التحدي العالمي
«إن الأمم المتحدة، على الرغم من عدائها الواضح لأفكار الحق المبدئي بالحكم الذاتي للجماعات القومية الفرعية، انتهى بها الأمر في الواقع إلى تدعيمِ نماذجَ أوروبيةِ الطراز للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات في العديد من الحالات المهمة.»
التجربة الأوروبية مع حقوق الأقليات بعد العام ١٩٩٠م، هي، من نواحٍ كثيرة، قصةٌ متميِّزة؛ فهي فصل في قصةٍ قديمة جدًّا حول دور «الأقليات القومية» في بناء نظام «الدولة القومية» الأوروبية. غير أن التحديات التي واجهَتها هذه التجربة ليست أوروبيةً على وجه الخصوص؛ فلقد تبنَّت المنظَّمات العالمية كثيرًا من الاستراتيجيات الأساسية نفسها التي تبنَّتها المنظَّمات الأوروبية لنشر التعدُّدية الثقافية الليبرالية، ومرت بالمُعضِلات نفسها. وفي هذا الفصل سوف أنظر إلى أنشطة المنظمات الدولية خلال المسارات الثلاثة ذاتها، وبالتحديد: (١) تعميم أفضل الممارسات/النماذج. (٢) صياغة معايير قانونية. (٣) تدخُّلات لحل النزاع في حالاتٍ خاصة. وفي كل حالة، سنرى أن الصعوبات التي عرَفْناها في السياق الأوروبية تعود مرةً أخرى إلى الظهور، وكثيرًا ما تكون في أشكالٍ تستعصي على الحل.
حدود أفضل الممارسات
ولقد أسفَرَت هذه الجهود عن شبكةٍ عالمية من الناشطين والأكاديميين، والمثقَّفين، وصُناع السياسة الذين كانوا على معرفةٍ وثيقة باتجاهات وممارسات التعدُّدية الثقافية الليبرالية. إن نسيجًا كثيفًا من المشروعات البحثية وأنشطة التدريب والدفاع تربط بين مسئولي الأمم المتحدة وشركات متعاطفين من المنظَّمات غير الحكومية (وذلك مثل جماعة حقوق الأقليات) والمنظَّمات الخيرية (مثل مؤسسة «روكفلر» أو معهد «المجتمع المفتوح» لجورج سورس) والمؤسَّسات شبه الأكاديمية (مثل المركَز العالمي للدراسات العِرقية أو أكاديمية السلام الدولي)، مع تمويلٍ من الدول الأعضاء المؤيِّدة المتشابهة في الفِكْر (مثل النرويج وكندا).
وعلى أحد المستويات فإن إقامة تلك الشبكة العالمية هي إنجازٌ مدهش في فترةٍ قصيرة نسبيًّا. وكما رأينا في الفصل الثاني، فإن الأفكار الأساسية التي تدعمُها هذه الشبكة كان لها صدًى واضحٌ عَبْر الفروع المتعددة للأمم المتحدة، والمنظمات العالمية التابعة لها، بما في ذلك تلك المنظمات المخصَّصة للتنمية، وحقوق الإنسان والسلام والأمن، وعلى مُستوًى بلاغي، من الصعب أن تجد أيَّ منظمةٍ عالمية بين الحكومات لا تلجأ اليوم إلى خطاب التعدُّدية الثقافية الليبرالية.
ومع ذلك فإن هذا النجاح الظاهر يُخفي وراءه فشلًا أعمق؛ فالمحاولات لتدعيم التعددية الثقافية الليبرالية، فيما وراء هذه الدائرة الضيقة نسبيًّا من الصفوة العالمية، قد فشلَت في معظم عالَم ما بعد الاستعمار. ويصدُق ذلك بصفةٍ خاصة على أي نموذجٍ من التعددية الثقافية الليبرالية يتضمن أفكارًا عن الحكم الذاتي للأقلية. إن أفكار الحكم الذاتي الإقليمي تجري مقاومتُها بقوةٍ في معظم بلدان ما بعد الاستعمار، مثلما يحدُث في معظم بلاد ما بعد الشيوعية. كما يقول آشيس ناندي: «إن أي اقتراحٍ لإلغاء مركزية الدولة أو إعادة صياغة مفهومها كهيئةٍ فدرالية بشكلٍ حقيقي يتعارض مع مزاج معظم دول ما بعد الاستعمار في العالم الثالث» (ناندي، ١٩٩٢م، ص٣٩، اقتُبس في مظفر وسكاريت، ٢٠٠٠م). وبالفعل تصبح أفكار الحكم الذاتي للأقلية موضوعًا يحرُم الحديث فيه في كثيرٍ من الدول، وفي بعض الدول هناك قوانينُ تمنع مجرد التصريح بهذه المطالب.
وهناك استثناءاتٌ لهذا التعميم، وأكثر هذه الاستثناءات بروزًا هي أمريكا اللاتينية، التي برهنَت على أنها أرضٌ تتقبل أفكار التعددية الثقافية (أو «ما بين الثقافات» كما هو أكثر شيوعًا في المناظرات باللغة الإسبانية)، وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بالسكان الأصليين. إن الالتزام بالحقوق الموجَّهة إلى السكان الأصليين قد أصبح أحد المكوِّنات الأساسية في خطاب الدمقرطة في المنطقة، ليس فقط بين الصفوة الغربية المدربة، بل في المجتمع المدني بشكلٍ أكثر عمومية. وينعكس ذلك في الصعود الهائل لما تطلق عليه دونا لي فان كوت «الدستورية المتعدِّدة الثقافات» عَبْر أمريكا اللاتينية (فان كوت، العام ٢٠٠٠م، الفصل التاسع). وقد صاحب التحوُّل من الدكتاتورية العسكرية إلى الديمقراطية الاعتراف الدستوري بالوضع القانوني المتميِّز للسكان الأصليين، بما في ذلك حقوق الحكم الذاتي، وقضايا الأرض، والاعتراف بقانون العُرف في كثيرٍ من البلاد.
وكما في الأنظمة الديمقراطية الغربية المتماسكة، هناك مناقشاتٌ مترنحة وبغير حلٍّ في أمريكا اللاتينية حول مدى كفاءة عمل هذه النماذج من التعدُّدية الثقافية بالفعل، لتمكين السكان الأصليين والقضاء على الهيراركيات الموروثة للسلطة. ولقد ذهب بعض النقاد إلى أنها تتضمن مجرد تغيُّراتٍ رمزية. والواقع أن البعض ذهب إلى أن هذه الخطط أو السياسات قد أعدَّتها الصفوة الليبرالية الجديدة بالتحديد، لتشتيت الانتباه السياسي بعيدًا عن بِنى السلطة الأساسية (هيل، العام ٢٠٠٢م)، وهو تخوُّف عزَّزَته حقيقة أن الحركات السياسية للسكان الأصليين أحيانًا ما تدخُل في تحالفاتٍ تكتيكية مع الأحزاب السياسية اللبرالية الجديدة (آلبو، ١٩٩٤م). ولقد ذهب آخرون إلى أنه بينما تتوافر منافعُ ملموسةٌ للسكان الأصليين فإن إصلاحات التعددية الثقافية تأتي بهيراركياتٍ عِرقيةٍ جديدة خلال هذه العملية — على سبيل المثال، استبعاد جماعات السود التي لا يُنظر بشكلٍ نموذجي على أنها سكانٌ أصليون (هوكر، ٢٠٠٥م)، ومع ذلك ذهب آخرون إلى أنها تحصُر الناس في أدوارٍ ثقافية، وتعرِّض الحرية والفردية للخطر. ومن أجل التأهل لحقوقٍ موجهةٍ جديدة فإن من المتوقَّع من أعضاء مجتمعات السكان الأصليين أن يتصرَّفوا «كما يتصرَّف الهنود» (تيلِّي، ٢٠٠٢م) — أعني اتباع الممارَسات الثقافية «الأصلية» — وهو توقُّع يدعَم يد القادة المحافظين أو الأبويين داخل المجتمع الذين يؤكِّدون السلطة لتحديد ما هو «أصلي» (سيدر، ٢٠٠١م).
ومن ثَم فقد رأى معظم المحلِّلين أن التحوُّل إلى الدستورية المتعدِّدة الثقافات في أمريكا اللاتينية كقوةٍ إيجابية، يُساعِد على تحسين المشارَكة الديمقراطية بين الجماعات التي استُبعدَت من قبلُ، ويُقلِّل من خطر العودة إلى الحكم السلطوي، وتبنِّي مشروعية لعملية التماسُك الديمقراطي، وتخدم بالفعل كمعملٍ للتجارب المبتكَرة للمواطَنة الديمقراطية (ياشار، ٢٠٠٥م).
إن المحاولات التي قام بها المجتمع الدولي لتحدي هذه المحرَّمات، ولتشجيع اتجاهٍ أكثر انفتاحًا للحكم الذاتي، قد استقبلَتها آذانٌ صمَّاء. وكما ذكرتُ في الفصل الأول، فحتى المصلحون الديمقراطيون الذين ربما يُتوقَّع منهم أن يتعاطفوا مع أفكار التعددية الثقافية الليبرالية كثيرًا ما يُعارِضونها؛ فافتراض أن هذه الأفكار القوية عن حقوق الأقلية لا بد أن تُرى كجزءٍ أو قسم من العملية الديمقراطية لا يزال محلَّ نزاع في أجزاءٍ كبيرة من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.
ومن أجل سهولة الاستعمال، فسوف يُساعِدنا أن يكون لدينا مصطلحٌ يغَطي البلاد الأفريقية والآسيوية والشرق الأوسط. في بقية هذا الفصل سأُطلِق عليها «دول ما بعد الاستعمار»، لكي أميِّزها عن دول ما بعد الشيوعية في أوروبا الشرقية، والديمقراطيات المستقرة في أوروبا الغربية، ودول المستعمرات الأوروبية في العالم الجديد في الأمريكتَين وأستراليا. ومن الواضح أن هذه ليست تسميةً دقيقة؛ فبعضُ الدول في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط لم تُستعمَر قط بشكلٍ رسمي (مثل إثيوبيا، وتايلند، والصين)، وبالتالي ليست بالضبط «دول ما بعد الاستعمار»، ومع ذلك فإن هذه الدول هي استثناء للحكم العام للاستعمار الأوروبي في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وعلى أي حالٍ فهي تقع غالبًا تحت واحدةٍ أو أخرى من مناطق نفوذ السلطة الأوروبية؛ ومن ثم فقد أظهرَت إرثًا مشابهًا لما هو موجود في دول ما بعد الاستعمار المتجاورة معها.
والواقع أن مصطلح «ما بعد الاستعمار» مصطلحٌ مضلِّل بطريقةٍ أخرى، من حيث إن دول مستعمرات العالم الجديد مثل الولايات المتحدة وأستراليا أو المكسيك كانت أيضًا مستعمرةً من قبلُ؛ وبالتالي يُمكِن اعتبارها بشكلٍ عملي من دول ما بعد الاستعمار، لكننا في هذه الحالات سنجد أن سكان المستعمرات الأوروبيين، وليس الجماعات التي كانت تسكُن الأرض قبل استعمارها، هم الذين يطالبون بالاستقلال؛ فلقد كان المستعمرون أنفسهم هم الذين قطعوا صلتَهم بالقوى الإمبريالية. أما بلاد أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط فهي، على العكس، «بلاد ما بعد الاستعمار» بمعنًى مختلف عن ذلك أتم الاختلاف؛ فالسكان التاريخيون لهذه المجتمعات قد استعادوا حكم أنفسهم بالإطاحة بالمستعمرين الأوروبيين، الذين عادوا بالتالي إلى عاصمتهم الإمبراطورية.
