موت فلاح إسباني

جلس القس ينتظر على أحد المقاعد، وقد مال برأسه على الوشاح الكهنوتي الخاص بصلاة الموتى. كانت غرفة المُقدَّسات بالكنيسة تفوح برائحة البخور، بينما ترقد في أحد الأركان حزمة من أغصان شجر الزيتون بقيت من أيام أحد السعف. كانت أوراقها شديدة الجفاف حتى لقد بدت وكأنما قُدَّت من حديد. وحرص «موسين ميان» ألَّا يمسَّها وهو يمرُّ بالقرب منها؛ لأنها كانت تتقصَّف وتتساقط على الأرض عند أقل لمسة.

•••

أخذ مساعد القس يروح ويجيء بقميصه الأبيض. كان لغرفة المُقدَّسات نافذتان تُطلان على الحديقة الصغيرة للأبرشية، وأخذت تصل من الجانب الآخر همهمات خافتة تنفُذ عبر الزجاج، كان أحدهم يكنس الأرض في حَمِية، وكان يُسمع صوت المكنسة الجافة على الأرض الحجرية، وصوت ينادي: «ماريا … ماريتا …»

وبالقرب من النافذة الموارِبة، كانت جرادة قد سقطت في شِراك أغصان إحدى الشُّجيرات وطفقت تُحاول الفكاك، وأخذت تُرفرف في يأس. وعلى البُعد، في اتجاه الميدان، ارتفع صهيل فرس. وجال في خاطر موسين ميان: «لا بُد أن ذلك هو فرس «باكو» صاحب الطاحونة، وهو يمرح كالعادة طليقًا خلال القرية.» وواصل القس خواطرَه بأن وجود ذلك المُهر وسط الطرقات يمثِّل إشارةً دائمة إلى باكو وإلى ذكرى مأساته.

•••

استمرَّ في صلاته وهو يرتكز بمرفقيه على ذراعَي المقعد، ويداه معقودتان على السُّترة الكهنوتية السوداء المُوَشَّاة بالخيوط الذهبية. واحدًا وخمسين عامًا يردِّد الصلوات نفسها؛ ممَّا خلق فيه آليةً مكَّنته من القدرة على أن يجول بأفكاره في موضوعات أخرى مع عدم الانقطاع عن الصلاة في الوقت ذاته. وطافت أفكاره عبر القرية. كان يراوده الأمل في أن يحضر أقارب المُتوفَّى للاشتراك في الصلاة، كان على ثقة من حضورهم؛ فهذا هو أقل شيء، ما دام الأمرُ يتعلَّق بقُدَّاس على روح ميت، رغم أنه يُقيم القُدَّاس من تلقاء نفسه دون تكليف من أحد. كما راود الأملُ موسين ميان أن يشارك أصدقاء المُتوفَّى أيضًا. وعند هذا الحد خامرت القس الشكوك؛ فقد كانت الضَّيعة كلها تُكِن شعور الصداقة لباكو، ما عدا الأسرتين الأكثر سطوةً فيها، وهما أسرتا السيد «فالريانو» والسيد «جومرسيدو»، أما الأسرة الثرية الثالثة، أسرة السنيور «كاستلو بيريث»، فلم تكن بالصديقة ولا بالعدوة.

دخل مساعد القس الحجرة، وتناول جرسًا ملقًى في أحد الأركان، وكان على وشك الخروج به وهو يُمسك بناقوسه حتى لا يدق، حين سأله موسين ميان: هل حضر الأقارب؟

فتساءل المساعد بدوره: أي أقارب؟

– لا تكن أبله. ألَا تذكر باکو، صاحب الطاحونة؟

– آه، بلى يا سيدي. غير أن أحدًا لم يحضر بعدُ إلى الكنيسة.

وخرج الفتى مرةً أخرى إلى مقصورة الكهنة، وهو يفكِّر في باکو، صاحب الطاحونة. ألَا يتعيَّن عليه أن يتذكَّره؟ لقد رآه يموت، وبعد موته، دبَّج الناسُ موَّالًا في ذكراه، كان المساعد يذكر بعض فقراته:

ها هو باكو صاحب الطاحونة يسير؛
فقد صدر الحكم عليه وها هو يبكي حياته
وهو في طريقه إلى المقابر …

وحكاية البكاء تلك لم تكن صحيحة؛ لأن المساعد قد حضر المشهد، ولم يكن باكو يبكي. قال مُناجيًا نفسه: «لقد رأيته، مع الآخرين، وأنا في سيارة السنيور كاستلو، وكنت أحمل كيس أدوات مراسم الموت حتى يتمكَّن موسين ميان من إجراء المسحة الأخيرة بالزيت المقدَّس على أقدام الموتى.» وأخذ المساعد يروح ويغدو، وفقرات من موَّال باكو تتردَّد في باله. وكان يُرتِّب خطواته على وقع الأغنية دون أن يفطن إلى ذلك:

… وحين وصلوا إلى المقابر
أصدر قائد الكتيبة أمرًا بالوقوف.

وبدا أمر الكتيبة للمساعد شيئًا شبيهًا بما يحدث في أسبوع عيد الفِصح وخطوات الصلاة في حديقة الكنيسة. وتفاوح الآن عبير أعشاب محترقة عبر نوافذ غرفة المُقدَّسات، وأحسَّ موسين ميان، دون أن يخرج عن صلاته، بتلك الرائحة تُعيد فيه الحنينَ إلى فترة شبابه. جال بخاطره أنه قد شاخ وشارف ذلك السن الذي يفقد فيه الملح طعمه، كما يقول الكتاب المقدس. كان يصلِّي في صمت مائلًا برأسه على ذلك الموضع من الحائط حيث تشكَّلت بُقعة داكنة بمرور الزمن.

•••

كان المساعد يدخل ويخرج حاملًا العصا الطويلة التي سيوقد بها الشموع، والصينية التي تُقدَّم عليها أقداح النبيذ في القُدَّاس، وكتاب الصلوات.

وسأل القس مرةً أخرى: أيوجد أحد في الكنيسة؟

– كلا يا سيدي.

وقال موسين ميان في نفسه: «ما زال الوقت مبكرًا. وبالإضافة إلى ذلك، لم يفرغ الفلاحون بعدُ من أعمال الحقل. ولكن يجب ألَّا تتخلَّف أسرة المتوفَّى عن الحضور؟»

واستمرَّت النواقيس تدق، وكان إيقاعها المُعلِن للجَنَّاز بطيئًا، متباعدًا، أجوف. ومدَّد موسين ميان ساقيه. كانت أطراف حذائه تُطل من تحت سترته الكهنوتية ومن فوق الحصيرة التي تغطِّي الأرض. كانت السترة متآكلة الأطراف، بينما كان جلد الحذاء مقطوعًا عند الحد الذي ينثني عند السير؛ وخطر للقس أن عليه أن يبعث به للإصلاح. كان الإسكافي جديدًا في الضيعة. لم يكن الإسكافي السابق يحضر القُدَّاس، غير أنه كان يخدم القس بكل نشاط وهِمة، كما كان يتقاضى أجرًا بسيطًا. وكان ذلك الإسكافي صديقًا حميمًا لباكو، صاحب الطاحونة.

•••

وتذكَّر موسين ميان ذلك اليوم الذي قام فيه بتعميد باكو في هذه الكنيسة ذاتها. أطلَّت صباحية يوم التعميد باردةً موشاة، واحدة من تلك الصباحات التي كانت الحصباء التي حملوها من النهر لتغطية الميدان إبَّان احتفالات عيد القُربان ترتجف من فرط البرد تحت وقع الأقدام، وجاء الطفل تحمله إشبينته ملفوفًا في الأغطية الفاخرة ومغطًّى بدِثار من القُماش الأبيض مُطرَّز بالحرير الأبيض أيضًا. كان من عادة القرويين أن يحتفظوا بما هو فاخر للمراسم الدينية. وحين دخل موكب التعميد إلى الكنيسة، دَقَّت الأجراس الصغيرة في بهجة. وبإمكان المرء أن يعرف نوع الطفل الذي يُعمِّدونه، أهو ذكر أم أنثى، من إيقاع الأجراس. فإذا كان ذكرًا، تُردِّد الأجراس: «ليست طفلة، بل هو طفل، ليست طفلة، بل هو طفل»، في نغمتين إحداهما أعلى رنينًا من الأخرى. فإذا كان المُعمَّد طفلة، تغيَّرت الإيقاعات قليلًا، وردَّدت الأجراس: «ليس طفلًا، بل هي طفلة، ليس طفلًا، بل هي طفلة.» كانت الضيعة تقع على خط مدينة «لاردة»، فكان الفلاحون يستخدمون أحيانًا كلماتٍ من اللغة القطالونية؛ لأن لاردة إقليم من أقاليم مقاطعة قطالونيا.

وعند وصول موكب التعميد، تردَّدت في جَنَبات الساحة همهمات الأطفال، كما يحدث دائمًا في تلك المناسبات. كان الإشبين يحمل كيسًا من الورق يستخرج منه بين الفينة والأخرى مِلءَ الراحة من اللوز والحلوى وينثرها على الأطفال؛ فقد كان يعلم حق العلم أنه ما لم يفعل ذلك، فإن الأطفال سوف يتجمَّعون أثناء التعميد ليهتفوا بعبارات مهينة للطفل الوليد، وتلميحات تتعلَّق باللفائف التي تغطِّيه وما إذا كانت جافةً أو مبتلة.

وكان يُسمع صوتُ ارتطام حبات اللوز على الأبواب والنوافذ، وأحيانًا على رءوس الأطفال ذاتهم، غير أنهم لم يكونوا ليُضيعوا الوقت في الشكوى من ذلك. وكانت الأجراس الصغيرة في برج الكنيسة ما زالت تواصل دقاتها: «ليست طفلة، بل هو طفل»، ويدخل الفلاحون إلى الكنيسة؛ حيث كان موسين ميان ينتظر وقد أكمل ارتداء ملابسه.

تذكَّر القس ذلك اليوم من بين مئات الأيام الأخرى لأنه كان يوم تعميد باكو صاحب الطاحونة. كان هناك عدد من الناس يرتدون ثياب الحِدَاد متجهمي الوجه، بينما اشتملت النسوة على طُرح سوداء إما قصيرة أو طويلة، بينما ارتدى الرجال قمصانًا مُنشَّاة. وفي زاوية التعميد، كان الحوض يُلقي ظلالًا من الأسرار العتيقة.

ووُجهت الدعوة إلى موسين ميان لتناول الغداء مع الأسرة. ولم يكن هناك إسراف في المأدبة؛ لأن احتفالات الشتاء تكون عادةً أقل أُبَّهةً من احتفالات الصيف. تذكَّر موسين ميان أنه كانت هناك باقة من الشموع المتلوية المزدانة على إحدى الموائد، بينما رقد الطفل في مهده عند أقصى ركن في الغرفة. وجلست الأم إلى جواره برأسها الصغير وصدرها الناهد، عليها تلك المَسحة من الرصانة الجليلة التي تُميِّز الأمهات اللاتي أنجبن حديثًا. وكان الأب يُجالِس الأصدقاء. واقترب واحد منهم من مهد الوليد وتساءل: أهو ابنك؟

فأجاب الأب دامغًا بسخريته الهادئة ذلك السؤال الواضح: حقًّا لا علم لي بِحق السماء! ولكني متأكد على الأقل أنه ابن زوجتي.

وبعدها تعالت قهقهته، ورفع موسين ميان رأسه، وكان يقرأ صلواته، وقال: على رِسلك، لا تكن بمثل هذه الخشونة. ماذا يُفيدك مثل هذا المزاح؟

وتضاحكت النسوة أيضًا، خاصةً «خيرونيما» القابلة والمرضعة، التي كانت تحمل للأم في تلك اللحظة مرق دجاجة وزجاجةً من نبيذ الموسكاتي. وعمدت بعد ذلك إلى تعرية الطفل لتغيير ضمادات السُّرة. وصاحت وهي تُشير إلى جسده: «يا لك من ولد! سيكون لك نصيب الأسد حقًّا.» وكانت الإشبينة تردِّد أن الوليد في خلال عملية التعميد قد أخرج لسانه ليلعق المِلح، ممَّا جعلها تستنتج من ذلك أنه سيكون ذا حظ مع النساء، بينما الأب يروح ويغدو هنا وهناك، ويتوقف أحيانًا ليلقي نظرةً على الوليد ويقول: «يا لغرابة الحياة! لقد كنت حتى مجيء هذا الطفل ابن والدي ليس إلا، فأصبحت الآن بالإضافة إلى ذلك والد ابني.» ثم يصيح بصوت عالٍ: «الأرض كروية، وتدور.»

كان موسين ميان متأكدًا من أنهم سيُقدِّمون في الغداء سِمَّانًا بالتوابل. كان من عادتهم تقديم ذلك الطبق في ذلك البيت. وحين اشتمَّ رائحته في الهواء نهض واقترب من المهد، وأخرج من بين طيات کتاب صلواتِه تميمةً متناهيةً في الصغر، وتركها تحت وسادة الوليد. وتطلَّع القس إلى الطفل دون أن ينقطع عن ترديد صلواته باللاتينية. وبدا كأن الطفل قد أحسَّ أنه مركز كلِّ هذا الاحتفال، فابتسم في نُعاسه وابتعد موسين ميان وهو يفكِّر: «أي سبب دفعه للابتسام؟» قال ذلك بصوت عالٍ، فعلَّقت خيرونيما على ذلك بقولها: إنه يحلم، يحلم بأنهار من اللُّبين الدافئ.

وبدت كلمة اللبن في صيغة التصغير على شيءٍ من الغرابة، ولكن كل ما تنطق به خيرونيما كان على تلك الشاكلة.

وحين وصل جميع المدعوين بدأت الوليمة، وجلس الأب السعيد في صدر المائدة، وقالت الجدة وهي تُشير للقس على الطرف الآخر المقابل: هذا المكان للأب الثاني، موسين ميان. ووافق القس الجدة على ما قالت؛ فقد وُلد الطفل مرتين، مرةً عند مجيئه إلى هذه الدنيا، ومرةً أخرى عند تعميده في الكنيسة، وكان الأب المسئولُ عن هذا الميلاد الثاني هو قس الأبرشية. ولم يتناول موسين ميان الكثير من أصناف الطعام المختلفة، بل كان يوفِّر نفسه لأكل السمان.

•••

كان ما يزال يتذكَّر ذلك السمان الآن بعد مرور ستة وعشرين عامًا. وعلى الريق، قبل أداء القداس، كان ما يزال يشم رائحة الثوم والخل وزيت الزيتون. وبعد أن ارتدى ملابسه مرةً ثانية، وطرقت أسماعَه دقاتُ الأجراس، ترك هذه الذكرى تتوارى مؤقتًا. وتطلَّع إلى مساعده؛ وكان ذلك الفتى لا يعرف موَّال باكو بأكمله، وبقي عند الباب وأحد أصابعه منثنٍ بين أسنانه يحاول أن يتذكَّر كلمات المَوَّال.

ها هم يأخذونه، ها هم يأخذونه
وذراعاه مقيدتان من الخلف.

كان المشهد لا يزال حيًّا في ذهن المساعد. كان مشهدًا داميًا وصاخبًا. وكان القَس قد عاد يستعيد مأدبة التعميد حين قال المساعد ليقطع حبل الصمت: لا أعلم ماذا حدث حتى لا يحضر أحد اليوم إلى الكنيسة يا موسين ميان.

كان القس قد وضع الزيت المقدس على قَذال الطفل الرقيق الذي لم يكن يبين إلا على شكل ثَنْيَتين من الجلد في مقابل ظهره. وجال في فكره أن ذلك القَذال يرقد الآن تحت الثرى؛ ترابًا يمتزج بالتراب. كان الجميع يتطلَّعون إلى الطفل في ذلك الصباح، خاصةً الأب، تغمرهم السعادة، غير أن شيئًا من القلق كان يُظلِّل ملامحهم؛ فلم يكن هناك شيء تكتنفه الأسرار والأحاجي أكثر من طفل وليد.

وجال في ذاكرة موسين ميان أن تلك الأسرة لم تكن شديدة التدين أبدًا، ولكنها كانت تلتزم بأداء واجباتها نحو الأبرشية، واعتادت أن تُقدِّم للكنيسة هديتين كل عام؛ الأولى على شكل رءوس من الغنم، والثانية مقادير من الحنطة، وذلك في شهر أغسطس. وجال في ذهن القس أنهم كانوا يفعلون ذلك عن طريق العادة أكثر منه بسبب الورع، غير أنهم كانوا يقومون بواجبهم على أية حال.

أمَّا فيما يتعلَّق بخيرونيما، فقد كانت تعلم تمام العلم أن القس لم يكن ينظر إليها بعين الرضا؛ فأحيانًا كانت خيرونيما تُشيع اضطرابًا في المياه الراكدة بالقرية بسبب أفعالها وثرثرتها، أو «أقوالاتها» كما كانت تسميها، وكان من عادتها أن تتلو صلوات غريبة، تعمل بها على إبعاد وابل البرد وتجنُّب الفيضانات عن القرية. وكانت تُنهي تلك الصلوات بقولها: أيها المقدَّس العادل، أيها المقدَّس القوي، أيها المقدَّس الأزلي، فلتحمنا يا إلهي من كل الشرور. ثم تضيف عبارةً باللغة اللاتينية لها وقع الألفاظ البذيئة في الأسماع، والتي لم يتمكَّن القس أبدًا من معرفة كُنهها. وكانت تنطق تلك العبارة في براءة وتقول حين يسألها القس من أين جاءت بهذه اللاتينيات، بأنها قد ورثتها عن جدتها.

كان موسين ميان على ثقة بأنه إذا توجَّه إلى مهد الطفل ورفع الوسادة فإنه لا بد سيعثر تحتها على تعويذة سحرية؛ فقد اعتادت خيرونيما أن تضع في ذلك المكان مقصًّا مفتوحًا على هيئة الصليب إذا كان الولد ذكرًا لكي يحميه من جِراح النصال، أو من «فورة» النصال كما كانت تقول في لغتها، أمَّا إذا كان الوليد طفلة، فإنها كانت تستعيض عن المقص بزهرة عملت هي بنفسها على تجفيفها على ضوء القمر؛ لكي تمنح الطفلة جمالًا وتُجنِّبها الأمُّ الدورة الشهرية.

وقد وقعت حادثة أفعمت صدر موسين ميان ببهجة خفية؛ فقد وصل في تلك الأثناء إلى منزل الوليد طبيب القرية وهو رجل شاب، وألقى على الموجودين تحية الصباح، وخلع نظارته ليمسحها وكانت قد تغبَّشت عند دخوله المنزل، ثم اقترب من مهد الطفل. وبعد أن كشف على الوليد، أمر خيرونيما في صرامة بألَّا تعود إلى لمس سُرة الوليد ولا حتى تُغيِّر له اللفائف، قال ذلك في جفاف، وممَّا زاد الأمر سوءًا أنه وجَّه إليها هذا الكلام أمام الجميع، وسمعه حتى أولئك الذين كانوا في المطبخ.

