أدبنا الحديث أدب ديمقراطي
الأدب ظاهرة اجتماعية؛ كاللغة والحكومة ونظم التربية، كلها تخضع للحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للأمة؛ فالجماعة من الناس الذين يعيشون على الصيد، أدبهم من قصص وأمثال وشعر مشتق من نوع حياتهم، والذين يعيشون في مدينة ممدَّنة منظَّمة، ينتج أدبهم صورة صادقة من حياتهم، فمحال أن يكون ابن المعتز بدويًّا أو أن يكون شعره بدويًّا، ومحال أن يكون طرفة بن العبد حضريًّا أو أن يكون شعره حضريًّا؛ فالأدب يشتق مظاهره وموضوعاته وأساليبه من الحياة التي يحياها الأديب، وأدب كل جماعة يعتمد على درجتها في النظام الاجتماعي والاقتصادي.
- (١)
أدب قبلي في العصر الجاهلي وصدر العصر الإسلامي.
- (٢)
وأدب أرستقراطي في القرون الوسطى.
- (٣)
وأدب ديمقراطي في العصر الحديث.
فالأدب الجاهلي صورة صادقة لحياة العرب القبلية، فهو يمثل لنا حياتهم الواقعية من غير أن يكون فيها كبير عناية بتجميل، أو تلوين بلون زاهٍ برَّاق، يمثل لنا حياة لا تستند على ثقافة واسعة ولا علم غزير، يمثل حياة حسية لا يتجاوزها إلى الروح والعناية بها؛ فالمرأة الجميلة هي الجميلة جسمًا، والمنظر الجميل هو ما يدركه البصر جميلًا، قد اشتق أدبه من حروبه وعلاقته بالإبل وبالخيل، ورحلته عليهما من مكان إلى مكان، ورعيه لهما، ونحو ذلك.
لا يمكننا أن نسمي هذا الأدب أدبًا ديمقراطيًّا؛ لأن أساس الديمقراطية شعور المرء بنفسه، وتقديرها لشخصية كل فرد؛ عظيمًا كان أو وضيعًا، والشاعر الجاهلي كان يشعر بقبيلته، وأن إغارة أحد من العرب على أحد ليست إغارة فرد بل قبيلة على قبيلة، وأن العار الذي يلحق الفرد يلحق القبيلة، والمفخرة التي يأتيها الفرد مفخرة القبيلة، وعلى الجملة كان شعور الفرد بقبيلته أكثر من شعوره بشخصه.
وإذا استعرضنا الأدب الجاهلي اتضح لنا هذا المعنى؛ فنرى قبيلة الشاعر في المقام الأول، وشخصيته مستترة وراء قبيلته، فهو قلما يعبِّر «بأنا» وإنما يعبِّر «بنحن»، وقلَّما يشيد بذكر أفعال قام بها، وإنما أغلب ما يفخر بأعمال قومه وآبائه، فالشخصية الفردية تكاد تكون معدومة، والشخصية القبلية طاغية عليها؛ ولذلك لا يمكننا أن نسمي الأدب الجاهلي أدبًا ديمقراطيًّا، بل أدبًا قبليًّا.
•••
تحضَّرت الأمة العربية، وفُتحت أعظم الممالك، وتدفَّق المال عليها من البلاد المفتوحة، وكان أكثر المال والغنى في أيدي الخلفاء والأمراء، وإذا كان عطاء للأفراد (مرتب أو ماهية) فللجند وأمثالهم لا للشعراء وأمثالهم، وضاع الشعور القبلي، أو على الأقل أصبحت قبيلة الشاعر لا تعوله كما كانت تعوله في الجاهلية، فوجد الشاعر نفسه أمام أحد أمرين: إما أن يشعر لنفسه ويرضى بالفقر، أو يشعر للخليفة والأمير فيغنِّي لهما، ففضَّل الثانية.
والخلفاء والأمراء من ناحيتهم رأوا أن الفن — ومنه الشعر والأدب — أداة من الأدوات الجميلة؛ كالتحف تعلَّق في القصور، وكالدُّرة الجميلة والعقد الثمين والحجر الكريم، فرحَّبوا بأهل الفن يزيِّنون بهم قصورهم.
كان الشاعر يرضى من قبيلته بالقليل فأصبح وقد كثر المال يطمع في الكثير، وكان يغنِّي لقبيلته فأصبحت قبيلته لا تجزيه، وكان شيخ القبيلة فقيرًا فأصبح الخليفة وعنده القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وكانت حاجات الفنان قليلة فأصبحت بفضل الحضارة كثيرة مركَّبة، والشعب لا يلتفت كثيرًا إلى الفنان؛ لأن فنه نوع من الترف، والترف إنما هو في قصور الخلفاء والأمراء.