ولذلك فعلى الرغم من عدم دقته، فأنا أعتقد أن مصطلَح «ما بعد الاستعمار» يساعد في تحديد بعض الملامح الأساسية لهذه المناطق الثلاث. أما القُراء الذين يجدونه مضلِّلًا، فلهم الحرية في أن يستبدلوه ببساطةٍ بعبارة «دول في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط».
تقدير المصادر والشروط المسبقة
السؤال الأساسي، إذن، هو لماذا واجهَت التعددية الثقافية الليبرالية مثل هذه المقاومة في دول ما بعد الاستعمار؟ هناك عدة طرقٍ لتوضيح هذه المقاومة، يلجأ بعض المحلِّلين، كما حدث في أوروبا ما بعد الشيوعية، إلى الانتشار المزعوم لأشكال ما قبل الحداثة القبَلية والقومية العِرقية، وغياب فهم أكثر حداثةً للمدنية، والتسامح. وهناك نسخة أكثر تطورًا من هذه الحُجة تلجأ إلى «قيمٍ حضارية» مختلفة. ولقد قيل إن التعددية الثقافية تمثِّل تصورًا غربيًّا للعلاقة بين الفرد وثقافته، أو بين الأفراد ومجتمعهم بشكلٍ أكثر عمومية. أما الحضارات الأخرى فلها قيمٌ أخرى، ومن ثم طرقٌ أخرى للتعامل مع قضايا الأقليات؛ فلقد قيل على سبيل المثال إن المجتمعات الآسيوية تقوم على أساس تصوُّر «أكثر اشتراكية» للمجتمع، يؤكِّد الانسجام والامتثال بدلًا من تدعيم الحقوق الليبرالية (هي، ١٩٩٨م، ٢٠٠٤م). ولقد أُثيرَت هذه القضايا نفسها بالنسبة إلى المنطلقات الإسلامية تجاه الأقليات (انظر مثلًا: يوسف، العام ٢٠٠٠م).
إن محاولة توضيح أو تفسير مصير الأقليات العرقية الثقافية في دول ما بعد الاستعمار بالإشارة إلى مواقفِ ما قبل الحداثة أو قيمها الحضارية، ليست هي البداية أو نقطة الانطلاق. إن علينا أن نبحث في مكانٍ آخر، وأحد الأماكن التي نبدأ بها هو استدعاء المصادر والشروط المسبقة للتعدية الثقافية الليبرالية في الغرب. والواقع أن هذه الظروفَ إنما تُوجَد على نحوٍ غير مطَّرد في عالم ما بعد الاستعمار. دعوني أركِّز على خمسة موضوعات، بعضُها يتداخل مع الموقف في أوروبا ما بعد الشيوعية، أما بعضُها الآخر فهو خاصٌّ بآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.
وسأبدأ بعاملَين رئيسيَّين يُسهِّلان قَبول التعددية الثقافية الليبرالية من قِبل الدول والجماعات المُسيطِرة في الغرب، أعني ضمانات حقوق الإنسان واللاأمان (انعدام الأمن القومي)، في عالم ما بعد الاستعمار، مثلما في أوروبا بعد الشيوعية، هناك صعوباتٌ في كلٍّ منهما.
أولًا: ضمانات حقوق الإنسان
الخطورة التي نرى أنها مرتبطة بتبنِّي التعددية الثقافية الليبرالية تعتمد، إلى حدٍّ ما، على تتابُع حقوق الأقليات بالنسبة إلى موضوعاتٍ أوسع كتماسُك الدولة وديمقراطيتها، في الغرب، مع الاستثناء المهم لإسبانيا، فإن بناء الدولة لكي تتكيف مع أقلياتِ أرضِ الوطن الذي حدَث بعد تطوُّر مؤسسات الدولة الفاعلة، مع تراثٍ راسخٍ للحدود الدستورية على الحكومة وحكم القانون، والسلطة القضائية المستقلة، وبيروقراطيةٍ محترفة ومعها الشرطة، وثقافةٍ سياسيةٍ ديمقراطية، واقتصادِ سوقٍ مزدهر، على نحو ما لاحظت في الفصل الرابع، فإن وجود ذلك التراث الراسخ للدستورية الليبرالية كان أمرًا ضروريًّا للتعددية الثقافية الليبرالية التي ظهَرَت في الغرب. ولقد ألهمَت الليبرالية وقيَّدَت الأشكال المعاصرة للسياسات العِرقية في الغرب، ولقد وفَّر ذلك إحساسًا بالأمان لجميع المواطنين بأن النتائج سوف تعمل داخل حُدودٍ معروفةٍ جيدًا للديمقراطية وحقوق الإنسان، أيًّا كانت الطريقة التي تُحلُّ بها الصراعات حول التعددية الثقافية.
أما بالنسبة إلى أعضاء الجماعة ذاتِها، فإن انتقالَ سلطاتِ الحكم الذاتي يُمكِن أن تؤدي إلى انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان داخل الجماعة — على سبيل المثال فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين (الرجل والمرأة) — والواقع أن «غوربريت ماهاجان» تذهب إلى أن الاختلاف الأساسي بين نقاش حقوق الأقلية في الهند وفي الغرب يتعلق بحماية الحقوق الفردية داخل الجماعات. ولقد ذكرتُ من قبلُ أن هدف التعددية الثقافية الليبرالية يُمكِن أن يتلخص في «المساواة بين الجماعات، والحرية داخل الجماعات». ولقد ذهبَت غوربريت إلى أن قضايا التفاوت وعدم المساواة بين الجماعات ظهَرَت إلى السطح قبل وجود الحمايات الكافية للحقوق الفردية داخل الجماعات. أما في الغرب، في المقابل، فإن موضوع إعادة معالجة التفاوت واللامساواة بين الجماعة لم يظهر إلا بعد أن أخذَت الحمايات القوية للحقوق الفردية مكانَها بالفعل.
(مهاجان، ١٩٩٨م، ص١٥٢–١٥٥، مقتبَسة من جين، ٢٠٠٥م؛ ناندا، ٢٠٠٣م).
ثانيًا: اللاأمان الإقليمي
عاملٌ آخر يتعلق بالأمن الجغرافي السياسي هو أن معظم دول ما بعد الاستعمار لديها عدوٌّ أو أكثر على حدودها. ولا بد أن هؤلاء الجيران الأعداء يميلون إلى زعزعة استقرار الدولة، وأحد الأساليب المعروفة للقيام بذلك هو تجنيدُ الأقليات داخل الدولة، وتشجيعُها على القيام باحتجاجاتٍ تُسهِم في زعزعة الاستقرار، بل ربما القيام بالتمرُّد المسلح. وفي مثل هذا السياق من اللاأمان الإقليمي، يُنظَر إلى الأقليات على أنها طابورٌ خامسٌ محتمل، أو على أنها متواطئةٌ مع الجيران الأعداء، كما يُنظَر إلى الحكم الذاتي لمثل هذه الأقليات على أنه تهديدٌ للأمن القومي.
ثالثًا: عدم الثقة بالمجتمع الدولي
هذان العاملان الأوَّليَّان — الخوف من أن تمثِّل حقوق الأقليات القوية تهديدًا للأمن الشخصي للأفراد، ولأمن الدولة — موجودان كذلك في أوروبا ما بعد الشيوعية. بيد أن آفاق التعددية الثقافية الليبرالية، يُعقِّدها بشكلٍ ظاهر في دول ما بعد الاستعمار عاملٌ ثالث لم يُوجَد في أوروبا ما بعد الشيوعية، وهو بالتحديد انعدامُ الثقة بالمنظمات الدولية التي تشجِّع حقوق الأقليات؛ فالعديد من الناس يشكِّكون ليس فقط في رسالة التعددية الثقافية الليبرالية، بل أيضًا في حامل الرسالة.
ومن الواضح أن هذا النوع من نظرية المؤامرة غير صحيح كتفسير لأصول الموجة السارية من المعايير الدولية لحقوق الأقليات. وكما أشرتُ فيما سبق، فإن اتجاه ما بعد تسعينيات القرن الماضي لتدويل العلاقات بين الأقليات والدولة قد أظهَر تخوفًا من النتائج المزعزعة للاستقرار للحروب المدنية العِرقية في البلقان والقوقاز، وقد عزَّز تلك المخاوفَ الانهيارُ المُريع للدولة في أماكنَ مثل رواندا والصومال. إن الاندفاع نحو التعرُّف على المعايير الدولية وأفضل ممارَسات التعددية الثقافية إنما أتى بصفةٍ عامة من الناس داخل الغرب الذين دعموا هذه الاصطلاحات داخل بلادهم، والذين اعتقدوا بإخلاصٍ بأنها ناجحة (على نحوٍ متواضع). لم يكن هدفهم هو إضعاف أو زعزعة دول ما بعد الاستعمار، بل تحديدًا المساعدة في جعلها مستقرة وناجحة، عن طريق نشر نماذج للعلاقات بين الدول والأقلية التي نجحَت في الغرب.
ومع ذلك، فقد ظلت نظرياتُ المؤامرة هذه قويةً في عالَم ما بعد الاستعمار، ولقد أثارَتْها المعايير المزدوجة التي تبنَّتها القوى الغربية عند تطبيق معايير حقوق الأقليات؛ فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، دانت العراقَ بشدةٍ في عهد صدام حسين لسوء معاملة الأكراد، ومع ذلك فقد أغمضَت عينَيها عن سوء معاملة الأكراد في تركيا. والتفسير الواضح لهذا المعيار المزدوج هو أن العراق كان عدوًّا للولايات المتحدة، في حين كانت تركيا حليفًا عسكريًّا وعضوًا في حلف الناتو. وفي مثل هذه الحالات فإن الإشارات إلى حقوق الأقليات كانت توظَّف كوسيلةٍ لدعم سياسات القوى العظمى، ولا تعكس اهتمامًا مخلصًا لحقوق الأقليات.
وهناك بالمثل إحساسٌ واسع الانتشار في العالم الإسلامي بأن اهتمام الغرب بتحرير شرق تيمور (المسيحي) من انضمامه القَسري إلى إندونيسيا (المسلمة) هو مجرد نفاق، إذا ما قُورن بانعدام الاهتمام بتحرير الأقليات المسلمة التي انضمَّت إلى دولٍ أخرى في انتهاكٍ للقانون الدولي، كما هي الحال في كشمير أو فلسطين. وانشغال الغرب بما تعانيه الأقليات المسيحية في السودان (ذي الأغلبية المسلمة) يتعارض مع لامبالاة الغرب بما تُعانيه الأقلياتُ المسلمة في الفلبين أو روسيا (ذات الأغلبية المسيحية). إن الكتابات الشعبية والأكاديمية حول موضوعات الأقلية في عالم ما بعد الاستعمار تزخَر بهذه الأمثلة للمعايير المزدوجة والتناقضات، والنتيجة هي النظر إلى الدعم الغربي لحقوق الأقليات كما لو لم تكن له أي شرعية أو مصداقية.
لكن إذا تحدثنا بطريقةٍ أخرى قلنا إن دول ما بعد الاستعمار لم تكن تخشى فقط من أن الجيران الأعداء سوف يستخدمون المعايير الدولية لحقوق الأقليات وسيلةً لزعزعة الاستقرار، لكنها تخشى كذلك من أن يستخدمَها المجتمعُ الدولي نفسه بهذه الطريقة عندما تتجرأ دولةٌ ما على تهديد الهيمنة الأمريكية/الغربية. وتُشارِك دول ما بعد الشيوعية في أوروبا في الخوف الأول نفسه، لكن ما دامت تأمل وتتوقَّع أن تصبح جزءًا من القوة الغربية، المهيمِنة فإنها لا تُشارِك في هذا الخوف الأخير.
