةٍ على أساس أنها تشكِّل خطورةً قوية في ظل ظروفها الخاصة؛ ففي حالة اللاأمان الإقليمي المحاط بأعداءٍ مجاوِرين وقوًى دوليةٍ معادية، فمن الممكن أن تهدِّد ترتيباتُ الحكم الذاتي الأمن الأساسي للدولة. وفي غياب التماسُك الديمقراطي، من الممكن أن تمثِّل ترتيبات الحكم الذاتي تهديدًا لحياة وحرية المواطنين الأفراد الذين ينتمون إلى الجماعة «الخاطئة». وفي ظل هذه الظروف، فإن الهدفَ المقصود من التعددية الثقافية — استبدال علاقات العداوة والاستبعاد غير المتحضِّرة بعلاقاتٍ أكثر إنصافًا للمواطنة الديمقراطية الليبرالية — ربما يتم إفساده وتخريبه. والسياسات والمؤسَّسات المصمَّمة لتدعيم المواطنة في الدول المتعدِّدة العِرقيات قد يُسيطَر عليها من قِبل عناصرَ داخلية وخارجية تسعى إلى الإبقاء على علاقات العداوة والاستبعاد والمغالاة فيها.

ومع ذلك فإن معارضة التعددية الثقافية الليبرالية لا تُستمَد ببساطةٍ من هذه المخاطر العارضة لأمن الدولة ولحقوق الأفراد؛ فهناك عواملُ أخرى أيضًا في عالم ما بعد الاستعمار تدعو إلى التساؤل حول المبرِّرات المعيارية للتعددية الثقافية الليبرالية. والحقيقة أن بعضَ العوامل التي تجعل قضايا الأقليات في الغرب مشروعةً لا تُطبَّق بالقوة نفسها على أجزاءٍ أخرى من العالم.

رابعًا: التراث الاستعماري للهيراركيات العِرقية

العامل الرابع المهم الذي يؤثِّر في عالَم ما بعد الاستعمار هو على وجه الدقة تراثُ النظام الاستعماري للعلاقات بين العِرقيات؛ فقد كان الحكام الاستعماريون يتخوَّفون على نحوٍ طبيعي من الجماعات الكبيرة عدديًّا داخل مستعمراتهم، الذين يمثِّلون تهديدًا عظيمًا لحكمهم. ونتيجةً لذلك كثيرًا ما اختاروا تمييزَ أقلياتٍ داخل كل مستعمرة، لتجنيدها على نحوٍ غير متناسب في نظام التربية والتعليم الاستعماري، والنظام العسكري، وكذلك في النظام المدني. ولقد كان من المفترض أن تكون هذه الأقليات المتميِّزة أكثَر ولاءً للحكام الاستعماريين؛ لأنها إلى حدٍّ ما ربما تكون لها مخاوفها الخاصة تجاه الجماعات الأكبر. وهناك حالةٌ كلاسيكية تخُص أقلية التاميل في سريلانكا، التي كان البريطانيون يميِّزونها عن أغلبية السينهاليز Sinhalese.٢١
ونتيجةً لذلك، عندما تحقَّق الاستقلال، شعَرَت الجماعاتُ الكبيرةُ في كثيرٍ من دول ما بعد الاستعمار بأنها هي مَن كانت ضحيةً للظلم التاريخي، وأن الأقليات كانت هي المستفيدة من هذا الظلم؛ ومن ثَم فالعدالة لا تتطلب تقويةَ حقوق الأقليات، بل بالأحرى تقليصها.٢٢ بالفعل كان أحد أوَّل الأعمال التي قامت بها «دولة سريلانكا» المستقلة هو تقليص حقوق الأقليات من أهل تاميل Tamil، مما أدى في النهاية إلى حربٍ أهلية.
وكما رأينا في الفصل السادس، وُجدَت ظاهرةٌ مشابهة في كثيرٍ من دول ما بعد الاستعمار؛ حيث شعَرَت الأغلبية في الدول الحديثة الاستقلال بأنها ضحيةُ الظلم التاريخي على أيدي أقلياتها. وفي المقابل كانت الأقلياتُ المطالبة بحقوق الأقليات في الغرب ضحيةً للظلم التاريخي على أيدي جماعة الأغلبية بشكلٍ عام تقريبًا؛ فلغتها التاريخية على سبيل المثال كتبَتها الأغلبية المسيطِرة، كما استغلت مواردها الطبيعية، وأيضًا قمعَت أشكالها التقليدية للحكم الذاتي … وهكذا؛ ومن ثَم فإن مطلبها المعاصر بالحكم الذاتي تُسانِده واقعة أنها كانت ضحيةً للظلم التاريخي على أيدي الأغلبية المُسيطِرة. ويُمكِن أن تُرى مطالب التعددية الثقافية في هذا السياق على أنها «تصحيح لخطأٍ تاريخي». ومع ذلك فكثيرًا ما تُرى مطالب الحكم الذاتي لأقلياتٍ معيَّنة في دول ما بعد الاستعمار من وجهةِ نظرِ جماعةِ الأغلبية كمواصلةٍ للخطأ التاريخي واستمراره، مما يدعم مظالمَ المرحلةِ الاستعمارية التي تم تبنِّيها في الأصل لكبت جماعة الأغلبية.٢٣ وكما أن مطالب «حقوق الأقلية» للبيض في جنوب أفريقيا لم يكن لها سوى صدًى شعبيٍّ محدود، فقد لاقت مطالبُ الأقلياتِ الأخرى المتميزة تاريخيًّا آذانًا صماء.

خامسًا: الديموغرافيا Demography (علم السكان)

يرتبط عاملٌ آخر بديموغرافية التعدُّدية الِعرقية في الدول الغربية بالمقارنة بكثيرٍ من دول ما بعد الاستعمار. والواقع أنه في كل نظامٍ ديمقراطيٍّ غربي يتضح أن هناك جماعةً أغلبيةً مُسيطِرة هي التي تحكُم الدولة، وتستخدم هذه السيطرة لنشر لغتها، وثقافتها، وهويتها. والواقع أن الدولة تُسمَّى غالبًا على اسم هذه الجماعة المُسيطِرة التي ملَكَت الدولة حرفيًّا لنفسها.

وتُفهَم حقوق الأقلية في هذا السياق كوسائلَ لحماية الأقليات من الخطر الحاضر والواضح؛ خطر استخدام الأغلبية المُسيطِرة لسُلطتها على الدولة لدمج الأقليات أو استبعادها. ومن الواضح أن الحكم الذاتي هو وسيلةٌ مؤثِّرة وفعَّالة لحماية الأقليات من هذه الزاوية.

ومع ذلك، في كثيرٍ من دول ما بعد الاستعمار لم تكن هناك جماعة أغلبية؛ ففي كثيرٍ من البلاد الأفريقية — على سبيل المثال — لم تكن هناك جماعةٌ عِرقية تمثِّل أكثر من ٢٠٪ أو ٣٠٪ من عدد السكان. وفي هذا السياق قد يبدو أقل وضوحًا ما هي الأنواع المطلوبة من حقوق الأقليات. ومن المؤكَّد أن لأعضاء الجماعات العِرقية المختلفة مصلحةً مشروعةً في أن ينالوا مشاركةً عادلةً في منافع الدولة ومواردها، لكن ربما لا يكون هناك خوفٌ مماثلٌ من تعرُّضها لمشروعات الدمج في المجموعة القومية المُسيطِرة، فإذا لم تكن هناك مجموعةٌ واحدةٌ قادرة على الاستيلاء على السلطة في الدولة، واستخدامها كأداةٍ لنشر لغتها الخاصة، وثقافتها، وهويتها، عندئذٍ لا تكون الأقليات في حاجةٍ إلى حماية من خطرٍ معيَّن. وبهذا المعنى قد تقلُّ دواعي المطالبة بالحكم الذاتي لحماية الأقليات من دولةٍ مركزيةٍ غربية ثقافيًّا تسيطر عليها جماعةٌ عِرقية أخرى.٢٤

فإذا ما جمعنا هذه العوامل معًا، فينبغي ألا نندهشَ حين تفشل جلُّ المحاولات التي بُذلَت لدعم أفضل الممارسات للتعددية الثقافية الغربية؛ إذ يفترضُ خطابُ الغرب أن أقليات الأرض كانت من الناحية الثقافية الليبرالية هي طريقة لمعالجة الخطأ التاريخي، وتأكيد أنه لن يتكرَّر مرةً أخرى. ويفترضُ الخطاب الغربي أيضًا أن هذه القضية يُمكِن التفاوض حولها باعتبارها قضيةً سياسيةً محليةً مستقلة عن أمن الدولة الإقليمي، وأننا يُمكِن أن نتوقَّع من محصلة هذه المفاوضات المحلية، بثقة، أن تعمل داخل إطار النزعة الدستورية للديمقراطية-الليبرالية، وبالتالي أن تُسهِم في عملية «المواطنة».

هذه الافتراضات نادرًا ما تنطبق خارج الأنظمة الديمقراطية الغربية المستقرة. وتقترب أمريكا اللاتينية من التوافق مع النموذج الغربي؛ فكما هي الحال مع الأقليات في الغرب، كان السكان الأصليون في أمريكا اللاتينية تابعين بوضوحٍ لجماعةٍ مسيطِرة تاريخيًّا وتتحكم في الدولة، ويُمكِن النظر إلى التعددية الثقافية كطريقةٍ لعلاج هذا الظلم. وفضلًا عن ذلك؛ ولأن السكان الأصليين ليس لهم دولٌ قريبة أو طموحاتٌ انضمامية، يُمكِن تبنِّي إصلاحات التعدُّدية الثقافية كشأن من شئون السياسة المحلية، من دون إثارة مخاوف الأمن الجغرافي السياسي. وهناك ثقةٌ أكبر بأن المنظمات الدولية ليس هدفها زعزعة الأمن في هذه البلاد، فلن يُدهِشَنا إذن أن يكون لانتشار التعددية الثقافية الليبرالية بعضُ احتمالات النجاح في المنطقة.٢٥

ومع ذلك، فالظروف مختلفة في معظم آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط أتم الاختلاف؛ ففي كثيرٍ من دول ما بعد الاستعمار لا تُوجَد جماعة أغلبية مسيطرة تحكُم الدولة وتتحكَّم فيها، وحتى لو كان هناك مثل هذه الجماعة فإنها كثيرًا ما ترى نفسها على أنها ضحيةٌ للظلم التاريخي على أيدي الأقليات المتميِّزة التي تتعاون مع قوى الاستعمار. ويُنظَر إلى الحديث عن حقوق الأقلية على أنه استمرارٌ لذلك الظلم التاريخي. وفضلًا عن ذلك، في ظروف اللاأمن الإقليمي وضعف مؤسَّسات الدولة، يُنظَر إلى حقوق الأقليات على أنها تُشكِّل تهديدًا لكلٍّ من أمن الدولة وحقوق الأفراد، مما يُقوِّض محاولات تأسيس روابط المواطنة. كما أن محاولةَ المجتمعِ الدولي لتدعيم حقوق الأقليات كثيرًا ما يُنظَر إليها على أنها أداةٌ للسياسات الجغرافية التي يُقصَد بها دعمُ الهيمنة الغربية وإضعافُ أي دولةٍ تتحداها.

من أفضل الممارَسات إلى المعايير والمقاييس

إذا راعَينا هذه الظروف فلن يُدهِشَنا أن نجد أن الجهود التي بذلَتها المنظَّمات الدولية لتعميم أفضل الممارَسات للتعددية الثقافية الليبرالية في دول ما بعد الاستعمار قد نالت قَدْرًا قليلًا من النجاح كما في دول ما بعد الشيوعية، بل إن الظروف في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط كانت أقلَّ تبشيرًا بالتبنِّي الطوعي لنماذج التعددية الثقافية الليبرالية من الظروف في وسط وشرق أوروبا.

إن المنظَّمات الدولية التي تسعى إلى التأثير في علاقات الدولة بالأقلية قد حاولَت أن تُضيف إلى منطلَق أفضل الممارَسات استراتيجياتٍ أخرى أكثر تأثيرًا قد بدأَت تحديدًا، كما فعَّلَت المنظماتُ الأوروبية، مشروعَ تشكيلِ معايير ومقاييس قانونية وشبه قانونية من المتوقَّع أن تُوافِق عليها جميع الدول.

وكما رأينا في السياق الأوروبي، فإن أي محاولةٍ لتشكيل مقاييس ومعايير تُواجَه في الحال بمسألة الفئات، فهل كان الهدف هو تشكيل حقوق أقلية تنطبق على جميع الأقليات الثقافية العِرقية، أم تشكيل حقوق أقلياتٍ مستهدَفة، تنطبق على أنواعٍ معيَّنة من الأقليات، مثل السكان الأصليين، الأقليات القومية، المهاجرين أو الرعاة وهلُم جرًّا؟

إن الغزوة الأولى لهذا المجال بواسطة الأمم المتحدة تعكس استراتيجيةً شاملة؛ فكما رأينا، فُسِّر البند رقم ٢٧ للاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية في العام ١٩٦٦م، لكي يغَطي جميع الأقليات العِرقية الثقافية، سواء أكانت جديدة أم قديمة، كبيرة أم صغيرة، مركَّزة أم مشتَّتة إقليميًّا؛ ولهذا السبب تحديدًا، أثبتَت أنها لا تستطيع أن تتعامل مع المطالب المتميِّزة التي طالبَت بها أقلياتُ أرض الوطن التاريخية، التي كانت مطالبُها تضربُ بجذورها في وقائع الاستقرار التاريخي والتمركُز الإقليمي. لقد قرَّرَت المنظَّماتُ الأوروبية، استجابةً لهذه المشكلة، في أوائل تسعينيات القرن الماضي أن تتبنَّى منظورًا موجهًا يركِّز على موضوعاتٍ أثارتها الأقليات القومية.

لقد تبنَّت الأمم المتحدة استجابةً مختلفة لقصور البند رقم ٢٧، من ناحيةٍ حاولَت إحياء الاستراتيجية العامة بمحاولة تقوية حق الفرد في الاستمتاع بثقافته، بحيث يشمل أيضًا بعض الحقوق الإيجابية للأقلية. وكان ذلك هو الهدف من إعلان الأمم المتحدة حول حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية وعِرقية ودينية ولغوية، والذي تبنَّته الجمعية العمومية سنة ١٩٩٢م، ولجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في «تعليق عام على البند رقم ٢٧» في العام ١٩٩٤م.

ومع ذلك فإن هذه التأكيدات والتوسُّعات للمنظور العام تتضمن فقط تغيُّراتٍ طفيفة للمبادئ الأساسية للبند رقم ٢٧، وتبقى صامتةً بالنسبة إلى الموضوعات المتميِّزة المتعلقة بأقليات أرض الوطن، ومطالبها التي تضربُ بجذورها في التاريخ والأرض.

وهكذا بدأَت الأمم المتحدة في إعداد نسختها الخاصة من منظور الحقوق الموجهة، إلى جانب استراتيجيتها المستمرة للحقوق العامة. ومع ذلك فقد اختارت الأمم المتحدة أن تستهدف فئةً مختلفة من السكان الأصليين؛ فبينما تستهدف المعاييرُ الأوروبية الأقلياتِ القومية، تستهدف معاييرُ الأمم المتحدة السكانَ الأصليين … وذلك اختلافٌ مهم مع مضامينَ عميقة من أجل الانتشار العالمي للتعددية الثقافية الليبرالية، ونحن في حاجةٍ إلى أن نفهَم لماذا اختيرت هذه الأهدافُ المختلفة.

والخطوة الأولى هي أن نوضِّح المصطلحات: ما هو على وجه الدقة الاختلاف بين «الأقليات القومية» و«السكان الأصليين»؟ لقد استُخدمَت هذه المصطلَحات، مثل كثيرٍ من المصطلَحات الأخرى، لتصنيف الجماعات العِرقية الثقافية. إن لمصطلحات «السكان الأصليين»، و«الأقليات العِرقية» تعريفاتٍ متعارِضة وحدودًا غير واضحة. وهناك جوهرٌ واضح نسبيًّا وغير متنازَع عليها لكل فئة — وهو ما قد ننظر إليه على أنه نموذجٌ لكل نوعٍ من الجماعات — ثم هناك هامشٌ أكثر تشويشًا حيث تُصبِح محاولاتُ تطبيق المصطلَح محل نزاع.

لو أننا ركَّزنا انتباهَنا على الأمثلة الجوهرية المهمة لوجدنا أن مصطلحات مثل «السكان الأصليون» و«الأقليات القومية» تدُل على أنواعٍ مختلفة تمامًا لأقليات أرض الوطن. وللتبسيط أكثر، فقد ظهر مصطلح «السكان الأصليون» بشكلٍ أساسي في محيط دول العالم الجديد الاستيطانية، ويشير إلى السُّلالات التي تحدَّرَت من السكان غير الأوروبيين الأصليين في أراضٍ استعمرَتْها واستوطنَتْها قوًى أوروبية. ولقد كان معظم العمل المبكِّر في موضوع السكان الأصليين في منظمة العمل الدولية ILO والأمم المتحدة UN، على سبيل المثال، يركِّز على السكان «الهنود» في أمريكا اللاتينية، وفي المقابل فإن «الأقليات القومية» هو مصطلحٌ تم اختراعُه في أوروبا للإشارة إلى الجماعات الأوروبية الخاسرة من جرَّاء العملية الصعبة المتقلِّبة لتشكيل الدول الأوروبية عَبْر خمسة قرونٍ خلت، والتي انتهت أراضيها إلى الاندماج (الكلي أو الجزئي) في الدول الأكبر التي تُسيطِر عليها الشعوبُ الأوروبيةُ المُجاوِرة. وكانت الأقلياتُ القومية لاعبًا ناشطًا في العمليات التي تحوَّل بواسطتها ما كان مشوَّشًا ومختلطًا في الفترة الحديثة المبكِّرة من إمبراطورياتٍ وممالكَ وإماراتٍ في أوروبا، إلى دولةٍ أو نظامٍ حديثٍ لدولة القومية، ولكنهم إما أنهم انتهَوا بلا دولةٍ خاصةٍ بهم (أعني قومياتٍ بلا دولة، مثل الاسكتلنديين أو الشيشانيين)، وإما أنهم انتهَوا إلى الجانب الخاطئ من الحدود، معزولين بذلك عن شركائهم العِرقيين في الدولة القريبة المجاوِرة (مثل الألمان العِرقيين في إيطاليا أو المجريين في رومانيا).