وبطبيعة الحال، ما كاد الطبيب يُغادر المنزل حتى بدأت خيرونيما تُفضفض عن نفسها. قالت إنه لم يحدث أنها اختلفت مع الأطباء ذوي الخبرة، وإن ذلك الشاب الصغير السن إنما يعتقد أن علومه هي وحدها ذات القيمة، ولكن — كما يقول المثل — «قل لي ما لديك أقل لك ما ينقصك»، فإن ذلك الطبيب يعتمد على وسائل العلاج المحفوظة أكثر من اعتماده على «المعلوم»، وحاولت القابلة أن تُوقع بين الطبيب والأزواج؛ فقد استطردت قائلة: ألم تروا كيف يدخل البيوتَ في جرأة وبلا استئذان، ويتجه من فوره إلى حجرة النوم، حتى لو كانت ربة المنزل تستبدل ملابسها؟ لقد فاجأ أكثر من سيدة بينما هي ترتدي الكورسيه أو وهي في قميص النوم. وماذا تفعل هؤلاء المسكينات؟ لا شيء. يصرخن ويُهرَعن إلى حجرة أخرى. أيصح هكذا لرجل عَزَب لا زوجة له أن يدخل البيوت بهذه الطريقة؟ هكذا يفعل الطبيب.

ومضت خيرونيما في حديثها، ولكن لم يكن أحدٌ يُنصت إليها. وتدخَّل موسين ميان آخِر الأمر قائلًا: اسكتي يا خيرونيما، إنما الطبيب طبيب. وقال آخر: ليست الغلطة غلطة خيرونيما، ولكن غلطة إبريق النبيذ!

كان الفلَّاحون يتحدَّثون عن أمور تتعلَّق بشئون عملهم. كان محصول القمح يُبشِّر بالخير كما كان يرجو مزارعو البقول والخضروات. وحين يحل الربيع، سيسعدون ببَذر شتلات البطيخ والخس. وحين رأى موسين ميان أن الحديث قد انتابه الفتور، بدأ يتحدَّث مُكيِّلًا الاتهامات للخرافات، بينما خيرونيما تُنصت إليه في صمت.

أخذ القس يتحدَّث عن الموضوعات الجادة بالطريقة التي يعتادها القرويون. قال إن الكنيسة تشعر بالبهجة لميلاد هذا الطفل، البهجة التي يشعر بها أبواه تمامًا، وإنه يجب حمايته من كل أنواع الخزعبلات والشعوذة؛ فكل ذلك من عمل الشيطان، ويمكن يسبِّب له أذًى من فوره. وأضاف قائلًا إن الفتى يمكن أن يكون «طالوت» آخر بالنسبة إلى العالم المسيحي.

قال الأب: إن كل ما أرجوه له، أن يشب عن الطوق ويُصبح مُزارعًا ماهرًا.

فضحكت خيرونيما نكايةً في القس وقالت: سيكون الفتى ما كتب له القدرُ أن يكون. أي شيء ما عدا أن يكون قسًّا.

فنظر إليها موسين ميان مستغربًا وقال: يا لك من امرأة فظة يا خيرونيما!

وفي تلك اللحظة، جاء أحدهم يستدعي «الساحرة». وبعد أن خرجت تلك المرأة، توجَّه موسين ميان إلى مهد الطفل ورفع الوسادة فوجد تحتها مسمارًا ومفتاحًا صغيرًا يُشكِّلان صليبًا، فتناولهما وسلَّمهما إلى الأب وهو يقول: «أترى؟» وبعدها تلا إحدى صلواته ثم ردَّد أن باكو الصغير — وإن أصبح يومًا من الأيام مزارعًا — فهذا لا يمنع أنه ابن روحي له، ولا بد له — أي للقس — أن يتعهَّد روحه بالرعاية. كان يعلم حق العلم أن خيرونيما، بخزعبلاتها، لا يمكنها أن تسبِّب كثير أذًى للمولود، ولكنها أيضًا لم تكن لتُقدِّم له أي فائدة تُذكر.

وبعد ذلك بزمن طويل، حين شبَّ الطفل عن الطوق، واجتاز مرحلة الجندية، ثم حين لاقى حتفه، ووقف موسين ميان يحاول أن يتلو القداس في ذكراه، كانت خيرونيما لا تزال على قيد الحياة، وإن كانت قد بلغت من العمر أرذله، وأصبح حديثها لغوًا فارغًا، ولم يكن هناك من يلقي إليها بالًا. كان مساعد موسين ميان يقف على عتبة غرفة المقدسات ويتطاول بعنقه من آنٍ لآخر كي يرى ما يدور في الكنيسة، ويقول للقس: لم يحضر أحدٌ حتى الآن.

ورفع القس حاجبيه وتعجَّب بينه وبين نفسه: لا أفهم معنى هذا. لقد كانت القرية كلها تُحب «باكو» ما عدا السيد جومرسيندو، والسيد فالريانو، وربما السيد كاستلو بيريث أيضًا، وإن كان لا أحد يدري حقيقة عواطف هذا الأخير.

وكان المساعد يحدِّث نفسه هو الآخر، مُردِّدًا قول باكو:

كانت الأنوار ترتفع من عند التل،
بينما أخذت الظلال تغمر الشجيرات …

وأغلق موسين ميان عينيه وظلَّ ينتظر. وتواردت على ذهنه بعض التفصيلات الأخرى لذكرياته عن طفولة باكو. كان يشعر بالحب تجاه الطفل، وكان ذاك يبادله حبًّا بحب؛ فدائمًا ما يشعر الأطفال والحيوانات بالحب تجاه من يحبونهم.

وحين أكمل باكو ست سنوات من عمره، بدأ يتعلم «التزويغ»؛ أي إنه كان يهرب من بيته ليلهو مع أقرانه من الصِّبية. كان قد اعتاد التردُّد على مطابخ منازل الجيران؛ فقد كان القرويون يؤمنون بالمثل القديم الذي يقول «عليك أن تنظِّف أنف ابن جارك وأن تفتح له أبواب منزلك.» وحين ذهب باكو إلى المدرسة لأول مرة كان قد تعدَّى السنوات الست بزمن قصير. كان بيت القس قريبًا، ممَّا دعا الصبي أن يذهب لزيارته يومًا بعد آخر عند الأصيل. وقد تأثَّر القس من ذلك؛ لأن باكو كان يزوره من تلقاء نفسه دون أن يُرغمه أحدٌ على ذلك؛ وقد تعوَّد أن يُهدي الطفل صورًا ملوَّنة. وكان الصبي إذا قابل الإسكافي عند خروجه من منزل القس، قال له ذاك: إني أُلاحظ أنك صديق حميم لموسين ميان.

ويسأله الصبي: وأنت، ألست صديقًا له؟

فيرد الإسكافي متهرِّبًا: أوه … إن القُسُس هم الأشخاص الذين يجاهدون أشد المجاهدة كي لا يضعوا أيديهم في أي عمل. ولكن موسين ميان إن هو إلا قديس. وكان ينطق تلك الكلمة الأخيرة في توقير مبالَغ فيه حتى لا يمكن أن يفكِّر أحدٌ أنه يقول ذلك على محمل الجد.

وراح باكو الصغير يتلقَّى تجاربه في الحياة. والتقى يومًا ما بالقس في الأبرشية يستبدل رداء الكهنوت، ولمَّا رأى أنه يرتدي تحت الرداء البنطال العادي وقف مستغربًا لا يدري كيف يعلِّل ذلك. وحين كان موسين ميان يرى والد باكو كان يسأله عن الصبي مستخدِمًا تعبيرًا لطيفًا؛ إذ كان يقول: أين ولي العهد؟

وكان لوالد باكو كلب أعجف، ذو وجه عليل. كان الفلاحون يعاملون كلابهم بعدم اكتراث وقسوة، وكان ذلك دون شك هو السبب الذي تُحبهم لأجله هذه الحيوانات حب العبادة. وأحيانًا ما كان الكلب يصحب الصبي إلى المدرسة، يسير إلى جواره دونما مداهنة وبغير بهجة، بل يحميه بمجرد وجوده معه.

كان باكو يحاول جاهدًا في تلك الأيام أن يُقنِع كلبه بأن القط الذي يربُّونه في البيت له الحق هو الآخر في الحياة. ولم يكن الكلب يفهم ذلك. وعلى هذا لم يكن أمام القط المسكين إلا أن يهرب إلى الحقل. وحين أراد باكو أن يستعيده، قال له أبوه إن ذلك سيكون عبثًا؛ لأن الحيوانات البرية لا بد قد افترسته. ولم يكن من عادة طيور البوم أن تتحمَّل وجود حيوانات أخرى في الحقل بإمكانها الرؤية في الظلام إلاها، فكانت تُطارد القطط وتقتلها ثم تأكلها بعد ذلك. ومنذ أن عرف باكو ذلك، بدأ الليل يلوح له مليئًا بالأسرار والمخاوف، وأصبح يُرهِف سمعَه حين يرقد رغبةً منه في سماع الأصوات التي تتردَّد في الخارج.

وإذا كان الليل هو عالم البوم، فالنهار هو عالم الصِّبية. وأصبح باكو حين بلغ عامه السابع على قدرٍ كبير من الشقاوة؛ فلم تكن همومه ومخاوفه خلال الليل لتمنعه من الشِّجار مع الصِّبية الآخرين عند الخروج من المدرسة.

وفي هذه الأوقات، أصبح باكو نوعًا من المُساعد الإضافي أو المُساعد المناوب للقس. وكان من بين الكنوز التي يرعاها صبيان القرية مسدس عتيق كانوا قد افتتنوا به إلى حد أنهم كانوا يتداولونه بينهم، على ألَّا يحتفظ به واحد منهم لأكثر من أسبوع. وحين كان يصل إلى يد باكو لأي سبب من الأسباب — كأن يكون قد ربحه في الألعاب أو في المقايضات — لم يكن يفارقه لحظةً واحدة، وكان يحمله — حين يساعد القس في إقامة القداس — في الحزام الذي تحت ردائه. وحدث مرةً حين كان يجثو ليُغيِّر كتاب القداس أن انزلق المسدس وسقط على المنصة مُحدِثًا جلبةً عالية. وظلَّ المسدس في مكانه بُرهة، بينما تدافَع المُساعدان كلٌّ يحاوِل التقاطه أولًا. وجذب باكو المساعدَ الآخرَ وتناول المسدس، وشمَّر ذيلَ السترة الكهنوتية وعلَّقه في وسطه، ثم استمرَّ يُجيب على صلاة القس بقوله Et Cum Spiritu tuo وبعد نهاية القداس، استدعى موسين ميان «باكو» لمقابلته ووجَّه إليه لومًا شديدًا وطلب منه أن يعطيه المسدس. وكان باكو في تلك الأثناء قد أخفى المسدس وراء الهيكل. وفتَّش موسين ميان الصبيَّ فلم يعثر معه على شيء. وأصرَّ باكو على إنكاره، ولم يكن ليحمله على تغيير موقفه ولا حتى جلادو محاكم التفتيش القديمة. وأخيرًا، اعترف موسين ميان بالهزيمة، ولكنه سأله: ولكن … لماذا تحمل هذا المسدس يا باكو؟ من تريد أن تقتل؟

– لا أحد.

وأضاف أنه يحمله لكي يمنع بذلك وصوله إلى صِبيةٍ آخرين من ذوي النوايا السيئة. ودُهش القس لتلك الحجة التي قدَّمها الصبي.

كان موسين ميان يُبدي اهتمامًا كبيرًا بباكو لأنه كان يعتقد أن والديه ليسا شديدَي التعلق بالدين، وكان يؤمن أنه إذا اجتذب الصبيَّ للكنيسة، فإنه قد يجتذب أيضًا بقية الأسرة. وكان باكو قد بلغ السابعة حين جاء الأسقف إلى القرية وأجاز تعميد صِبيانها. وخلَّفت هيئةُ رجل الدين، وكان شيخًا أبيض الشعر فاره القامة، أثرًا عظيمًا في نفس باكو. وكان الأسقف، بتاجه والوشاح الذي يقيه من المطر وعصاه المُوَشَّاة، يُعطي للصبي فكرةً تقريبية لِمَا يمكن أن يكون عليه الرب في السموات العلى. وتحادث الأسقف بعد الإجازة مع باكو في غرفة المُقَدَّسات. كان يدعوه بالولد المكَّار. ولم يكن باكو قد سمع تلك الكلمة من قبل. وجرى الحديث بينهما على النحو التالي:

– من هذا الولد المكار؟

– أنا باكو. في خدمة الرب وفي خدمة نيافتكم.

كانوا قد لقَّنوا الصبي ما يقول. ومضى الأسقف يسأله في بشاشةٍ وحبور: وماذا تريد أن تُصبح حينما تكبر؟ قسيسًا؟

– كلا يا سيدي.

– جنرالًا؟

- ولا هذا يا سيدي. أُريد أن أُصبح فلاحًا، مثل والدي.

وحين رأى باكو أنه يلاقي استحسانًا، مضى يقول: وأن يكون عندي ثلاثة أزواج من البغال، وأخرج بها إلى الشارع الرئيسي صائحًا: إلى الأمام، حا، شي …!

وأُصيب موسين ميان بالهلع، وأشار بيده جانبًا إلى باكو بما يعني أنَّ عليه أن يغلق فمه. وضحك الأسقف.

واستغلَّ موسين ميان فرصة الأثر الذي خلَّفته زيارة الأسقف، وبدأ في إعداد باكو والصبية الآخرين لتناول القربان المقدَّس لأول مرة. وقرَّر في الوقت نفسه أنه قد يكون من الأفضل أن يشارك الصِّبية في المكائد الصغيرة التي يُدبِّرونها عن أن يقف منها موقف العقاب؛ فرغم أنه كان يعلم علمًا أكيدًا أن المسدس مع باكو، فإنه لم يعد إلى الإشارة إليه مرةً أخرى.

كان باكو يشعر بالثقة في الحياة. وكان الإسكافي ينظر إليه أحيانًا بشيء من السخرية … لماذا؟ بينما كان الطبيب يصيح به حين يلاقيه في المنزل: أهلًا أيها العفريت!

وكان باكو يأتمن كل فرد من الجيران من أصدقاء الأسرة تقريبًا بسر من أسراره الصغيرة: حكاية المسدس، زجاج كسره في إحدى النوافذ، حِفنات من الكريز سرقها من أحد بساتين الفاكهة. وكان أكثر تلك الأسرار أهميةً هو ذلك الذي كان يكتمه موسين ميان.

ففي يوم من الأيام تحدَّث القس مع باكو حول موضوعات صعبة؛ فقد كان موسين ميان يُعلِّمه كيف يُجري امتحانًا لضميره، ابتداءً من أول الوصايا حتى عاشِرِها. وعندما وصلا إلى الوصية السادسة، تردَّد القسيس لحظةً ثم قال أخيرًا: فلندع هذه؛ لأنك لم تمر بخطيئة من هذا النوع بعد.

ووَزَن باكو الأمر مع نفسه، وحَدَس أن القس ولا بد كان يشير إلى العلاقة بين الرجال والنساء.

كان باكو كثير التردُّد على الكنيسة، رغم أنه لم يكن يساعد في أداء القُدَّاس إلا حين يحتاج الأمر إلى وجود اثنين من المساعدين بدلًا من واحد. واكتشف أشياء عظيمةً في فترة الأسبوع المقدَّس؛ ففي تلك الأيام، كان كل شيء في الكنيسة يتناوله التغيير. كانوا يُغَطون الصور بقماش بنفسجي اللون، كما يختفي الهيكل الكبير أيضًا وراء نسيج ضخم ذي لون أخضر، وتتحوَّل إحدى الردهات تدريجيًّا إلى مكان غريب تملؤه الأسرار. كان ذلك مكانَ النُّصب التذكاري. وكان يمكن الصعود إليه من الجزء الأمامي عن طريق سُلَّم عريض مُغطًّى ببساط أسود.

وعند مهبط هذا السلم، فوق وسادةٍ من قماش أبيض، كان يُسجی صليب من المعدن يغطِّيه نسيج بنفسجي يشكِّل هيئة مُعيَّن فوق أطراف الصليب. وكانت تظهر من تحت هذا القماش القاعدة مليئةً بالزخارف، وهي التي يقترب منها المصلون ويجثون أمامها ويُقبِّلونها. وإلى جوار ذلك النصب كانت توجد صينية كبيرة عليها قطعتان أو ثلاث من النقود الفضية وقطع نحاسية كثيرة. وفي وسط ظِلال الكنيسة، كان ذلك المكان الصامت المثير، بسلالمه المليئة بالشمعدانات والشموع المُوقَدة، يُضفي شعورًا بالرهبة على باكو.

ومن تحت هذا النصب التذكاري، في مكان خفي، كان ثمة رجلان يقومان بالعزف على الأرغن لحنًا مغرقًا في الحزن. كان اللحن قصيرًا ويتكرَّر بطريقة مستمرة طوال اليوم؛ وكان يترك «باكو» نهبًا للمشاعر المتناقضة المضطرمة.

وفي خلال الخميس المقدَّس والجمعة الحزينة، لم تدق نواقيس البرج، ولكن لم يُسمع في الأنحاء صوت المطارق الخشبية؛ ففي قبو النواقيس، كان ثمة سلندران هائلان من الخشب تغطِّيهما صفوف من المطارق الخشبية؛ وحين يدور السلندر تضرب المطارق الخشبية فوق صفحة الخشب الأجوف. وكانت كل هذه الأدوات تقع فوق النواقيس ولها محور يلبس في جدارين متواجهين من النواقيس، ويُشحَّم بالقار. وكانت تلك النواقيس الخشبية تُصدر حفيفًا أشبه بحفيف عظام متناثرة. وكان لمساعدَي القس مطرقتا يد يستعملانها عند أداء مراسم القُدَّاس. كان باكو ينظر ويسمع كلَّ هذا والدهشة تغمره. كان أكثر ما يُحيِّره هو التماثيل التي تنتصب على كلا جانبَي النُّصب التذكاري. كان ذلك النُّصب يشبه تجويف إحدى الكاميرات الفوتوغرافية ذات المنفاخ الطويل. وكان السبب الذي أشاع في روح باكو تلك الحيرة هو أنه شاهَدَ تلك الصور المتَرَّبة المجدوعة في غرفة في الكنيسة مُخصَّصة للمهملات كانت تُلقى فيها الأدوات التي عفا عليها الزمان، ورأى باكو بين تلك الأشياء سيقانًا لتماثيل المسيح مفصولةً عن أجسادها، وتماثيل للشهداء، عارين ترتسم على وجوهِهم ألوان المعاناة. رأى رءوسًا للمسيح وهو يحمل تاج الشوك تستدر الدموعَ من المآقي، وأقمشةً مزدانة بزهورٍ زُرق معلَّقة على الحائط، وحوامل مصنوعة من عوارض خشبية يظهر في أعلاها تمثال نصفي لامرأة؛ وحين يغطون الحوامل بعباءة على شكل مخروطي، تتحوَّل المرأة إلى سيدتنا العذراء، حامية المستضعفين.