إذن فقد كان التحدي الرئيسي هو كيف نتعامل مع الإحساس الشائع بأن الدعم الدولي لحقوق الأقليات هو ببساطةٍ وسيلة للسياسات الجغرافية؟ وليس ذلك مشكلةً تقتصر على موضوع حقوق الأقليات؛ فهناك شكاوى مماثِلة ظهَرَت حول المعايير الغربية المزدوجة فيما يتعلق بحقوق الإنسان التقليدية، أو الديمقراطية. غير أن المنظمات الدولية وما يتبعُها من شبكات العمل السياسية استطاعت في مثل هذه الحالات أن تُقنِع قطاعاتٍ عريضةً من الصفوة والجمهور العام حول العالم بأن المُثل العليا الكامنة لحقوق الإنسان والديمقراطية لها قيمةٌ أصيلة، حتى لو أن هذه المُثل العليا كانت تُستدعى أحيانًا بشكلٍ غير مخلص أو بطريقةٍ تنطوي على نفاقٍ بواسطة ممثلين سياسيين معيَّنين؛ ومن ثَم فإن الاستجابة لاستخدام حقوق الإنسان من جانب القوى العظمى لا تكون بإضعاف الحماية الدولية، بل بالأحرى بمحاولة تقوية هذه الحماية وتعزيزها، أعني تطوير إجراءاتٍ محايدة أشد اتساقًا لمراقبة حماية حقوق الإنسان وتقييمها.
ومع ذلك ففي حالة حقوق الأقلية فإن الجهود التي تُبذَل لإقناع الناس في دول ما بعد الاستعمار بالمزايا الأصلية للمُثل العليا للتعددية الثقافية الليبرالية كانت أقلَّ نجاحًا. وكنتيجةٍ لذلك، استجابةً للتناقُضات والمعايير المزدوجة، كان هناك اختلافٌ أعظم حول ما إذا كان الهدف تقوية أو تخفيف الرقابة الدولية لحقوق الأقلية؛ فلو أن الحكومة الأمريكية طبَّقَت معاييرَ مزدوجةً بالنسبة إلى تركيا والعراق في موضوع الأكراد، فهل ينبغي أن تكون الاستجابة إضعافَ المساندة الدولية للحكم الذاتي لأكراد العراق، أو تقويتها لأكراد تركيا؟ وإن كانت هناك معاييرُ مزدوجة في الاستجابة الدولية لسوء معاملة الأقليات في السودان والفلبين فهل يجب أن تكون الاستجابة بإضعاف المساندة الدولية للحكم الذاتي للأقليات المسيحية في السودان، أم تقوية المساندة الدولية للحكم الذاتي للأقليات المسلمة في الفلبين؟
افترض كثيرون من مؤيدي حقوق الأقليات أن الهدف ينبغي أن يكون رفع المستوى، وليس الهبوط بالمستوى. وهذا ما أشرتُ إليه في الفصل الأول تحت اسم «ملء الإطار» بالنسبة إلى معايير حقوق الأقليات الدولية. لكن في غياب الإجماع على المزايا الأصيلة للتعددية الثقافية الليبرالية، ومراعاة الخوف من استخدامها كأداةٍ للسياسات الجغرافية، فإن ردَّ الفعل الأكثر احتمالًا هو الهبوط بالمستوى. وعلى حين أن كثيرًا من دول ما بعد الاستعمار مستاءةٌ من المعايير المزدوجة التي تُلاحظ في تطبيق معايير حقوق الأقلية، فإن معظم هذه الدول قد يفضِّل أن يتعامل معها بإضعاف المساندة الدولية لحقوق الأقلية، وليس بتقويتها، أعني أنها تفضِّل تفريغ إطار حقوق الأقليات الدولية، لا ملأه.
ولقد فسَّرَت هذه العناصرُ الثلاثة الأولى قدْرًا كبيرًا من مقاومة النماذج الليبرالية للتعدُّدية الثقافية بين صفوة الدول والجماعات المُسيطِرة في عالم ما بعد الاستعمار. حتى إذا كانت منجذبةً نحو مبادئ التعددية الثقافية الليبرالية وقبلَت الشرعية الفلسفية لبعض قضايا الأقليات، فربما تظل تُقاومها بشدةٍ على أساس أنها تشكِّل خطورةً قوية في ظل ظروفها الخاصة؛ ففي حالة اللاأمان الإقليمي المحاط بأعداءٍ مجاوِرين وقوًى دوليةٍ معادية، فمن الممكن أن تهدِّد ترتيباتُ الحكم الذاتي الأمن الأساسي للدولة. وفي غياب التماسُك الديمقراطي، من الممكن أن تمثِّل ترتيبات الحكم الذاتي تهديدًا لحياة وحرية المواطنين الأفراد الذين ينتمون إلى الجماعة «الخاطئة». وفي ظل هذه الظروف، فإن الهدفَ المقصود من التعددية الثقافية — استبدال علاقات العداوة والاستبعاد غير المتحضِّرة بعلاقاتٍ أكثر إنصافًا للمواطنة الديمقراطية الليبرالية — ربما يتم إفساده وتخريبه. والسياسات والمؤسَّسات المصمَّمة لتدعيم المواطنة في الدول المتعدِّدة العِرقيات قد يُسيطَر عليها من قِبل عناصرَ داخلية وخارجية تسعى إلى الإبقاء على علاقات العداوة والاستبعاد والمغالاة فيها.
ومع ذلك فإن معارضة التعددية الثقافية الليبرالية لا تُستمَد ببساطةٍ من هذه المخاطر العارضة لأمن الدولة ولحقوق الأفراد؛ فهناك عواملُ أخرى أيضًا في عالم ما بعد الاستعمار تدعو إلى التساؤل حول المبرِّرات المعيارية للتعددية الثقافية الليبرالية. والحقيقة أن بعضَ العوامل التي تجعل قضايا الأقليات في الغرب مشروعةً لا تُطبَّق بالقوة نفسها على أجزاءٍ أخرى من العالم.
رابعًا: التراث الاستعماري للهيراركيات العِرقية
خامسًا: الديموغرافيا Demography (علم السكان)
يرتبط عاملٌ آخر بديموغرافية التعدُّدية الِعرقية في الدول الغربية بالمقارنة بكثيرٍ من دول ما بعد الاستعمار. والواقع أنه في كل نظامٍ ديمقراطيٍّ غربي يتضح أن هناك جماعةً أغلبيةً مُسيطِرة هي التي تحكُم الدولة، وتستخدم هذه السيطرة لنشر لغتها، وثقافتها، وهويتها. والواقع أن الدولة تُسمَّى غالبًا على اسم هذه الجماعة المُسيطِرة التي ملَكَت الدولة حرفيًّا لنفسها.
وتُفهَم حقوق الأقلية في هذا السياق كوسائلَ لحماية الأقليات من الخطر الحاضر والواضح؛ خطر استخدام الأغلبية المُسيطِرة لسُلطتها على الدولة لدمج الأقليات أو استبعادها. ومن الواضح أن الحكم الذاتي هو وسيلةٌ مؤثِّرة وفعَّالة لحماية الأقليات من هذه الزاوية.
فإذا ما جمعنا هذه العوامل معًا، فينبغي ألا نندهشَ حين تفشل جلُّ المحاولات التي بُذلَت لدعم أفضل الممارسات للتعددية الثقافية الغربية؛ إذ يفترضُ خطابُ الغرب أن أقليات الأرض كانت من الناحية الثقافية الليبرالية هي طريقة لمعالجة الخطأ التاريخي، وتأكيد أنه لن يتكرَّر مرةً أخرى. ويفترضُ الخطاب الغربي أيضًا أن هذه القضية يُمكِن التفاوض حولها باعتبارها قضيةً سياسيةً محليةً مستقلة عن أمن الدولة الإقليمي، وأننا يُمكِن أن نتوقَّع من محصلة هذه المفاوضات المحلية، بثقة، أن تعمل داخل إطار النزعة الدستورية للديمقراطية-الليبرالية، وبالتالي أن تُسهِم في عملية «المواطنة».
ومع ذلك، فالظروف مختلفة في معظم آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط أتم الاختلاف؛ ففي كثيرٍ من دول ما بعد الاستعمار لا تُوجَد جماعة أغلبية مسيطرة تحكُم الدولة وتتحكَّم فيها، وحتى لو كان هناك مثل هذه الجماعة فإنها كثيرًا ما ترى نفسها على أنها ضحيةٌ للظلم التاريخي على أيدي الأقليات المتميِّزة التي تتعاون مع قوى الاستعمار. ويُنظَر إلى الحديث عن حقوق الأقلية على أنه استمرارٌ لذلك الظلم التاريخي. وفضلًا عن ذلك، في ظروف اللاأمن الإقليمي وضعف مؤسَّسات الدولة، يُنظَر إلى حقوق الأقليات على أنها تُشكِّل تهديدًا لكلٍّ من أمن الدولة وحقوق الأفراد، مما يُقوِّض محاولات تأسيس روابط المواطنة. كما أن محاولةَ المجتمعِ الدولي لتدعيم حقوق الأقليات كثيرًا ما يُنظَر إليها على أنها أداةٌ للسياسات الجغرافية التي يُقصَد بها دعمُ الهيمنة الغربية وإضعافُ أي دولةٍ تتحداها.
من أفضل الممارَسات إلى المعايير والمقاييس
إذا راعَينا هذه الظروف فلن يُدهِشَنا أن نجد أن الجهود التي بذلَتها المنظَّمات الدولية لتعميم أفضل الممارَسات للتعددية الثقافية الليبرالية في دول ما بعد الاستعمار قد نالت قَدْرًا قليلًا من النجاح كما في دول ما بعد الشيوعية، بل إن الظروف في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط كانت أقلَّ تبشيرًا بالتبنِّي الطوعي لنماذج التعددية الثقافية الليبرالية من الظروف في وسط وشرق أوروبا.
إن المنظَّمات الدولية التي تسعى إلى التأثير في علاقات الدولة بالأقلية قد حاولَت أن تُضيف إلى منطلَق أفضل الممارَسات استراتيجياتٍ أخرى أكثر تأثيرًا قد بدأَت تحديدًا، كما فعَّلَت المنظماتُ الأوروبية، مشروعَ تشكيلِ معايير ومقاييس قانونية وشبه قانونية من المتوقَّع أن تُوافِق عليها جميع الدول.
وكما رأينا في السياق الأوروبي، فإن أي محاولةٍ لتشكيل مقاييس ومعايير تُواجَه في الحال بمسألة الفئات، فهل كان الهدف هو تشكيل حقوق أقلية تنطبق على جميع الأقليات الثقافية العِرقية، أم تشكيل حقوق أقلياتٍ مستهدَفة، تنطبق على أنواعٍ معيَّنة من الأقليات، مثل السكان الأصليين، الأقليات القومية، المهاجرين أو الرعاة وهلُم جرًّا؟
إن الغزوة الأولى لهذا المجال بواسطة الأمم المتحدة تعكس استراتيجيةً شاملة؛ فكما رأينا، فُسِّر البند رقم ٢٧ للاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية في العام ١٩٦٦م، لكي يغَطي جميع الأقليات العِرقية الثقافية، سواء أكانت جديدة أم قديمة، كبيرة أم صغيرة، مركَّزة أم مشتَّتة إقليميًّا؛ ولهذا السبب تحديدًا، أثبتَت أنها لا تستطيع أن تتعامل مع المطالب المتميِّزة التي طالبَت بها أقلياتُ أرض الوطن التاريخية، التي كانت مطالبُها تضربُ بجذورها في وقائع الاستقرار التاريخي والتمركُز الإقليمي. لقد قرَّرَت المنظَّماتُ الأوروبية، استجابةً لهذه المشكلة، في أوائل تسعينيات القرن الماضي أن تتبنَّى منظورًا موجهًا يركِّز على موضوعاتٍ أثارتها الأقليات القومية.
