تعاون العرب في وضع دائرة معارف عربية
كل الأمم الحية اجتهدت في أن تضع لها دائرة معارف تشتمل كل الفروع، وهي تجدِّدها كلما مرَّ زمن تغيَّرت فيه معالم العلوم، حتى إننا نرى (الأنسيكيليوبديا) الإنجليزية جُدِّدت أربع عشرة مرة، وسارت الأمم الأخرى سير إنجلترا في دائرة معارفها، وكل أمة تعتز بذلك لأنه يدل على تقدُّمها ونهوضها، ومن المؤسف أن الدول العربية لم تضع لها دائرة معارف كاملة إلى اليوم!
- أولًا: أنه لم يكن قد وصل في تأليفها إلا إلى حرف العين ولم يتمَّها، واختارته المنية هو وابنه قبل إتمامها.
- وثانيًا: أن العلوم والآداب والفنون تقدَّمت منذ عهده، ولم تعد دائرته صالحة كل الصلاحية.
وقام بمثل هذا العمل أيضًا الأستاذ محمد فريد وجدي، ولكن عيبها أيضًا أنها غير وافية، وثانيًا، أنه اعتمد فيها على نفسه فقط، ولم يستعن بالإخصائيين، مع أن دائرة المعارف عادة تشمل الجغرافيا والتاريخ والأدب والطبيعة والكيمياء والحساب والهندسة والفلك وما إلى ذلك، ومحال أن يلمَّ إنسان كائنًا من كان بهذه الفروع كلها، فضلًا عن التبحر فيها!
فما أحوجنا اليوم إلى دائرة معارف تناسب العصر؛ نعم، قام بعض كبار المستشرقين بدائرة معارف إسلامية، ولكنها مقصورة على المواد الإسلامية من جهة، وغير مشبَّعة بالروح الإسلامية من جهة أخرى، وهذه الدائرة التي نطمح إليها لا بد أن يسبقها الفراغ من وضع المصطلحات الحديثة في الأدب والعلم والفن؛ ليستعين بها كتَّاب دائرة المعارف، وهذه وظيفة المجامع اللغوية؛ يضعون المصطلحات لهذه الأمور كلها، يفرغون منها ويتفقون عليها، والطريقة المثلى في ذلك أن يمسكوا بدائرة من دوائر المعارف الأجنبية الفنية ويفرغون من وضع مصطلحات لها، ثم يأتي دور كتَّاب دائرة المعارف.
- أولًا: إلى مال كثير؛ لأن الأيام عوَّدتنا أن من لم يُؤجر لا يعمل،
- ثانيًا: يحتاج إلى إنشاء مكتب فني يكون من اختصاصه وضع الفيشات لكل المواد على حسب التسمية العربية، وتوزيع كل مادة أو طائفة من المواد على الفروع المختلفة، وهذا لا بد له من مهارة فنية خاصة،
وربما كان لا بد أن يسبق هذا تنسيق وتوسيع للمعاجم المختلفة؛ هذا معجم للغة يوافق حاجات العصر، وهذا معجم للطب كذلك، وهذا معجم للجغرافيا، ونحو ذلك؛ بحيث تكون مواد أولية لدائرة المعارف، وإذا كان الغربيون يولون أكبر عنايتهم لعلماء الغرب ونوابغهم وشعرائهم وأدبائهم وفلاسفتهم، فلنولِّ نحن عنايتنا برجالنا ونوابغنا وعلمائنا وفلاسفتنا وأدبائنا وشعرائنا؛ سواء منهم الأقدمون أو المحدثون، وإذا كان الغربيون يولون اهتمامهم لجغرافية بلادهم، فلنولِّ نحن اهتمامنا بجغرافيتنا، ولنا من التراث القديم والتراث الحديث ما يملأ أجزاء عدة، وعندنا من المختصين في كل علم وفن من يستطيع أن يملأ مادته بحمد الله، مستعينين على ذلك بما سبقنا به الغربيون في تدوين دوائر معارفهم، وعندنا أيضًا من الموسوعات اللغوية أمثال لسان العرب والمخصص، والموسوعات الأدبية والتاريخية والجغرافية أمثال نهاية الأرب وصبح الأعشى ونحو ذلك.
ولم تبقَ أمَّة حيَّة على وجه الأرض من غير أن يكون لها دائرة معارف بلغُتِها، تسايرها مع الزمن، وكلما تقدَّم العلم والفن طبعتها طبعة جديدة تساير العلم والفن، إلا الشعوب العربية؛ لأنها وقفت ولم تقم بهذا العمل، وربما كان أكبر سبب في ذلك أن الشعوب العربية لم تضع مصطلحات حديثة للعلوم والفنون الحديثة، وإذا وضعت شيئًا لم تتفق كل البلاد على مصطلح واحد؛ هذه بلد تقول الطبيعة، وأخرى تُعرِّب الكلمة الإفرنجية وتسميها فيزيقيا، وهكذا يجب أن توحَّد هذه المصطلحات أولًا، وتتم ثانيًا، ثم تُستغل في دائرة المعارف ثالثًا، فمما لا شك فيه أن دائرة المعارف هذه من أول مظاهر المدنية الحديثة.
