القسم الأول
معلوم أن العرب في جاهليتهم كانوا أكثرهم أهل بادية؛ معاشهم من القيام على الإبل يغتذون بألبانها، ويقتاتون بلحومها، ويكتسون بأوبارها، ويتخذونها ركائب يقطعون عليها مجاهل القفار، فكانت لذلك مخصَّصة عندهم بمزيد العناية، يتخيرون لها أطيب الأرض بقعةً، وأكثرها عشبًا، ويتتبعون لأجْلها مواقع الغيث على حسب اختلاف الفصول، فلا يزالون دَهْرَهُم في حلٍّ وترحال يطوفون الآفاق طلبًا للمرعى وارتيادًا للماء. غير أنهم كثيرًا ما كانوا يصابون بالقحط ويحتبس عنهم المطر، فيهلكون هم ومواشيهم جوعًا، أو تدفعهم الحاجة أو الطمع إلى الإغارة على من جاورهم فيقطعون السابلة، ويغزو بعضهم بعضًا فينهبون ويَسبُون، وربما أصاب أحدهم الفتاة العذراء أو المتزوجة أمَّ البنين فيحسبها غنيمةً باردة كسبها برمحهِ، ويختصها لنفسهِ دون تحرُّج ولا تورُّع، وربما سُبيت منهُ فيغتصبها غيرهُ، فلا تزال تنتقل من مالك إلى آخر إلى أن يتيسر لأهلها استرجاعها، فتعود إلى منزلها الأول وقد لزمها من العار ما يبقى سبةً لذويها مدى الدهر.
وقد كانت السبيَّة لمعرفتها بمقدار الذل الذي يلحقها من امتلاكها بالسبي، وأنفتها من تعيير أهل مولاها ودعائهم إياها بالأمة؛ تتحين الفرص لمفارقتهِ وتعمل على الفرار من يديهِ، لا يثبطها عن ذلك طول صحبتها إياهُ مع إحسانهِ إليها، ولا يثني من عزمها ما يصلها بهِ من علاقة الولد، كما ذكر أبو عمرو الشيباني عن سلمى امرأة عروة بن الورد، وقد كان أصابها بكرًا من بني كنانة، وأعتقها وتزوجها واتخذها لنفسهِ، فمكثت عندهُ بضع عشرة سنةً، وولدت لهُ أولادًا، وهو لا يشك أنها أرغب الناس فيهِ، وهي تقول لهُ: لو حججت بي فأمرُ على أهلي، وأراهم. فحجَّ بها، ثم أتى المدينة، فلما همَّ أن يعود بها قالت سلمى لقومها: تعالوا إليه وأخبروهُ أنكم تستحيون أن تكون امرأةٌ منكم معروفةُ النسب صحيحتُهُ سبيةً وافتدوني منهُ؛ فإنهُ لا يرى أني أفارقهُ. فأتوهُ وسقوهُ الشراب فلما ثمل قالوا لهُ: فادِنا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفة، وإن علينا سبةً أن تكون سبيةً، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فاخطبها إلينا. فامتنع ثم اشترط عليهم أن يخيروها، فاختارت أهلها ثم أقبلت عليهِ فقالت: يا عروة، أما إني أقول فيك — وإن فارقتُك — الحقَّ، والله ما أعلم امرأةً من العرب ألقت سترها على بعلٍ خير منك، وأغضَّ طرفًا وأقل فحشًا وأجود يدًا وأحمى لحقيقةٍ، وما مر عليَّ يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيهِ أحب إليَّ من الحياة بين قومك؛ لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أَمَة عروة كذا وكذا إلا سمعتهُ، ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدًا، فارجع إلى ولدك راشدًا، وأحسن إليهم. فقال عروة في ذلك أبياتًا ذكرها صاحب الأغاني.
ولهذين السببين — أي خوف العار وخوف الفقر — كان بعض العرب يئدون بناتهم، لا يفعل ذلك منهم عابد الوثن فقط، بل المتنصر أحيانًا، كما نُقل عن عدي بن ربيعة المعروف بالمهلهل زير النساء أنهُ لما وُلدت لهُ ابنتهُ ليلى أمر بدفنها، ثم بدا لهُ فاستحياها. وذكر عن قيس بن عاصم أنهُ وأد بيدهِ بضع عشرة ابنةً لهُ قال: وما رحمت منهنَّ إلا واحدة، ولدتها أمها وأنا في سفر، ودفعتْها إلى أخوالها، فلما قدمت وسألت عن الحمل، أخبرت أنها ولدت ميتًا، ومضت سنون حتى ترعرعت، فزارت أمها ذات يوم، فدخلتُ فرأيتها قد ضفرت لها شعرها وزينتها وألبستها الحلي، فقلت: من هذه الصبية فقد أعجبني حسنها؟ فبكت وقالت: هذه ابنتك. فأمسكت عنها حتى اشتغلت أمها فأخرجتُها وحفرت حفرة وجعلتها فيها، وهي تقول: يا أبتِ أتغطيني بالتراب؟! حتى واريتها وانقطع صوتها.