لقد تبنَّت الأمم المتحدة استجابةً مختلفة لقصور البند رقم ٢٧، من ناحيةٍ حاولَت إحياء الاستراتيجية العامة بمحاولة تقوية حق الفرد في الاستمتاع بثقافته، بحيث يشمل أيضًا بعض الحقوق الإيجابية للأقلية. وكان ذلك هو الهدف من إعلان الأمم المتحدة حول حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية وعِرقية ودينية ولغوية، والذي تبنَّته الجمعية العمومية سنة ١٩٩٢م، ولجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في «تعليق عام على البند رقم ٢٧» في العام ١٩٩٤م.
ومع ذلك فإن هذه التأكيدات والتوسُّعات للمنظور العام تتضمن فقط تغيُّراتٍ طفيفة للمبادئ الأساسية للبند رقم ٢٧، وتبقى صامتةً بالنسبة إلى الموضوعات المتميِّزة المتعلقة بأقليات أرض الوطن، ومطالبها التي تضربُ بجذورها في التاريخ والأرض.
وهكذا بدأَت الأمم المتحدة في إعداد نسختها الخاصة من منظور الحقوق الموجهة، إلى جانب استراتيجيتها المستمرة للحقوق العامة. ومع ذلك فقد اختارت الأمم المتحدة أن تستهدف فئةً مختلفة من السكان الأصليين؛ فبينما تستهدف المعاييرُ الأوروبية الأقلياتِ القومية، تستهدف معاييرُ الأمم المتحدة السكانَ الأصليين … وذلك اختلافٌ مهم مع مضامينَ عميقة من أجل الانتشار العالمي للتعددية الثقافية الليبرالية، ونحن في حاجةٍ إلى أن نفهَم لماذا اختيرت هذه الأهدافُ المختلفة.
والخطوة الأولى هي أن نوضِّح المصطلحات: ما هو على وجه الدقة الاختلاف بين «الأقليات القومية» و«السكان الأصليين»؟ لقد استُخدمَت هذه المصطلَحات، مثل كثيرٍ من المصطلَحات الأخرى، لتصنيف الجماعات العِرقية الثقافية. إن لمصطلحات «السكان الأصليين»، و«الأقليات العِرقية» تعريفاتٍ متعارِضة وحدودًا غير واضحة. وهناك جوهرٌ واضح نسبيًّا وغير متنازَع عليها لكل فئة — وهو ما قد ننظر إليه على أنه نموذجٌ لكل نوعٍ من الجماعات — ثم هناك هامشٌ أكثر تشويشًا حيث تُصبِح محاولاتُ تطبيق المصطلَح محل نزاع.
وتلك هي الحالات الجوهرية في هاتَين الفئتَين. والطريقة الأولية غير الناضجة للتمييز بنيهما هي أن نقول إن الأقليات القومية اندمجَت في دولةٍ أكبر يسيطر عليها شعبٌ أوروبيٌّ مجاور، في حين أن السكان الأصليين قد استعمَروا واستقرُّوا بواسطة قوًى أوروبيةٍ استعماريةٍ بعيدة، لكنَّ هناك طرقًا أخرى لتحديد الفرق بين هذَين النوعَين من الجماعات تتبع هذا الاختلاف التاريخي؛ فمن المقبول على نطاقٍ واسع، على سبيل المثال، أن علمية إخضاع ودمج السكان الأصليين بواسطة المستعمرين الأوروبيين كانت أكثر وحشيةً وإزعاجًا من عملية إخضاع ودمج الأقليات القومية بواسطة مجتمعاتٍ مجاورة، وأن ذلك قد ترك السكان الأصليين أكثر ضعفًا وعُرضةً للخطر، وكثيرًا ما يُفترض أيضًا أن هناك اختلافًا «حضاريًّا» بين السكان الأصليين والأقليات القومية؛ ففي حين تشترك الأقليات القومية بشكلٍ نموذجي في نفس الهياكل أو البِنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الحديثة (الحضارية أو الصناعية) مع الشعوب الأوروبية المجاورة، فكثيرًا ما يُفتَرض أن السكان الأصليين أبقَوا على أساليبِ ما قبل الحداثة في الإنتاج الاقتصادي، وأنهم اعتمَدوا أساسًا على الزراعة والصيد كأسلوب حياة. وكنتيجةٍ للاستيطان الاستعماري الواسع النطاق، كثيرًا ما يُفتَرض أيضًا أن السكان الأصليين قد استبعَدوا إلى مناطقَ نائية ومعزولة، على عكس الأقليات القومية.
ومن ثَم ففي الحالات الجوهرية، وفي الاستخدام اليومي، يُشير المصطلحان إلى أنواعٍ مختلفة أتَم الاختلاف من الجماعات التي تضرب بجذورها في عملياتٍ تاريخيةٍ مختلفة، كما تختلف في خصائصها المعاصرة، بما في ذلك نقاط ضعفها، ونمط إنتاجها، وموطنها الطبيعي.
ومع ذلك فلو أننا ركَّزنا على مجموعة الخصائص المُعاصِرة التي تميِّز هذَين النوعَين من الجماعات، لأمكننا عندئذٍ أن نجد أنواعًا مشابهة في سياقاتٍ أخرى؛ ففي استطاعتنا، على سبيل المثال، أن نجد جماعاتٍ في آسيا أو أفريقيا تُشارِك في الضعف الثقافي، وفي اقتصاد ما قبل الحداثة، وفي بعض السكان الأصليين في العالم الجديد، حتى لو لم يكونوا رعايا لدولةٍ أوروبيةٍ مستوطنة. وتشتمل هذه الجماعات على «قبائل الجبال» و«شعوب الغابات» و«الرعاة».
ولذلك، فعلى حين أن التمييز بين السكان الأصليين والأقليات القومية، كنوعَين مختلفَين من أقليات أرض الوطن، له أصوله في أوروبا وفي الدول الأوروبية المستوطنة، فإن هناك طرقًا مقبولة لامتداد تطبيقه على العالم الكبير.
وبعد أن لخصنا التفرقة بين نوعَين من الجماعات فإننا نستطيع الآن أن نعود إلى السؤال: لماذا استهدفَت المنظمات الأوروبية الأقلياتِ القومية في حين استهدفَت الأمم المتحدة السكان الأصليين؟ والإجابة في الحالة السابقة، على نحو ما رأينا في الفصل السابق، هي أن المنظمات الأوروبية رأت أن الأقليات القومية في أوروبا ما بعد الشيوعية تمثِّل تهديدًا للسلام والأمن العالميين، مع مخاطرَ لا تتعلق فقط بالعنف داخل الدولة، بل أيضًا بآثارٍ قد تمتد لتُزعزِع المنطقة بأَسْرها. وعلى هذا الأساس أعلنَت المنظمات الأوروبية أن معالجة قضايا الأقليات القومية كانت مسألة اهتمامٍ دوليٍّ مشروع.
ومن ثَم فتفسيرُ استهدافِ السكان الأصليين لم يكن بأنهم تهديدٌ للأمن الجغرافي السياسي، بل كان اهتمامًا أكثر إنسانيةً لحماية جماعةٍ ضعيفة بشكلٍ محدَّد.
ونحن نحتاج، كما أشرتُ في الفصل الرابع، إلى أن نفهَم هذه الأفكار الجديدة عن حقوق السكان الأصليين كمرحلةٍ ثالثة من مراحلِ صراعِ حقوق الإنسان فيما بعد الحرب ضد الهيراركيات العِرقية والعنصرية، المبنية على صراعاتٍ سابقة (القضاء على الاستعمار) والتمييز العنصري، الأفكار التي قدَّمَتها حركة «القوى الحمراء» التي ظهرَت في الولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي (وحركات السكان الأصليين المشابهة في بلاد العالم الجديد الأخرى) قد استُلهمَت بوضوحٍ من هذه الصراعات المبكِّرة، واعتمدت على خطاب كلٍّ من التخلُّص من الاستعمار ومعاداة العنصرية. وعندما اعتمَد المجتمع الدولي في البداية على مبدأ التخلُّص من الاستعمار فإنه طبَّق هذا المبدأ فقط على المستعمرات الخارجية فيما وراء البحار، وليس على السكان الأصليين الذين استعمرَتْهم دول الاستيطان الأوروبية في العالم الجديد. غير أن في ذلك تناقضًا واضحًا، من منظورٍ أخلاقي. والواقع أنه بالنظر إلى أن السكان الأصليين كانوا يخضعون ليس فقط للغزو الإمبريالي (كما هي الحال في مستعمرات أفريقيا وآسيا)، بل أيضًا للاستيطان الاستعماري؛ ففي استطاعة المرء أن يذهب إلى أنهم كانوا يتعرَّضون لظلمٍ أفدح من الاستعمار أكثر مما تُعاني منه المستعمرات فيما وراء البحار. وعلى أيِّ حال، فلا يكاد المجتمع الدولي يقبل مبادئ القضاء على الاستعمار والتمييز العنصري في الخارج، حتى يُصبِح من الصعب أن نُنكِر مطالب السكان الأصليين في مسألة الظلم التاريخي، أو نُنكِر ملاءمة شكلٍ ما من أشكال التخلُّص من الاستعمار (الداخلي).
من الواضح أن معايير الأمم المتحدة لحقوق السكان الأصليين تُخاطِب الحاجات والتحديات الخاصة بالسكان الأصليين؛ فهي تُستهدف من حيث الشكل والمضمون، وتركِّز بدقةٍ على الموضوعات المتميِّزة التي تثيرها حقيقة أن السكان الأصليين يعرِّفون أنفسهم بعلاقتهم بأرضهم التاريخية، ويعبِّرون عن رغبةٍ قوية في الاحتفاظ أو استعادة السيطرة السياسية على أنفسهم، وعلى مؤسَّساتهم، وعلى أراضيهم. والواقع أن جميع الوسائل الدولية التي تتعلق بالسكان الأصليين أعلنَت نيتَها احترام وتقدير هذه الصلة بين السكان الأصليين وأرضهم التاريخية.
والواقع أن هذه المقاييس والمعايير الدولية المتطوِّرة لحقوق السكان الأصليين قوية جدًّا بالفعل، عندما تكون عالية الطموح، في حين أن المقاييس الأوروبية تبدأ من حق الفرد في الاستمتاع بثقافته، الوارد في البند ٢٧، فإن معايير الأمم المتحدة للسكان الأصليين تبدأ من النسخة المعدَّلة؛ الحق في تقرير المصير في البند رقم ١. وتتضمن مسوَّدة العام ١٩٩٣م لإعلان الأمم المتحدة لحقوق السكان الأصليين، على سبيل المثال، البنود الآتية:
- البند رقم ٣: للسكان الأصليين الحق في تقرير المصير. وبموجب هذا الحق، فإنهم يقومون، بحرية، بتقرير حالتهم أو مكانتهم السياسية، ويسعَون بحريةٍ إلى تنميتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
- البند رقم ١٥: للسكان الأصليين الحق في تأسيس وإدارة أنظمتهم ومؤسَّساتهم التربوية التي تقدِّم التعليم بلغتهم الخاصة، وبطريقةٍ مناسبة لمناهجهم الثقافية في التربية والتعليم.
- البند رقم ٢٦: للسكان الأصليين الحق في امتلاك، وتطوير، وإدارة، واستخدام الأراضي والأقاليم … التي كانوا يملكونها تقليديًّا أو كانوا يشغلونها أو يستخدمونها، ويشتمل ذلك على الحق في الاعتراف الكامل بقوانينهم وعاداتهم وأعرافهم، ومؤسَّساتهم ونُظمهم الخاصة بملكية الأرض لتطوير وإدارة الموارد.
- البند رقم ٣١: للسكان الأصليين، كشكلٍ محدَّد من ممارسة حقهم في تقرير المصير، الحق في الحكم الذاتي في المسائل التي تتعلق بشئونهم الداخلية.
