الفصل الثامن

الخلاصة: الطريق إلى الأمام

«يجب أن ننظر إلى المعايير الدولية كأرضيةٍ يتم من خلالها التفاوضُ على حقوق الأقليات، وليس كسقفٍ ينبغي على الأقليات عدم السعي إلى تخطيه.»

المؤلف

على مَرِّ خمسينَ سنةً خلت شَرعَت المنظمات الدولية في تجربةٍ جريئة لدعم نماذجِ التعددية الثقافية الليبرالية وفي صياغةِ مقاييسَ دوليةٍ لحقوق الأقلية، غير أن هذه التجربة تُواجِه مستقبلًا مشكوكًا فيه؛ فهناك كثيرٌ من الجوانب غير المستقرة في الطريقة التي حدَّدَت بها المنظمات الدولية خطاباتها ومقاييسها، مما منع انتشارَها وتنفيذَها الفعَّال. وفضلًا عن ذلك، فإن الإحساس الأوَّلي بإلحاح هذا الموضوع قد تلاشى بشكلٍ كبير، والتساؤلات حول حقوق الأقليات قد تراجعَت في قائمة الأولويات الدولية، ومن دون الاهتمام المتجدِّد والالتزام، سيكون الناتجُ المحتمَل هو تراجعًا تدريجيًّا من الأبعاد التقدُّمية لهذه التجربة.

ما الذي يجب أن نفعله إذن؟ أين تذهب من هنا؟ لكي نبسط المسألة جدًّا، فإننا نستطيع أن نتخيل خيارَين؛ الأول هو أن نتخلى عن مشروع تدويل التعددية الثقافية، والرجوع بالساعة إلى الوراء، إلى فترة ما قبل العام ١٩٩٠م، عندما لم تمثِّل قضية العلاقات بين الدولة والأقلية أولويةً بالنسبة إلى المجتمع الدولي.

ومن وجهة نظري، فإن ذلك سيكون غير مرغوب فيه إلى أقصى حد؛ فللمجتمع الدولي دَورٌ مشروع، وهو في الواقع أساسي، في تدعيم كلٍّ من الدول والأقليات. إن الأقليات حول العالم تطالب باحترامٍ واعترافٍ أكبر، وليس هناك سبب لتوقُّع أن تختفي هذه المطالب في المستقبل القريب. إن الكفاح المعاصر من أجل التعدُّدية الثقافية قد نشا عن كفاح حقوق الإنسان المبكِّر ضد الهيراركيات العِرقية والعنصرية، وهو يتوافق مع بعض أكثر أفكار العالم الحديث الأخلاقية قوة. ومن غير المحتمل أن تتخلى الأقليات عن هذه المطالب. ومع ذلك فإن كثيرًا من دول ما بعد الشيوعية وما بعد الاستعمار تُواجِه صعوبةً في الاستجابة لهذه المطالب، التي لا تهدِّد فهمها الذاتي التقليدي كدولةٍ قومية متجانسة، فقط، ولكنها تشكِّل كذلك تهديداتٍ على الأمن وحقوق الإنسان والتنمية. حتى في داخل الدول الغربية، فإن التعددية الثقافية الليبرالية قد أثبتَت أنها عُرضة للنقد والتراجع. إن العلاقات بين الدولة والأقلية معرَّضة دائمًا لخطر الارتداد إلى النماذج القديمة للعلاقات غير الليبرالية وغير الديمقراطية، بما في ذلك علاقة القاهر بالمقهور، المستعمِر بالمستعمَر، الطبيعي والمنحرِف، المستقيم والضال، المتحضِّر والمتخلِّف، الحليف والعدو.

وإذا نحن خرجنا عن هذه النماذج، واستبدَلناها بعلاقات المواطنة الديمقراطية، فعلى المجتمع الدولي أن يظل مشاركًا فاعلًا فيها. وما يجدُر بنا أن نتذكَّره هو أن الضغط الدولي قد أدَّى دورًا مهمًّا ومفيدًا في تطوير حقوق الأقليات في العديد من الدول الغربية، على الرغم من أنه كثيرًا ما يَنسَى ذلك. على سبيل المثال، فإن تسوية الحكم الذاتي لجزر ألند Aland كانت حلًّا تقرَّر خارجيًّا تحت مظلة عصبة الأمم، وقد تَم ذلك بنجاح. وانضمام ألمانيا إلى حلف الناتو Nato العام ١٩٥٥م كان مشروطًا بوضعها تسويةً لحقوق أقليةٍ متبادَلة مع الدنمارك، تسوية تُرى الآن نموذجًا لعمل الدولة القريبة بشكلٍ بنَّاء خلال العلاقات بين الجانبَين لمساعدة الأقليات في الدول المجاورة. لقد كان هناك ضغطٌ دوليٌّ قوي على إيطاليا لتَمنح الحكم الذاتي لجنوب تيرول العام ١٩٧٢م، وهو يُرى الآن مثالًا ناجحًا للتكيُّف. وفي جميع هذه الحالات كانت هناك حاجة إلى درجةٍ من الضغط الدولي للبدء في التسويات، على الرغم من أنها أصبحَت مصونةً ذاتيًّا ومحليًّا، بل كثيرًا ما تدعَّمَت أو توسَّعَت نتيجةً للإجراءات المحلية. وإذا سلَّمنا بهذا التاريخ، فإنه يبدو من السذاجة أن نفترض أن البلاد في عالَم ما بعد الشيوعية وما بعد الاستعمار ستتجه حتميًّا وبطرقٍ سلمية إلى حقوق أقليةٍ متميزة، عبر إجراءاتها الديمقراطية المحلية من دون درجةٍ ما من الدعم أو حتى الضغط الدولي.

على المنظمات الدولية مسئولية كلٍّ من حماية الأقليات الضعيفة من المظالم الفادحة، وتمكين الدول من الوفاء بالتزاماتها تجاه العدالة. والتخلي عن هذه المهمة سوف يكون خيانةً للأفكار الأساسية للمجتمع الدولي.

وعلى أي حالٍ فإن التراجُع التام عن حقوق الأقليات ليس خيارًا واقعيًّا؛ فالالتزام بالتعدُّدية الثقافية، وحقوق الأقليات، على الرغم من أنه حديث نسبيًّا، فإنه الآن مؤسَّس بعمقٍ داخل المجتمع الدولي؛ فهناك العديد من جماعات العمل، واللجان الاستشارية، والخبراء المستقلين، والهيئات الرقابية التي تعمل على مستوياتٍ متعددة من المجتمع الدولي (إقليميًّا وعالميًّا)، وبمجالاتٍ فعَّالة مختلفة (على سبيل المثال السلام والأمن، وحقوق الإنسان والتنمية والبيئة). حتى إذا قرَّرَت الجمعية العامة للأمم المتحدة إنكار إعلانها العام ١٩٩٢م، حول حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية أو عِرقية، دينية أو لغوية — وهو في ذاته افتراضٌ غير واقعي — فلن يكون لذلك أي تأثيرٍ في الطرق التي تغلغلَت فيها حقوق الأقليات إلى عمليات برنامج الأمم المتحدة للإنماء، أو منظمة العمل الدولية، أو البنك الدولي، أو اليونسكو مثلًا، وذلك غير تطوُّر السياسات الداعمة للدول حول العالم. إن حقوق الأقليات هنا لتبقى بشكلٍ أو بآخر.

ولذلك، فإن البديل هو إعادة التفكير في مشروع تدويل حقوق الأقليات لوضعه على أساسٍ أكثر ثباتًا، مفاهيميًّا وسياسيًّا، ونحن نحتاج إلى أن نوضِّح أن هناك مجموعةً من الأهداف والمُثل المُدرَكة هنا، وأن هناك وسائلَ عمليةً لتحقيقها.

وأنا أعتقد أن أكثر الأسس قبولًا لإتقان مشروعٍ متماسكٍ لحقوق الأقليات الدولية يكمُن في تصوُّر التعدُّدية الثقافية الليبرالية. كما ناقشنا طَوالَ هذا الكتاب، فإن التعدُّدية الثقافية الليبرالية تعمل بالفعل كمؤثِّرٍ قوي في أنشطة المنظمات الدولية في مجال العلاقات بين الدولة والأقلية. وينعكس ذلك في المصطلحات والخطاب المُستخدَم، في الأمثلة التي اختيرَت كأفضل الممارَسات، وفي الهدف من صياغةِ مقاييسَ ومعايير لحقوق الأقليات، وفي الطريقة التي تتم بواسطتها رؤية حقوق الأقلية هذه على أنها نابعةٌ من ومغروسةٌ في شبكة عملٍ أكبر لحقوق الإنسان والمؤسسة الديمقراطية؛ كل ذلك يحمل الطابع الجلي للتعددية الثقافية الليبرالية، ولم يكُن ليَظهَر في غيابها.

لكن عندما نقول إن المنظمات الدولية قد تأثَّرَت بالتعددية الثقافية الليبرالية فإن ذلك لا يعني أن هناك إجماعًا عالميًّا واضحًا على هذا المنظور، أو تطبيقًا ثابتًا له. على العكس، كما رأينا، فإن مزايا التعددية الثقافية الليبرالية متنازعٌ عليها بشدة على المستوى الدولي. وجزءٌ من هذه المعارضة يأتي من النخبة أو الصفوة في الدولة التي لا ترغب في مشاركة السلطة مع الأقليات، أو التي تُبقي على تحيُّزاتها الراسخة ضد أقلياتها المتخلفة. غير أن كثيرًا من المعارضة يأتي من شكوكٍ أصلية حول صحة التعددية الثقافية الليبرالية، أو حول المخاطر التي قد تنتُج منها، وتحديدًا في ظروف انعدام الأمن الجغرافي السياسي أو التحوُّل الديمقراطي.

ونتيجة لذلك، فإن الالتزام بالتعددية الثقافية الليبرالية يظل ضمنيًّا إلى حدٍ كبير، وإن كان مؤهلًا ووفقًا لبعض المحلِّلين، وسوف يكون من الدقة أكثر أن نقول إن المنظمات الدولية تدعم شكلًا من أشكال «التعددية الثقافية الخفيفة» (سكوفغارد، العام ٢٠٠٧م)، نسخة مخففة تسعى إلى تجنُّب النواحي الأكثر تنازعًا أو خطورةً للتعددية الثقافية الليبرالية. غير أن التزامات المنظمات الدولية أكثر اختلافًا وتنوعًا مما تُوحي به تلك الصورة المقترحة. وربما تكون التعددية الثقافية الخفيفة هي كل ما نتوقَّعه أو نشجِّعه بالنسبة إلى بعض الأقليات في بعض البلاد، لكن في سياقاتٍ أخرى يتم قبول وربما فرض شكلٍ أكثر قوة من التعددية الثقافية، في حين أننا نرى في سياقاتٍ أخرى تراجعًا حتى عن أدنى أشكال التعددية الثقافية الخفيفة. إن هذا التنوُّع بالتحديد هو ما يخلُق جوانبَ عدم الاستقرار المفاهيمية والسياسية التي كنتُ قد تعقَّبتُها في الفصلَين السابقَين.