وحين كان باكو يدلف مع المساعد الآخر إلى هذه الغرفة، كان الآخر مبالِغًا في إزالة الكُلفة بينه وبين تلك التماثيل، فكان يركب فوق تمثال أحد الرسل كأنما يمتطي حصانًا، ويدق على رأس التمثال بأصابعه ليرى — كما يزعم — ما إذا كان ثمة فئران بداخله؛ ويضع في فم تمثال آخر ورقةً مفتولة ليبدو وكأنما يدخِّن؛ ويتجه إلى القديس «سباستيان» لينزع السهام المرشوقة في صدره ثم يُعيدها إلى مكانها في قسوة. وكان يوجد في أحد الأركان مشهد خشبي جنائزي يُستعمل في قداس الموتى؛ وكان مُغطًّى بقماش أسود يقطر عليه الشمع ويستبين في كل جانب من جوانبه الأربعة جمجمةٌ ومنظران من مناظر آلام المسيح. وكانت تلك الغرفة هي المكان الذي يختبئ فيه المساعد الآخر أحيانًا ويطلق عقيرته بالأغاني المبتذلة.

وفي يوم سبت القيامة، كان الأولاد يتوجَّهون إلى الكنيسة في الصباح، يحملون في أيديهم مطارق خشبيةً صغيرة كانوا قد احتفظوا بها طوال العام انتظارًا لهذا اليوم الموعود. كانوا ذاهبين، وهذا شيء لا يصدِّقه أحد؛ لكي يقتلوا اليهود. وكان موسين ميان يتجنَّب أن يقوم هؤلاء الأولاد بتحطيم مقاعد الكنيسة الخشبية، وذلك بأن يضع في اليوم السابق ثلاث كتل ضخمة من الخشب مُسجاة بالقرب من الفناء. ومن المفروض أن يكون اليهود في داخل هذه الكتل الخشبية، ولم يكن من الصعب على الأولاد بتفكيرهم الصبياني أن يُصدِّقوا ذلك. كان الأولاد ينتظرون في الخلفية جالسين. وحين ينطق القس في صلواته بكلمة «القيامة» يبدءون في قرع الكُتل الخشبية مُحدِثين بذلك صخبًا هائلًا يستمر إلى حين الوصول إلى نشيد «هللويا» وسماع أول دقات النواقيس.

كان باكو يخرج من الأسبوع المُقدَّس كأنما هو مريض في فترة نقاهته. كانت المراسم الدينية تمر على نحو عظيم وتحمل أسماءً غريبة: الغمامات – موعظة الكلمات السبع – موعظة قُبلة يهوذا – موعظة الحُجب الممزوقة. كان سبت القيامة يبدو عادةً كأنما هو استعادة الصليب واستعادة البهجة معه. وحين كانت النواقيس تُلعلع من البرج مرةً ثانية بعد صمتٍ يدوم ثلاثة أيام، تحرص «خيرونيما» على جمع حصًى صغيرة من على شاطئ النهر؛ لأنها تزعم أن وضع مثل هذه الحصوات في الفم يُخفِّف من آلام الضروس.

كان باكو يتردَّد آنذاك مع جماعات من الصبية الآخرين على منزل القس؛ وكانوا جميعًا يُهيِّئون أنفسهم مثله للتناول المقدَّس لأول مرة. كان القس يُرشدهم وينصحهم بأن يمتنعوا في تلك الأيام عن اقتراف أيٍّ من مكائدهم الشيطانية، فعليهم ألَّا يتشاجروا وألَّا يذهبوا قريبًا من المغسل العمومي حيث اعتادت النسوة أن يتحدَّثن هناك في حرية زائدة عن اللازم.

ومنذ ذلك الوقت، أخذ الفتية يشعرون بفضول متزايد دفعهم إلى إرهاف السمع إذا حدث ومروا بالقرب من مكان المغسِّل، وكانوا حين يتحدَّثون فيما بينهم عن التناول المقدس يخترعون مخاطر غريبةً ويزعمون أن من الضروري عند تلقِّي التناول أن يفتح المرء فمه على سعته لأنه إذا حدث ولمس القربانُ أسنانَ المتناول فإنه يسقط صريعًا في الحال ويذهب من فوره إلى الجحيم.

وفي يوم من الأيام، طلب موسين ميان من باكو أن يصحبه في زيارة يقوم بها لإجراء مراسم المسحة الأخيرة لمريض يُحتَضر. وسارا معًا إلى خارج القرية، حيث لم يكن هناك بعدُ من بيوت، وحيث يعيش الناس في كهوف منحوتة في الصخر. وكان الدخول إلى تلك المغارات عن طريق فتحةٍ مستطيلة مدهونة حواشيها بالجِير.

كان باكو يحمل كيسًا من القطيفة، يتدلَّى من كتفه، كان القس قد وضع فيه أدوات الطقوس الدينية، ودخلا بعد أن أحنيا رأسيهما متلمِّسين خطواتهما في حذر. كان بالداخل حجرتان أرضهما من كتل الأحجار التي صُفَّت كيفما اتفق. كان الظلام قد أخذ يسدل أستاره، ولم يكن هناك نور في الغرفة الأولى، ولم يكن يُرى في الغرفة الثانية سوى مصباح زيتي صغير. واستقبلتهما عجوز ترتدي أسمالًا وهي تحمل ذبالة شمعة موقدة. وكان السقف الحجري منخفضًا جدًّا؛ ورغم أنه كان يسمح للمرء بأن يسير مفرود القامة، إلا أن القسيس كان يحني ظهره من باب الاحتياط. ولم يكن للكهف مصدر تهوية آخر عدا الفتحة الخارجية. وكانت عينا العجوز جافتين، ويرتسم عليهما ملامح تعب وفزع مقرور.

وفي أحد الأركان كان يوجد فِراش من ألواح خشبية يرقد عليها المريض. ولم ينبس القس ببنت شفة، ولا العجوز هي الأخرى. ولم يكن يُسمع سوى غطيط يتردَّد بصوت أجش مُلِح يخرج من صدر المريض. وفتح باكو الكيس، بينما بدأ القس — وكان قد ارتدى ملفعته — يستخرج قطع القنَّب وإناءً صغيرًا من الزيت وأخذ يتلو الصلوات باللاتينية. كانت العجوز تُنصت وقد خفضت بصرها إلى الأرض بينما تُمسك في يدها ذبالة الشمعة. كانت صورة المريض الجانبية ترتسم على الجدار بصدره الذي يرتفع عاليًا ورأسه الخفيض. وكانت الصورة تهتز عند أقل حركة لضوء الشمعة.

وكشف القس عن قدمَي المريض، كانتا كبيرتين، جافتين، متشقِّقتين. قدما فلاح. وبعدها توجَّه عند رأسه. كان من الواضح أن المُحتَضر يضع كلَّ ما تبقَّى لديه من طاقة في جهد مرعب كيما يُخرج الأنفاس التي يردِّدها. وأخذت الحشرجات تتزايد سرعةً وخشونة، ورأى باكو ذبابتين أو ثلاثًا تحوم حول وجه المريض وقد تبدَّت في الضوء الخابي ذات انعكاسات معدنية. وأتمَّ موسين ميان مسح العينين والأنف والقدمين. ولم يكن المريض يُحس بأي شيء من هذا. وقال القس للعجوز بعدما انتهى من مراسمه: «فليتلَقَّه اللهُ في رحابه.» ولم تقل العجوز شيئًا. كان ذقنها يرتعد أحيانًا، فتستبين عَظْمة فكِّها من تحت الجلد. واستمرَّ باكو يتطلَّع فيما حوله. لم يكن هناك نور ولا ماء ولا نيران للتدفئة.

كان موسين ميان متعجِّلًا في الخروج من هذه المغارة، وإن كان عمل على إخفاء ذلك؛ لأن العجلة بدت له شعورًا غير مسيحي. وحين خرجا، أوصلتهما العجوز حتى الباب الخارجي، ومعها الشمعة الموقَدة. ولم يكن يُرى في الأنحاء أي أثاث عدا مقعد مكسور الأرجل مسنود إلى جدار. وفي الغرفة الخارجية، كانت هناك في أحد الأركان ثلاث قطع من الحجر، محترقة، وبعض الرماد الخامد. وكان هناك وَتَد في الحائط تتدلَّى منه سترةٌ قديمة. وبدا على القس وكأنما سيقول شيئًا، ولكنه صمت وخرج.

كان الليل قد هبط، وتبدَّت النجوم في الأعالي. وسأل باكو: هؤلاء الناس فقراء، أليس كذلك يا موسين ميان؟

– أجل يا بني.

– فقراء مدقعون؟

– جدًّا.

– أشد أهل القرية فقرًا؟

– من يدري؟ إن هناك ما هو أسوأ بكثير من الفقر. إنهم تعساء لأسباب أخرى.

ولاحظ المساعد الصبي أن القس ليست لديه رغبة في هذا الحديث.

سأل: لماذا؟

– إن لهم ابنًا كان يستطيع أن يساعدهم، إلا أنني سمعت أنه الآن في السجن.

– هل قتل أحدًا؟

– لا أدري. ولكني لا أُدهَش إن كان قد فعل.

ولم يكن باكو ليستطيع صمتًا. كان يسير بغير هدًى على أرض غير مستوية. وقال الصبي وهو يتذكَّر المريض: إنه يُحتَضر لأنه لا يستطيع التنفُّس. وها نحن نرحل وسيبقى هناك وحيدًا.

وسارا، وبدا موسين ميان في غاية التعب. وأضاف باكو: حسنًا. حمدًا لله أن زوجته بجانبه.

كانت لا تزال هناك مسافة كبيرة تفصل بينهما وبين أول البيوت في القرية. وقال موسين ميان للصبي إن عاطفته هي عاطفة إنسانية، وإنه يملك قلبًا كبيرًا. وسأل الصبي بعد ذلك عمَّا إذا كان السبب في عدم قيام أحد بزيارة هؤلاء الناس يرجع إلى فقرهم أم لأن لهم ابنًا في السجن. وعندها أكَّد موسين ميان — رغبةً منه في تغيير موضوع الحديث — أن المريض سوف يموت بين لحظة وأخرى ويصعد إلى السماء حيث يُصبح سعيدًا هناك. وتطلَّع الصبي إلى النجوم.

– لا يمكن أن يكون ابن ذلك المُحتَضر على قدر كبير من الشر أيها الأب ميان.

– لماذا؟

– لو أنه كان شريرًا لكان لدى أبويه أموال وفيرة. كان سيسرق ويعطيهما.

ولم يشأ القس أن يرد. ومضيا يغذَّان السير. وشعر باكو بالسعادة إذ اصطحب القس في مهمته. وكانت صداقته له تُضفي عليه نوعًا من السلطة، رغم أنه لم يكن ليستطيع تحديد شكل هذه السلطة.

ومضيا في سيرهما دون أن يعودا إلى الحديث، ولكن حين وصلا إلى الكنيسة، عاد باكو يقول: لماذا لا يزوره أحدٌ يا موسين ميان؟

– وما أهمية ذلك يا باكو؟ إن الذي يقترب من الموت سواء كان غنيًّا أم فقيرًا يكون دائمًا وحيدًا حتى لو ذهب الآخرون لزيارته. هكذا هي الحياة، وإن الله الذي خلقها يعرف سر ذلك.

وتذكَّر باكو أن المريض لم ينطق بحرف، ولا العجوز هي الأخرى. وفوق ذلك، كانت قدما المريض كأنما قُدَّتا من خشب، مثل خشب تماثيل المسيح المكسورة والملقاة في غرفة المهملات.

وأودع القسيس كيس الزيوت المقدسة مكانه. وقال باكو إنه سيذهب ليُخطر الجيران بحالة المريض حتى يذهبوا لزيارته، ولكي يقدِّموا لزوجته يد المساعدة، وإنه سيذكر لهم أنه قد جاء إليهم من طرف موسين ميان حتى لا يرفض أحد الذهاب. ولكن القس نبَّهه إلى أن من الأفضل له أن يعود إلى بيته، وقال: «حين يسمح الله بالفقر والألم، فلا بد أن هناك سببًا لذلك.» وأضاف: وماذا بإمكانك أنت أن تفعل؟ إن تلك الكهوف التي رأيتها مواضع بائسة، ولكن هناك أماكن أشد بؤسًا في القرى الأخرى.

وذهب باكو إلى منزله بعد أن داخَلَه شيء من الاقتناع بهذا الكلام، ولكنه أشار إلى موضوع الرجل الذي يُحتضَر مرتين أو ثلاث مرات على مائدة العشاء، وقال إنه لم يكن يوجد في تلك المغارة ولا القليل من الحطب لإشعال النيران. ولم يقل الوالدان شيئًا. كانت أمه تروح وتغدو. قال باكو إن الرجل المسكين المُحتضَر لم يكن لديه ولا حتى وسادة لأنه كان يرقد فوق ألواح خشبية. وأمسك الأب عن قَطع رغيفه وتطلَّع إليه وقال: «إنها آخر مرة تذهب إلى موسين ميان لأداء طقوس المسح الأخير لأي شخص.»

ورغم ذلك لم يكفَّ الصبي عن الكلام، فذكر أن المريض له ابن في السجن، ولكن ذلك ليس ذنب الأب.

– ولا ذنب الابن هو الآخر.

وانتظر باكو أن يُضيف الأب شيئًا إلى ما قاله ولكنه غيَّر الحديث إلى موضوعات أخرى.

وكان يوجد في تلك القرية، مثلها في ذلك مثل جميع القرى الأخرى، مكانٌ في الأطراف يدعوه الفلاحون «مسقط الشمس»، وهو يقع في أسفل ستارة صخرية حيث تسطع الشمس، كان ذلك الموقع دفيئًا في الشتاء وطريًّا في الصيف. وكانت النسوة المدقعات يذهبن إليه، وغالبًا ما يَكُن من العجائز، حيث يمضين الوقت في الحياكة والتطريز والثرثرة عن كل ما يحدث في الدنيا.

وكان ذلك المكان يزدحم دائمًا في الشتاء، مثل عجوز تمشِّط شعر حفيدتها، أو «خيرونيما»، التي تملؤها البهجة دائمًا حين تغشى «مسقط الشمس»، وسرعان ما تنقُل بهجَتها إلى النسوة الأخريات، وأحيانًا، حين يبدو لها «مسقط الشمس» مثيرًا للملل، تنهض وترقص وحدها، هكذا منفردة، دونما خجل وهي تتبع إيقاع دقات أجراس الكنيسة.

وكانت «خيرونيما» هي التي أشاعت خبر العطف الذي أحسَّه باكو تجاه أسرة المحتضر؛ وأسهبت في الحديث عن إنكار موسين ميان منح الأسرة أي مساعدة. وقد بالغت في ذلك الحديث كيما تؤثِّر في سامعيها، كما تناولت الحظر الذي فرضه والدا الصبي عليه. وقد زعمت روايتها أن والد باكو قال لموسين ميان: «من الذي سمح لك أن تصحب الصبي لإجراء مراسم المسح الأخير؟»

وكان كل ذلك مجرد أكاذيب، غير أن أهل «مسقط الشمس» كانوا يصدِّقون كل ما تقوله لهم خيرونيما، التي كانت تتحدَّث باحترام عن كثير من الناس، ليس بينهم بكل تأكيد عائلتا السيد فاليريانو والسيد جومرسيندو.

وها هو موسين ميان، بعد ثلاثة وعشرين عامًا، يتذكر تلك الأحداث، ويتنهَّد من تحت ملابسه الفضفاضة، وهو ينتظر، مائلًا برأسه إلى الحائط حيث البقعة الداكنة، اللحظةَ التي يبدأ فيها القُداس. وجال بخاطره أن تلك الزيارة التي قام بها باكو إلى كهف المُحتضَر قد تركت أثرَها البالغ في كل ما وقع له من أحداث بعد ذلك. وأضاف في شيء من الحيرة: «ولقد ذهب معي. أنا الذي اصطحبته.»

ودخل المُساعد إلى غرفة المقدسات وقال: لم يأتِ أحدٌ حتى الآن يا موسين ميان.

وكرَّر تلك العبارة؛ لأن القس كان مغمض العينين كأنما لم يسمع شيئًا.

ثم تلا المساعد بينه وبين نفسه أجزاءً أخرى من المَوَّال حسبما كان يتذكَّره:

… كانوا يبحثون عنه في الجبال
ولكنهم لم يعثروا له على أثر،
وانطلقوا إلى بيته بكلاب الأثر؛
كيما يشموا رائحته في ملابسه القديمة.

كانت النواقيس ما تزال تُقرَع. وعاد موسين ميان بذاكرته إلى باكو، كأنما هو أجرى التناول المقدس الأول له أمس فحسب.

وبعدها بفترة أخذ جسدُ الصبي ينمو، وما هي إلا ثلاث أو أربع سنوات حتى كان يضارع أباه طولًا. وبدأ الناس الذين كانوا ينادونه بألقاب التدليل حتى ذلك الوقت ينعتونه باسمه، باكو صاحب الطاحونة. وكان جده الأكبر يمتلك طاحونةً لم تعد تعمل، وكانوا يستعملونها آنذاك مخزنًا للغِلال. وكان له هناك أيضًا قطيع صغير من الماعز. وحين وُلدت العنزات في إحدى المرات، حمل باكو عنزةً وليدة إلى موسين ميان تركها ترعى في بستان الأبرشية.

وأخذ الفتى يبتعد شيئًا فشيئًا عن موسين ميان؛ فلم يكن الآن يصادفه أبدًا في طريقه، كما لم يعد لديه متسع من الوقت لكي يذهب خصوصًا لزيارته. كان يحضر قُدَّاس الآحاد، وإن كان يتغيَّب عنه عدة مرات في الصيف، كما كان يعترف للقس، ويتناول القربان المقدس في أيام الفصح من كل عام. ورغم أن الشعر لم يكن قد نبت بعدُ على خدي الفتى، إلا أنه كان ينحو منحى الكبار في تصرُّفاته؛ فلم يقتصر الأمر على ذهابه دونما وَجَل إلى المغسل للاستماع إلى حديث الصبايا هناك، بل كان أحيانًا يبادلهن المزاح والمعاكسات في جَسَارة تتجاوز الحدود. وكان الموضع الذي تذهب إليه الصبايا للغسيل يُدعى «ساحة المياه»، وكان اسمًا على مسمًّى؛ إذ إنه عبارة عن ميدان فسيح تحتل ثلثيه بركةٌ عميقة. وفي أصائل الصيف الحارة، اعتاد بعض الفتية الذهاب إلى هناك للسباحة في البركة وهم عراة تمامًا. وكانت الغسالات يتظاهرن بالخَفَر والحياء، وإن كان خَفَرهن لا يتعدى مجرد الاحتجاج. كانت صيحاتهن وضحكاتهن، والعبارات اللاتي يتبادلنها مع الفتية، تفضح البهجة البدائية التي يشعرن بها، بينما اللقالق تصطفق مناقيرها في البرج العالي.