واستمر الوأد جاريًا عند العرب إلى أن قام زيد بن عمرو النصراني، فجعل ينهي عنهُ، وتبعهُ صعصعة بن ناجية جد الفرزدق، فأخذ يطوف في القبائل يشتري الموءودة بناقتين وجمل، يشتري حياتها لا رقَّها، وظل كذلك إلى أن جاء الإسلام وقد فدى ثلاثمائة موءودة، وقد افتخر بفعلهِ هذا الفرزدق فعده في شعره من جملة مآثر آبائه فقال:
ونظرًا لتأصل هذه العادة القبيحة في نفوسهم وتعارفهم بها، كان الوالد إذا أدركتهُ الشفقة على ابنتهِ وأحب استحياءها، يجهد بإخفائها من الناس؛ لئلا يفطن لها أحد، مثلما فعل عصيم بن مروان بابنتهِ نضيرة أم حصن بن حُذَيفة، فيما حكاهُ أبو محمد الأعرابي ولم يكن لهُ ولد غيرها، فلما وُلدت لهُ ورآها انتشرت نفسهُ عليها ورقَّ لها، وقال لأمها: استرضعيها وأخفيها من الناس.
ومع ذلك، فلم يكن العرب بأسرهم على هذا المنوال يئدون بناتهم، فإن عددًا منهم ليس بالقليل كانوا يستحيونهنَّ، غير أنهم كلهم قاطبةً كانوا يكرهونهنَّ ويرون ولادتهنَّ مصيبةً عليهم؛ أنفةً من العار الذي قد يلزم عنهنَّ، وهربًا من مئونة تربيتهنَّ. وقد سئل أحدهم عن ولدهِ فقيل لهُ: كم ولدك؟ فقال: قليل خبيث. فقيل لهُ: كيف؟ قال: لا أقلَّ من واحد، ولا أخبث من أنثى. وقال آخر في ابنةٍ لهُ كانت تبالغ في برِّهِ وإكرامهِ:
أهلًا وسهلًا بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، المبشرة بإخوة يتسابقون، ونجباء يتلاحقون.
والله يعرِّفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادَّرع اغتباطًا، واستأنف نشاطًا؛ فالدنيا مؤنثة: والناس يخدمونها، والذكور يعبدونها. والأرض مؤنثة: ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية. والسماء مؤنثة: وقد زُينت بالكواكب، وحليت بالنجوم الثواقب. والنفس مؤنثة: وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة: ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا تحرك الأنام. والجنة مؤنثة: وبها وُعد المتقون، وفيها تنعم المرسلون.
إلى آخر ما هنالك مما هو بالتعزية أشبه منهُ بالتهنئة. وأما التهنئة الصحيحة فإنما كانت تكون عندهم إذا توفيت الأنثى، وأقل ما كانوا يكتبونهُ في التهنئة بوفاتها قولهم: ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات، وتقديم الحُرَم من النعم. وغير ذلك مما لا أستقصي في ذكرهِ.
على أن بعض العرب كانوا في عكس من سبق، يحبون بناتهنَّ ويبذلون في إكرامهنَّ غاية جهدهم، دون أن يمنعهم ما كانوا يتقونهُ منهنَّ من الفضيحة وثقل المئونة عن توفيتهنَّ حقهنَّ من العناية والتربية، بحيث كانوا يجزعون لأقل أذًى يحل بهنَّ. قال حطَّان بن المعلَّى:
وقد بقيت آثار ذلك كلهِ إلى اليوم كما هو مشهور في هذه الأقطار.
