الأدب العربي منذ أول عصوره حتى اليوم
لو نظرنا نظرة عامة إلى الآداب المختلفة في العالم قديمها وحديثها، وجدناها كلها تخضع لبعض قوانين عامة يشترك فيها كل أدب، وقوانين خاصة ينفرد بها أدب كل أمة؛ فمثلًا: من القوانين العامة أن الآداب تكاد تشترك في أنها نظم ونثر وقصص، وأن النظم يتميز بالموسيقى التي يعبَّر عنها بالأوزان وإن اختلفت هذه الأوزان، وأن النثر في كل أدب يأتي عقب الشعر؛ لأن الشعر تعبير عن العاطفة والخيال، والنثر مصبوغ بصبغة عقلية إلى حد ما، والعاطفة والخيال أقدم في تاريخ الإنسانية من العقل.
- فالمرحلة الأولى: مرحلة القبائل، ويكون الأدب فيها مصبوغًا بالصبغة القبلية، فيخضع للنظام القبلي، ويكاد الشاعر فيها يشعر بقبليته أكثر مما يشعر بفرديته، ويتغنَّى بالقبيلة وأعمالها أكثر مما يتغنَّى بشخصيته وفرديته وعمله، حتى إذا تطوَّرت القبائل إلى أمَّة، وتطوَّر شيخ القبيلة إلى حاكم، رأينا الأدب يصل إلى:
- المرحلة الثانية: فتكون الآداب في خدمة القصور والحكام، والأغنياء والولاة وأمثالهم، ويكون الأدب إذ ذاك أشبه ما يكون بالتحفة الفنية البديعة؛ تُهدى أو تباع للسادة المترفين، ويكثر إذ ذاك شعر المديح والقصص حول القصور، وتكثر في الأدب المحسِّنات اللفظية كأنها نقوش في التحفة الفنية، ولا يُنظر في هذا الطور إلى الشعوب كثيرًا. ثم تأتي:
- المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الديمقراطية، فيُعنى فيها بوصف الشعوب ويتجه الأدباء نحوها، وتؤلَّف الروايات حول الحياة في الكوخ الحقير كما تؤلَّف حول الحياة في القصر الكبير، ويتجه الأدب نحو الظلم والعدل، ويبيِّن حقوق الراعي وحقوق الرعية، وتكثر في الأدب على العموم المظاهر التي تعبِّر عن آمال الشعوب وآلامها.
فإذا نحن نظرنا إلى الأدب العربي في ضوء ذلك وجدناه أدبًا طويل العمر، له من العمر أكثر مما للآداب الأخرى؛ كالأدب الإنجليزي والفرنسي والألماني والإيطالي، فكلها حديثة العهد إذا قيست بالأدب العربي، وعمر الأدب العربي في العصور التاريخية نحو خمسة عشر قرنًا، خضع فيها لمؤثِّرات مختلفة وأحداث متباينة، كان فيها أدب قبائل في العصر الجاهلي يخضع لكل الظواهر القبلية، ويستجيب لها، فيعبِّر فيه الشعراء عن عواطفهم، ويسجِّلون ما يحدث لهم ولقبيلتهم، ويصفون مشاعرهم نحو نسائهم بالحب والذكرى، ومشاعرهم نحو خصومهم وأعدائهم — وهم خصوم قبيلتهم — بالهجاء، ويحرِّضون على القتال والأخذ بالثأر، ويصفون فيه الطبيعة حولهم من الصحراء ونباتها وحيوانها.
وإذا سار الشاعر في طريق وصفه، وعرض لما رأى فيه من جبل ووهد وسهل وحزن، وهكذا، كان الشاعر بدويًّا في موضوعه وصيغته وبساطة وصفه وبساطة فنه، ومَن كان من الشعراء الجاهليين في مدينة أو على حواشي مدينة تأثَّر بذلك؛ كما نرى في شعراء الحيرة والعراق والغساسنة؛ فقد تأثَّروا بالمدنية الفارسية والرومانية في ألفاظهم وتشبيهاتهم.
وشعراء الجاهلية على وجه العموم متأثرون ببيئتهم الطبيعية والاجتماعية، يشتقُّون منها تشبيهاتهم، فيشبِّهون الليل بالجمل يتمطَّى بصلبهن والبرق بمصباح راهب أمال السليط ونحو ذلك، وأوزانهم وموسيقاهم متأثرة بوقع أقدام الإبل في الصحراء، وما يناسب ذلك من حداء، إلى غير هذه من مظاهر التأثر والتجاوب، فكانت هذه هي المرحلة الأولى للأدب العربي.