وتلك هي الحالات الجوهرية في هاتَين الفئتَين. والطريقة الأولية غير الناضجة للتمييز بنيهما هي أن نقول إن الأقليات القومية اندمجَت في دولةٍ أكبر يسيطر عليها شعبٌ أوروبيٌّ مجاور، في حين أن السكان الأصليين قد استعمَروا واستقرُّوا بواسطة قوًى أوروبيةٍ استعماريةٍ بعيدة، لكنَّ هناك طرقًا أخرى لتحديد الفرق بين هذَين النوعَين من الجماعات تتبع هذا الاختلاف التاريخي؛ فمن المقبول على نطاقٍ واسع، على سبيل المثال، أن علمية إخضاع ودمج السكان الأصليين بواسطة المستعمرين الأوروبيين كانت أكثر وحشيةً وإزعاجًا من عملية إخضاع ودمج الأقليات القومية بواسطة مجتمعاتٍ مجاورة، وأن ذلك قد ترك السكان الأصليين أكثر ضعفًا وعُرضةً للخطر، وكثيرًا ما يُفترض أيضًا أن هناك اختلافًا «حضاريًّا» بين السكان الأصليين والأقليات القومية؛ ففي حين تشترك الأقليات القومية بشكلٍ نموذجي في نفس الهياكل أو البِنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الحديثة (الحضارية أو الصناعية) مع الشعوب الأوروبية المجاورة، فكثيرًا ما يُفتَرض أن السكان الأصليين أبقَوا على أساليبِ ما قبل الحداثة في الإنتاج الاقتصادي، وأنهم اعتمَدوا أساسًا على الزراعة والصيد كأسلوب حياة. وكنتيجةٍ للاستيطان الاستعماري الواسع النطاق، كثيرًا ما يُفتَرض أيضًا أن السكان الأصليين قد استبعَدوا إلى مناطقَ نائية ومعزولة، على عكس الأقليات القومية.

ومن ثَم ففي الحالات الجوهرية، وفي الاستخدام اليومي، يُشير المصطلحان إلى أنواعٍ مختلفة أتَم الاختلاف من الجماعات التي تضرب بجذورها في عملياتٍ تاريخيةٍ مختلفة، كما تختلف في خصائصها المعاصرة، بما في ذلك نقاط ضعفها، ونمط إنتاجها، وموطنها الطبيعي.

وإذا ما فهِمنا هذَين المصطلَحَين على هذا النحو فإنهما معًا سيرتدَّان في أصولهما إلى عملياتٍ تاريخيةٍ غربيةٍ متميِّزة. إن الأقليات القومية هي المتنازعة وهي في النهاية خاسرة في العملية البطيئة لتكوين الدولة داخل قارة أوروبا ذاتها، كما أن السكان الأصليين هم ضحايا لبناء الدول الأوروبية الاستيطانية في العالم الجديد؛ ولهذا، لا يتضح مباشرةً ما إذا كان يُمكِن تطبيقُ أيٍّ من المصطلحَين بطريقةٍ مفيدة خارج أوروبا والعالم الجديد. والواقع أن بلادًا متعددة في أفريقيا وآسيا أصرَّت على أنه لا تنطبق عليها أيٌّ من الفئتَين.٢٦

ومع ذلك فلو أننا ركَّزنا على مجموعة الخصائص المُعاصِرة التي تميِّز هذَين النوعَين من الجماعات، لأمكننا عندئذٍ أن نجد أنواعًا مشابهة في سياقاتٍ أخرى؛ ففي استطاعتنا، على سبيل المثال، أن نجد جماعاتٍ في آسيا أو أفريقيا تُشارِك في الضعف الثقافي، وفي اقتصاد ما قبل الحداثة، وفي بعض السكان الأصليين في العالم الجديد، حتى لو لم يكونوا رعايا لدولةٍ أوروبيةٍ مستوطنة. وتشتمل هذه الجماعات على «قبائل الجبال» و«شعوب الغابات» و«الرعاة».

وبالمثل فإننا نستطيع أن نجد جماعاتٍ في العديد من دول ما بعد الاستعمار تشبه الأقليات القومية الأوروبية كلاعبٍ نشط، لكنها سرعان ما تخسر في قضايا التحرُّر من الاستعمار وتشكيل دولة ما بعد الاستعمار. ولا بد أن يشمل ذلك جماعاتٍ مثل «التاميل Tamils» في سريلانكا، وأهل التبت في الصين، والأكراد في العراق، والأخنييز في إندونيسيا، والأورموس والتيغرايان في إثيوبيا، والفلسطينيين في إسرائيل؛ فهم مثل الأقليات القومية في أوروبا كان لديهم الأمل في تشكيل دولتهم الخاصة في مسار التحرُّر من الاستعمار، أو أن تكون لديهم على الأقل درجةٌ من الحكم الذاتي، وربما تم وعدُهم فعلًا بالحكم الذاتي لضمان تعاونهم في الصراع من أجل التحرُّر من الاستعمار، لكن انتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا جماعاتٍ تابعة لجماعاتٍ أقوى داخل دولةٍ أكبر، أو أن ينقسموا بين دولتَين أو أكثر من دول ما بعد الاستعمار.

ولذلك، فعلى حين أن التمييز بين السكان الأصليين والأقليات القومية، كنوعَين مختلفَين من أقليات أرض الوطن، له أصوله في أوروبا وفي الدول الأوروبية المستوطنة، فإن هناك طرقًا مقبولة لامتداد تطبيقه على العالم الكبير.

وبعد أن لخصنا التفرقة بين نوعَين من الجماعات فإننا نستطيع الآن أن نعود إلى السؤال: لماذا استهدفَت المنظمات الأوروبية الأقلياتِ القومية في حين استهدفَت الأمم المتحدة السكان الأصليين؟ والإجابة في الحالة السابقة، على نحو ما رأينا في الفصل السابق، هي أن المنظمات الأوروبية رأت أن الأقليات القومية في أوروبا ما بعد الشيوعية تمثِّل تهديدًا للسلام والأمن العالميين، مع مخاطرَ لا تتعلق فقط بالعنف داخل الدولة، بل أيضًا بآثارٍ قد تمتد لتُزعزِع المنطقة بأَسْرها. وعلى هذا الأساس أعلنَت المنظمات الأوروبية أن معالجة قضايا الأقليات القومية كانت مسألة اهتمامٍ دوليٍّ مشروع.

وعلى الرغم من ذلك، فقد رأينا في الأمم المتحدة تبريرًا مختلفًا لتطوير الحقوق الموجهة.٢٧ لم يكن هناك خوفٌ مشابه من أن يشكِّل السكان الأصليون تهديدًا للسلام والأمن الدوليَّين؛ ذلك لأن السكان الأصليين من ناحيةٍ ليبست لديهم دولٌ قريبة في الجوار من المُمكِن أن تطلب منهم أن يصبحوا طابورًا خامسًا، ومن ناحيةٍ أخرى لأنه يُنظر إليهم بصفةٍ عامة على أنهم يقعون خارج خطوط القتال الرئيسية للمنافَسة داخل الدولة والسياسات الجغرافية السياسية. وعلى أي حالٍ فإنهم كثيرًا ما يكون عددهم قليلًا جدًّا أو أبعد ما يكونون عن تشكيل تحدٍّ مؤثِّر لسلطة الدولة. كما أن جزءًا من الصورة المألوفة للأقليات القومية هو أنهم لاعبون محتملون أو بيادق في السياسة الجغرافية الإقليمية، فإن جزءًا من الصورة المألوفة للسكان الأصليين، هي أنهم معزولون عن السياسة الجغرافية الإقليمية.٢٨

ومن ثَم فتفسيرُ استهدافِ السكان الأصليين لم يكن بأنهم تهديدٌ للأمن الجغرافي السياسي، بل كان اهتمامًا أكثر إنسانيةً لحماية جماعةٍ ضعيفة بشكلٍ محدَّد.

كما رأينا في الفصل الثاني، فإن التعبير الأول عن هذا الاهتمام، انعكَس في مؤتمر منظمة العمل الدولية في العام ١٩٥٧م، وكان يتخذ شكل الوصاية على نحوٍ واضح، ويقوم على افتراض أن السكان الأصليين كانوا بالغي التخلُّف، غير قادرين على التعامل مع تحديات العالم الكبير. لقد كان اهتمامًا إنسانيًّا مطرَّزًا بالازدراء الثقافي، غير أن النماذج الأكثر تعددية ثقافية لحقوق السكان الأصليين، التي ظهَرَت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، رفضَت المنظور الأبوي، بينما ظلَّت تؤكِّد على خاصية الضعف المميز للسكان الأصليين تجاه مشاريع الدولة المفروضة للدمج والتنمية. إن تفسير هذا الضعف المتميِّز لم يعُد مقصورًا على نواقص وخواص ثقافة السكان الأصليين، بل بالأحرى بالطريقة الوحشية التي مارسَتْها الدول الأوروبية في استعمار السكان الأصليين واستيطانها بها. والطريقة التي سُلب بها السكان الأصليون واستعمارهم وتشتيتهم باسم «التنمية القومية» أصبحَت تمثِّل إحراجًا كبيرًا ليس فقط للدولة، لكن أيضًا للمنظمات الدولية التي كانت تدعَم مشروعات التنمية هذه.٢٩

ونحن نحتاج، كما أشرتُ في الفصل الرابع، إلى أن نفهَم هذه الأفكار الجديدة عن حقوق السكان الأصليين كمرحلةٍ ثالثة من مراحلِ صراعِ حقوق الإنسان فيما بعد الحرب ضد الهيراركيات العِرقية والعنصرية، المبنية على صراعاتٍ سابقة (القضاء على الاستعمار) والتمييز العنصري، الأفكار التي قدَّمَتها حركة «القوى الحمراء» التي ظهرَت في الولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي (وحركات السكان الأصليين المشابهة في بلاد العالم الجديد الأخرى) قد استُلهمَت بوضوحٍ من هذه الصراعات المبكِّرة، واعتمدت على خطاب كلٍّ من التخلُّص من الاستعمار ومعاداة العنصرية. وعندما اعتمَد المجتمع الدولي في البداية على مبدأ التخلُّص من الاستعمار فإنه طبَّق هذا المبدأ فقط على المستعمرات الخارجية فيما وراء البحار، وليس على السكان الأصليين الذين استعمرَتْهم دول الاستيطان الأوروبية في العالم الجديد. غير أن في ذلك تناقضًا واضحًا، من منظورٍ أخلاقي. والواقع أنه بالنظر إلى أن السكان الأصليين كانوا يخضعون ليس فقط للغزو الإمبريالي (كما هي الحال في مستعمرات أفريقيا وآسيا)، بل أيضًا للاستيطان الاستعماري؛ ففي استطاعة المرء أن يذهب إلى أنهم كانوا يتعرَّضون لظلمٍ أفدح من الاستعمار أكثر مما تُعاني منه المستعمرات فيما وراء البحار. وعلى أيِّ حال، فلا يكاد المجتمع الدولي يقبل مبادئ القضاء على الاستعمار والتمييز العنصري في الخارج، حتى يُصبِح من الصعب أن نُنكِر مطالب السكان الأصليين في مسألة الظلم التاريخي، أو نُنكِر ملاءمة شكلٍ ما من أشكال التخلُّص من الاستعمار (الداخلي).

ومن ثَم فإن الاهتمام والمساندة الدوليَّين لحقوق السكان الأصليين يعكسان خليطًا من الدوافع، معتمدين على حُججٍ أخلاقيةٍ قوية عن ظلم الاستعمار والتفرقة العنصرية، مصحوبة بأفكارٍ أبويةٍ متباطئة عن الضعف المتميِّز للثقافات «المتخلفة». لكنَّ أيًّا ما كان خليط المبرِّرات، فمن الواضح أنه دافعٌ مختلف عن ذلك الدافع الذي يدعم استهداف حقوق الأقليات القومية في أوروبا؛ فالأقليات القومية استُهدفَت لأسبابٍ تتعلق بالأمن الجغرافي السياسي. أما استهداف السكان الأصليين فقد حدث لأسبابٍ أخلاقية وإنسانية تتعلق بالظلم التاريخي وحماية الضعفاء.٣٠
وكل مجموعةٍ من هذه الأسباب هي أسبابٌ مشروعة تمامًا، يُعتمد عليها في مشروع تطوير الحقوق الموجهة، لكن لكلٍّ منها جوانب قصور تتطلب منا أن نكون على وعيٍ بها؛ فحقيقة أن معايير الأمم المتحدة لحقوق السكان الأصليين تقوم على اهتماماتٍ إنسانية بدلًا من الأمن الجغرافي السياسي هي مصدر قوة وضعف في آنٍ واحد؛ فعلى الجانب الإيجابي فإن غياب (أو على الأقل ضعف) قضايا الأمن الجغرافي السياسي قد جعل التقدُّم الجاد في تطويرِ معاييرَ قويةٍ لحقوق الأقليات أمرًا أكثر سهولة.٣١ وكما رأينا في الفصل السادس، فقد ثبت أن ذلك التقدُّم مستحيلٌ في سياق الأقليات القومية الأوروبية؛ فمخاوفُ الأمن الجغرافي السياسي الأساسية التي قادت المنظمات الأوروبية إلى استهداف الأقليات القومية قد منعَت أيضًا هذه المنظمات من التعامل مع الموضوعات المتميِّزة التي أثارتها الأقليات القومية، لا سيما قضاياها المتعلقة بالتاريخ والأرض. ونتيجةً لذلك فإنه المقاييس الأوروبية مستهدَفة من حيث الشكل، لكنها عامة من حيث المضمون، وبسبب هذا التناقُض فإن مشروع تطوير الحقوق الموجهة إلى الأقليات القومية كملحقٍ لحقوق الأقليات العامة معرَّض لخطر الانهيار.

من الواضح أن معايير الأمم المتحدة لحقوق السكان الأصليين تُخاطِب الحاجات والتحديات الخاصة بالسكان الأصليين؛ فهي تُستهدف من حيث الشكل والمضمون، وتركِّز بدقةٍ على الموضوعات المتميِّزة التي تثيرها حقيقة أن السكان الأصليين يعرِّفون أنفسهم بعلاقتهم بأرضهم التاريخية، ويعبِّرون عن رغبةٍ قوية في الاحتفاظ أو استعادة السيطرة السياسية على أنفسهم، وعلى مؤسَّساتهم، وعلى أراضيهم. والواقع أن جميع الوسائل الدولية التي تتعلق بالسكان الأصليين أعلنَت نيتَها احترام وتقدير هذه الصلة بين السكان الأصليين وأرضهم التاريخية.

والواقع أن هذه المقاييس والمعايير الدولية المتطوِّرة لحقوق السكان الأصليين قوية جدًّا بالفعل، عندما تكون عالية الطموح، في حين أن المقاييس الأوروبية تبدأ من حق الفرد في الاستمتاع بثقافته، الوارد في البند ٢٧، فإن معايير الأمم المتحدة للسكان الأصليين تبدأ من النسخة المعدَّلة؛ الحق في تقرير المصير في البند رقم ١. وتتضمن مسوَّدة العام ١٩٩٣م لإعلان الأمم المتحدة لحقوق السكان الأصليين، على سبيل المثال، البنود الآتية:

  • البند رقم ٣: للسكان الأصليين الحق في تقرير المصير. وبموجب هذا الحق، فإنهم يقومون، بحرية، بتقرير حالتهم أو مكانتهم السياسية، ويسعَون بحريةٍ إلى تنميتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
  • البند رقم ١٥: للسكان الأصليين الحق في تأسيس وإدارة أنظمتهم ومؤسَّساتهم التربوية التي تقدِّم التعليم بلغتهم الخاصة، وبطريقةٍ مناسبة لمناهجهم الثقافية في التربية والتعليم.
  • البند رقم ٢٦: للسكان الأصليين الحق في امتلاك، وتطوير، وإدارة، واستخدام الأراضي والأقاليم … التي كانوا يملكونها تقليديًّا أو كانوا يشغلونها أو يستخدمونها، ويشتمل ذلك على الحق في الاعتراف الكامل بقوانينهم وعاداتهم وأعرافهم، ومؤسَّساتهم ونُظمهم الخاصة بملكية الأرض لتطوير وإدارة الموارد.
  • البند رقم ٣١: للسكان الأصليين، كشكلٍ محدَّد من ممارسة حقهم في تقرير المصير، الحق في الحكم الذاتي في المسائل التي تتعلق بشئونهم الداخلية.
  • البند رقم ٣٣: للسكان الأصليين الحق في تدعيم، وتطوير وصيانة وبناء المؤسَّساتية وتقاليدهم القضائية المتميِّزة، وأعرافهم، وإجراءاتهم وممارساتهم، بما يتفق مع معايير حقوق الإنسان المعترف بها عالميًّا.٣٢

وباختصارٍ تعترف مسودة الإعلان بحقوق السكان الأصليين في أرضهم ومواردهم، فضلًا عن حقوقهم في الإدارة الذاتية لمؤسَّساتهم القانونية والسياسية والثقافية. وعلى الرغم من أن هذه البنود قد تم تقديمُها كحدٍّ أدنى من المعايير التي تُلزم جميع البلاد بالوفاء بها؛ فإنها في الواقع قريبةٌ جدًّا من أفضل الممارَسات للأنظمة الديمقراطية الغربية فيما يتعلق بالسكان الأصليين.