وقد نقبت كثيرًا فيما بين يديَّ لأجد ما أصف بهِ حالة الأنثى في بيتها إذا ترعرعت وما كان يستغرق وقتها من أشغال المنزل ومهمات تدبيرهِ؛ فلم أظفر من ذلك بالبلاغ؛ فإن البيت كلهُ كان في الغالب قائمًا في طراف أو خباءٍ، يتولينَ فيهِ الردن — أي الغزل، ومنهُ اشتقاق رُدَينة من أسمائهنَّ — أو ينسجنَ الصوف والوبر والشعر ونحوهُ، وقد يدبغنَ الأديم ويرملنَ الحصير. قال الوليد بن عقبة:
وقال النابغة:
ومهمات المنزل بأسرهِ منحصرة في تهيئة الطعام، فيما لا يكاد يخرج عن اللبن الحليب والأقِط والتمر والدقيق والعسل والزبد والسمن والزيت والشحم، شأن سائر سكان القفار الباقين على نشأتهم الطبيعية؛ ولذلك إذا راجعنا مآكل العرب وحلوياتهم لم نرها تتعدَّى هذه الأشياء، تُفرَد أو تُخلَط بعضها ببعض، وأما اللحم فغاية إحضارهِ أن يشوى على الجمر أو على الحصى، أو يدفن في الرماد، أو يكون جيد النضج بالغهُ أو قليلهُ؛ مما يرجع إلى حالة واحدة ولا يتطلب كبير عناء؛ ولذلك كان بعض النساء يخرجنَ راعيات يقضينَ يومهنَّ في القيام على الإبل أو الشياه، وبعضهنَّ بائعات كما نُقل عن ذات النحيين في المثل المشهور، وأكثر ما كنَّ يبعنَ العسل والسمن والتمر والعطر، يطفنَ بهِ الأحياء يستبدلنهُ أحيانًا بالشحم، أو يلزمن بهِ مكانهنَّ فيأتيهنَّ الرجال يتطيبون بهِ لديهنَّ كما جاءَ في المثل عن منشم في أحد الأقوال، وربما تعرضنَ للركبان بالأَدَم والبُرَم؛ أي الجلود والقدور. قال النابغة أيضًا:
وبعد ذلك:
ولا يبعد أن يكون هنالك صنائع أُخرى كنَّ يتعاطينها مما لا يكاد يتعدى حاجة ساكن القفر، مثلما جاء عن رُدينة أنها كانت في خط هجر هي وزوجها سمهر يقوِّمان الرماح؛ ولذلك نسبت الرماح إليهما، فقيل رمح رديني ورمح سمهري.
ويلحق بهذا ما كان يتعاطاهُ بعضهنَّ من فنون الكهانة، كالضرب بالحصى — مما يشاهد مثلهُ في بدويات اليوم — وكزجر الطير أو العيافة، وهي أن ترمي الطائر بحصاة أو أن تصيح بهِ، فإن طار عن اليمين استسعدت بهِ، وإن طار عن اليسار تشاءمت بهِ، تسمى العرب الأول سانحًا، والثاني بارحًا، وكانوا يعتقدون بصحة هذه الخرافات، وقلَّ من أنكرها منهم كلبيد حيث يقول:
وكنَّ فيما عدا التنجيم يتَكلفنَ الرقي والنفث في العقد من فنون السحر، وهو أن يعقدنَ عُقَدًا في خيوط أو في وتر وينفثنَ عليها؛ أي ينفخنَ مع ريقٍ، وقد استعاذ منهنَّ القرآن فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ.
على أن كثيرًا من هذا الذي تقدم كان تقوم بهِ الولائد والإماء من الرقيق، وهن وقتئذٍ يُعدَدنَ بالألوف، فكنَّ يُستخدَمنَ في عامة حاجات المعيشة: من رعي الإبل خاصةً، وخدمة المنزل، وتعاطي المهن، وسائر ما تتطلبهُ لوازم الحياة في القفر مما كانت تترفع عنهُ حرائر النساء أو يأنفن من مزاولتهِ؛ لما يترتب عليهِ عندهنَّ من العار والغضاضة في الشرف. قال التبريزي في شرح قول قيس بن الخطيم:
«الأَواسي المداويات للجراح، وإنما ذكر النساء؛ لأنهم يأنفون من الصناعات ويعلمونها العبيد والإماء وحرائر النساء، إذا لم يكنَّ في غاية بعيدة من الشرف.» ولذلك قال النابغة في البيت المتقدم: ولا تبيع بجنبي نخلةَ البُرَما. وقال ذو الإصبع العدواني:
ومن أظهر الدلائل على هذه الأنفة من الامتهان والتبذل قولهم في المثل: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
ومما يلحق بذلك الغناء، فإنهُ في الجاهلية كان من خصائص الإماء، وتسمى عندهم الأمة المغنية بالقينة والكرينة، وأول من غنَّى من الإماء — فيما زعموا — جاريتان كانتا لمعاوية بن بكر من قبيلة عاد الهالكة، وهما المدعوتان في الأخبار بالجرادتين.
ولا يبعد أيضًا أن تكون الأمَة هي التي كانت تتولى خياطة الثياب وإصلاحها بنفسها، أو تسعفها في ذلك مولاتها، إذا كان المخيط لها أو لأُسرتها أو لم تكن عريقة في الشرف، وكانت النساء لذلك العهد أو بعضهنَّ يحتفلنَ بملابسهنَّ، ولا يقتصرنَ على لبس القطن والصوف والوبر، بل يتشحنَ أحيانًا بالديباج والحرير حسب يسارهنَّ. قال المنخل اليشكري:
وأقل من ذلك لبسهنَّ الثياب الموشاة بالذهب قال سلمى بن ربيعة:
يعني بالبيض النساء، يتبخترنَ في الريط وهي الملاءة الواسعة، والمذهب المصون يراد بهِ الثياب الفاخرة المطرزة بالذهب، على أنهنَّ كنَّ في أوقات الخلوة يقتصرنَ على لبس الصدار والمجول والإِتب تحت دروعهنَّ، وهي كما ذكرهُ الثعالبي قُمُصٌ متقاربة الكيفية في القصر واللطافة وعدم الأكمام، ولا بد أن ذلك كان عامًّا لهنَّ، حتى قيل في المثل: كل ذات صدار خالة.