والسؤال إذن هو عما إذا كنا نستطيع تثبيت هذا الالتزام الدولي المتردِّد المتباين بالتعدُّدية الثقافية الليبرالية، هل نستطيع تحويل ما هو اليوم مجموعة من التجارب المتباينة والضمنية لنشر التعددية الثقافية الليبرالية إلى مشروعٍ سياسي وقانوني أكثر تماسكًا؟ والجواب: فيما أعتقد، يعتمد على ما إذا كان يُمكِننا أن نُواجِه المشكلات الأساسية التي أوضحتُها في بداية الكتاب:
  • (١)

    كيف يُمكِن لنا أن نجمع حقوقَ الأقلياتِ المستهدَفة مع حقوق الأقلية العامة؟

  • (٢)

    كيف يُمكِن أن نجمعَ منعَ النزاع القصير المدى مع التدعيم الطويل المدى لأعلى معايير التعددية الثقافية الديمقراطية الليبرالية؟

  • (٣)

    كيف نجمع بين السعي نحو العدالة الثقافية العِرقية مع حماية الأمن الجغرافي السياسي؟

ينبغي أن يكون واضحًا منذ الآن أنه ليست ثمَّة إجاباتٌ سهلة؛ فهذه المعضِلات هي فعلًا معضِلات وهناك مخاطر وتنازلات أيًّا ما كانت طريقة سيرنا. والواقع أن كلًّا من هذه الاستراتيجيات الثلاث لنشر التعددية الثقافية الليبرالية — ونشر أفضل الممارسات، وصياغة المعايير القانونية، والتوسُّط لحل النزاع في حالاتٍ معيَّنة — لديها معضِلاتها الخاصة الملازمة لها، وأي محاولةٍ للجمع بين الاستراتيجيات الثلاث قد تؤدي في الحال إلى احتمال وجود الرسائل المتعارضة والدوافع الفاسدة. وسوف يكون هناك اختلافٌ حتميٌّ حول كيفية موازنة هذه المخاطر؛ وبالتالي ينبغي أن نتوقَّع ظهور عدد من النماذج البديلة. والواقع أن ذلك على وجه الدقة هو ما نحتاج إليه؛ نحتاج إلى مجموعةٍ من المنطلقات المتنافسة، بحيث يمكننا أن نقيِّم بشكلٍ نسَقي مقدار قوَّتِها وضعفِها.

وينبغي كذلك أن يكون واضحًا، وهذا ما آملُه، أن تكون عمليةُ صياغةِ وتقييمِ هذه البدائل جهدًا مشتركًا، تعتمد على معلوماتِ أنظمةٍ أكاديميةٍ مختلفة، وعلى أنواعٍ مختلفة من ممثلي الدولة وغير الدولة من مناطقَ مختلفة من العالم. ولدينا بعضُ قوالب البناء لهذا المجهود؛ لدينا بياناتٌ مطورة بشكلٍ جيد بواسطة أصحاب النظريات المعيارية السياسية لنماذج وأفضل ممارسات التعددية الثقافية، مشتقة بشكلٍ أساسي من تجربة الديمقراطيات الغربية المتماسكة، ولدينا بيانات مطوَّرة بشكل جيد بواسطة علماء السياسة لأساليب حل المنازعات في حالاتٍ خاصة في المجتمعات الضعيفة أو المنقسمة، وبالتحديد في عالم ما بعد الشيوعية وما بعد الاستعمار، كما أن لدينا بياناتٍ مطوَّرة بشكلٍ جيد بواسطة المحامين الدوليين للمفاهيم والفئات الحالية المُستخدَمة في المعاهدات أو الإعلانات الدولية حول حقوق الأقليات. ومع ذلك، فلا تزال قوالبُ البناء الثلاثة تلك موجودةً حتى يومنا الراهن بدرجةٍ أو بأخرى من العزلة بعضها عن بعض. ونحن في حاجةٍ إلى أن نجمعها معًا، وأن نبني جسورًا بين المُثل المعيارية للتعددية الثقافية الليبرالية، وآليات منع النزاع وحلِّه، والفئات القانونية لحقوق الأقليات.١

وسوف يكون من السابق لأوانه أن نتوقَّع أو أن نَصِف محصلةَ هذه المناقشة الدولية بين الأنظمة. لكن في بقية الخلاصة، سوف أطرح بعض التكهُّنات الأولية حول كيفية بدء المناقشة، في المقام الأول للإشارة إلى نوع القضايا التي نحتاج إلى أن نناقشَها بشكلٍ إجمالي، ونحن بذلك نأمل تشجيع الآخرين لتنمية أساليبَ أخرى أفضل. وسأركِّز بالتحديد على ثلاث مسائل؛ فئات حقوق الأقليات، والشروط المسبقة لحقوق الأقليات، وحلبة أو مجال حقوق الأقليات. إن المسألتَين الأوليَين هما مسألتان تدوران حول جوهر أو محتوى حقوق الأقليات، وتتعلق الأخيرة بآلياتٍ أو إجراءاتٍ تحلُّ بها هذه الموضوعات المتعلقة بالجوهر.

والمسألة الأولى تتعلق بموضوع الفئات. لقد كافحَت المنظمات الدولية بشكلٍ متكرِّر في موضوع ما إذا كانت تتبنَّى حقوق الأقلية الموجهة لفئاتٍ محدَّدة من الجماعات، مثل الأقليات القومية والسكان الأصليين، وتُوحي هذه الصراعات بعددٍ من الدروس المهمة. الدرس الأول هو أنه يبدو أن درجةً من التوجيه مطلوبة. وكما رأينا، فكثيرٌ من العناصر فضَّلَت التمسُّك بمنطلَق حقوقِ أقلياتٍ عامةٍ خالصة لا يتطلب وضع الجماعات العِرقية الثقافية في فئاتٍ مختلفة لأهدافٍ تتعلق بالقانون الدولي. لكن في كلٍّ من السياقَين الأوروبي والعالمي، ثبَت عدم كفاية المنظور العام الخالص. إن جزءًا من طبيعة الصراع العِرقي، وجزءًا من منطق التعدُّدية الثقافية الليبرالية ذاتها، أن تنشأ عنها قضايا تختلف من حيث الجماعة، ويُوحي ذلك بأن درجةً ما من التوجُّه ضرورية إذا أردنا للمعايير الدولية أن تؤدِّي دورًا بنَّاء.

ومع ذلك فنحنُ أبعَد ما نكونُ تمامًا عن الوصول إلى تفسيرٍ نسَقي مُحكَم عن أنواعِ الاستهدافِ المرغوبة والقابلة للاستقرار. إن الاستخدامَ الحالي للفئات المُستهدَفة في القانون الدولي — والذي هو مقصورٌ بشكلٍ أساسيٍّ على الأقليات داخل أوروبا والسكان الأصليين عالميًّا — هو خطأٌ مضاعَف؛ لقد انبثَق بطريقةٍ غير متناسِقة أو غير مخصَّصة لغرضٍ معيَّن، يعكس خليطًا صعبًا من اعتبارات الأمن والعدالة، يتضمَّن ثغراتٍ هائلة في التغطية، وميلًا لتعميمِ ما هو في الواقع خاصٌّ وإقليمي. والنتيجة هي ضغطٌ متزايد للتخلُّص من هذه المقاييس الموجهة، أو لإعادة تفسيرها بطرقٍ تهدم مقصدَها الأصلي.

هل هناك بديلٌ حقيقي؟ وكيف سيبدو منظور التعدُّدية الثقافية الليبرالية الأكثر تماسُكًا والأشد اتساقًا فيما يخُص موضوع الفئات؟! إن مبرِّر التوجه، من منظور التعدُّدية الثقافية الليبرالية، هو التعرُّف على وعلاج نماذجَ متوقعة للظلم في العلاقات بين الدولة والأقلية. كما أن حقوق الإنسان التقليدية من المُمكِن أن تُفهَم كحمايةٍ للأفراد في مواجهة «التهديدات الشائعة» من سوء استخدام سلطة الدولة (شو، ١٩٨٠م)، ومن ثَم ففي استطاعتنا التفكير في حقوق الأقليات الموجهة كمحاولة لحماية أنواعٍ مختلفة من الأقليات من التهديدات المألوفة التي تُواجِهها على أيدي الدول القومية الحديثة. وكما رأينا في الفصل الثالث، فإن هذه التهديداتِ تختلفُ من جماعةٍ إلى أخرى، ويعتمد ذلك جزئيًّا على كيفية اعتبارِها جزءًا من الدولة؛ السياسات التي تبنَّتها الدول بشكلٍ تاريخي تجاه السكان الأصليين المستعمَرين تختلف عن تلك التي تبنَّتها تجاه الأقليات القومية المندمجة، التي تختلف مرةً أخرى عن تلك التي تبنَّتها تجاهَ الأقلياتِ الجديدة من المهاجرين واللاجئين. وقد كان لكل هذه السياسات تقليديًّا تأثيرٌ يفرض الدمج أو الاستبعاد على الأقليات، غير أن نماذجَ الظلم المتضمَّنة، والعلاجات المطلوبة، تختلف. إن الطابعَ المختلف على مستوى الجماعة للتعدُّدية الثقافية الليبرالية يمكن أن يُفهم كمحاولةٍ لتحديد وعلاج هذه النماذج المتوقعة للظلم.

وإذا نظرنا إلى الأمر بهذه الطريقة، فإننا سنرى، في صورةٍ أولية، ملخَّص نظامٍ قائم على العدل للمعايير الدولية المستهدَفة. وأوضحُ مثالٍ يتعلق بالسكان الأصليين في دول العالم الجديد الاستعمارية؛ حيثُ صُمِّمَت المقاييسُ الموجهة الناشئة على وجه التحديد لعلاج النماذج المتوقعة للظلم الذي عانته. وتُوجَد أيضًا مقترحاتٌ جادة لتبنِّي مقاييسَ موجهة لجماعات المهاجرين وللغجر في أوروبا، واللاتينيين الأفارقة في أمريكا اللاتينية، ولقبائل التلال في آسيا وللرعاة في أفريقيا، من بين جماعاتٍ أخرى، كلٌّ منها قدِّم على افتراض أن هناك تهديداتٍ مألوفة أو نماذجَ متوقعة من المظالم التي عانَتْها هذه الأنواع من الأقليات في بلادٍ متنوعة.

ومعظم هذه الاقتراحات، حتى يومنا الراهن، لم تُقبل، إلى حدٍّ ما بسبب أنها كثيرًا ما تظهر لغرضٍ خاص، وكدفاعٍ معيَّن، وليس ثمَّة إجراءاتٌ أو معاييرُ لتقييم مقترحات تأسيس فئاتٍ جديدةٍ مُستهدَفة، كما أنه لا تُوجَد نظريةٌ عامة عن كيف ومتى تكون الفئاتُ المستهدفةُ مطلوبة لاستكمال حقوق الأقليات العِرقية.