وتوجَّه باكو صاحب الطاحونة يومًا إلى هناك للسباحة، واستعرض نفسه هناك كما يحلو له أكثر من ساعتين وسط مزاح الغسالات اللاتي استفززنه بكلماتهن وإهاناتهن الأنثوية ذات المغزى الذي يُقصد منه المديح. وبدا له ذلك كالخطوة الأولى في «تدشينه» لحياة الفِتية العُزَّاب. وبعد تلك الواقعة، أصبح والداه يسمحان له بالخروج ليلًا والعودة بعدما يكونان قد ناما.

وكان باكو يتحدَّث مع والده أحيانًا في مسائل الموارد المالية للأسرة، وتكلَّما يومًا في أحد الموضوعات الهامة وهو موضوع إيجارات المراعي في التلال، التي كانت تُكلِّفهم أموالًا طائلة. كانوا يدفعون مبلغًا سنويًّا مقابل الرعي في تلك التلال إلى أحد الدوقات الشيوخ، الذي لم تطأ قدماه القرية قط. وكان ذلك الدوق يقبض مثل تلك الإيجارات من فلاحي خمس قرًى مجاورة كذلك. وكان باكو يرى أن ذلك ليس من العدل في شيء.

«فلتسأل موسين ميان إذا كان ذلك عدلًا أم لا؛ فهو صديق السيد فاليريانو وكيل أعمال الدوق في القرية. اذهب لترى ما سيقول لك.»

وبكل سذاجة، ذهب باكو إلى القس ووجَّه إليه هذا السؤال، وردَّ عليه القس: ما الذي يُهمُّك من ذلك يا باكو؟

وتجرَّأ باكو وقال له — وكان قد سمع ذلك من أبيه — إن هناك أُناسًا في القرية يعيشون عيشةً أدنى من الحيوانات، وإنه من الممكن عمل شيء للتخفيف من البؤس الذي يعانونه. قال موسين ميان: «أي بؤس؟ هناك بؤس في أماكن أخرى أكثر من هنا.» وبعد ذلك وجَّه إليه لومًا شديدًا على قيامه بالسباحة في ساحة المياه أمام أنظار الفتيات. وفي ذلك الأمر، لم يستطع باكو أن يرد بكلمة.

وأخذ الفتى يكتسب نوعًا من الرصانة ومتانة البنية على مر الأيام. وكان يذهب أيام الآحاد في الأصيل ليلعب بالزجاجات الخشبية، مرتديًا بنطالًا جديدًا من القطيفة، وقميصًا أبيض، وصديريًّا مزيَّنًا برسوم الأزهار. وكان يصل إلى أسماع موسين ميان، إذ يقرأ في كتاب صلواته بالأبرشية، صوتُ الزجاجات الخشبية وهي تصطفق بعضها ببعض، ورنينُ النقود النحاسية وهي تسقط على الأرض حين يُلقي الفتية مُراهناتهم. وكان يخرج أحيانًا إلى الشرفة، فيرى باكو وقد نما عوده، فيقول في نفسه: ها هو. يبدو أنه لم يمرَّ سوى يوم واحد منذ أقمت له مراسم التعميد.

وجال في خاطر القس في حزنٍ أن هؤلاء الفتية ما إن يشبون عن الطوق حتى يبتعدوا عن الكنيسة، ولكنهم يعودون إليها عند بلوغ سن الشيخوخة من تأثير الخوف من الموت. أما في حالة باكو، فقد نزل به الموت قبل أن يصل إلى سن الشيخوخة بوقت طويل. وتذكَّر موسين ميان ذلك وهو يقف في غرفة المقدسات وقد شرد ذهنه وغرق في ذكرياته بينما ينتظر لحظة البدء في مراسم القُدَّاس. وكانت النواقيس ما تزال تُقرع في أعلى البرج. وقال المساعد فجأة: لقد دخل السيد فالريانو الكنيسة لتوه يا موسين ميان.

وبقي القس على حاله مغمض العينين، يسند رأسه إلى الحائط، وردَّد المساعد سطورًا من المَوَّال:

… وفي أحراش الجبل
هناك … عثروا على باكو.
سلِّم نفسك، سلِّم نفسك للعدالة أو نقتلك من فورك هنا.

ولكن السيد فالريانو كان قد وصل إلى غرفة المقدسات. قال: بعد إذنكما. كانت ملابسه على طريقة أهل الحضر، عدا أن صداره به من الأزرار فوق المعتاد، وعدا سلسلة سميكة من الذهب تتدلى منها حِلْيات عدة ترتطم بعضها ببعض عند سيره. كان السيد فالريانو ذا جبهة ضيقة وعينين مارقتين، وشارب يتهدَّل طرفاه بحيث يُغطِّيان حافتَي الفم. وكان يستخدم كلمة «مصاريف» حين يتحدَّث عن دفع نقود؛ فقد بدت له كلمةً مميزة. ولمَّا رأى أن موسين ميان قد ظلَّ مغمض العينين دون أن يُلقي بالًا إليه، جلس وقال: يا موسين ميان، لقد قلت يوم الأحد الماضي في موعظتك إنه يجب أن ننسى. إن النسيان ليس سهلًا، ولكن ها أنت تجدني أول الحاضرين.

وأكَّد القس هذا الكلام بإيماءةٍ من رأسه دون أن يفتح عينيه. وأضاف السيد فالريانو بعد أن وضع قبعته على أحد المقاعد: سوف أدفع نفقات القداس، إلا إذا كان لك رأي آخر. قل لي مقدار المصاريف وكل تلك الأشياء.

ورفض القس ذلك بإيماءة من رأسه وظل مغمض العينين. وجال في خاطره أن السيد فالريانو كان واحدًا ممن شاركوا أكثر من غيرهم في النهاية الأليمة التي لاقاها باكو. كان وكيل أعمال الدوق، كما كان هو نفسه من مالكي الأراضي. وعاد السيد فالريانو يتحدَّث وقد غمره نوع من الرضا الذاتي كعادته: أعود فأقول إنه يجب أن ندع الأحقاد جانبًا. إنني في هذا أنحو منحى والدي رحمه الله.

وتردَّد صوت باكو في ذاكرة موسين ميان. تذكَّر اليوم الذي تزوَّج فيه. لم يُقبل باكو على الزواج هكذا دونما تبصُّر كما يفعل الفِتية الآخرون في فورةٍ من فورات الشباب المبكِّر، بل أجرى ترتيباته على مهل وبحسن اختيار. وكان ما يُقلق أسرة باكو في المحل الأول هو الجندية. كانت إمكانية اختيار اسم باكو في القرعة العسكرية وذهابه لتأدية فترة التجنيد الإجباري تؤرِّق الجميع. واستثارت الأم القس بشأن ذلك فنصحها بأن تطلب العون من الله وأن تجتهد لتستحق عطفه بما تقوم به من أعمال الخير. واقترحت الأم على ابنها عند حلول الأسبوع المقدس أن يخرج في موكب العُصاة التائبين يوم الجمعة الحزينة حافي القدمين يجر وراءه السلاسل الثقيلة المعقودة إلى كاحليه. ولكن باكو رفض ذلك. كان قد شاهد أولئك التائبين في الأعوام السابقة، وكانت السلاسل التي يُقيِّدون بها أقدامهم طولها ستة أمتار وترن فوق البلاط أو على الأرض المنَدَّاة بصوت أجوف رهيب. كان البعض يكفِّر بهذا عن خطايا لا يعلم كُنهها إلا الله، ويكشفون عن وجوههم بأمر القس حتى يعرفهم الجميع. أما البعض الآخر فكان ينتظم في ذلك الموكب ليكتسب فضلًا من الله ليس غير؛ ولذلك كان أفراده يفضِّلون تغطية وجوههم.

وحين كان الموكب يعود إلى الكنيسة عند مهبط الظلام، كانت كواحل التائبين تسيل منها الدماء. وحين يخطون بقدمهم يُلملِمون جسدهم على الناحية المقابلة لتلك القدم ويميلون به كأنهم حيوانات مُنهَكة. وكانت الأغاني التي تصدح عن التوبة والتكفير تتردَّد مع رنين السلاسل فتُحدث تناقضًا غايةً في الغرابة. كما كان صَخَب السلاسل يزداد تحت أقواس الكنيسة حين يبدأ التائبون في الدخول إلى ردهة المعبد. وفي تلك الأثناء، تدق النواقيس الخشبية في أعلى البرج. وكان باكو يذكر أن التائبين الشيوخ يتركون وجوههم مكشوفةً دائما، فكانت النسوة يلقين بتعليقات غاية في السخافة حين يرونهم يمرون في الموكب. كانت خيرونيما تقول مثلًا: «انظروا! ها هو «خوان» الذي يسكن في شارع «القديسة آن»، ذلك الذي سرق أرملة «الترزي».» وكان العرق يتصبَّب من جبين التائب عند سماعه ذلك، ويجر سلاسله في تثاقل. وكانت نسوة أخريات يرفعن أيديهن إلى أفواههن ويقلن: «هذا هو «خوان» صاحب الأبقار، ذلك الذي دسَّ السم لأمه كيما يرثها.»

وعلى هذا فقد قرَّر والد باكو — وهو الذي لم يكن يُقيم كثيرَ وزن للأمور الدينية — أن يسير هو في موكب التائبين وأن يُقيِّد كاحليه بالسلاسل ويتغطَّى بالحُلة السوداء والطُّرطور، ويعقد الحبل الأبيض على خاصرته. ولم يستطع موسين ميان أن يفهم مغزى ذلك، وقال لباكو: «إن ما يفعله أبوك ليس له قيمة؛ لأنه إنما يفعل ذلك حتى لا يُضطَر إلى أن يؤجِّر مساعدًا له إذا أنت ذهبت للجندية.» ونقل باكو تلك الكلمات إلى والده، الذي تساءل وكان ما يزال يعالج جروح قدميه التي أحدثتها السلاسل بالملح والخل: أعتقد أن موسين ميان يُحب الكلام أكثر من اللازم. وما حدث هو أن باكو لم يقع عليه الاختيار في القرعة العسكرية، وعمَّ الفرح جميع أهل بيته، حتى إنهم اضطُروا إلى إخفاء ذلك في الناحية حتى لا يجرحوا مشاعر الفِتية الذين اختيروا للتجنيد.

وكان أهم ما يميِّز خطيبة باكو في رأي أهل القرية خِفَّتها ونشاطها في العمل. وقبل أن تُعقد خطبتهما بنحو عامين، اعتاد باكو أن يمر بمنزل الصبيَّة في ذهابه إلى الحقل، فكان يرى الملاءات معلقةً على النوافذ، رغم أن الوقت يكاد يكون فجرًا، والأرض أمام المنزل مكنوسة نظيفة، بل ومرشوشة بالماء رطبة في أيام الصيف. وكان باكو يرى الفتاة أحيانًا. وعلى مر عامين، اتخذت التحيةُ التي يلقي بها إليها شكلًا صريحًا. وتبادلا بعد ذلك كلمات قليلةً حول «أمور الحقل»؛ فمثلًا، كانت تسأله في شهر فبراير «هل شاهدت طیور القُنبُرة؟» فيرد باكو «كلا، ولكنها لن تتأخر في الظهور؛ فقد بدأت زهور الوزال تينع.»

ويومًا آخر، يخشى باكو ألَّا يجدها على باب منزلها أو في النافذة عند مروره، فيعلن عن مقدمه بالصياح على البغال ليحثها على السير، أو بالغناء إن لم يكن هذا كافيًا. وعند منتصف السنة الثانية، أصبحت هي الأخرى — وكانت شمس «أجويدا» — تتطلع إليه وتهش في وجهه. وكانت تذهب مع أمها إلى حلقة الرقص بالقرية، ولا تراقص إلا باكو.

ثم وقعت حادثة كان لها صدًى واسع؛ فقد أصدر عمدة القرية أمرًا بحظر جماعات الشباب التي تطوف لإنشاد الأغاني الغرامية ليلًا، وذلك عندما علم أن هناك ثلاث فرق من تلك الجماعات تتنافس فيما بينها ممَّا قد يُسفِر عن مظاهر عنف. ورغم ذلك الحظر، خرج باكو مع جماعة، ففرَّقهم رجلان من الشرطة وقبضا على باكو، وأخذاه ليقضي ليلةً في «التخشيبة»؛ ولكن «باكو» استولى على أسلحة الرجلين وأخذها عنده. والحقيقة أن الحارسين لم يكونا ينتظران من باكو — وهو صديق لهما — أن يفعل ما فعل. وذهب باكو بالبندقيتين إلى داره. وما إن حلَّ الصباح حتى علم كلُّ من في القرية بما حدث. وذهب موسين ميان لمقابلة الفتى وقال له إنه قد أتى أمرًا إدًّا لا يعود ضرره عليه فقط وإنما على كل الجوار. وسأله باكو: لماذا؟ وأجاب موسين ميان بأنه يذكر أنه قد حدث شيء مماثل في قرية أخرى فما كان من السُّلطات إلا أن أمرت بحرمان القرية من رجال الشرطة لمدة عشر سنوات. وأضاف القس في فزع: أتدري مغبة ذلك الأمر؟

– أنا لا يُهمني الحرمان من رجال الشرطة.

– لا تكن أحمق.

– إني أقول الحق يا موسين ميان.

– ولكن هل تعتقد أنه يمكن كبح جماح الناس دون وجود رجال الشرطة؟ إن الدنيا مليئة بكثير من الشرور.

– لا أعتقد ذلك.

– وما قولك في الناس الذين يسكنون المغارات؟

– بدلًا من إحضار الشرطة يا موسين ميان، يمكن إزالة تلك المغارات بحالها.

– غرير. ما أنت إلا شاب غرير.

وتمكَّن العمدة آخر الأمر من استرداد البندقيتين، وأسدل على الأمر ستارًا من الكتمان. وخلعت تلك الواقعة صفة الجسارة على باكو، وكان ذلك يملأ قلب «أجويدا» بالسرور وإن خالجها شيء من الخوف والقلق.

وأخيرًا عُقدت خطبة باكو وأجويدا، وأثبتت الفتاة أنها أشد احتمالًا من حماتها، ولم تكونا متفقتَين على الرغم من إظهار الفتاة لاحترامها وخضوعها، وكثيرًا ما كانت أم باكو تقول له: إنها ماء من تحت تبن. احذر يا بني، فهي ماء من تحت تبن.

ولكن باكو لم يكن يأخذ قولها على محمل الجد، بل بوصفه غيرةً طبيعية تشعر بها الأم نحو زوجة ابنها. وكان يخرج ليطوف الليل مغنيًا مع جماعته، ككل الفتية المغرمين. وفي ليلة «سان خوان» في شهر يونيو، ملأ بالزهور والأغصان الخضراء نوافذ منزل العروس وبابه وسطحه، بل وحتى المدخنة.

وكان حفل الزفاف على نحو ما توقع الجميع؛ فقد مُدَّ السِّماط، وعُزفت الموسيقى، وحمي الرقص. ومن قبل عقد مراسم الزواج، تلطَّخت عدة قمصان بيضاء ببقع النبيذ؛ إذ أصرَّ الشاربون على تناوله مباشرةً من القِرَب الجلدية كالعادة. واحتجَّت الزوجات، ولكن الرجال قالوا وهم يضحكون إنه لا بد أن تسكر القمصان حتى يمكن أن يهبوها بعد ذلك للفقراء. وكانوا — بقولهم تعبير «وهبها للفقراء» — يتوهَّمون أنهم ليسوا منهم.

وفي أثناء الاحتفال، ألقى موسين ميان محاضرةً على العروسين، فأعاد إلى ذاكرة باكو أنه هو الذي عمَّده وأجازه في العماد وأعطاه التناول المقدس الأول. ولمَّا كان يعلم أن العروسين ليسا من المتديِّنين المتحمِّسين؛ فقد ذكَّرهما أيضًا بأن الكنيسة هي الأم المشتركة ونبع الحياة الأرضية والحياة الأبدية أيضًا. وبكت بعض النسوة ونشجن بصوتٍ عال، كما يحدث دائمًا في حفلات العرس.

وتناول موسين ميان أشياء أخرى عديدةً في حديثه، وقال آخر الأمر: إن قس الرب هذا قد بارك مهد مولدكما، وهو يبارك الآن مهدكما الزوجي (ورسم علامة الصليب في الهواء)، وسوف يبارك مهدكما الأخير، حين يأمر الله بذلك. باسم الأب والابن …

وبدا لباكو أن تلك الإشارة إلى المهد الأخير لم تكن في محلها. وعادت إلى ذاكرته حشرجات ذلك الرجل المسكين الذي حمل إليه الزيت المقدس حين كان صبيًّا (وكان ذلك هو المهد الأخير الوحيد الذي رآه في حياته)، ولكن المناسبة لم تكن تحتمل أي نوع من الأحزان.

وبعد أن انتهت مراسم الزواج خرج الجميع؛ وعند الباب كانت تنتظرهم فرقة موسيقية مكوَّنة من خمسة عشر شابًّا مع أدواتهم: القيثارة والعود والأبواق والصاجات والدفوف، وأخذوا يعزفون في حماس وحمية. وفي أعلى البرج، كان الجرس الصغير يدق.

وصاحت إحدى الصبايا حين شاهدت موكب العرس يمر وكانت تحمل جرةً على عجزها: الجميع يتزوَّجون، وأنا أيضًا، انظروا!

وتوجَّه الموكب إلى منزل العريس. وكانت أُمَّا العروسين ما زالتا تتباكيان على فراق الأبناء. وغيَّر موسين ميان ملابسه بسرعة في غرفة المقدسات لكي يذهب للاشتراك في الحفل. وقابل الإسكافي وقد ارتدى حلة المناسبات أمام منزل العريس. كان ضئيل الجسم عريض العجز ككل أبناء مهنته. وكان موسين ميان يعامله بشيء من التحفُّظ رغم أنه كان يرفع الكُلفة بينه وبين الجميع. وسأله عمَّا إذا كان قد حضر المراسم في بيت الله.

– انظر يا موسين ميان، لو أن هذا كان حقًّا بیت الله فإني لا أستحق أن أُوجد فيه. أما إذا لم يكن كذلك، فلماذا أذهب إليه؟

وقد وجد أمامه متسعًا من الوقت كيما يُضيف إلى قوله شيئًا آخر يفوق الحد. قال له إنه قد علم من مصدر موثوق به أن العرش يهتز من تحت الملك، وأنه لو سقط الملك فهناك أشياء كثيرة ستسقط معه أيضًا. ولمَّا كانت رائحة النبيذ تنبعث من فم الإسكافي فإن القس لم يُقِم وزنًا لِمَا قاله. وراح الإسكافي يردِّد في مرح غريب: إن رياح التغيير تهب في مدريد يا سيدي القس.