كل هذا وأمثاله قَلَبَ الأدب إلى أدب أرستقراطي، وأعني به الأدب الذي قيل في الخلفاء والأمراء مديحًا أو رثاء، أو إجابة لمطلب لهم من وصف مائدة ووصف طرفة ووصف روضة ونحو ذلك، أو قيل تحريضًا من الخلفاء والأمراء للشعراء على هجاء أعدائهم، أو كتابًا أدبيًّا ألفه الأديب لخليفة أو أمير، وعلى الجملة، كل ما قصد به أمير أو بعث على الإتيان به أمير.
وهذه هي الخاصة الواضحة في الأدب العربي في القرون الوسطى، فلو نظرت إلى الأدب الذي قيل في هذه الأغراض ولهذه الأسباب، لوجدته طاغيًا على غيره من الآداب؛ أي إن الشاعر القدير قلَّ أن يغني لنفسه في شرح عاطفة تملَّكته، أو مناظر أعجبته، أو يشعر للشعب في وصف آماله وآلامه، أو للإنسانية في وصف سرَّائها وضرَّائها، وإنما همُّه إذا أجاد أن يحتمي في حمى خليفة أو أمير أو وزير يغني له ويقول ما يعجبه.
لنضرب لذلك مثلًا مختارات البارودي؛ فقد اختار لثلاثين شاعرًا من شعراء الدولة العباسية، فبلغ ما اختاره لهم من المديح ٢٤١٨٥ بيتًا من الشعر، على حين أن ما اختار لهم من الأدب ١٦٩٧ بيتًا، ومن الغزل ٤٦١٦، فإذا أضفت ما اختاره لهم من الرثاء والهجاء إلى المديح — لأنها كلها أرستقراطية — بلغت ٣٢٤٠٧، وهي نسبة كبيرة جدًّا لبيان طغيان الأدب الأرستقراطي على النزعات الأخرى، وخاصة إذا علمت أن كثيرًا من الغزل كان ليس إلا تمهيدًا للمديح، وأن كثيرًا من أبيات الأدب ليست إلا تعليلًا للمديح، ثم تبحث في كل هذا عن نصيب الشاعر من شعره، أو نصيب الشعب منه، فلا تجد إلا القليل.
وهذه ظاهرة طبيعية اجتماعية أيضًا؛ فالخلفاء والأمراء كانوا كل شيء، والشعب مهمَل إلا في النادر، فانصرف الفن إليهم، ومثل الأدب في ذلك التاريخُ؛ فالتاريخ في هذه العصور لم يؤرِّخ إلا الملوك والأمراء وحروبهم ونزاعهم وموتهم وولادتهم، ويجهد المؤرخ الصادق الآن نفسه ليعثر على ما يستنتج منه حالة الشعب، فقلَّ أن يجد كلمة في صفحات عدة.
•••
سادت بعد ذلك الديمقراطية أوربا في العصر الحديث، وبُنيت على أساسين: كل إنسان يجب أن يكون حرًّا، وكل إنسان يجب أن يشعر بالمسئولية؛ فالقوانين إنما توضع لحماية حرية الأفراد لا لتنفيذ إرادة الملوك، والفرد إذا أطاع القانون فإنما يطيعه لأنه يشعر بفائدته ولمواطنيه، لا لأن سلطة أخرى ينبغي أن تُطاع، وعلى الجملة، فقد أحس الفرد أنه يسيِّر نفسه لا يسيِّره غيره، وأنه سيِّد في نفسه لا عبد لغيره، ولو كان هذا الغير ملكًا أو أميرًا.
سادت هذه النزعة أوربا فصبغت كل شيء بلونها، فنظَّمت الحكومات على هذا الأساس الذي يضمن للفرد حريته ويشعره بمسئوليته، وأثَّرت في التعليم؛ فشعر كل فرد أن له الحق أن يتعلم، وعلى الحكومات أن تهيِّئ له وسائل التعلم، بل أثَّرت هذه النزعة في الانقلاب الصناعي والتجاري والزراعي، وأنتجت نتائج خطيرة ليس هنا موضع شرحها، وإنما الذي يهمنا هنا أنها أثَّرت كذلك في الأدب فحولته من أدب أرستقراطي إلى أدب ديمقراطي، فأخذ عظماء الأدباء يصوِّرون هذه النزعة الجديدة، فملتن — مثلًا — يكتب ويلحُّ في الكتابة أن حقوق الناس أقدم من حقوق الملوك، وأن الناس ليسوا ملزمين بإطاعة الملك الظالم، وأن الناس ولدوا أحرارًا، وليس الملوك إلا أُجَرَاءها، وكذلك فعل روسو في فرنسا وجفرسن في أمريكا، وأمثالهم كثير.