وفي رأيي، أن هناك هُوَّةً واسعة في المنظور السائد لحقوق الأقليات. ونحن في حاجةٍ إلى أن نفكِّر بطريقةٍ نسَقية أكثر عن دَور حقوق الأقليات الموجهة، وتُوحي التجربة حتى يومنا الراهن بدروسٍ عديدة. ما يمكِننا قولُه بشكلٍ آمن هو أن الاستهداف لا يعمل إلا إذا كان هناك اتساقٌ بين شكل ومضمون المقاييس الموجهة؛ أعني ما إذا كانت المجموعة المتميِّزة من الحقوق الممنوحة لنوعٍ معيَّن من الجماعة تُناسِب بالفعل الحاجات أو الظروف المتميِّزة لذلك النوع من الجماعات. وفي السياق الأوروبي ظهر عدم تلاؤم بين الشكل والمضمون. والمقاييس الأوروبية موجهة صوريًّا للأقليات القومية، لكنها عامةٌ كليًّا في مضمونها الجوهري، والنتيجة هي عدم الاستقرار.

لكن حتى عندما يكون هناك تناسُبٌ جيد بين الشكل المُستهدَف والمضمون المُستهدَف، كما هي الحال في مسار حقوق السكان الأصليين في الأمم المتحدة، فإن النتيجة قد تكون غير مستقرة إذا ما وُجِد هذا التوجه بمعزلٍ عن إطارِ عملٍ أو تفهُّمٍ أكثر عموميةً لدَور ووظيفة الحقوق الموجهة، ولقد ظهرَت المقاييس الموجهة حتى يومنا الراهن في أسلوبٍ محدَّد لحالةٍ معيَّنة، وكثيرًا ما تُقدَّم كاستثناءاتٍ فريدة لقاعدة حقوق الأقليات العامة. غير أن هذا النوع المحدَّد من التوجه الأحادي عزَل جماعةً من نوعٍ معيَّن من أجل منحها حقوقًا قانونيةً مميزة، في حين تُمنَح جميع الجماعات الأخرى حقوقَ الأقلية العامة فقط، ليس من المحتمل أن يكون مستقرًّا. ولو أننا بدأنا السير في طريق المقاييس الموجهة، ربما احتجنا إلى أن نقوم بذلك بوعيٍ ذاتي أكثر وبأسلوبٍ نسَقي. ربما تكون الطريقة الوحيدة لتطويرِ مجموعةٍ يُمكِن الإبقاء عليها للمقاييس الموجهة للسكان الأصليين، هي أن نجعلها على سبيل المثال جزءًا من استراتيجيةٍ أوسع ﻟ «التوجه المتعدِّد» ولتعمل مع مقاييسَ موجهة منفصلة للأقليات القومية أو جماعات أرض الوطن، ولمجموعة المهاجرين، أو لأنواعٍ أخرى من الجماعات التي لديها تاريخُ مطالبَ فريدة، مثل جماعات الغجر واللاتينيين من أصلٍ أفريقي. وإلا فسوف تُواجِه أي مجموعةٍ من المعايير ذات التوجه الأحادي ضغطًا شديدًا لتوسيع أو إعادة تعريف الفئة بطرقٍ لا يمكن الإبقاء عليها، كما في أوروبا فيما يتعلق بالأقليات القومية وفي العالم فيما يتعلق بالسكان الأصليين؛ ولأن هذه الفئات هي الفئاتُ الوحيدة التي تقدِّم حمايةً قوية، فلقد دُفعَت لتغَطي حتى عددًا متوسعًا ومتنافرًا من الجماعات، إلى الحد الذي يكون فيه المنطق الكامن وراء التوجُّه الأولي مشدودًا على نحوٍ متزايد. وإذا ما رغبنا في المحافظة على المقاصد الأصلية وراء مجموعةٍ من الحقوق الموجهة لنوعٍ واحد من الجماعات، فربما نحتاج إلى ضمان أن الأنواع الأخرى من الجماعات قادرةٌ على أن تمتَثل إلى المقاييس الموجهة الخاصة بها، كجزءٍ من إطارِ عملٍ أكبر لحقوق الأقليات المتعدِّدة التوجُّه.

لم تكن هناك سوى بضعِ محاولات، إن وُجدَت، للنظر فيما كان يُمكِن أن يكون عليه شكلُ النظام المتعدِّد التوجُّه لحقوق الأقليات. إن فئات الحقوق الموجهة تحتاج إلى أن تُصفَّى بشكلٍ كافٍ لتحصُر نماذجَ متميِّزة للظلم المحتمَل، على ألا تُصفَّى إلى درجةٍ تجعلها تتداعى إلى حالاتٍ فرديةٍ خاصة ببلدانٍ معيَّنة، وبينما ينبغي أن تكون هناك فئاتٌ كثيرة جدًّا لتغَطي الأنواعَ الرئيسيةَ من الجماعات، فإنه لا يُمكِن أن تكون هناك فئاتٌ تبلغ من الكثرة عددًا بحيث تجعل النظامَ غيرَ عملي. ولا يتضح ما هو ذلك الخليط من الفئات الذي يستطيع أن يخدم كأساسٍ لنظامٍ عملي يُمكِن الإبقاءُ عليه لحقوق الأقليات المتعدِّدة التوجُّه.

المهمة العقلية هنا معقَّدة من واقعة أن كثيرًا من الفئات المستخدمة حاليًّا، مثل السكان الأصليين أو الأقليات القومية، «متمركزة في زمانٍ ومكان معينَين» (لينوكس، ٢٠٠٦م، ص٤)، قد لا تكون قابلةً للتطبيق عالميًّا؛ فهي تعمل بشكلٍ جيد في بعض المناطق، وليس في مناطقَ أخرى. وكما سبق أن رأينا فإن التعدُّدية الثقافية الليبرالية في الغرب اعتمدَت على مجموعةٍ محدَّدة من الفئات — وتحديدًا المهاجرين، والأقليات القومية، والسكان الأصليين — وأن تجربة الأربعين سنةً حتى يومنا الراهن تُوحي بأنها قادرةٌ على حصرِ نماذجِ المظالم المتوقَّعة في العلاقات بين الدولة والأقلية داخل الديمقراطيات الغربية القوية. لكن من الأقل وضوحًا ما إذا كانت هذه الفئاتُ تساعد في التعرُّف على أو معالجة، التهديداتِ المألوفة التي تنطوي عليها العلاقاتُ بين الدول والأقليات في آسيا وأفريقيا. في هذه المناطق لا تختلف الأقليات فقط في تاريخها، وصفاتها وطموحاتها عن الأقليات في الغرب، كما سبق أن رأينا فإن كثيرًا من دول ما بعد الاستعمار ليست لديها جماعةٌ قوميةٌ مُسيطِرة يُمكِن أن تُطلِق على الدولة أنها دولتُها الخاصة؛ ومن ثَم فإن الأقليات لا تُواجِه النوع نفسه من عملية بناء الأمة. إن التهديدات بالطرد أو التهجير تختلف، وقُلْ مثلَ ذلك في العلاجات المناسبة.

يذهب تيد غر (Ted Gurr) في دراسته المتميِّزة «أقليات في خطر» إلى أننا نحتاج إلى فئاتٍ جديدة لتصنيف الأقليات في دول ما بعد الاستعمار (غر، ١٩٩٣م)؛ فهو، على سبيل المثال، يستخدم فئة «المناضلين الطائفيين» لحصر نوعٍ واسعِ الانتشار من التنوُّع في دول ما بعد الاستعمار لا يُوجَد بصفةٍ عامة في الديمقراطيات الغربية. والمناضلون الطائفيون يُشبِّهون الجماعات العِرقية القومية في الغرب من حيث إنهم أقلياتٌ فرعيةٌ قوية لديها القدرة على تحدِّي سلطة الدولة، لكنها تختلف في علاقتها التاريخية مع الدولة، وفي طموحاتها الحالية. وعلى عكس الجماعاتِ العِرقية القومية الفرعية (أو السكان الأصليين) في الغرب، فإنهم (أي المناضلين) ليسوا هم الخاسرين في عملية تكوين الدولة ورسم الحدود. على العكس، فكثيرًا ما مارَسوا دورًا مهمًّا في القتال من أجل الاستقلال، وربما يرَونَ أنفسَهم شعبًا من الشعوب المؤسِّسة للدولة؛ لذلك فإنهم لا يرَونَ أنفسَهم مشاركين بشكلٍ لا إرادي في دولة الآخرين، ولا يسعَون إلى الهروب من سلطة الدولة، بل يخشَون بالأحرى أنهم ربما يخسَرون في العمليات اليومية للحصول على الرزق وتنمية الموارد. ووفقًا لغر، فإن قاعدة بيانات MAR تسمح لنا بتحديد نموذجٍ متوقع من الظُّلم والتحوُّل السياسي المصاحب لتلك الجماعات، وكذلك نطاق الاستجابات السياسية المناسبة، التي تختلف عن تلك المُصاحِبة للسكان الأصليين، والأقليات القومية وجماعة المهاجرين. إذا كان الأمر كذلك، فإنه يقترح أنَّ المناضلين الطائفيين ربما يمثِّلون فئةً مناسبة لبناء مقاييسَ موجهةٍ جديدة، وعلى وجه التحديد في أفريقيا وآسيا.

وذلك مجرد مثالٍ واحد فقط من أمثلةٍ كثيرة يمكن أن نقدِّمها عن جماعاتٍ في مناطقَ أخرى من العالم، لا تُناسِب النماذجَ الغربية القائمة أو الفئات القانونية الدولية الموجودة، وهذا المثال يُوحِي أيضًا بأن أنواعَ الفئاتِ التي تحتاج إليها من المُحتمَل أن تكون إقليميةً بدلًا من أن تكون عالميةً من حيث مداها، لكي تعكسَ الاختلافَ الملحوظَ بين المناطق في التاريخ والملامح، ليس فقط من حيث أقلياتها، لكن أيضًا من حيث بنية الدولة. والواقع، حتى عندما نستخدم الفئة القانونية نفسها، كما هي الحال عندما تُعرَّف قبائل التلال في جنوب آسيا، أو جماعات البدو في أفريقيا على أنهم من السكان الأصليين، لا يزال من المفيد أن نقوم بتمييزاتٍ إقليمية. إن العلاقة التاريخية بين السكان الأصليين ودول العالم الجديد الاستعمارية تختلف تمامًا عن العلاقات بين قبائل الجبال وشعوب البدو في دول ما بعد الاستعمار في أفريقيا وآسيا، وربما يستدعي هذا اختلافاتٍ إقليمية في حقوقها وعلاجها وفقًا للقانون الدولي (وهذا بدَوره يطرح سؤالًا حول ما إذا كانت مهمةُ تشكيل تلك الفئاتِ الخاصة بمنطقةٍ ما من الأفضل أن تُترك للمنظمات الإقليمية بدلًا من المنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة، سأعود إلى هذا السؤال فيما بعدُ).

وباختصار، لدينا العديد من المشكلات بغير حلٍّ بشأن فئات حقوق الأقليات، تحديدًا حول دور المقاييس الموجهة. إن الاستخدام الحالي للفئات الموجهة في القانون الدولي متعلق بحالةٍ معيَّنة وغير مستقر، ونحن نحتاج إلى التفكير في البدائل. ولقد سبق أن اقترحتُ أن نأخذ بمنظورٍ محتمَل، بناءً على قراءتي لمنطق التعددية الثقافية الليبرالية. وعلى هذا النموذج، فإن الحقوق المستهدفة يمكن أن نتصورها كوسائلَ لتحديد ومعالجة التهديدات المألوفة للظلم؛ وبالتالي يتم تفريغُها لتتبُّع النماذج المتوقَّعة للعلاقات بين الدولة والأقليات، ومقارنةً بالوضع القائم فإن مثل هذا النموذج سوف يستخدم الحقوق الموجهة استخدامًا عظيمًا جدًّا، وسوف يكون أكثر تعاطفًا تجاه الفئات الخاصة بمنطقةٍ معيَّنةٍ منها تجاه التصنيفات العالمية.