إن مسوَّدة الإعلان لا تزال مجرَّد مسوَّدة، لكن كما أثَرتُ فيما سبق، فإن أفكارها المحورية قد جُمعِت بواسطة أعضاء متنوعين داخل نظام الأمم المتحدة، وقد تم تشكيلُ أفكارٍ مشابهة بواسطة منظمة العمل الدولية ILO، وفي مسوَّدة الإعلان حول السكان الأصليين في منظمة الولايات الأمريكية؛٣٣ لذا فإن هذه الأفكار يجري تداولها على نطاقٍ واسع من خلال المنظمات الدولية وشبكات عملٍ سياسيةٍ عالمية، وكما سبق أن رأينا، فإن لديها تأثيرًا واضحًا، خاصةً في أمريكا اللاتينية.٣٤

وبهذه الطريقة، فإن معايير الأمم المتحدة المستهدفة للسكان الأصليين يمكن أن تُرى على أنها حقَّقَت نجاحًا أصيلًا؛ فهي تخاطب الحاجات المتميِّزة للسكان الأصليين بطريقةٍ مختلفة عن المقاييس الأوروبية المستهدفة للأقليات القومية؛ وبالتالي تقدِّم الدليل على أن الاستراتيجية الأساسية لتطوير مقاييس موجهة هي استراتيجيةٌ شرعية وربما تكون مؤثِّرة. والواقع أن كثيرًا من الشُّراح والمحلِّلين قد أشاروا إلى ظهور حقوق السكان الأصليين الدولية بوصفها واحدةً من الأمثلة القليلة الناجحة لاستخدام القانون الدولي كأداةٍ ﻟ «العولمة المضادة للهيمنة» (انظر: فولك، العام ١٩٩٩م و٢٠٠٠م).

إن المسار الموجه للسكان الأصليين يقوم على دوافعَ إنسانية، وليست أمنية، وهو ما جعل هذا التقدُّم المذهل أمرًا ممكنًا. ومع ذلك، فإن قرار التحول من تركيزٍ يلهمه الأمن على الأقليات القومية إلى تركيزٍ إنساني على السكان الأصليين له أيضًا جوانبُ من القصور؛ أحدها أنه يتركُنا بلا مقاييسَ قانونيةٍ عالمية تُخاطِب الاحتياجات والتحديات المتميِّزة التي أظهرَتْها الأقليات القومية في عالم ما بعد الاستعمار. ومع ذلك، فإن ما يمثِّل خطرًا كبيرًا على السلام، والأمن، وحقوق الإنسان، والتنمية في معظَم عالم ما بعد الاستعمار هو تحديدًا الصراعات التي تكون الجماعات العِرقية القومية أو جماعات الأقليات القومية طرفًا فيها. إن الصراعات العِرقية السياسية لجماعاتٍ مثل التاميل والأكراد والكشميريين والأوروموز Oromos هي التي شكَّلَت تهديدًا محتملًا للسلام والاستقرار الإقليميَّين، وليست صراعات الرُّعاة وسكان الغابات.

وربما كانت إحدى الاستجابات المحتمَلة لهذه الفجوة إلحاق معايير الأمم المتحدة الموجودة عن السكان الأصليين بمجموعةٍ أخرى من المعايير الموجهة إلى الأقليات القومية؛ أي تشكيل نسخةٍ عالميةٍ من اتفاقية المجلس الأوروبي الإطارية لحماية الأقليات القومية. وكما رأينا في الفصل الثالث، فإن هذا النوع من الاستهداف المتعدِّد سوف يعكس منطقَ التعددية الثقافية الليبرالية، الذي يتضمن مساحةً من المسارات القانونية المختلفة على مستوى الجماعة، بما فيها من مساراتٍ متميِّزة للأقليات القومية والسكان الأصليين.

ولسوء الطالع، فإن هذا في أفضل الأحوال هدفٌ طويل المدى للغاية. أما آفاقُ تطويرِ معاييرَ عالمية للأقليات القومية فهي غير موجودة في المستقبل المنظور، بسبب جميع الأسباب التي سبق أن ناقشناها. ولقد تراجَع الغرب عن تشكيل تلك المعايير في السياق الأوروبي، وليس ثمَّة مساندةٌ في الأمم المتحدة أو في أي منظمةٍ إقليمية للقيام بمثل هذا المشروع. والمحاولة الوحيدة التي أعرفها لتشكيل تلك المقاييس على مستوًى عالمي — أعني مسودة اتفاقية الحكم الذاتي من خلال الإدارة الذاتية المقدمة من ليختينشتاين٣٥ للأمم المتحدة العام ١٩٩٤م — لم تُناقَش جديًّا على الإطلاق أو حتى تُوضَع في الاعتبار؛٣٦ ولذلك فمن غير المُحتمَل أن يتغير إطار العمل الحالي في الأمم المتحدة، والذي يتبنَّى المعايير الموجهة للسكان الأصليين وليست للأقليات القومية.

لقد كان غياب الحماية الموجهة للأقليات القومية، بالنسبة إلى بعض المحلِّلين، ثغرةً مؤسفةً في المنظور السائد للأمم المتحدة، لكنها لا تُشكِّك في مدى مشروعية المعايير الموجهة للسكان الأصليين. وينبغي علينا أن نقوم بخطوةٍ إلى الأمام بمقدار ما نستطيع، وإذا كانت الظروفُ الحالية لا تَسمحُ إلا بالتقدُّم في مسار السكان الأصليين، فإن علينا أن نتقدَّم هنا إلى الأمام، ولا ننتظر حتى نستطيع التقدُّم إلى الأمام في جميع المسارات الموجهة المُمكِنة في وقتٍ واحد.

غير أن المسألة في رأيي أكثر تعقيدًا؛ فالتفرقة الحادة في الوضع القانوني بين السكان الأصليين والأقليات القومية تخلقُ عددًا من المفارقات والتأثيرات الضارة التي ربَّما تقتضي على استقرار مسار السكان الأصليين ذاته. وربما تكونُ الطريقة الوحيدة للمحافظة على نظام لحقوق السكان الأصليين هي أن نجد كذلك طريقةً لتطوير المعايير الموجهة للأقليات القومية.

ولكي نفهم المشكلة هنا، فإننا نحتاج إلى أن نتذكَّر كيف تتلاءم فئة السكان الأصليين داخل النماذجِ الأوسعِ من التعددية الثقافية الليبرالية في الغرب. وكما سبق أن أشرتُ، فإن كلًّا من السكان الأصليين والأقليات القومية يتم الاعترافُ بهم والتعاملُ معهم كأقلياتِ أرضِ الوطن في معظم الديمقراطيات الغربية. وهناك اختلافاتٌ اجتماعية وتاريخية مهمة بين نوعَي أقليات أرض الوطن، وهي تجلب معها تداعياتٍ قانونيةً في معظم البلاد الغربية، لكن من المهم ألا نُغفِل الخصائص المشتركة بينهما؛ فكلا النوعَين من الجماعات يُعامَل على أنه أقلياتُ أرض الوطن، وكلاهما مُنح الحكم الذاتي الإقليمي داخل الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الغربية. ومن هذه الزاوية فهما يتميَّزان عن الأقليات «الجديدة» التي تتألف من المهاجرين والعمال الزائرين واللاجئين. ومن منظور نظرية وممارسة التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، فإن السكان الأصليين والأقليات القومية ينتمون معًا كأقلياتِ أرضِ الوطن ذات الحكم الذاتي، إلى فئةٍ مختلفةٍ عن الأقليات الجديدة.

ومع ذلك، ففي الخطاب الدولي الذي ظهر، كانت الخصائص المشتركة المهمة بين السكان الأصليين والأقليات القومية غامضة، وخلقَت فجوةً مصطنعةً بين حقوق السكان الأصليين وأقليات أرض الوطن الأخرى. وفي أول الأمر كان هناك تبريرٌ أخلاقيٌّ مفهوم لهذا الاتجاه. وكما رأينا، فإن قهر المستعمرين الأوروبيين للسكان الأصليين كان عمليةً أشدَّ وحشيةً وتدميرًا من قَهر المجتمعات الأوروبية المجاورة للأقليات القومية، مما ترك السكان الأصليين أكثر ضعفًا؛ وبالتالي في حاجةٍ مُلِحة أكثر إلى الحماية الدولية. ونتيجةً لذلك كانت هناك حُجةٌ أخلاقيةٌ مقبولة لإعطاء الأولوية للسكان الأصليين على حساب الأقليات القومية في توثيق حقوق الحكم الذاتي في القانون الدولي، وحتى إذا كانت الحُجَج المعيارية الأساسية للحكم الذاتي تنطبق على الاثنَين.٣٧

ومع ذلك، فإن ما بدأ كاختلافٍ في الأهمية والأولوية النسبية بين قضايا السكان الأصليين والأقليات القومية قد تطوَّر إلى تصدُّعٍ كاملٍ تقريبًا بين الاثنَين على مستوى القانون الدولي. من خلال مدًى واسعٍ من الوثائق والإعلانات الدولية، فُصلَت شعوب السكان الأصليين عن أقليات أرض الوطن الأخرى، واقتصَرَت مطالب الأرض والحكم الذاتي على الأولى. وفي المقابل فإن الأقليات القومية قد جُمعَت مع أقلياتٍ جديدة ولم تُمنَح سوى حقوق الأقليات العامة، في تجاهُل لحاجاتها وطموحاتها المتميِّزة والمرتبطة بالاستقرار التاريخي والتمركز الإقليمي. ونتيجةً لذلك فإن التمييز بين السكان الأصليين وأقليات أرض الوطن الأخرى قد تطلَّب اهتمامًا وصرامةً داخل القانون الدولي كانا مفقودَين تمامًا في نظرية وممارسة التعددية الثقافية الليبرالية.

هذه المحاولة لإيجادِ تفرقةٍ حادة في القانون الدولي بين السكان الأصليين والأقليات القومية تُثير عددًا من الأسئلة الصعبة؛ فهي تخلُق: (١) تناقضات أخلاقية، (٢) إرباكًا مفاهيميًّا، (٣) دينامياتٍ سياسيةً غير مستقرة. ودعونا نشرح هذه النقاط.

إن التفرقة الحادة في الحقوق بين النوعَين من الجماعات متناقضةٌ أخلاقيًّا؛ لأنه أيًّا كانت الحُجَج الموجودة للاعتراف بحقوق الحكم الذاتي للسكان الأصليين فإنها تنطبقُ أيضًا على مطالب الحكم الذاتي لجماعات الأرض الضعيفة الأخرى والمظلومة تاريخيًّا. وفي بحثٍ مثيرٍ للاهتمام، قارنَت ميريام أوكرمان مطالب السكان الأصليين بتلك المطالب المتعلقة بالأقليات القومية في بلاد ما بعد الشيوعية، ولاحظَت التشابُهات القوية في الأهداف والمبرِّّرات الأساسية، كما أوضحَت أن «السكان الأصليين والأقليات [القومية] في وسط وشرق أوروبا تشترك في هدفِ المحافظة على ثقافتهم المتميِّزة، وتبرِّر مطالبها للحقوق المختلفة على مستوى الجماعة بالدعاوى المتشابهة للحكم الذاتي، والمساواة، والتعدُّد الثقافي، والتاريخ، والضعف» (ميريام أوكرمان، ٢٠٠٠م، ص١٠٤٥).

والواقع أن ذلك واضحٌ من تفسيرات وتبريرات الأمم المتحدة نفسها لمسار السكان الأصليين المستهدف. لقد طُلب من كلٍّ من كقعد جماعة العمل من أجل الأقليات في الأمم المتحدة (أسبيورن إيدي) ومقعد جماعة العمل لتعداد السكان الأصليين (إيريكا آيرين دايس) أن يكتُبا ملحوظةً عن فهمهما للفَرق بين السكان الأصليين والأقليات (إيدي ودايس، ٢٠٠٠م). في محاولةٍ لتفسير أحقية شعوب السكان الأصليين أكثر من تلك المتوافرة لجميع الأقليات بنص البند ٢٧ العام، فإن المقعدَين يتعرَّفان على الاختلافات الثلاثة الأساسية الآتية:
  • (أ)

    في حين تسعى الأقليات إلى الدمج المؤسَّساتي، يسعى السكان الأصليون إلى الاحتفاظ بدرجةٍ من الاستقلال المؤسَّساتي.

  • (ب)

    بينما تسعى الأقليات إلى الاحتفاظ بالحقوق الفردية، فإن السكان الأصليون يسعَون إلى الحقوق جماعية الممارَسة.

  • (جـ)

    في حين تسعى الأقليات إلى عدم التفرقة، يسعى السكان الأصليون إلى الحكم الذاتي.

وهذه كلها اختلافاتٌ مهمة بين السكان الأصليين وجماعات اللاأرض، كالمهاجرين، ولكنها لا تميِّز السكان الأصليين عن الأقليات القومية. من جميع النواحي تقَع الأقليات القومية في الجانب نفسه من المعادلة الذي يقع فيه السكان الأصليون.

وفي وثيقةٍ سابقة أُعدَّت لجماعة العمل لتَعْداد السكان الأصليين، قدَّمَت دايس تقريرًا مختلفًا بعض الشيء (دايس، ١٩٩٦م)؛ فقد بدأَت بالقول إن السمة الحاسمة التي يتميَّز بها السكان الأصليون، بالمقارنة بالأقليات بشكلٍ عام، هي تعلُّقُهم القويُّ بالمنطقة التقليدية التي ينظُرون إليها على أنها أرضُهم أو وطنُهم التاريخي. وكما تقول دايس: «إن تعلُّقهم بأرض الوطن يحدِّد برغم ذلك هُوية وسلامة جماعة السكان الأصليين، اجتماعيًّا وثقافيًّا، وقد يُوحي ذلك بتعريفٍ ضيِّق جدًّا، غير أنه دقيقٌ ﻟ «السكان الأصليين»، وكافٍ لكي يطبَّق على أي موقفٍ؛ حيث تكون المشكلة هي تمييز السكان الأصليين عن الطبقة الأكبر من الأقليات» (دايس، ١٩٩٦م، الفقرة ٣٩)، بيد أن هذا المقياس — «التعلق بأرض الوطن» — من الواضح أنه يميِّز أقلياتِ أرضِ الوطن بشكلٍ عام، بمن فيهم الأقليات القومية، وليس السكان الأصليين على وجه التحديد.

وكما تبيِّن هذه الاقتباسات، فإن المناقشات داخل الأمم المتحدة حول التفرقة بين السكان الأصليين والأقليات تتجاهل بشكلٍ نظامي وجود الأقليات القومية. وتذهب دايس، مثلًا، إلى أنه «يمكن أن نتعرف على عنصرَين على الأقل [في حالة السكان الأصليين] لا يرتبطان أبدًا بمفهوم «الأقليات»؛ الأسبقية في الزمن والتعلق بأرضٍ معينة» (دايس، ١٩٩٦م، الفقرة ٦٠). غير أن هذه الأفكار قد ارتبطَت باستمرار مفهوم الأقلية القومية.

أو انظُر إلى الملخَّص الختامي لدايس عن الفَرق الأساسي بين الأقليات والسكان الأصليين:

«إذا ما وضَعنا في اعتبارنا المشكلةَ المفاهيمية (مشكلة تمييز السكان الأصليين عن الأقليات)، فإنني أودُّ أن أذهب إلى أن النوع المثالي من «السكان الأصليين» هو جماعةٌ أصلية (من أول السكان) في المنطقة التي يقيمون اليوم فيها، واختاروا الاحتفاظ بهويةٍ ثقافية متميزة ومنظمةٍ سياسية واجتماعية متميِّزة داخل المنطقة، إن النموذج المثالي ﻟ «الأقلية» هو جماعةٌ مرَّت بتجربة الاستبعاد أو التمييز بواسطة الدولة أو مواطنيها بسبب السمات العِرقية، والقومية، والدينية، أو اللغوية لأجدادها؛ ومن ثم فإن النموذج المثالي ﻟ «الأقلية»، من منظور الفائدة، يركِّز على تجربة الجماعة في التمييز؛ لأن نية المعايير الدولية العالمية هي أن تحارب التمييز، ضد الجماعة ككل وضد أعضائها الأفراد، وتوفير الفرصة لهم في دمج أنفسهم بحريةٍ في الحياة القومية بالدرجة التي يختارونها. وكذلك، فإن النموذج المثالي ﻟ «السكان الأصليين» يركِّز على الأصالة، والإقليمية، والرغبة في البقاء متميِّزين بشكلٍ جماعي، وهي كلها عناصرُ مرتبطة بشكلٍ منطقي بممارسة حق تقرير المصير الداخلي، والحكم الذاتي» (إيدي ودايس، العام ٢٠٠٠م، الفقرة ٤٨، ٤٩).

وهذا ملخَّصٌ جيد للتمييز بين النموذجَين المثاليَّين للجماعات، لكنه لا يقدِّم تفسيرًا أو تبريرًا لتمييز شعوب السكان الأصليين عن أقلياتِ أرضِ الوطن الأخرى.

وفي جميع مقاييس دايس، نجد أن الأقليات القومية والسكان الأصليين ينضويان تحت النموذجِ المثاليِّ نفسه القائم على المنطقة والحكم الذاتي، في حين تنضوي الأقليات الجديدة والمشتتة تحت النموذج الآخر.

دايس ليست غافلةً عن هذه المشكلة؛ فهي تعترفُ بأنه ربما كان من الصعب أن نجد أساسًا مبدئيًّا لتمييز مطالب السكان الأصليين عن أقلياتِ أرضِ الوطنِ الأخرى. ومع ذلك فهي تُصِر على أنه في الممارسة فإن هذَين النوعَين من الجماعات يتقدَّمان بمطالبَ مختلفة: «تبقى الحقائقُ أن السكان الأصليين والأقليات تنظِّم نفسَها بشكلٍ منفصل وتميل إلى تأكيدِ أهدافٍ مختلفة، حتى في تلك البلاد التي تظهر فيها مختلفةً اختلافًا طفيفًا من حيث السمات «الموضوعية» (إيدي ودايس، ٢٠٠٠م، الفقرة ٤١). ويقول ستيفن ويتلي بفكرةٍ مشابهة: «ليس ثمَّة تفرقةٌ موضوعية يُمكِن أن نقولَ بها بين الجماعات التي تُعرَف باسم الأقليات، والأقليات القومية، والسكان الأصليين، والشعوب. إن ما يميِّز هذه الجماعاتِ هو طبيعةُ مطالبها السياسية؛ ببساطةٍ تُطالِب الأقليات، والأقليات القومية بالأمن الثقافي، وتُطالِب الشعوبُ بحقها في تقرير المصير والحكم الذاتي» (ويتلي، ٢٠٠٥م، ١٢٤).