وتلوَّن الأدب فأصبحت الأغاني الشعبية تتغنَّى بالحرية، وانتشر نوع من الأدب، وهو «اليوتوبيا» أو «الطوبى» أو «المدينة الفاضلة»، وهي الكتب التي ترسم صورًا لمعيشة الناس عيشة أسعد مما يحياها الناس في الواقع، وتعدَّدت موضوعات الأدب التي تؤيد الديمقراطية، فهذا أديب يشيد بالإنسانية، وهذا شاعر يؤيد أمة تجاهد في سبيل استقلالها، وهذا يشهِّر بظلم القوانين، وهكذا.
وصلت هذه الموجة في سيرها إلى الشرق، فأخذ يحارب الاستعمار، ويجاهد في نيل الحرية، وينشد الديمقراطية، وأخذ يقلِّد أوربا في حركاته وأعماله، وتشبَّع القادة بحب الديمقراطية، وتغنَّوا بها، ونشروا مبادئها بين الناس فآمنوا بها، ورسموا خططًا لنيلها، فهذه خطب في المجالس النيابية، وهذه مظاهرات تعرقل أعمال المستعمر، وهذه احتجاجات ومؤتمرات وتشهير بالدول الأوربية وعسفها، إلى كثير من أمثال ذلك.
وأخيرًا رأينا الأدب العربي يتبع هذه النزعة، ويبعد قليلًا قليلًا عن الاستظلال بالأمراء، ويقرب قليلًا قليلًا من الاستظلال بالشعب؛ فلئن كان شوقي في حياته الأولى شاعر الأمير، فهو في حياته الأخيرة شاعر الشعب، وأخذ شعراء العراق والشام ومصر يتغنَّون بالحرية، ويعلنون ألمهم من الظلم وأملهم في تحقيق العدل، وطرق كتَّابهم وشعراؤهم موضوعات شعبية صرفة بعد أن كانوا يقفون أدبهم وشعرهم على مديح الأمراء والخلفاء؛ فقاسم أمين يكتب في تحرير المرأة، وشوقي يُشعِر في بنك مصر، ويرثي مصطفى كامل وسعد زغلول، ويلتفت إلى موضوعات شعبية بحتة؛ كانتحار الطلبة والعمال ونهضة مصر؛ هذا شوقي الأرستقراطي فما بالك بحافظ الذي أخذ يتابع الحركة الديمقراطية ويصوغ فيها شعره!
وكان من أكبر مظاهر الديمقراطية في الغرب والشرق نضج «فن الروايات»؛ فهي تُعنى أكبر عناية بتحليل حياة العامة والجماهير، وقلَّما تُعنى بحياة البلاط، فالديمقراطية — لما كان أثرها الشعور بالذاتية — وجَّهت الأدب إلى تحليل الشخصيات وتحليل أنواعها وضروبها، وما كان يمكن أن يرقى هذا وذاك في أحضان السلطة الأرستقراطية.
وتبع شعور الفرد بنفسه وشخصيته أن رأينا كثيرًا من الأدباء يتحوَّلون من مدح غيرهم إلى تحليل نفوسهم؛ فطه حسين يكتب «الأيام» يشرح فيها طورًا من أطوار حياته ويصور فيها مشاعره، وهيكل يشرح ما يشعر به في رحلاته إلى السودان والحجاز، والعقاد يحلل في بعض مقالاته نفسه، بل يحلل نفسية كلبه وخادمه … إلخ.
وعلى الجملة، ظهرت أعراض الديمقراطية في الأدب العربي بأشكالها المختلفة، وهي سائرة في طريق كمالها، فكما أن النزعة الأرستقراطية تعد الفرد للدولة، والنزعة الديمقراطية تعد الدولة للفرد، كذلك الشأن في الأدب؛ ففي العهد الأرستقراطي يعد الفنان ليكون طرفة للقصور، وفي العهد الديمقراطي تعد القصور لتكون طرفة للفنان.
وبعد أن كانت ساحة الأدب والشعر هي القصور؛ لأنها حصن الأرستقراطية، أصبحنا نرى ساحة الأدب هي الكتب والجرائد والمجلات؛ لأنها مظهر الديمقراطية، وبعد أن كان الأديب يعيش على موائد الأمراء ومن عطائهم وهباتهم أصبح الأديب والشاعر يعيش على موائد الشعب ومن عطائه وهباته، وإن كانت الشعوب أحيانًا — وخاصة في الشرق — تهمل من يغني لها، فيلذها غناؤه ولا يؤلمها بؤسه وشقاؤه.