وسواء أكان هناك أي خيارٍ واقعي لتبنِّي ذلك النظام ذي الخصوصية الإقليمية لحقوقٍ متعددة التوجُّه أم لا، فذلك أمرٌ غير واضح لأسبابٍ سوف أناقشها فيما بعدُ، لكن دعنا الآن نفترض أننا نستطيع أن نصل إلى تفسيرٍ ملزِم للفئات المناسبة لحقوق الأقليات، بناءً على نماذجَ متوقعة وتهديداتٍ مألوفة للظلم، سوف يقودنا ذلك في الحال إلى المشكلة الكبرى الثانية التي سوف أُطلِق عليها مشكلة «الظروف». ببساطةٍ، فإن العوامل الاجتماعية والسياسية التي مكَّنَت من التبنِّي (غير المتساوي) للتعددية الثقافية الليبرالية في الغرب كتعويضٍ لمظالم جماعة الأقلية ليست موجودةً في كثيرٍ من دول العالم، حتى إذا ما تعرَّفنا على فئاتٍ ملائمة، فسوف يكون من غير المعقول أن نتوقع تبنِّي نماذج التعددية الثقافية الليبرالية في السياقات التي يكون لدى الدول فيها خوفٌ معقول من أن تؤدي إلى عدم الاستقرار. كما رأينا، فإن النماذج التي خدمَت هدف المواطنة في الغرب ربما تُنتِج ببساطةٍ تعسُّفًا وعداوةً في ظل ظروف المؤسَّسات الضعيفة وعدم الأمان الجغرافي السياسي.

ومن ثَم فمن المهم التفرقة بين ما يُمكِن إجراؤه على المدى القصير وما هو مرغوبٌ فيه على المدى الطويل، ولسوء الطالع لم تتمكَّن أيٌّ من الاستراتيجيات الحالية التي جرى تبنِّيها من قِبل المنظمات الدولية لتدعيم التعددية الثقافية الليبرالية من النجاح في الجمع بين الواقعية حول القيود القصيرة المدى مع الصورة المتماسكة لأهدافنا الطويلة المدى. وعلى سبيل المثال، فإن استراتيجية نشر أفضل الممارَسات الغربية كثيرًا ما تتجاهل القيود على القدرة التنفيذية القصيرة المدى، في حين أن المقاييس الأوروبية القانونية التي صيغَت للأقليات القومية تذهب بعيدًا في اتجاهٍ مخالف، يسمح للاهتمامات الأمنية القصيرة المدى بأن تتغلب على أي اهتمامٍ بالتعددية الثقافية الليبرالية.

هل هناك بديلٌ فعَّال؟ من منظور التعددية الثقافية الليبرالية، سوف يكون الهدف هو ابتكار نوعٍ ما من الاستراتيجية المتتالية التي تميِّز المتطلبات القصيرة المدى والمتطلبات البعيدة المدى. وربما نستطيع، على سبيل المثال، أن نعتمد على أفكار «التنفيذ المتقدِّم» الذي ظهَر في المجال الأوسع لحقوق الإنسان، لقد اعتُرف منذ وقتٍ طويل بأن بعض الحقوق الاجتماعية المدرَجة في الميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا يُمكِن أن تنفَّذ في الحال في بعض الدول الأكثر فقرًا (مثل الحصول على تعليمٍ جامعيٍّ مجاني). إذن، فمن الطبيعي أن نفرِّق بين تلك الحقوق الاجتماعية التي يجب تطبيقُها فورًا بشكلٍ عالمي، وتلك التي نسعى إلى تحقيقها مع مرور الوقت بتوافُر الظروف التي تسهِّل تحقيقها، وعلى الرغم من أن الدول في البلاد الفقيرة لا يُتوقَّع منها أن تحقِّق أعلى المعايير فورًا، فإنه يُتوقَّع منها أن توضِّح ما الذي تفعله لتوفير الظروف التي تمكِّن هذه المعايير من التحقُّق بشكلٍ متقدِّم.

ويُمكِننا بالمثل أن نتخيل نظرية التنفيذ المتقدِّم للتعددية الثقافية الليبرالية، بمساهمة بنودٍ مختلفةٍ لحقوق الأقليات في أثناء تأسيس الشروط الكامنة،٢ في حين أن الدول التي تمُر بمرحلة الانتقال الديمقراطي أو تلك الموجودة في المناطق غير المستقرة لا يُتوقَّع منها أن تحقِّق أعلى معايير التعددية الثقافية الليبرالية، لكن سوف يُتوقَّع منها أن توضِّح ما الذي تفعله لتمكين هذه المعايير من التحقق بشكلٍ متقدم على المدى الطويل.

وفي رأيي أن ذلك يحتمل أن يكون نموذجًا جذابًا للربط بين مخاوف الاستقرار القصيرة المدى بأهداف العدل الطويلة المدى، وسوف تمنَح الدول مساحةَ التنفُّس التي تحتاج إليها للتعامل مع ظروفها الصعبة، من دون أن تُطلق أيديهم لخنق الطموحات والآمال المشروعة للأقليات. على سبيل المثال، إن نموذج التنفيذ المتقدِّم من المفترض أنه لن يسمَح للدول بأن تمنع الأشكال المسالمة والديمقراطية للتحرُّك والتعبير بالنسبة إلى الأقليات، أو أن يفرض حظرًا دستوريًّا على التبني المستقبلي للتعددية الثقافية الليبرالية (كما فعل العديد من دول ما بعد الاستعمار، غالبًا بمباركة المنظمات الأوروبية). وسوف يُقلِّل من التوقعات العاجلة المُلِحة الموضوعة على عاتق بعض الدول، لكن لن يسمح لهذه الدول بأن تَحفِر في الصخر تفضيلَها لأن تبقى دولًا مركزيةً موحَّدة اللغة. وعلى العكس، سوف يفرض واجبًا على هذه الدول أن توفر بشكلٍ متقدم الظروف التي سوف تُمكِّن من السعي المسالم والديمقراطي للتعددية الثقافية الليبرالية مع مرور الوقت.

ولو أننا جمعنا فكرة التنفيذ المتقدِّم تلك مع فكرة المعايير المتعددة التوجُّه، فإن النتيجة سوف تكون إطار عملٍ تحدِّد من خلاله المقاييسُ الدولية التهديداتِ المألوفة للمظالم التي تؤثِّر في أنواعٍ معيَّنة من جماعات الأقلية، وتوفِّر سلسلةً من علاماتٍ محدَّدة على الدول أن تلتزم بها مع مرور الوقت للمساعدة في تحقيق العدل. وهذه العلامات سوف تبدأ بحقوق الأقليات العامة الضعيفة، لكنها سوف تنتقل بعد ذلك إلى نماذجَ أكثر قوةً من حقوق الأقلية الموجهة، بمخاطبة وتحديد الشروط المسبقة المتعدِّدة وعوامل الخطورة.

وتلك هي طريقةٌ واحدة لمحاولة تجاوُز مأزقنا الحالي، وإذا كنا قادرين على تزويدها بقوائمَ أكثر تفصيلًا للفئات والعلامات المحدَّدة، لكان من المُمكِن أن نتعامل مع كثيرٍ من المخاوف المشروعة التي تعوق وتشوِّه حاليًّا المجهودات الدولية لنشر التعددية الثقافية الليبرالية، سوف تُقلِّل أيضًا من التناقُضات المُحتمَلة بداخل، وبين، الاستراتيجيات الثلاث الرئيسية لنشر التعددية الثقافية، وهي لن تضع مسار المعايير القانونية على طريقٍ أكثر ثباتًا واتساقًا فقط، لكنها سوف تُقلِّل أيضًا من الهُوَّة العميقة الموجودة حاليًّا بين استراتيجية المقاييس القانونية الضعيفة والنماذج الأكثر قوةً للتعددية الثقافية التي تدعَم (بطريقةٍ اختيارية ومحدودة) من خلال تعميمِ أفضلِ الممارَسات والتدخُّلات في حالاتٍ معينة.

ولسوء الحظ، أنا لا أعتقد أننا نملكُ بالفعل نظريةً يُمكِن العمل بها للتسلسل المناسب للتعدُّدية الثقافية الليبرالية، والواقع أنني لا أعتقد أننا لدينا الأساسُ العملي المطلوب لبناء مثل تلك النظرية، ونحن ببساطةٍ لا نعرف أي الشروط المسبقة نحتاج إليها لتمكين العملية الناجحة ذات الجوانب المختلفة من التعددية الثقافية الليبرالية من أجل أنواعٍ مختلفة من جماعات الأقلية.

فعلى سبيل المثال، المناقشات التي طرحناها في الفصلَين السادس والسابع ربما تقودُنا إلى افتراضِ أنه ينبغي أن يتحقق مستوى ما من الثبات الديمقراطي قبل أن تُجرِّب الدول نماذجَ من الحكم الذاتي الفرعي للأقليات القومية. غير أن ذلك ليس واضحًا على الإطلاق. انظر إلى الحالة الإسبانية، بعد موت فرانكو كان هناك اتفاقٌ واسع الانتشار على أن الدولة تحتاج إلى أن تكون ديمقراطية وفدرالية، لكن كان هناك جدلٌ حاد حول التتابُع المناسب لهاتَين المهمتَين، ولقد ذهب كثيرٌ من المصلحين الديمقراطيين إلى أن الأولوية ينبغي أن تكون للثبات الديمقراطي، وأن تأتي الفدرالية بعد ذلك، ولقد وافق كثيرٌ من الأكاديميين في ذلك الوقت على وجهة النظر هذه، لكن في النهاية اتُّخذ القرار بأن تتم عمليتا التحول إلى الديمقراطية والفدرالية في وقتٍ واحد. ويعتقد كل المتابعين اليوم أن ذلك كان الاختيار السليم، وأن التماسُك الديمقراطي لن تقومَ له قائمةٌ ما لم تتحقق معه الفدرالية في الوقت نفسه.

وربما كانت إسبانيا استثناء، ولا شك في أن وجود الاتحاد الأوروبي (EU) والناتو (NATO) قد أدَّيا دورًا مهمًّا في ضمان ذلك التحوُّل المزدوج، غير أن بعضَ الممثلين الدوليين يأملون تحقُّق قصةٍ مشابهة في بلدانٍ أخرى، من السودان إلى العراق؛ حيث تُنفَّذ كل من عمليتَي التحول إلى الديمقراطية والتعددية للدولة في وقتٍ واحد بدلًا من أن تكون بشكلٍ متتابع.