كان يمكن أن يكون ما قاله الإسكافي على شيء من الصحة، غير أنه كان يُفضفض عن نفسه بالحديث، ولم يكن هناك من شخص يضارعه في تلك الطريقة إلا «خيرونيما». كان الإسكافي كالقط العجوز، ولم يكن صديقًا ولا عدوًّا لأحد، بالرغم من أنه كان يتحادث مع الجميع. وتذكَّر موسين ميان أن صحيفة عاصمة الإقليم لم تُخفِ جزعها لِمَا يحدث في مدريد. ولم يكن يدري في أي ناحية يجب أن تتجه أفكاره. لاحظ القس أن العروسين يتصرَّفان برزانة، أمَّا المدعوون فكانوا من الشباب الصاخب، كما كانت البهجة تُسيطر على المسنين من الحاضرين، ولكن كلمات الإسكافي لم تفارق ذهنه. وكان الإسكافي قد ارتدى — كما يزعم — نفس الحُلَّة التي ارتداها يوم عرسه؛ ولذلك كان يفوح منها رائحة الكافور. وتجمَّع حوله ستة أو ثمانية من المدعوين، كانوا هم أقل الناس تردُّدًا على الأبرشية. وناجى موسين ميان نفسه قائلًا: لا بد أنهم يتحدثون عن سقوط الملك الوشيك، وأنه في مدريد تهب رياح التغيير.

وبدءوا يقدِّمون النبيذ. وعلى إحدى الموائد، اصطفت أطباق الفلفل المتبَّل وكبد الدجاج وقطع اللفت المُشبَّع بالملح والخل، وهي تُقدَّم كفواتح للشهية. وتناول الإسكافي من هذه الأصناف بينما كان يختار من بين الزجاجات التي اصطفَّت جانبًا. وقالت له أم العريس وهي تُشير إلى إحدى الزجاجات: هذا النبيذ من النوع الذي يُطير العقل.

واصطفت الموائد في الردهة الجانبية. وفي المطبخ كانت خيرونيما تُجرِّر قدمها التي أثقلها الروماتيزم. كان الزمن قد نال منها، ولكنها كانت ما تزال قادرةً على إثارة الضحكات بين الشباب. كانت تقول: إنهم لا يدعونني أخرج من المطبخ من فرط خشيتهم أن تؤدِّي أنفاسي إلى زيادة النبيذ مرارة، ولكني لا أهتم بذلك؛ فالمطبخ عامر بأطيب الأصناف. وأنا أيضًا أعرف كيف أستمتع بالحياة؛ فلم أتزوَّج، ولكني نلت جميع الرجال الذين عشقتهم دون المرور على الكنيسة. عزباء عزباء ولكن معي مفاتيح الرجال!

وتضاحكت الفتيات وقد علتهن حُمرة الخجل.

وحضر إلى المنزل السيد كاستللو بيريث، وأحدث حضورُه دهشةً شديدة؛ فلم يكن أحدٌ يتوقَّع ذلك. كان يحمل معه مزهريتين الصيني، ملفوفتين في الورق، ومعقودتين بعناية بخيط من خيوط الهدايا. قال وهو يسلِّمها إلى والدة العروس: لا أدري ما في هاتين اللُّفافتين؛ فهذا من شأن العروس. وحين رأى القسَّ اقترب منه وقال: يا موسين ميان، يبدو أنهم سوف يقلبون الحجة على وجهها الآخر في مدريد. وكان يمكن للقس أن يشك فيما قاله الإسكافي، أما إذا جاء ذلك على لسان السيد كاستللو فليس هناك محل للريبة. وكان ذلك الأخير وهو الرجل الذكي ينشد فيما يبدو صداقة باكو صاحب الطاحونة، فلأي هدف يفعل ذلك؟ لقد سمع القس عن انتخابات يعتزمون إجراءها. وردًّا على تساؤلات القس قال السيد كاستللو مراوِغًا: ما هي إلا شائعات تُثار. وبعد ذلك صاح في بهجة مُوجِّهًا الكلام إلى والد العريس: ليس ما يُهمنا ما إذا كانوا سيُنصِّبون ملكًا أم سيخلعونه، ولكن المهم هو أن نعرف حقًّا ما إذا كان الصقيع سيُساعد على إنضاج الكروم. فليقل لنا باكو ما يراه في هذا الأمر. فصاح أحدهم: وما شأن باكو بالكروم في يوم كهذا؟!

وكان السيد كاستللو بمظاهره البسيطة شخصيةً قوية، وكانت قوته تظهر في ملامح عينيه الباردتين الفاحصتين. وكان حين يتوجَّه إلى القس بالحديث يُمهِّد لكلامه قبل أن يعرض للموضوع الذي يريده بقوله: «بكل مظاهر الاحترام الواجب …» ولكن كان يبدو جليًّا أن ذلك الاحترام لم يكن متأصِّلًا. وتوافد مدعوون جدد، وبدا كأن الجميع قد وصلوا. وبدون أن يشعروا، كان كل واحد منهم يقف بحسب دائرته الاجتماعية. كان الجميع يصطفون إلى جوار الحائط حول الردهة، واقفين على أقدامهم ما عدا القس. كانت أهمية كل شخص — وهذه تُحدِّدها ممتلكاته — تُحدِّد قُربه أو بُعده من رأس الحجرة التي وُضع عندها كرسيان هزازان وصوان زجاجي به عباءات من قماش المانيلا ومراوح من العقيق، وهي أشياء كانت الأسرة تزهو بامتلاكها. وفي جانب، كان موسين ميان يجلس على أحد الكرسيين الهزازين، وبالقرب منه وقف العروسان يتقبَّلان هدايا من يصل من المدعوِّين ويتفقان مع صاحب سيارة الأجرة في القرية على أجر الرحلة إلى محطة السكة الحديد. قال صاحب السيارة، وكان مُصرَّحًا له بالعمل من قِبَل هيئة البريد، إنه ممنوع عليه حمل أكثر من شخص في العربة، ولمَّا كان قد اتفق مع أحدهم على حمله من قبل، فبهذا سيكون بالعربة ثلاثة أشخاص إذا أخذ معه العروسين. وتدخَّل السيد كاستللو وعرض أن يحملهما في سيارته الخاصة. وحين سمع القس ذلك العرض انتبهت حواسه؛ فلم يكن يعتقد أن كاستللو يُكِن مثل هذه الصداقة لهذه الأسرة.

واستغلَّت خيرونيما الصبايا اللاتي يخدمن رائحاتٍ غاديات، فكانت تُرسِل معهن رسالات هجاء وإغاظة إلى الإسكافي، الذي كان يفسِّر الأمر لمن يحيطونه قائلًا إن لدينا أنا وخيرونيما وسائل اتصال غرامية. وفي تلك اللحظة بدأت فرقة موسيقية تعزف أمام المنزل. وغنَّى أحدهم:

في أعين العروسين تضوي نجمتان؛
فالعروس زهرة من أزهار الورد،
والعريس زهرة من أزهار الياسمين.

أما الأغنية الثانية التي جاءت بعد وقت طويل استغرقته رقصة شعبية بهيجة، فقد عادت للإشارة إلى العرس كما هو طبيعي، وكانت تقول:

عاش باكو صاحب الطاحونة
وأجويدا ذات السحر والجمال،
لقد كانا بالأمس فقط خطيبين،
وها هما الآن زوجان سعيدان.

واستمرَّت الفرقة تعزف بنفس الحماس المعتاد من القرويين ذوي الأيدي القوية والقلوب الدافئة. وحين اقتنعوا أنهم عزفوا بما فيه الكفاية، بدءوا يدخلون إلى المنزل وشكَّلوا جماعةً في الطرف الآخر لرأس الصالون وانهمكوا في الشراب والحديث. وبعد ذلك توجَّه الجميع إلى غرفة الطعام.

وفي الصدارة، أجلسوا العروسين والإشبينين وموسين ميان والسيد كاستللو وبعض المزارعين الآخرين من ذوي الثراء. وتحدَّث القس عن طفولة باكو وحكى عن بعض مقالبه، ولكنه تحدَّث أيضًا عن ثورته ضد البوم الذي كان يقتل القطط الشاردة في الليل، وعن رغبته في إرغام كل أهل القرية على زيارة الفقراء من سُكان المغارات ومدِّ يد العون لهم. وحين تحدَّث عن ذلك الأمر، رأى عينَي باکو تُظلُّهما جدية مليئة بتحفُّظات متأسية؛ ولذلك فقد بادر إلى تغيير الموضوع، وذكر في طيبة حادثة المسدس بل وألمح أيضًا إلى مغامراته في ساحة المياه.

ولم يغب طبق السمان المتبَّل عن مائدة الزفاف، ولا السمك المشوي ولا الديك المحشو. وكانت الأيدي تتناقل زِقاق وزجاجات وكئوس النبيذ من جميع الأصناف.

ووصلت أنباء حفلة الزفاف إلى «مسقط الشمس»، حيث شربت النسَّاجات العجوزات في صحة العروسين من النبيذ الذي حملته لهن خيرونيما والإسكافي. وكان ذلك الأخير أشد بهجةً وتحررًا في كلماته عن المرات السابقة. وقال إن القساوسة هم الأشخاص الوحيدون الذين يدعوهم الجميع بالأب عدا أبنائهم؛ فهم يدعونهم بلفظ مخالف. وألمحت العجائز إلى العروسين: لقد أخذت الليالي تشتد برودة، وهذا مناسب جدًّا للنوم بصحبة شخص آخر.

وذكرت إحداهن أنها حين تزوَّجت كان الثلج يصل إلى الرُّكَب. فقالت أخرى: هذا شيء سيئ للعريس.

– لماذا؟

– لأنه سيكون مقشعر الجسد مع كل هذه البرودة. فصاحت خيرونيما: وأنت، يا عجوز الغبراء، حين تترمَّلين عليكِ أن تُعطيني شيئًا من عندك.

فبدأ الإسكافي يوجِّه إليها كلامًا غايةً في البذاءة، وكان يهدف من وراء ذلك إلى إضحاك الآخرين أكثر منه إهانة خيرونيما: اخرسي، يا سوط الشيطان، يا حجر المِسَن، أيتها البرذعة، أيتها الدعية العجوز الحيزيون، يا ممسحة الأرض. اخرسي؛ فإني أحمل إليك نبأً سارًّا، فإن صاحب الجلالة الملك قد ذهب وحملته المصيدة.

– وماذا يهمني أنا من ذلك؟

– ذلك أن الجمهورية لا تعاقب الساحرات.

وكانت خيرونيما تقول عن نفسها إنها تطير على يد مكنسة، غير أنها لم تكن لتسمح للغير أن يقول عنها ذلك. وكانت على وشك أن ترد عليه حين استطرد الإسكافي في شتائمه: إنني أقول لك ذلك أيتها الدعية القوادة، يا شجرة القرع، يا حمالة الزكائب الحقيرة، يا قبيحة الخِلقة، أيتها التافهة القذرة السائلة المخاط، السارقة …

وانتحت القابلة رُكنًا بينما مضى هو في سيل سِبابه. وانفجرت عجائز مسقط الشمس في الضحكات. وقبل أن تبدأ خيرونيما في ردودها، وكان قد أصابها الارتباك، قرَّر الإسكافي أن ينسحب في غمرة انتصاره. وأرهف سمعه وهو في الطريق ليسمع ما سيقولونه. ووصل إليه صوت خيرونيما تقول: من كان يظن أن مثل هذا الملعون لديه كل هذه الكلمات في جوفه؟!

وعُدن إلى الحديث عن العروسين. كان باكو هو أفضل فتًى في القرية، وقد اختار العروس التي يستحقها. وعُدن إلى تلميحاتهن إلى ليلة الزفاف بتعبيرات شبقة.

•••

وبعد تلك الوقائع بسبع سنوات، أخذ موسين ميان يتذكَّر يوم العرس إذ هو جالس في المقعد العتيق في غرفة المقدسات ولم يفتح عينَيه لكي يتجنَّب بذلك عبء الحديث مع السيد فالريانو عمدة القرية. كان يجد من الصعب عليه دائمًا التفاهم مع ذلك الشخص؛ لأنه كان لا يُنصت أبدًا إلى ما يقوله مُحدِّثه.

وتردَّد في أنحاء الكنيسة وقعُ الحذاء القروي الضخم للسيد جومرسيندو، ولم يكن هناك في الضيعة كلها حذاءٌ يشبه حذاءه ذاك. وعلم موسين ميان أنه صاحب تلك الأقدام قبل أن يظهر بشخصه في غرفة المقدسات. كان يرتدي ثيابًا سوداء؛ وحين رأى القس مغمض العينين، ألقى إلى السيد فالريانو التحية في صوت خفيض، ثم استأذنه أن يدخِّن، وأخرج علبة سجائره. وعندئذ، فتح موسين ميان عينيه.

سأل: هل حضر آخرون؟

فقال السيد جومرسيندو معتذرًا كأنما الخطأ خطؤه: كلا يا سيدي، لم أرَ مخلوقًا آخَرَ في الكنيسة.

وبدا موسين ميان كأن التعب قد حطَّ عليه، وعاد يُغلق عينيه ويرتكز برأسه على الحائط. ودخل عند ذاك مساعد القس، فبادره السيد جومرسيندو متسائلًا: قل لي أيها الفتى، أتعرف لمن يُقام قُدَّاس اليوم؟ وبدلًا من أن يجيبه المساعد، تلا بعض أبيات من المَوَّال:

ها هم يصحبونه بعيدًا
في طريقه إلى المقبرة …

– لا تمضِ في تلاوة ذلك أيها الفتى، وإلا فإن العمدة هنا سوف يُلقي بك في السجن.

فنظر الفتى إلى السيد فالريانو فزعًا، فقال هذا وهو يسبح ببصره في السقف: لكل مزحة زمانها ومكانها.

وهبط صمت ثقيل. وفتح موسين ميان عينيه مرةً أخرى، فاصطدمتا بعينَي السيد جومرسيندو، وكان يُتمتم: الحقيقة أنني لا أدري إذا ما كان عليَّ أن أتعاطف مع كلماته.

فتدخَّل القس قائلًا: إنه لا موجب هناك للتعاطف. وبعدها أمر مساعده بالخروج إلى الساحة ليرى ما إذا كان هناك أحد ينتظر إقامة القداس؛ فقد تعوَّد الناس الانتظار هناك حتى آخر لحظة بعد أن تنتهي الأجراس من دقاتها، غير أن القس كان يريد في الحقيقة أن يتجنَّب أن يمضي المساعد في تلاوة المَوَّال في الموضع الذي يجيء ذِكره هو فيه:

ذلك الصبي الذي قام بتعميده
موسين ميان صاحب المكانة،
ها هو ينصت إلى ذنوبه،
وهو يعترف له أمام العربة.

كان السيد جومرسيندو يتحدَّث دائمًا عن عطفه وسخائه — كما يُقال — وعن نكران الجميل عند الناس الذين يُقابلون طيبته بالشر. وبدا له أنَّ أي مثل ذلك الحديث ضروري في محضر القس والسيد فالريانو. ثم طاف به طیف كرم مفاجئ إذ قال: موسين ميان، أتسمعني أيها القس؟ هاك هذا المبلغ ليُغطِّي تكاليف قُدَّاس اليوم.

وفتح القس عينيه في رزانة، وقال إن السيد فالريانو قد سبق تقدَّم بنفس العرض، ولكنه يُفضِّل أن يُقيم القُدَّاس دون أن يدفع أحدٌ تكاليفه. وأطبق صمت ثقيل بينهم، وأخذ السيد فالريانو يلف سلسلةً حول سبَّابته ثم يتركها تنزلق بعد ذلك، فيصدر رنين عن حِلْياتها الصغيرة. كانت إحداها تحتوي على خُصيلةٍ من شعر زوجته المتوفاة، وأخرى تضم إحدى مُخلَّفات الأب القدسي «كلاريت» كان قد ورثها عن جده الأكبر. وطفق يتحدَّث في صوت خفيض عن أسعار الصوف والجلد، دون أن يُلقي أحدٌ إليه بالًا.

كان موسين ميان ما يزال يستعرض في ذاكرته أحداث عرس باكو، مغمض العينين. كانت إحدى السيدات قد أضاعت قُرطَها في غرفة الطعام، وانحنى رجلان على أيديهما وأرجلهما يبحثان لها عنه. وجال في خاطر موسين ميان أنه دائمًا ما يحدث في الأعراس أن تفقد سيدة ما قُرطها فتبحث عنه ولكنها لا تجده.

واستردَّت العروس نَضَارتها بعد أن زالت عنها مَسحة الشحوب التي استبانت على وجنتيها في الساعات الأولى من الصباح بسبب الأرق الذي أصابها في الليلة الماضية. ومن حين لآخر، كان العريس ينظر في ساعته، وما إن قارب الأصيل على الانتصاف حتى انطلقا إلى المحطة في عربة السيد كاستللو ذاته.

كان معظم المدعوين قد خرجوا إلى الطريق يُودِّعون العروسين بالهتاف وبالمُداعبات. وعاد الكثيرون من ذلك الموضع إلى بيوتهم مباشرة، أما الشباب منهم فقد توجَّهوا إلى المرقص. وتشاغل موسين ميان بمثل هذه الذكريات عن سماع ما كان يقوله السيد جومرسيندو والسيد فالريانو، اللذان كانا يتكلَّمان كعادتهما دون أن يستمع الواحد منهما إلى ما يقوله الآخر.

وعاد باكو وزوجته بعد ثلاثة أسابيع من حفل العرس. وفي يوم الأحد التالي لعودتهما أُجرِيت الانتخابات البلدية. وكان النُّواب الجدد شبانًا، وفيما عدا قلة منهم، كما يقول السيد فالريانو، من الناس الدنيا. وسرعان ما أدرك والد باكو أن جميع من تمَّ انتخابهم كانوا يقفون في صف المعارضة للدوق، ويتحرَّشون بنظام إيجارات المراعي. وشعر باكو صاحب الطاحونة بالسعادة حين أدرك ذلك الأمر، وآمن لأول مرة أن السياسة فيها شيء يُجدي، وأصبح يردِّد: سوف ننتزع الأرض من الدوق.

وأصابت نتيجةُ الانتخابات الجميعَ بدهشة بالغة، فأصبح القس مبلبَل الخاطر؛ فلم يكن هناك واحد من النواب يمكن أن يُقال عنه إنه من الممارسين للطقوس الدينية، واستدعى باكو وسأله: ما هذا الذي قالوه لي عن التِّلال الخاصة بأرض الدوق؟

– لا شيء. إنما هي الحقيقة. لقد أتى زمان جديد يا موسين میان.

– أي أنباء جديدة هذه؟

ذلك أن الملك قد ذهب بموكبه إلى ناحية أخرى، وإن ما أقوله عن هذا الأمر هو: مع السلامة.