وهذه مطالبُ غير عادية. على نحو ما رأينا، فإن تاريخ المناقشات الأوروبية كله حول «مشكلة الأقليات» تَشكَّل بالتحديد بواسطة حقيقة أن الأقليات القومية تقدِّم بالفعل مطالبَ الحكم الذاتي وليس الأمن القومي فقط.٣٨ وليس في أوروبا فقط. كما رأينا في الفصل الثاني، فإن موجة تحديد المعايير العالمية فيما يخصُّ حقوقَ الأقليات في أوائل تسعينيات القرن الماضي، جاءت بسبب الخوف من تزايد الحروب الأهلية العِرقية بين الدول وجماعاتها القومية الفرعية. وبينما يرجع اهتمام الأمم المتحدة بالسكان الأصليين إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فإن الانفجار المفاجئ للاهتمام الموجه إلى «الأقليات» في مناقشات الأمم المتحدة يعود إلى نهاية الحرب الباردة، والنزاعات العِرقية التي أطلقَتها. إن الخوف من «الجحيم العِرقي» يقوم بالتحديد على واقع أن الصراعات من أجل الحكم الذاتي لا تُوجَد بين شعوب السكان الأصليين فقط، بل أيضًا بين كثيرٍ من الجماعات العِرقية القومية الفرعية حول العالم. ومع ذلك فإن المناقشات الدائرة حول حقوق الأقليات داخل الأمم المتحدة يبدو أنها تعمل على مقدمةٍ تقول إن ظاهرةَ قومية الأقليات لا وجود لها؛ إن الأقليات، وفق التعريف، لا تسعى إلى الحكم الذاتي؛ أي إن المشكلة الأساسية التي ساعدَت على توليد اهتمامٍ دوليٍّ بحقوق الأقلية بعد الحرب الباردة في المقام الأول أُنكِر وجودها.

إذا رفضنا أن نُغمِض أعيننا عن ظاهرة الأقليات القومية، فإن التناقضات الأخلاقية في إطار العمل الحالي للأمم المتحدة تصبح ملحوظةً جدًّا.

الواقع أن جميع المبادئ والحُجَج الأخلاقية المقدَّمة داخل الأمم المتحدة من أجل حقوقٍ موجهة إلى السكان الأصليين تنطبق أيضًا على الأقليات القومية، والهوة الخطيرة بين النوعَين من الجماعات ينقصها التبرير الأخلاقي الواضح. ولأسبابٍ سياسية، ربما يكون من المستحيل أن تمتدَّ المعايير الدولية للحكم الذاتي إلى الأقليات القومية.

فالدول، كما سبق أن رأينا، أقلُّ استعدادًا للموافقة على مطالب الحكم الذاتي لجماعاتٍ تشكِّل تهديدًا خطيرًا للدولة، وتميل هذه الجماعاتُ إلى أن تكون أقلياتٍ قومية بدلًا من شعوب السكان الأصليين. لكن ينبغي علينا ألا نُضفِي على هذا الاعتبارِ السياسي صفةَ المبدأ الأخلاقي، أو أن نتجاهَل التناقُضات الأخلاقية التي تتولَّد عنه.

إن محاولةَ رسمِ تفرقةٍ حادة في الوضع القانوني بين الأقليات القومية والسكان الأصليين ليست مشكلةً أخلاقية فحسب، بل أيضًا مسألةٌ غير مستقرة من حيث المفهوم؛ فالمشكلة ليست ببساطةٍ كيف نُبرِّر الاختلاف الحاد في الحقوق القانونية بين الأقليات القومية والسكان الأصليين، بل كيف نعرف النموذجين في المقام الأول. إن التمييز بين السكان الأصليين وأقليات أرض الوطن الأخرى من الصعب تحقيقه خارج الحالات الأساسية الأصلية لأوروبا والدول الأوروبية الاستيطانية.

ولقد سبق أن رأينا أنه في الغرب هناك تفرقةٌ واضحة، إلى حدٍّ ما، بين الأقليات القومية الأوروبية والسكان الأصليين في العالم الجديد؛ فكلٌّ منهما جماعاتُ أرض الوطن، غير الجماعة الأولى (الأقليات القومية الأوروبية) قد أدمجَت في الدول الأوسع التي يحكمُها شعبٌ مجاور، في حين أن الجماعة الثانية (السكان الأصليين) تم استعمارُها واستيطانُها عن طريقِ قوًى استعماريةٍ بعيدة. وليس من الواضح تمامًا كيف يُمكِننا أن نحدِّد هذا التمييز في أفريقيا، أو آسيا، أو الشرق الأوسط، أو ما إذا كان للفئات معنًى؛ فبناءً على تعريفنا للمصطلَحات، في استطاعتنا أن نقول إنه ليست ثمَّة مجموعةٌ من مجموعات أرض الوطن في هذه المناطق تُعَد من «السكان الأصليين»، أو أنها كلها منهم.

وبمعنًى ما من المعاني، ليست ثمَّة جماعة في أفريقيا، أو آسيا، أو الشرق الأوسط تتناسب مع الصورة التقليدية للسكان الأصليين. وجميع أقليات أرض الوطن في هذه المناطق تم دمجها في دولٍ أكبر تتحكَّم فيها جماعاتٌ مجاورة، لا دول استيطانية يتحكم فيها مستوطنون أوروبيون.٣٩ وبهذا المعنى فهي أقربُ إلى صورة الأقليات القومية الأوروبية منها إلى شعوب السكان الأصليين في العالم الجديد؛ ولهذا السبب فإن العديد من البلدان الآسيوية والأفريقية تُصِر على ألا تُلقَّب أيٌّ من أقلياتها ﺑ «السكان الأصليين».
ومع ذلك، وبمعنًى آخر، يُمكِننا أن نقول إن كل جماعات أرض الوطن في هذه المناطق (بما فيها جماعات الأغلبية المُسيطِرة) هم سكانٌ أصليون. وفي أثناء فترة الحكم الاستعماري، فإن كل الجماعات المستوطنة تاريخيًّا، الأغلبية والأقلية على السواء، كانوا يُلقَّبون بأبناء البلد أو السكان الأصليين بالنسبة إلى الحكام الاستعماريين، وبهذا المعنى، فإن كل جماعات أرض الوطن في بلاد ما بعد الاستعمار (بما فيها الجماعات المُسيطِرة) هم كذلك سكانٌ أصليون، وبالفعل فإن حكومات كثيرٍ من البلاد في آسيا وأفريقيا أعلنَت أن جميع جماعاتها، سواء كانت أغلبية أو أقلية، ينبغي أن تُعتبَر من «السكان الأصليين».٤٠

ولقد أدَّى هذان المنظوران إلى نتائجَ مضادةٍ تمامًا، لكن سواء قلنا إن جميع الجماعات هي من السكان الأصليين أو أيًّا منها ليس من السكان الأصليين، فالنتيجة في كلتا الحالتَين هي تقويض إمكان استخدام فئة «السكان الأصليين» كأساسٍ أو قاعدةٍ للمعايير الموجهة في دول ما بعد الاستعمار؛ ولهذا السبب، فقد ذهب بعض المحلِّلين إلى أن الفئة القانونية للسكان الأصليين مضلِّلة، ولا ينبغي استخدامها، في أفريقيا وآسيا (انظر: بيتاي، العام ٢٠٠٠م). ومع ذلك، فإن نتيجة هذا المنظور لا بد أن تترك بعضَ أقلياتِ أرض الوطن الأكثر ضعفًا في العالم من دون أي شكل مجد من الحماية الدولية، وإذا كانت معايير السكان الأصليين الموجهة لا تنطبق على آسيا وأفريقيا، فإن ذلك لا يترك لنا سوى حقوق الأقلية (الضعيفة جدًّا) في ظل البند الرقم ٢٧، وتلك لا تقدِّم أي حمايةٍ للمصالح المرتبطة بأرض الوطن.

ومن ثَم فمن أجل الاستفادة من حماية القانون الدولي، حاولَت العديدُ من المنظمات الدولية وما يتبعُها من شبكاتِ عملٍ سياسيةٍ عالمية أن تُعيد صياغة مفهوم فئة السكان الأصليين لكي تغَطي على الأقل بعضَ أقلياتِ أرض الوطن في بلاد ما بعد الاستعمار، ومن هذه الوجهة من النظر ينبغي ألا نركِّز على السؤال عما إذا كان يسيطر على أقليات أرض الوطن المستوطنون من قوًى استعماريةٍ بعيدة أو من شعوبٍ مجاورة. ما يهم، ببساطة هو حقيقة السيطرة والضعف، وإيجاد وسائلَ مناسبة لعلاجهما،٤١ وإن كانت جماعات أرض الوطن تُعاني السيطرة والضعف، فإن علينا أن نستخدم مسار السكان الأصليين لحمايتها، حتى لو كان قاهروهم هم جيرانهم التاريخيين وليسوا المستعمرين والمستوطنين من زمنٍ بعيد؛ ولذلك، شجَّعَت العديد من المنظمات الدولية جماعاتٍ في أفريقيا وآسيا على أن تعِّرف نفسها كشعوبِ سكانٍ أصليين من أجل الحصول على أعظمِ قدْرٍ من الظهور والحماية الدوليَّين.٤٢

وهذه الدفعة لمد فئة السكان الأصليين لتتعدى حالتها الأساسية في العالم الجديد يمكن تفهُّمها على نحوٍ كامل؛ فهي نتيجةٌ منطقية، وربما حتمية أيضًا، للدافع الإنساني الذي أدى إلى استهداف شعوب السكان الأصليين في المقام الأول، ما دام الدافع إلى استهداف فئة الجماعة هذه كان الضعف المميز لشعوب السكان الأصليين في دول العالم الجديد الاستيطانية، فقد كان من الطبيعي أن نوسِّع الفئة لتشمل جماعاتٍ في أماكنَ أخرى من العالم تُشارِكها جوانب الضعف نفسها، حتى لو لم تتعرَّض للاستيطان الاستعماري.

إن السؤالَ الصعبَ الذي يُثيره ذلك هو كيف نتعرَّف على جماعات أرض الوطن في أفريقيا وآسيا التي ينبغي تحديدها على أنها السكان الأصليون لأغراض القانون الدولي، وعلى أي أساس؟ ليس ذلك سؤالًا جديدًا؛ فهناك تاريخٌ طويل من المجهودات التي بُذلَت لمقارنة أو لمساواة الوضع القانوني للسكان الأصليين في العالم الجديد مع ذلك الذي يتعلق بالجماعات الأخرى في مناطقَ أخرى من العالم، فقد كان من الشائع، على سبيل المثال، مساواة وضع السكان الأصليين بمن يُطلَق عليهم «عشائر» أو «قبائل الجبال» في جنوب آسيا أو «قبائل البدو» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبالفعل، ربط أول إعلانٍ دولي لحقوق السكان الأصليين — اتفاقية منظمة العمل الدولية الرقم ١٠٧، العام ١٩٥٧م — بشكلٍ خاص حالة «القبائل» في آسيا أو أفريقيا بحالة السكان الأصليين في العالم الجديد، وكان عنوان هذه الاتفاقية ١٠٧ «حول حماية وتكامل القبائل والسكان الأصليين»، كما يُوحي عنوان الاتفاقية، وكما يوضِّح النص، فمنظمة العمل الدولية في ذلك الوقت كانت تنظُر إلى السكان الأصليين والقبائل كنموذجَين متميزَين من الجماعات، وإن تكن لهما مصالحُ متصلة يرتبط بعضها ببعض، كلاهما يُوصَفان بأنهما «أقل تقدمًا» في ظروفهما الاقتصادية والاجتماعية، وضعاف ثقافيًّا، لكنهما يختلفان في علاقاتهما بالاستعمار؛ فجماعات «السكان الأصليين» في العالم الجديد تُوصَف بأنها سُلالة لمجتمعاتٍ وُجدَت في زمن الاحتلال والاستعمار، في حين أن جماعات «القبائل» في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، لم تحدد ملامحها وفقًا للاحتلال والاستعمار.

وعلى حين لاحظَت منظمة العمل الدولية التفرقة والتمييز بين هذَين النوعَين من الجماعات، فإنها عاملَت كلًّا منهما وفقًا لاتفاقية العام ١٩٥٧م؛ لأنها نظرَت إليهما على أنهما «متخلِّفتان» وعاجزتان عن التعامل مع تحدِّيات الحداثة؛ ومن ثَم فهما في حاجةٍ إلى حمايةٍ خاصة، ووفقًا لما رأته «منظمة العمل الدولية» في ذلك الوقت فإن هذا التبرير الأبوي للحقوق الموجهة انطبق بالتساوي على السكان الأصليين في العالم الجديد والجماعات القَبَلية في العالم الثالث. وقد قبل العديد من الدول في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط هذه الحُجَّة، والواقع أن اتفاقية منظمة العمل الدولية العام ١٩٥٧م لم يوقِّع عليها فقط عددٌ من بلدان العالم الجديد فقط، بل أيضًا إحدى عشرة دولةً في أفريقيا وآسيا قبلَت الالتزام بحماية قبائلها (رودريغز – بينيرو، ٢٠٠٥م، ص٢٣٤–٢٤٢).

مع ذلك، فإن تلك المحاولة الأولى لمنظمة العمل الدولية للربط بين جماعة السكان الأصليين في العالم الجديد والجماعات القبَلية الأفريقية والآسيوية قامت على ازدراءٍ ثقافيٍّ شائع ﻟ «تخلُّفها». ولن نكاد نطرح جانبًا ذلك الموقفَ الأبويَّ المتعالي، حتى يقلَّ وضوحًا ما إذا كان هناك معنًى لمعاملة النوعَين من الجماعات معًا وفقًا للقانون الدولي. وكما لاحظت من قبل فإن الأفكار الأكثر حداثة عن حقوق السكان الأصليين ليست قائمةً على الأبوية، لكنها بالأحرى تقوم على خطاب القضاء على الاستعمار الداخلي المُستمَد من منطق وأساليب الصراع للقضاء على الاستعمار الخارجي والتمييز العنصري، وهذه المفاهيم الأحدث لحقوق السكان الأصليين تلجأ إلى ألوان الظلم التي تتضمَّنها عملية الاستيطان الاستعماري، وتستدعي حقوق تقرير المصير الداخلي كطريقةٍ للتعويض عن ذلك الظلم التاريخي. وإذا سلمنا بهذا التحول إلى نموذجٍ لحقوق السكان الأصليين قائمٍ على القضاء على الاستعمار، فلم يعُد من الواضح ما إذا كانت القبائل تتلاءم مع هذا الإطار المفاهيمي الجديد لحقوق السكان الأصليين، لقد كان لربط السكان الأصليين بجماعات القبيلة معنًى عندما كان التبرير الأساسي هو الحماية الأبوية لثقافاتٍ «متخلِّفة»، لكن إذا كان التبرير الأساسي هو القضاء على الاستعمار فليس من الواضح لماذا ينبغي أن تستمرَّ تغطية القبائل تحت معايير حقوق السكان الأصليين، إذا سلَّمنا بأن تعريف منظمة العمل الدولية ليس محددًا بتاريخٍ من الاحتلال أو الاستعمار.

ولذلك، لم يكن مفاجئًا أن يتبع تَخلِّيَ منظمة العمل الدولية عن منطلقها الأبوي السابق وتحوُّلها إلى نموذجٍ جديد لحقوق السكان الأصليين يقوم على القضاء على الاستعمار في اتفاقية العام ١٩٨٩م، انسحابُ عددٍ كبير من البلدان في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط؛ فقد افترضت هذه البلدان أن الاتفاقية الجديدة القائمة على الاستعمار تنطبقُ فقط على شعوب السكان الأصليين في دول ما بعد العالم الجديد الاستيطانية، ولا تنطبق على القبائل في دول ما بعد الاستعمار، في حين أن إحدى عشرة دولةً في أفريقية وآسيا والشرق الأوسط قد وقَّعَت على اتفاقية العام ١٩٥٧م لحماية القبائل الضعيفة، ولم توقع أي دولة في هذه المنطقة على اتفاقية العام ١٩٨٩م للقضاء على استعمار السكان الأصليين؛ حيث إن هذه الدول لا تفكر في نفسها على أنها استعمَرت أو احتلَّت القبائل التي تقع داخل حدود الدولة (الحدود التي غالبًا ما تم ترسيمها من قبل الحكام الإمبرياليين الأوروبيين)، وهم لا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ملتزمون أخلاقيًّا أو قانونيًّا للقضاء على استعمار هذه الجماعات؛ إذ تذهَب هذه الدول إلى أن العلاقات بين دول ما بعد الاستعمار وسكانهم من القبائل تختلف اختلافًا أساسيًّا وتاريخيًّا وأخلاقيًّا عن العلاقة بين دول الاستيطان والسكان الأصليين.

إن افتقاد المساندة لاتفاقية منظمة العمل الجديدة في داخل أفريقيا وآسيا يمكن أن نراه نتيجةً منطقيةً للتوكيد الجديد على نموذج القضاء على الاستعمار الداخلي، ومع ذلك فإن معظم المنظمات الأوروبية تُقاوِم النتيجة التي تقولُ إن اتفاقيةَ منظمة العمل الدولي الجديدة يجب أن تطبَّق فقط على العام الجديد، وهي تضغط على دولٍ في أفريقيا وآسيا لكي توقِّع على اتفاقية منظمة العمل الدولية الجديدة، وأن تقبل أن تدرج بعض أقليات أرض الوطن التابعة لها تحت مسمَّى «السكان الأصليين»، ولكن يبقى السؤال: كيف نحدِّد ما هي الأقليات في آسيا وأفريقيا المؤهَّلة لأن تكون من السكان الأصليين؟ وما هي الأقليات غير المؤهَّلة؟ ولا نكاد نسير في طريق تطبيق فئة السكان الأصليين بشكلٍ يتعدى الحالة الأساسية في دول العالم الجديد الاستيطانية حتى نجد أنه ليست ثمَّة نقطةٌ واضحة للتوقف، والواقع أن هناك اختلافاتٍ ذاتَ مغزًى في داخل المنظمات الدولية المتعددة حول مدى تطبيق فئة السكان الأصليين على أقليات الأرض في دول ما بعد الاستعمار، إن البعض سوف يقصُرها على السكان المنعزلين جغرافيًّا بصفةٍ خاصة، كالقبائل التي تسكن التلال أو سكان الغابات في جنوب شرق آسيا، أو الرعاة في أفريقيا، وآخرين سوف يقصُرونها على الجماعات التي تسكُن خارج اقتصاد السوق؛ أي تلك الجماعات التي تعيش على الصيد والزراعة، لكنها لا تلجأ إلى التجارة ولا إلى اقتصاد السوق (ويبدو أن ذلك هو أحد مقاييس البنك الدولي الذي استُخدَم لإنكار وضع السكان الأصليين على البربر في الجزائر).