ونحن نعرف أن التماسُك الديمقراطي يُساعِد في العملية الناجحة للتعددية الثقافية الليبرالية، وأن الأخيرة يحتمل أن تكون غير مستقرة من دون الأولى. وإلى هذا الحد، فالمسألة واضحة في رأيي، لكن لا يتبع ذلك ضرورة تقدُّم الثبات الديمقراطي على تبنِّي السياسات الليبرالية المتعددة الثقافات. والواقع أن الأولى قد لا تكون ممكنة، من دون الأخيرة، على الأقل في بعض الحالات. ونحن ببساطةٍ لا نعرف القَدْر الكافي عن التابع هنا لكي نُطلِق تعميماتٍ على مستوًى عالمي حول كيفية المشاركة في التنفيذ التقدُّمي لحقوق الأقليات.

ونحن نحتاج إلى عددٍ كبير من البحوث الإضافية إذا ما كنا نريد أن نتعامل بشكلٍ فعَّال سواء مع مشكلة الفئات أو مشكلة الظروف؛ وذلك لأن الاستراتيجية الجذَّابة لدعم التعددية الثقافية الليبرالية سوف تتضمَّن مجموعةً متتالية من حقوق الأقلية المتعدِّدة التوجهات، والمحدَّدة إقليميًّا، غير أنه حتى إذا ما توافرَت الإرادة السياسية لمثل هذا المنظور، فإنه يتطلب درجةً من التطور والمعرفة تتعدى بخطواتٍ عديدة مستوانا الحالي من البحث الأكاديمي والنقاش العام.

ربما نطوِّر مع مرور الوقت نوعًا من الوسائل العقلية والأدلة التي تُمكِّننا من أن نصوغَ تفسيرًا مقبولًا لتوجُّه التعددية الثقافية الليبرالية وتتابعها. وسوف يكون ذلك مشروعًا طموحًا، ولا بد أن يتطلب استثمارًا كبيرًا للوقت والموارد، ليس فقط من قِبل المنظمات الدولية، بل أيضًا من قِبل شبكات العمل العالمية السياسية للأكاديميين، وجماعات الدفاع، والمنظمات الخيرية التي تُفيد وتُحافظ على عمل المنظمات الدولية.

ومن المثير للاهتمام أن نعقد مقارنة الموقف هنا بقضايا حديثة أخرى للاهتمام العالمي؛ حيث بُذلَت جهودٌ خاصة لتطوير إطار عملٍ مستقر جماعي للسلوك الدولي، لننظر مؤتمر فيِنَّا الدولي لحقوق الإنسان عام ١٩٩٣م، أو مؤتمر بكين العالمي للمرأة عام ١٩٩٥م، لقد اشتمل المؤتمران على العديد من الاستشارات والبحوث والمناقشات وألوانٍ من الدفاع عَبْر سنواتٍ عديدة على مستوياتٍ قومية وإقليمية وعالمية، وقد قُصدَت منهما جزئيًّا معالجة أنواع المشكلاتِ نفسِها التي تؤثِّر في مجال حقوق الأقلية، على سبيل المثال، كيف يمكن أن تُمزج المقاييس العامة بمقاييس أكثر توجيهًا، أو محدَّدة السياق، أو كيف نشارك في التدعيم الطويل المدى لأعلى معايير حقوق الإنسان مع الاعتراف بمحدودية قدرات الدول الضعيفة أو الأنظمة الانتقالية على تحقيق هذه المعايير الأعلى. كان الهدف، في كل حالة، هو تطوير إطار عملٍ عام يُمكِن أن يرشد وينسِّق أنشطة الممثلين الدوليين المختلفين؛ وبالتالي الدفع بأجنداتٍ مهمة من أجل التغيير بطريقةٍ مستقرة وثابتة. شيءٌ مشابه، مؤتمر عالمي أو مفوضية عالمية لحقوق الأقليات سوف تكون مطلوبةً إذا كان هناك أي طموحٍ واقعي في تنقيحٍ مميز لإطارات العمل الحالي لحقوق الأقليات الدولية.

ولا يظهر، لسوء الطالع، أي حماسٍ اليوم لهذا المشروع، سواء بين المنظمات الدولية أو ما يتبعها من شبكات عملٍ سياسية، على الأقل على المستوى العالمي، ربما كنا ننظر إلى المستوى الخاطئ، قد تقدِّم المنظمات الإقليمية مجالًا واعدًا أكثر للمناقشة وإجراء التجارب من المنظمات الدولية. من حيث المبدأ، ينبغي أن تُقام منظماتٌ إقليمية من أجل تطوير فئاتٍ وتصنيفاتٍ مناسبة للأقليات، بدلًا من أن نفترض ببساطةٍ أن الفئات الغربية لشعوب السكان الأصليين والأقليات القومية والمهاجرين تنطبق حول العالم. وينبغي عليها أن تكون قادرةً على تفهُّم الطريقة التي ترتبط بها الأنواع المختلفة من حقوق الأقليات بنماذجَ أوسعَ للأمن الإقليمي وعملية التحول إلى الديمقراطية، لكي تُصدِر أحكامًا أفضل حول تتابُع الأنواع المختلفة من الإصلاحات. بدلًا من أن تتعامل مع حقوق الأقليات بمعزلٍ عن الآليات الإقليمية الأوسع، كما يفعل الخطاب الدولي الحالي، يُمكِنها أن تتكامل في عملياتٍ أكبر من التعاون والتنمية الإقليميَّين، وبتطوير القوة للمنظَّمات الإقليمية التي لا تتحكم بها الدول الغربية يمكن التقليل من الخوف من أن يكون تدويل حقوق الأقليات ببساطةٍ مؤامرةً للإبقاء على الهيمنة الغربية؛ ومن ثم هناك مبرِّراتٌ عديدة تجعل المنظمات الإقليمية أفضل في صياغة مقاييسَ ومساراتٍ لحقوق الأقلية من المنظَّمات الدولية.

ولقد حدث ذلك بالفعل إلى حدٍّ ما، كما رأينا في الفصل السادس؛ فإن المجلس الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون قد طوَّرا مقاييسَ لحقوق الأقليات صيغَت خصيصًا من أجل السياق الأوروبي، وربما اعترافًا منها بقدرتها المحدودة على ابتكارِ مقاييسَ عالمية مؤثِّرة، شجَّعَت الأمم المتحدة — بشكلٍ متكرِّر — المنظمات الإقليمية في مناطقَ أخرى على أن تتبع المثال الأوروبي، وتُطوِّر مقاييسها الإقليمية الخاصة (هادن، ٢٠٠٣م؛ باكر وفريبرغ، ٢٠٠٤م)، ولقد بدأَت بعضُ المنظمات الإقليمية القيام بذلك فعلًا؛ فمنظمة الولايات الأمريكية، على سبيل المثال، قد كتبَت مسوَّدة إعلان يدور حول حقوق السكان الأصليين، صيغَت خصوصًا لأجل ظروف الأمريكتَين. ولقد أنشأت المفوضية الأفريقية أخيرًا مجموعة عمل للنظر في تقديم إعلان لحقوق السكان الأصليين والأقليات في أفريقيا، ولقد شجَّع بعضُ المحلِّلين جمعية أمم جنوب شرق آسيا (ASEAN) لتقوم بالعمل نفسه.
ولسوء الطالع، فإن سجل المبادرات الإقليمية حتى يومنا هذا ليس مشجعًا، إن جعل حقوق الأقليات أمرًا إقليميًّا أكثر تقدمًا في الغرب، في أوروبا والأمريكتَين، وبالمقابل لا يُوجَد في الواقع أي حماسٍ في آسيا أو العالم العربي/الإسلامي لتطويرِ مقاييسَ إقليمية لحقوق الأقليات، ويبقى الموضوع كله محرمًا بشكلٍ أساسي في الكثير من الدول الآسيوية والشرق أوسطية.٣ فضلًا عن ذلك، فإن بعض المدافعين عن حقوق الأقلية يعارضون فكرة الإقليمية، على أساس توقُّع (ليس واقعيًّا) أن تلك المقاييس الإقليمية سوف تكونُ في أفضل الحالات أضعفَ من المعايير العالمية الحالية، وفي أسوأ الحالات سوف تكون مجرد تمويهٍ للدول القمعية.٤
وتوحي التطورات المبدئية في المفوضية الأفريقية بأن وثيقتها الإقليمية المقترحة سوف تُعيد ببساطةٍ إنتاجَ المعايير والخطاب الدولي القائم بدلًا من محاولة تعريف فئات ومفاهيم للتعددية الثقافية التي تعكس بصدقٍ أكثر الواقع الأفريقي (سليمان، ٢٠٠٣م؛ وموراوا، ٢٠٠٢م؛ ولينوكس، ٢٠٠٦م؛ وموراي وويتلي، ٢٠٠٣م). وربما يعكس ذلك حقيقة أن المنظمات ذات الهيمنة الغربية هي مصدرٌ رئيسي للتمويل والخبرات للاستشارات الإقليمية للميثاق الأفريقي الشامل.٥

باختصار، هناك دليلٌ ضئيل على أن دول ما بعد الاستعمار سوف تتحمَّل مهمةَ تشكيلِ مقاييسَ إقليمية لحقوق الأقليات؛ فموقفها على العموم كان عدائيًّا لمشروع تدويل حقوق الأقليات بأكمله، بدلًا من محاولة تطوير نسخةٍ بنَّاءة أكثر منه.

لذلك، فإن آفاق التجديد المميز سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي يكون بعيدًا بالنسبة إلى المستقبل القريب، لا تنقُصنا الإرادة السياسية فقط، بل أيضًا الأدوات المفاهيمية والدليل العلمي المطلوب لوضع نشر التعددية الثقافية الليبرالية على مسارٍ أكثر فاعلية، إن إيجاد طرقٍ جديدة لفهم فئات وظروف التعددية الثقافية الليبرالية على المستوى العالمي هو هدفٌ يستحق الاهتمام، لكنه بعيد.

وينبغي علينا في الوقت الحالي أن نعمل بما لدينا، والتوجُّه في هذه اللحظة إن وجد فإنه يتحول نحو التحرك في الاتجاه المعارض، بدلًا من محاولة تفسير نموذجٍ أكثر تعقيدًا لحقوقِ أقلياتٍ مُستهدَفة ومتسلسِلة تتتبَّع الاختلافات المهمة عَبْر أنواعٍ مختلفة من الجماعات والظروف، فإن الاتجاه اليوم هو التراجُع عن إطارِ عملٍ أكثر عمومية لحقوق الأقلية الذي يطبَّق بغَض النظر عن نوع المجموعة أو الظروف الأساسية. كما رأينا، لم يُقبل أيٌّ من المقترحات لتوسيع الفئات الموجهة، لتشمل على سبيل المثال مقاييسَ موجهة للمهاجرين أو جماعات الغجَر. كما أن البرنامجَين الموجودَين للمعايير الموجهة للأقليات القومية وشعوب السكان الأصليين يتعرَّضان للضغط.