وجال في خاطر باكو أن القس إنما قد استدعاه هو لأنه ما كان ليجرؤ على الحديث عن تلك الأمور مع والده. وأضاف: عليك أن تقول الصدق يا موسين ميان. إنك تعلم حقَّ العلم أنه منذ ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه معًا إلى المغامرة نحمل الزيت المقدس، أنني وآخرين نُجاهد كيما نمسح ذلك العار. والآن، ها قد سنحت الفرصة أمامنا.

– أي فرصة؟ إن ذلك يحتاج إلى المال، فمن أين ستأخذونه؟

– من الدوق. يبدو أن عيد النحر قد حان بالنسبة للدوق وزملائه.

– اسكت يا باكو. إني لا أدَّعي أن الدوق على حق دائمًا؛ فهو مخلوق ليس معصومًا من الخطأ، ككل الناس، ولكن يجب التعامل في هذه الأشياء بمنتهى الحرص، فلا يجب إثارة الناس ولا تحريك عواطف الحقد في نفوسهم.

وعلَّق أهلُ مسقط الشمس على الكلمات التي قالها الشاب. قالت النسوة إن باكو قد قال للقس: لسوف نُعمل السكين في رِقاب الملوك وفي رِقاب الدوقات وفي رِقاب القسس، كما يحدث للخنازير في عيد النحر. كانت الأمور في مسقط الشمس تأخذ شكلًا مبالغًا فيه دائمًا.

وذاع بغتةً أن الملك قد فرَّ من إسبانيا. وكان وقع النبأ هائلًا على السيد فالريانو وعلى القس. أما السيد جومرسيندو فلم يكن ليُصدِّق الخبر، وقال إنها شائعات يردِّدها الإسكافي. وظلَّ موسين ميان أسبوعين لا يبرح الأبرشية، فيتجه إلى الكنيسة من باب البستان ويتجنَّب الحديث مع أي شخص. وفي يوم الأحد ذهب الكثيرون لحضور القداس ليعرفوا ردَّ فعل موسين ميان، غير أن القس لم يلمح بأدنى إشارة إلى ما حدث، ونتيجةً لذلك فقد خلت الكنيسة من المُصلِّين في يوم الأحد التالي. وذهب باكو ليُقابل الإسكافي ووجده صموتًا متحفظًا.

وفي تلك الأثناء ارتفع عَلَم الجمهورية المثلث الألوان خافقًا في الهواء في شرفة بيت البلدية، وفوق باب المدرسة. ولم يظهر السيد فالريانو ولا السيد جومرسيندو في أي مكان، بينما قام كاستللو بزيارة باكو وحرص على أن يراه الناس بصحبته، غير أنه كان يلعب على الحبلين؛ فحين رأى القس قال له بصوت خفيض: إلى أين نحن نتجه يا موسين ميان؟

وتعيَّن إعادة الانتخابات في القرية؛ لأنه وقعت بعض الحوادث جعلتها غير قانونية في زعم السيد فالريانو. وفي انتخابات الإعادة، تنازل والد باكو عن المنصب لابنه، وتم انتخاب الفتى بالفعل.

وألغت حكومة مدريد قانون أملاك الإقطاعيين، وكان قانونًا يرجع تاريخه إلى القرون الوسطى، وألحقوا تلك الأملاك بالمجالس البلدية. ورغم أن الدوق كان يزعم أن تلال أراضيه لا تدخل في ذلك التصنيف، إلا أن القرى الخمس اتفقت، بِناءً على رأي باكو، على الامتناع عن دفع إيجارات ما دام الأمر معروضًا على القضاء. وحين ذهب باكو ليُبلغ السيد فالريانو بذلك القرار، ظلَّ ذلك الأخير رَدَحًا من الزمن يحملق في السقف ويُداعب الحلية التي يحتفظ فيها بخصلة شعر زوجته المتوفاة. وفي النهاية، رفض الإحاطة علمًا، وطلب أن يبلغه المجلس البلدي بالأمر كتابة.

وشاع الخبر في أنحاء القرية، وقيل في «مسقط الشمس» إن باكو قد هدَّد السيد فالريانو. وكانوا ينسبون إلى باكو كل أعمال الكبرياء والجرأة التي لا يجرؤ الآخرون على القيام بها. كان أهل «مسقط الشمس» يشعرون بالود تجاه أسرة باكو والأُسَر التي على شاكلتها، التي يقوم رجالها بالعمل من مشرق الشمس إلى مغربها رغم أنهم يمتلكون الأرض. وكانت نسوة «مسقط الشمس» يحضرن القداس، غير أنهن كُن يشعرن بالبهجة حين تغنِّي خيرونيما الأغنية التي تقول:

قال القس للسيدة:
إنه سوف ينام تحت أقدامها.

ولم يكن أحدٌ يدري بالتحديد ما كانت البلدية تخطِّطه «لصالح سُكان المغارات»، غير أن خيال كل شخص كان يعمل ويعمل، وتكاثرت آمال الفقراء. وكان باكو قد تناول المشكلة بكل جِدية، ولم يكن هناك موضوع آخر يُطرَح للبحث في اجتماعات المجلس غير ذلك الموضوع. وأرسل باكو إلى السيد فالريانو ما انتهى إليه المجلس البلدي ونَقَلَه الوكيل بِدوره إلى سيده. وكان رد الدوق برقيةً جاء فيها ما يلي: «أعط أمرًا لحراسي أن يدافعوا عن أراضيَّ وأن يُطلقوا النار على أي حيوان أو إنسان يدخل إليها، وعلى المجلس البلدي أن يُعلِن ذلك حتى يمكن تجنُّب ضياع الممتلكات أو الأرواح الإنسانية.» وحين قُرئ ذلك الرد على المجلس، اقترح باكو على العمدة أن يُعفي الحراس من وظائفهم وأن يُعيِّنوهم في وظائف ذات راتب أفضل في بساتين الفاكهة التابعة لنقابة الري. وكان هؤلاء الحراس لا يتعدَّون الثلاثة، وقد وافقوا على ذلك العرض بسرور، وانتهى الأمر ببنادقهم إلى أن تحتلَّ رُكنًا في قاعة الاجتماعات بالمجلس، وأصبحت ماشية القرية تدخل إلى أراضي الدوق لترعى بلا أدنى صعوبة.

وخاطر السيد فالريانو — بعد أن تشاور عدة مرات مع موسين ميان — باستدعاء باكو، الذي وافق على الذهاب إليه في منزله. وكان منزل السيد فالريانو كبيرًا معتمًا ذا شرفات ناتئة وبه مكان مُخصَّص كمأوًى للعربات. وقرَّر السيد فالريانو أن يكون معتدلًا ويقوم بالوساطة بين الفريقين، ودعا باكو إلى تناول وجبة خفيفة معه. وتحدَّث إليه عن الدوق بطريقة لا كُلفة فيها ولا رسميات. كان يعلم أن باكو قد دأب على اتهامه بأن قدمَيه لم تطآ أرض القرية أبدًا، ولكن ذلك كان مخالفًا للحقيقة؛ فقد حضر الدوق إلى القرية ثلاث مرات خلال السنوات الأخيرة لزيارة ممتلكاته، رغم أنه لم يقضِ ليلةً في نفس القرية ولكن في القرية المجاورة. بل إن السيد فالريانو كان يذكر أنه بينما كان السيد الدوق والسيدة الدوقة يتحادثان مع أكبر الحراس سنًّا، الذي كان يستمع إليهما وهو ممسك قُبَّعته في يده، وقع شيء جدير بالذكر؛ فقد سألت السيدة الدوقة الحارس عن كل شخص من أفراد أسرته، وعندما سألته عن ابنه الأكبر، كان السيد فالريانو يذكر نفس الكلمات التي أجاب بها الحارس، وذكرها كالآتي: «قال الحارس: من؟ ميجيل؟ عليكم أيها السادة أن تُمسكوا الخشب من أجل ميجيل الصغير؛ فهو يعمل الآن في برشلونة ويربح تسعة قروش في اليوم.»

وضحك السيد فالريانو وشاركه باكو الضحك، رغم أنه انقلب جادًّا بغتةً وقال: يمكن أن تكون الدوقة شخصيةً دمثة، وليس لي أن أتدخَّل في ذلك الأمر، ولقد سمعت أشياء مماثلةً عن الدوق أيضًا، ولكن كل ذلك ليس له علاقة بموضوعنا.

فقال السيد فالريانو: عندك حق. حسنًا، علينا إذن أن نطرق لُبَّ الموضوع، فإنه يبدو أن السيد الدوق على استعداد للتفاوض معك …

– حول أراضي التلال؟

فأومأ السيد فالريانو برأسه أن أجل.

– ليس هناك مجال للمفاوضة بل للإذعان.

ولم يقل السيد فالريانو شيئًا. وجرؤ باكو أن يضيف: يبدو أن الدوق ما زال يعيش في الزمان الخالي. وبقي السيد فالريانو صامتًا وهو يُحملق في السقف. وأضاف باكو: أما نحن هنا فإننا نتحدث بلغة أخرى. وأخيرًا قال السيد فالريانو: إنك تتحدَّث عن الإذعان، فمن هو الذي سوف يُذعِن؟ إن الأبقار وحدها هي التي تُذعِن.

– وأيضًا يُذعِن الرجال الشرفاء حين يخضعون للقانون.

– أُدرك ذلك، ولكن محامي السيد الدوق له رأي مخالف لرأيك. هناك فرق بين قانون وقانون.

وملأ باكو كأسه بالنبيذ وهو يقول متمتمًا: بعد إذنك.

وجرحت تلك الاستباحة الصغيرة السيد فالريانو الذي ابتسم وقال «تفضل» حين كان باكو قد ملأ كأسه بالفعل.

وعاد باكو يسأل: وكيف يعتزم الدوق التفاوض؟ ليس عليه إلا أن يترك التلال ولا يعود يفكر مرةً أخرى في تلك المسألة.

وتطلَّع السيد فالريانو إلى كأس باكو، وداعبَ طرفَي شاربيه في بُطء؛ وكانا يبدوان لامعين مستديرين كأنما هما من الشعر الصناعي، وغمغم باكو: علينا أن نرى أي وثائق يملكها الدوق بشأن تلك التلال. هذا إذا كان يملك وثائق على الإطلاق.

وشعر السيد فالريانو بالضيق وقال: «وأنت مخطئ في ذلك أيضًا. إن ذلك قد مضى عليه الآن قرون عدة، وهذا عُرف له قوته. لا يمكن هدم ما قام بناؤه في أربعمائة عام في يوم واحد.» وأضاف وهو يرى باكو يعود إلى ملء كأسه: ليست التلال زجاجات من النبيذ، ولكنها حقوق وهبها الملوك.

– إني أعتقد أن ما صنعه الإنسان يمكن أن يلغيه الإنسان.

– أجل، ولكنْ هناك فرق بين إنسان وإنسان آخر.

وهزَّ باكو رأسه نفيًا، وقال وهو يشرب كأسه الثانية ويتلمَّظ بلسانه: فيما يختص بتلك النقطة، قل للدوق إنه إذا كان لديه حق فإنه يستطيع أن يأتي ليُدافع عنه هو نفسه. ولكن عليه أن يُحضر معه بندقيةً جديدة؛ لأننا قد أخذنا بنادق حُرَّاسه.

– إني لا أكاد أصدِّق نفسي يا باكو. من كان يظن أن رجلًا له قطعة أرض مزروعة بالعليق وزوجان من البغال يمكن أن تواتيه الشجاعة للحديث بمثل هذا الكلام؟ بعد هذا، لم يعد هناك من جديد أراه تحت الشمس.

وانتهت المقابلة وبادر السيد فالريانو بنقل مضمونها إلى الدوق الذي عاد يرسل أوامره. ولم يدرِ الوكيل، وقد أُخذ بين نارين، كيف يتصرَّف، وانتهى به الأمر إلى الرحيل عن القرية بعد أن قام بزيارة موسين ميان وحكى له ما حدث من وجهة نظره، وذكر له أن ما يحكم القرية الآن هو أقاويل مسقط الشمس. ونسب إلى باكو تهديدات وإهانات وجَّهها له، وشدَّد كثيرًا على واقعة زجاجة النبيذ والكأس. وكان القس يستمع له مرات ولا يلقي إليه بالًا مرات أخرى.

وهزَّ موسين ميان رأسه في أسفٍ وهو يذكر كل تلك الوقائع بينما يجلس في غرفة المقدَّسات. وعاد المساعد يرتكز على مفصَّلة الباب. وإذ لم يستطع الوقوف ساكنًا، أخذ يحك حذاءيه الواحد منهما بالآخر، وتطلَّع إلى القس، وتردَّدت في خاطره بقية الموال.

وقادوه بين حراس أربعة
إلى داخل المقابر.
آه أيتها الأمهات، يا من ترعين أطفالكن،
ليحرسهم الله لَكُن،
ويسهر عليهم الملاك الحافظ …

وكان الموَّال يتحدَّث بعد ذلك عن مساجين آخرين ماتوا أيضًا في تلك الأثناء، غير أن المساعد لم يكن يذكر أسماءهم. كانوا جميعًا قد قُتلوا غيلةً في نفس تلك الأيام. ذلك برغم أن الموَّال لم يكن يذكر ذلك التعبير، بل يقول إنهم قد أُعدموا.

وجالت الذكريات في ذهن موسين ميان. لقد وهن الإيمان لدى السيد فالريانو أخيرًا بما فيه الكفاية. كان معتادًا أن يقول إن الإله الذي يسمح بما كان يجري آنذاك، لا يستحق كل ذلك الاعتبار. وكان القس يسمعه وقد نال منه الإعياء. كان السيد فالريانو قد أهدى زاوية المسيح بالكنيسة بوابةً من الحديد المطروق، كما دفع الدوق نفقات إصلاح قوس المعبد مرتين. أجل، كان موسين ميان يذكر ذلك اعترافًا منه بالجميل.

وشاع في «مسقط الشمس» أن إيجارات المراعي التي سوف تذهب إلى المجلس البلدي سوف تُنفَق على مشروعات لإصلاح حال القرية. وكانوا يباركون باكو صاحب الطاحونة وكان أكبر أسلوب مدح تقوله أولئك العجائز هو أنهن لديهن خير من يمثِّلهن.

وكانت القرية المجاورة قد شقَّت مجرًى لمياه الشرب لتصل إلى ميدانها الرئيسي، غير أن باكو صاحب الطاحونة كانت لديه خطة أخرى؛ فلم تكن قريته تحتاج لمثل تلك المشروعات، بل كان كل تفكيره ينصب دائمًا على المغارات، وبتخيُّل سُكانها إذ يُحتَضرون وسط الحشرجات دونما نور ودونما وقود للتدفئة ودونما ماء، بل دون هواء يتنفَّسونه.

وكانت أراضي الدوق تشمل مزار أحد القديسين ممن يحل يوم ذكراه في يوم من أيام الصيف، فيأتي الحُجَّاج لزيارته من كل فج قريب. وكان الحجاج يُقدِّمون في الاحتفال بذلك اليوم الهدايا إلى قسيس الكنيسة، كما يدفع المجلس المحلي ثمن إقامة القداس بهذه المناسبة. ولكن الحال تغيَّر في تلك السنة؛ إذ تجاهل العمدة ذلك الموضوع تجاهُلًا تامًّا، وسار القرويون على الدرب نفسها. واستدعى موسين ميان باكو الذي قال له إن كل شيء يتوقَّف على موافقة البلدية.

فتساءل القس في ضيق: أتقول البلدية؟ ومن هي البلدية؟

وشعر باكو بالأسف لمشاهدة موسين ميان يخرج عن طوره على تلك الصورة، وقال إن برود القرية تجاه الاحتفال بذكرى القديس قد يرجع إلى وجود الأراضي التي يقع فيها المزار ضمن أملاك الدوق السابقة؛ حيث إن الناس جميعًا يقفون الآن ضده، فقال موسين ميان في لحظة انفعال: ومن تكون أنت حتى تقول للدوق إنه إذا حضر لزيارة التلال فلن يستطيع أن يتقدَّم ثلاث خطوات لأنك ستكون بانتظاره حاملًا بندقية أحد الحراس؟ ألَا تعرف أن ذلك القول يشكِّل تهديدًا يعاقب عليه القانون؟

ولم يكن باكو قد قال شيئًا من كل هذا، بل كانت من أكاذيب السيد فالريانو، غير أن القس لم يشأ أن يستمع إلى دفاع باكو.

وفي ذلك الوقت، كان الإسكافي يبدو عصبيًّا مبلبل الخاطر، وكان يقول حين يسألونه عن سبب ذلك: إنني أقدح زناد فكري. وكانوا يلاقونه في «مسقط الشمس» بالسخرية، غير أنه كان يقول لهم: إذا اصطدم الإبريق بالصخر أو الصخر بالإبريق، فالنتيجة دائمًا وبالٌ على الإبريق.

ولكن تلك الكلمات الغامضة لم تكن تجلو غوامض الموقف. لقد أمضى الإسكافي حياته ينتظر ما حدث، وحين رآه حقيقةً واقعة لم يدرِ كيف يفكِّر ولا ماذا يفعل. وعرض عليه بعض النواب منصب قاضي الري، للعمل على حل مشاكل التنافس على استخدام مياه القناة الرئيسية، غير أنه قال لهم شكرًا، إنما أنا ألتزم المثل الذي يقول: فليلزم كل واحد مهنته الأصلية.

وأخذ الإسكافي يقترب من القس يومًا بعد يوم؛ فقد كان ما يبغيه في الحقيقة هو أن يكون معارضًا لمن يُمسك السلطة، ولا يهمه ما يدين به من عقيدة أو مبدأ. وكان السيد جومرسيندو قد وصل هو الآخر إلى عاصمة الإقليم، وهذا ما ضايق القس كثيرًا، وكان يقول: الجميع يرحلون، أمَّا أنا فما كنت لأرحل حتى لو استطعت ذلك. إنْ ذلك إلا هروب.

وكان القس يبدو أحيانًا كمن يحاول أن يفهم باكو، إلا أنه سرعان ما كان يتحوَّل إلى الحديث عن قلة الاحترام التي يشعر بها أهل القرية نحو الكنيسة وعن عذاباته الذاتية، وكان ينهي مناقشاته مع باكو دائمًا بأن يعرض تقديم نفسه قربانًا طوعيًّا. ويضحك باكو ويقول: ولكن ليس هناك من يريد أن يقتلك يا موسين ميان. فكانت ضحكة باكو تزيد من غضب القس، ولا يستطيع تمالك أعصابه إلا بمنتهى الصعوبة.

وحين بدأ الناس ينسَون السيد فالريانو والسيد جومرسيندو، عاد هذان الرجلان بغتةً إلى القرية. كانت تبدو عليهما علامات الثقة بالنفس، وكانا يعقدان اجتماعات يوميةً مع القس. وحاول السيد كاستللو أن يدنو منهم لاستطلاع ما يحدث، غير أنه لم يتمكَّن من معرفة شيء؛ فهم لم يكونوا يثقون فيه.