وهذه التعريفات الضعيفة للسكان الأصليين تتناقض بوضوحٍ مع الطريقة التي يُستخدَم بها المصطلح في العالم الجديد؛ ففي أمريكا اللاتينية على سبيل المثال لا ينطبقُ مصطلحُ السكان الأصليين على سكان الغابة المعزولين في الأمازون فقط، من أمثال اﻟ «يانومامي»، بل أيضًا على الفلاحين في المرتفعات الذين كانوا على صلةٍ وثيقة ومعاملاتٍ تجارية مع المجتمع الاستيطاني الأكبر لخمسمائة عامٍ خلت، مثل المايا (Maya) والإيماراس (Aymaras) أو الكويشواز (Quechua)، وبالمثل فإن عددًا كبيرًا من السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، من أمثال الموهوك (Mohawk) قد عمل في الزراعة المستقرة و/أو سوق العمل لعدة أجيال. إن قصر فئة السكان الأصليين على جماعاتٍ معزولة جغرافيًّا أو لا تشترك في التجارة أو سوق العمل سوف يعني استبعادًا لبعض أكبر جماعات السكان الأصليين وأكثرها تأثيرًا من الناحية السياسية في العالم الجديد.
كذلك يذهب بعض المحلِّلين الآخرين إلى توسيع فئة السكان الأصليين في دول ما بعد الاستعمار على نحوٍ أكبر لتشمل جميع أقليات أرض الوطن التابعة لتاريخنا والتي تُعاني تصنيفاتِ الاستبعاد السياسي والفقر أو الضعف الثقافي (ويبدو أن ذلك هو المنظور الحديث لمنظمة العمل الدولية، على الأقل في جنوب شرق آسيا؛ حيث كثيرًا ما يُستخدَم مصطلح «السكان الأصليين» كمرادف ﻟ «الأقلية العرقية»).٤٣ ومن هذا المنظور، سيصبح مسمى «السكان الأصليين» مرادفًا ﻟ «أقليات أرض الوطن»، بدلًا من أن تكون فئةً فرعية من أقليات أرض الوطن، إن الاختلاف بين المفاهيم الأضيق والأوسع للسكان الأصليين من المحتمل أن يكون كبيرًا — تتراوح تقديراتُ أعداد المؤهَّلين لأن يكونوا من السكان الأصليين في إندونيسيا فيما بين ٢ و٦٠٪ من السكان، ويعتمد ذلك على ما إذا كان سوف يُستخدَم التعريف الأوسع أو الأضيق.
وهناك كميةٌ كبيرة من الكتابات تدور حول كيفية تطبيق فئة «السكان الأصليين» في أفريقيا وآسيا، وحول المزايا النسبية للتعريفات الأوسع والأضيق.٤٤ وهذه مسألةُ نقاشٍ مستمرٍّ في داخل المنظمات الدولية المختلفة، تتبنَّى كلٌّ منها تعريفاتٍ مختلفة، إلى درجةٍ أذهلَت العديد من المحلِّلين الذين كانوا يأملون وجود تعريفٍ واحدٍ متفَقٍ عليه داخل المجتمع الدولي.
ومع ذلك، ففي رأيي أن حقيقة اختلاف التعريفات التي استخدمَتْها منظماتٌ دوليةٌ مختلفة ليست هي المشكلة الوحيدة، ولا حتى المشكلة الأولى، إن المشكلة الأكثر خطورةً هي أن جميع المنطلقات المقترحة سواء كانت ضيقةً أو واسعة، تستدعي مقاييسَ من الواضح أنها ذاتُ درجات؛ فأقليات أرض الوطن في دول ما بعد الاستعمار تقع في سلسلةٍ متصلة فيما يتعلق بحساسيتهم الثقافية، وعزلتهم الجغرافية، ومستوى تكامُلهم واندماجهم في السوق، واستبعادهم السياسي. ونحن نستطيع، إذا شئنا، أن نضع عتبةً في مكانٍ ما من هذه السلسلة المتصلة من أجل أن نحدِّد أي هذه المجموعات يُطلَق عليها «السكان الأصليون»، وأيها «أقليات قومية»، لكن أي عتبةٍ من هذا النوع من المحتمَل أن تبدو وكأنها مقحَمة وغير قادرة على تحمل العبء الذي يتطلبه منها القانون الدولي. والقانون الدولي يُعامِل التمييز بين السكان الأصليين والأقليات القومية على أنه تمييزٌ فئوي مع مضامينَ هائلةٍ للحقوق القانونية التي يُمكِن أن يطالب بها كل نوعٍ من الجماعات. ومع ذلك، ففي عالَم ما بعد الاستعمار فإن أي محاولةٍ للتمييز بين السكان الأصليين والأقليات القومية على أساسِ مستوياتِها النسبية من الضعف أو الاستعباد يُمكِنها فقط أن تتبع الاختلافات في الدرجة، لا في النوع المشار إليه في القانون الدولي.٤٥

ومحاولة المحافظة على مثل هذه التفرقة الحادة ليست فقط مزعزعة أخلاقيًّا ومفاهيميًّا، بل هي أيضًا فيما أعتقد لا يُمكِن الإبقاء عليها سياسيًّا، وليست المشكلة هنا ببساطةٍ أن لدى فئة السكان الأصليين مناطقَ رمادية وحدودًا غامضة، مع احتمال أن تكون أكثر أو أقل شمولًا، ويصدُق ذلك على جميع الفئات الموجهة، وهناك أساليبُ مؤسَّسة بشكلٍ جيد ذات مقصدٍ ديمقراطي وتأويلٍ قانوني للتعامل مع هذا التنازُع الحدودي، فالمشكلة بالأحرى هي أن الكثير يعتمد على الجانب الذي تقع الجماعات فيه، ونتيجةً لذلك فهناك ضغطٌ سياسيٌّ شديد لتغيير مكان أو وضع الخط بطرقٍ لا يُمكِن الإبقاء عليها سياسيًّا.

وينبغي أن يكون واضحًا منذ الآن أن إطار عمل الأمم المتحدة الحالي لا يوفِّر أي دافعٍ لأيٍّ من أقليات أرضِ الوطن لكي تعرف نفسها كأقليةٍ قومية؛ حيث إن هذه الفئة لا توفِّر أي حقوقٍ غير متاحة لأي جماعةٍ عرقيةٍ ثقافية أخرى. وبدلًا من ذلك فجميعُ أقلياتِ أرضِ الوطن لديها دافعٌ غامرٌ لإعادة تعريف نفسها كسكانٍ أصليين، إذا تقدَّموا إلى المجتمع الدولي تحت عنوان «أقلية قومية» فلن يحصُلوا على شيء، وأكثر من الحقوق العامة المنصوص عليها في البند الرقم ٢٧، أما إذا تقدَّموا بدلًا من ذلك على أنهم «سكان أصليون» فسوف يتحقَّق لهم الوعد بحقوق الأرض والسيطرة على الموارد الطبيعية والحكم الذاتي السياسي وحقوق اللغة والتعدُّد القانوني.

ولا يُدهِشنا إذا ما رأينا ميلًا متزايدًا لجماعاتِ أرضِ الوطن في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط إلى تبنِّي اسم «السكان الأصليين». إحدى الحالات المثيرة للاهتمام هي حالة الأقلية الناطقة باللغة العربية في منطقة «الأهواز» بإيران، والذين تعرَّضَت أرضُ وطنهم لسياسة الدولة المتكرِّرة لجعلهم فارسيين، بما في ذلك قمع حقوقهم في اللغة العربية، وتغيير أسماء المدن والقرى لمحو الدليل على تاريخها العربي، وسياسات الاستيطان التي تُحاوِل أن تُغرِق الأهواز بالمستوطنين الفرس، لقد ذهب قادة الأهواز في الماضي إلى جماعة العمل الخاصة بالأقليات في الأمم المتحدة للشكوى من أن حقوقهم كأقلياتٍ قومية ليست محترمة، لكن لما كانت الأمم المتحدة لا تعترف بأي حقوقٍ مميزة للأقليات القومية، فإن الأهواز قد وصلوا إلى طريقٍ مسدود، وهكذا فقد أعادوا تسمية أنفسهم من أقليةٍ قومية إلى سكانٍ أصليين، وحضَروا بدلًا من ذلك في جماعة العمل للسكان الأصليين في الأمم المتحدة. وبالمثل، فإن أقليات أرض الوطن المختلفة في أفريقيا التي حضَرَت ذات مرة في جماعة العمل للأقليات بدأَت الآن في إعادة تسمية نفسها على أنهم «السكان الأصليون»، كما حضَرَت في جماعة العمل للسكان الأصليين أساسًا لكي تظفَر بحمايةٍ لحقوق الأرض الخاصة بها (لينوكس، ٢٠٠٦م، ص١٨).

وذلك مجرد جزء من جبل الجليد، وأي عددٍ من الأقليات هو الآن موضعُ نقاشٍ فيما إذا تم تبنِّي تسمية «السكان الأصليين» بمن في ذلك تتار القرم (دوروفسيسكا، ٢٠٠١م)، وقبائل الغجر (باناخ، ٢٠٠٢م؛ كليموفا ألكسندر، ٢٠٠٧م)، أو الأمريكان الأفريقيون اللاتينيون (لينوكس، ٢٠٠٦م) حتى الأكراد — المثال الكلاسيكي للأقلية القومية التي لا دولة لها — يتناقَشون الآن حولَ إعادة تعريف أنفسِهم على أنهم «سكانٌ أصليون»، وذلك لكي يظفَروا بالحماية الدولية. وتلك هي الحالة أيضًا مع الفلسطينيين في إسرائيل (جمال، ٢٠٠٥م؛ جبارين، ٢٠٠٥م) والأبخاز في جورجيا أو الشيشان في روسيا (أوكرمان، ٢٠٠٠م)، وأهالي التبت في الصين.٤٦
وتستجيب الأقليات في جميع هذه الحالات لحقيقة أن حقوق الأقلية العامة يُنظَر إليها على أنها ضعيفةٌ بشكلٍ قاتل (بارش، ١٩٩٤م، ص٨١)، وعلى أنها «غير ملائمة تمامًا … لاحتياجاتها» (أوكرمان، ٢٠٠٠م، ص١٠٣٠)، ما دامت الحقوق العامة لا تحمي أي دعاوى تقوم على الاستيطان التاريخي أو التعلق بالأرض، فإذا سلمنا بالقانون الدولي كما هو قائم، فإن الاعتراف بهم ﮐ «سكان أصليين» سيكون هو الطريق الوحيد لتأمين حماية هذه المصالح، وربما في الوقت المناسب سوف يطالب الاسكتلنديون والباسكيون (Basques)٤٧ أيضًا بهذا الوضع (بارش، ١٩٩٤م، ص٨١)؛ فبعد كل شيء، ما هي أقلية أرض الوطن التي لا تريد الحقوق التي تشكَّل حاليًّا لشعوب السكان الأصليين؟٤٨
إن تلك الموجة للجماعات القومية الفرعية لإعادة تعريف أنفسها كسكانٍ أصليين ينبغي ألا تُدهِشنا، ما دام ذلك ببساطةٍ هو الجانب الآخر لاتجاهٍ سابقٍ تبنَّى السكان الأصليون بواسطته اسم وخطاب القومية الفرعية، خلال مدةٍ طويلة من القرنَين التاسع عشر والعشرين، كان مبدأ تقرير المصير القومي أكثر الأدوات الخطابية المتاحة لجماعاتِ أرضِ الوطن التي تسعى إلى الحكم الذاتي، كما رأينا هذه لم تكن أداةً قانونية تستطيع أقلياتُ الوطن أن تستدعيها، إن القانون الدولي لم يعترف قط بالأقليات كجماعةٍ مؤهَّلة لأن تُطالِب بحق تقرير المصير القومي، لكنها مع ذلك كانت أداةً سياسيةً قوية، مفيدة في كلٍّ من حَراك أعضاء الأقلية وفي الدفاع عن مطالب الحكم الذاتي الفرعي، ومع ذلك فالكثير من جماعات السكان الأصليين واجهوا صعوبةً في الامتثال لهذا المبدأ؛ لأنه لم يُنظَر إليهم على أنهم «أمم» أو «قوميات» على عكس أقليات القومية الفرعية مثل الاسكتلنديين والكيوبيك والباسكيين، ولقد أُطلِق عليهم اسم «جماعة» أو «مجتمعات» السكان الأصليين، لكن لم يُطلَق عليهم اسم «أمم»؛ ولذا فهم لا يستحقون «الحكم الذاتي»؛ ومن ثَم فإحدى المهام الأولى التي واجهَها قادة السكان الأصليين في محاولتهِم إعادةَ بناء حركة حقوق السكان الأصليين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي هي إعادةُ تعريف أنفسهم على أنهم «أمم»، وتبنِّي خطاب القومية الفرعية. في الحالة الكندية، على سبيل المثال، طالبَت كلُّ مجتمعات السكان الأصليين المعتَرَف بها بواسطة الوثيقة الفدرالية الهندية، طالبَت بتغيير الاسم الرسمي إلى «الأمم الأولى»،٤٩ لقد تبنَّت شعوبُ السكان الأصليين في بلاد العالم الجديد الأخرى بالمثل خطابَ كونهم «أممًا من الداخل»، وسعَت إلى علاقة «أمة-بأمة» مع الدولة (انظر مثلًا: فليراز وإيليوت، العام ١٩٩٢م).

ومع ذلك، نجد اليوم أن الأصالة، وليست القومية هي التي توفِّر مطالبَ سياسية وقانونية أقوى للتقرير الذاتي، على الأقل في الأمم المتحدة، وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كان من مصلحة السكان الأصليين سياسيًّا تبنِّي تسمية وخطاب الجماعات القومية الفرعية، كطريقةٍ لجعل الدول والجماعات المُسيطِرة تأخذ طموحاتهم للحكم الذاتي مأخذ الجِد، أما اليوم ففي مصلحة الجماعات القومية الفرعية سياسيًّا أن تتبنَّى تسميةَ خطابِ السكان الأصليين، وهذه الاستعارة المتبادَلة للحِيَل والخطابات بين الأقليات القومية والسكان الأصليين تُظهِر — بوضوحٍ — الاستمرارية القوية في مطالبهم وتبريراتهم الأساسية، وعُقم محاولات ابتكار جدارٍ قانونيٍّ عازل بين الاثنَين.

قد يبدو طريقُ الباب الخلفي الذي تسلُكُه الأقليات القومية للظفر بحقوقٍ موجهة ومميزة من خلال تبنِّي تسمية شعوب السكان الأصليين، قد يبدو شيئًا جيدًا، وعلى كل حالٍ فمن وجهة نظر النظرية والتطبيق للتعدُّدية الثقافية الليبرالية فإن المنطق الأخلاقي الكامن ينبغي أن يعترف بشرعية المصالح المتعلقة بالاستيطان التاريخي، والأرض التي تشارك كل أقليات أرض الوطن الضعيفة، وتوسُّع فئة «السكان الأصليين» لكي تغطي كلَّ أقليات أرض الوطن، هي إحدى الطرقِ المُمكِنة لفعل ذلك، وقد تبدو بالفعل طريقةً اعتباطيةً للتقليل من العداوة تجاه حقوق الأقلية القومية الموجهة في المجتمع الدولي.

ولسوء الطالع، فإن ذلك ليس منظورًا يُمكِن الإبقاء عليه. إن مَيلَ الأقليات القومية لتبنِّي اسم شعوب السكان الأصليين، إذا ما استمر، ربما يؤدي إلى انهيارٍ كامل للنظام الدولي لحقوق السكان الأصليين، وكما سبق أن رأينا فقد رفضَت المنظمات الدولية — على نحوٍ واضح ومتكرر — محاولاتِ توثيقِ حقوقِ الحكم الذاتي للجماعات القومية الفرعية القوية، من ناحيةٍ بسبب مضامين الأمن السياسي والجغرافي، وهم لن يسمحوا لمثل هذه الجماعات بأن تنالَ حقوق الحكم الذاتي من خلال الأبواب الخلفية، ببساطةٍ بواسطة إعادة تعريف أنفسهم كسكانٍ أصليين.