وبالنظر إلى صعوبات التعرُّف على الفئات المناسبة أو التتابُع المناسب للحقوق الموجهة، فقد حاولَت المنظمات الدولية بشكلٍ متزايد أن تعتمد على حقوقٍ عامة للأقليات. وهذه الحقوق العامة تشتمل على حقوق البند رقم «٢٧» حول حرية الاجتماع والتعبير، لكنها ربما تشتمل أيضًا على مستوًى ما من «المشاركة الفعَّالة»، للمساعدة في خلقِ مساحةٍ ديمقراطية للدول والأقليات لكي تنجح تكيُّفاتها.٦ إن التفوُّق المتزايد لفكرة المشاركة الفعَّالة ربما يعكس الاعتقاد بأن التدخُّلات الدولية ينبغي أن تستهدفَ ابتكارَ الظروف للمجتمعات لتنجح رؤيتُها الخاصة لحقوق الأقليات من خلال تداولاتٍ مسالمة وديمقراطية، بدلًا من السعي إلى فرض مجموعةٍ قانونية من حقوق الأقليات الموجهة المعرَّفة دوليًّا.

وربما كان هذا هو الاتجاه الذي نقصده، وربما يكون هو أقصى ما نتوقعه الآن. إن محاولاتِ صياغةِ مبادئَ قانونيةٍ دولية لحل النزاعات العميقة حول الحكم الذاتي، وتقاسُم السلطة، ومَطالِب الأرض، وحقوق اللغة، وقواعد التطبيع، أو التكيُّفات الدينية، ربما تكون ببساطةٍ غير واقعية. وبمرور الوقت، ربما نأمل أو نتوقع من بلاد ما بعد الشيوعية وما بعد الاستعمار أن تُولد اتجاهاتها الخاصة تجاه التعددية الثقافية الليبرالية، لكن قد يكون من الصعب، وربما أيضًا من غير المفيد، أن نُطلِق هذه العملية من خلال توثيق وفرض المقاييس الدولية لحقوق الأقلية الموجهة الأساسية.

ومع ذلك فإذا ما كان هذا هو الاتجاه الذي نسير فيه، فعلينا أن نكون حذرين في تمييزنا لإطار العمل الناتج. وبصفةٍ خاصة، من الضروري أن نقدِّم المعايير الدنيا الموجودة في الاستراتيجية العامة كمعاييرَ دنيا. ويجب أن ننظر إلى المعايير الدولية كأرضيةٍ يُتفاوض من خلالها على حقوق الأقليات، وليست كسقفٍ لا ينبغي على الأقليات أن تسعى إلى تخطِّيه.

واستراتيجية «التسلسُل» التي سبق أن ذكرتُها حاولَت أن تجعل هذه الفكرة واضحة؛ سوف تتضمَّن بشكلٍ رسمي توثيقَ الخطوات التي ينبغي أن تتحرك من خلالها الدولُ من مقاييسَ شاملة إلى مقاييسَ أكثر توجهًا، بمصاحبة علاماتٍ محدَّدة وشروطٍ واضحة على طول الطريق. وكما رأينا، فإن هذا النوع من التوثيق الرسمي للتتابُع والعلامات المحدَّدة طموحٌ للغاية، على الأقل بالنسبة إلى المستقبل القريب. لكن حتى إن لم نستطِع توثيقَ استراتيجية تتابُع كتلك بقواعدَ قانونيةٍ رسمية، فمن المهم أن نُصِر على أن يبقى الهدفُ الأساسي كما هو.

إن الأمل والتوقُّع من منظور التعدُّدية الثقافية الليبرالية هي أن تُبنَى الدول على الحد الأدنى من الحقوق العامة، بهدف تحقيقِ نماذجَ أكثر قوةً للتعددية الثقافية، بينما يتم التعامل مع الشروط المسبقة وعوامل المخاطرة. لو ثبَت أنه من المستحيل، توثيقُ حقوقِ الأقليات الأساسية في القانون الدولي، فيجب على الأقل أن يكون من الواضح أن الشروط الهزيلة الموثَّقة حاليًّا في الأدوات الدولية هي نقطة البداية للنقاش الديمقراطي، وليست نقطة النهاية.

وهذه الرسالة، لسوء الطالع، لا تصل دائمًا. هناك مجهودٌ متناغم من قِبل كثيرٍ من دول ما بعد الشيوعية وما بعد الاستعمار لتقديم الحد الأدنى من المقاييس الدولية كحدودٍ خارجية لتحرُّك الأقلية المشروع، ولإسكات أو تكذيب قادة الأقليات الذين يطالبون بأي شيءٍ آخر يتعدى هذه المقاييس. إن الحد الأدنى من المعايير الدولية لا يُعامَل كشروطٍ مسبقةٍ مطلوبةٍ للتفاوض على أشكالٍ موجهةٍ للتعددية الثقافية الليبرالية المناسبة لكل بلد، لكن بالأحرى يُرى باعتباره يقضي على الحاجة إلى تبنِّي، أو حتى مناقشة، أشكال تقاسُم سلطة، الحكم الذاتي، أو وضع اللغة الرسمية، عندما تطرَح منظَّمات الأقلية مثل تلك الأسئلة حول حقوق الأقلية الأساسية، فكثيرًا ما تجيب الدول: «إننا نفي بجميع المعايير الدولية»، كما لو أن ذلك يحبسُ السؤال حول الكيفية التي يجب على الدول أن تتعامل بها مع أقلياتها. لقد أصبحَت عبارة «إننا نفي بجميع المعايير الدولية» شائعةً بين دول ما بعد الشيوعية، وحلت محل أي نقاشٍ جاد حول كيف تستجيب بشكلٍ واقعي لمطالب الأقلية التي تتعلق بالقوى، والحقوق، والمكانة.

هذه المحاولة لمعاملة الحقوق العامة الضعيفة كسقفٍ أكثر منها أرضية قد حرَّضَت عليها الطريقة المحيِّرة والمتناقضة التي تُناقِش بها المنظمات الدولية هذا الموضوع. وكما رأينا طَوالَ هذا الكتاب، فقد أرسلَت المنظمات الدولية رسائلَ مختلطةً حول العلاقة بين الحقوق العامة والأشكال التي تختلف على مستوى المجموعة التعددية الثقافية الليبرالية، كنماذجِ القضاءِ على الاستعمار للسكان الأصليين، والاتحادية الفدرالية المتعدِّدة القوميات، والتعددية الثقافية للمهاجرين التي ظهرَت على مَرِّ الأربعين سنةً الماضية في الغرب. في كثيرٍ من السياقات قبلَت المنظمات الدولية الأخيرة كأفضل الممارَسات، كأهدافٍ طويلة المدى، وقدمَت الحقوق العامة كأرضيةٍ يُمكِن على أساسها التفاوضُ على الحقوق التي تختلف من مجموعةٍ إلى مجموعة. ومع ذلك، ففي أوقاتٍ أخرى ألمحَت المنظمات الدولية إلى أن الحقوق العامة هي بديلٌ عن الحقوق التي تختلف من جماعةٍ إلى أخرى، وإن أيًّا من مطالب الأقليات التي تستلزم الاستهداف، لا سيما تلك التي تلجأ إلى التعلق بالتاريخ والأرض، ينبغي رفضُها على أساس أنها تتناقض مع معايير المساواة، والديمقراطية الليبرالية.

وعلى سبيل المثال، فإن بعض الممثِّلين قد وصَفوا التحوُّل من الحقوق القوية الموجهة إلى حقوق المشاركة والحقوق المدنية العامة بأنه انتصارٌ للديمقراطية والتداول على التشريع والبيروقراطية، أو انتصارٌ للتهجين والسلالة على الجوهرية وتشييء الجماعات، أو انتصارٌ لحقوق الإنسان وعدم التفرقة العنصرية على القبَلية والقومية الِعرقية، أو انتصارُ الكُلية الأخلاقية على النِّسبية الأخلاقية، أو انتصارٌ للفردية الليبرالية على الحقوق الجمعية.٧ وهذا النوع من الخطاب، إذا ما أُخذ حرفيًّا، فإنه لن يقضي على شرعية استخدام المقاييس الموجهة على المستوى الدولي، فقط، بل سيقضي كذلك ضمنًا على شرعية استخدام الحقوق التي تختلف باختلاف الجماعة على المستوى المحلي، بما أن لديها المنطق والبناء أنفسَهما. والواقع، كما رأينا، أن تطوير المعايير الموجهة على المستوى الدولي كان في جانبٍ منه محاولةً لحصر منطق الجماعة المتمايزة للتعددية الثقافية الليبرالية، كما ظهر في الغرب؛ فكما لو كانت المنظمات الدولية تُريد أن تقبل النماذج التي تختلف من حيث الجماعة التعددية الثقافية الليبرالية، في حين تُنكِر أو تتنصَّل من خاصيَّتها للتمايُز بين الجماعات.
إذا سلَّمنا بهذه الرسائل المختلطة، فلن يُدهِشَنا أن نجد كثيرًا من الدول قد فسَّرَت التحوُّل إلى الحقوق العامة على أنه إنكارٌ لمنطق التعددية الثقافية الليبرالية الذي يُمايز بين الجماعات، ومن ثَم على أنه يضع سقفًا لمطالب الأقليات المشروعة. إن السلوك الدولي تجاه حقوق الأقليات لن يكون متماسكًا أو فعَّالًا ما دامت مثل هذه التناقضات العميقة موجودةً في الطريقة التي تشكِّل بها الأهداف الكامنة. والواقع أن هناك خطرًا مفادُه أن الحماية الدولية للحقوق العامة للأقليات سوف تكون مقوِّضة للنجاح؛ سوف تُعامِل الدولُ الحقوق العامة كبديل، بدلًا من شرطٍ مسبق، للتفاوض من أجل التعددية الثقافية الليبرالية. إذا ما كان للمقاييس الدولية أن تؤدي دورًا مفيدًا، فنحن في حاجةٍ إلى أن نوضِّح أن التراجُع عن المقاييس الموجهة على المستوى العالمي ليس تراجعًا عن هدف تدعيم أشكال التعددية الثقافية الليبرالية التي تختلف من حيث الجماعة على المستوى المحلي. وذلك يعني بدَوره الاعترافَ بأن التراجُع عن المقاييس الموجهة هو بالفعل تراجع، واعترافٌ مؤسف بقدرتنا المحدودة على تشكيل فئاتٍ وتتابعاتٍ ناجحة، وليس انتصارًا مبدئيًّا؛ ولهذا السبب، ربما لا يكون تراجعًا دائمًا، وربما نرغب في أن ننظُر مرةً أخرى إلى دَور المقاييس الموجهة مع تحسُّن قدراتنا على تحديد الفئات والتتابعات، ومع عودة حدود المنظور العام إلى الظهور.٨

ولهذا الموقف تداعياتٌ ومضامينُ ليس فقط بالنسبة إلى الكيفية التي نضع بها المفاهيم الخاصة بالمقاييس القانونية الدولية، لكن أيضًا بالنسبة إلى الكيفية التي نفكِّر بها في الأنشطة الأخرى للمجتمع الدولي في مجال علاقات الدولة والأقلية. وإذا كانت الحقوق العامة هي الأرضية التي يتم من خلالها التفاوض على أشكالٍ أقوى من التعددية الثقافية الليبرالية التي تُمايِز بين الجماعات بينما تتحقق الشروط المسبقة، فإن المهمة الحاسمة للمجتمع الدولي هي المساعدة على تحقيق هذه الشروط. وهذا يعني، على سبيل المثال، أنه لا يكفي أن نعمِّم ببساطة، أفضل الممارسات، وبدلًا من ذلك، فإننا نحتاج إلى أن نكون حذرين بالنسبة إلى هذه الشروط المسبقة التي تجعل هذه الممارسات ممكنة؛ ومن ثَم نفكِّر في الطرق المتعدِّدة التي تستطيع من خلالها المنظماتُ الدولية المساعدةَ في تحقيقها. وربما تضمَّن ذلك المساعدة على بناء ترتيباتٍ أمنيةٍ إقليميةٍ جديدة، لتقليل خطورة «التأمين» لقضايا الأقلية. وربما تضمَّن بناء اعتباراتٍ حول الشروط المسبقة للتعددية الثقافية الليبرالية داخل السياسات الدولية لتدعيم الدمقرطة، وحكم القانون، أو التنمية الاقتصادية، من أجل تقليل احتمال أن تحيد القضايا التي لم تُحل بهذه العمليات عن مسارها.