وأما الزيُّ الذي كنَّ يتخذنهُ في ملابسهنَّ فالظاهر أنهُ كان لا يخلو من بعض التأنق، ومن أغرب الشواهد الدالة على مبلغهِ عندهنَّ هذه الوسادة التي تضعها نساء الفرنجة ونساؤنا تحت أثوابهنَّ في أسفل الخصور لتعظيم ما خلف الظهور، فإنها ليست من إيجاد مخترِعات الزي في أوروبا، بل هي من معلومات نساء العرب في سالف الدهر، وتسمى عندهنَّ بالعُظَّامة والحشيَّة والرِّفاعة، وإذا قرأنا في تفسيرها قول أرباب اللغة «العُظَّامة ثوب كالوسادة تعظِّم بهِ المرأة عجيزتها»؛ علمنا أنها هي هي ما نراهُ اليوم في زيِّ المرأة المتمدنة، ومن ذلك أيضًا عادة إطالة الذيول وجرها تبخترًا وخيلاء، وأشعار العرب طافحة بذكرها، فلا حاجة إلى النص عليها في بيت بعينهِ.
وأشد من اهتمامهنَّ بالملبس حرصهنَّ على التحلي، وبلغ من شغفهنَّ بهِ أنهنَّ لم يقتصرنَ على الحلي الواحد في الموضع الخاص بهِ، بل ربما عدَّدنهُ في كل قسم منهُ، كاليد مثلًا؛ فإنهنَّ فيما عدا الخواتم في الأصابع اتخذنَ فيها للمعصم سوارًا، وللساعد جبيرةً، وللعضد دملجًا. وكالرِّجال فقد ذكر الثعالبي فضلًا عن الخلخال والخدمة لها الفَتَخ لأصابعها، وقال تلبسها نساء العرب، وكذلك الأذن؛ فقد جاء الشنف لما يعلق في أعلاها والقرط لأسفلها، ويظهر أن السوار لم تكن تلبسهُ إلا الحرائر من النساء دون الإماء، بدليل قول حاتم الطائي لما لطمتهُ العنزية حين فصد لها البعير: لو ذات سوار لطمتني!
ومن لوازم التحلي ولواحقهِ التزينُ والتبرج فيما يتناولهُ من التطيب والاختضاب والوشم وترجيل الشعر وتزجيج الحواجب والتكحل وما أشبه، وأكثر ما كان الوشم في ظاهر الكف والمعصم يدل على هذا الثاني قول زهير في معلقته:
وربما وشمت الحمقاء غير ذلك ليكون أحسن لها، كما ذكروا في تفسير المثل: هو أعظم في نفسهِ من المتَّشمة. وأما الشعر فيستفاد من وصف امرئ القيس للفرع في معلقتهِ المشهورة أنهنَّ كنَّ إذا أردنَ ترجيلهُ تفننَّ في ضفرهِ وتهيئتهِ، وخالفنَ فيهِ بين تثنيةٍ وإرسال وهو قولهُ:
ونظرًا لما يترتب على الفرع الطويل من الحسن كنَّ إذا قصر شعر إحداهنَّ تصله بغيرهِ ليكون أتم لها، وتسمى من كانت كذلك بالواصلة والطالبة لهُ بالمستوصلة، وقد لعنهما كلتيهما الرسولُ كما لعن الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنصمة، ومعنى النامصة الناتفة لشعرها كما تفعل بعض النساء اليوم، ومنهُ قول الراجز:
أراد بتنماص الحاجب نتف ما نبت فيه وراءَ القوس من الشعر، وكانت العرب تحب الحواجب المزججة أي المدققة المطولة، وأما صبغها المعروف بالخطوط فلم تكن تعرفهُ البدويات، وإنما هو من تبرج الحضَريات كما قال أبو الطيب:
ولا حاجة إلى التنبيه على أن هذا الذي تقدم من حرص المرأة على التزين والتحلي كان يُشاهد في غير المرأة الثاكل أو الفاقد؛ فإن حداد هذه كان يشغلها عن كل زهو وتبرج؛ ولذلك عرَّفوا الحداد بكونهِ خاصةً ترك الزينة والخضاب، وإن كان في الواقع يتناول غير ذلك كلبس السُلُب السود، وهي ثياب المأتم، والمسوح كما قال لبيد:
وقد تعصب الحادُّ رأسها أيضًا بالسلاب، كما يدل عليهِ قول ضمرة بن ضمرة النهشلي:
بل ربما تناول الحداد ما هو أشد من ترك الزينة؛ كحلق الشعر وتعليق النعلين أحيانا، كما ذُكر عن الخنساء أنها رؤيت بعد مقتل أخيها صخر تطوف بالبيت محلوقة الرأس وهي تبكي وتلطم خدها وقد علقت نعل صخر في خمارها، فلما عوتبت على ذلك ونُهيت عنهُ قالت أبياتًا منها:
قال المبرَّد: وتأويل النعلين أن المرأة كانت إذا أصيبت بحميمٍ لها جعلت في يديها نعلين تصفق بهما وجهها وصدرها. قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
وقصرُهُ الإصابة على الحميم فقط يدل على أنهُ إذا لم يكن المصاب بهِ كذلك نَدَبَتهُ المرأة بغير نعلين، واستعاضت عنهما بخرقة تمسكها بيدها وهي تنوح كما تصنع النوادب اليوم، وتسمى هذه الخرقة بالمئلاة قال الشاعر يصف سحابًا:
ومما اشتهر عنهنَّ البروز عند سماع النعيِّ حاسرات بغير نقاب كما سيجيء، وخمش الوجه وقد تقدم شاهدهُ، وشق الجيب كما قال طرفة:
وأقل منهُ تخريق الخمار كما قال صخر في أختهِ الخنساء:
وأما مدة الحداد فلا يبعد أنها كانت تختلف باختلاف منزلة الفقيد أو نسبهِ، وقد جعلها لبيد حولًا كاملًا، حيث قال يخاطب ابنتيهِ بعد أن نهاهما عن خمش الوجه وحلق الشعر:
ومما يتصل بالملبس التقنعُ والتنقب، وقد كان النقاب يستر الوجه إلى قصبة الأنف أو إلى المحجر فقط، بحيث كانت تُرى منهُ العين، ولعلهُ لم يكن في بدء الأمر إلا فضلة القناع تردُّها المرأة على شفتها كما يردُّ الرجل فضل عمامتهِ على فمهِ، بدليل إطلاق لفظ اللثام على كلا الردَّين. ثم ما لبث اللثام أن ارتفع إلى ما فوق الفم فكان لفامًا، ثم انتهى إلى الأنف فغشيهُ أو بعضهُ فكان نقابًا، وربما ضاق أيضًا حتى لا تبدو منهُ إلا العين فقط وهو البرقع والوصواص. قال المثقب العبدي:
وذكر أبو زيد في كتاب النوادر أنهُ قيل لأعرابي: ما تقول في نساء بني فلان؟ فقال: برْقِعْ وانظر. يريد حسن أعينهنَّ.
ومن هذا الترتيب يستدل على أن النقاب كان في أول اتخاذِه كاللثام للرجال، ثم لما جعل أرباب الهوى لا يرون حسناء إلا تعشقوها ونظموا فيها الأبيات السائرة تحرز منهم النساء بالنقاب؛ سترًا لمحاسنهنَّ أن يبتذلها الوصف، فأصبح لذلك التنقب عادةً أوجبها التعفف والتصون. يشهد بذلك ما ذكر عن المتجردة امرأة النعمان ملك الحيرة حين سقط يومًا نصيفها؛ أي خمارها، فأبصرها النابغة الشاعر فبادرت واستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها تستر وجهها لامتلائها وغلظها، فما لبث النابغة بعد هذه اللمحة اليسيرة أن نظم قصيدتهُ الدالية، وصف فيها المتجردة وصفًا نبَّه فيهِ على أكثر محاسنها حتى تجاوز إلى رُضابها، فقال فيهِ ما أوجب غضب النعمان عليهِ، ولما انتهى إلى أمر سقوط النصيف واستتار المتجردة قال:
ونُقل مثل ذلك عن طرفة لما كان بين يدي عمرو بن هند يشرب وأَشرفت أختٌ للملك فرآها طرفة، فقال فيها بيتين من الشعر نقمهما عليهِ عمرو بن هند، وكان من بعض ما بعثهُ على الأمر بقتلهِ كما ذكر في قصتهِ.