وفي يوم من أيام شهر يوليو، تلقَّى رجال شرطة القرية أمرًا بالرحيل للتجمع كما قيل في مكان مركزي يتلاقى فيه كلُّ حرس الإقليم. وشعر النواب بعلامات الخطر ترتسم في الهواء، ولكنهم لم يستطيعوا تحديد ماهيته.

وكان ما كان من اندلاع الحرب الأهلية في البلاد كلها، وسقطت القرية في أيدي أعداء الجمهورية، الذين أرسلوا إليها كتيبةً من الجنود الغرباء سيطروا عليها. كانوا مجموعةً من الشباب المُترَفين يحملون العصي والمسدسات ولم يكن يبدو عليهم مظهر بني الإنسان، وكان بعضهم يُطلِق صيحاتٍ هستيرية، ولم يرَ أحدٌ قط مثلهم في قلة الحياء. وبالطبع، كان أهل «مسقط الشمس» يُطلِقون على مثل هؤلاء الأشخاص الحليقين الرقيقين كأنما هم من النسوة اسم «الحلوين»، غير أنَّ أول ما فعله هؤلاء «الحلوين» هو أنهم أعطَوا علقةً ساخنة للإسكافي دون أن يشفع له حياده التام، وبعد ذلك اغتالوا ستة فلاحين بعضهم من سكان المغارات، وتركوا جُثَثهم على جانبي الطريق الزراعي بين القرية ومسقط الشمس. ولكن حين هجمت الكلاب على الجُثث لتلعق منها الدماء، أقاموا أحد حراس الدوق ليهش عليها. ولم يسأل أحد شيئًا، ولم يفهم أحد شيئًا. ولم يكن هناك من رجال شرطة يتصدَّون لهؤلاء الغرباء.

وفي الكنيسة، أعلن موسين ميان أن القربان المقدس سيظل قائمًا ليل نهار، ثم بعد ذلك قدَّم احتجاجًا إلى السيد فالريانو — وكان السادة الجدد قد نصَّبوه عمدةً للقرية — على مقتل الفلاحين الستة دون منحهم فرصةً للاعتراف الأخير. وكان القس يُمضي النهار وشطرًا من الليل في التعبُّد والصلاة.

واجتاح الفزع القرية، ولم يعد أحدٌ يعرف كيف يتصرَّف. وكانت «خيرونيما» تذهب وتجيء وقد كفَّت لسانَها عن ذي قبل، غير أن مسقط الشمس كان يموج بالشتائم الموجَّهة للسادة الغرباء ويطلب إنزال أقصى العقوبات بهم. غير أن ذلك لم يمنع أهل مسقط الشمس من التحدُّث إلى الإسكافي حين يرونه عن الحطب وعن عصي القياس والأشياء الأخرى التي تلمِّح إلى العلقة التي نالها. وكان يسأل عن باكو، ولكن لم يكن هناك من أحد يستطيع أن يجيبه بشيء عن سؤاله؛ فقد اختفى باكو منذ وقَعَ الانقلاب وهم يبحثون عنه. هذا كل شيء.

وبعد يوم من السخرية التي وجَّهتها خيرونيما إلى الإسكافي، ظهرت جثة هذا الأخير في الطريق المُفضِي إلى مسقط الشمس وقد تهشَّم رأسه. وذهبت المرأة المسكينة وغطَّت جُثَّتة بملاءة وعادت بعدها إلى منزلها حيث أغلقت على نفسها الباب ولم تخرج طوال أيام ثلاثة. وبعدها عادت إلى الظهور في الشارع شيئًا فشيئًا، بل إنها توجَّهت إلى مسقط الشمس حيث استقبلوها باللوم والشتائم. وبكت خيرونيما، ولم يكن أحد قد رآها تبكي قط. كانت خيرونيما تبكي وتقول إنها تستحق أن يرجموها حتى الموت كأنما هي حية تسعى.

وبعد ذلك بأيام قليلة عادت خيرونيما إلى استهزاءاتها في مسقط الشمس، وفرحتها بالأيمان المغلظة والوعيد والتهديد. ولم يكن أحدٌ يعرف متى يقتلون الناس، بمعنى أنهم يعلمون بحدوث القتل دون أن يرى أحدٌ شيئًا. كانوا يقومون بذلك العمل في الليل، وفي النهار تبدو القرية يسودها الهدوء. وبين الضيعة ومسقط الشمس، ظهرت أربع جثث مهجورة جديدة، كلها لنواب من المجلس البلدي.

كان معظم السكان خارج الضيعة يعملون في الحصاد، وواصلت زوجاتهم التردُّد على مسقط الشمس حيث يتناقلن أسماء من يسقطون قتلى. وكُنَّ أحيانًا يصلِّين، غير أنهن يأخذن بعد ذلك في صَبِّ اللعنات بصوت تملؤه الرِّيبة على زوجات الأغنياء، خاصةً زوجتَي فالريانو وجومرسيندو. وكانت خيرونيما تقول إن أسوأ النساء هي زوجه كاستللو، وإنهم قد قتلوا الإسكافي بسببها.

قالت إحداهن: ليس هذا صحيحًا. إنما كان ذلك لأنهم يقولون إن الإسكافي عميل لروسيا.

ولم يكن أحدٌ يعرف ما هي روسيا، واتَّجهت أفكار الجميع ناحية فرسة المطحن الحمراء التي كانت تحمل نفس ذلك الاسم. ولكن هذا لم يكن له أي معنًى. كما لم يكن هناك أي معنًى لِمَا يحدث في القرية. وبدأن في التعبير عن «أقاويلهن» دون أن يجسرن على رفع صوتهن:

– إن زوجة كاستللو هي ثُؤلول كثيفة الشعر!

- إنها هُزُؤة!

– عقربة تبيع البصل!

– قملة ذات شحم ولحم!

وأضافت خيرونيما: إن بيتها يفوح برائحة الصنن!

كانت خيرونيما قد سمعتهم يقولون إن أولئك السادة المترفين سوف يقتلون كل من أدلى بصوته ضد الملك قديمًا، فبدأت تُحس وسط الكارثة بشيء سحري خارق للطبيعة، ممَّا جعلها تشعر في كل الأنحاء برائحة الدماء. ورغم ذلك فحين كانت تسمع من مسقط الشمس الأجراس تُقرَع، ودقات سندان الحدَّاد تتوافق معها، لم تكن تستطيع أن تكبح جِماح نفسها عن القيام للرقص على اللحن، ثم تنطلق في السباب مرةً أخرى، وتدعو زوجة جومرسيندو بذات الأقدام الخنزيرية. وكانت تُحاول أن تكتشف ماذا كان مصير باكو صاحب الطاحونة، ولكن لم يكن أحدٌ يعلم شيئًا أكثر من أنهم جادُّون في البحث عنه. وكانت خيرونيما تتظاهر بالفهم، وتقول: لن يستطيعوا أن يُمسكوا بهذا الفتى الطيب بسهولة. ثم تعود وتُشير إلى الأشياء التي رأتها حين كانت تُغيِّر له اللفائف وهو وليد.

وكان باستطاعة موسين ميان أن يتذكَّر وهو جالس في غرفة المقدسات الفوضى المُريعة التي سادت تلك الأيام، وشعر بالغم والاضطراب؛ طلقات رصاص في الليل، دماء، خبائث وأحقاد، شائعات ووقاحات يرتكبها أولئك الغرباء الذين كان يبدو عليهم رغم ذلك مظهر المؤدَّبين. وكان السيد فالريانو يأسف لِمَا يحدث، ولكنه في الوقت نفسه يدفع سادة المدينة إلى قتل المزيد من الناس. وطفق القس يُفكِّر في باكو. كان والده في تلك الأيام قد اعتكف في بيته، وكان كاستللو بيريث قد ضمنه قائلًا إنه شخص نظيف؛ ولهذا لم يجرؤ الأغنياء الآخرون على مدِّ يد الأذى إليه، وانتظروا أن يقبضوا على ابنه.

لم يكن هناك غير والد باكو يعرف المكان الذي يختبئ فيه ابنه. وذهب موسين ميان إلى بيته وقال له إن ما يحدث في القرية شيء فظيع ولا يمكن فهمه. واستمع والد باكو إليه دون أن يُجيب وعلى وجهه شيء من الشحوب. وطفق القس يتحدث. وكان يرى زوجة باكو الشابة تذهب وتجيء كأنها طَيف من الأطياف دون أن تضحك أو تبكي. لم يكن هناك في القرية من يبكي أو يضحك. وكان موسين ميان يعتقد أن الحياة التي تخلو من الضحك أو من البكاء إنما هي حياة مُريعة كأنها كابوس مزعج.

وبفعل إحدى تلك اللَّفتات التي تدفع الصداقة أحيانًا إلى إظهار مدى استحقاقها، أعطى موسين ميان للوالد إحساسًا بأنه هو أيضًا يعرف أين يختبئ باكو. وحين أظهر القس ذلك كان على الأب والزوجة أن يشكراه لعدم إفشائه السر. ولم يقل القس بصراحة إنه يعرف المكان، ولكنه تركهما يعتقدان ذلك. ولقد شاءت سخرية الحياة أن تجعل والد باكو يقع في ذلك الفخ؛ فقد تطلَّع إلى القس وجالت بخاطره الفكرة التي كان موسين ميان يريدها أن تخطر بباله تمامًا. «لو أنه يعرف ولم يُفشِ السر إذن فهو إنسان شريف وأمين.» وقد جعلته تلك الفكرة يشعر بتحسن كبير.

وفي أثناء المحادثة، كشف والد باكو المكان الذي يختبئ فيه ابنه، معتقدًا أنه لا يقول بذلك جديدًا للقس، وحين سمع موسين ميان ما قاله الأب أحسَّ بشعور هائل. قال لنفسه: آه … كان الأفضل ألَّا يذكر هذا لي، فلماذا يتعيَّن عليَّ أن أعرف أن باكو يختبئ في وسط تلال «بارديناس»؟ وشعر موسين ميان بالخوف، ولم يدرِ سبب ذلك على وجه التحديد.

وغادر المنزل سريعًا، وكان يُريد مقابلة الغرباء ذوي المسدسات كيما يبرهن لنفسه على أمانته وإخلاصه لباكو. وهكذا كان؛ فقد تحادث قائد الكتبية وأصدقاؤه معه طوال الأصيل دون أن يكشف لهم شيئًا من جانبه. وفي تلك الليلة، تلا موسين ميان صلواته ثم نام في سكينة لم يعرفها منذ زمن طويل.

وفي اليوم التالي عُقد اجتماع في البلدية قام فيه الغرباء بإلقاء الخطب وإطلاق الصيحات المدوية. وبعد ذلك أحرقوا علم الجمهورية المثلث الألوان ثم أرغموا جميع سُكان القرية على الحضور وإلقاء التحية برفع الذراع الأيمن حين يأمرهم بذلك قائد الكتيبة. وكان ذلك القائد رجلًا ذا وجه حنون، ونظارات داكنة. كان يصعُب على المرء أن يتخيل ذلك الرجل يقتل أحدًا. وكان الفلاحون يؤمنون بأن أولئك الجنود الذين يقومون بحركات لا ضرورة لها ويضربون كعوب أحذيتهم بعضها ببعض ويُطلِقون الصيحات المدوية، إن هم إلا مجانين. ولمَّا شاهدوا موسين ميان والسيد فالريانو جالسَين في مكان الصدارة، أصابتهم الحيرة والبلبلة. وكان الشيء الوحيد الذي فعله هؤلاء الرجال في القرية — إلى جانب عمليات الاغتيال — هو أنهم أعادوا أراضي التلال إلى الدوق.

وبعد ذلك بيومين، حضر السيد فالريانو إلى الأبرشية لمقابلة القس، وتطلَّع إلى عينَي القسيس وقد وضع إصبعيه الخنصرين في فتحتي الصديري، ممَّا أبرز الحِلْيات المدلاة من سلسلته: أنا لا أريد أن أُنزل شرًّا بأحد، كما يقول المثل، ولكن ألم يكن باكو واحدًا من أكثر الناس الذين برزوا في ذلك العهد؟ إن هذه هي كلمتي يا سيدي القس: لقد سقط أناس آخرون لأسباب أهون شأنًا.

فقال موسين ميان: دعه وشأنه. ما جدوى إهراق المزيد من الدماء؟

ورغم ذلك، كان يجب أن يدعهم يفهمون أنه يعرف المكان الذي يختبئ فيه باكو؛ فهو يبرهن بذلك للعمدة على أنه قادر على إظهار النبل والإخلاص. والحقيقة أنهم كانوا يبحثون عن باكو بجنون، وقد حملوا كلاب اقتفاء الأثر إلى منزله لكي تتشمَّم ثيابه وأحذيته المستعملة.

ووصل في تلك اللحظة قائد الكتيبة ذو الوجه الحنون والنظارات الداكنة بصُحبة اثنين آخرين، وقال حين سمع الكلمات التي قالها القس: نحن لا نريد ذوي العقول الطرية. إننا نقوم بتنظيف القرية، وكل من ليس في صفِّنا فهو من أعدائنا.

فقال موسين ميان: هل تعتقدون حضراتكم أنني من ذوي العقول الطرية؟

وعند ذلك عَدَل الجميع عن موقفهم.

قال قائد الكتيبة: لقد تم تنفيذ أحكام الإعدام الأخيرة دون حرمان أي من المذنبين من شيء. لقد حقَّقنا لهم حتى المسحة الأخيرة. فمن أي شيء تشكو إذن؟

فتحدث موسين ميان عن بعض الرجال الشرفاء الذين سقطوا، وعن ضرورة وضع حد لذلك الجنون. قال قائد الكتيبة وهو يُخرِج مسدسه ويضعه على المائدة: قل لي الحقيقة. أنت تعلم أين يختبئ باكو صاحب الطاحونة.

وأخذ موسين ميان يُفكِّر فيما إذا كان قائد الكتيبة قد أخرج مسدسه ليهدِّده به أم لكي يخفِّف وَسَطه من ثقله. كانت هذه إحدى الحركات التي شاهده يقوم بها قبل ذلك. وفكَّر في باكو الذي قام بمراسم تعميده وقام بمراسم زواجه، وتذكَّر في تلك اللحظة تفصيلات صغيرة، مثل البوم الليلي، ورائحه السمان المتبَّل. ربما تعتمد حياة باكو على إجابته هذه. كان يُحبه كثيرًا ولكن عواطفه لم تكن تتجه نحو الرجل في حدِّ ذاته ولكن نحو الله. كان عطفه عطفًا يمتد عبر الموت وعبر الحياة؛ لهذا لم يستطع أن يكذب، وسأله الأربعة في وقتٍ واحد: هل تعرف أين يختبئ باكو؟

وأجاب موسين ميان بخفض رأسه. كان ردًّا بالإيجاب، كان يمكن أن يكون ردًّا بالإيجاب. وحين تنبَّه إلى ذلك كان الوقت قد فات، وعندئذٍ طلب منهم وعدًا بألَّا يقتلوه. يمكنهم أن يقدِّموه إلى المحاكمة، فإذا ثبتت عليه تهمة ما، يحبسونه، ولكن عليهم ألَّا يضروه بما هو أنكى من ذلك. ووعده قائد الكتيبة ذو التعبير الحنون بذلك، وحينئذٍ كشف لهم موسين ميان المكان الذي يختبئ فيه باكو، وأراد بعد ذلك أن يذكر لهم شفاعات أخرى من أجله، ولكنهم لم يستمعوا إليه؛ فقد خرجوا مهرولين وبقي القس وحيدًا. وتحوَّل إلى الصلاة وقد ملأه الفزع من نفسه؛ وشعر في الوقت نفسه بإحساس من التحرُّر.

وبعد ذلك بنصف ساعة، حضر السيد كاستللو وقال إن مسقط الشمس قد انتهى لأن سادة المدينة قد أطلقوا عليه رشتين من المدافع السريعة الطلقات، فسقطت بعض النسوة، وخرجت الأخريات يصرخن وينزفن الدماء كأنهن سرب من الطيور يهرب من رصاصات الصيادين، وكانت خيرونيما بين من نجون منهن. وأضاف كاستللو وهو يقول النبأ: وهكذا، كما تعلمون … فإن «عمر الشقي بقي».

وحين شاهد القس كاستللو يضحك، رفع يديه إلى رأسه وقد علاه الشحوب، ورغم ذلك، فإن ذلك الرجل ربما لم يُفشِ سر أحد مثلما فعل هو، وتساءل القس بينه وبين نفسه في رعب: لماذا هذا الشعور بالعار؟ وعاد إلى الصلاة. واستمر كاستللو يتحدَّث ويقول إنه قد جُرحت إحدى عشرة أو اثنتا عشرة امرأة، بالإضافة إلى من قُتلن في مسقط الشمس ذاته. ولمَّا كان الطبيب من بين من زُج بهم في السجن، لم يكن من السهل علاجهن جميعًا.

وفي اليوم التالي عاد قائد الكتيبة دون أن يكون معه باكو. كان مهتاجًا، وقال إنهم حين ذهبوا إلى تلال بارديناس استقبلهم الهارب بوابلٍ من الرصاص. كان يحمل معه بندقيةً من بنادق حُراس أراضي الدوق السابقين؛ ولذلك فإن الاقتراب من تلال بارديناس يشكِّل خطرًا كبيرًا عليهم. وطلب القائد من القس أن يذهب ليتفاوض مع باكو؛ فقد أصيب اثنان من جنود الكتيبة بجراحٍ ولم يكن يرغب في المخاطرة أكثر من ذلك.

كان موسين ميان يتذكَّر هذه الأحداث بعد مرور عام عليها كما لو كان قد عاشها بالأمس فقط. وحين رأى السيد كاستللو يدخل إلى غرفة المقدسات، وهو الذي كان منذ عام يضحك من جرائم مسقط الشمس، عاد إلى إغلاق عينيه وإلى مناجاة نفسه: «لقد أفشيتُ سر المكان الذي يختبئ فيه باكو وقد ذهبت للتفاوض معه. والآن …» وفتح عينيه وشاهد الرجال الثلاثة جالسين أمامه. كان السيد جومرسيندو الذي يجلس في الوسط أطول قليلًا من الرجلين الآخرَين. وكانت الوجوه الثلاثة تنظر إلى موسين ميان في جمود. واختتمت نواقيس البرج دقاتها بقرعات نهائية ثلاث، دقات رصينة متباعدة ظلَّت ترجيعاتها عالقةً بالهواء وقتًا ما. قال السيد كاستللو: مع كل احتراماتي الواجبة يا موسين ميان، فأنا أريد أن أتكفَّل بنفقات القداس.

قال ذلك وهو يدفع يده إلى جيبه. ورفض القس وعاد يطلب من المساعد أن يخرج ليرى ما إذا كان هناك مزيد من الناس، وخرج الفتى والموَّال يرن في ذاكرته كعادته:

وبين شجيرات العوسج في الطريق
سقط المنديل،
والطيور تمرق في سرعة
بينما السحب تمضي في بطء.