وكما رأينا، فإن الانتباه إلى حقوق الأقليات قد دخل بالفعل إلى خطاب وسياسات المنظمات الدولية ذات العلاقة بالأمن، والدمقرطة، والتنمية (وذلك مثل برنامج الأمم المتحدة للإنماء). لكنَّ كثيرًا جدًّا ما كان يعني ذلك، ببساطة، الاهتمام بحماية حقوق الأقليات العامة، فإذا كانت هذه السياسات تُساعِد بشكلٍ حقيقي في تأمين التنمية وعملية الديمقراطية المُسالِمة في الدول المتعدِّدة العِرقيات — إذا كانت تساعد في تمكين الدول والأقليات في التغلب على العلاقات التاريخية للتعسُّف، الاستعباد، والعداوة وتحوُّلها إلى علاقاتٍ للمواطنة الديمقراطية — فإن عليها أن تهتَم بما هو أكثر من حقوق الأقليات العامة. وسوف تحتاج إلى أن تحدِّد وتدعم الظروف التي تمكِّن الدول من أن تبني على أرضية الحقوق العامة في اتجاه أشكالٍ أكثر قوة للتعددية الثقافية الليبرالية. وهذه العناصر، كما رأينا، تختلف باختلاف أنواع الأقليات والظروف الجغرافية والسياسية، بطرقٍ تتطلب الاهتمام بقضايا التوجيه والتتابع. إن أنواع البرامج والسياسات الدولية التي ستساعد على بناء الشروط المسبقة للتعددية الثقافية الليبرالية للرُّعاة في شرق أفريقيا لن تكونَ مثلَ تلك التي تساعد على بناء الشروط المسبقة للتعددية الثقافية الليبرالية للسكان الأصليين في أمريكا اللاتينية، والجماعات العِرقية القومية في جنوب آسيا، أو جماعات المهاجرين في أوروبا الغربية. كلٌّ من طبيعة التعددية الثقافية التي تدعم، وطبيعة عناصر المخاطرة التي تتضمَّنها، تختلف بشكلٍ متميِّز عَبْر هذه الجماعات والسياقات المختلفة.

بطريقةٍ أخرى، فحتى إذا ما كانت المقاييس الدولية لحقوق الأقليات عامةً إلى حدٍّ كبير، ومستخلَصة من الاختلافات بين أنواع الجماعات والظروف الجغرافية السياسية، فإن المجتمع الدولي يحتاجُ بشكلٍ أكثر عمومية إلى أن يعمل بمفهومٍ أكثر تعقيدًا لفئات وظروف التعددية الثقافية. وربما قلنا، في الواقع، إنه كلما تجنَّب القانون الدولي هذه القضايا، ازدادت أهمية أن تكون الأبعاد الأخرى للنشاط الدولي أكثر حساسيةً نحوها، فإذا لم نَستطِع أن نبنيَ التوجيه والتتابع في المعايير القانونية الدولية، فسيكون علينا أن نبنيَها في سياسات الدولية الديمقراطية، وسياسات التنمية، وسياسات السلام والاستقرار، وهكذا. وستُمارِس تلك الأنواع من السياسات دورًا حاسمًا في تحديد ما إذا كان قد حدث تقدُّم في ابتكار الظروف المطلوبة لنشر التعددية الثقافية الليبرالية.

وباختصار، فإن التحوُّل إلى حقوق الأقلية العامة في القانون الدولي، يُزيح، لكنه لا يَحل ولا يُلغي المشكلات الكامنة وراء التوجيه والتتابع. ونحن لا نملك أي خيارٍ غير أن نحاول أن نبذل أقصى جهدٍ لكي نفكِّر من خلال الفئات والظروف المناسبة للتعددية الثقافية الليبرالية، ثم نستخدم بعد ذلك ما نكتشفه كلما أمكن ذلك لإفادةِ أنشطةِ المنظمات الدولية. وإذا كانت هناك حدودٌ لقدرة القانون الدولي على المستوى العالمي ليعكسَ هذه الفئات وهذه الظروف، فإننا نحتاج إلى النظر إلى مجالاتٍ أخرى من النشاط الدولي، ومستوياتٍ أخرى من المنظمات الإقليمية. وهناك مجالٌ واسعٌ جدًّا للفعل الخلَّاق هنا، لكنه لا يكون ممكنًا إلا إذا نظرنا إلى حقوق الأقلية العامة كأرضيةٍ لإطار عملٍ أكبر للتعددية الثقافية الليبرالية التي تقوم على مجموعةٍ معقَّدة من الأهداف والظروف.

ويبقى عملٌ كبير لنقوم به لإنتاج إطار عملٍ مستقر وفعَّال لنشر التعددية الثقافية وحقوق الأقليات دوليًّا. ولم أحاول أن أقدِّم مخططًا أو برنامج عملٍ لمثل هذا الإطار، لكني قد حاولتُ أن أحدِّد معظم الجوانب غير المستقرة المهمة في المنظور الحالي، وأن أقترح طرقًا مختلفة للمستقبل. وأكثر الاقتراحات طموحًا سيكون إعادة تصميم إطار العمل للمقاييس القانونية للأقليات بالكامل، بواسطة تزويد أو استبدال النظام الحالي للحقوق العامة الضعيفة بنظامٍ أكثر قوة لحقوق الأقلية المتتابعة المتعددة التوجه. وإذا كان ذلك طموحًا جدًّا، فقد اقترحتُ أنه يُمكِن على الأقل أن نطوِّر اتجاهًا أكثر ملاءمةً وفعاليةً للصلة بين المقاييس القانونية الحالية ونظرية وممارَسة التعددية الثقافية الليبرالية. وإني لآمل أن يصلَ القُراء إلى مقترحاتٍ أفضل للكيفية التي نتقدَّم بها إلى الأمام.

ومع ذلك، ولكي أكون أمينًا فإنني لستُ متفائلًا بشكلٍ محدَّد بالنسبة إلى احتمالِ تحقيقِ إنجازٍ في هذا الشأن على الأقل في المستقبل المنظور؛ فقد يكونُ الأوانُ قد فات لدفعةٍ حقيقية لحقوق الأقلية. لقد قدَّمتُ أوائل تسعينيات القرن الماضي نافذةَ فرصٍ غير مسبوقة لابتكاراتٍ جذرية خلَّاقة في مجال حقوق الأقلية، غير أن النافذة أُغلقَت بالتدريج، من دون إتمام العمل.٩ وربما نحتاجُ إلى أن نقبَل أن هذا أفضلُ ما يُمكِن أن نصل إليه، بالنسبة إلى الوقت الحالي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هناك أسسًا مؤكَّدة لمساندة المجموعة الحالية للمقاييس والخطابات الدولية، مهما كانت ثغراتُها وعدم ملاءمتها، وللترحيب بتطوُّرها على مدى الخمس عشرة سنةً الماضية. وربما كان الأفضل، هو عدُو الجيد ومن الواضح أن إطار العمل الحالي قد فعَل خيرًا في المساعدة لإلقاء الضوء على مشكلة كثيرٍ من الأقليات حول العالم، وفي المساعدة على شرعنة المطالبات والحَرَاك السياسي، من قِبل ممثِّلي السياسة العِرقية. ولقد ساعد ذلك على إيجادِ مكانٍ على الطاولة — بل الواقع على عدة موائد، محلية وعالمية على حدٍّ سواء — لأعضاء الأقليات العِرقية من أجلِ إعلانِ اهتماماتِهم وطموحاتِهم بطريقةٍ سلمية ديمقراطية، وفي الوقت نفسه تشجيعها لصياغة مطالبها داخلَ إطارِ عملِ معاييرِ حقوق الإنسان.

وتلك كلها إنجازاتٌ ذاتُ مغزًى، ومع ذلك فإن اهتمامي ينصَبُّ على القول بأن الوضع الحالي ليس ناقصًا فقط، لكنه في الواقع غير مستقر؛ فهناك تناقضاتٌ متعدِّدة وألوانٌ من الغموض في إطار العمل الحالي، وعلينا إما أن نتحرَّك إلى الأمام وإما أن نعود القهقرى. وبمجرد أن نستطيع التفكير في طرقٍ ملزمةٍ ثقافيًّا وفاعلةٍ سياسيًّا لإعادة صياغة مفهوم السعي نحو التعدُّدية الثقافية وحقوق الأقليات، فإن النتيجة المحتملة ستكون تراجُعًا عن النواحي الأكثر تقدُّمًا في النظام الحالي.

والواقع أنه كما رأينا بالفعل هناك دليلٌ على أن ذلك هو ما يحدث. ولو صح ذلك، لأمكَن التكهُّن البعيد المدى بالانتشار العالمي للتعددية الثقافية الليبرالية، وهو فعلًا ضعيفٌ للغاية.