ومما يدل على أن التنقب لذلك العهد كان تصونًا استئثار الحرائر بهِ دون الإماء، حتى كانت الحرة إذا خشيت السبي يومًا وأرادت أن تأمن على نفسها تلقي عنها النقاب وتبرز حاسرةً كالأمة ليظن أنها هي فلا يتعرض لها. قال التبريزي في شرح قول معدي كرب:
أي برزت هذه المرأة كاشفةً عن وجهها، وإنما فعلت كذلك إما للتشبه بالإماء حتى تأمن السباء، أو لما تداخلها من الرعب، ومثلهُ:
على أن التنقب لم يكن عامًّا لكل الحرائر على السواء ملازمًا لهنَّ في جميع أحوالهنَّ؛ فإن بعضهنَّ كنَّ لا ينتقبنَ من الرجل إذا كان غير شجاع تظاهرًا بالاحتقار لهُ أن يكون عاجزًا عن حماية الأعراض ومدافعة الأعداء، وقد نقل عن بني الحرث بن كعب خاصةً أنهُ إذا كان الرجل منهم جبانًا لم تختمر منهُ امرأة أبدًا، وكنَّ كلهنَّ جُمَع إذا فاجأهنَّ ما يذهلنَ لهُ من مصيبة أو حزن يبرزنَ حاسرات سافرات عن وجوههنَّ يلطمنها باكيات. قال الربيع بن زياد في مقتل مالك بن زهير:
وقد وصف المتنبي مثل هذا في بعض نساء المحدثين فقال:
ومثل ذلك كانت تفعل بعض النساء الحسان، فكنَّ في أكثر الأوقات يبرزنَ للنظار سافراتٍ؛ عجبًا بجمالهنَّ أن يسترهُ قبح القناع. وقد عُرف ذلك منهنَّ حتى كانت المرأة إذا رؤيت حريصةً على التنقب والتستر حُكم عليها لأول وهلة أنها قبيحة المنظر، واعتقد فيها أنها إنما تقنعت لتغرَّ الناظر إليها وتوهمهُ جمالها؛ ولذلك قيل في المثل: ترك القناع من ترك الخداع. وقد ذكر عمر بن أبي ربيعة عادة النساء الحسان في ترك التقنع، فقال من شعرٍ لهُ:
أي استخفَّها الحسن أن تستر وجهها بالقناع. قال التبريزي في شرح هذا البيت: وهكذا كانت نساء العرب تفعل إذا كانت جميلة. وقد ذكر مثل ذلك الشماخ وأبو النجم من الرُجَّاز، فقال الأول: أطارت من الحسن الرداء المحبَّرا. وقال الثاني: من كل غرَّاء سقوط البرقعِ.
وعلى كلٍّ فأيًّا كان السبب لم تكن النساء يبرزنَ حاسرات إلا وهنَّ حريصات على التعفف حرصهنَّ عليهِ وهنَّ منتقبات مستترات، كما قال في مثلهنَّ بعض واصفيهنَّ:
ومن هنا يعلم أن النساء لم يكنَّ جميعًا يستترن بالنقاب استتارًا لا يكشفنَ فيهِ عن وجوههنَّ البتة، بل كان كثيرات منهنَّ يبرزنَ للرجال، ولا سيما الفتيات يراهنَّ الراغب في الزواج فيخطبهنَّ عن معرفة ومرأًى لا عن شهادة ورواية، وقد بقي بعض هذه العادة إلى ما بعد الإسلام، فكان بعض النساء يبرزنَ للرجال يحدثنهم ويحدثونهنَّ، كما ذكر عن سَكينة بنت الحسن، وتسمى من كانت كذلك بَرْزة، وبعضهنَّ يجلسنَ لخطَّابهنَّ، كما صرح بذلك ابن عبد ربهِ في العقد الفريد فيما نقلهُ عن معبد بن خالد الجدلي أنهُ قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد، وكان النساء يجلسنَ لخطَّابهنَّ، فجئت لأنظر إليها وكان بيني وبينها رواق، فدعت بجفنة من الثريد مكللة باللحم فأتت على آخرها وألقت العظام نقية، ثم دعت بقربةٍ صغيرة مملوءة لبنًا فشربتْهُ حتى أكفأَت القربة على وجهها، وقالت: يا جارية، ارفعي الستر. فإذا هي جالسة على جلد أسد، وإذا شابَّةٌ جميلةٌ، فقالت لي: يا عبد الله، أنا أسدة من بني أسد وعلى جلد أسد، وهذا طعامي وشرابي، فإن أحببت أن تتقدم فتقدم، وإن أحببت أن تتأخر فتأخر. فقلت أستخير الله في أمري وأنظر. وخرجت ولم أعد، وأورد ابن عبد ربهِ حكايات أُخر في مثل هذا المعنى، بعضها أصرح في الدلالة، لا أنقلها لطولها فليطالعها من يشاء.
وعلى ذكر الخطبة والزواج فقد يظهر أن بعض فتيات الأعراب كنَّ يتزوجنَ في سنٍّ حدثٍ جدًّا، ومما لا يكاد يصدق ما وجدتهُ في رجزٍ لبعض النساء قالتهُ في ابنتها ردًّاعلى جارةٍ لها ولدت غلامًا. فقالت:
فإنَّ تزوُّج الفتاة في الثامنة من سنها مما ينكرهُ الطبع وتكاد تنكرهُ الطبيعة، ولعلهُ إنما كان يقع في الظاهر فقط ليُملك أمرها، ثم لا يُبتني عليها إلا متى أدركت كما نُقل عن الرسول فيما ذكرهُ ابن عبد ربهِ من أنهُ تزوَّج عائشة في السادسة من سنها، وابتنى عليها في التاسعة.