- البند رقم ٣٣: للسكان الأصليين الحق في تدعيم، وتطوير وصيانة وبناء المؤسَّساتية وتقاليدهم القضائية المتميِّزة، وأعرافهم، وإجراءاتهم وممارساتهم، بما يتفق مع معايير حقوق الإنسان المعترف بها عالميًّا.٣٢
وباختصارٍ تعترف مسودة الإعلان بحقوق السكان الأصليين في أرضهم ومواردهم، فضلًا عن حقوقهم في الإدارة الذاتية لمؤسَّساتهم القانونية والسياسية والثقافية. وعلى الرغم من أن هذه البنود قد تم تقديمُها كحدٍّ أدنى من المعايير التي تُلزم جميع البلاد بالوفاء بها؛ فإنها في الواقع قريبةٌ جدًّا من أفضل الممارَسات للأنظمة الديمقراطية الغربية فيما يتعلق بالسكان الأصليين.
وبهذه الطريقة، فإن معايير الأمم المتحدة المستهدفة للسكان الأصليين يمكن أن تُرى على أنها حقَّقَت نجاحًا أصيلًا؛ فهي تخاطب الحاجات المتميِّزة للسكان الأصليين بطريقةٍ مختلفة عن المقاييس الأوروبية المستهدفة للأقليات القومية؛ وبالتالي تقدِّم الدليل على أن الاستراتيجية الأساسية لتطوير مقاييس موجهة هي استراتيجيةٌ شرعية وربما تكون مؤثِّرة. والواقع أن كثيرًا من الشُّراح والمحلِّلين قد أشاروا إلى ظهور حقوق السكان الأصليين الدولية بوصفها واحدةً من الأمثلة القليلة الناجحة لاستخدام القانون الدولي كأداةٍ ﻟ «العولمة المضادة للهيمنة» (انظر: فولك، العام ١٩٩٩م و٢٠٠٠م).
وربما كانت إحدى الاستجابات المحتمَلة لهذه الفجوة إلحاق معايير الأمم المتحدة الموجودة عن السكان الأصليين بمجموعةٍ أخرى من المعايير الموجهة إلى الأقليات القومية؛ أي تشكيل نسخةٍ عالميةٍ من اتفاقية المجلس الأوروبي الإطارية لحماية الأقليات القومية. وكما رأينا في الفصل الثالث، فإن هذا النوع من الاستهداف المتعدِّد سوف يعكس منطقَ التعددية الثقافية الليبرالية، الذي يتضمن مساحةً من المسارات القانونية المختلفة على مستوى الجماعة، بما فيها من مساراتٍ متميِّزة للأقليات القومية والسكان الأصليين.
لقد كان غياب الحماية الموجهة للأقليات القومية، بالنسبة إلى بعض المحلِّلين، ثغرةً مؤسفةً في المنظور السائد للأمم المتحدة، لكنها لا تُشكِّك في مدى مشروعية المعايير الموجهة للسكان الأصليين. وينبغي علينا أن نقوم بخطوةٍ إلى الأمام بمقدار ما نستطيع، وإذا كانت الظروفُ الحالية لا تَسمحُ إلا بالتقدُّم في مسار السكان الأصليين، فإن علينا أن نتقدَّم هنا إلى الأمام، ولا ننتظر حتى نستطيع التقدُّم إلى الأمام في جميع المسارات الموجهة المُمكِنة في وقتٍ واحد.
غير أن المسألة في رأيي أكثر تعقيدًا؛ فالتفرقة الحادة في الوضع القانوني بين السكان الأصليين والأقليات القومية تخلقُ عددًا من المفارقات والتأثيرات الضارة التي ربَّما تقتضي على استقرار مسار السكان الأصليين ذاته. وربما تكونُ الطريقة الوحيدة للمحافظة على نظام لحقوق السكان الأصليين هي أن نجد كذلك طريقةً لتطوير المعايير الموجهة للأقليات القومية.
ولكي نفهم المشكلة هنا، فإننا نحتاج إلى أن نتذكَّر كيف تتلاءم فئة السكان الأصليين داخل النماذجِ الأوسعِ من التعددية الثقافية الليبرالية في الغرب. وكما سبق أن أشرتُ، فإن كلًّا من السكان الأصليين والأقليات القومية يتم الاعترافُ بهم والتعاملُ معهم كأقلياتِ أرضِ الوطن في معظم الديمقراطيات الغربية. وهناك اختلافاتٌ اجتماعية وتاريخية مهمة بين نوعَي أقليات أرض الوطن، وهي تجلب معها تداعياتٍ قانونيةً في معظم البلاد الغربية، لكن من المهم ألا نُغفِل الخصائص المشتركة بينهما؛ فكلا النوعَين من الجماعات يُعامَل على أنه أقلياتُ أرض الوطن، وكلاهما مُنح الحكم الذاتي الإقليمي داخل الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الغربية. ومن هذه الزاوية فهما يتميَّزان عن الأقليات «الجديدة» التي تتألف من المهاجرين والعمال الزائرين واللاجئين. ومن منظور نظرية وممارسة التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب، فإن السكان الأصليين والأقليات القومية ينتمون معًا كأقلياتِ أرضِ الوطن ذات الحكم الذاتي، إلى فئةٍ مختلفةٍ عن الأقليات الجديدة.
ومع ذلك، فإن ما بدأ كاختلافٍ في الأهمية والأولوية النسبية بين قضايا السكان الأصليين والأقليات القومية قد تطوَّر إلى تصدُّعٍ كاملٍ تقريبًا بين الاثنَين على مستوى القانون الدولي. من خلال مدًى واسعٍ من الوثائق والإعلانات الدولية، فُصلَت شعوب السكان الأصليين عن أقليات أرض الوطن الأخرى، واقتصَرَت مطالب الأرض والحكم الذاتي على الأولى. وفي المقابل فإن الأقليات القومية قد جُمعَت مع أقلياتٍ جديدة ولم تُمنَح سوى حقوق الأقليات العامة، في تجاهُل لحاجاتها وطموحاتها المتميِّزة والمرتبطة بالاستقرار التاريخي والتمركز الإقليمي. ونتيجةً لذلك فإن التمييز بين السكان الأصليين وأقليات أرض الوطن الأخرى قد تطلَّب اهتمامًا وصرامةً داخل القانون الدولي كانا مفقودَين تمامًا في نظرية وممارسة التعددية الثقافية الليبرالية.
هذه المحاولة لإيجادِ تفرقةٍ حادة في القانون الدولي بين السكان الأصليين والأقليات القومية تُثير عددًا من الأسئلة الصعبة؛ فهي تخلُق: (١) تناقضات أخلاقية، (٢) إرباكًا مفاهيميًّا، (٣) دينامياتٍ سياسيةً غير مستقرة. ودعونا نشرح هذه النقاط.
إن التفرقة الحادة في الحقوق بين النوعَين من الجماعات متناقضةٌ أخلاقيًّا؛ لأنه أيًّا كانت الحُجَج الموجودة للاعتراف بحقوق الحكم الذاتي للسكان الأصليين فإنها تنطبقُ أيضًا على مطالب الحكم الذاتي لجماعات الأرض الضعيفة الأخرى والمظلومة تاريخيًّا. وفي بحثٍ مثيرٍ للاهتمام، قارنَت ميريام أوكرمان مطالب السكان الأصليين بتلك المطالب المتعلقة بالأقليات القومية في بلاد ما بعد الشيوعية، ولاحظَت التشابُهات القوية في الأهداف والمبرِّّرات الأساسية، كما أوضحَت أن «السكان الأصليين والأقليات [القومية] في وسط وشرق أوروبا تشترك في هدفِ المحافظة على ثقافتهم المتميِّزة، وتبرِّر مطالبها للحقوق المختلفة على مستوى الجماعة بالدعاوى المتشابهة للحكم الذاتي، والمساواة، والتعدُّد الثقافي، والتاريخ، والضعف» (ميريام أوكرمان، ٢٠٠٠م، ص١٠٤٥).
- (أ)
في حين تسعى الأقليات إلى الدمج المؤسَّساتي، يسعى السكان الأصليون إلى الاحتفاظ بدرجةٍ من الاستقلال المؤسَّساتي.
- (ب)
بينما تسعى الأقليات إلى الاحتفاظ بالحقوق الفردية، فإن السكان الأصليون يسعَون إلى الحقوق جماعية الممارَسة.
- (جـ)
في حين تسعى الأقليات إلى عدم التفرقة، يسعى السكان الأصليون إلى الحكم الذاتي.
وهذه كلها اختلافاتٌ مهمة بين السكان الأصليين وجماعات اللاأرض، كالمهاجرين، ولكنها لا تميِّز السكان الأصليين عن الأقليات القومية. من جميع النواحي تقَع الأقليات القومية في الجانب نفسه من المعادلة الذي يقع فيه السكان الأصليون.
وفي وثيقةٍ سابقة أُعدَّت لجماعة العمل لتَعْداد السكان الأصليين، قدَّمَت دايس تقريرًا مختلفًا بعض الشيء (دايس، ١٩٩٦م)؛ فقد بدأَت بالقول إن السمة الحاسمة التي يتميَّز بها السكان الأصليون، بالمقارنة بالأقليات بشكلٍ عام، هي تعلُّقُهم القويُّ بالمنطقة التقليدية التي ينظُرون إليها على أنها أرضُهم أو وطنُهم التاريخي. وكما تقول دايس: «إن تعلُّقهم بأرض الوطن يحدِّد برغم ذلك هُوية وسلامة جماعة السكان الأصليين، اجتماعيًّا وثقافيًّا، وقد يُوحي ذلك بتعريفٍ ضيِّق جدًّا، غير أنه دقيقٌ ﻟ «السكان الأصليين»، وكافٍ لكي يطبَّق على أي موقفٍ؛ حيث تكون المشكلة هي تمييز السكان الأصليين عن الطبقة الأكبر من الأقليات» (دايس، ١٩٩٦م، الفقرة ٣٩)، بيد أن هذا المقياس — «التعلق بأرض الوطن» — من الواضح أنه يميِّز أقلياتِ أرضِ الوطن بشكلٍ عام، بمن فيهم الأقليات القومية، وليس السكان الأصليين على وجه التحديد.
وكما تبيِّن هذه الاقتباسات، فإن المناقشات داخل الأمم المتحدة حول التفرقة بين السكان الأصليين والأقليات تتجاهل بشكلٍ نظامي وجود الأقليات القومية. وتذهب دايس، مثلًا، إلى أنه «يمكن أن نتعرف على عنصرَين على الأقل [في حالة السكان الأصليين] لا يرتبطان أبدًا بمفهوم «الأقليات»؛ الأسبقية في الزمن والتعلق بأرضٍ معينة» (دايس، ١٩٩٦م، الفقرة ٦٠). غير أن هذه الأفكار قد ارتبطَت باستمرار مفهوم الأقلية القومية.
«إذا ما وضَعنا في اعتبارنا المشكلةَ المفاهيمية (مشكلة تمييز السكان الأصليين عن الأقليات)، فإنني أودُّ أن أذهب إلى أن النوع المثالي من «السكان الأصليين» هو جماعةٌ أصلية (من أول السكان) في المنطقة التي يقيمون اليوم فيها، واختاروا الاحتفاظ بهويةٍ ثقافية متميزة ومنظمةٍ سياسية واجتماعية متميِّزة داخل المنطقة، إن النموذج المثالي ﻟ «الأقلية» هو جماعةٌ مرَّت بتجربة الاستبعاد أو التمييز بواسطة الدولة أو مواطنيها بسبب السمات العِرقية، والقومية، والدينية، أو اللغوية لأجدادها؛ ومن ثم فإن النموذج المثالي ﻟ «الأقلية»، من منظور الفائدة، يركِّز على تجربة الجماعة في التمييز؛ لأن نية المعايير الدولية العالمية هي أن تحارب التمييز، ضد الجماعة ككل وضد أعضائها الأفراد، وتوفير الفرصة لهم في دمج أنفسهم بحريةٍ في الحياة القومية بالدرجة التي يختارونها. وكذلك، فإن النموذج المثالي ﻟ «السكان الأصليين» يركِّز على الأصالة، والإقليمية، والرغبة في البقاء متميِّزين بشكلٍ جماعي، وهي كلها عناصرُ مرتبطة بشكلٍ منطقي بممارسة حق تقرير المصير الداخلي، والحكم الذاتي» (إيدي ودايس، العام ٢٠٠٠م، الفقرة ٤٨، ٤٩).