وقد كان المسلمون الأولون يؤلِّفون دوائر معارف؛ مثل إخوان الصفا في الفلسفة، وكتب الجاحظ في الاجتماعيات والأدبيات ونهاية الأرب ومسالك الأبصار في العلوم المختلفة، ولكنها لم تكن شاملة من جهة، ولم تكن مرتبة على حسب حروف المعجم من جهة أخرى، فجاءت المدنية الحديثة فنظَّمت هذا العمل ووسَّعته، وجعلته وفق حاجات العصر الحديث، فما بالنا لا نعمل عملهم ولا نسير سيرهم، والحاجة شديدة إلى مثل عملهم!
إن كثيرًا من الشبان يهرعون إلى دوائر المعارف الأجنبية، فيأخذون منها بغيتهم، ولكن المثقفين باللغة الأجنبية في كل أمة عدد قليل، بجانب الكثرة البالغة ممن لا يعرفون غير لغتهم، ولقد سئل السيد أحمد خان (رحمه الله)، عن أيهما خير: أنعلِّم طائفة من الهنود لغة أجنبية أم ننقل العلوم والمعارف الأجنبية إلى لغة البلاد؟ فنصح بالطريقة الثانية؛ لأنها تثقِّف عددًا أكبر، وقال: لوددت أن أكتب بحروف من نور على جبال الهملايا مطالبًا بنقل العلوم والمعارف الأجنبية إلى لغة البلاد.
لقد مرَّ على الأمم العربية زمان طويل يزيد على مئة سنة، وكان هذا يكفي لتعريب المصطلحات الأجنبية، واستخدامها في دائرة المعارف العربية، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث إلى اليوم فتراكمت المصطلحات والمعلومات، وأصبح العمل شاقًّا عسيرًا؛ لأن العلم لم يقف عند حدٍّ، وكلما مرَّ الزمن تضاعفت المواد، فما لم تبادر الأمم العربية غرقت في هذا التيار الغزير قبل أن تتغلَّب عليه، ومن غير شك تأليف دائرة المعارف العربية ومساهمة الشعوب العربية في وضعها يوثِّق الصلات بينها، ويقلل من الاختلافات اللغوية والعلمية والأدبية، ويجعلها تسير سيرًا واحدًا، وفي طريق واحد.
قد تسألني: إن هذا العمل الضخم يحتاج إلى مال كثير، فمن أين نأتي بهذا؟ فأقول: إن هذا المال يَسهُل على الشعوب العربية المختلفة أن تتحمَّله؛ فهي قادرة على تخصيص مليون من الجنيهات، أو مليونين، أو أكثر متى صدقت النية، ومثل هذه المبالغ أُنفِقت فيما يقلُّ عنها فائدة، ولكن العلم والأدب ضائعان دائمًا، وتبذر الأموال فيما لا يبقى ولا يفيد، وتحجز الأموال عما يبقى ويفيد، واستنارة مئة واحدة من كل أمة من هذا العمل الضخم يساوي هذا المبلغ أو أكثر منه؛ فقتل الجهل لا يقل شأنًا عن إحياء نفوس الأفراد، والشرقيون على العموم لا تنقصهم الفكرة الصالحة، فعندهم آلاف من الآراء النافعة، ولكن ينقصهم ربط الفكرة بالعمل، والتنظيم الإداري للتنفيذ، والأمم تختلف في ذلك اختلافًا كبيرًا؛ فالأوربيون على العموم أكثر تنفيذًا للفكرة من الشرقيين، وربما كان الأمريكيون أكثر من الأوربيين في ذلك؛ فقد عُدَّ من أكبر فضائلهم ربط الفكرة بالعمل، ولو كانت الفكرة غريبة.
أما الشرقيون، فلا يخلو مجلس من مجالسهم من اقتراحات، ومن تعداد للعيوب، ومن ذكر وسائل لإصلاحها، ولكن كل هذه المجالس تنتهي بعد الأخذ والرد بقولهم … أصلح الله الحال … لأن الله لا ينزل الإصلاح من السماء، من غير مباشرة عمل منهم، وقد عهدنا — كما قال عمر — أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، ونقول نحن: ولا تمطر دوائر معارف، ولا تمطر أنواع الإصلاح المختلفة، ما لم يبدأ الزعماء بالعمل، والله الموفق!