ومهما يكن من مقدار العمر فلم تكن الفتاة تُزوَّج في الغالب إلا من كان غريبًا عنها لا تجمعها بهِ صلة معرفة أو صلة نسب؛ أما صلة المعرفة فلأنهم كانوا شديدي الغيرة على أعراض النساء أن يلحق بهنَّ ما يُعرَّضنَ من أجلهِ للظنة، حتى لقد كانوا يمنعون زواج الفتاة لمجرد سلامٍ يسلمهُ عليها الرجل، فضلًا عما إذا كان مشتهرًا بهواها. قال عبد الشارق بن عبد العزي العُزَّى:
أي نسلم عليها وإن كان في السلام يأسٌ منها. قال أبو رياش فيما نقلهُ التبريزي في شرح هذا البيت: «قيل إن الرجل إذا عُرف بحب امرأة لم يزوجوهُ إياها، فإذا سلَّم عليها عُرف أنهُ يهواها.» وقريبٌ من هذا فيما أظن قول الآخر:
وأما صلة النسب فلأن العرب كانت تعتقد أن الرجل إذا تزوَّج قريبةً لهُ جاء ولدهُ ضاويًا نحيفًا. قال أعرابي:
ولذلك جاء في الحديث: اغتربوا لا تُضْوُوا. أي تزوَّجوا في الأجنبيات ولا تتزوَّجوا في العمومة.
ولكنهم في ضد ذلك كانوا يتزوجون أحيانًا بنساء آبائهم، كما ذكر الأصبهاني في آمنة بنت أبان أنهُ لما مات عنها أمية بن عبد شمس تزوجها من بعدهِ ابنهُ أبو عمر. وقال: وكان هذا نكاحًا تنكحهُ الجاهلية فأنزل الله تعالى تحريمهُ قال: وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا فسمي نكاح المقت.
وقد يتوهم كثير من الناس أن النساء في ذلك العهد، كنَّ يتزوجنَ من يختارهُ لهن ذووهنَّ ويُكرَهنَ على الاقتران بمن لا يعرفنهُ أو لا يرغبنَ فيهِ. وهذا، وإن كان يجري بعضهُ أحيانًا، لا يصح في الإطلاق، بل كانت الأنثى مخيرةً في الغالب تختار من تشاء، وتتزوج من تعرف إذا لم يكن ثمَّ ما يمنع زواجها كما سبق مما يخشى منهُ على طيب الذكر، أو يبعث تحدُّث الناس. وقد جاء على ذلك شواهد كثيرة، أجتزئ منها بما نقلوهُ عن الخنساء الشاعرة من أنها كانت تهنأ بعيرًا لها، ودريد بن الصمة يراها وهي لا تشعر بهِ، فأعجبتهُ فانصرف وأنشد أبياتًا منها:
فلما أصبح غدا على أبيها، فخطبها إليهِ، فقال لهُ أبوها: مرحبًا بك أنك الكريم لا يُطعن في حسبهِ، والسيد لا يُرَدُّ في حاجته، ولكن لهذه الفتاة في نفسها ما ليس لغيرها، وأنا أذكرك لها. ثم دخل إليها وقال لها: يا خنساء، أتاكِ فارس هوازن وسيد بني جشم يخطبكِ وهو من تعلمين. فقالت: يا أبتِ أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح ومتزوجة شيخ بني جشم هامة اليوم أو غد. فلم يجبها أبوها بشيءٍ مع رغبته في تزويجها لدريد، وخرج إليهِ، وقال: يا أبا قرة قد امتنعت، ولعلها أن تجيب فيما بعد. وسيأتي فيما عدا هذا دليلٌ آخر أكثر صراحة يعلم منهُ كم كانت الأنثى يومئذٍ حرَّةً في اختيار من تشاء ورفض من تشاء زوجًا لها، وفي هذا الشاهد الذي نقلتهُ عن الخنساء شاهدٌ آخر بما تقدم ذكرهُ من أن بعض النساء كنَّ إذا أردنَ يخرجنَ حاسرات بلا نقاب، ولذلك قال دُرَيد: متبذلًا تبدو محاسنهُ.