ولما جاء الإسلام غيَّر الحياة الاجتماعية، فدعا إلى الفخر بالعمل الصالح دون الفخر بالأنساب، ودعا إلى أن الظالم يُقتصُّ منه؛ شريفًا كان أو وضيعًا، وقال: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وهدم نظام القبائل بالتدريج إلى حدٍّ كبير، وغزا المدنية الفارسية والرومانية، وأخضعهما واطَّلع عليهما واستفاد منهما، وأصبحت الجزيرة العربية وما تبعها من فتوح دولة واحدة حكمها خليفة واحد، وانقلبت الخلافة بعد ذلك إلى ملك عضوض، فجاء الدور الثاني، وهو الدور الأستقراطي في الأدب الذي يتجه نحو الخلفاء والولاة والحكام والأغنياء، وإن تغنَّى فيه الفرد لنفسه أحيانًا بغزل أو شكوى أو تعبير عن عاطفة، وتأثَّر الأدب الإسلامي؛ وخاصة النثر الفني والقصص، بما نُقل إليهما عن الهند والفرس واليونان، وتطوَّر بتطور الحضارة في موضوعاته في حديث يطول شرحه.
وفي العصور الأخيرة، انتقل الأدب العربي إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الديمقراطية، فاتجه إلى الشعوب في شعره ونثره وقصصه، وفي موضوعاته وأساليبه.
فإذا نحن نظرنا إلى الأدب العربي بجانب الآداب الأخرى وجدنا أنه ككل الآداب فيه جوانب ضعف وجوانب قوة؛ فمثلًا: نجد أن الأدبين اليوناني والروماني وما تفرع عنهما من الآداب الحديثة؛ كالإنجليزية والفرنسية، أكثر تنوُّعًا، وأكثر تفنُّنًا في نقد الحياة والنظر إليها في أشكالها المختلفة؛ الخاصة منها والعامة: أدب للملاحم وسَّع خيالهم — وأدب للتمثيل وسَّع نقدهم في السياسة العامة للحكومة والقادة والزعماء وللحياة العامة وحياة الأفراد الشعبية — وغنًى في القصص لم يبلغه الأدب العربي، ولكن الأدب العربي غني من نواحٍ أخرى.
فقد جرت عادة الأوربيين أن يقسِّموا الشعر إلى شعر غنائي، ويقصدون به ما يعبِّر به الشاعر عن عواطفه؛ وشعر ملاحم، ويقصدون به ما يصف به الشاعر أو الشعراء وقائع الحروب في قصائد طويلة؛ وشعر تمثيلي، وهو ما يكون في الروايات التمثيلية؛ فالشعر العربي غني بالنوع الأول غنى كبيرًا، والكنوز التي تركها في وصف المشاعر؛ من فخر وحماسة وغزل وهجاء ورثاء ومديح، كنوزٌ وافرة؛ وخاصة في الحب؛ فقد برع الأدب العربي فيه، ونوَّعه من حب عذري إلى حب شهواني، ومن حب مادي إلى حب فلسفي، ومن وصفٍ للجمال الحسي إلى وصف للجمال المعنوي، فهذا النوع قد تفوَّق فيه الأدب العربي تفوقًا كبيرًا، وسبق غيره من الآداب الأخرى، حتى إن هذا النوع من الأدب لمَّا ظهر في أوربا في القرون الوسطى في أسبانيا وفرنسا أخذ النقَّاد يبحثون عن مصدره في الأدب العربي كيف أخذوه عنه؛ شعورًا منهم بأن منبع هذا النوع من الأدب هو الأدب العربي، وكذلك لمَّا ظهرت في أوربا حركة الأدب الرومانطي، رأى كثيرون أن لهذه الحركة بالشعر العربي علاقة وثيقة.
كذلك نرى الأدب العربي غنيًّا غنًى تامًّا في ناحية الحِكَم، فقلَّ أن نرى أدبًا يدانيه في ذلك، قد صُبَّت فيه تجارب الأمم المختلفة من عرب وفرس وهند وروم، وصيغت هذه التجارب في شكل أمثال وحِكَم في الشعر والنثر على ألسنة الطيور والحيوانات.
على أنه ما تمَّ احتكاك الشرق والغرب في العصور الحديثة أخذ الأدب العربي يستعرض مواضع قوته وضعفه، فلما أحسَّ بحاجته إلى القصص؛ سواء منه ما كان تمثيليًّا أو غير تمثيلي، أخذ يستكمل نقصه بما يترجم أولًا وأُلِّف ثانيًا، وهو في سبيل استكمال نواحيه كلها مع احتفاظه بميزاته القديمة، كما أخذ يساير الأمم العربية في التعبير عن آلامها وآمالها، ويدعو إلى الإصلاح الاجتماعي في أشكاله المختلفة، ولكن أمامه عقبة كبيرة يجب أن يتغلَّب عليها، وهو أنه لا يغذِّي إلا طبقة المثقفين، أما السواد الأعظم من الشعوب فيعيش على قليل من الأزجال، وتافهٍ من الغناء، وبقايا من «الحواديت»، ولا بدَّ للأدب الكامل أن يغذِّي الشعب كله؛ خاصته وعامته، بحسب عقليته البسيطة أو الراقية؛ حتى لا تفلت من يده أي طبقة من طبقاته، أمَّا إن هو اقتصر على المثقفين وحدهم لم يكن قد قام إلا ببعض واجبه، وحاجة الأمة إلى الغذاء الأدبي — كما أسلفنا — في مثل حاجتها إلى الغذاء المادي، لا يصح أن يستغني عنه أحد ولا يعيش بدونه.