فإذا ما بدأَت جماعاتُ أرض الوطن أكثر فأكثر في تبنِّي اسم السكان الأصليين، وأنا أعتقد أنها ستفعل، فإن النتيجة المحتمَلة ستكون أن المجتمع الدولي سيبدأ في التراجُع عن مسار حقوق السكان الأصليين الموجهة. والواقع أن العلامات الأولى لمثل هذا التراجُع أصبحَت بالفعل مرئية، وهناك عددٌ من الطرق يُمكِن أن يحدث بها هذا التراجع، أكثرها وضوحًا أن الدول الأعضاء ربما تُوقِف المفاوضات حول مسوَّدة إعلانات الأمم المتحدة ومنظمة الولايات المتحدة (OAS٥٠ أو أنها قد تُفرِغُ هذه الإعلانات من مضمونها الجوهري — وعلى سبيل المثال بواسطة نزع حقوق الأرض أو الحكم الذاتي وقَصْر تركزها على موضوعات الاعتراف الثقافي، أو ربما تُحاوِل أن تحدَّ بشكلٍ قاطع مجالَ تطبيق هذه الإعلانات — على سبيل المثال قصرها على جماعاتٍ بعيدة لا تُشارِك في الدخل الاقتصادي، مثل بدو الغابات. وأيًّا ما كان الأسلوب، فإن نتيجةَ ذلك التراجُع ستكون تقويضَ التقدُّم الكبير الذي تحقَّق حتى اليوم في مسار السكان الأصليين.٥١
ويوحي ذلك بأن المستقبل الطويل المدى الخاص بمسار السكان الأصليين الموجه في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى لم يتضح بعدُ؛ فكثيرًا ما يُستشهَد بمسار السكان الأصليين على أنه أوضحُ نجاحٍ في تطوير حقوق الأقليات الدولية، غير أن هذا الحكم ربما يكون سابقًا لأوانه، لقد كان نجاحًا بالفعل، لكنه معرَّض لخطر أن يصبح ضحيةً لنجاحه، إن إنجازات مسار السكان الأصليين الموجه في العالم الجديد، وبالتحديد في تمكين السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية تشجِّع المنظمات الدولية لإعادة تعريف وتوسيع الفئة بطرقٍ غير متسقة أخلاقيًّا، وغير ثابتة مفاهيميًّا، ولا يُمكِن الإبقاء عليها سياسيًّا.٥٢

ولا يتضح كيف يُمكِن لنا أن نتغلَّب على عدم الاستقرار. وكما سبق أن رأينا، فإن الإشكالية قد ظهَرَت نتيجة لقرارَين رئيسيَّين حول كيفية تطوير المقاييس الموجهة على المستوى العالمي، وهما قراران براغماتيان، مفهومان، وربما أيضًا حتميان؛ القرار الأول اتُّخذ لخلق هُوةٍ حادة وعميقة في الوضع القانوني بين السكان الأصليين والأقليات القومية، بالإشارة إلى الفئة الأولى باعتبارها المستفيد من الحقوق القوية الموجهة، بينما نُسبَت إلى الفئة الثانية حقوقُ الأقليات العامة فقط. ومبدئيًّا يُمكِن للمرء أن يتخيل منظورًا بديلًا تتبنَّى فيه المنظمات الدولية استراتيجية التوجيه المزدوج (أو المتعدد)، يطوِّر مساراتٍ قانونيةً منفصلة لكلٍّ من السكان الأصليين والأقليات القومية. لكن كما سبق أن رأينا فإن محاولةَ تطويرِ مقاييسَ موجهة إلى الأقليات القومية في أوروبا قد فشلَت، وطموحات النجاح على مستوًى عالمي هي أسوأ حالًا، ونتيجةً لذلك فإن قرار ابتكار عازل بين النوعَين من الجماعات كان بوضوحٍ قرارًا عمليًّا براغماتيًّا، حتى لو أنه قدَّم عنصرًا من التناقض الأخلاقي إلى إطار عمل الأمم المتحدة.

أما القرار الثاني فقد كان لتوسيع فئة السكان الأصليين إلى ما وراء سياقها الأصلي في دول العالم الجديد الاستيطانية حتى آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وهنا، يُمكِننا أن نتخيل مبدئيًّا، مرةً أخرى منظورًا بديلًا يمكن أن تعترف فيه المنظمات الدولية بأن فئة شعوب السكان الأصليين (وربما أيضًا الأقليات القومية) تضربُ بجذورها في تاريخ أوروبا ودول أوروبا الاستيطانية، ويُحاوِل بالتالي أن يطوِّر إطارَ عملٍ مختلفًا تمامًا ذي فئاتٍ موجهة إلى الأقليات في أجزاءٍ أخرى من العالم. لكن ليست لدينا أي اقتراحاتٍ أو أمثلةٍ ملموسة لما قد تكونُ عليه هذه الفئات البديلة (وكما سوف نرى في الفصل التالي) بلادًا في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط لم تُبدِ أي اهتمامٍ بتطوير أشكال الحقوق الموجهة الخاصة بمنطقتها. الطريقة الواقعية الوحيدة لتوسيع أي مستوًى من الحماية الدولية للأقليات في دول ما بعد الاستعمار، فيما وراء الحقوق العامة الواردة في البند الرقم ٢٧، هي أن نوسِّع فئة السكانِ الأصليين، ما دامت الأداة الوحيدة للحماية الدولية المتوافرة كانت تستهدف السكانَ الأصليين؛ فقد كان مفهومًا وعمليًّا إعادةُ تعريفِ الأقليات التي هي في حاجةٍ إلى حماية مثل السكان الأصليين.

ومع ذلك فإن النتيجة الموحَّدة لهذَين القرارَين البرغماتيَّين هي عدم الاستقرار، أما القرارُ الثاني لعولمة فئة السكان الأصليين فهو يجعل من الصعب على نحوٍ متزايد — أخلاقيًّا، ومفاهيميًّا وسياسيًّا — الإبقاء على الجدار القانوني العازل بين السكان الأصليين وأقليات أرض الوطن الأخرى الذي يتطلبه القرار الأول.

ومن ثَم فتعميم فئة السكان الأصليين يؤدِّي بنا إلى فوائدَ عمليةٍ سريعة، لكنها كذلك تُبرِز مخاطر على المدى البعيد، وربما يتضح لنا أن الفوائد تفوق المخاطر، لكن من الغريب حقًّا كيف قَبِل الممثلون في شبكات عمل السياسة العالمية ذات العلاقة وبسرعةٍ أن ذلك هو الطريق السليم للتقدُّم. هناك إجماعٌ فعليٌّ بين مجموعة المدافعين المحترفين، ومستشاريهم الأكاديميين ومموِّليهم المتبرِّعين على أن فئة السكان الأصليين ينبغي أن تُعمَّم،٥٣ وكما سبق أن رأينا، فإن هذه الاستراتيجية لا تزال تُقاوِمها بعضُ دول ما بعد الاستعمار، كما أنها محلُّ نزاعٍ بين الأكاديميين في الخارج (على سبيل المثال، بيتي، ٢٠٠٠م؛ باون، ٢٠٠٠م)، لكن داخل شبكات العمل السياسية المرتبطة بمسار الأمم المتحدة للسكان الأصليين، كان هناك نزاعٌ محدودٌ حول ملاءمة هذه الاستراتيجية، وكثيرًا ما تُؤخَذ كأمرٍ مسلَّم به بأن العمل على تطويرِ تعريفٍ أكثر شمولًا للسكان الأصليين هو أمرٌ مرغوبٌ فيه، وأنه ليس ثمَّة حاجةٌ إلى تطوير فئاتٍ قانونيةٍ جديدة تكون أكثر ملاءمةً لسياق دول ما بعد الاستعمار.
والواقع أنه ربما كان ذلك هو الاستراتيجية الأفضل أو الوحيدة، لكن لو صَح ذلك فلا بد أن نكون على وعيٍ بالمخاطر المتضمَّنة، وينبغي علينا أن نبدأ في التفكير بشكلٍ خلَّاق حول كيفية التعامل مع جوانب عدم الاستقرار التي سوف تظهر حتمًا، ومن المثير للاهتمام، من هذه الزاوية، أن نُقارِن المناقشات العالمية حول حقوق السكان الأصليين بالمناقشات الأوروبية حول حقوق الأقليات القومية، في كلتا الحالتَين نرى عدمَ استقرارٍ في الجهود الرامية إلى صياغة حقوقٍ مُستهدَفة. وفي كلتا الحالتَين فإن المشكلة الأساسية واحدة، على وجه التحديد، التأثير التعجيزي لمخاوف الأمن الجغرافي السياسي فيما يتعلق بالأقليات القومية الفرعية. في السياق الأوروبي، قادت تلك المخاوفُ المنظماتِ الدولية إلى التخلي عن محاولاتها لصياغةِ معاييرَ للتعامل مع قضايا الأرض والحكم الذاتي الحقيقية، والتراجع إلى مجموعةٍ من حقوق الأقليات العامة. وفي الحالة العامة، ركَّزَت الأمم المتحدة على فئة السكان الأصليين تحديدًا لتجنُّب تلك المخاوف التعجيزية، ونتيجةً لذلك كانت قادرةً على تشكيلِ معاييرَ موجهة تُخاطِب في الواقع موضوعاتٍ جوهرية وأساسية تتعلَّق بالأرض والحكم الذاتي السياسي، غير أن ذلك النجاح يخلُق ضغطًا قويًّا لتوسيع مدى مقاييس السكان الأصليين إلى أقلياتِ أرضِ الوطنِ الأخرى التي لديها كذلك مصالحُ مشروعة في الأرض والحكم الذاتي، مما يعيد إثارة المخاوف الأمنية.٥٤

إن محاولاتِ الأممِ المتحدة للإبقاء على جدارٍ عازلٍ قانوني بين نوعَي أقلياتِ أرضِ الوطن سوف يكونُ من الصعب الاستمرارُ فيها في مواجهة الضغوط الشديدة والمتناقضة لتوسيع وتضييق فئة شعوب السكان الأصليين. لقد التزَم المجتمع الدولي بتوسيع فئة السكان الأصليين بما يتجاوز الحالة الأساسية في دول العالم الجديد الاستيطانية، غير أن هذا التوسُّع يجعل مسألة المحافظة على الجدار العازل أكثَر صعوبة، أخلاقيًّا ومفاهيميًّا، ويزيد الحافزَ عند الكثير والكثير من أقليات أرض الوطن في دول ما بعد الاستعمار للمطالبة بمكانة السكان الأصليين بطريقةٍ لا يُمكِن الإبقاء عليها سياسيًّا، ومن المحتمَل أن تؤدِّي إلى تقليص مسار السكان الأصليين.

لذلك، فإن النجاح الطويل المدى لمسار السكان الأصليين ربما يعتمد على تطويرِ اتجاهٍ أكثر إدراكًا للعلاقة بين السكان الأصليين وأقلياتِ الوطنِ الأخرى، لقد تجنَّب المجتمع الدولي مواجهة هذه المشكلة بشكلٍ نسَقي حتى يومنا هذا، لكنه لن يتمكَّن من تأجيل المواجهة إلى الأبد. إن استراتيجية الجدار العازل كانت مهمةً لإطلاق مسار السكان الأصليين، لكنها لا تستطيع أن توفِّر أساسًا مستقرًا طويلَ المدى.

من المقاييس/المعايير إلى حل النزاع وفق الحالة

حتى إذا ما كانت هناك طريقةٌ ما للمحافظة على تمييزٍ حادٍّ بين شعوب السكان الأصليين وأقليات أرض الوطن الأخرى، فسوف يتركنا ذلك مع سؤالٍ حول ما الذي ينبغي أن يفعلَه المجتمع الدولي تجاه الأقليات القومية الفرعية في عالم ما بعد الاستعمار، مثل الأكراد والتاميل (Tamil) والفلسطينيين والشيشان والأورومو (Oromos)، وأهل التبت وما إلى ذلك، فمن المحتمل أكثر أن تشكِّل مطالب هذه الأقليات جذورًا للنزاع العِرقي العنيف والمزعزع للاستقرار أكثر من مطالب السكان الأصليين؛ وبالتالي لا يُمكِن ببساطةٍ أن يتجاهلَها المجتمع الدولي، مع ذلك فإن الاستراتيجيتَين اللتَين ناقشناهما حتى الآن — تعميم أفضل الممارسات وتشكيل مقاييسَ قانونية — لم تتعاملا مع مطالبها. إن منظورَ أفضلِ الممارَسات في تلك الحالات منظورٌ غير واقعي، ولا يُعالجها مسارُ حقوق الأقليات العامة ولا مسار حقوق السكان الأصليين الموجهة.

وهكذا، فقد كان على المنظماتِ الدولية أن تتبنَّى استراتيجيةً أخرى في محاولةٍ للتأثير في العلاقات بين الدولة والأقلية. والبديل الواضح هو تبنِّي منظورٍ أمني محدَّد لحالةٍ معيَّنة، ولا يركِّز على صياغة المقاييس والمعايير فقط، بل على منع النزاع وحل الصراع في بلدانٍ معينة، وكما رأينا في الفصل السادس فإن هذا المسار الأمني الثالث كان قد تَم تبنِّيه في أوروبا كذلك بالنظر إلى محدودية أفضل ممارساتها واستراتيجيات المقاييس القانونية، وأثبتَت أنها أهمُّ منظورٍ في التعامُل على نحوٍ واقعي مع موضوعات النزاع العِرقي في بلاد ما بعد الاستعمار.

وإذا ما فحَصْنا كيف كانت استجابة المجتمع الدولي عندما تَم اللجوء إليه للمساعدة في حل النزاعات وإعادة بناء الدول، فسوف نجد اتجاهًا مذهلًا؛ حيث أصبحَت الأممُ المتحدة مشتركةً على نحوٍ نشطٍ في نزاعاتٍ خطيرة بين الدول والأقليات القومية؛ فقد دعمَت على نحوٍ نموذجي شكلًا من أشكال الحكم الذاتي، كما هي الحالة في قبرص والسودان والعراق وإندونيسيا وسريلانكا وبورما. ويكرِّر ذلك بالطبع التجربة في داخل أوروبا ما بعد الشيوعية، وكما رأينا في الفصل السادس عندما ظهر النزاعُ العِرقيُّ الخطير بين الدول وأقليات أرض الوطن في أوروبا ما بعد الشيوعية، دفعَت المنظمات الأوروبية إلى تبنِّي شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي الإقليمي الفدرالي أو شبه الفدرالي كالموجودة، على سبيل المثال، في كوسوفو والبوسنة ومقدونيا وأوكرانيا ومولدوفا وجورجيا وأذربيجان.

والنتيجة التي تنطوي على مفارقة، هي أن الأمم المتحدة، على الرغم من عدائها الواضح لأفكار الحق المبدئي بالحكم الذاتي للجماعات القومية الفرعية، فقد انتهى بها الأمر في الواقع إلى تدعيمِ نماذجَ أوروبيةِ الطراز للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات في العديد من الحالات المهمة، وفي كثيرٍ من هذه المحاولات كان هدف المجتمع الدولي الرئيسي هو ببساطة تأمين السلام، غير أن تشجيعها لنماذج الحكم الذاتي لأقلياتِ أرضِ الوطن قائمٌ أيضًا على أملٍ وتوقُّع، مشتق من التجارب الغربية، بأن هذه النماذج تصلُح وسيلةً لتعزيز علاقات المواطَنة الديمقراطية الليبرالية، واحترام حقوق الإنسان وتمكين التطور الاقتصادي، وهذه الافتراضات من مؤيدي الليبرالية المتعددة الثقافات هي في الواقع جزء من الخطاب الدولي الرسمي الذي يحيط بتوقيع اتفاقيات السلام هذه. لكن لأن هذه الاتفاقيات قد حدثَت فقط في سياق حل النزاعات العنيفة، بدلًا من أن تكون جزءًا من التزامٍ مبدئي أكثر عمومية لحكم الأقليات الذاتي، تُدرك بشكلٍ واسع بوصفها أجورًا مريبة للأقليات المقاتلة، وبدلًا من أن تخدم بقصد تدعيم روح التعددية الثقافية الليبرالية، فإنها تُرسِل رسالةً تقول فيها إن العنف يُجدي.

خاتمة

إن تاريخ جهود الأمم المتحدة في مجال حقوق الأقليات، بكثيرٍ من الطرق، يختلف أتَم الاختلاف عن جهود المنظمات الأوروبية، ومع ذلك فقد ذهبتُ إلى أننا نجد الاستراتيجية الفاشلة نفسها، والإشكالات نفسها التي لم تُحل، والرسائل المختلطة نفسها، ونرى استراتيجيةً ساذجة وربما خطرة لدعم أفضل الممارَسات، كما نرى استراتيجيةَ معاييرَ قانونية تسعى إلى مزجِ حقوق الأقلية العامة مع حقوق الأقلية الموجهة، لكنها تفعل ذلك على أساسٍ من الفئات غير المستقرة، نرى استراتيجية حل النزاع لحالاتٍ محددة تكافئ المتقاتلين، وإذا وضعنا في اعتبارنا ذلك كله فإن هذه الاستراتيجيات المتنوعة تُرسِل رسائلَ مختلفة، وكثيرًا ما تكون متناقضة، حول أنواع التعبئة السياسية العِرقية التي يعتبرها المجتمع الدولي مشروعة.

وفي الفصل الأخير سوف أدرس ما إذا كانت هناك طريقةٌ تمهيدية نستطيع أن نتجنَّب من خلالها — أو على الأقل نقلِّل — هذه المشكلاتِ المُستوطِنة للانتشار العالمي للتعدُّدية الثقافية الليبرالية.

