التجديد في الأدب (اللفظ)
إن أول أنواع التجديد وأبسطها تجديدُ الألفاظ؛ لأنها مادة الأديب الأوَّلية، وخيوطه التي ينسج منها قطعته الفنية.
- (١)
اختيار الألفاظ التي تناسب العصر ويرضاها ذوق الجيل الحاضر؛ لأن لكل أمة في كل عصر ذوقًا خاصًّا بها، تختار ألفاظًا تناسبها وتأنس بها، وتمجُّ ألفاظًا لا تستحسنها ولا تستسيغها، وذوق الأمة في حياة مستمرة، فهو كذلك في عمل مستمر إزاء الألفاظ، وأدباء كل عصر لهم معجم يخالف معاجم اللغة القديمة؛ فلو أن أديبًا استعمل اليوم كلمة «هَبَيَّخ» للجارية الحسناء لكَفَتْ في إسقاط قصيدته أو مقالته، ولو استعمل كلمة «بُعاق» للمطر أو السيل لدلَّ على فساد ذوقه وسوء أدبه، ومن أجل ذلك، لا يُستحسن في هذا العصر بعض ما كان يُستحسن في عصور سابقة؛ فقد كان يُستحسن من أبي الطيب قوله:
وترى الفضيلة لا ترد فضيلةالشمس تشرق والسحاب كَنَهْوَراولكن (كَنَهْوَرا) الآن ثقيلة في اللفظ، كريهة على السمع، وهذا بديهي لا يحتاج إلى إطالة، وكلُّ مَن جهل هذه الحقيقة لا يفلح أن يكون أديبًا.
لقد أراد الأستاذان الشنقيطي وحمزة فتح الله أن يُحْيِيَا غريب الألفاظ، ويستعملاه في قولهم وكتابتهم، ففشلا كل الفشل، وكان الناس يستظرفون ذلك منهما كما نستظرف فتاة حضرية لبست ثيابَ بدويةٍ، وفهموا أن ذلك ليس جدًّا من القول، وليس طبيعيًا أن تعيش بداوة القرن السابع في حضارة القرن العشرين، إنما يحيا الأديب يومَ يُوفَّق لاختيار الألفاظ الرشيقة التي تناسب ذوق عصره، والعصر الآن أميل إلى السرعة والاقتصاد، وكلاهما يتطلب الوضوح والجلاء، لا الغموض والغرابة.
لذلك أصبحت في معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة إلا أنها أثرية، تُحفَظ فيها كما تُحفَظ التحف في دار الآثار.
- (٢)
ألفاظ تُخلَق خلقًا، تلك الألفاظ التي تساير المدنية الحديثة بكل ما اخترعت من أدوات وصناعات، وما ابتكرت من فن وعلم ومعاني وآراء، واللغة العربية اليوم قاصرة كل القصور في هذا الباب؛ فليس لدينا ألفاظ لكثير مما اختُرع وابتُكر، وهذه مشكلة المشاكل اليوم وقبل اليوم، تَجادَل العالم العربي فيها طويلًا ولمَّا يستقر على حال.
وكان لقصور الألفاظ أثر كبير في ضعف الأدب؛ فكيف يستطيع الأديب أن يصف حُجرة وكل ما فيها من أثاث ليس له ألفاظ تدل عليه؟ وكيف يستطيع الكاتب أن يؤلِّف رواية، وهو في كل خطوة يعثر بمسميات لا أسماء لها؟ ولذلك يهرب كثير من الأدباء من التعبير الخاص إلى التعبير العام؛ فإذا أراد أن يصف رجلًا يلبس طربوشًا قال إنه يلبس عمامة أو قلنسوة، والحقيقة أنه لا يلبس عمامة ولا قلنسوة، وإنما يلبس طربوشًا، وإذا أراد أن يقول إنه يضرب على البيانو قال إنه عزف على آلة موسيقية، وهذا منتهى الفقر في التعبير.
كل هذا حَقَنَ الأفكار في أدمغة الأدباء، وسبَّب ضعف الوصف والرواية وغيرها في الأدب العربي الحديث، وجعل الأدباء يفرِّون إلى الموضوعات الإنسانية العامة والأفكار الميتافيزيقية، فإن نحن شئنا أن يكون الأدب ظلًّا لحياتنا، وحياتنا الآن، وَجَبَ أن نحلَّ مشكلة الألفاظ حتى يُطلَق الأدباء من أغلالهم، وإلا ظلُّوا يدورون حول أنفسهم، وظل أدبهم غذاءً ناقصًا للأمة، ليس فيه كل العناصر التي لا بدَّ منها للحياة.