وهذا ملخَّصٌ جيد للتمييز بين النموذجَين المثاليَّين للجماعات، لكنه لا يقدِّم تفسيرًا أو تبريرًا لتمييز شعوب السكان الأصليين عن أقلياتِ أرضِ الوطن الأخرى.
وفي جميع مقاييس دايس، نجد أن الأقليات القومية والسكان الأصليين ينضويان تحت النموذجِ المثاليِّ نفسه القائم على المنطقة والحكم الذاتي، في حين تنضوي الأقليات الجديدة والمشتتة تحت النموذج الآخر.
دايس ليست غافلةً عن هذه المشكلة؛ فهي تعترفُ بأنه ربما كان من الصعب أن نجد أساسًا مبدئيًّا لتمييز مطالب السكان الأصليين عن أقلياتِ أرضِ الوطنِ الأخرى. ومع ذلك فهي تُصِر على أنه في الممارسة فإن هذَين النوعَين من الجماعات يتقدَّمان بمطالبَ مختلفة: «تبقى الحقائقُ أن السكان الأصليين والأقليات تنظِّم نفسَها بشكلٍ منفصل وتميل إلى تأكيدِ أهدافٍ مختلفة، حتى في تلك البلاد التي تظهر فيها مختلفةً اختلافًا طفيفًا من حيث السمات «الموضوعية» (إيدي ودايس، ٢٠٠٠م، الفقرة ٤١). ويقول ستيفن ويتلي بفكرةٍ مشابهة: «ليس ثمَّة تفرقةٌ موضوعية يُمكِن أن نقولَ بها بين الجماعات التي تُعرَف باسم الأقليات، والأقليات القومية، والسكان الأصليين، والشعوب. إن ما يميِّز هذه الجماعاتِ هو طبيعةُ مطالبها السياسية؛ ببساطةٍ تُطالِب الأقليات، والأقليات القومية بالأمن الثقافي، وتُطالِب الشعوبُ بحقها في تقرير المصير والحكم الذاتي» (ويتلي، ٢٠٠٥م، ١٢٤).
إذا رفضنا أن نُغمِض أعيننا عن ظاهرة الأقليات القومية، فإن التناقضات الأخلاقية في إطار العمل الحالي للأمم المتحدة تصبح ملحوظةً جدًّا.
الواقع أن جميع المبادئ والحُجَج الأخلاقية المقدَّمة داخل الأمم المتحدة من أجل حقوقٍ موجهة إلى السكان الأصليين تنطبق أيضًا على الأقليات القومية، والهوة الخطيرة بين النوعَين من الجماعات ينقصها التبرير الأخلاقي الواضح. ولأسبابٍ سياسية، ربما يكون من المستحيل أن تمتدَّ المعايير الدولية للحكم الذاتي إلى الأقليات القومية.
فالدول، كما سبق أن رأينا، أقلُّ استعدادًا للموافقة على مطالب الحكم الذاتي لجماعاتٍ تشكِّل تهديدًا خطيرًا للدولة، وتميل هذه الجماعاتُ إلى أن تكون أقلياتٍ قومية بدلًا من شعوب السكان الأصليين. لكن ينبغي علينا ألا نُضفِي على هذا الاعتبارِ السياسي صفةَ المبدأ الأخلاقي، أو أن نتجاهَل التناقُضات الأخلاقية التي تتولَّد عنه.
إن محاولةَ رسمِ تفرقةٍ حادة في الوضع القانوني بين الأقليات القومية والسكان الأصليين ليست مشكلةً أخلاقية فحسب، بل أيضًا مسألةٌ غير مستقرة من حيث المفهوم؛ فالمشكلة ليست ببساطةٍ كيف نُبرِّر الاختلاف الحاد في الحقوق القانونية بين الأقليات القومية والسكان الأصليين، بل كيف نعرف النموذجين في المقام الأول. إن التمييز بين السكان الأصليين وأقليات أرض الوطن الأخرى من الصعب تحقيقه خارج الحالات الأساسية الأصلية لأوروبا والدول الأوروبية الاستيطانية.
ولقد سبق أن رأينا أنه في الغرب هناك تفرقةٌ واضحة، إلى حدٍّ ما، بين الأقليات القومية الأوروبية والسكان الأصليين في العالم الجديد؛ فكلٌّ منهما جماعاتُ أرض الوطن، غير الجماعة الأولى (الأقليات القومية الأوروبية) قد أدمجَت في الدول الأوسع التي يحكمُها شعبٌ مجاور، في حين أن الجماعة الثانية (السكان الأصليين) تم استعمارُها واستيطانُها عن طريقِ قوًى استعماريةٍ بعيدة. وليس من الواضح تمامًا كيف يُمكِننا أن نحدِّد هذا التمييز في أفريقيا، أو آسيا، أو الشرق الأوسط، أو ما إذا كان للفئات معنًى؛ فبناءً على تعريفنا للمصطلَحات، في استطاعتنا أن نقول إنه ليست ثمَّة مجموعةٌ من مجموعات أرض الوطن في هذه المناطق تُعَد من «السكان الأصليين»، أو أنها كلها منهم.
ولقد أدَّى هذان المنظوران إلى نتائجَ مضادةٍ تمامًا، لكن سواء قلنا إن جميع الجماعات هي من السكان الأصليين أو أيًّا منها ليس من السكان الأصليين، فالنتيجة في كلتا الحالتَين هي تقويض إمكان استخدام فئة «السكان الأصليين» كأساسٍ أو قاعدةٍ للمعايير الموجهة في دول ما بعد الاستعمار؛ ولهذا السبب، فقد ذهب بعض المحلِّلين إلى أن الفئة القانونية للسكان الأصليين مضلِّلة، ولا ينبغي استخدامها، في أفريقيا وآسيا (انظر: بيتاي، العام ٢٠٠٠م). ومع ذلك، فإن نتيجة هذا المنظور لا بد أن تترك بعضَ أقلياتِ أرض الوطن الأكثر ضعفًا في العالم من دون أي شكل مجد من الحماية الدولية، وإذا كانت معايير السكان الأصليين الموجهة لا تنطبق على آسيا وأفريقيا، فإن ذلك لا يترك لنا سوى حقوق الأقلية (الضعيفة جدًّا) في ظل البند الرقم ٢٧، وتلك لا تقدِّم أي حمايةٍ للمصالح المرتبطة بأرض الوطن.
وهذه الدفعة لمد فئة السكان الأصليين لتتعدى حالتها الأساسية في العالم الجديد يمكن تفهُّمها على نحوٍ كامل؛ فهي نتيجةٌ منطقية، وربما حتمية أيضًا، للدافع الإنساني الذي أدى إلى استهداف شعوب السكان الأصليين في المقام الأول، ما دام الدافع إلى استهداف فئة الجماعة هذه كان الضعف المميز لشعوب السكان الأصليين في دول العالم الجديد الاستيطانية، فقد كان من الطبيعي أن نوسِّع الفئة لتشمل جماعاتٍ في أماكنَ أخرى من العالم تُشارِكها جوانب الضعف نفسها، حتى لو لم تتعرَّض للاستيطان الاستعماري.
إن السؤالَ الصعبَ الذي يُثيره ذلك هو كيف نتعرَّف على جماعات أرض الوطن في أفريقيا وآسيا التي ينبغي تحديدها على أنها السكان الأصليون لأغراض القانون الدولي، وعلى أي أساس؟ ليس ذلك سؤالًا جديدًا؛ فهناك تاريخٌ طويل من المجهودات التي بُذلَت لمقارنة أو لمساواة الوضع القانوني للسكان الأصليين في العالم الجديد مع ذلك الذي يتعلق بالجماعات الأخرى في مناطقَ أخرى من العالم، فقد كان من الشائع، على سبيل المثال، مساواة وضع السكان الأصليين بمن يُطلَق عليهم «عشائر» أو «قبائل الجبال» في جنوب آسيا أو «قبائل البدو» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبالفعل، ربط أول إعلانٍ دولي لحقوق السكان الأصليين — اتفاقية منظمة العمل الدولية الرقم ١٠٧، العام ١٩٥٧م — بشكلٍ خاص حالة «القبائل» في آسيا أو أفريقيا بحالة السكان الأصليين في العالم الجديد، وكان عنوان هذه الاتفاقية ١٠٧ «حول حماية وتكامل القبائل والسكان الأصليين»، كما يُوحي عنوان الاتفاقية، وكما يوضِّح النص، فمنظمة العمل الدولية في ذلك الوقت كانت تنظُر إلى السكان الأصليين والقبائل كنموذجَين متميزَين من الجماعات، وإن تكن لهما مصالحُ متصلة يرتبط بعضها ببعض، كلاهما يُوصَفان بأنهما «أقل تقدمًا» في ظروفهما الاقتصادية والاجتماعية، وضعاف ثقافيًّا، لكنهما يختلفان في علاقاتهما بالاستعمار؛ فجماعات «السكان الأصليين» في العالم الجديد تُوصَف بأنها سُلالة لمجتمعاتٍ وُجدَت في زمن الاحتلال والاستعمار، في حين أن جماعات «القبائل» في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، لم تحدد ملامحها وفقًا للاحتلال والاستعمار.
وعلى حين لاحظَت منظمة العمل الدولية التفرقة والتمييز بين هذَين النوعَين من الجماعات، فإنها عاملَت كلًّا منهما وفقًا لاتفاقية العام ١٩٥٧م؛ لأنها نظرَت إليهما على أنهما «متخلِّفتان» وعاجزتان عن التعامل مع تحدِّيات الحداثة؛ ومن ثَم فهما في حاجةٍ إلى حمايةٍ خاصة، ووفقًا لما رأته «منظمة العمل الدولية» في ذلك الوقت فإن هذا التبرير الأبوي للحقوق الموجهة انطبق بالتساوي على السكان الأصليين في العالم الجديد والجماعات القَبَلية في العالم الثالث. وقد قبل العديد من الدول في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط هذه الحُجَّة، والواقع أن اتفاقية منظمة العمل الدولية العام ١٩٥٧م لم يوقِّع عليها فقط عددٌ من بلدان العالم الجديد فقط، بل أيضًا إحدى عشرة دولةً في أفريقيا وآسيا قبلَت الالتزام بحماية قبائلها (رودريغز – بينيرو، ٢٠٠٥م، ص٢٣٤–٢٤٢).