وعاد موسين ميان إلى إغلاق عينيه وهو يرتكز بمرفقه الأيمن على ذراع المقعد ورأسه على يده. ورغم أنه كان قد انتهى من صلواته فقد تظاهر أنه ما زال يصلِّي حتى يتركوه في سلام. كان السيد فالريانو والسيد جومرسيندو يتناقشان مع كاستللو في نفس الوقت ويحاول كلٌّ منهما أن يغطِّي بصوته على الآخر ويشرح له كيف أنه يرغب أيضًا في دفع نفقات القداس.

وعاد المساعد منفعلًا حتى إنه لم يتمكَّن لوقت ما من قول الأنباء التي يحملها، وقال أخيرًا: هناك بغل في الكنيسة!

– ماذا تقول؟

– ليس من أحد هناك ولكن بغلًا قد دخل من أحد الأبواب وطفق يسير بين المقاعد.

وخرج ثلاثتهم، وعادوا يقولون إنه ليس بغلًا وإنما هو مُهر باكو صاحب الطاحونة الذي اعتاد أن يسير مُطلَق السراح في القرية. كان الجميع يعلمون أن والد باكو طريح الفراش وأن نسوة المنزل قد أصابهن الخَبَل، كما هيمن الإهمال على الحيوانات وعلى الأملاك القليلة التي تبقَّت لهم.

وسأل القس مساعده: هل تركت باب المدخل مفتوحًا حين خرجت؟

وأكَّد الرجال الثلاثة أن الأبواب كانت موصدة، وأضاف السيد فالريانو وهو يبتسم في مرارة: إن هذه خدعة، وهي علامة عداوة أيضًا.

وطفقوا يحسبون من يمكن أن يكون قد أدخل المُهر إلى الكنيسة، وأشار كاستللو إلى خيرونيما. وبدت من موسين ميان إشارة تدل على التعب، وطلب منهم أن يُخرجوا الحيوان من المعبد، فخرج ثلاثتهم بصحبة المساعد، وشكَّلوا صفًّا عريضًا وطفقوا يهُشُّون على المُهر بأذرعتهم الممتدة. وقال السيد فالريانو: إن ذلك يُعَد تدنيسًا للمقدسات؛ ولذلك فربما كان من الواجب إعادة تطهير المعبد من جديد، أما الآخرون فلم يكونوا يوافقونه على ذلك الرأي.

واستمروا يتتبَّعون الحيوان، وعند حاجز حديدي في زاوية المسيح، بدا كما لو أن رسم أحد الشياطين يغمز لهم. وكان تمثالُ القديس يوحنا في محرابه يرفع إصبعه ويُبين عن ركبته العارية الأنثوية، ورفع السيد فالريانو وكاستللو في ثورة انفعالهما صوتيهما كما لو كانا في إسطبل للحيوانات: إرر! إرر! إرر! إرر!

كان المُهر يجري في المعبد على راحته، ولو كان مسقط الشمس قائمًا حتى الآن لوجدت نسوته موضوعًا شيقًا فيما يحدث الآن. وحين حصره العمدة والسيد جومرسیندو بينهم، أخذ الحيوان يتقافز وسطهم، وخطا إلى الناحية الأخرى وهو يصهل صهيلًا بهيجًا، وأخيرًا خطرت للسيد كاستللو فكرة نيرة: افتحوا شُرَّاعة الباب كما تكون عند مرور موكب الغفران؛ وبهذا يطمئن الحيوان إلى المكان الذي يخرج منه.

وجرى سادن الكنيسة ليفعل ذلك مخالفًا لرأي السيد فالريانو الذي لم يكن ليتحمَّل أن يوافقوا على فكرةٍ من أفكار السيد كاستللو ويقبلوها وهو موجود. وحين فتحوا الشُّرَّاعات الكبرى، تطلَّع المُهر في دهشة إلى سيل الضوء الذي انساب إلى المعبد. وفي خلفية المدخل كان يُرى ميدان القرية مهجورًا، ومنزل مطلي باللون الأصفر، ومنزل آخر مطلي بالجير، ويمتلئ بالزخارف الزرقاء اللون. ونادى سادن الكنيسة على المُهر من ناحية باب الخروج. وأخيرًا اقتنع الحيوان بأن ذلك المكان ليس مكانه، فخرج، واستمرَّ المساعِد في تلاوة الموَّال في همسات خفيضة:

… وتوقَّفت القُبَّرات
عند صليب المقبرة.

وأغلقوا الأبواب، وعاد المعبد تغمره العتمة. كان القديس ميجيل يرفع السيف بذراعه العارية ليقتل به التنين. وفي أحد الأركان كان ثمة مصباح يئز من فوق موضع التعميد.

وتوجَّه السيد فالريانو والسيد جومرسيندو والسيد كاستللو حيث ألقَوا بأنفسهم على أقرب مقعد.

وذهب المساعد إلى مقصورة الكهنة، وجثا عند مروره أمام القربان المقدس ثم غاب في غرفة المقدسات: ها قد خرج يا موسين ميان.

واستمرَّ القس مع ذكرياته التي مضى عليها عامٌ كامل؛ فقد أرغم الغرباء ذوو المسدسات موسين ميان على الذهاب معهم إلى تلال بارديناس. وعندما وصلوا إلى هناك، تركوا القس يتقدَّم وحده. وصاح بشيء من الوجل: باكو، إنه أنا ألَا ترى أنه أنا؟

وكانت تُرى في إحدى نوافذ الفتحات ماسورة بندقية، وعاد موسين ميان يصيح: لا تكن مجنونًا يا باكو، من الأفضل أن تُسلِّم نفسك.

وجاء صوت من وسط ظلال الفتحة: لن أسلِّم نفسي إلا ميتًا. ابتعد أنت وليأتِ الآخرون إن جَرُءوا على ذلك.

وخلع موسين ميان على صوته كل ما استطاع من نبرة إخلاص وهتف: باكو! باسم أشد الناس الذين تُحبُّهم، باسم زوجتك، باسم أمك، سلِّم نفسك!

ولم يأتِ رد. ثم جاء أخيرًا صوت باكو مرةً أخرى: أين هما والداي؟ وزوجتي؟

– وأين سيكونون؟ إنهم في المنزل.

- ألم يقع لهم مكروه؟

– كلا، ولكن إذا أصررتَ على موقفك، فمن يعلم ماذا يمكن أن يحدث.

وعند تلك الكلمات الصادرة عن القس، عاد صمت طويل يلف المكان، ونادى موسين ميان على باكو باسمه، ولكن لم يُجِبه أحد، وأخيرًا، ظهر باكو. كان يحمل البندقية في يديه. كانت تبدو عليه علائم الإجهاد والشحوب.

– أجبني عمَّا سوف أسألك إياه يا موسين ميان.

– أجل يا بني.

– هل قتلت الرصاصات التي أطلقتُها على من كانوا يبحثون عني بالأمس أحدًا منهم؟

– كلا.

– ولا واحدًا؟ هل أنت متأكد من ذلك؟

– فليعاقبني الله إن كنت أكذب. لا أحد.

وبدا كما لو أن ذلك قد لطَّف من الجو. وأضاف القس عندما أحسَّ بذلك: لقد أتيتُ إلى هنا بشرط ألَّا يَمَسُّوك بأي أذًى؛ أعني أنهم سوف يحاكمونك أمام محكمة، فإذا ثبت أنك مذنب فستذهب إلى السجن.

– أأنت متأكد؟

وتأخَّر القس في الرد. وقال أخيرًا: لقد طلبتُ هذا. وعلى كل حال، فلتفكِّر في أسرتك يا بني، وأنها لا تستحق أن تدفع الثمن نيابةً عنك.

وتطلَّع باكو حوله في صمت، وقال أخيرًا: حَسَن لقد تبقى معي خمسون رصاصة، وبها يمكن أن أبيع حياتي بثمن غالٍ. قل للآخرين أن يتقدَّموا دونما خوف، فسوف أسلِّم نفسي.

ومن وراء إحدى الأكمات، سمع صوت قائد الكتيبة: عليه أن يقذف البندقية من الفتحة. وأطاع باكو.

وإن هي إلا لحظات حتى كانوا قد أخرجوه من تلال بارديناس وحملوه وسط الدَّفعات والركلات إلى القرية، وكانوا قد قيَّدوا يديه وراء ظهره. وسار باكو وهو يعرج عرجًا شديدًا. ورسم ذلك العرج، واللحية التي لم يحلقها منذ خمسة عشر يومًا عتمةً على وجهه، ممَّا خلع عليه مظهرًا مختلفًا عن ذي قبل. وحين رآه موسين ميان، داخَلَه شيء من الشعور بالذنب، وسَجَنوه في زنزانة المجلس المحلي.

وفي نفس ذلك الأصيل، أرغم السادة الغرباء أهلَ القرية على التجمُّع في الميدان، حيث ألقَوا الخُطَب التي لم يفهمها أحد، وتحدَّثوا فيها عن الإمبراطورية والمصير الخالد وعن النظام وعن الإيمان المقدس. وبعدها أنشدوا نشيدًا وهم يرفعون أذرعتهم ويمدون أيديهم، ثم أمروا الناس بالعودة إلى بيوتهم وعدم الخروج مرةً أخرى إلا في اليوم التالي وإلا تعرَّضوا للعقاب الشديد. وحين لم يتبقَّ أحدٌ في الميدان، ساقوا باكو مع اثنين من الفلاحين الآخرين من السجن حتى المقابر، سيرًا على الأقدام، وحين وصلوا كان الليل قد بدأ يُرخي سُدوله. وسقط على الضيعة صمت وجل.

وتذكَّر قائد الكتيبة عندما صفَّهم أمام حائط الإعدام، أنهم لم يعترفوا، فأرسل في طلب موسين ميان. وتعجَّب هذا الأخير لأنهم حملوه في سيارة السيد كاستللو (وكان قد أهداها إلى أصحاب السلطة الجدد)، وتمكَّنت السيارة من الوصول إلى مكان الإعدام ذاته، ولم يجرؤ موسين ميان على السؤال عن أي شيء، فلمَّا رأى باكو لم يشعر بأي دهشة، بل اعتراه خَوَر شديد. وأجرى ثلاثتُهم مراسم الاعتراف الأخير. كان أحدهم رجلًا من الذين يعملون في بيت باكو، وكان المسكين يردِّد في ذهول، مرةً وراء أخرى في صوت خفيض: «أعترف لك يا أبي … أعترف لك يا أبي …» وقد استعملوا نفس سيارة السيد كاستللو كمقصورة للاعتراف بعد أن فتحوا بابها وجلس القسيس بداخلها؛ وكان المذنب يركع على سُلَّمها، وحين كان موسين ميان ينطق بكلمات: «ها أنا أغفر لك.» كان رجلان ينقَضان على المذنب ويعودان به إلى الحائط، وكان باكو آخر ثلاثتهم في الاعتراف.

قال للقس بصوت لم يسمعه موسين ميان منه من قبل ذلك أبدًا: إني أراك في ساعة صعبة، ولكنك تعرفني يا موسين ميان وتعرف من أنا.

– أجل يا بني.

– لقد وعدتني أنهم سيُقدِّمونني إلى المحاكمة ويحاكمونني.

– لقد خدعوني أنا أيضًا ماذا أستطيع أن أفعل؟ فلتفكر يا بني في روحك، ولتنسَ إن استطعت كل شيء عدا ذلك.

- لماذا يقتلونني؟ ماذا فعلت أنا؟ نحن لم نقتل أحدًا. قل لهم إنني لم أفعل شيئًا. إنك تعلم أنني بريء. إن ثلاثتنا أبرياء.

– أجل يا بني، كلكم أبرياء، ولكن ماذا بوسعي أن أفعل؟

– لو أنهم يقتلونني لأنني دافعت عن نفسي في تلال بارديناس، لكان ذلك سببًا. ولكن الاثنين الآخرين لم يفعلا أي شيء.

وقبض باكو على سترة موسين ميان الكهنوتية وردَّد: لم يفعلا أي شيء، ولسوف يقتلونهما … لم يفعلا أي شيء.

وقال موسين ميان وقد غمره التأثر حتى ظهرت الدموع في مآقيه: أحيانًا يا بني يسمح الله بموت الأبرياء. ولقد سمح بذلك في شخص المسيح ذاته، الذي كان أشد براءةً من ثلاثتكم.

وحين سمع باكو تلك الكلمات ظل صامتًا ساكنًا. ولم يتحدَّث القس هو الآخر. وكان يُسمع في القرية على البُعد عواء كلاب ودقات ناقوس. ولم يكن يُسمع طوال أسبوعين أي شيء عدا ذلك الناقوس، ليلًا ونهارًا. وقال باكو في ثبات يائس: إذن، إذا كان حقًّا أنهم لا يمكن أن يعفوا عنا يا موسين ميان، فإن لي زوجة، وهي تنتظر ابنًا، فماذا سيكون مصيرهما؟ وماذا سيكون مصير والدَي؟

كان يتحدث وأنفاسه تتلاحق في شدة؛ وأجابه موسين ميان بنفس السرعة المحمومة وبصوت خفيض. كانا أحيانًا ينطقان بالكلمات بطريقة تجعلها تخرج غير مفهومة، ولكن كانت تسود بينهما تلك العلاقة التي جعلت الواحد منهما يفهم ما يريد أن يقوله له الآخر. وتحدَّث موسين ميان في عجلة عن حكمة الله في أفعاله، وفي نهاية شكاية طويلة سأله: هل تشعر بالندم على ما اقترفت من خطايا؟

ولم يفهمه باكو. كان أول تعبير يقوله القس ولا يفهمه، وحين كرَّر القس السؤال للمرة الرابعة بطريقة آلية، أجاب باكو أنْ أجل بهزة من رأسه. وفي تلك اللحظة، رفع موسين ميان يده وقال: ها أنا أغفر لك ذنوبك، باسم …

وعند سماع تلك الكلمات، أمسك رجلان بذراعَي باكو وحملاه إلى الحائط حيث كان الرجلان الآخران.

وصرخ باكو: لماذا تقتلون هذين الآخرين، إنهما لم يفعلا أي شيء!

كان أحد هذين الرجلين يعيش في المغارات، مثله مثل ذلك المريض الذي حملا له يومًا المسحة الأخيرة. وأُوقدت مصابيح السيارة، نفس السيارة التي كان فيها موسين ميان، ودوَّت الطلقات في نفس الوقت تقريبًا دون أن يُصدر أحدٌ أمرًا، ودون أن يُسمع أيُّ صوت، وسقط الفلاحان، أمَّا باكو فقد جرى ناحية السيارة وقد غطَّته الدماء. وصرخ في جنون: أنت تعرفني يا موسين ميان!

وحاول أن يدخل السيارة ولكنه لم يستطع. ولطَّخ كلَّ شيء بالدماء. وكان موسين ميان صامتًا وقد أغلق عينَيه يصلِّي، ووضع قائدُ الكتيبة مسدسه وراء أُذن باكو، ولكن أحدهم صاح فزعًا: لا، ليس في هذا الموضع!

وأخذوا باكو وهم يجرُّونه على الأرض. كان ما زال يردِّد في صوت مبحوح: اسألوا موسين ميان، إنه يعرفني.

وسُمع صوت طلقتين أو ثلاثة وبعدها ساد صمت. كان باكو ما زال يقطعه بهمسه: لقد أفشى سري … موسين ميان … موسين میان.

وبقي القس في السيارة وعيناه مفتوحتان على آخرهما يستمع إلى اسمه ولا يستطيع أن يصلِّي، وعاد أحدهم إلى إطفاء نور السيارة وسأل قائد الكتيبة: هل انتهى كل شيء؟

وخرج موسين ميان من السيارة، وقام بمعاونة مساعده بإجراء المسحة الأخيرة للموتى الثلاثة، وبعد ذلك، أعطاه شخص ساعة باكو وكانت هدية زوجته له يوم العرس، ومنديل جيبه.

وعادوا إلى القرية. وتطلع موسين ميان من نافذة السيارة إلى السماء وهو يتذكر الليلة التي ذهب فيها مع باكو هذا نفسه لإعطاء المسحة الأخيرة في المغارات، ثم طوى الساعة في المنديل واحتفظ بهما في عناية بين يديه الاثنتين، وظل لا يستطيع أن يصلي. ومروا بمسقط الشمس المهجور. وبدا كما لو أن الصخور الكبيرة العارية تقترب برأسها من بعضها البعض وتتحادث. وشعر موسين ميان، إذ جال بخاطره الفلاحون الذين ماتوا ونسوة مسقط الشمس المسكينات، بنوع من الاحتقار يفرض نفسه عليه ويملؤه في الوقت نفسه بإحساس بالعار والشعور بالذنب.

وبعد أن وصل موسين ميان إلى الأبرشية، بقي لا يخرج منها أسبوعين إلا لإقامة القداس. وكان يسود القريةَ كلها الصمتُ والكآبة، كأنما هي مقبرة كبيرة، وعادت خيرونيما إلى الخروج لتذهب وحدها إلى مسقط الشمس حيث تُحادث نفسها. وفي مسقط الشمس، كانت تأخذ في الصياح حين تعتقد أن لا أحد يستطيع سماعها، وأحيانًا أخرى تضحك وتنهمك في عد آثار طلقات الرصاص في الصخور.

كان قد مضى عام منذ وقعت كل تلك الأحداث، وكان يبدو وكأنه مائة عام. كان موت باكو ما زال قريبًا، حتى إن موسين ميان كان يعتقد أنه ما زال يشعر بلطخات الدماء على ثيابه، وفتح عينيه وسأل مساعده: هل تقول إن المُهر قد خرج؟

– أجل يا سيدي.

وتلا، في ذاكرته، وهو يرتكز على إحدى قدميه ثم يبدلها إلى القدم الأخرى:

… وأسلم آخر نهداته
إلى الله الذي خلق كل شيء … آمين.

كان موسين ميان قد احتفظ بساعة باكو ومنديله في درج صوان غرفة المقدسات، فلم يكن قد جرؤ على حملها إلى والدَي المتوفى وأرملته.

وخرج القس إلى مقصورة الكهنة وبدأ مراسم القداس. ولم يكن هناك أحد في الكنيسة عدا السيد فالريانو والسيد جومرسيندو والسيد كاستللو. وبينما كان موسين ميان يتلو الصلوات، كان يفكِّر ويقول لنفسه: هذا حق، لقد قمت بتعميده، وقمت بإعطائه المسحة الأخيرة، فليغفر له الله؛ فقد وُلد وعاش ومات في حدود أمنا الكنيسة المقدسة.

كان يؤمن بأنه قد سمع اسمه بين شفتي المُحتضَر الذي سقط على الأرض … «موسين ميان»، وجال بخاطره إذ يملؤه الوَجَل والحنان في نفس الوقت: ها أنا الآن أُقيم من أجل روحه هذا القداس الجنائزي الذي يريد أعداؤه أن يدفعوا نفقاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