١  UN Research Institute for Social Development.
٢  Initiative on Conflict Resolution and Ethnicity.
٣  النتائج الأكاديمية لمشروعات معهد الأبحاث (UNRISD) تشمل ستيفنهاغن، العام ١٩٩٦م؛ ويونغ، العام ١٩٩٨م والعام ١٩٩٩م.
٤  بغية التوضيح التام، لا بد أن أذكُر أنني كنتُ مستشارًا لهذا التقرير.
٥  وفقًا لما يقوله «فون كوت» فإن تأثير اتفاقية منظمة العمل الدولية ١٦٩ حول التنمية المحلية في أمريكا اللاتينية «لا يمكن المبالغة فيها» (فان كوت، ٢٠٠٠م، ص٢٦٢)، انظر أيضًا: ياشار، العام ٢٠٠٥م؛ وسيدر، العام ٢٠٠٢م؛ وبوستيرو وزاموسك، ٢٠٠٢م؛ وتيلِّي ودياز بولانكو، العام ١٩٩٧م؛ ورودريغوز بينيرو، العام ٢٠٠٥م.
٦  على سبيل المثال، عندما تَم التصويتُ على إعلان الأمم المتحدة التمهيدي لحقوق السكان الأصليين في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، العام ٢٠٠٦م، جاء الاعتراض الرئيسي من الدول الإنجليزية المستعمرة (مثل كندا، والولايات المتحدة وأستراليا) وليس من دول أمريكا اللاتينية.
٧  لمحاولةٍ أولية لاختيار الافتراضات المتنافسة حول الصلة بين التعددية الثقافية والليبرالية الجديدة في أمريكا اللاتينية، انظر: فان كوت، العام ٢٠٠٦م؛ وأيضًا غوستافسون، العام ٢٠٠٢م؛ وألبو، العام ١٩٩٤م؛ ودي لابينا، العام ٢٠٠٢م؛ وبونيت، العام ٢٠٠٦م.
٨  بالنسبة إلى التعاون بين السكان الأصليين والحركات اللاتينية الأفريقية، انظر: فان كوت، العام ٢٠٠٠م.
٩  الوعود، على سبيل المثال، بالحكم الذاتي لبلوشستان في باكستان، وآركان وكاخينلاند في بورما ماينمار، وجنوب مولوكاس في إندونيسيا، وتركستان الشرقية في الصين، بوغينفيل في باباو-غينيا الجديدة، وأرتيريا في إثيوبيا، وبيوكو في غينيا الاستوائية، وكذلك نكول، بنيورو، وبوغاندا في أوغندا، أشانتي في غانا، باميليكي في الكاميرون، والدروز في سورية، والبربر في المغرب (الرفاعية) والجزائر (القبايل).
١٠  أقول ربما لأن التصميم الأول للنظام الفدرالي في الهند كان المقصود منه في الأساس تمكين أقليات أرض الوطن من ممارسات الحكم الذاتي، إن إعادة بناء النظام الفدرالي الهندي للتكيف مع جماعات أرض الوطن بدأَت فقط في الواقع في العام ١٩٥٦م، بعد سلسلةٍ من الثورات، وبقيَت الحال على ما هي عليه حيث تحتاج جماعات أرض الوطن في الهند إلى استخدام السلاح من أجل أن تُسمع مطالبها (باتيل، العام ١٩٩٨م؛ موكارجي وأرورا، العام ١٩٩٢م)، وينطبق كثيرٌ من ذلك على إعادة بناء النظام الفدرالي النيجيري للتكيُّف مع أقليات أرض الوطن، وهو مطلبٌ كان مدعومًا مرةً أخرى بالعنف.
١١  لقد طوَّرت هذه المناقشة على نحوٍ أشد عمقًا في كتابي، العام ٢٠٠٤م. (المؤلِّف)
١٢  الواقع أن «شاتز ميلَر» يقول إن استبعاد الأقليات في دول ما بعد الاستعمار ذات الأغلبية المسلمة هو «نقيضٌ كامل للتراث الإسلامي، للشمول السياسي»، (شاتز ميلَر، ٢٠٠٥م، ص٢٨٥).
١٣  فيما يتعلَّق بحالة إندونيسيا، انظر: بل، العام ٢٠٠١م، وبالنسبة إلى الهند، انظر: وينر، ١٩٩٨م؛ وسيريني فاسافارادان، ١٩٩٢م، وانظر بالنسبة إلى نيجيريا كتاب إيجوبواه، ١٩٩٨م؛ باخ، ١٩٩٧م؛ لموتشاند، ١٩٩٧م، وبالنسبة إلى إثيوبيا انظر: ألمينت، ٢٠٠٣م؛ وترونفول، ٢٠٠٠م، وبالنسبة إلى الكاميرون انظر أيضًا: أيوه، ٢٠٠٤م، وبالنسبة إلى أفريقيا بصفةٍ أكثر عمومية انظر: غيستسيير، ٢٠٠٥م؛ وسنبز غيستسيير، ٢٠٠٥م، ومن المهم أن نؤكد أن حضور أو غياب مؤسساتٍ سياسيةٍ قانونية على مستوًى قومي لا يكفي لتفسير العنف، إن اللجوء إلى العنف تتوسَّطه على نحوٍ قويٍّ عواملُ محلية، ولقد أوضحَت الدراساتُ في الهند، على سبيل المثال، أن التنوع في التنظيم المحلي للمجتمع المدني ساعَد على تفسير السبب في أن بعض المدن أو المناطق أكثر ميلًا إلى العنف من غيرها، حتى عندما تحكُمها المؤسساتُ الكبيرة نفسها، والمجتمعُ المدني المتكامل عرقيًّا، بصفةٍ خاصة، من الممكن أن يكون حصنًا للسلام حتى عند غياب ضمانات المؤسسات الكبيرة لحقوق الإنسان (فارشني، ٢٠٠٢م)، لكن من الواضح أن غياب ضمانات المؤسَّسات الكبيرة يخلق مخاطر لا تُوجَد إذا ما وُجدَت هذه الضمانات، ويمكننا أن نرى بالفعل في الغرب نتيجةً عكسية؛ إن وجود حمايةٍ قوية ذات مستوًى عال لحقوق الإنسان يُساعِد على ضمان السلام حتى عندما يكون المجتمع غير متكامل على نحوٍ جيد، كما هي الحال في بلجيكا أو كندا، حيث كثيرًا ما يُنظَّم المجتمع المدني في «مجتمعات متوازية» مع الخطوط اللغوية.
١٤  بالنسبة إلى كثرة مثل هذه الحالات عند «الأفارقة المنقسمين» انظر: أسيواجو، العام ١٩٨٥م.
١٥  مجموعة جُزر في الجزء الشرقي من إندونيسيا بعد الحرب العالمية الثانية أصبحَت جزءًا منها. (المترجم)
١٦  ولقد تَم قمع العديد من الأقليات في إندونيسيا على أساس أنها تعاونَت مع الصين في الانقلاب الشيوعي في العام ١٩٦٥م، وفي بعض الحالات تدعم الافتراضات حول علاقة القُربى العِرقية والافتراضات حول علاقة القُربى الأيديولوجية بعضها مع البعض، وعلى سبيل المثال، كان يُفترَض أن للأقليات الصينية في العديد من الدول الآسيوية المبرِّرات العِرقية والأيديولوجية للتعاون مع الصين.
١٧  بابوا الغربية هي إحدى مقاطعات إندونيسيا.
١٨  بالنسبة إلى المناقشات حول اعتبار الأقليات في آسيا من الطابور الخامس من الأقليات انظر: «هو Ho»، العام ٢٠٠٠م (حول الأقليات الصينية عَبْر المنطقة) غانغولي، ١٩٩٧م، ص٢٦٦ (حول الأقليات الصينية عَبْر المنطقة) ص٢٦٩ و٢٧٠ (حول الملايا في سنغافورا)، المنظمات الدولية، العام ١٩٩٥م، ص١٧–٢٥، (إعادة الفيتناميين إلى كمبوديا)، آندرسون، ٢٠٠٤م، (حول أهل بابونا إلى إندونيسيا)، كريشنا، ١٩٩٩م، الفصل الثالث، شاستري، العام ١٩٩٧م، ص١٥٥؛ وداهارماداس، العام ١٩٩٢م، ص١٤١، ٢٣٠، و٢٩٥ و٢٩٦؛ ونيسان، العام ١٩٩٦م، ص٣٤ (حول التاميل في سريلانكا) MRG 1997، ص٥٧٩ (وحول الأقلية الهندية في باكستان وبنغلاديش) غرير، ٢٠٠٦م (وحول البلوش).
١٩  والمثال الصارخ هو القرن الأفريقي؛ حيث ساعد كل بلد من بلدان المنطقة بشكلٍ فعال الأقليات المتمرِّدة في البلدان المجاورة كوسيلةٍ لزعزعة الاستقرار عند جيرانها، وأناقش ما يُثيره ذلك من تحدياتٍ بالنسبة إلى الجهود الحالية لجعل إثيوبيا اتحادية في كتاب كيمليكا، العام ٢٠٦م.
٢٠  لقد قدَّم بورديو وكوانت نسخةً أكثر دقة للحُجَّة التي تقول إن الانتشار العالمي لخطاب حقوق الأقليات هو جزءٌ من «دهاء العقل الإمبريالي» وذهبا إلى أن الأمريكان اشتركوا في «تصدير الفئات العلمية الأمريكية عالميًّا» وفرضوا بذلك «مفاهيم شعبية» خاصة واعتبروها «معيارًا عالميًّا» لكفاح كل الجماعات المضطهدة بسبب اللون (أو الطائفة)؛ وبالتالي فقد أسَّسوا للولايات المتحدة ضمنيًّا لأن تكون نموذجًا للمجتمع الحديث الذي، وبالتالي، ينبغي أن تحذو حَذوَه جميعُ المجتمعات الأخرى (بورديو، وكوانت، العام ١٩٩٩م، ص٤٤–٤٨)، ويمكن للمرء أن يجد أمثلةً حيث يشير المسئولون الأمريكيون إلى أن التعددية الثقافية وحقوق الأقليات هي اختراعٌ أمريكي، وعلى سبيل المثال، ستروب تالبوت، نائب وزير الخارجية في عهد الرئيس كلينتون، قال ذات مرة «إذا كان هناك سلام بعد الحرب الباردة في أوروبا فيجب أن يقوم على مبدأ الديمقراطية المتعدِّدة العِرقيات … والولايات المتحدة واحدة من الأمثلة الأولى والعظيمة لهذا المبدأ … ومن مصلحتنا أن تسود الديمقراطية المتعدِّدة العِرقيات بشكلٍ مطلق» (مقتبَس في كتاب شاندلر، العام ٢٠٠٠م، ص٦٦، وقارن أتاناسوسيكي، ٢٠٠٦م، وكذلك أندرسون، ١٩٩٢م)، لكن في الواقع النماذج التي قدَّمَتها المنظمات الدولية سواء في أوروبا ما بعد الشيوعية أو عالَم ما بعد الاستعمار لم تُستمَد أساسًا من التجربة الأمريكية، ولم تعتمد على «المفاهيم الشعبية» الأمريكية؛ ذلك أن مفهوم «الأقليات القومية» على سبيل المثال ليس له جذور في التجربة التاريخية الأمريكية أو الثقافة الأمريكية، عندما سألَت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أعضاءها من الدول أن تحدِّد التشريع الذي يسمح بحقوق الأقليات القومية جاء رد وزارة الخارجية الأمريكية أنه «من غير الواضح ما إذا كان مفهوم «الأقليات القومية» كما هو مفهوم في السياق الأوروبي ينطبق على ظروف الولايات المتحدة الأمريكية» (منظمة الأمن والتعاون، ١٩٩٧م، ملحق)، وبالمثل المناقشات الدولية حول حقوق «السكان الأصليين» لا تُسيطِر عليها النماذج الأمريكية أو العلماء الأمريكيون، وكما لاحظ أليستير بونيت، فإن المنظمات الدولية لم تطوِّر نموذجًا واحدًا في أمريكا اللاتينية، لنشر أو إعادة إنتاج النماذج الأمريكية، ولم ينجح أيٌّ منها في الاقتراب من نسخةٍ طبق الأصل من نسخة المجتمع الأمريكي العنصري في أي مجتمعٍ نام (بونيت، العام ٢٠٠٦م، ص١٠٩٤)، ولا يعني ذلك بالطبع أن الحكومة الأمريكية لا تُراقِب التطورات فيما يتعلق بالمعايير الدولية لحقوق الأقليات مع الاهتمام بمصالحها الجغرافية السياسية، على نحوِ ما سنعرف، غير أن الولايات المتحدة ليست هي المصدر الرئيسي للنماذج أو المفاهيم المستخدَمة في المناقشات الدولية المعاصرة حول حقوق الأقليات والسكان الأصليين.
٢١  السينهاليزيون: وهم شعبٌ يؤلف الأغلبية العظمى من سكان سريلانكا (سيلان سابقًا)، ويُعتقَد أن أسلافهم وفَدوا من الهند. (المترجم)
٢٢  الواقع أنه في كثيرٍ من الحالات هناك اعتقاد على نطاقٍ واسع بأن القوى الاستعمارية قد خلقَت بالفعل إحساسًا بأن هناك جماعاتٍ عرقيةً متميزة داخل المستعمرة، وحوَّلوا بشكلٍ مُصطنَع مجموعة الهوايات المتداخلة المنسجمة إلى «قبائل» و«شعوب» متميزة، كجزءٍ من استراتيجيات «فرق تسد»، وفي ظل هذه الظروف قدِّمَت المبرِّرات لقمع هُويات الأقلية أحيانًا على أساس أن هذه الهُويات كانت نتائجَ غيرَ أصيلة للتلاعب الخارجي، وأن سياسات الدمج والاستيعاب تقوم ببساطةٍ بعكس هذا الظلم التاريخي.
٢٣  تكثُر هذه الظاهرة في تلك البلاد التي احتفظَت فيها الأقلية بسلطتها حتى بعد الاستقلال، نتيجة لنقص الديمقراطية — كما هي الحال في سورية ولبنان قبل الحرب الأهلية، ورواندا، وجنوب أفريقيا العنصرية، أو العراق في عهد صدام حسين — ففي هذه البلاد استُخدِم الحديث عن «حقوق الأقلية» كتبريرٍ لاحتجاز السلطة غير الديمقراطي من قِبل الأقلية المتميِّزة.
٢٤  لمناقشة أبعد حول دور هذا العامل في أفريقيا، انظر: كتاب كيمليكا، العام ٢٠٠٦م.
٢٥  الطبيعة المتخلفة لحكم القانون في أمريكا اللاتينية تعني أنه لا يُوجَد ضمان ضد إمكان أن يخلق الحكم الذاتي للسكان الأصليين جُزرًا من الطغيان المحلي، ومع ذلك فما دام الحكم الذاتي للسكان الأصليين في أمريكا اللاتينية يميل إلى أن يكون على مستوى القرية، أكثر من المستوى الإقليمي، فإن قلةً من السكان غير الأصليين قد انتهى بهم الأمر إلى أن تحكُمَهم حكوماتُ السكان الأصليين؛ لذلك فإن التخوُّف من أن أعضاء الجماعة المُسيطِرة سوف يُقهرون عن طريق حكومة السكان الأصليين كان نادرًا، وذلك يترك التخوُّف من أن حكومة السكان الأصليين سوف تقمع بعض أعضائها، مثل النساء، ولقد كان ذلك في الواقع هو الأساس الرسمي الذي قاومَت من أجله بعض بلاد أمريكا اللاتينية نظامَ الحكمِ الذاتي للسكان الأصليين، وما إذا كان ذلك هو دافعهم الحقيقي يبقى محل تساؤل لدى كثير من المحلِّلين (انظر: سبيد وكولير، العام ٢٠٠٠م).
٢٦  على سبيل المثال، فقد ادَّعَت حكومة «زامبيا»: «أنه ليس لدى زامبيا تصنيفاتٌ بالسكان الأصليين ولا بجماعات الأقليات على نحو ما تُعرِّفها منظمة الأمم المتحدة (انظر وثائق الأمم المتحدة — في ١٩ نوفمبر العام ٢٠٠٢م — CRC/2/11/Add.25 الفقرة رقم ٤٧٠) اقتبسه لينوكس، العام ٢٠٠٦م.
٢٧  لم يكن هناك مبرِّرٌ مختلفٌ للمعايير المستهدَفة في الأمم المتحدة فقط، ولكن أيضًا، وبشكلٍ متصل عملية مختلفة، وفي حالة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والمجلس الأوروبي، فإن قرار تطوير مقاييس موجهة للأقليات القومية اتُّخِذ على أعلى المستويات من هذه المنظمات كردِّ فعلٍ للتهديدات المُلِحة للسلام والأمن، قبل أي محاولاتٍ من قِبل الأقليات القومية ذاتها، والواقع أن منظمات الأقليات لم تُمارِس دورًا ذا مغزًى في العملية الأولى لتشكيل هذه المعايير الأوروبية من ١٩٩٠م إلى ١٩٩٥م، ولكن في الأمم المتحدة، بالمقابل، فإن قرار تطوير المعايير الموجهة للسكان الأصليين انبثق بكثيرٍ من البطء، خلال عمليةٍ متصاعدة، كنتيجةٍ للحَراك الضخم والهائل من قِبل السكان الأصليين أنفسهم، مع مساندة خبراءَ مستقلين مرتبطين باللجنة العليا لحقوق الإنسان، وفي حين استطاع السكان الأصليون والمؤيِّدون لهم تحريكَ أجندتهم إلى أعلى وإلى الخارج، فيما وراء وطنهم الأساسي في اللجنة العليا، فإن ذلك كثيرًا ما كان يُواجَه باللامبالاة النسبية من جانب الهيئات الأعلى في الأمم المتحدة، مثل مجلس الأمن، أو بالفعل الجمعية العامة.
٢٨  يتحدث نيتشمان (العام ١٩٨٧م) عما يُسمَّى «الحرب العالمية الرابعة» بين الدول والسكان الأصليين، لكن ذلك إشارة إلى الانتشار العالمي للنزاعات المحلية بين الدول والسكان الأصليين، وليس ذلك تنبؤًا أو توقعًا بأن الصراعات المحلية يُمكِن أن تقع في شِراك صِراعاتٍ جيوسياسية أكبر إقليميًّا أو عالميًّا.
٢٩  الاهتمام أو الانشغال بين منظمات مثل البنك الدولي لبيان أن هذه المنظمات قد تعلَّمَت من فضائحَ عالية المستوى تتضمن سوء معاملة السكان الأصليين قام على أساس رغبة ذات مصلحةٍ ذاتية للحفاظ على شرعيتها الشعبية فيما يخص الاهتمامَ الإنسانيَّ بشعوب السكان الأصليين، غير أن السبب الذي يُعلِّل لماذا أصبحَت هذه فضائحَ عالية المستوى في المقام الأول — كان الاهتمام بين الجمهور الأوسع الغربي والدولي أن شبكات العمل المؤيدة والانتقالية التي تدعم السكان الأصليين كانت قادرةً على استغلال هذا التعاطف الشعبي الإنساني واستخدمَته للضغط على المنظمات الدولية مثل البنك الدولي.