مع ذلك، فإن تلك المحاولة الأولى لمنظمة العمل الدولية للربط بين جماعة السكان الأصليين في العالم الجديد والجماعات القبَلية الأفريقية والآسيوية قامت على ازدراءٍ ثقافيٍّ شائع ﻟ «تخلُّفها». ولن نكاد نطرح جانبًا ذلك الموقفَ الأبويَّ المتعالي، حتى يقلَّ وضوحًا ما إذا كان هناك معنًى لمعاملة النوعَين من الجماعات معًا وفقًا للقانون الدولي. وكما لاحظت من قبل فإن الأفكار الأكثر حداثة عن حقوق السكان الأصليين ليست قائمةً على الأبوية، لكنها بالأحرى تقوم على خطاب القضاء على الاستعمار الداخلي المُستمَد من منطق وأساليب الصراع للقضاء على الاستعمار الخارجي والتمييز العنصري، وهذه المفاهيم الأحدث لحقوق السكان الأصليين تلجأ إلى ألوان الظلم التي تتضمَّنها عملية الاستيطان الاستعماري، وتستدعي حقوق تقرير المصير الداخلي كطريقةٍ للتعويض عن ذلك الظلم التاريخي. وإذا سلمنا بهذا التحول إلى نموذجٍ لحقوق السكان الأصليين قائمٍ على القضاء على الاستعمار، فلم يعُد من الواضح ما إذا كانت القبائل تتلاءم مع هذا الإطار المفاهيمي الجديد لحقوق السكان الأصليين، لقد كان لربط السكان الأصليين بجماعات القبيلة معنًى عندما كان التبرير الأساسي هو الحماية الأبوية لثقافاتٍ «متخلِّفة»، لكن إذا كان التبرير الأساسي هو القضاء على الاستعمار فليس من الواضح لماذا ينبغي أن تستمرَّ تغطية القبائل تحت معايير حقوق السكان الأصليين، إذا سلَّمنا بأن تعريف منظمة العمل الدولية ليس محددًا بتاريخٍ من الاحتلال أو الاستعمار.
ولذلك، لم يكن مفاجئًا أن يتبع تَخلِّيَ منظمة العمل الدولية عن منطلقها الأبوي السابق وتحوُّلها إلى نموذجٍ جديد لحقوق السكان الأصليين يقوم على القضاء على الاستعمار في اتفاقية العام ١٩٨٩م، انسحابُ عددٍ كبير من البلدان في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط؛ فقد افترضت هذه البلدان أن الاتفاقية الجديدة القائمة على الاستعمار تنطبقُ فقط على شعوب السكان الأصليين في دول ما بعد العالم الجديد الاستيطانية، ولا تنطبق على القبائل في دول ما بعد الاستعمار، في حين أن إحدى عشرة دولةً في أفريقية وآسيا والشرق الأوسط قد وقَّعَت على اتفاقية العام ١٩٥٧م لحماية القبائل الضعيفة، ولم توقع أي دولة في هذه المنطقة على اتفاقية العام ١٩٨٩م للقضاء على استعمار السكان الأصليين؛ حيث إن هذه الدول لا تفكر في نفسها على أنها استعمَرت أو احتلَّت القبائل التي تقع داخل حدود الدولة (الحدود التي غالبًا ما تم ترسيمها من قبل الحكام الإمبرياليين الأوروبيين)، وهم لا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ملتزمون أخلاقيًّا أو قانونيًّا للقضاء على استعمار هذه الجماعات؛ إذ تذهَب هذه الدول إلى أن العلاقات بين دول ما بعد الاستعمار وسكانهم من القبائل تختلف اختلافًا أساسيًّا وتاريخيًّا وأخلاقيًّا عن العلاقة بين دول الاستيطان والسكان الأصليين.
إن افتقاد المساندة لاتفاقية منظمة العمل الجديدة في داخل أفريقيا وآسيا يمكن أن نراه نتيجةً منطقيةً للتوكيد الجديد على نموذج القضاء على الاستعمار الداخلي، ومع ذلك فإن معظم المنظمات الأوروبية تُقاوِم النتيجة التي تقولُ إن اتفاقيةَ منظمة العمل الدولي الجديدة يجب أن تطبَّق فقط على العام الجديد، وهي تضغط على دولٍ في أفريقيا وآسيا لكي توقِّع على اتفاقية منظمة العمل الدولية الجديدة، وأن تقبل أن تدرج بعض أقليات أرض الوطن التابعة لها تحت مسمَّى «السكان الأصليين»، ولكن يبقى السؤال: كيف نحدِّد ما هي الأقليات في آسيا وأفريقيا المؤهَّلة لأن تكون من السكان الأصليين؟ وما هي الأقليات غير المؤهَّلة؟ ولا نكاد نسير في طريق تطبيق فئة السكان الأصليين بشكلٍ يتعدى الحالة الأساسية في دول العالم الجديد الاستيطانية حتى نجد أنه ليست ثمَّة نقطةٌ واضحة للتوقف، والواقع أن هناك اختلافاتٍ ذاتَ مغزًى في داخل المنظمات الدولية المتعددة حول مدى تطبيق فئة السكان الأصليين على أقليات الأرض في دول ما بعد الاستعمار، إن البعض سوف يقصُرها على السكان المنعزلين جغرافيًّا بصفةٍ خاصة، كالقبائل التي تسكن التلال أو سكان الغابات في جنوب شرق آسيا، أو الرعاة في أفريقيا، وآخرين سوف يقصُرونها على الجماعات التي تسكُن خارج اقتصاد السوق؛ أي تلك الجماعات التي تعيش على الصيد والزراعة، لكنها لا تلجأ إلى التجارة ولا إلى اقتصاد السوق (ويبدو أن ذلك هو أحد مقاييس البنك الدولي الذي استُخدَم لإنكار وضع السكان الأصليين على البربر في الجزائر).
ومحاولة المحافظة على مثل هذه التفرقة الحادة ليست فقط مزعزعة أخلاقيًّا ومفاهيميًّا، بل هي أيضًا فيما أعتقد لا يُمكِن الإبقاء عليها سياسيًّا، وليست المشكلة هنا ببساطةٍ أن لدى فئة السكان الأصليين مناطقَ رمادية وحدودًا غامضة، مع احتمال أن تكون أكثر أو أقل شمولًا، ويصدُق ذلك على جميع الفئات الموجهة، وهناك أساليبُ مؤسَّسة بشكلٍ جيد ذات مقصدٍ ديمقراطي وتأويلٍ قانوني للتعامل مع هذا التنازُع الحدودي، فالمشكلة بالأحرى هي أن الكثير يعتمد على الجانب الذي تقع الجماعات فيه، ونتيجةً لذلك فهناك ضغطٌ سياسيٌّ شديد لتغيير مكان أو وضع الخط بطرقٍ لا يُمكِن الإبقاء عليها سياسيًّا.
وينبغي أن يكون واضحًا منذ الآن أن إطار عمل الأمم المتحدة الحالي لا يوفِّر أي دافعٍ لأيٍّ من أقليات أرضِ الوطن لكي تعرف نفسها كأقليةٍ قومية؛ حيث إن هذه الفئة لا توفِّر أي حقوقٍ غير متاحة لأي جماعةٍ عرقيةٍ ثقافية أخرى. وبدلًا من ذلك فجميعُ أقلياتِ أرضِ الوطن لديها دافعٌ غامرٌ لإعادة تعريف نفسها كسكانٍ أصليين، إذا تقدَّموا إلى المجتمع الدولي تحت عنوان «أقلية قومية» فلن يحصُلوا على شيء، وأكثر من الحقوق العامة المنصوص عليها في البند الرقم ٢٧، أما إذا تقدَّموا بدلًا من ذلك على أنهم «سكان أصليون» فسوف يتحقَّق لهم الوعد بحقوق الأرض والسيطرة على الموارد الطبيعية والحكم الذاتي السياسي وحقوق اللغة والتعدُّد القانوني.
ولا يُدهِشنا إذا ما رأينا ميلًا متزايدًا لجماعاتِ أرضِ الوطن في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط إلى تبنِّي اسم «السكان الأصليين». إحدى الحالات المثيرة للاهتمام هي حالة الأقلية الناطقة باللغة العربية في منطقة «الأهواز» بإيران، والذين تعرَّضَت أرضُ وطنهم لسياسة الدولة المتكرِّرة لجعلهم فارسيين، بما في ذلك قمع حقوقهم في اللغة العربية، وتغيير أسماء المدن والقرى لمحو الدليل على تاريخها العربي، وسياسات الاستيطان التي تُحاوِل أن تُغرِق الأهواز بالمستوطنين الفرس، لقد ذهب قادة الأهواز في الماضي إلى جماعة العمل الخاصة بالأقليات في الأمم المتحدة للشكوى من أن حقوقهم كأقلياتٍ قومية ليست محترمة، لكن لما كانت الأمم المتحدة لا تعترف بأي حقوقٍ مميزة للأقليات القومية، فإن الأهواز قد وصلوا إلى طريقٍ مسدود، وهكذا فقد أعادوا تسمية أنفسهم من أقليةٍ قومية إلى سكانٍ أصليين، وحضَروا بدلًا من ذلك في جماعة العمل للسكان الأصليين في الأمم المتحدة. وبالمثل، فإن أقليات أرض الوطن المختلفة في أفريقيا التي حضَرَت ذات مرة في جماعة العمل للأقليات بدأَت الآن في إعادة تسمية نفسها على أنهم «السكان الأصليون»، كما حضَرَت في جماعة العمل للسكان الأصليين أساسًا لكي تظفَر بحمايةٍ لحقوق الأرض الخاصة بها (لينوكس، ٢٠٠٦م، ص١٨).
ومع ذلك، نجد اليوم أن الأصالة، وليست القومية هي التي توفِّر مطالبَ سياسية وقانونية أقوى للتقرير الذاتي، على الأقل في الأمم المتحدة، وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كان من مصلحة السكان الأصليين سياسيًّا تبنِّي تسمية وخطاب الجماعات القومية الفرعية، كطريقةٍ لجعل الدول والجماعات المُسيطِرة تأخذ طموحاتهم للحكم الذاتي مأخذ الجِد، أما اليوم ففي مصلحة الجماعات القومية الفرعية سياسيًّا أن تتبنَّى تسميةَ خطابِ السكان الأصليين، وهذه الاستعارة المتبادَلة للحِيَل والخطابات بين الأقليات القومية والسكان الأصليين تُظهِر — بوضوحٍ — الاستمرارية القوية في مطالبهم وتبريراتهم الأساسية، وعُقم محاولات ابتكار جدارٍ قانونيٍّ عازل بين الاثنَين.
قد يبدو طريقُ الباب الخلفي الذي تسلُكُه الأقليات القومية للظفر بحقوقٍ موجهة ومميزة من خلال تبنِّي تسمية شعوب السكان الأصليين، قد يبدو شيئًا جيدًا، وعلى كل حالٍ فمن وجهة نظر النظرية والتطبيق للتعدُّدية الثقافية الليبرالية فإن المنطق الأخلاقي الكامن ينبغي أن يعترف بشرعية المصالح المتعلقة بالاستيطان التاريخي، والأرض التي تشارك كل أقليات أرض الوطن الضعيفة، وتوسُّع فئة «السكان الأصليين» لكي تغطي كلَّ أقليات أرض الوطن، هي إحدى الطرقِ المُمكِنة لفعل ذلك، وقد تبدو بالفعل طريقةً اعتباطيةً للتقليل من العداوة تجاه حقوق الأقلية القومية الموجهة في المجتمع الدولي.
ولسوء الطالع، فإن ذلك ليس منظورًا يُمكِن الإبقاء عليه. إن مَيلَ الأقليات القومية لتبنِّي اسم شعوب السكان الأصليين، إذا ما استمر، ربما يؤدي إلى انهيارٍ كامل للنظام الدولي لحقوق السكان الأصليين، وكما سبق أن رأينا فقد رفضَت المنظمات الدولية — على نحوٍ واضح ومتكرر — محاولاتِ توثيقِ حقوقِ الحكم الذاتي للجماعات القومية الفرعية القوية، من ناحيةٍ بسبب مضامين الأمن السياسي والجغرافي، وهم لن يسمحوا لمثل هذه الجماعات بأن تنالَ حقوق الحكم الذاتي من خلال الأبواب الخلفية، ببساطةٍ بواسطة إعادة تعريف أنفسهم كسكانٍ أصليين.