١  على حين أن التعددية الثقافية الليبرالية كانت الإطار المعياري الأشد تأثيرًا على المستوى الدولي حتى يومنا الراهن، فإننا يجب ألا نستبعد إمكان أن توفِّر بعضُ النظريات السياسية المعيارية الأخرى مجموعةً أفضل من الأدوات المفاهيمية لمواجهة هذه المعضلات، وسيكون من المفيد جدًّا أن لو كانت لدينا مثلًا نظريةٌ بوذية أو إسلامية لحقوق الأقلية الدولية التي تُواجِه صراحةً هذه القضايا في كيفية الجمع بين الحقوق الموجهة والحقوق العامة، عند صياغة المعايير والمقاييس القانونية الدولية، أو كيف نصنَع تكاملًا بين الاستقرار القصير المدى والعدالة الطويلة المدى، وعلى ما أعلم، لا تُوجَد مثل هذه النظريات، رغم وجود مناقشاتٍ ممتعة على المستوى المحلي حول مغزى مثل هذا التراث غير الليبرالي لقضايا الأقليات، انظر مثلًا: المقالات عن الصين، وسنغافورة، وإندونيسيا، ولاوس، في كتاب كيمليكا، وهي العام ٢٠٠٥م.
٢  كانت نسخة من هذه الفكرة متضمنة في مسودة إعلان «ليختنشتاين» التي ناقشناها فيما سبق، وهناك فكرةٌ قريبة منها هي فكرة قائمة «وفق الطلب» التي تبنَّاها الميثاق الأوروبي للغات الأقلية أو اللغات الإقليمية؛ إذ يقدم للدول قائمةً طويلة من الخيارات لدعم لغات الأقلية في مجالات التعليم والإدارة والإعلام على أن تلتزم باختيار ٣٥ بندًا منها كحدٍّ أدنى، وذلك يسمح للدول بأن تتجنَّب تلك الخياراتِ التي تُرى على أنها الأكثر خطورة أو إثارة للجدل.
٣  مما يثير الاهتمام أن منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تمثِّل دول الغالبية المسلمة حول العالم، لديها إدارة لشئون الأقليات، غير أن قراراتها الرسمية تركِّز بشكلٍ حصري على حقوق الأقليات المسلمة التي تعيش في بلدان الأغلبية غير المسلمة (خان، ٢٠٠٢م)، (لمثالٍ توضيحي، انظر قرار المنظمة بشأن «حماية حقوق المجتمعات والأقليات المسلمة في الدول غير الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي» القرار الرقم MM1/10، الذي تم تبنيه في الجلسة العاشرة من مؤتمر القمة الإسلامية من ١٦ إلى ١٧ أكتوبر ٢٠٠٣م، إن منظمة المؤتمر الإسلامي لم تُحاوِل توثيق مقاييس، أو تأسيس آلياتٍ للمراقبة الرسمية فيما يتعلق بالأقليات العِرقية داخل بلدان الأغلبية المسلمة، مثل قمع الأكراد في سورية والأهواز في إيران والهزارس في أفغانستان والبلوش في باكستان والأخدام في اليمن والبربر في الجزائر (بالنسبة إلى مشكلة الأقليات العِرقية المسلمة في دول الأغلبية المسلمة، انظر مثلًا: إبراهيم، ١٩٩٥م؛ وباسيف، ٢٠٠٥م؛ وغرير، ٢٠٠٦م؛ وشاتزميلر، ٢٠٠٥م؛ وبنيجو وبن، دور ١٩٩٩م).
٤  كما يقول أحد الناشطين في حقوق الإنسان في سريلانكا: شيءٌ واحد لا أريده هو معايير آسيوية لكيفية التعامل مع الأقليات، ولا يُوجَد ما يُمكِن أن يكون أسوأ من أن تجتمع الهند وإندونيسيا لتشكِّلا معايير «بوميبوترا» من أجل آسيا، هذا ليس وقتَ معاييرَ آسيويةٍ للأقليات (راديكا كوماراسوامي، في كتاب ستينر، عام ٢٠٠٤م، ص١٠٢)، ولمناقشة الجدل العام حول حقوق الأقليات في آسيا وعلاقتها بالمعايير والممارسات الدولية، انظر: كاستالينو وريدوندو، ٢٠٠٦م؛ كيمليكا وهي، ٢٠٠٥م؛ بفاف، تشارنيا وآخرين، ١٩٩٩م.
٥  وفقًا للينوكس، فإن «حقيقة أن جماعة عمل المفوضية الأفريقية» تعتمد على المنظمة الدولية غير الحكومية، جماعة العمل الدولية لشئون السكان الأصليين، بالنسبة إلى تمويلها ربما يكون أمرًا حاسمًا في تفسير تبنِّيها المتهاون لفئة السكان الأصليين وافتقارها لأي قصدٍ إلى أُطرِ عملٍ بديلة ممكنة لتصنيف الأقليات (لينوكس، ٢٠٠٦م، ص١٩ و٢٠).
٦  على حين يفسَّر البند رقم «٢٧» الذي يعطي الفرد الحق في الاستمتاع بثقافته، الآن باعتباره حقَّ أقلية عامًّا ينطبق على جميع الأقليات، بمن فيهم السائحون والزائرون، فمن الصعب أن ننظر إلى المشاركة الفعَّالة كحقٍّ عام، نظرًا إلى أن الزائرين ليسوا مواطنين؛ وبالتالي لا يُمكِنهم أن يمارسوا حتى الحق الأدنى للتصويت؛ لذلك فكثيرًا ما يُنظَر إلى المشاركة الفعالة على أنها حقٌّ شبهُ عام؛ أي إنه ينطبق على جميع أعضاء الأقليات الذين هم مواطنون، سواء كانت الأقليات التي ينتمون إليها قديمة أو جديدة، كبيرة أو صغيرة، مركَّزة أو مشتَّتة، لكن لهذا السبب، من الممكن فهم معناها بحده الأدنى؛ لا يمكن أن تتضمَّن الحق في المشاركة في مؤسسات الحكم الذاتي، أو تضمن التمثيل في القرارات التي تؤثِّر في مناطق الاستقرار التقليدي للفرد، أو استخدام لغة الفرد في المؤسَّسات السياسية؛ حيث إن تلك، بوضوحٍ، حقوقٌ عامة للمشاركة.
بومبيوترا (Bumiputra): مصطلحٌ يشيع استعمالُه في ماليزيا للإشارة إلى سكان الأرخبيل الماليزي الأصليين، والكلمة في الأصل سنسكريتية، وتعني حرفيًّا «ابن الأرض». (المترجم)
٧  الكتابات القانونية والفلسفية حول حقوق الأقليات مملوءة بهذه الألوان من التعارض (الحقوق الفردية ضد الحقوق الجمعية، الكلية ضد النسبية، السلاسة الثقافية ضد الجوهرية الثقافية، المدنية ضد القومية العِرقية … وهكذا)، ولقد ناقشتُ في مكانٍ آخر الاضطرابات المتعدِّدة المتضمَّنة في الطريقة التي انتشرَت بها هذه المجازات في الأدبيات ولماذا كانت في الأعم الأغلب غير مفيدة في فهم القضايا الحقيقية (كيمليكا، العام ١٩٩٥م، ٢٠٠١م)، ومع ذلك، دعنا لأغراضنا الحالية نُشِر إلى أن هذه المعارضات لا تُلقي أيَّ ضوءٍ على تطوُّر المناقشات الدولية حول العلاقة بين الحقوق العامة والحقوق الموجهة، فلننظُر إلى التطور الحديث بعيدًا عن المقاييس الموجهة القوية للأقليات القومية (مثل الحكم الذاتي ووضع اللغة الرسمية) في أوروبا، ويرى بعض المحلِّلين هذا التراجُع كرفضٍ مبدئي للفكرة الأساسية للحقوق الجمعية، أو كرفضٍ لأيديولوجيات القومية العِرقية، والنسبية الأخلاقية أو الجوهرية الثقافية، لمصلحة الحقوق الفردية، والقومية المدنية، والكلية الأخلاقية، والسلالة الثقافية، وإذا صح ذلك فإن المنظمات الدولية ستُشجِّع البلاد الغربية على التخلي عن نماذجها للحكم الذاتي الإقليمي وتعدُّد القوميات، والفدرالية المتعددة اللغات، بما أنها كانت السابقة والمهمة للمقاييس الموجهة، أما في الواقع، فقد قبلَت المنظمات الدولية بأن هذه النماذج الغربية مزجَت بنجاحٍ تكيُّف التعددية القومية العِرقية مع مقاييس حقوق الإنسان، وساهمَت في استبدال العلاقات التاريخية للتعسُّف والعداوة بعلاقات المواطنة الليبرالية الديمقراطية، وهذا هو السبب وراء محاولة المنظمات الدولية توثيق هذه الممارسات كمقاييسَ قانونيةٍ في أوائل التسعينيات، وقد تراجَعوا عن هذه الخطة عندما أصبح من الواضح أن الظروف الأساسية للتبني الناجح لهذه النماذج لم تتوافر في كثيرٍ من بلاد ما بعد الشيوعية، ولا يُمكِننا أن نبدأ في تفهُّم هذه المجموعات من التطوُّرات إذا كنا نُصِر على تفسيرها كمناقشةٍ بين المؤيدين والمعارضين لأفكار الحقوق الجمعية، والنسبية، والجوهرية، أو القومية العرقية، وسيكون من العبث أن نقترح أن الدول الغربية تبنَّت نماذجَ من الفدرالية المتعددة القوميات بدافع الالتزام بالكلية، والنسبية، أو الجوهرية، وأن دول ما بعد الشيوعية قد قاومَتْها بدافع الالتزام بالفردية، والكلية، والسلاسة، ولقد كانت تلك مناقشاتٍ حول صحة وقابلية النماذج المختلفة للتعددية الثقافية الليبرالية تحت ظروفٍ مختلفة، وما إذا كانت ستُسهِم في عملية المواطنة أو تعمل على تقويضها، إن التحوُّلات في أوائل تسعينيات القرن الماضي تعكس أحكامًا متطوِّرة حول هذه المشكلة، وليس توازنًا متحوِّلًا للسلطة بين المؤيدين والمعارضين للنسبية والجوهرية والجمعية … وهكذا، ولسوء الطالع فإن ظهور هذه الاستعارات أو الكنايات في الأبيات يعمِّم التفسيرات الخاطئة لفكرة التحوُّل من المقاييس الموجهة إلى المقاييس العامة.
٨  لنتذكَّر أن تجربة صياغة المعايير الموجهة بأكملها قد ظهَرَت في أوائل تسعينيات القرن الماضي بسببِ فشلِ استراتيجيةِ الحقوق العامة، ونظرًا إلى أن الحقوق العامة لا توفِّر دليلًا لمعالجة قضايا الصراع العِرقي الحقيقية والمزعزعة للاستقرار، فقد أجبرَت المنظمات الدولية على الاعتماد بشكلٍ كبير على التدخلات لكل حالةٍ على حدة.
وقد دعمَت هذه التدخلات في الأغلب حقوقَ أقلياتٍ أكثر قوة، منطلقة من النظريات الغربية وأفضل الممارَسات للتعددية الثقافية الليبرالية، بيد أنها فعلَت ذلك بطريقةٍ محدَّدة بدت كأنها مكافأة على العنف، وكان الهدَف من تشكيلِ حقوق الأقليات العامة جزئيًّا أن تكونَ وسيلةً لتحديد إرشاداتٍ ثابتة للتعامل مع تلك القضايا الحقيقية؛ وبالتالي استبدال سياسات القوة بالمبدأ كإطار عملٍ للتحرك الدولي في مجال علاقات الدول بالأقليات، وربما بدا ذلك كأنه هدفٌ طموح جدًّا، بالنظر إلى الصعوبات في تشكيل المعايير الموجهة؛ ولهذا نشهَد تراجعًا إلى الاستراتيجية العامة، ولكن ذلك يُعيدنا إلى المعضِلة الأصلية؛ الاستراتيجية العامة، بمفردها، غير كافيةٍ للتعامُل مع تحديات العالم الحقيقي فيما يخُص علاقات الدولة بالأقليات.
٩  وبتعبير أندرياس ويمر، الأمل في نظامٍ عالميٍّ جديد، تعمل فيه الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، والباحثون بشكلٍ مشترك من أجل «إدارة» و«حل» النزاعات العِرقية حول العالم بواسطة نشر عدالة التعددية الثقافية والمشاركة الديمقراطية، قد تبخَّر (ويمر، العام ٢٠٠٤م، ص٣٥٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