ومما يزيد في فضل هذه المشيئة التي تركها العرب لفتياتهم في اختيار الزوج أن النساء في الجاهلية أو بعضهنَّ كنَّ يطلِّقنَ رجالهنَّ، وكان طلاقهنَّ أنهنَّ إن كنَّ في بيت من شعر حوَّلن الخباء إن كان بابهُ قِبل المشرق حولنهُ قِبل المغرب، وإن كان بابهُ قِبل اليمن حولنهُ قِبل الشام، فإذا رأى ذلك الرجلُ علم أنها قد طلقتهُ، فلم يأتها كما حدث لحاتم الطائي مع امرأتهِ ماوية مثلما هو مذكور في قصتهِ. وقد قيل في حاتم هذا إنهُ كان نصرانيًّا، فإن صح هذا القول كان في تطليق امرأتهِ لهُ دليل على أن الطلاق كان مشتركًا بين النصارى وعابدي الوثن، وهذا الموضع مهم للمشتغل بتاريخ النصرانية في الجاهلية والإسلام، فليُنتبه إليهِ. ونظيرهُ ما ذكر من تطليق امرئ القيس لامرأتهِ أم جندب حين حكمت لعلقمة الفحل عليهِ عندما تحاكما إليها فيما قالاهُ من الشعر، وفي هذه القدرة التي كانت للمرأة على تطليق الرجل دليلٌ ناطق بمقدار منزلتها في الجاهلية، بحيث كان لها من الحقوق قريبٌ مما كان للرجل؛ تطلقهُ إن أنكرت منهُ سوء معاملةٍ لها، أو تحاملٍ عليها، أو رأتهُ مهملًا لمكانها مقبلًا على ما تكره منهُ، وفي هذا من العدل والإنصاف ما لا يخفى على أحد.
ولم يكن الجمال في المرأة الجاهلية هو وحدهُ المعين لها على الزواج، فإن كثيرين من الرجال كانوا يؤثرون فيها جمال النفس، وكمال الخُلق وشرف النسب وكرم العنصر ودهاء الرأي، وذكاء الفهم سواءٌ كانت مع ذلك حسناء، أو قبيحة، وأكثر ما كانوا يلتمسون فيها شهرة الأسم، وتطاير الصيت، فرب فتاة كانت خاملة الذكر مجهولة المكان متناهية الفقر لا يأتيها راغب ولا يخطبها خاطب، ثم اتفق ما نوَّه باسمها ونبَّه على منزلتها من شعرٍ قيل فيها أو في مدح أسرتها، فما لبثت حتى أقبل عليها الطلاب من كل قبيلة يبذلون لها من المهر ما أغنى ذويها، وأدرَّ عليهم أخلاف الرزق، كما رُوي عن المحلِّق الكلابي أنهُ كان لهُ ثلاث أخوات قد كسدن عليهِ، وكان مع ذلك فقيرًا سيء الحال، فاتفق أن مر ذات يوم بهِ الأعشى الشاعر، فبادر وبعث إليهِ بالضيافة وأكرمهُ، فما كان بعد قليل حتى قال الأعشى شعرًا سار وشاع في العرب، فما أتت على المحلق سنةٌ حتى زوَّج أخواتهِ الثلاث؛ كل واحدةٍ على مائة ناقة وأيسر وشَرف. وحكى صاحب الأغاني أيضًا أن امرأة جاءت إلى الأعشى نفسهِ، وقالت لهُ: إن لي بناتٍ قد كسدنَ عليَّ فشبِّب بواحدة منهنَّ لعلها أن تنفق. فشبب بواحدةٍ منهنَّ، فما شعر الأعشى إلا بناقة بُعثت إليهِ، فقال: ما هذا؟ قالوا: زُوِّجت فلانة. فشبب بالأخرى، فأتاهُ مثل ذلك، فسأل عنها فقيل: زُوجت. فما زال يشبب بواحدة فواحدة منهنَّ حتى زُوِّجنَ جميعًا.
وأما الذكاء والفطنة فما من أحد يجهل قصة شنَّ وما ألزم بهِ نفسهُ من أن لا يتزوج إلا بامرأة تضاهيهِ في الدهاء، فكان يجوب البلاد في ارتيادِ طلبتهِ إلى أن صادف في بعض أسفاره أبا طبقة، فسألهُ أسئلةً لم يفطن لمغزاها، حتى فسرتها لهُ ابنتهُ طبقة تفسيرًا حمل شنًّا على خطبتها وتزوجها، ونظير ذلك ما يحكى عن امرئ القيس من أنهُ كان قد أقسم ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنين، فجعل يخطب النساء فإذا سألهنَّ عن هذا قلنَ أربعة عشر، فبينما هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنةً لهُ صغيرة فأعجبتهُ، فقال لها: يا جارية ما ثمانية وأربعة واثنان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباءُ الكلبة، وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها، فزوجهُ إياها واتفق لهُ معها قبل الزواج ما يدل على شدة ذكائها ووفرة عقلها مما لا أنقلهُ لطولهِ. وفي هذه الحكاية دليل أيضًا على ما سبق التنبيه عليهِ من أن بعض الفتيات كنَّ يتزوجنَ في سن حدث، وهو قول صاحب الرواية عن الرجل الذي لقيهُ امرؤ القيس أنهُ كان يحمل ابنةً لهُ صغيرة، ولم يمنعهُ صغرها مع ذلك من تزويجها.