ولا يتضح كيف يُمكِن لنا أن نتغلَّب على عدم الاستقرار. وكما سبق أن رأينا، فإن الإشكالية قد ظهَرَت نتيجة لقرارَين رئيسيَّين حول كيفية تطوير المقاييس الموجهة على المستوى العالمي، وهما قراران براغماتيان، مفهومان، وربما أيضًا حتميان؛ القرار الأول اتُّخذ لخلق هُوةٍ حادة وعميقة في الوضع القانوني بين السكان الأصليين والأقليات القومية، بالإشارة إلى الفئة الأولى باعتبارها المستفيد من الحقوق القوية الموجهة، بينما نُسبَت إلى الفئة الثانية حقوقُ الأقليات العامة فقط. ومبدئيًّا يُمكِن للمرء أن يتخيل منظورًا بديلًا تتبنَّى فيه المنظمات الدولية استراتيجية التوجيه المزدوج (أو المتعدد)، يطوِّر مساراتٍ قانونيةً منفصلة لكلٍّ من السكان الأصليين والأقليات القومية. لكن كما سبق أن رأينا فإن محاولةَ تطويرِ مقاييسَ موجهة إلى الأقليات القومية في أوروبا قد فشلَت، وطموحات النجاح على مستوًى عالمي هي أسوأ حالًا، ونتيجةً لذلك فإن قرار ابتكار عازل بين النوعَين من الجماعات كان بوضوحٍ قرارًا عمليًّا براغماتيًّا، حتى لو أنه قدَّم عنصرًا من التناقض الأخلاقي إلى إطار عمل الأمم المتحدة.
أما القرار الثاني فقد كان لتوسيع فئة السكان الأصليين إلى ما وراء سياقها الأصلي في دول العالم الجديد الاستيطانية حتى آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وهنا، يُمكِننا أن نتخيل مبدئيًّا، مرةً أخرى منظورًا بديلًا يمكن أن تعترف فيه المنظمات الدولية بأن فئة شعوب السكان الأصليين (وربما أيضًا الأقليات القومية) تضربُ بجذورها في تاريخ أوروبا ودول أوروبا الاستيطانية، ويُحاوِل بالتالي أن يطوِّر إطارَ عملٍ مختلفًا تمامًا ذي فئاتٍ موجهة إلى الأقليات في أجزاءٍ أخرى من العالم. لكن ليست لدينا أي اقتراحاتٍ أو أمثلةٍ ملموسة لما قد تكونُ عليه هذه الفئات البديلة (وكما سوف نرى في الفصل التالي) بلادًا في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط لم تُبدِ أي اهتمامٍ بتطوير أشكال الحقوق الموجهة الخاصة بمنطقتها. الطريقة الواقعية الوحيدة لتوسيع أي مستوًى من الحماية الدولية للأقليات في دول ما بعد الاستعمار، فيما وراء الحقوق العامة الواردة في البند الرقم ٢٧، هي أن نوسِّع فئة السكانِ الأصليين، ما دامت الأداة الوحيدة للحماية الدولية المتوافرة كانت تستهدف السكانَ الأصليين؛ فقد كان مفهومًا وعمليًّا إعادةُ تعريفِ الأقليات التي هي في حاجةٍ إلى حماية مثل السكان الأصليين.
ومع ذلك فإن النتيجة الموحَّدة لهذَين القرارَين البرغماتيَّين هي عدم الاستقرار، أما القرارُ الثاني لعولمة فئة السكان الأصليين فهو يجعل من الصعب على نحوٍ متزايد — أخلاقيًّا، ومفاهيميًّا وسياسيًّا — الإبقاء على الجدار القانوني العازل بين السكان الأصليين وأقليات أرض الوطن الأخرى الذي يتطلبه القرار الأول.
إن محاولاتِ الأممِ المتحدة للإبقاء على جدارٍ عازلٍ قانوني بين نوعَي أقلياتِ أرضِ الوطن سوف يكونُ من الصعب الاستمرارُ فيها في مواجهة الضغوط الشديدة والمتناقضة لتوسيع وتضييق فئة شعوب السكان الأصليين. لقد التزَم المجتمع الدولي بتوسيع فئة السكان الأصليين بما يتجاوز الحالة الأساسية في دول العالم الجديد الاستيطانية، غير أن هذا التوسُّع يجعل مسألة المحافظة على الجدار العازل أكثَر صعوبة، أخلاقيًّا ومفاهيميًّا، ويزيد الحافزَ عند الكثير والكثير من أقليات أرض الوطن في دول ما بعد الاستعمار للمطالبة بمكانة السكان الأصليين بطريقةٍ لا يُمكِن الإبقاء عليها سياسيًّا، ومن المحتمَل أن تؤدِّي إلى تقليص مسار السكان الأصليين.
لذلك، فإن النجاح الطويل المدى لمسار السكان الأصليين ربما يعتمد على تطويرِ اتجاهٍ أكثر إدراكًا للعلاقة بين السكان الأصليين وأقلياتِ الوطنِ الأخرى، لقد تجنَّب المجتمع الدولي مواجهة هذه المشكلة بشكلٍ نسَقي حتى يومنا هذا، لكنه لن يتمكَّن من تأجيل المواجهة إلى الأبد. إن استراتيجية الجدار العازل كانت مهمةً لإطلاق مسار السكان الأصليين، لكنها لا تستطيع أن توفِّر أساسًا مستقرًا طويلَ المدى.
من المقاييس/المعايير إلى حل النزاع وفق الحالة
وهكذا، فقد كان على المنظماتِ الدولية أن تتبنَّى استراتيجيةً أخرى في محاولةٍ للتأثير في العلاقات بين الدولة والأقلية. والبديل الواضح هو تبنِّي منظورٍ أمني محدَّد لحالةٍ معيَّنة، ولا يركِّز على صياغة المقاييس والمعايير فقط، بل على منع النزاع وحل الصراع في بلدانٍ معينة، وكما رأينا في الفصل السادس فإن هذا المسار الأمني الثالث كان قد تَم تبنِّيه في أوروبا كذلك بالنظر إلى محدودية أفضل ممارساتها واستراتيجيات المقاييس القانونية، وأثبتَت أنها أهمُّ منظورٍ في التعامُل على نحوٍ واقعي مع موضوعات النزاع العِرقي في بلاد ما بعد الاستعمار.
وإذا ما فحَصْنا كيف كانت استجابة المجتمع الدولي عندما تَم اللجوء إليه للمساعدة في حل النزاعات وإعادة بناء الدول، فسوف نجد اتجاهًا مذهلًا؛ حيث أصبحَت الأممُ المتحدة مشتركةً على نحوٍ نشطٍ في نزاعاتٍ خطيرة بين الدول والأقليات القومية؛ فقد دعمَت على نحوٍ نموذجي شكلًا من أشكال الحكم الذاتي، كما هي الحالة في قبرص والسودان والعراق وإندونيسيا وسريلانكا وبورما. ويكرِّر ذلك بالطبع التجربة في داخل أوروبا ما بعد الشيوعية، وكما رأينا في الفصل السادس عندما ظهر النزاعُ العِرقيُّ الخطير بين الدول وأقليات أرض الوطن في أوروبا ما بعد الشيوعية، دفعَت المنظمات الأوروبية إلى تبنِّي شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي الإقليمي الفدرالي أو شبه الفدرالي كالموجودة، على سبيل المثال، في كوسوفو والبوسنة ومقدونيا وأوكرانيا ومولدوفا وجورجيا وأذربيجان.
والنتيجة التي تنطوي على مفارقة، هي أن الأمم المتحدة، على الرغم من عدائها الواضح لأفكار الحق المبدئي بالحكم الذاتي للجماعات القومية الفرعية، فقد انتهى بها الأمر في الواقع إلى تدعيمِ نماذجَ أوروبيةِ الطراز للنظام الفدرالي المتعدِّد القوميات في العديد من الحالات المهمة، وفي كثيرٍ من هذه المحاولات كان هدف المجتمع الدولي الرئيسي هو ببساطة تأمين السلام، غير أن تشجيعها لنماذج الحكم الذاتي لأقلياتِ أرضِ الوطن قائمٌ أيضًا على أملٍ وتوقُّع، مشتق من التجارب الغربية، بأن هذه النماذج تصلُح وسيلةً لتعزيز علاقات المواطَنة الديمقراطية الليبرالية، واحترام حقوق الإنسان وتمكين التطور الاقتصادي، وهذه الافتراضات من مؤيدي الليبرالية المتعددة الثقافات هي في الواقع جزء من الخطاب الدولي الرسمي الذي يحيط بتوقيع اتفاقيات السلام هذه. لكن لأن هذه الاتفاقيات قد حدثَت فقط في سياق حل النزاعات العنيفة، بدلًا من أن تكون جزءًا من التزامٍ مبدئي أكثر عمومية لحكم الأقليات الذاتي، تُدرك بشكلٍ واسع بوصفها أجورًا مريبة للأقليات المقاتلة، وبدلًا من أن تخدم بقصد تدعيم روح التعددية الثقافية الليبرالية، فإنها تُرسِل رسالةً تقول فيها إن العنف يُجدي.
خاتمة
إن تاريخ جهود الأمم المتحدة في مجال حقوق الأقليات، بكثيرٍ من الطرق، يختلف أتَم الاختلاف عن جهود المنظمات الأوروبية، ومع ذلك فقد ذهبتُ إلى أننا نجد الاستراتيجية الفاشلة نفسها، والإشكالات نفسها التي لم تُحل، والرسائل المختلطة نفسها، ونرى استراتيجيةً ساذجة وربما خطرة لدعم أفضل الممارَسات، كما نرى استراتيجيةَ معاييرَ قانونية تسعى إلى مزجِ حقوق الأقلية العامة مع حقوق الأقلية الموجهة، لكنها تفعل ذلك على أساسٍ من الفئات غير المستقرة، نرى استراتيجية حل النزاع لحالاتٍ محددة تكافئ المتقاتلين، وإذا وضعنا في اعتبارنا ذلك كله فإن هذه الاستراتيجيات المتنوعة تُرسِل رسائلَ مختلفة، وكثيرًا ما تكون متناقضة، حول أنواع التعبئة السياسية العِرقية التي يعتبرها المجتمع الدولي مشروعة.
وفي الفصل الأخير سوف أدرس ما إذا كانت هناك طريقةٌ تمهيدية نستطيع أن نتجنَّب من خلالها — أو على الأقل نقلِّل — هذه المشكلاتِ المُستوطِنة للانتشار العالمي للتعدُّدية الثقافية الليبرالية.
وجوانب عدم التشابه هذه تعتمد على عددٍ من العوامل التاريخية التي تستوجب تمييزًا واضحًا يُوضَع بين ظاهرة الاتساع الإقليمي من قِبل السكان الأصليين إلى المناطق المجاورة، وظاهرة الاستعمار المنظم من قِبل القوى الأوروبية للشعوب القاطنة في مناطقَ في القارات الأخرى منذ أزمنةٍ سحيقة، إن مشاريع الاستعمار الخارجي تختلف اختلافًا تامًّا عن الظاهرة الشائعة جدًّا لتوسيع الأقاليم المجاورة (على حساب الجيران) التي تُمارَس بواسطة الشعوب في تلك الأقاليم «الجديد» قبل وصول المستعمر الأوروبي، إن الطبيعة الملازمة للمشروع الاستعماري والطابع التمييزي الاستغلالي والمُسيطِر لفلسفته كنظامٍ ومناهجه ونتائجه النهائية على المجتمعات هي ما يحدِّد هذا الاختلاف (الفقرتان ٧٣ و١٧٥).
ولقد كان ذلك صوتًا وحيدًا في البرية في داخل شبكة السياسة العالمية حول حقوق السكان الأصليين، ومع ذلك ففي النهاية كان الممثلون الآخرون جميعًا داخل هذه الشبكات يُنكِرون موقفَه.