٣٠  وبهذا المعنى فإن مسار حقوق السكان الأصليين يلائم النموذج الذي ناقشَه كيك وسيكنك، والذي اعتمد بشكلٍ رئيسي على مفاهيم «البراءة» و«الضعف» في تحديد القضايا التي يجري اختيارها داخل شبكات عمل حقوق الإنسان الدولية (كيك وسيكنك، ١٩٩٩م، ص٢٠٤).
٣١  قضايا الأمن ليست غائبة بشكلٍ كامل بالنسبة إلى شعوب السكان الأصليين. انظر: فان كوت، ١٩٩٦م؛ وتويوتا، ٢٠٠٥م، حول تأمين موضوعات السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا على التوالي، ولما كان السكان الأصليون يسكنون غالبًا في المناطق الحدودية، فإن مطالبهم الخاصة بالأرض وحقوق الحكم الذاتي أحيانًا تُرى على أنها تُثير موضوعاتٍ أمنية، حتى لو لم يظهر الشك في كونها متعاونة مع دول الجوار، ولقد كان السكان الأصليون عنصرًا مهمًّا في بعض حركات التمرُّد في أمريكا اللاتينية (في غواتيمالا على سبيل المثال).
٣٢  مقتبَسة عن النسخة التي أخذَت بها مجموعة العمل حول تَعداد السكان الأصليين ١٩٩٣م، والمفوضية العليا لمنح التفرقة العنصرية وحماية الأقليات ١٩٩٤م (E/CN.4/sub.2/1994/56)، وبعد أكثر من عقدٍ من اللقاءات والمحاورات جرى تبنِّي النسخة المعدَّلة تعديلًا طفيفًا بواسطة لجنة حقوق الإنسان عام ٢٠٠٦م، انظر: وثائق الأمم المتحدة (A/HRC/1/L.3)، الملحق في ٢٣ يونيو ٢٠٠٦م.
٣٣  انظر [إحياء حقوق الأقليات] في الجزء الأول من الكتاب (الفصل الثاني).
٣٤  لدراساتٍ مساعدة حول حركة حقوق السكان الأصليين العالمية، ونجاحها أو فشلها في التأثير على الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، انظر: تينانت، العام ١٩٩٤م؛ وبارش، ١٩٩٩م؛ وباسي، ١٩٩٩م؛ وفيلدمان، ٢٠٠٢م؛ وموهلباخ، العام ٢٠٠٣م.
٣٥  ليختينشتاين Liechtenstein: إمارةٌ دستوريةٌ مستقلة في أوروبا الوسطى، وتُعتبَر أصغر دولة في العالم، لغتُها الألمانية. (المترجم)
٣٦  انظر النقاش في ص٥٣–٥٤ أعلاه.
٣٧  طبقًا لما يقوله جيمس أنايا، الخبير الأكبر في حقوق السكان الأصليين في القانون الدولي، فإن جميع الدول والشعوب الفرعية كانت لها الحقوق الجوهرية نفسها في الحكم الذاتي الداخلي بوصفهم سكانًا أصليين، والمبرِّر العقلي لوجودِ معاييرَ دوليةٍ موجهة بصفةٍ خاصة إلى السكان الأصليين، في رأيه هو مبرِّرٌ علاجي فمن الأكثر احتمالًا أن تكون الحقوق الأساسية للسكان الأصليين منتهكة في الماضي (أنايا، العام ١٩٩٦م)، ولسوء الطالع فإن الخطاب الدولي السائد يُخفي، أكثر مما يُظهِر، الحقوق الجوهرية المشتركة لجماعات الأرض المختلفة.
٣٨  ربما كانت الحالة أنه في دول ما بعد الاستعمار فإن السكان الأصليين من المحتمَل أن يطالبوا بالحكم الذاتي أكثر من الأقليات القومية، وعلى الرغم من أنني لستُ متأكدًا بشكلٍ كامل من أن هذا التعميم صحيح، لكن حتى لو كان الأمر كذلك، فمن المؤكَّد أن دايس وويتلي يعكسان السبب والنتيجة؛ فهما يشيران إلى أن القانون الدولي يعترف بحقوق الحكم الذاتي للسكان الأصليين وليس للأقليات القومية؛ لأن الأولى أكثر احتمالًا بأن تطالب بتلك الحقوق، وسأذهب إلى العكس؛ فما دامت شعوب السكان الأصلية اليوم يحتمل أكثر أن تُطالِب بتلك الحقوق، فالسبب أن القانون الدولي يُسانِد هذه المطالب، فعلى حين أنه لا يقدِّم مساندةً لمطالبَ مماثلةٍ للأقليات القومية، فالواقع أن معظم الدول حول العالم تُعارِض توثيقَ مقياسٍ للحكم الذاتي للأقليات القومية تحديدًا؛ لأنهم يعرفون أن الأقليات القومية تريد الحكم الذاتي، والدول لا تريد أن تتلقى هذه المشروعات القومية الفرعية أي مساندةٍ أو تشجيعٍ دوليَّين.
٣٩  ذهب بعض المحلِّلين إلى أن إسرائيل ينبغي أن تُضاف كدولةٍ استعماريةٍ أوروبية؛ وبالتالي فإن التعريف التقليدي للسكان الأصليين يناسب الفلسطينيين (جبارين، ٢٠٠٠م، ٢٠٠٥م؛ وجمال، ٢٠٠٥م).
٤٠  لم يتسع هذا المسمى ليشمل الجماعات العِرقية التي جاءت عن طريق المستعمرين، مثل الهنود الذين جنَّدهم البريطانيون للعمل في أنحاء الإمبراطورية؛ فقد نُظر إليهم (وفي بعض الأحيان ما زال يُنظر إليهم) على أنهم «أجانب» أو «مهاجرون»، وفي ظل الاستعمار كانوا مميَّزين بالنسبة إلى السكان الأصليين وأبناء البلد، ومنذ الاستقلال أصبحوا غالبًا خاضعين لهم، بالنسبة إلى المشكلات التي تسبَّب فيها هذا المنظور في السياق الأفريقي، (انظر: مامداني، ١٩٩٦م).
٤١  تقول دايس إن المحاولات لتمييز المستوطنة الاستعمارية البعيدة عن الاندماج في الدولة المحكومة من قِبل الجماعات المجاوِرة تقوم على «تمييز لا مبرِّر له» (دايس، ١٩٩٦م، الفقرة ٦٣)، وشبيهٌ بذلك ما ذهبَت إليه مجموعة عمل المفوضية الأفريقية لتعداد ومجتمعات السكان الأصليين من أن «السيطرة والاستعمار لم يمارَسا حصريًّا بواسطة المستعمرين والمستوطنين البيض، وفي أفريقيا، قمعَت الجماعات المُسيطِرة أيضًا بعد الاستقلال الجماعات المهمَّشة، وهذا نوعٌ من القمع الداخلي في الوقت الحاضر في داخل الدول الأفريقية، وهو ما تسعى حركة السكان الأصليين الأفريقيين المعاصرة إلى معالجته» (تقرير جماعة عمل المفوضية الأفريقية لتعداد ومجتمعات السكان الأصليين، المفوضية الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، ٢٠٠٥م، ص٩٢).
٤٢  انظر مثلًا: مشروع الحكومة الدنماركية لتشجيع البلدان في جنوب شرق آسيا على المصادقة على مشروع منظمة العمل الدولية، الرقم ١٦٩، ومجهودات مجموعة العمل الدولية لشئون السكان الأصليين (IWGIA) لتدعيم استخدام فئة السكان الأصليين في أفريقيا والممارَسة الطويلة المدى في الأمم المتحدة لتمويل الجماعات الأفريقية لحضور مجموعة العمل لشعوب السكان الأصليين (لينوكس، ٢٠٠٦م).
٤٣  انظر على سبيل المثال الفحص العِرقي لمنظمة العمل الدولية الذي أُجري تحت رعاية سياسة السكان الأصليين (تومي، ٢٠٠٥م).
٤٤  انظر كينغزبيري، ١٩٩٥م و١٩٩٨م و١٩٩٩م؛ وشين، ٢٠٠٥م؛ وبارنز، ١٩٩٥م؛ وبوين، ٢٠٠٠م؛ وجماعة حقوق الإنسان، ١٩٩٩م (MRG)، والبنك الدولي، العام ٢٠٠٥م، والمناقشات الهائلة التي أثارها مقال آدم كوبر في العام ٢٠٠٣م في مجلة «الأنثروبولوجيا» (كوبر، ٢٠٠٧م)، مع تعليقاتٍ وردود في المجلة نفسها (مجلد ٤٥ / ٢ ومجلد ٤٧ / ١)، والأنثروبولوجيا اليوم (المجلد ٢٠ / ٢)، والإنساني الجديد (مجلد ١١٨/  ٣).
٤٥  انظر قبولهم الصريحَ لمقعَد جماعة العمل على الأقليات في الأمم المتحدة: «إن فائدة التمييز الواضح بين الأقليات والسكان الأصليين قابل للنقاش، إن المفوضية الفرعية، بمن في ذلك مؤلِّفو هذه الورقة، قد أدَّوا دورًا رئيسيًّا في فصل المسارَين، وربما جاء الوقت للمفوضية الفرعية لمراجعة الموضوع مرةً أخرى، ومن المحتمَل أن تكون التفرقة أقل فائدةً بكثيرٍ بالنسبة إلى وضع المعاييرِ فيما يتعلَّق برعاية الجماعات في آسيا وأفريقيا (إيدي ودايس، ٢٠٠٠م، الفقرة ٢٥، وانظر كذلك إيدي، ٢٠٠٤م).
٤٦  هناك حالةٌ أخرى مثيرة للاهتمام هي حالةُ طائفة الدالتس الدنيا في الهند، التي تقدَّمَت أحيانًا إلى الأمم المتحدة كأقليةٍ في جماعة العمل للأقليات، لكنها كانت تسعى إلى خياراتٍ أخرى، بما فيها احتمال معاملتها كشعبٍ من السكان الأصليين، أو بشكلٍ بديل كمجموعةٍ «عرقية» وفقًا لمعاهدة عدم التفرقة العنصرية، وكلتا التسميتَين لا تنطبق، لكنَّ كلتَيهما تقدِّم حمايةً مؤثِّرة أكثر من تسمية «الأقليات».
٤٧  الباسك أو الباسكيون شعبٌ مجهول الأصل يقطن جبال البرانس الغربية في الجزء الجنوبي من فرنسا والشمالي من إسبانيا. (المترجم)
٤٨  تُنتقَد مثل هذه الجماعات أحيانًا لاستغلالها تسمية «السكان الأصليون» على نحوٍ استراتيجي، بطريقةٍ لا تعكس هويتها الأصلية، لكن ليس ثمَّة ما يُدعى بالفئات «الأصيلة» للجماعات العِرقية الثقافية، تلك الفئات تبتكر لأغراضٍ قانونية وسياسية، على أن تقيم كفاءتها في خدمة هذه الأغراض، وفي هذه الحالة لا ينصَبُّ اهتمامي على أن إطار عمل الأمم المتحدة الحالي يشجِّع الاستخدام الاستراتيجي لفئة السكان الأصليين بغرض صياغة المطالب، لكن بالأحرى أنه يشجِّع أشكالًا لصياغة المطالب ربما تقوِّض فئة السكان الأصليين ذاتها.
٤٩  حول تبني خطاب القومية بواسطة السكان الأصليين، (انظر: بابيون، ١٩٩٩م؛ الفريد، ١٩٩٥م؛ تشارتراند، ١٩٩٥م).
٥٠  لقد سارت هذه المفاوضات بالفعل ببطءٍ وكأنها تزحف، وهو تأخُّر يُعزَى عادةً إلى إحجام الدول عن قبول مبدأ التقرير الذاتي الداخلي بالنسبة إلى السكان الأصليين، وإن كنتُ أشك في أن التأخُّر يرجع في جانبٍ منه على الأقل إلى الخوف من عدم وجود ضماناتٍ كافية لمنع فئة السكان الأصليين من أن تتسعَ لتشمل بعض الأقليات القومية.
٥١  بالنسبة إلى التعبيرات المختلفة عن هذا القلق، انظر: أوكرمان، ٢٠٠٠م، ص١٠١٧، «إن نجاح حركة السكان الأصليين نفسها في تطوير إطار عملٍ حقوقيٍّ طموح، والحصول على حضورٍ مؤسساتي في الأمم المتحدة من خلال جماعة العمل، يهدِّد بتقويض المعايير الضعيفة غير المعلنة التي ميَّزَت الحركة حتى الآن» (انظر: كينغزبيري، ١٩٩٨م، ص٤١٩)، (هناك مخاطرةٌ كبيرة بالنسبة إلى حركة السكان الأصليين بأن التمييز السياسي الدولي الموجود والفعَّال على نحوٍ عالٍ بين شعوب السكان الأصليين والأقليات العِرقية والأقليات الأخرى سوف يتآكل، مما سيقضي على المعارضة القوية لمطالب السكان الأصليين)، وبارش، ١٩٩٤م، ص٨١ و٨٢، (سوف يكون على السكان الأصليين أن يختاروا بين استبعاد هذه الجماعات (الأقلية القومية) من الحركة وجذبِ عداءِ كثيرٍ من الدول التي لم تكُن لها مصلحة في السابق في قضايا السكان الأصليين).
٥٢  وتواجه جميع هذه التعريفات كذلك مخاطر ابتكار عدم اتفاق بين شكل ومضمون حقوق السكان الأصليين، وكما سبق أن رأينا أن مضمون حقوق السكان الأصليين يقوم على نحوٍ متزايد على القضاء على الاستعمار الداخلي، ويقدم بناء على ادعاء أنه سيكون من التعسُّف المصادقة على القضاء على الاستعمار بالنسبة إلى مستعمرات الإمبراطورية الأوروبية في الخارج وليس للسكان الأصليين المستعمرين داخل الدول الأوروبية الاستيطانية، وحقوق السكان الأصليين من هذا المنظور أكثر ملاءمة وفقًا لمنطق القضاء على الاستعمار، ومع ذلك فإن هذه الحقوق مُنحَت لجماعاتٍ في آسيا وأفريقيا، ليس بناءً على معايير الاستعمار الداخلي لكن على أساس خليطٍ ما أو درجةٍ من التهميش الاقتصادي والاستبعاد السياسي والضعف الثقافي، ومن الواضح أن من المرغوب فيه حماية الأقليات التي تعاني هذه الظروف، لكن ليس من الواضح لماذا تكون النماذج القائمة على القضاء على الاستعمار هي العلاج الصحيح.
٥٣  إن الاستثناء الرئيسي هو تقرير العام ١٩٩٩م، الذي قدَّمه ميغل ألفونسو مارتينز، مقرر الأمم المتحدة لشئون السكان الأصليين، وفي هذا التقرير حول استخدام المعاهَدات لإقامة ترتيبات بنَّاءة بين الدول والسكان الأصليين، يؤكِّد ألفونسو مارتينز «ضرورة إعادة تأسيس تمييزٍ واضح بين شعوب السكان الأصليين والأقليات القومية والعرقية»، وبأن الطريقة الوحيدة لعمل ذلك تكون عن طريق تحديد الفئة السابقة على الدول الاستيطانية الوحيدة لعمل ذلك تكون عن طريق تحديد الفئة السابقة على الدول الاستيطانية في العالم الجديد «التي تكون فيها فئة السكان الأصليين مؤسَّسة بالفعل على نحوٍ يجاوز أي شك من وجهةِ نظرٍ تاريخية وحديثة» (ألفونسو مارتينز، ١٩٩٩م، الفقرتان ٦٨ و٦٩)، لقد ذهب إلى أن وضع السكان الأصليين في العالم الجديد يختلف نوعيًّا من الناحية التاريخية والأخلاقية عن وضع القبائل أو الأقليات المُضطهَدة الأخرى في آسيا وأفريقيا.
وجوانب عدم التشابه هذه تعتمد على عددٍ من العوامل التاريخية التي تستوجب تمييزًا واضحًا يُوضَع بين ظاهرة الاتساع الإقليمي من قِبل السكان الأصليين إلى المناطق المجاورة، وظاهرة الاستعمار المنظم من قِبل القوى الأوروبية للشعوب القاطنة في مناطقَ في القارات الأخرى منذ أزمنةٍ سحيقة، إن مشاريع الاستعمار الخارجي تختلف اختلافًا تامًّا عن الظاهرة الشائعة جدًّا لتوسيع الأقاليم المجاورة (على حساب الجيران) التي تُمارَس بواسطة الشعوب في تلك الأقاليم «الجديد» قبل وصول المستعمر الأوروبي، إن الطبيعة الملازمة للمشروع الاستعماري والطابع التمييزي الاستغلالي والمُسيطِر لفلسفته كنظامٍ ومناهجه ونتائجه النهائية على المجتمعات هي ما يحدِّد هذا الاختلاف (الفقرتان ٧٣ و١٧٥).
ولقد كان ذلك صوتًا وحيدًا في البرية في داخل شبكة السياسة العالمية حول حقوق السكان الأصليين، ومع ذلك ففي النهاية كان الممثلون الآخرون جميعًا داخل هذه الشبكات يُنكِرون موقفَه.
٥٤  لاحظ كينغزبيري أنه إذا ما ارتفع عددُ أقلياتِ أرض الوطن التي تُعيد تعريفَ نفسها كشعبٍ من السكان الأصليين «فهناك خطورةٌ لها وزنُها على حركة السكان الأصليين بأن يتآكل التمييز السياسي الدولي الموجود والفعَّال بين شعوب السكان الأصليين والأقليات العِرقية والأقليات الأخرى، مما يقوِّي المعارضة المبطَّنة لمطالب السكان الأصليين» (كينغزبيري، العام ١٩٩٨م، ص٤١٩)، لكن بالطبع (كما لاحظ هو)، فإن هذه التفرقة ليست «فعَّالة بشكلٍ عالٍ» للجميع، على العكس فهي ليست فعَّالة تمامًا بالنسبة إلى أغلبية أقليات أرض الوطن «التي تنتسب إلى فئة حقوق الأقلية العامة، لقد كان هذا التمييز فعالًا على نحوٍ كبير بالنسبة إلى السكان الأصليين، الذين كانوا قادرين على التقدُّم عن طريق فَصلِ مطالبهم عن مطالبِ الأقليات القومية الأكثر عُرضةً للجدال والتأمين، لكن النتيجة هي أن القانون الدولي «ضعيف بشكلٍ قاتل» بالنسبة إلى الأقليات القومية (بارش، ١٩٩٤م)، وهذا الضعفُ القاتلُ هو الذي يفسِّر الاعتراضَ على هذا التمييز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